فإن من أعظم نعم الله علينا أن جعلنا من المسلمين وجعلنا من أمة خاتم النبيين وسيد المرسلين ووفقنا أن جعلنا ممن يعنى بدراسة علم الفقه في الدين وهو من أشرف علوم الدين، هذا العلم الذي يعتبر بحق معجزة من معجزات هذا الدين بما تضمنه من تشريعات هي الخير كل الخير للناس أجمعين، وبما اشتمله من أمور تنظم حياة البشر، حتى لم يترك شيئاً أو تنظيماً أو تشريعاً يحقق مصالح العباد إلاَّ بينه أكمل بيان، ومن تلك التشريعات ما يهدف إلى إيصال الحقوق إلى أهلها ورفع الظلم عن المظلومين.(13/5)
لقد عني الإسلام بذلك عناية فائقة واعتبره من مهمات هذا الدين وحث عليه نبينا بالقول وبالفعل، وشرع من الأسباب ما يؤدي إلى ذلك، كتولية القضاء للفصل في الخصومات التي تقع بين الناس، ووضع القواعد التي تمكن صاحب الحق من الوصول إلى حقه وترد المبطل عن باطله، ولما كانت الدعوى والجواب عنها من تلك الوسائل التي توصل الحق إلى مستحقه وترد المبطل عن باطله فقد جاء التشريع الإسلامي فيها بأسمى نظام وأكمل تشريع، ولما كان صاحب الحق قد لايتمكن من الدعوى أو من الجواب عنها بنفسه إمَّا لشرفه، أو لعجزه، أو لغير ذلك من الأسباب، فقد شرع التوكيل في الخصومة من جانب المدعي ومن جانب المدعى عليه ليتمكن كل منهما من الوصول إلى حقه، وإذا كان قد وجد في زماننا من تخصص في التوكل عن المتخاصمين ويختار لذلك الألد الخصم الذي يجيد الحيل بحيث يتمكن من إظهار المجرم العنيد في صورة المظلوم المفترى عليه مقابل ما يأخذه من المال عوضاً على وكالته فإن التشريع الإسلامي يعتبر التوكل عن الغير في المخاصمة مبدأ من مبادئ التعاون على البر والتقوى إذا كان الغرض منه إيصال الحق إلى مستحقه ونصرة المظلوم، كما يعتبر تعاوناً على الإثم والعدوان؛ إذ كان الغرض منه إعانة الظالم وتلبيس الحق، ولذا فقد استنبط فقهاؤنا الإجلاء القواعد والشروط التي تكفل تحقيق الغرض الشرعي من هذا النوع من أنواع الوكالات هذه القواعد والشروط مستنبطة من كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ - وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولَمَّا كانت أحكام الوكالة بالخصومة متناثرة في كتب الفقه فقد حاولت في هذا البحث جمع مسائل هذا الموضوع، وإيضاح آراء الفقهاء في مسائله، وبيان أدلتهم وما يرد عليها من المناقشات؛ للوصول إلى الرأي الراجح وقد عنونته ب ((التوكيل في الخصومة في الفقه الإسلامي)) .
وقد كان الداعي إلى الكتابة في هذا الموضوع بجانب ما مر من أهميته ما يلي:(13/6)
1 - أني لم أجد فيما أمكنني الاطلاع عليه من بحث هذا الموضوع بحثاً فقيهاً مستقلاً يجمع مسائله ويوضح أحكامه، وإنَّما يأتي الكلام عليه متفرقاً في كتب الفقه عند كلام الفقهاء عن الوكالة بوجه عام.
2 - إظهار تميز التشريع الإسلامي فيما يتعلق بهذا الجانب جانب التوكيل في الخصومة.
منهج البحث:
يتمثل منهج البحث في النقاط الآتية:
أولاً: الاقتصار في البحث على المذاهب الأربعة، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء السلف ما أمكن ذلك.
ثانياً: ترتيب الأقوال ترتيباً زمنياً مبتدئاً برأي الحنفية ومن وافقهم، ثم المالكية ومن وافقهم وهكذا، ولم أترك هذا الترتيب إلاَّ فيما ندر لسبب، كأن أجد المسألة منصوصاً عليها عند بعض الفقهاء ولم ينص عليها غيرهم، فأبدأ بالمذهب الذي نصّ على حكم المسألة، ثم أخرج من أقوال الفقهاء الآخرين ما يناسب حكم المسألة.
ثالثاً: أذكر عقب كل قول أدلته من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، إلى آخره، ثم أذكر عقب كل دليل ما ورد عليه من المناقشات، والجواب عنها، حتى أصل إلى الرأي الراجح في المسألة.
رابعاً: أعزو الآيات إلى سورها، وأخرج الأحاديث من مصادرها، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اقتصرت عليه؛ إذ الغرض معرفة صحة الحديث، وإن لم يكن فيهما فإني أذكر من رواه من غير استقصاء، وأورد ما ذكره أهل العلم في الحكم عليه.
خامساً: أورد ترجمة موجزة للأعلام غير المشهورين الوارد ذكرهم في صلب البحث، أمَّا المشهورين من الصحابة والتابعين فلم أترجم لهم؛ استغناءً بشهرتهم؛ وحتى لا أثقل هوامش البحث بالترجمة مع كثرة الأعلام الوارد ذكرهم في البحث.
سادساً: اعتمدت على المراجع الأصلية لكل مذهب فلا أنقل قولاً لمذهب إلاَّ من كتب فقهاء المذهب.
سابعاً: لم أغفل ما كتبه الفقهاء المتأخرون لاسيما أهل الفتوى في زماننا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.(13/7)
ثامناً: جعلت الهوامش والحواشي في آخر البحث.
تاسعاً: ذيلت البحث بفهارس للمراجع وآخر للموضوعات حتى يستطيع القارئ أن يجد بغيته في أقصر وقت ممكن.
خطة البحث:
لقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة:
أولاً: المقدمة: بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب الكتابة فيه ومنهج البحث وخطته.
ثانياً: التمهيد في شرح العنوان وبيان حكم الوكالة.
ثالثاً: فصول البحث:
الفصل الأول: حكم التوكيل في الخصومة.
الفصل الثاني: شروط التوكيل في الخصومة.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: كون الفعل الموكل فيه مِمَّا يجوز التوكيل فيه.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التوكيل بالخصومة في حقوق الله عزّوجل من جانب المدعي.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: التوكيل بالخصومة في حقوق الله لإثباتها.
الفرع الثاني: التوكيل في استيفاء الحدود.
المطلب الثاني: التوكيل بالخصومة في حقوق العباد من جانب المدعي.
المطلب الثالث: التوكيل من جانب المدّعى عليه.
المبحث الثاني: ثبوت الوكالة.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي (وكالة الحاضر) .
وفيه فرعان:
الفرع الأول: حكم إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي.
الفرع الثاني: إثبات وكالة الحاضر.
وفيه مسألتان:
... الأولى: إثبات الحاضر وكالته عند القاضي وهو يعرفه.
... الثانية: إثبات الحاضر وكالته عند القاضي والقاضي لايعرفه.
المطلب الثاني: إثبات وكالة الغائب.
المطلب الثالث: اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق.
المطلب الرابع: وسيلة إثبات الوكالة.
المبحث الثالث: أن لايكون الموكِّل مبطلا.
المبحث الرابع: أن لايكون توكيله إضراراً بخصمه.
المبحث الخامس: العلم بالوكالة.
المبحث السادس: أن يكون وكيل الخصومة واحداً لا أكثر.
وفيه مطلبان:(13/8)
المطلب الأول: تعدد وكلاء الخصومة.
المطلب الثاني: تصرف الوكيلين.
الفصل الثالث: تصرفات وكيل الخصومة.
وفيه تَمْهيدٌ فيما يجوز لوكيل الخصومة من التصرفات وما لايجوز بلا نزاع.
المبحث الأول: إقرار الوكيل وإنكاره.
المبحث الثاني: قبض وكيل الخصومة المال الذي وكل بالمخاصمة فيه.
المبحث الثالث: توكيل وكيل الخصومة لآخر.
الفصل الرابع: العوض في الوكالة.
الفصل الخامس: صفة عقد الوكالة وأسباب الفسخ.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الوكالة بين اللزوم والجواز.
المبحث الثاني: أسباب الفسخ.
رابعاً: الخاتمة في نتائج البحث.
واللهَ أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به، وأن يغفر ما فيه من التقصير والزلل، والحمد لله رب العالمين.
* * *
التمهيد وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الوكالة:
الوكالة لغة: تطلق ويراد بها الحفظ، ومن ذلك قول الله جلّ وعلا: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ ((1) أي الحافظ، وقال تعالى: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ((2) قال الفراء: أي حفيظاً. وتذكر ويراد بها الاعتماد وتفويض الأمر، قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ((3) ، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - مخبراً عن هود - عَلَيْهِ السَّلاَم -: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ((4) أي اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه (5) .
وفي الشرع: تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل (6) .
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() من الآية 173 من سورة آل عمران.
(2) من الآية 9 من سورة المزمل.
(3) من الآية 12 من سورة إبراهيم.
(4) من الآية 56 من سورة هود.
(5) انظر: القاموس المحيط، فصل الواو، باب اللام 4/66.
(6) بدائع الصنائع 6/19.(13/9)
هذا تعريف الكاساني (1) من الحنفية، ويلاحظ من خلال هذا التعريف أن الوكالة استعملت في المعنيين اللغويين.
وفي العناية: هي إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم (2) .
والفرق بين تعريف الكاساني وصاحب العناية أن تعريف الكاساني لم يقتصر على التصرف بل شمل الحفظ فيدخل في ذلك الوديعة فإنها تفويض الحفظ إلى المودَع.
أمَّا تعريف صاحب العناية فقد اقتصر على التوكيل في التصرف، وهذان التعريفان يدخل فيهما الوصية بالتصرف بعد الموت (3) فيرد عليهما أنهما غير مانعين.
وعرفها ابن عرفة (4) المالكي: بأنها نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته (5) .
ومعناه: أن الوكالة هي أن ينيب صاحب الحق غيره في ذلك الحق حالة كونه ليس صاحب ولاية عامة أو خاصة، ولا إمام صلاة، فإن ذلك لايسمى وكالة، وليست هذه النيابة مشروطة بموت المنيب؛ لأنها إذا كانت مشروطة بموته فهي وصية وليست وكالة.
فيخرج بقوله: نيابة إمام الطاعة أميراً أو قاضياً، أو صاحب صلاة، والوصية.
وقوله: ((غير ذي إمرة)) أخرج به الولاية العامة والخاصة كنيابة إمام أميراً أو قاضياً.
وقوله: ((ولا عبادة)) أخرج به إمام الصلاة.
__________
(1) هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد علاء الدين الكاساني، ويلقب يملك العلماء، صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء، توفي سنة 587 هـ. انظر: الفوائد البهية 53.
(2) العناية مع فتح القدير 7/464.
(3) أي إقامة الشخص غيره مقام نفسه في القيام على شؤون أولاده الصغار بعد موته.
(4) هو: أبو عبد الله، محمد بن محمد بن عرفة، فقيه مالكي، أخذ عنه جماعة منهم ابن عبد السلام، روى عنه، وسمع منه وانتفع به، ومحمد بن هارون وغيرهما، وله مصنفات منها: مختصر في الفقه والحدود الفقهية، توفي سنة 803 هـ، وكانت ولادته سنة 716 هـ. انظر: شجرة النور 227.
(5) ذكره الخرشي في شرحه 6/392.(13/10)
وقوله: ((لغيره)) متعلق بنيابة، والضمير عائد على المضاف إليه.
وقوله: ((غير مشروطة بموته)) أخرج به الوصي؛ لأنه لايقال فيه عرفاً وكيل.
ولذا فرقوا بين فلان وكيلي ووصيي (1) .
وعرفها الرملي من الشافعية بقوله: تفويض شخص لغيره ما يفعله عنه حال حياته مِمَّا يقبل النيابة شرعاً (2) .
ونفى الرملي أن يكون في هذا التعريف دوراً.
لكن قال الشبراملسي (3) في حاشيته عليه: الظاهر أن الدور المنفي هو أن النيابة هي الوكالة وقد أخذت في تعريف الوكالة، وحينئذٍ ففي اندفاعه بقوله: أي شرعاً نظر؛ لأن النيابة شرعاً هي الوكالة، فإن أجيب بأن النيابة شرعاً أعم من الوكالة فلا دور كان التعريف غير مانع.
قال: ويُمكن أن يجاب بأنه يُمكن أن يتصور ما يقبل النيابة شرعاً بوجه أنه ما ليس عبادة ونحوها، وهذا الوجه لايتوقف على الوكالة فلا دور (4) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) نهاية المحتاج 5/15.
... والرملي هو: محمد بن أحمد بن حمزة شمس الدين الرملي، فقيه الديار المصرية في عصره، ويقال له الشافعي الصغير، صنف شروحاً وحواشي كثيرة منها: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، توفي سنة 1004 هـ، وكان مولده سنة 919 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 6/7.
(3) هو: علي بن علي، أبو الضياء، نور الدين، فقيه شافعي مصري، من أهل شبراملس بالغربية بمصر تعلم بالأزهر وعلم فيه، ولد سنة 997 هـ وتوفي سنة 1087 هـ وله حاشية على نهاية المحتاج. انظر: الأعلام 4/314.
(4) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5/15.(13/11)
وعرفها الحجاوي (1) في الإقناع: بأنها استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة (2) .
قال في كشاف القناع: وهذا باعتبار الغالب، أو المراد جائز التصرف في ذلك الفعل الذي وكل فيه، وإن لم يكن مطلق التصرف فلايرد صحة توكيل نحو عبد فيما لايتعلق بالمال (3) .
وقال في حاشية المنتهى: أو نقول على حقيقته أعني: الحر المكلف الرشيد، والتعريف بحسب الغالب، وفيه ما فيه (4) .
وبالنظر في هذا التعريف نجد أنه صرح بذكر جائز التصرف مع أن جواز التصرف شرط، وأيضاً قوله: فيما تدخله النيابة يحتاج إلى بيان.
ويدخل فيه الوصية، فهو غير مانع.
ولذلك أرى أن تعريفي المالكية والشافعية أفضل لولا ما في تعريف المالكية من الغموض في العبارة وما في تعريف الشافعية مِمَّا يحتاج إلى بيان وإيضاح وهو قولهم مِمَّا يقبل النيابة شرعاً؛ ولذا فإني أرى أن يقال في تعريفها: هي عقدٌ يقيم بمقتضاه شخصٌ غيرَه مقامَه في حالِ حياته لفعل ماله فعله.
المسألة الثانية: تعريف الخصومة:
__________
(1) هو: شرف الدين، أبو النجا، موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى الحجاوي المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، إمام علاّمة ومفتي الحنابلة بدمشق، وشيخ الإسلام بها، كان إماماً، له كتاب: الإقناع جرد فيه الصحيح من مذهب الإمام أحمد، توفي سنة 960 هـ. انظر: شذرات الذهب 8/327.
(2) الإقناع 2/419 تحقيق: د. عبد الله التركي.
(3) كشاف القناع 3/461.
(4) حاشية منتهى الإرادات لابن قائد مع منتهى الإرادات، تحقيق: د. عبد الله التركي 2/517.(13/12)
الخصومة لغة: الجدل خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه، وهو شاذ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عَيْنُه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخرة مفخرة يفخره، وأمَّا المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلاَّ ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كرضيته فرضوته أرضوه، وخاوفني فخفته أخوفه، وليس في كل شيء يقال: نازعته؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته، واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم، والجمع الخصوم، وقد يكون للجمع والاثنين والمؤنث، والخصم المخاصم والجمع خصماء (1) .
وأمَّا في الاصطلاح: فهو الجواب بنعم أولا هذا تفسير ابن نجيم (2) في البحر.
ونقل عن الجوهرة: أنها الدعوى الصحيحة أو الجواب الصريح (3) .
وفي المبسوط: هي اسم لكلام يجرى بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاحة (4) .
وعرفها الغزالي: بأنها لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وتارة تكون ابتداءً وتارة تكون اعتراضاً (5) .
وفي المطلع: هي إثبات الحق (6) ، والتوكيل في الخصومة أي في إثبات الحق.
__________
(1) القاموس المحيط، فصل الخاء، باب الميم 4/107.
(2) هو: زين الدين، إبراهيم بن محمد بن محمد، المشهور بابن نجيم، فقيه حنفي، له تصانيف منها: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، والأشباه والنظائر، توفي سنة 970 هـ انظر: الطبقات السنية 3/275، والأعلام 3/64، والفتح المبين 3/78.
(3) البحر الرائق 7/144.
(4) المبسوط 19/5.
(5) إحياء علوم الدين 9/1556.
... والغزالي هو: محمد بن محمد بن محمد الطوسي، أبو حامد، ولد بطوس سنة 450 هـ، من فقهاء الشافعية، وله مصنفات معروفة مشتهرة، منها: البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، وإحياء علوم الدين، توفي سنة 505 هـ. انظر: التعليقات السنية على الفوائد البهية 243.
(6) المطلع على أبواب المقنع 259.(13/13)
والاختصام: ردّ كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر من جهة الإنكار له، فقد يكون أحدهما محقاً، والآخر مبطلاً، كاختصام الموحِّد والملحد، وقد يكونان جميعاً مبطلين كاختصام اليهود والنصارى (1) .
والخصم: هو الطالب الذي نازع في الأمر، وهو يقع على الواحد والاثنين والجمع على صيغة واحدة؛ لأن أصله المصدر (2) .
ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول: خصمان وخصوم (3) .
إذا نظرنا في تعريف ابن نجيم للخصومة: بأنها الجواب بنعم أو لا لوجدنا بأن التعريف غير مانع إذ أن الجواب بنعم أو لا يصدق على ما ليس بخصومة، والتعريف الآخر الذي نقله عن الجوهرة: بأنها الدعوى الصحيحة أو الجواب الصريح يحتاج إلى معرفة معنى الدعوى ومتى تكون صحيحة، وكذلك الجواب.
وأيضاً الخصومة تطلق على مطلق الدعوى سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، وكذا على الجواب صريح أو غير صريح.
وأمَّا تعريف المبسوط فهو شامل لجميع أنواع الخصومات سواء كانت في المطالبة بالحقوق أو بغيرها.
وأمَّا تعريف الغزالي فهو يقصر الخصومة على ما كان من المدعي ولايشمل التعريف ما كان من الطرف الآخر.
وكذلك تعريف المطلع أنها إثبات حق، فهذا يقصر الخصومة على ما كان من أحد الجانبين.
ولذا أرى أن يقال: هي اسم لكلام يجري بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاحة لإثبات حق أو الجواب عمّن يدعيه.
فهذا يشمل ما يحصل من جانب المدعي ومن جانب المدعى عليه، ويقصر الخصومة على ما كان متعلقاً بإثبات الحقوق إذ هي مجال البحث.
المسألة الثالثة: حكم الوكالة:
الأصل في الوكالة هو الجواز، وقد دلّ على جوازها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فأمَّا الكتاب فمنه:
__________
(1) ملحق في شرح بعض المفردات اللغوية والمصطلحات الشرعية المستخرجة من تفسير القرآن الكريم للأستاذ أبي بكر بن فورك، مطبوع مع كتاب الحدود في الأصول 164.
(2) المرجع السابق.
(3) مختار الصحاح 75.(13/14)
1 - قوله الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ((1) .
2 - قوله جلّ وعلا: (فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَو ضَعِيفًا أَو لاَيَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ((2) .
ووجه الاستدلال من الآيتين: أنه لما جاز نظر الأولياء، ونظرهم إنَّما يكون بتوصية أب أو تولية حاكم وهما لايملكان كان توكيل المالك من باب أولى (3) .
3 - قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ ((4) .
ووجه الاستدلال: أنه لما أضاف الوَرِقَ إلى جميعهم وجعل استنابة أحدهم، دلّ على جواز الوكالة (5) .
__________
(1) النساء: الآية 6.
(2) البقرة: الآية 282.
(3) انظر: الحاوي للماوردي 6/493.
(4) الكهف: 19.
(5) الحاوي 6/493، وهذا وإن كان شرع من قبلنا، وقد اتفق العلماء على أن شرع من قبلنا إذا قام الدليل على نفيه عنا فليس بشرع لنا، كما اتفقوا على أنه إن قام الدليل على مطالبتنا به فهو شرع لنا، واختلفوا فيما إذا لم يقم الدليل على أنا مطالبين به أو غير مطالبين، فمن العلماء من يقول: إنه شرع لنا وهو قول أصحاب الإمام أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك والشافعي، ورواية عن أحمد وهي الرواية الراجحة في المذهب، ومنهم من قال ليس شرعاً لنا، وبه قال أكثر الشافعية. انظر: تفصيل الخلاف في: أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور / عبد الله بن عبد المحسن التركي 541 وما بعدها.
... أمَّا مسألتنا فهي من النوع الذي دلّ شرعنا على اعتباره فهو حجة بالاتفاق، والله أعلم.(13/15)
4 - قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام للعزيز: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ((1) ، أي: وكلني على خزائن الأرض.
5 - قوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ((2) والحكم وكيل.
6 - قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ((3) .
ووجه الاستدلال: أنه يجوز العمل على الصدقات، وذلك بحكم النيابة عن المستحقين (4) .
ومن السنة:
1 - حديث عروة بن الجعد قال: عرض للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلب فأعطاني ديناراً فقال: يا عروة، ائت الجلب، فاشتر لنا شاة ... الحديث (5) .
وهو دليل على جواز التوكيل في الشراء ويقاس عليه غيره مِمَّا تدخله النيابة.
__________
(1) سورة يوسف: الآية 55.
(2) سورة النساء: الآية 35.
(3) سورة التوبة: الآية 60.
(4) انظر: المغني 7/196.
(5) رواه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في المضارب يخالف، حديث [3384] والترمذي في البيوع، حديث [1277] 2/365، والدارقطني 3/10، والبيهقي 6/111.
... وأحد طرق الحديث عن سعيد بن زيد أخي حماد بن زيد، وهو ضعيف، وفيه أيضاً أبو لبيد وهو لمازة بن زبّار، وليس بمعروف العدالة، والطريق الأخرى معتلة وإن كان ظاهرها الصحة وهي أنّ شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة فكان منقطعاً.
... المحلى لابن حزم 8/237.
... ونقل الخطابي عن البيهقي أنه إنَّما ضعف حديث البارقي لأن شبيب بن غرقدة رواه عن الحي وهم غير معروفين.
... معالم السنن بهامش سنن أبي داود 3/678، وسنن البيهقي، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5/50، تحقيق أحمد شاكر.
... وقد ذكر ابن التركماني في الجوهر النقي بهامش سنن البيهقي 6/112 طرقاً أخرى للحديث وقال: وهذا السند على شرط الشيخين فظهر بهذا أنه حديث متصل روي من وجوه.(13/16)
2 - حديث حكيم بن حزام أنّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فتصدق به ودعا له أن يبارك له في تجارته (1) .
3 - روى جابر قال: أردتُ أن أخرج إلى خيبر فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلتُ: إني أريد الخروج إلى خيبر فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته (2) .
4 - روى أنه - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم - وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة (3)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في المضارب يخالف رقم [3386] وفيه راوٍ مجهول. انظر: المحلى 8/437، ورواه الترمذي، حديث رقم [1275] 2/364 ثم قال: حديث حكيم بن حزام لانعرفه إلاَّ من هذا الوجه وحبيب ابن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام. وبناء على هذا فهو منقطع.
... وأجيب بأنه إذا لم يسمع منه فيكون مرسلاً، والمرسل حجة عند أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد. انظر: روضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر 1/324، 326، ومقدمة ابن الصلاح 26، والتقرير والتحبير 2/288 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود في كتاب الأقضية من السنن، باب في الوكالة، حديث [3632] 4/47 والدارقطني 4/154، والبيهقي في السنن 6/80.
... وفي سنده محمد بن إسحاق وقد عنعنه.
(3) رواه مالك في الموطأ 1/348، ورواه الشافعي عنه عن ربيعة عن سليمان بن يسار مرسلاً أنه بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج.
... قال في تلخيص الحبير 3/50: ((ووصله أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن سليمان عن أبي رافع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً وكنت أنا الرسول بينهما)) .
... قال: وتعقبه ابن عبد البر بالانقطاع لأن سليمان لم يسمع من أبي رافع لكن وقع التصريح بسماعه منه في تاريخ ابن أبي خيثمة في حديث نزول الأبطح، ورجح ابن القطان اتصاله، ورجح أن مولد سليمان سنة سبع وعشرين ووفاة أبي رافع سنة ست وثلاثين فيكون سنة ثمان سنين أو أكثر.
... وانظره في: سنن الترمذي، كتاب الحج، باب: ماجاء في كراهية تزويج المحرم، حديث [841] 3/200 وقال: حديث حسن.(13/17)
وعمرو بن أمية الضمري في نكاح أم حبيبة (1) .
وأمَّا الإجماع:
فقد حكى ابن قدامة وغيره إجماع الأمة على جواز الوكالة في الجملة (2) .
وأمَّا المعقول:
فإن الحاجة داعية إليها، فإنه لايُمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها (3) .
هذا هو الأصل فيها، لكن ذكر بعض أهل العلم أن الوكالة بحسب متعلقها تأتي عليها الأحكام الخمسة:
فتكون مندوباً إليها، وهذا هو الأصل فيها لما فيها من التعاون، والقيام بمصالح الغير أو كان التوكيل طريقاً لمندوب.
وتكون محرمة: إذا كان فيها إعانة على محرم كالتوكيل في الخطبة على الخطبة أو الشراء على الشراء ونحو ذلك.
وتكون مكروهة إذا كان فيها إعانة على مكروه.
وقد تجب إذا توقف عليها دفع ضرر الموكِّل، كتوكيل المضطر في شراء طعام قد عجز عنه.
وتتصور فيها الإباحة كما إذا لم يكن للموكِّل حاجة في الوكالة وسأله الوكيل من غير غرض (4) .
* * *
الفصل الأول: حكم التوكيل في الخصومة
اتفق الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - على جواز التوكيل في الخصومة في الجملة وإن اختلفوا في شروط صحتها (5) .
واستدلوا على جوازها بما يلي:
أولاً: العمومات السابقة في الاستدلال لجواز الكفالة بوجه عام، إمَّا بالعموم وإمَّا بالقياس عليه.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 4/22 وسكت عنه، قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/282: (ضعيف) .
(2) المغني 7/197.
(3) المغني 7/197.
(4) حاشية إعانة الطالبين 3/84، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5/15 وما بعده، ومنح الجليل 6/357.
(5) انظر: الفتاوى الهندية 3/615، ولسان الحكام 1/250، حيث نقل عن المنبع الاتفاق على جواز التوكيل في الخصومة في الجملة، والمعونة 2/1237، 1238، والحاوي للماوردي 6/496، والمغني 7/199.(13/18)
ثانياً: ما روي أن علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكل أخاه عقيلاً وقال: إن للخصومات قحماً (1) ، وإنها لتخلف وإن الشيطان يحضرها، وإني إن حضرت خفت أن أغضب، وإن غضبت خفت ألا أقول حقاً، وقد وكلت أخي عقيلاً فما قضي عليه فعليّ وما قضي له فلي (2) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -: ولا أحسبه كان توكيله إلاَّ عند عمر بن الخطاب، ولعله عند أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (3) -.
وروي أن علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكل عبد الله بن جعفر عند عثمان لما كبر عقيل في شرب كان ينازع طلحة بن عبيد الله فركب عثمان في نفر من الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - إلى الموضع الذي كانا يتحاكمان فيه حتى أصلح بينهما في الشرب (4) .
قال في الحاوي: فصار هذا إجماعاً منهم على جواز الوكالة (5) .
وقال في المغني: وهذه قصص انتشرت؛ لأنها في مظنة الشهرة فلم ينقل إنكارها (6) .
ثالثاً: الحاجة تدعو إليها فإنه قد يكون له حق، أو يدعى عليه، ولايحسن الخصومة أو لايحب أن يتولاها بنفسه (7) .
إذا تبين هذا فإن البعض يجري على الوكالة في الخصومة الأحكام الخمسة كما هو الحال بالنسبة للوكالة في غيرها.
فتكون واجبة مثل أن يرى القاضي ضرورة للتوكيل كأن يكون بين الخصوم امرأة شابة ذات جمال وفتنة أو كان المدعى عليه عليلاً أو ضعيفاً في مقابلة خصمه (8)
__________
(1) القحم المهالك والشدائد. تكملة فتح القدير 8/7، والفائق 3/164.
(2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/299، وضعفه الألباني في إرواء الغليل 5/287.
(3) الأم 3/266، وضعف الألباني في الإرواء الخبر المروي في هذا 5/287.
(4) رواه البيهقي في السنن 6/81، قال الألباني - رَحِمَهُ اللهُ - في إرواء الغليل 5/287: (ضعيف) .
(5) الحاوي 6/496.
(6) المغني 7/200.
(7) المرجع السابق، وتكملة فتح القدير 8/6 وما بعدها.
(8) المحاماة رسالة وأمانة لأحمد حسن كرزون 47.
... وقد ذكر فقهاء الحنابلة في المرأة إذا لم تكن برزة أنها تؤمر بالتوكيل. انظر: الكافي لابن قدامة 4/458.(13/19)
أقول: قد يسلم في المثال الأول لذلك نص الفقهاء على أن الدعوى إذا كانت على امرأة غير برزة أمرت بالتوكيل.
لكن ضعف المدعي أو المدعى عليه في مقابلة خصمه أي كونه لايحسن من الكلام ما يحسنه خصمه لايوجب التوكيل بدليل قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلايأخذها)) رواه البخاري ومسلم (1) .
فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر الخصم في مثل هذه الحالة بالوكالة لكونه أضعف بياناً فدل على أن الوكالة ليست واجبة، لكن يُمكن أن يمثل لهذا بما لو كان المدّعى عليه مريضاً لايُمكنه الحضور لمجلس القضاء فيجبر على التوكيل؛ لأن إيصال الحق إلى مستحقه أمر واجب فإذا كان التوكيل طريقاً إليه وجب إعمالاً لقاعدة ما لايتم الواجب إلاَّ به فهو واجب.
وقد تكون الوكالة مندوباً إليها في حق ذوي المروءات، فينبغي أن يوكلوا لأنفسهم في الحقوق ولايباشروا الخصومة بنفوسهم (2) .
ولايسلم بكونها مندوبة هنا؛ لأن المندوب هو ما يثاب فاعله ولايعاقب تاركه، فهل من ترك الخصومة لكونه من ذوي المروءات ووكل لذلك يثاب؟ .
فلو قيل بالندب في حق من تشغله الخصومة عن مندوب لكان أولى، وقد خاصم عمر أبيّ إلى زيد - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وتخاصم علي وطلحة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - إلى عثمان.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات، باب: من أقام البينة بعد اليمين ... 3/162، واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث [1713] 2/1337.
(2) المحاماة رسالة وأمانة لأحمد حسن كرزون 47 وما بعدها.(13/20)
يقول السرخسي - رَحِمَهُ اللهُ - في المبسوط: (وفيه دليل على أنهم كانوا يختصمون فيما بينهم ولانظن بواحد منهم سوى الجميل لكن كان يستبهم عليهم الحكم فيختصمون إلى الحاكم ليبين لهم) (1) .
وفي الخبر المروي عن علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دليل على أنه ينبغي التحرز عن الخصومة ما أمكن لما أشار إليه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه موضع لحضرة الشيطان وأن للخصومة قحماً أي مهالك.
يقول السرخسي - رَحِمَهُ اللهُ -: وفيه دليل على أن التحرز عن الخصومة واجب ما أمكن (2) .
وكره مالك - رَحِمَهُ اللهُ - لذوي الهيئات الخصومات، وقال: كان القاسم بن محمد يكره لنفسه الخصومة، ويتنزه عنها، وكان إذا نازعه أحد في شيء، قال: إن كان هذا الشيء لي فهو لك، وإن كان لك فلا تحمدني عليه.
وكان ابن المسيب إذا كان بينه وبين رجل شيء لايخاصمه، ويقول: الموعد يوم القيامة.
وقال مالك: من علم أن يوم القيامة يحاسب فيه على الصغير والكبير، ويعلم أن الناس يوفون حقوقهم من الحسنات، وأن الله عزّوجل لايخفى عليه شيء فليطب بذلك نفساً، فإن الأمر أسرع من ذلك، وما بينك وبين الآخرة وما فيها إلاَّ خروج روحك حتى تنسى ذلك كله حتى كأنك ما كنت فيه ولا عرفته.
وقال أيضاً: من خاصم رجل سوء (3) .
__________
(1) المبسوط 19/3.
(2) المرجع السابق.
... والسرخسي هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر، شمس الأئمة السرخسي، كان إماماً وعلامة وحجة، من فقهاء الحنفية، أملى المبسوط في نحو خمسة عشر مجلداً وهو في السجن، اختلف في وفاته، والأشهر أنه توفي سنة 483. انظر: الفوائد البهية ص 158، والفتح المبين 1/264.
(3) منح الجليل 6/363.(13/21)
وقال ابن مسعود: كفى بك ظلماً أن لاتزال مخاصماً (1) .
وروت عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم (2) .
فمن المكروه إذاً الاشتغال بالمخاصمة سواء كان في ذلك أصيلاً أو وكيلاً.
ويُمكن أن يستدل لهذا بما روي عن علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وتكون مكروهة أيضاً إذا كانت فيها إعانة على مكروه كأن يحاول الوكيل الالتواء بالدفاع لتضييع وقت المحاكمة (3) .
وتكون محرمة في حال الدفاع عن الباطل.
وتكون مباحة في حالة ما إذا لم تكن حاجة للموكل فيها ولا معونة له من الوكيل كما لو وكل غيره ترفها (4) .
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رَحِمَهُ اللهُ - عن العمل بالمحاماة، وأنه قد يعرض الإنسان لمناصرة الشر والدفاع عنه؛ لأن المحامي يريد البراءة مثلاً للمذنب الذي يدافع عنه ... إلخ (5) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في السنن عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ((كفى بك إثْماً أن لاتزال مخاصماً)) . وقال: ((هذا الحديث حديث غريب لانعرفه إلاَّ من هذا الوجه)) كتاب البر والصلة، باب ماجاء في المراء، حديث (1994) قال في تحفة الأحوذي 6/110 في سنده ضعيف، ونقل عن المناوي قوله في شرح الجامع الصغير ((إسناده ضعيف)) .
... وأخرجه الطبراني في الكبير، حديث (11032) ج 11/57 وقال ابن حجر في فتح الباري عن سنده ضعيف. 13/224.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب الألد الخصم 7/117، ومسلم في كتاب العلم، باب في الألد الخصم (2668) 4/2054.
(3) المحاماة رسالة وأمانة 48.
(4) المحاماة رسالة وأمانة 48.
(5) نشر في مجلة الدعوة عدد 1789 في 2 صفر 1422 هـ ص 61.(13/22)
فأجاب: المحاماة مفاعلة من الحماية إن كانت حماية شر ودفاع عنه فلاشك أنها محرمة؛ لأنه وقوع فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: (وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (، وإن كانت المحاماة لحماية الخير والذود عنه فإنها حماية محمودة مأمور بها في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (، وعلى هذا فإن من أعدّ نفسه لذلك يجب عليه قبل أن يدخل في القضية المعينة أن ينظر في هذه القضية ويدرسها فإن كان الحق مع طالب المحاماة دخل في المحاماة وانتصر للحق ونصر صاحبه، وإن كان الحق في غير جانب من طلب المحاماة فإنه يدخل في المحاماة أيضاً، لكن المحاماة تكون عكس ما يريد الطالب بمعنى أنه يحامي عن هذا الطالب حتى لايدخل فيما حرم الله عليه وفي دعوى ما هو عليه، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله هذا المظلوم فكيف ننصره إذا كان ظالماً قال: ((تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه)) (1) ، فإذا علم أن طالب المحاماة ليس له حق في دعواه فإن الواجب أن ينصحه وأن يحذره وأن يخوفه من الدخول في هذه القضية، وأن يبين له وجه بطلان دعواه حتى يدعها مقتنعاً بها.
الفصل الثاني: شروط التوكيل في الخصومة
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: أن يكون الفعل الموكل به مِمَّا يجوز التوكيل فيه
إن هذا الشرط متفق عليه من حيث الجملة، أمَّا من حيث التفصيل فإن الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - قسموا الحقوق باعتبار من تضاف إليه إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه ... 8/59.(13/23)
القسم الأول: حقوق الله - عَزَّ وَجَلَّ - الخالصة، والمراد بها: الحقوق التي ليس لأحد من المكلفين إسقاطها، ولا مدخل للصلح فيها، ولاتستباح بإباحة أحد، وتقوم على المسامحة فيما بين العبد وربه مثل الإيمان، وتحريم الكفر، والعبادات، وغير ذلك.
القسم الثاني: حق العبد: وهو ما تعلقت به مصلحة خاصة دنيوية، ويقبل الصلح والإسقاط، والإباحة من صاحبة، وأمثلة هذا النوع كثيرة جداً، منها: المداينات، وبدل المتلفات، وغير ذلك.
ومِمَّا ينبغي أن يعلم أنه ما من حق للعبد إلاَّ وفيه حق لله تعالى وهو التعبد بامتثال أوامره بإيصال الحقوق إلى مستحقيها.
القسم الثالث: الحقوق المشتركة: وهي ما اجتمع فيه حق الله-عَزَّ وَجَلَّ- وحق الآدمي ومرة يغلب حق الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ومرة يغلب حق العبد.
ويُمكن تقسيم هذا النوع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما اختلف في تقديم أحد الحقين على الآخر مثل حد القذف، فمن غلب حق الله تعالى قال: لايسقط بالعفو، ومن غلب حق العبد قال: يسقط بعفوه.
الثاني: ما قطع فيه بتقديم حق العبد كجواز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه.
والثالث: ما قطع فيه بتقديم حق الله - عَزَّ وَجَلَّ - فلايتأتى فيه الإسقاط أبداً حتى لحق العبد، وأمثلة ذلك كثيرة منها تحريم الزنا، وإيجاب الحد على مرتكبه، وتحريم المسكرات والمخدرات، وتحريم إضاعة الأموال أو سرقتها، وغير ذلك كثير (1) .
__________
(1) انظر في هذا: أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار 4/134 وما بعدها، والفروق للقرافي 1/140 الفرق الثاني، والعشرون، وتهذيب الفروق مطبوع معه 1/157، والموافقات للشاطبي 2/318، والمنثور في القواعد للزركشي 2/58، 59، 65، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/129، ووسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد الزحيلي 1/75، والانتفاع بأجزاء الآدمي الحي، تأليف عصمت الله عنايت الله ص 27.(13/24)
وهذه الحقوق ترجع في الحقيقة إلى قسمين رئيسيين هما:
الأول: حق الله المحض، ويلحق به الحق الذي يغلب فيه حق الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
والثاني: حق العبد ويلحق به ما اشترك فيه الحقان وترجح فيه حق العبد (1) .
والتوكيل في هذه الحقوق إمَّا بإثباتها وإمَّا باستيفائها، ولذا سوف يكون الكلام في هذا المبحث في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التوكيل بالخصومة في حقوق الله من جانب المدعي.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: التوكيل بالخصومة في حقوق الله عزّوجل بإثباتها
قسم الكاساني (2) الحنفي - رَحِمَهُ اللهُ - حقوق الله عزّوجل إلى قسمين: قسم يحتاج في إثباته إلى الخصومة كحد السرقة وحد القذف (3) .
وقسم لايحتاج في إثباته إلى الخصومة كحد الزنا وحد الشرب.
وسوف أتبع في الكلام على التوكيل بحقوق الله عزّوجل هذا التقسيم نظراً لشموله مع أنه قد يكون في التقسيم نظر ذلك أن حد القذف من حقوق الآدميين وإن كان فيه حق لله عزّوجل، وسوف يكون الكلام إذن في مسألتين:
المسألة الأولى: التوكيل بإثبات حقوق الله عزّوجل التي لاتحتاج في إثباتها إلى الخصومة:
اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في حكم التوكيل بإثبات حقوق الله عزّوجل التي لاتحتاج في إثباتها إلى خصومة على قولين:
__________
(1) وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية د. محمدا لزحيلي 1/77.
(2) سبقت ترجمته هامش [7] .
(3) بدائع الصنائع 6/21، وتكملة فتح القدير 8/9، واختلف في حد القذف هل المغلب فيه حق الله أو حق الآدمي، فذهب الحنفية إلى أن المغلب فيه حق الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المغلب فيه حق الآدمي. انظر: بدائع الصنائع 6/21، وحاشية رد المحتار 6/86، والتاج والإكليل مع مواهب الجليل 8/412، ومغني المحتاج 4/155، والإنصاف 10/200.(13/25)
القول الأول: أن الوكالة بها لاتصح، وبهذا قال الحنفية (1) والشافعية (2) وقول عند الحنابلة (3) .
اختاره أبو الخطاب (4) ، إلاَّ أن الشافعية استثنوا إثباتها بالوكالة تبعاً فيقع (5) ، مثل أن يقذف شخص آخر فيطالبه بحد القذف فله أن يدرأ عن نفسه بإثبات زناه بالوكالة وبدونها، فإذا ثبت الزنا أقيم عليه الحد.
واستدلوا بما يلي:
1 - أن هذا النوع من الحدود يثبت عند القاضي بالبينة أو الإقرار من غير خصومة فلا حاجة إلى التوكيل (6) .
2 - أن الحدود تدرأ بالشبهات وقد أمرنا بدرئها بها بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)) (7)
__________
(1) تكملة فتح القدير 8/9، وتبيين الحقائق 4/256.
(2) انظر: الحاوي 6/517، ومغني المحتاج 2/221.
(3) المغني 7/201، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/451، والإنصاف معهما.
(4) هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، أبو الخطاب، البغدادي، أحد أئمة المذهب الحنبلي وأعيانه، ولد سنة 432 هـ، وتوفي سنة 510 هـ. انظر: طبقات الحنابلة 2/258، والذيل عليها لابن رجب 1/116.
(5) مغني المحتاج 2/221.
(6) بدائع الصنائع 6/21.
(7) رواه الترمذي باب ماجاء في درء الحدود، حديث [1424] 4/33 بلفظ: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ... )) وذكر أنه قد روي موقوفاً، وأن الوقف أصح قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا مثل ذلك.
... وأخرجه الحاكم 4/384، والبيهقي في سننه 8/238 قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/653، ولكن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف كما قال الترمذي، وقال البخاري فيه: إنه منكر الحديث، وقال النسائي: متروك. انتهى.
... قال: والصواب: أنه موقوف كما في رواية وكيع، قال البيهقي: رواية وكيع أقرب إلى الصواب قال: ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري، رشدين ضعيف.
... وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً)) ابن ماجة حديث [2545] .
... قال الشوكاني: وفي الباب عن علي مرفوعاً: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) وفيه المختار بن نافع قال البخاري: وهو منكر الحديث. قال: وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات ... )) .
... وروي عن عقبة بن عامر، ومعاذ أيضاً موقوفاً، وروي منقطعاً، وموقوفاً على عمر.
... ورواه ابن حزم في كتاب الإيصال عن عمر موقوفاً عليه، قال الحافظ: وإسناده صحيح.
... ثم قال الشوكاني: وما في الباب وإن كان فيه المقال المعروف فقد شد عضده ما ذكرناه فيصلح للاحتجاج به على مشروعية درء الحدود بالشبهات المحتملة لا مطلق الشبهة. نيل الأوطار 4/653 وما بعدها، وانظر: تلخيص الحبير لابن حجر 4/56.(13/26)
والتوكيل تأكيد لها وتوصل إلى الإيجاب (1) .
ونوقش الدليل: بأن الوكيل يقوم مقام الموكّل في درئها بالشبهة (2) .
ويُمكن أن يناقش الأول: بأنه يحتمل أن تحتاج إلى الخصومة فيها فتحتاج إلى الوكالة كغيرها من الحقوق.
القول الثاني: تصح الوكالة بإثبات الحدود، وهو قول عند الحنابلة قال في الإنصاف: (هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب) (3) .
واستدلوا بما يلي:
1 - قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((واغد يا أنيس (4) إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) ، فغدا أنيس فاعترفت فأمر بها فرجمت. متفق عليه (5) .
ووجه الاستدلال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل أنيساً في إثبات الحد واستيفائه جميعاً بقوله: ((فإن اعترفت فارجمها)) ، وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت (6) .
ونوقش: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبعثه لأجل إثبات الحد عليها، بل لأنها لما قُذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف عن الرجل.
__________
(1) انظر: الحاوي 6/516، ومغني المحتاج 2/221، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/451.
(2) المغني 7/202، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/451.
(3) المرجعان السابقان، والإنصاف مع المقنع والشرح 13/451.
(4) هو: أنيس بن الضحاك الأسلمي ذكره أبو حاتم الرازي وقال: لايعرف. وجزم ابن حبان وابن عبد البر بأنه هو الذي قال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((واغدُ يا أُنيس على امرأة هذا)) الإصابة 1/136، والاستيعاب 1/114.
(5) رواه البخاري في كتاب الوكالة في الحدود 3/65 وفي مواضع أخرى، ومسلم في كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا حديث [1697، 1698] 2/1324.
(6) انظر: المغني 7/201.(13/27)
يقول النووي (1) - رَحِمَهُ اللهُ -: (واعلم أن بعث أنيس محمول عند العلماء من أصحابنا وغيرهم على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قد قذفها بابنه فيعرفها بأن لها عنده حد القذف فتطالب به أو تعفو عنه إلاَّ أن تعترف بالزنا فلايجب عليه حد القذف بل يجب عليها حد الزنا وهو الرجم؛ لأنها كانت محصنة فذهب إليها أنيس فاعترفت بالزنا فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها فرجمت، ولابد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنا، وهذا غير مراد؛ لأن حد الزنا لايحتاج له بالتجسس والتفتيش عنه بل لو أقر به الزاني استحب أن يلقن الرجوع) (2) .
ويُمكن الجواب بأن هذا تأويل متكلف، ذلك أن والد العسيف قد سأل وأخبره الناس بأن على ابنه الرجم وأخبره أهل العلم إنَّما على ابنه جلد مائة وتغريب عام وأنّ على امرأة هذا الرجم فأقسم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقضين بينهما بكتاب الله ثم قال: ((واغد يا أنيس ... )) الحديث.
وكان زوج المرأة حاضراً ... فالظاهر من هذا أن المرأة كانت معترفة من قبل بدليل أن والد العسيف لما أخبر أن على ابنه الرجم افتدى منه بمائة شاة ووليدة، ويظهر أنهم قد أخذوها بدليل قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الوليدة والغنم رد)) .
قال النووي: (أي مردودة ومعناه يجب ردّها إليك) (3) .
__________
(1) هو: الحافظ محيي الدين، أبو زكريا، يحيى بن شرف النووي، فقيه شافعي، ولد بنوى في المحرم سنة 631 هـ، له مصنفات منها: المجموع شرح المهذب لم يتمه، وروضة الطالبين في الفقه وغيرهما، توفي سنة 676 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 5 /165، والبداية والنهاية 13/278، والأعلام 8/149.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 11/207، وانظر: نيل الأوطار 4/630.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 11/207.(13/28)
فهذا زنا قد ظهر واشتهر لكن أراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعرف هل هي باقية على إقرارها؛ لأن ذلك شرط وجوب الحد أو أراد تثبيت إقرارها على الوجه المشروع، والله أعلم.
الدليل الثاني: أن الحاكم إذا استناب دخل في ذلك الحدود فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم، وجب أن تدخل بالتخصيص بها أولى (1) .
والقول الراجح في نظري هو القول الثاني وهو جواز التوكيل بإثبات الحد؛ إذ ليس في التوكيل بإثباتها محظور، ولايمنع ذلك من درئها بالشبهة، ولايسلم أنه لايحتاج إلى الخصومة بل قد يحتاج إليها في أحوال كما يشهد لذلك الواقع، وقد لايستطيع المخاصمة بنفسه فيحتاج إلى التوكيل، والله أعلم.
المسألة الثانية: التوكيل في حقوق الله عزّوجل التي تحتاج إلى خصومة:
هذا هو النوع الثاني من حقوق الله عزّوجل على تقسيم الكاساني - رَحِمَهُ اللهُ - وهو ما يحتاج إلى خصومة كحد السرقة والقذف (2)
__________
(1) المغني 7/201 وما بعدها.
(2) اختلف العلماء في حد القذف هل حق الله فيه غالب أو حق العبد هو الغالب، فذهب الحنفية إلى أن حق الله هو الغالب. انظر: بدائع الصنائع 6/21، وحاشية رد المحتار 6/86.
... واتفق المالكية أنه حق للمقذوف، واختلفوا هل يتعلق به حق لله أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
... أحدها: نعم يتعلق به حق لله.
... والثاني: لايتعلق به حق لله.
... والثالث: أنه حق للمقذوف ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغه صار حقاً لله ولم يجز لصاحبه العفو عنه، إلاَّ أن يريد ستراً، وهو قول لمالك - رَحِمَهُ اللهُ -. انظر: التاج والإكليل مع مواهب الجليل 8/412، وغلب الشافعية فيه حق الآدمي. انظر: نهاية المحتاج 7/437، ومغني المحتاج 4/155، والمنثور 3/67.
... واختلف الرواية عن أحمد فروى عنه أنه حق آدمي، وهذا هو المذهب.
... وروى عنه أنه حق لله. انظر: الإنصاف 10/200، ولعل المراد ما الذي يغلب منهما، إذ قد علم أنه ما من حق لآدمي إلاَّ وفيه حق لله تعالى، والله أعلم.(13/29)
، وهذا النوع اختلف العلماء في حكم التوكيل بإثباته على قولين:
القول الأول: أن التوكيل في إثباته يصح، وبه قال أبو حنيفة ومحمد (1) والشافعية (2) ، وقول عند الحنابلة، وهو المذهب واختاره القاضي (3) وغيره، وقدمه في المغني وغيره (4) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أنه حق يجوز التوكيل فيه مع حضور الموكِّل فجاز مع غيبته كسائر الحقوق.
2 - ولأن من جاز توكيله في غير الحدود جاز توكيله في الحدود كالحاضر (5) .
القول الثاني: لاتصح الوكالة في إثبات الحدود كحد السرقة والقذف، وهذا قول أبي يوسف (6) .
ووجهه: أن الحدود لايصح التوكيل باستيفائها فلايصح التوكيل بإثباتها إذ الإثبات وسيلة الاستيفاء (7) .
ونوقش: بالفرق بين الاستيفاء والإثبات، والفرق أن امتناع التوكيل في الاستيفاء لمكان الشبهة وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات (8) .
ويُمكن أيضاً مناقشته بأنه قياس على مختلف فيه، ولايصح القياس على مختلف فيه إذ للمخالف أن يقول نحن نمنع الحكم في الأصل فلايتم القياس، والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع 6/21.
(2) الحاوي للماوردي 6/516، والعزيز شرح الوجيز 5/209.
(3) هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، أبو يعلى، المعروف بالقاضي الكبير، فقيه حنبلي وأصولي ومحدث، ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. انظر: طبقات الحنابلة 2/193، والبداية والنهاية 12/94 وما بعدها.
(4) المغني 7/451، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/451.
(5) الحاوي 6/516.
(6) بدائع الصنائع 6/21.
(7) المرجع السابق، وتبيين الحقائق 4/255.
(8) بدائع الصنائع 6/21، والحاوي للماوردي 6/516.(13/30)
والراجح في نظري - والله أعلم - هو القول الأول وهو جواز التوكيل بإثبات الحدود لما قلنا في الذي قبله من أن ذلك لايمنع من درئها بالشبهة، ولما قلنا في الرد على دليل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللهُ - من أنه قياس مع الفارق، فبقي دليل الأول سليماً من المعارضة.
الفرع الثاني: التوكيل في استيفاء الحدود:
التوكيل في استيفاء الحدود كحد السرقة والقذف والزنا، ونحو ذلك لايخلو إمَّا أن يكون الموكّل حاضراً أو غائباً، فإن كان الموكِّل حاضراً صح التوكيل، والتوكيل هنا معناه الأمر بالاستيفاء، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - (1) .
واستدلوا بما يلي:
1 - قوله - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم -: ((واغدو يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) فغدا أنيس فاعترفت فأمر بها فرجمت. متفق عليه (2) .
ووجه الاستدلال: أن هذا توكيل في استيفاء حد الزنا، ويقاس عليه سائر الحدود.
2 - قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة ماعز: ((اذهبوا به فارجموه)) متفق عليه (3) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 6/21، والبحر الرائق 7/147، وفتح القدير 7/468، وحاشية قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار 11/383، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 7/162، والحاوي 6/517، ومغني المحتاج 2/221، والمغني 7/200 وما بعدها وص 203.
(2) تقدم هامش [81] .
(3) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب لايرجم المجنون والمجنونة، ورواه في مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث [1691] 3/1318.(13/31)
3 - أن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكّل علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في إقامة حدّ الشُّرب على الوليد بن عقبة، ووكل عليٌّ الحسنَ في ذلك فأبى الحسن فوكل عبد الله بن جعفر فأقامه وعليٌّ يَعُدّ. رواه مسلم (1) .
4 - ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن الإمام لايُمكنه تولي ذلك بنفسه، والمستحق قد لايحسنه (2) .
أمَّا التوكيل في استيفائها مع غياب الموكِّل فاختلف فيه على قولين:
القول الأول: لايجوز التوكيل في استيفاء الحدود مع غياب الموكِّل، وهو قول بعض الحنفية (3) ، واختلف قول الشافعي فيه فظاهر كلامه في باب الوكالة: أنه لايجوز وكلامه في باب الجنايات يدل على الجواز فخرج الشافعية المسألة على قولين لاختلاف الموضعين:
أحدهما: أنه لايجوز (4) ، وبه قال بعض الحنابلة، وأومأ إليه أحمد (5) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن الموكل يحتمل أن يعفو في غيابه - فيما للعفو فيه أثر - فيقام الحد مع عفوه، إذ لايُمكن تداركه، وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاسيتفاء (6) .
2 - أن الحدود تدرأ بالشبهات، ولذلك لاتستوفى بمن يقوم مقام الغير لما في ذلك من ضرب شبهة، ولذلك لاتقام بكتاب القاضي إلى القاضي، ولا بالشهادة على الشهادة ولا بشهادة النساء مع الرجال (7) .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب: حد الخمر، حديث [1707] 3/1331.
(2) انظر: الأدلة في المغني 7/201، ومغني المحتاج 2/221.
(3) بدائع الصنائع 6/21، والمبسوط 19/9، وصاحب المبسوط يحكي الاتفاق على هذا، وفي البدائع خلاف.
(4) الحاوي 6/517، ومغني المحتاج 2/221.
(5) المغني 7/203.
(6) انظر: مغني المحتاج 2/221، والمغني لابن قدامة 7/203، والحاوي 6/517.
(7) تكملة فتح القدير 8/7، والمبسوط 19/9.(13/32)
3 - أن العفو مندوب إليه، فإذا حضر الموكّل احتمل أن يرحم الجاني فيعفو (1) - أي فيما للعفو فيه أثر أمَّا ما ليس للعفو فيه أثر كحد الزنا والسرقة - فلم تستقم هذه الحجة.
4 - أنه إذا كان لايحتمل العفو والصلح فيحتمل الإقرار والتصديق - أي يحتمل أن يقر المقذوف بما قذفه به أو يصدقه فيسقط عن القاذف الحد، وهذه الشبهة لايجوز معها التوكيل باستيفاء الحد مع غياب الموكل (2) .
5 - أنه ليس كل أحد يحسن الاستيفاء إمَّا لقلة هدايته، أو لأن قلبه لايحتمل ذلك، فلو منع التوكيل بالاستيفاء لانسد باب الاستيفاء فجاز التوكيل في حضوره استحساناً لئلا ينسد باب الاستيفاء (3) .
بخلاف حال غياب الموكّل.
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي: بالنسبة لاحتمال العفو فهو بعيد، والظاهر أنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله بعفوه، والأصل عدمه، ألا ترى أن قضاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يحكمون في البلاد، ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهة مع احتمال النسخ.
وكذلك لم يحتط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو تغير اجتهاد الحاكم (4) .
القول الثاني: يجوز التوكيل باستيفاء الحدود مع حضور الموكِّل وغيابه، وهو قول بعض الحنفية (5) ، وهو مذهب مالك (6) ، وقول عند الشافعية، قال في الحاوي: وهو أصحهما (7) ، وهو قول عند الحنابلة، ونص عليه أحمد (8) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكِّل جاز في غيبته كسائر الحقوق (9) .
__________
(1) انظر: مغني المحتاج 2/221، والمغني لابن قدامة 7/203، والحاوي 6/517.
(2) بدائع الصنائع 6/21.
(3) تكملة فتح القدير 8/8.
(4) المغني 7/203، ومغني المحتاج 2/221.
(5) بدائع الصنائع 6/21، وتبيين الحقائق 4/255.
(6) الذخيرة للقرافي 8/6.
(7) الحاوي 6/517، ومغني المحتاج 2/221.
(8) المغني 7/203.
(9) المغني 7/203، والحاوي 6/517.(13/33)
ونوقش: بأن القياس على سائر الحقوق قياس مع الفارق؛ إذ الشبهة لاتمنع من استيفاء سائر الحقوق بخلاف ما نحن فيه (1) .
ويُمكن الجواب عن هذا الاعتراض بما تقدم في مناقشة أدلة القول الأول.
2 - القياس على القصاص فيجوز التوكيل باستيفائه مع غياب الموكِّل (2) .
ونوقش: بأنه قياس على مختلف فيه فقد خالف في جواز التوكيل في استيفاء القصاص مع غياب الولي الحنفية لاحتمال العفو (3) .
ويُمكن الجواب عنه: بأن غياب الولي لايمنع من العفو، والظاهر عدمه، ولو عفا لبعث به فاحتمال العفو لايمنع من صحة التوكيل.
ولذا فالراجح في نظري - والله أعلم - هو القول الثاني القاضي بصحة التوكيل في استيفاء الحدود، وذلك للنصوص الصحيحة الدّالة على جواز التوكيل كحديث: ((واغد يا أنيس ... )) وحديث ماعز، وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اذهبوا به فارجموه ... )) ؛ ولأن الاستيفاء يكون بعد ثبوت موجب الحد ثبوتاً تنتفي معه الشبهة فلايلزم أن يكون الموكل حاضراً، والقول بأنه يحتمل أن يقر المقذوف بالزنا أو يصدقه فيسقط الحد عن القاذف بعيد، والله أعلم.
المطلب الثاني: التوكيل بالخصومة في حقوق العباد
وفيه فروع:
الفرع الأول:التوكيل بإثبات القصاص واستيفائه
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: التوكيل بإثبات القصاص:
اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في حكم التوكيل بإثبات القصاص على قولين:
القول الأول: لايصح التوكيل بإثبات القصاص، وبه قال أبو يوسف من الحنفية (4) .
وحجته:
__________
(1) بدائع الصنائع 6/21.
(2) الحاوي 6/517.
(3) بدائع الصنائع 6/21.
(4) بدائع الصنائع 6/21.(13/34)
أولاً: أن الوكيل بمنزلة البدل عن الأصل، ولا مدخل للأبدال في باب القصاص؛ ولهذا لاتجوز فيه الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي، ولا شهادة النساء، ولا من الأخرس؛ لأن إشارته بدل عن العبارة (1) .
ثانياً: ولأن المقصود من الإثبات الاستيفاء، فإذا لم يصح التوكيل بالاستيفاء مع غياب الموكل لم يصح بالإثبات (2) .
القول الثاني: يصح التوكيل بإثبات القصاص، وهو قول أبي حنيفة والجمهور من الحنفية غير أبي يوسف (3) وهو قول المالكية (4) والشافعية (5) والحنابلة (6) .
واستدلوا بما يلي:
1 - بأن التوكيل تناول ما ليس بحد ولا قصاص، ولايضاف الوجوب فيهما إلى الخصومة فيصح التوكيل فيهما كما في سائر الحقوق، وهذا لأن وجوب الحد مضاف إلى الجناية، وظهوره مضاف إلى الشهادة، والخصومة شرط محض، لا أثر لها في الوجوب، ولا في الظهور، إذ الحكم لايضاف إلى الشرط (7) .
2 - أن القصاص من حقوق الآدميين فيجوز التوكيل فيه كسائر الحقوق (8) .
والراجح في نظري هو قول الجمهور القاضي بصحة التوكيل بإثبات القصاص، وذلك لأن ما احتج به أبو يوسف من أن الوكيل بمنزلة البدل عن الأصل ولا مدخل للأبدال في باب القصاص، بدليل أنه لاتجوز فيه الشهادة على الشهادة ... إلخ يُمكن أن يجاب عنه بأن القصاص لم تقبل فيه الشهادة على الشهادة ولم يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لمكان الاحتياط في الدماء، فلذا لم يثبت بهذه الأمور والوكالة لايثبت بها القصاص وإنَّما يراد بها المطالبة وإقامة البينة فافترقا.
__________
(1) تبيين الحقائق 4/255 وما بعدها، وفتح القدير 7/468، والمبسوط 19/9.
(2) المرجعان السابقان.
(3) المرجعان السابقان، وفتاوى قاضيخان مع الفتاوى الهندية 3/11.
(4) الذخيرة للقرافي 8/6.
(5) الحاوي 6/516.
(6) المغني 7/199.
(7) تبيين الحقائق 4/255 وما بعدها، وفتح القدير 7/468.
(8) المغني 7/199، والحاوي 6/516.(13/35)
وأمَّا الدليل الثاني لأبي يوسف وهو القياس على الاستيفاء في حال غياب الموكِّل فهو قياس على مختلف فيه فلايصح (1) ، والصحيح جوازه وشبهة العفو لاتمنع منه، والله أعلم.
المسألة الثانية: التوكيل باستيفاء القصاص:
اختلف العلماء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في حكم التوكيل في استيفاء القصاص على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لايصح التوكيل في استيفاء القصاص إلاَّ بحضور الموكِّل، ولايصح مع غيبته، وهذا قول الحنفية (2) ، وقول عند الشافعية (3) .
واستدلوا بما يلي:
أولاً: أن القصاص يندرئ بالشبهة، فلايستوفى بمن يقوم مقام الغير كالحدود، ولهذا لايستوفي بكتاب القاضي إلى القاضي، ولا بشهادة النساء مع الرجال.
وتوضيح ذلك: أنه لو استوفى في حال غياب الموكِّل كان استيفاء مع تمكن شبهة العفو لجواز أن يكون الموكِّل عفا والوكيل لم يعلم بعفوه، بل العفو هو الظاهر للندب الشرعي إليه بقول الله عزّوجل: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ((4) .
فإذا كان الموكِّل حاضراً يجوز للوكيل أن يستوفي؛ لأنه لاتتمكن فيه شبهة العفو (5) .
ونوقش: بأن القصاص يستوفى مع غياب الشهود مع احتمال رجوعهم (6) .
__________
(1) انظر: روضة الناظر وشرحها نزهة الخاطر 2/303 وما بعدها، وسيأتي توضيح الخلاف في حكم الاستيفاء في حال غياب الموكل في المسألة التي تلي هذه، وقد أجازه المالكية والشافعية في أصح القولين والحنابلة في قول. انظر: ص 31 من هذا البحث.
(2) المبسوط 19/9، وبدائع الصنائع 6/21، وتبيين الحقائق 4/255.
(3) الحاوي 6/517، والعزيز شرح الوجيز 5/210.
(4) من الآية 237 البقرة.
(5) المبسوط 19/9، وفتح القدير 7/467، وتبيين الحقائق 4/255.
(6) فتح القدير 7/467.(13/36)
وأُجيب: بأن الشبهة في غياب الشاهد هي الرجوع فقط أي رجوع الشاهد عن شهادته فيسقط القصاص، وليس هذا قريباً في الظاهر، ولا الغالب؛ لأن الأصل الصدق خصوصاً مع العدالة (1) .
ونوقش الدليل أيضاً: بأن احتمال العفو بعيد، والظاهر أنه لو عفا لبعث بعفوه وأعلم به وكيله، والأصل عدمه (2) .
الدليل الثاني: أن الموكِّل يحتاج إلى التوكيل لعدم معرفته بالاستيفاء، أو لأن قلبه لايحتمل ذلك، ولو منع لانسد باب الاستيفاء أصلاً، فجاز الاسيتفاء بحضرة الموكِّل استحساناً (3) .
ونوقش: بأن هذا المعنى موجود أيضاً مع غيبة الموكِّل فيلزمكم إجازته في غيبته أيضاً.
وأُجيب: بأن شبهة العفو مع غياب الموكِّل قائمة بخلاف حضوره فلاتتمكن فيه شبهة العفو (4) .
القول الثاني: يصح التوكيل باستيفاء القصاص مطلقاً، أي في حال حضور الموكِّل وغيبته، وهو قول المالكية (5) ، وأصح القولين عند الشافعية (6) وقول الحنابلة (7) .
واستدلوا بما يلي:
أولاً: أن القصاص من حقوق الآدميين فجاز التوكيل فيه مع الحضور، ومع الغيبة.
ونوقش: بأنه عقوبة تندرئ بالشبهة ففارق سائر الحقوق.
ويجاب عنه: بأن كونه يندرى بالشبهة لايمنع من صحة التوكيل ويكون الوكيل قائماً في ذلك مقام الأصل.
ثانياً: أن الحاجة تدعو إلى التوكيل؛ لأن من له حق قد لايحسن الاستيفاء، أو لايحب أن يتولاه بنفسه (8) .
ثالثاً: القياس على استيفاء القصاص مع غيبة الشهود فإن احتمال رجوعهم قائم، ومع ذلك يستوفى.
__________
(1) المرجع السابق 7/467، والعناية معه 7/469، وبدائع الصنائع 6/21.
(2) المغني 7/203.
(3) تبيين الحقائق 4/255، والهداية مع فتح القدير 7/468 وما بعدها، وبدائع الصنائع 6/21.
(4) تبيين الحقائق 4/255.
(5) الذخيرة 8/6.
(6) الحاوي للماوردي 6/517، والعزيز شرح الوجيز 5/210.
(7) المغني 7/199.
(8) المرجع السابق.(13/37)
ونوقش: بأن الظاهر في الشهود عدم الرجوع إذ الأصل الصدق لاسيما في العدول (1) .
رابعاً: القياس على الاستيفاء بحضوره.
ونوقش: بأن مع حضور الموكّل شبهة العفو منتفية إذ العفو في حضوره مِمَّا لايخفى بخلاف حال الغيبة (2) .
ويُمكن الجواب عنه: بأن العفو مع غيابه يُمكن أن يعلم كذلك.
والراجح في نظري - والله أعلم - هو القول الثاني بجواز التوكيل في استيفاء القصاص مع حضور الموكل وغيابه؛ إذ ليس للمانعين معتمد غير أن شبهة العفو قائمة في حال غياب الموكِّل، ولذلك أجازوا التوكيل مع حضوره؛ لأن شبهة العفو غير موجودة إذ يُعلم بعفوه لو حصل، لكن شبهة العفو في نظري لاتصلح مانعاً من صحة التوكيل، إذ يُمكن العلم بها في حال غيابه كما في حال حضوره، كما أنّ الأصل هو الاستيفاء، والعفو نادر، والله أعلم.
الفرع الثاني:
التوكيل بالخصومة في حقوق العباد غير القصاص:
المراد بحقوق العباد هنا: الديون والأعيان وسائر الحقوق، وهذا النوع لايخلو التوكيل بالخصومة فيه أن يكون برضا الخصم أو بغير رضاه، فإن كان برضا الخصم صح عند الحنفية (3) والمالكية (4) والشافعية (5) والحنابلة (6) .
والأصل فيه:
__________
(1) العناية مع فتح القدير 7/469.
(2) المرجع السابق.
(3) بدائع الصنائع 6/22، وفتح القدير 7/470، والعناية معه.
(4) الذخيرة 8/6، ومواهب الجليل 7/165.
(5) روضة الطالبين 4/293، ونهاية المحتاج 5/24، وحاشية الشبراملسي معه.
(6) المغني 7/199، والإقناع 2/420.(13/38)
1 - ما روي عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أن علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان لايحضر الخصومة، وكان يقول إن لهما قحماً يحضرها الشيطان، فجعل الخصومة إلى عقيل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فلما كبر ورَقَّ حولها إلي، وكان علي يقول: ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي (1) .
قال الكاساني: (ومعلوم أن سيدنا علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يكن ممن لايرضى أحد بتوكيله، فكان توكيله برضا الخصم، فدل على الجواز برضا الخصم) (2) .
وأمَّا إن كان التوكيل بغير رضا الخصم فقد اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لايجوز التوكيل من موكل حاضر إلاَّ برضا الخصم ولايجوز التوكيل بغير رضاه إلاَّ من عذر المرض والسفر مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، ونحو ذلك من الأعذار (3) ، وهذا قول الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ (4) - والرجال، والنساء، والثيب، والبكر في ذلك سواء في قول أبي حنيفة (5) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن الحق هو الدعوى الصادقة والإنكار الصادق، ودعوى المدعي خبر يحتمل الصدق والكذب، والسهو، والغلط، وكذا إنكار المدعى عليه فلايزداد الاحتمال في خبره بمعارضة خبر المدعي فلم يكن كل ذلك حقاً فكان الأصل أن لايلزم به جواب إلاَّ أن الشرع ألزم الجواب لضرورة فصل الخصومات وقطع المنازعات المؤدّية إلى الفساد وإحياء الحقوق الميتة، وحق الضرورة يصير مقتضياً بجواب الموكل فلاتلزم الخصومة عن جواب الوكيل من غير ضرورة.
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 7/470. والأثر قد سبق تخريجه هامش [48] .
(2) بدائع الصنائع 6/22.
(3) سيأتي ذكر هذه الأعذار جملة قريباً إن شاء الله.
(4) بدائع الصنائع 6/22، وأدب القاضي للخصاف وشرحه لأبي بكر الرازي 324.
(5) المبسوط 19/7.(13/39)
2 - أن الموكّل قصد بهذا التوكيل الإضرار بخصمه فيما هو مستحق عليه فلايملكه إلاَّ برضاه كالحوالة بالدين، وكالعبد المشترك يعتقه أحد الشريكين فتخير الآخر بين الإمضاء والفسخ لدفع الضرر.
ومعنى هذا الكلام: أن الحضور والجواب مستحق عليه بدليل أن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضره ليجيب خصمه، وإنَّما يحضره لإيفاء حق مستحق عليه، والناس يتفاوتون في الخصومة، فبعضهم أشد خصومة من بعض كما دل عليه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له، فمن قضيت له بحق أخيه فإنَّما هي قطعة من نار ... )) (1) .
والظاهر أن الموكل إنَّما يطلب من الوكيل ذلك الأشد الذي لايتأتى منه لو أجاب الخصم بنفسه فهو إذن إنَّما يقصد عادة من التوكيل استخراج الحيل والدعاوى الباطلة ليغلب، وإن لم يكن الحق معه كما أفاده الحديث فإذا كان الوكيل ألحن بحجته بحيث يعجز من يخاصمه عن إحياء حقه فيتضرر به الآخر فيشترط رضا الخصم ليكون لزوم الضرر بالتزامه (2) .
ونوقش: بأن الخصومة حق للموكل لو أتى به بنفسه كان مقبولاً وصحة التوكيل باعتبار ما هو حق للموكل دون ما ليس بحق له.
__________
(1) سبق تخريجه هامش [55] .
(2) المبسوط 19/7، وبدائع الصنائع 6/22، وفتح القدير 7/471.(13/40)
ورُدّ: بأن الإمام أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - بنى على العرف الظاهر هنا وقال: الناس إنَّما يقصدون بهذا التوكيل أن يشتغل الوكيل بالحيل الأباطيل ليدفع حق الخصم عن الموكّل، وأكثر ما في الباب أن يكون توكيله بما هو من خالص حقه، ولكن لما كان يتصل به ضرر بالغير من الوجه الذي ذكر قال لايملك بدون رضاه كمن استأجر دابة لركوب أو ثوباً للبس لايملك أن يؤجره من غيره مع أنه يتصرف في ملكه إذ هو يملك المنفعة، لكن يتصل بهذا التصرف ضرر بملك الغير وهي العين؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فكان لابد من رضا صاحب العين (1) .
ونوقش أيضاً: بأن قولهم إن (الحضور والجواب مستحق عليه) إنَّما يكون في جانب المدعى عليه؛ لأنه هو الذي يلزم بالحضور أمَّا المدعي فلايلزم إحضاره، ولايُلْزَم بالجواب إذ لايجبر على الخصومة بخلاف المدعى عليه فإنه يجبر على الجواب.
وأُجيب: بأن هذا يندفع بأن يقال إضافة إلى ما سبق في الاستدلال: إن توقع الضرر اللازم بالمرض والسفر من الموت وآفات التأخير أشد من الضرر اللازم بتفاوت الناس في الخصومة فيتحمل الأدنى دون الأعلى (2) .
أي أنه إنَّما لم نعتبر الرضا في حال المرض والسفر لكون الضرر الناتج عنهما أشد من الضرر الناتج عن تفاوت الناس في الخصومة، وبهذا يشمل الدليل المدعي والمدعى عليه.
3 - أن الموكل إذا كان مريضاً أو مسافراً فهو عاجز عن الدعوى وعن الجواب بنفسه فلولم يملك النقل إلى غيره بالتوكيل لضاعت الحقوق وهلكت وهذا لايجوز (3) .
وأمَّا التقييد بثلاثة أيام فلأن ما دونها في حكم الحاضر (4) .
__________
(1) المبسوط 19/7 وما بعدها.
(2) تكملة فتح القدير 8/12.
(3) بدائع الصنائع 6/22.
(4) المرجع السابق.(13/41)
والمراد بالمريض هنا: المريض الذي لايقدر على المشي على قدميه إلى مجلس القاضي مدعياً كان أو مدعى عليه، وإن قدر على الحضور على ظهر دابة أو ظهر إنسان، فإن زاد مرضه بذلك صح توكيله، وإن لم يزد فقيل هو على الخلاف.
لكن قال في البحر: والصحيح لزومه.
وفي بعض كتب الحنفية: أن المريض الذي لايمنعه المرض من الحضور كالصحيح (1) .
ثم بعد هذا اختلف فقهاء الحنفية في تفسير قول الإمام أبي حنيفة؛ لأنه مرة قال: لاتقبل، ومرة قال: لايصح، فلذلك اختلفوا هل رضا الخصم شرط لصحة الوكالة أو شرط للزومها على قولين:
الأول: أنه شرط لزوم الوكالة - أي أن الوكالة بغير رضا الخصم صحيحة لكنها لاتلزم حتى لايلزم الخصم الحضور والجواب لخصومة الوكيل إلاَّ أن يكون الموكل مريضاً مرضاً لايُمكنه الحضور بنفسه مجلس الحكم، أو غائباً مسيرة سفر فحينئذٍ يلزمه.
ولهذا قال صاحب الهداية (ولا خلاف في الجواز إنَّما الخلاف في اللزوم) (2) .
وقد سبق صاحبُ الهداية إلى هذا التعبير شمس الأئمة كما حكاه في فتح القدير فقال: (التوكيل بالخصومة عنده بغير رضا الخصم صحيح، ولكن للخصم أن يطلب الخصم أن يحضر بنفسه ويجيب) .
وقال في فتح القدير: (ونحو هذا كلام كثير مِمَّا يفيد أنه المراد مِمَّا ذكروه، وسبب ذلك أنه لما لم يعرف لأحد القول بأنه إذا وكل فعلم خصمه فرضي لايكون رضاه كافياً في توجه خصومة الوكيل ولاتسمع حتى يجدد له وكالة أخرى على ما هو مقتضى الظواهر التي ساقها علموا أن المراد بلا تجوز إلاَّ برضاه أنها لاتمضى على الآخر وتلزم عليه إلاَّ أن يرضى) (3) ، واختار ابن الهمام هذا التفسير في شرحه وصححه في الفتاوى الهندية ونقل تصحيح خزانة المفتين له (4) .
__________
(1) المرجع السابق، والفتاوى الهندية 3/615.
(2) الهداية مع فتح القدير 7/470 وما بعدها.
(3) فتح القدير 7/470.
(4) المرجع السابق، والفتاوى الهندية 3/615.(13/42)
والثاني: أنه على ظاهره من نفي الصحة (1) ، لكن هذا خلاف قول الأكثر بل البعض يحكي الاتفاق على خلافه.
تنبيه: من الأعذار التي تسقط رضا الخصم على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -: الحيض والنفاس إن كانت المدعية أو المدعى عليها امرأة، وكان القاضي يقضي في المسجد (2) ، لكن إن كانت هي المدعية قبل منها التوكيل، وإن كانت مدعى عليها فإن أخرها المدعي حتى يخرج القاضي من المسجد لم يكن لها أن توكل، وإن لم يؤخرها قبل منها التوكيل (3) .
__________
(1) المرجع السابق والعناية معه 7/470 وما بعدها.
(2) روي القضاء في المسجد عن جماعة من الصحابة والتابعين، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وروي ذلك عن شريح والحسن والشعبي، وغيرهم، وقال مالك - رَحِمَهُ اللهُ -: ((القضاء في المسجد من أمر الناس القديم)) .
... وقال بجوازه من الفقهاء الحنفية ومالك، وهو مذهب الحنابلة، وبوب البخاري - رَحِمَهُ اللهُ - في صحيحه: (باب من قضى ولاعن في المسجد) . وذكر من كان يقضي في المسجد، واستدل للجواز بفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من بعده - رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ - فقد كانوا يجلسون للقضاء في المسجد.
... وكره ذلك بعض أصحاب مالك، والشافعي - رَحِمَهُمُ اللهُ -، لأنه يحتاج إلى إحضار المجانين والصغار والحيض والكفار، وترتفع الأصوات ونحو ذلك.
... والثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه أولى، وهذه يُمكن التحرز عنها.
... انظر: بدائع الصنائع 7/13، ومواهب الجليل 8/103، ونهاية المحتاج 8/253، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 28/337، وفتح الباري 13/192 وما بعدها.
(3) الفتاوى الهندية 3/615.(13/43)
وأيضاً: المرأة المخدرة، أي: التي لم تجر عادتها بالبروز ومخالطة الرجال فلها أن توكل؛ لأنها لو حضرت لايمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها دفعاً للحرج.
قال في البحر الرائق: (وهذا شيء استحسنه المتأخرون كذا في الهداية وظاهرة أن المخدرة لا نص فيها في المذهب، ولهذا قال في فتح القدير: أمَّا على ظاهر إطلاق الأصل وغيره عن أبي حنيفة فلا فرق بين البكر والثيب والمخدرة والبرزة والفتوى على ما اختاروه من ذلك) (1) .
فهذه يلزم توكيلها؛ لأن في إلزامها بالجواب تضييع لحقها (2) .
واستثنوا أيضاً من كان محبوساً عند غير القاضي الذي تحاكما إليه كمن كان محبوساً عند الوالي ولايمكّنه الوالي من الخروج فيقبل منه التوكيل (3) .
واستثنوا أيضاً الحاضر الذي يريد السفر، إلاَّ أن القاضي لايصدقه في دعواه بإرادة السفر فينظر إلى زيه وعدة سفره ويسأله مع من يريد أن يخرج فيسأل رفقاءه عن ذلك (4) .
ووجه استثنائه: أن توكيله لولم يلزم للحقة الحرج بالانقطاع عن مصالحه.
القول الثاني: أن القاضي إذا علم من المدعي التعنت في إباء الوكيل فلايُمكنه من ذلك ويقبل التوكيل من الخصم، وإذا علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعى في التوكيل لايقبل ذلك منه إلاَّ برضا الخصم، وبهذا قال شمس الأئمة السرخسي صاحب المبسوط (5) . أي أنه كان يفتي بقول الإمام في حال وبقول الصاحبين الآتي في حال (6) .
ووجهه: أن في ذلك دفعاً للضرر من الجانبين (7) .
__________
(1) البحر الرائق 7/144، وفتح القدير 7/472، والفتاوى الهندية 3/615.
(2) فتح القدير 7/472.
(3) المرجع السابق 7/473، والبحر الرائق 7/145، والفتاوى الهندية 3/615.
(4) فتح القدير 7/471، والبحر الرائق 7/144.
(5) المبسوط 19/8.
(6) انظر: تكملة فتح القدير 8/9.
(7) المبسوط 19/8.(13/44)
القول الثالث: يصح التوكيل من الحاضر من غير رضا الخصم ويلزم، وهذا قول الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وأبي يوسف، ومحمد من الحنفية، وبه كان يفتي الفقيه أبو الليث (4) ، وأبو القاسم الصفار (5) (6) .
واستدلوا بما يلي:
__________
(1) مواهب الجليل 7/165، ومنح الجليل 6/359.
(2) العزيز شرح الوجيز 5/209، ومغني المحتاج 2/220.
(3) المغني 7/199، والإقناع 2/420.
(4) هو: نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الليث، الفقيه السمرقندي المشهور بإمام الهدى، أخذ الفقه عن أبي جعفر الهندواني عن أبي القاسم الصفار عن نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف، وله تفسير القرآن، والنوازل والعيون، والفتاوى، وخزانة الفقه وغير ذلك، توفي سنة 373 هـ، وقيل: 393 هـ، وقيل: 375 هـ انظر: الفوائد البهية 220.
(5) هو: أبو القاسم الصفار أحمد بن عصمة، أخذ عن نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف، وكان إماماً كبيراً، توفي سنة 336 هـ، وقيل: 326 هـ. انظر: الفوائد البهية ص 26.
(6) بدائع الصنائع 6/22، وتكملة فتح القدير 8/9.(13/45)
1 - ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سمع دعوى حويصة (1) ومحيصة (2) على يهود خيبر أنهم قتلوا عبد الله بن سهل، وذلك نيابة عن عبد الرحمن بن سهل (3) ، ووليه حاضر فما أنكر دعواهم له مع حضوره فلو كانت وكالة الحاضر غير جائزة لأنكرها حتى يبتدئ الولي بها ألا ترى أنه أنكر على محيصة حين ابتدأ بالكلام قبل حويصة وقال له: ((كبر كبر)) ، وليس تقديم الأكبر بواجب وإنَّما هو أدب فكيف يكف عن إنكار ما هو واجب (4) .
ويُمكن أن يناقش: بأنه يحتمل أن سماعه من غير الولي لكون الولي لم يكن متأهلاً للدعوى فأقام الحاكم قريبه مقامه في الدعوى وإمَّا لغير ذلك (5) .
__________
(1) هو: حويصة بن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة الأنصاري، شهد أُحُداً والخندق وسائر المشاهد، يقال: أنه أسنّ من أخيه محيصة. الإصابة 2/143، والاستيعاب 1/409.
(2) هو: محيصة بن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة الأنصاري، يكنى أبا سعد، بعثه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهدفدك يدعوهم إلى الإسلام وشهد أُحُداً والخندق وما بعدها من المشاهد. الاستيعاب 4/1463.
(3) الحديث رواه البخاري مختصراً في صحيحه، كتاب الديات، باب القسامة 8/42، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة حديث [1669] 2/1291.
(4) الحاوي 6/503.
(5) فتح الباري 12/296 وما بعدها.(13/46)
وقال النووي في شرح مسلم: (واعلم أن حقيقة الدعوى إنَّما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنَّما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتكلم الأكبر وهو حويصة؛ لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وكيف جرت فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها ويحتمل أن عبد الرحمن وكَّل حويصة في الدعوى ومساعدته أو أمر بتوكيله) (1) .
إذن لايصلح دليلاً على أن رضا الخصم غير معتبر في الوكالة؛ لأن ما في الحديث يحتمل الوكالة ويحتمل غيرها ومع الاحتمال لايصح الاستدلال، والله أعلم.
2 - إجماع الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فإن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وقال: ما قضي له فلي، وما قضي عليه فعلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال: إن للخصومة قُحَماً، وإن الشيطان ليحضرها ... ) قال في المغني: ومثل هذه القصص انتشرت لأنها في مظنة الانتشار فلم ينقل إنكارها (2) .
وفي الحاوي: أن علياً كان حاضراً فكان ذلك منهم إجماعاً على وكالة الحاضر (3) .
أقول أيضاً لم ينقل أنّ علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - طلب موافقة أو رضا خصمه بالتوكيل فدل على أن الوكالة من الحاضر لايعتبر لها رضا الخصم.
ويُمكن أن يناقش بما ذكره في البدائع أن علياً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يكن ممن لايرضى أحد بتوكيله (4) .
ويجاب عنه: بأن رضا الخصم لو كان شرطاً لطلبه علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ولقال خصمه: لم يكن التوكيل برضاي إذ الحالة حالة خصومة ومنازعة، والله أعلم.
3 - أن التوكيل بالخصومة صادف حق الموكّل فلايقف على رضا الخصم كالتوكيل في استيفاء الدين.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 11/146، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ 4/208.
(2) المغني 7/200، والخبر تقدم هامش [48] ، والقحم: المهالك.
(3) الحاوي 6/503.
(4) بدائع الصنائع 6/22.(13/47)
والدليل على أنه صادف حقهما أن الدعوى حق المدعي والإنكار حق المدعى عليه فقد صادف التوكيل من المدعي والمدعى عليه حق نفسيهما فلايقف على رضا خصمه كما لو كان خاصمه بنفسه (1) .
ونوقش: بعدم التسليم أنه تصرف في خالص حقه، ذلك أن الجواب مستحق على الخصم، ولهذا يستحضره في مجلس القاضي والمستحق للغير لايكون خالصاً له.
ولو سلم خلوصه له لكن تصرف الإنسان في خالص حقه إنَّما يصح إذا لم يتضرر به غيره، وههنا ليس كذلك؛ لأن الناس يتفاوتون في الخصومة فعلى القول بلزوم الوكالة من غير رضاه يتضرر بالتوكيل فتوقف على رضاه (2) .
4 - أن الخصومة حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه كحال غيبته ومرضه، وكدفع المال الذي عليه (3) .
تنبيه:
فقهاء المالكية لم يعتبروا رضا الخصم إذا وكل في ابتداء الدعوى، أمَّا إذا خاصم الرجل عن نفسه، وقعد مع خصمه ثلاثة مجالس اتفاقاً أو اثنين على المشهور فليس له بعد ذلك أن يوكل إلاَّ برضا خصمه إلاَّ أن يكون له عذر من مرض أو سفر ويُعْرَفُ ذلك، ولايمنع من السفر إذا أراده لكن يحلف أنه لم يسافر من أجل أن يوكل، قاله ابن العطار (4) ، وقال ابن الفخار (5) : لايحلف.
__________
(1) بدائع الصنائع 6/22، وتكملة فتح القدير 8/11، والعزيز شرح الوجيز 5/209.
(2) تكملة فتح القدير 8/11 وما بعدها.
(3) المغني 7/199.
(4) هو: أبو عبد الله، محمد بن أحمد، المعروف بابن العطار، الأندلسي، فقيه مالكي، توفي في ذي الحجة عام 399 هـ، وكانت ولادته سنة 330 هـ. انظر: شجرة النور 101.
(5) هو: أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن خلف، الأنصاري، المالقي، يعرف بابن الفخار العالم النظار الفقيه المالكي، توفي سنة 590 هـ. انظر: شجرة النور 159.(13/48)
ومن العذر كذلك أن يشاتمه خصمه ويحرجه فيحلف أن لايخاصمه بنفسه، فإن حلف لايخاصمه من غير عذر لم يكن له أن يوكل إلاَّ برضا خصمه (1) .
وقال ابن عبد البر: ((وإذا شرع المتخاصمان في المناظرة بين يدي الحاكم لم يكن لأحدهما أن يوكل؛ لأن ذلك عند مالك ضرب من اللدد إلاَّ أن يخاف من خصمه استطالة بسبب أو نحوه)) (2) .
فيحتمل أن يكون ما ذكره ابن عبد البر قولاً آخر أنه يمنع من حين الشروع، ويحتمل أن ما ذكروه تفسيراً له فلايكون خلافاً.
وعلى أي حال فالمعتمد في المذهب ما ذكروه.
ووجهه: أن في التوكيل حينئذٍ إعنات وشر ولايجوز إدخال الإعنات والشر على المسلمين.
وتوضيح ذلك: أنّ من شأن انعقاد الثلاثة المجالس بينهما أن يظهر الحق فالتوكيل حينئذٍ يوجب تجديد المنازعة وكثرة الشر (3) .
ولم يفرق غيرهم بين التوكيل في ابتداء الدعوى أو بعد مجالسة الخصم مجلسين أو ثلاثة؛ لأن الحاجة كما تدعو إلى التوكيل في ابتداء الدعوى تدعوا إلى التوكيل في أثنائها.
والراجح في نظري هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم اعتبار رضا الخصم لجواز وكالة الحاضر ولزومها، وذلك لأن الدعوى والجواب عنها حق للمدعي والمدعى عليه فلكل منهما أن يباشر هذا الحق بنفسه، وله أن يقيم غيره مقامه كسائر حقوقه التي تدخلها النيابة وسواء كان ذلك في ابتداء الدعوى أو في أثنائها إذ قد يحتاج إلى ذلك، والضرر المتحقق يمنع منه.
المطلب الثالث: التوكيل من جانب المدّعى عليه
بعد أن عرفنا في المطالب السابقة حكم التوكيل من جانب المدعي بقي أن نتكلم عن التوكيل من جانب المدعى عليه.
__________
(1) انظر: البهجة 1/339، وحلي المعاصم معه، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3/378، والشرح الصغير وبلغة السالك عليه 2/183.
(2) الكافي لابن عبد البر 394.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3/378، والشرح الصغير بهامش بلغة المسالك 2/183.(13/49)
وقد أجاز الجمهور من الفقهاء للمدعى عليه ولو كان بما يوجب حداً أو قصاصاً أن يوكل، وهذا قول الحنفية حتى قالوا: إن كلام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - في هذا أظهر (1) ، وبه قال المالكية (2) في القول المشهور والشافعية (3) والحنابلة (4) .
ووجه هذا القول: أن الحاجة تدعو إلى التوكيل من جانب المدعى عليه كالمدعي.
وخالف في هذا سحنون (5) من المالكية فكان لايقبل من المدعى عليه وكيلاً إلاَّ أن يكون امرأة لايخرج مثلها، أو مريداً سفراً، أو مريضاً، أو كان في شغل الأمير، أو على خطة لايستطيع مفارقتها ونحو ذلك من الأعذار.
__________
(1) تبيين الحقائق 4/256، والمبسوط 19/106، وفتح القدير 7/469.
(2) التاج والإكليل مع مواهب الجليل 7/165، والبهجة 1/324، وحلي المعاصم معه، والخلاف عند المالكية إنَّما هو في التوكيل بعد حضورهما للقاضي أمَّا قبله فلا خلاف في جوازه لهما. انظر: مواهب الجليل 7/168.
(3) مغني المحتاج 2/220، حيث جاء في المنهاج قوله: (ويصح في طرفي بيع ... والدعوى والجواب عنها) . وانظر: روضة الطالبين 4/293.
(4) انظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/448 وما بعدها، وكشاف القناع 3/464.
(5) هو: أبو سعيد، عبد السلام، سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، فقيه حافظ عابد ورع، أخذ عن أئمة من أهل المشرق، وأخذ عنه أئمة منهم ابنه محمد، انتهت إليه الرياسة في العلم، ومدونته عليها الاعتماد في مذهب الإمام مالك، توفي سنة 240 هـ وكانت ولادته سنة 160 هـ. انظر: شجرة النور 69 وما بعدها.(13/50)
جاء في التبصرة قوله، قال ابن سهل (1) وغيره: والذي جرى به العمل أن التوكيل جائز لمن شاء من طالب أو مطلوب، وكان سحنون لايبيح للمطلوب أن يوكل إلاَّ لعذر كمرض، أو امرأة محجوبة أو رجل واقف في باب الحاكم، كالحجاب ونحوه، ويرى أن ذلك من باب الضرورة، وأمَّا من سائر الجبابرة فلا (2) .
والراجح والله أعلم هو جوازه منهما معاً للحاجة إلى ذلك.
المبحث الثاني: ثبوت الوكالة
لا نزاع بين الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في اشتراط ثبوت الوكالة بالخصومة في الجملة، فمن ادّعى أنه وكيل فلان فلابد من إثبات الوكالة (3) .
ثم بعد ذلك اختلفوا في مسائل:
الأولى: في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي.
الثانية: إثبات وكالة الغائب.
الثالثة: اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق.
الرابعة: وسائل إثبات الوكالة.
وسوف يكون الكلام على هذه المسائل في أربعة مطالب:
المطلب الأول: في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي (وكالة الحاضر) .
وفيه فرعان:
الفرع الأول: حكم إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي.
اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي على قولين:
__________
(1) هو: القاضي عيسى بن سهل الأسدي القرطبي، له كتاب ((الأعلام بنوازل الأحكام)) ، توفي سنة 486 هـ، وكانت ولادته سنة 413 هـ. انظر: شجرة النور 122.
(2) تبصرة الحكام 1/134، والبهجة 1/324.
(3) انظر: تكملة حاشية ردّ المحتار 11/379، 490، ومواهب الجليل 7/162، وروضة الطالبين 4/322، ونهاية المحتاج 5/25، والمغني لابن قدامة 7/225، 255، 260.(13/51)
القول الأول: لايلزم إحضار شاهدين، وهذا قول الحنفية (1) ، وقول عند الشافعية مبني على القول بجواز قضاء القاضي بعلمه هكذا خرجه ابن القاص (2) على مذهب الشافعية (3) .
القول الثاني: يلزم إحضار شاهدين، وهو قول آخر عند الشافعية مخرج على القول بعدم جواز قضاء القاضي بعلم نفسه (4) ، وهو المفهوم من كلام الإقناع، وهو مبني أيضاً على مسألة عدم جواز قضاء القاضي بعلمه كما هو ظاهر المذهب.
ففي الإقناع قوله: وإذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكله ولم يسمعه شاهدان مع الحاكم ثم غاب الموكِّل وحضر الوكيل فقدم خصماً لموكِّله وقال: أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيلاً لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته؛ لأن الحاكم لايحكم بعلمه) (5) .
وبناه على القولين في حكم قضاء القاضي بعلمه أيضاً صاحب المغني (6) .
الفرع الثاني: إثبات وكالة الحاضر:
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إثبات الحاضر وكالته عند القاضي وهو يعرفه:
إذا حضر عند القاضي رجلٌ يعرفه وأراد أن يثبت وكالته عند القاضي، فإن القاضي يسمع منه ذلك ويثبت وكالته وإن لم يكن معه خصم إذا عرف الموكِّل، وبهذا قال الإمامان أبو حنيفة (7) والشافعي (8) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3/569.
(2) هو: أبو العباس، أحمد بن أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، وقيل: أحمد بن أبي أحمد، فقيه شافعي، له مصنفات منها أدب القاضي، توفي سنة 335 هـ، وقيل: 336 هـ. انظر: طبقات الشافعية لابن هداية الله 65، وطبقات الشافعية الكبرى 2/103، ووفيات الأعيان 1/68.
(3) أدب القاضي لابن القاص 1/207.
(4) المرجع السابق.
(5) الإقناع 2/443.
(6) المغني 7/260.
(7) أدب القاضي للخصاف بشرح أبي بكر الرازي 326.
(8) أدب القاضي لابن القاص 1/207، والحاوي 6/509.(13/52)
ووجهه: أن هذا ليس فيه أكثر من إقامة الموكّل الوكيل مقام نفسه وللموكل أن يفعل ذلك (1) .
وفي هذه الحالة إذا غاب الموكِّل فللقاضي أن يسمع من الوكيل الدعوى ولا حاجة إلى إقامة البينة على الوكالة (2) ؛ لأن الوكالة هنا ثبتت بإقراره.
والذي يفهم من كلام المالكية في قضية إقرار الخصم في مجلس الحكم أنه لابد من إقامة شاهدين على إقراره (3) ، فيمكن أن يتخرج في مسألتنا كذلك مثل ذلك، إذ المعنى فيهما واحد هذا مع قولهم بأن القاضي لايقضي بعلمه إلاَّ في التعديل والجرح (4) .
وكذلك يفهم من قول الحنابلة أن القاضي لايقضي بعلمه أنه لابد من الإشهاد (5) على وكالته، والله أعلم.
والذي يظهر لي أنه لابد من الإشهاد على وكالته لما يأتي بعد هذا من الأدلة الدالة على أن القاضي لايقضي بعلمه؛ ولأنه رُبَّمَا أنكر الوكالة حين يرى أن الحق قد لزمه، فيحتاج إلى إثبات وكالته ولايتم ذلك إلاَّ بإقامة البينة، والله أعلم.
المسألة الثانية: إثبات الحاضر وكالته عند القاضي والقاضي لايعرفه:
إذا حضر عند القاضي رجل وأراد أن يوكل رجلاً ويثبت عنده وكالته والقاضي لايعرفه فقد اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - على قولين:
القول الأول: أن القاضي إذا لم يعرف الموكِّل اسماً ونسباً فلايحكم بوكالته، وهذا قول الإمام أبي حنيفة (6) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.
(3) انظر: الخرشي 7/531، ومواهب الجليل 8/146.
(4) الخرشي 7/530، ومواهب الجليل 8/138.
(5) انظر: المغني 14/31.
(6) أدب القاضي للخصاف 327.(13/53)
ووجهه: أن القاضي إذا لم يعرف اسم الموكِّل ونسبه فيمكن أن يأتي شخص ويتسمى باسم صاحب الحق ونسبه ويوكّل عند القاضي فإذا غاب الموكِّل المسمى باسم غيره حضر الوكيل وأخذ الحق لمن تسمى باسم صاحب الحق، وهذا تزوير يفضي إلى إبطال حقوق الناس، وهذا التزوير، وهذه الحيلة لايقدر عليها إذا كان القاضي يعرف الموكّل اسماً ونسباً (1) .
القول الثاني: أن القاضي يسمع ذلك ويثبت توكيله، وبه قال ابن أبي ليلى (2) .
وبنى فقهاء الحنابلة المسألة على حكم القاضي بعلمه فعلى القول بأنه يحكم بعلمه، وكان يعرف الموكل باسمه وعينه ونسبه صدقه ومكنه من التصرف؛ لأن معرفته كالبينة ومفهومه أنه لو لم يكن يعرف ذلك لم يصدقه، ولذلك قال في المغني، وإن عرفه بعينه دون اسمه ونسبه لم يقبل قوله حتى تقوم البينة بالوكالة؛ لأنه يريد تثبيت نسبه عنده بقوله فلم يقبل) (3) اهـ.
فيكون الحنابلة في هذا موافقين لقول الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -.
وعلى القول بأنه لايقضي بعلمه لايسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته (4) ، فيكون هذا قولاً ثالثاً في المسألة.
وظاهر المذهب أن القاضي لايقضي بعلمه في حد ولا غيره، ولا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها (5) ، فيكون المعتمد في المذهب على هذا هو القول الثاني أنه لايسمع دعواه حتى تقوم البينة بالوكالة.
والدليل على أنه لايقضي بعلمه ما يلي:
__________
(1) انظر: المرجع السابق.
(2) أدب القاضي لابن القاص 1/207، والحاوي 6/509.
... وابن أبي ليلى هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بن بلال الأنصاري الكوفي، ولد سنة 74 هـ، وكان فقيهاً مجتهداً بالرأي، توفي سنة 148 هـ. انظر: وفيات الأعيان 4/179، والفتح المبين 1/99.
(3) المغني 7/260.
(4) المرجع السابق.
(5) المغني 14/31.(13/54)
1 - قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنَّما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) (1) .
ووجه الاستدلال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر أنه لايقضي إلاَّ بما يسمع لا بما يعلم.
2 - قوله - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم - في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلاَّ ذلك)) (2) .
ووجه الاستدلال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم بعلمه، وإنَّما جعل الحكم مبنياً على أسبابه الظاهرة من الشاهدين أو يمين المدعى عليه.
3 - ما روت عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل على فريضة، فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأعطاهم الأرش، ثم قال: ((إني خاطب الناس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم)) ؟ قالوا: نعم، فصعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فخطب، وذكر القصة، وقال: ((أرضيتم؟)) قالوا: لا. فهمّ بهم المهاجرون، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأعطاهم، ثم صعد فخطب الناس ثم قال: أرضيتم؟ قالوا: نعم)) (3) .
ووجه الاستدلال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأخذ بعلمه في هذه القصة.
__________
(1) تقدم هامش [55] .
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 1/123 وما بعدها.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب: العاقل يصاب على يديه خطأ 4/672 حديث [534] ، والنسائي في كتاب القسامة باب: السلطان يصاب على يده 8/35، وابن ماجة في كتاب الديات، باب: الجارح يفتدي بالقود 2/881 حديث [2638] .(13/55)
4 - روى عن أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: لو رأيت حدّاً على رجل لم أحُدّه حتى تقوم البينة (1) .
5 - ولأن تجويز القضاء بعلم القاضي يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه (2) .
والراجح في نظري أنه لابد من إقامة البينة على الوكالة، وأن يشهد الشهود أن الموكل فلان ابن فلان يذكرون اسمه ونسبه للمعنى الذي ذكره الإمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - من أنه يُمكن أن يتسمى شخص باسم صاحب الحق ويوكل في المطالبة به، وهو في الحقيقة ليس المستحق وإنَّما من باب التزوير فيفضي ذلك إلى أخذ حقوق الآخرين بهذه الطريقة لاسيما مع فساد الزمان ووجود من لايتورع عن التزوير وأخذ حقوق الآخرين، والله أعلم.
المطلب الثاني: إثبات وكالة الغائب
وصورة ذلك: أن يدعي رجل أن رجلاً وكله ليطالب بحقه وحضر عند القاضي وجاء بالبينة على الوكالة والموكِّل غائب، فإن كان الخصم حاضراً فلا نزاع بينهم أن بينة الوكيل بالوكالة تسمع ويحكم بإثبات وكالته.
وإن كان الخصم غائباً فقد اختلف العلماء - رَحِمَهُمُ اللهُ - هل يشترط حضور الخصم في إثبات الوكالة بالخصومة أم لا؟ ، على قولين:
القول الأول: أنه لايقبل من الوكيل شهادة على الوكالة إلاَّ ومعه خصم حاضر، وهذا قول الحنفية (3) ، وهو قول عند الشافعية، قال به القاضي حسين (4)
__________
(1) نقل الشوكاني في نيل الأوطار 5/573 عن ابن حجر قوله: رواه ابن شهاب عن زيد بن الصامت أن أبا بكر ... فذكره، وصحح إسناده.
(2) انظر: الأدلة في المغني 14/32 وما بعدها.
(3) المبسوط 19/10، والبحر الرائق 7/146، وتكملة حاشية رد المحتار 11/379، وأدب القضاء للخصاف وشرحه للرازي 325.
(4) العزيز شرح الوجيز 13/203.
... والقاضي حسين هو: أبو علي بن محمد بن أحمد المروروذي، من كبار أصحاب القفال، وكان إماماً بارعاً، لقب بحبر الأئمة، توفي رحمه الله في الثالث والعشرين من المحرم سنة 462 هـ. انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي 234، وسير أعلام النبلاء 18/260 وما بعدها.(13/56)
ووجهه: أن الدعوى والإنكار شرط قبول البينة فكما أن انعدام الدعوى يمنع قبول البينة فكذلك انعدام الإنكار، ولايتحقق ذلك - أي الإنكار - إلاَّ من خصم حاضر أشبه القضاء على الغائب (1) .
ونوقش: بعدم التسليم بأنه قضاء على غائب، ذلك أن الوكالة حق للموكل وعليه، وليس للخصم فيها حق ولا عليه فيها حق، بدليل أنه لايثبت له بحضور الوكالة حق، ولايثبت عليه حق (2) .
ورُدَّ: بأن البينة إنَّما سميت بذلك لكونها مبنية في حق المنكر، وذلك لايتحقق إلاَّ بمحضر من الخصم (3) ، ومع هذا فقد قال الحنفية: إذا قبل القاضي البينة بغير خصم حاضر، وقضى بها جاز قضاؤه؛ لأنه قضى في فصل مختلف فيه فيكون القاضي قد أمضى فصلاً مجتهداً فيه باجتهاده فلهذا لايفسد قضاؤه (4) .
القول الثاني: أن البينة على الوكالة في الخصومة تقبل من غير حضور الخصم، وبهذا قال المالكية (5) ، والأصح عند الشافعية (6) ، والحنابلة (7) ، وابن أبي ليلى (8) .
واستدلوا بما يلي:
1 - خبر علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فقد وكل عقيلاً وعبد الله بن جعفر ولم يكن عند توكيله إياهما خصم، وهذه حالة مشهورة في الصحابة وكل أقر عليها ولم يخالف فيها (9) .
2 - أنه موكّل في حق نفسه فلم يعتبر حضور الخصم كالوكالة في استخراج الديون.
3 - ولأنه توكيل فوجب أن يتم بالموكل والوكيل كالتوكيل في العقود.
4 - ولأن ما تنعقد به الوكالة في العقود تنعقد به في مطالبة الخصوم كوكالة المريض والمسافر.
5 - ولأنه توكيل لم يشترط فيه رضا الخصم فلايشترط فيه حضوره، وأصله إذا أقر بالوكالة أو وكل عند حاكم.
__________
(1) المبسوط 19/11.
(2) الحاوي 6/508.
(3) المبسوط 19/11.
(4) المبسوط 19/11.
(5) مواهب الجليل 7/165.
(6) الحاوي 6/58، والعزيز 13/203.
(7) المغني 7/258، والفروع 4/349.
(8) المبسوط 19/11.
(9) الحاوي 6/508.(13/57)
6 - ولأنه مستعان به في الخصومة فلم يشترط فيه حضور الخصم كإشهاد الشهود (1) .
7 - ولأنه لايعتبر رضا الخصم في سماع البينة فلايعتبر حضوره كغيره (2) .
والقول الثاني في نظري هو الراجح إن شاء الله؛ لأن ما استدلوا به من الأقيسة صحيح وليس هناك ما يدفعه، وأمَّا استدلال الحنفية فمع أنهم أجابوا عن الاعتراض الوارد على حجتهم لكن يبقى قضية الحكم على الغائب لو سلم الدليل فهو محل نزاع، ولايصح القياس على أمر مختلف فيه، والله أعلم.
المطلب الثالث: اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق
اختلف العلماء - رَحِمَهُمُ اللهُ - هل يشترط لسماع الدعوى بالحق من الوكيل ثبوت الوكالة أو لا؟ أم يُمكن أن تسمع بينة الوكالة وبينة الحق معاً على قولين:
القول الأول: لاتسمع دعوى الحق من الوكيل قبل أن يثبت الوكالة وهو القياس عند الحنفية، وبه قال زفر، وخرجه البعض على قول الإمام أبي حنيفة (3) .
قال الخصاف (4) في أدب القاضي: (على قول أبي حنيفة لايقبل حتى تثبت الوكالة أولاً) .
وقال أيضاً: وهذا أقيس على أصولهم؛ لأن ههنا خصومتين أحدهما: إثبات الوكالة، والثانية: إثبات المال والخصومة، وإثبات المال مرتب على الوكالة.
وبهذا أيضاً قال المالكية (5) والحنابلة (6) .
ووجهه:
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المغني 7/258.
(3) أدب القاضي للخصاف 336 وما بعدها بشرح أبي بكر الرازي، وروضة القصاة 654 وما بعدها، 296.
(4) هو: أحمد بن عمر بن مهير الخصاف، أخذ عن أبيه عمر بن مهير عن الحسن عن أبي حنيفة، كان فرضياً حاسباً عارفاً بمذهب أبي حنيفة، له مصنفات منها: أدب القاضي، وكتاب الحيل، وكتاب الشروط، وغير ذلك، توفي سنة 261 هـ، وقد قارب الثمانين. انظر: الفوائد البهية 29.
(5) انظر: مواهب الجليل 7/162.
(6) المغني لابن قدامة 7/260.(13/58)
1 - أنه ما لم تقم البينة على كونه خصماً لاتقبل بينته على إثبات المال كما لاتقبل بينة ممن ليس بخصم على إثبات شيء للمعين (1) .
2 - أن الدعوى لاتسمع إلاَّ من خصم يخاصم عن نفسه أو عن موكله، وهذا - الذي لم تثبت وكالته - لايخاصم عن نفسه، ولم يثبت كونه وكيلاً لمن يدعي له، فلاتسمع دعواه كما لو ادّعى لمن لم يدّع وكالته (2) .
3 - القياس على من اشترى معيباً وأراد ردّه بذلك العيب فإن خصومته في الرد لاتقبل حتى يثبت العيب (3) .
القول الثاني: أن الشهادة تقبل على الأمرين جميعاً أي تسمع بينة الوكالة وتسمع الشهادة على الحق ويقضى به وينفذ الجميع، وهذا قول أبي يوسف (4) استحساناً.
وقاله ابن سريج (5) تخريجاً على مذهب الشافعي (6) .
والقول الأول هو الراجح في نظري؛ لأن جواز المخاصمة عن الغير فرع عن ثبوت الوكالة فما لم تثبت الوكالة فليس له الحق أن يخاصم عن غيره، والله أعلم.
المطلب الرابع: وسائل إثبات الوكالة
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إثبات الوكالة بالبينة:
بعد أن عرفنا أنه لابد من إثبات الوكالة فطريق ثبوتها محل نزاع بين أهل العلم، وفيما يلي تفصيل أقوالهم في هذه المسألة:
__________
(1) أدب القاضي 336 وما بعدها.
(2) المغني 7/261.
(3) أدب القاضي للخصاف 337.
(4) روضة القضاة للسمناني 654 وما بعدها، وأدب القاضي للخصاف وشرحه لأبي بكر الرازي 336 وما بعدها.
(5) هو: أبو العباس، أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعي، ولد سنة 249 هـ، وتوفي سنة 306 هـ، له في الفقه: التقريب بين المزني والشافعي، وله غيره بلغت مصنفاته أربعمائة مصنف. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/87، ووفيات الأعيان 1/66.
(6) أدب القاضي لابن القاص 1/209.(13/59)
القول الأول: أنها تثبت بشاهد وامرأتين، أو شاهد ويمين إذا كانت الوكالة في مال، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللهُ - فإنه قال في الرجل يوكِّل وكيلاً، ويشهد على نفسه رجلاً وامرأتين: إذا كانت المطالبة بدين، فأمَّا غير ذلك فلا (1)
ووجهه: أن الوكالة في المال يقصد بها المال فتقبل شهادة النساء مع الرجال كالبيع والقرض وكالحوالة (2) .
القول الثاني: أنها لاتثبت إلاَّ بشاهدين ذكرين عدلين، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد نقلها الخرقي (3) ، وقال في المغني: الثاني: (ما ليس بعقوبة كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتاق، والإيلاء، والظهار، والنسب، والتوكيل، والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا، فقال القاضي المعول عليه في المذهب أن هذا لايثبت إلاَّ بشاهدين ذكرين، ولاتقبل فيها شهادة النساء بحال) (4) .
وبهذا قال الشافعي أيضاً (5) .
واستدلوا بما يلي:
__________
(1) المغني 7/255، 14/127، الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/570.
(2) المرجع السابق.
(3) المغني 7/255، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/570.
... والخرقي هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم، الخرقي، فقيه حنبلي، له مصنفات كثيرة لم ينشر منها إلاَّ المختصر في الفقه بسبب احتراق كتبه، توفي سنة 334 هـ. انظر: طبقات الحنابلة 1/75، والمقصد الأرشد 2/298.
(4) المغني 14/127.
(5) الحاوي 17/8، ونهاية المحتاج 8/312، والعزيز شرح الوجيز 13/48.(13/60)
1 - أن الله تعالى نص في الشهادة فيما سوى الأموال على الرجال دون النساء في ثلاثة مواضع في الطلاق والرجعة والوصية، فقال تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنكُمْ ((1) ، وقال في الوصية: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ ((2) فنص على شهادة الرجال فلم يجز أن يقبل فيه شهادة النساء كالزنا.
2 - روى مالك عن عقيل عن ابن شهاب قال: مضت السنة من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لايجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق (3) .
قال في الحاوي: وهذا وإن كان مرسلاً فهو لازم لهم؛ لأن المراسيل حجة عندهم - يعني أبا حنيفة وأصحابه -.
3 - أن ما لايقصد منه المال إذا لم يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد لايقبلن فيه مع الرجال كالقصاص (4) .
واعترض بأن الوكالة يتعلق بها المال، فلماذا لايجوز إثباتها بشاهد وامرأتين.
وأُجيب: بأنه ليس في عقد الوكالة مال وإن أريد بها التصرف في المال، وإنَّما هي تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره ثم إن الحقوق على ضربين حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، فلما وقع الفرق في حقوق الله بين أعلاها وأدناها في العدد فأعلاها الزنا وأدناها الخمر، وجب أن يقع الفرق في حقوق الآدميين بين أعلاها وأدناها في الجنس فأعلاها حقوق الأبدان وأدناها حقوق الأموال (5) .
4 - أن الوكالة إثبات التصرف (6) .
__________
(1) سورة الطلاق: الآية 2.
(2) المائدة: 106.
(3) رواه أبو يوسف في الخراج 164 عن الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف.
(4) الحاوي للماوردي 17/9.
(5) المرجع السابق 17/9.
(6) المغني 7/257، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/570، ونهاية المحتاج 8/312.(13/61)
5 - أن الوكالة في نفسها ولاية وسلطنة ومن ادّعاها فإنَّما يدعي ويثبت قولاً للغير لا مال (1) .
وعلى هذا فلايقبل شهادة رجل ويمين المدعي؛ لأنه إذا لم تثبت بشهادة رجل وامرأتين فلئلا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى، وعلى الأول يقبل فيه شهادة رجل ويمين المدعي، وهما روايتان مخرجتان (2) .
القول الثالث: أن الوكالة تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتان سواء كان الحق مالاً أو غير مال، وهذا قول الحنفية (3) .
واستدلوا بما يلي:
1 - قوله تعالى في باب المداينات: (فَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضُونَ مِنَ الشُّهَدَاء ((4) .
ووجه الاستدلال: أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - جعل لرجل وامرأتين شهادة على الإطلاق؛ لأنه سبحانه وتعالى جعلهم من الشهداء، والشاهد المطلق من له شهادة على الإطلاق، فاقتضى أن يكون لهم شهادة في سائر الأحكام إلاَّ ما قيد بدليل (5) .
ونوقش: بأن الآية نص في الأموال فلايصح استعمال العموم فيها (6) .
2 - ولأن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أجاز شهادة النساء مع الرجال في النكاح والفرقة ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد من الصحابة فيكون إجماعاً (7) .
ويقاس على ذلك سائر الحقوق.
__________
(1) العزيز 13/48.
(2) المغني 14/128.
(3) تبيين الحقائق 4/209، وبدائع الصنائع 6/279، والهداية وشرحها فتح القدير 7/344.
(4) من الآية 282 من سورة البقرة.
(5) بدائع الصنائع 6/280.
(6) الحاوي 17/9.
(7) بدائع الصنائع 6/280، والأثر عن عمر رواه عبد الرزاق في المصنف، قال أخبرني الأسلمي قال: أخبرني الحجاج بن أرطاه عن عطاء بن أبي رباح أن عمر بن الخطاب أجاز شهادة رجل واحد مع نساء في نكاح. 8/331، وحجاج ضعيف كما في التمهيد لابن عبد البر 15/225، 21/59.(13/62)
ويُمكن أن يناقش بأنه قد روى أيضاً عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه لاتجوز شهادة النساء في الطلاق والنكاح والحدود والدماء (1) .
3 - ولأن شهادة رجل وامرأتين في إظهار المشهود به مثل شهادة رجلين؛ لرجحان جانب الصدق فيها على جانب الكذب بالعدالة، إلاَّ أنها لم تجعل حجة فيما يدرأ بالشبهات لنوع قصور وشبهة فيها بخلاف الشهادة على الوكالة ونحوها من الحقوق فهي تثبت بدليل فيه شبهة كالأموال (2) .
ويُمكن مناقشته بأن الأولى قياس الوكالة على سائر الحقوق التي يطلع عليها الرجال وليست بمال.
القول الرابع: إن كانت الوكالة بغير المال فلاتثبت إلاَّ بشاهدي عدل، وهذا قول المالكية، وهذا موضع اتفاق بينهم (3) ، واختلفوا إن كانت الوكالة بطلب مال في وسيلة إثباتها، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يجوز فيها شاهد وامرأتان وشهرة ابن الحاجب، وقال أشهب وعبد الملك: لايقبل فيها إلاَّ رجلان (4) .
ودليل الأول: أنها شهادة على مقصود به المال كالشهادة على البيع والإجارة.
ووجه الثاني: أن الشاهد واليمين لايقبل فيهما فكذلك الرجل والمرأتان؛ لأن أحدهما لايقبل إلاَّ حيث يقبل الآخر (5) .
أمَّا الشاهد واليمين فحكى ابن رشد (6) الاتفاق على أنه لايجوز في إثبات الوكالة.
__________
(1) المصنف لعبد الرزاق 8/330.
(2) المرجع السابق.
(3) الخرشي 8/51.
(4) المعونة 3/1545، والمنتقى للباجي 5/212، وتبصرة الحكام 1/227 وما بعدها، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 8/210.
(5) المعونة 3/1549.
(6) هو: القاضي، أبو الوليد، محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، الإمام العالم، له مصنفات منها: البيان والتحصيل، والمقدمات، ولد سنة 455 هـ، وتوفي سنة 520 هـ. انظر: شجرة النور 129.(13/63)
لكن ذكر الحطاب (1) أن فيها خلافاً نقله اللخمي (2) والمازري (3) .
والمشهور أنه لايقضى بهما.
ونقل الحطاب عن المازري: أن معروف المذهب أن الشاهد واليمين لايقضى به في الوكالة لكن منع القضاء بها ليس من ناحية قصور هذه الشهادة في القضاء بها في الوكالة بل لأن اليمين مع الشاهد فيها متعذرة؛ لأن اليمين لايحلفها إلاَّ من له نفع والوكيل لا نفع له فيها.
قال: وإن كان وقع في المذهب أن الوكيل يحلف مع شاهده بالوكالة وقبض الحق فتأول الأشياخ هذه الرواية على أن المراد بها وكالة بأجرة يأخذها الوكيل أو يقبض المال لمنفعة له فيها (4) .
__________
(1) هو: أبو عبد الله، محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، الفقيه المالكي، ولد بمكة سنة 902 هـ، له من التصانيف: مواهب الجليل شرح مختصر خليل، توفي سنة 954 هـ. انظر: توشيح الديباج 229 وما بعدها، والفتح المبين 3/75، والأعلام 7/58.
(2) هو: أبو الحسن، علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي القيرواني، من فقهاء المالكية، له تعليق على المدونة سماه التبصرة مشهور معتمد في المذهب، توفي سنة 478 هـ. انظر: شجرة النور 117.
(3) هو: محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالإمام، وصار لقباً له حتى لايعرف بغير الإمام المازري، وهو فقيه مالكي، توفي سنة 536 هـ، وله ثلاث وثمانون سنة. انظر: الديباج المذهب 1/279، وسير أعلام النبلاء 20/104، وهناك من عرف بالمازري غيره.
(4) مواهب الجليل 8/211 وما بعدها، وانظر: البهجة 2/179، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4/187.(13/64)
والذي ذكره ابن فرحون (1) في التبصرة عند الكلام على الوكالة بالخصومة أنها تثبت بشاهدين عدلين أو بشاهد ويمين على قول مالك وابن القاسم (2) .
وما دام أنه يقبل فيها شاهد ويمين فيقبل فيها رجل وامرأتان (3) ، والله أعلم.
وبعد بيان آراء الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في هذه المسألة على وجه التفصيل يتبين ما يلي:
أولاً: لا نزاع بين الفقهاء في أن الوكالة تثبت بشهادة عدلين ذكرين.
ثانياً: اختلفوا في شهادة رجل وامرأتين.
فمنهم من قال تقبل إذا كانت الوكالة متعلقة بالمال مثل أن يوكله في المطالبة بدين له، ولايقبل في غير ذلك إلاَّ رجلين، وهذا رواية عن أحمد وقول مالك وابن القاسم وابن وهب.
ومنهم من قال: يقبل فيها رجل وامرأتان مطلقاً سواء تعلقت بالمال أو بغيره، وهذا قول الحنفية.
ومنهم من قال: لايقبل فيها إلاَّ رجلين مطلقاً، وهو رواية عن أحمد وقول الشافعي وقول أشهب وعبد الملك من المالكية
ثالثاً: اختلفوا في إثباتها بالشاهد واليمين فمن لم يقبل إلاَّ شهادة عدلين لايقبل الشاهد واليمين.
ومن يقبل شهادة رجل وامرأتين فهو يقبل الشاهد واليمين باستثناء المالكية على القول بأنها تثبت بشهادة رجل وامرأتين لكن المعروف من المذهب على ما ذكره الحطاب أنها لاتثبت بالشاهد واليمين لا لقصور في هذه الشهادة لكن لأن اليمين مع الشاهد فيها متعذرة؛ لأن اليمين لايحلفها إلاَّ من له نفع، والوكيل ليس له نفع من الوكالة، ولو كان له نفع لثبتت الوكالة بهما كما في الوكالة التي بعوض.
__________
(1) هو: برهان الدين، أبو إسحاق، إبراهيم بن الشيخ أبي الحسن علي بن فرحون المدني، فقيه مالكي، أخذ عن والده وعمه، والإمام ابن عرفة، له شرح مختصر ابن الحاجب، وتبصرة الحكام، والديباج المذهب في أعيان المذهب، توفي سنة 799 هـ. انظر: شجرة النور ص 222.
(2) التبصرة 1/127.
(3) المرجع السابق 1/230.(13/65)
والراجح في نظري - والله أعلم - هو القول بأن الوكالة التي تتعلق بالمال يقبل فيها رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي؛ لأن المال يثبت بهما فثبوت الوكالة بهما أولى.
وأمَّا فيما عدا ذلك فلايقبل إلاَّ رجلان عدلان لأن الوكالة مِمَّا يطلع عليه الرجال، ويُمكن إقامة البينة عليه فلايقبل فيه إلاَّ رجلان.
والأدلة التي استدل بها من يرى إثباتها برجل وامرأتين، أو برجل ويمين المدعي هي مخصوصة بالمال، والله أعلم.
المسألة الثانية: إثبات الوكالة بتصديق الخصم:
إذا ادّعى شخص أنه وكيل فلان وصدقه الخصم ثبتت الوكالة عند الحنفية (1) والشافعية (2) .
وعند المالكية الظاهر من كلامهم أنها لاتثبت بتصديق الخصم وإنَّما لابد من إثباتها بوسيلة من وسائل الإثبات السابقة.
ففي مواهب الجليل للحطاب قوله: وإذا حضر الوكيل والخصم وتقاررا على صحة الوكالة فلايحكم بينهما بمجرد قولهما؛ لأنه حق لغيرهما يتهمان على التواطؤ، ولو صدق الخصم الوكيل في الدعوى واعترف بالمدعى به لم يجبره الحاكم على دفعه على المشهور حتى يثبت عنده صحة الوكالة) (3) .
قال - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذا موافق لما في المعونة وتبصرة اللخمي لكنه مخالف لما ذكره ابن فرحون في الفصل السادس من تبصرته من أن الخصم إذا صدق المدعي للوكالة لزمه دفع الدين إليه، وما ذكره أيضاً في الباب السبعين في القضاء بالإمارات وقرائن الأحوال مِمَّا يؤيد هذا (4) .
والحنابلة في هذا يوافقون المالكية، ففي المقنع قوله: (فإن كان عليه حق الإنسان فادّعى رجل أنه وكيل صاحبه فصدقه لم يلزمه الدفع إليه ... ) (5) .
__________
(1) أدب القاضي للخصاف وشرحه لأبي بكر الرازي 331، 326.
(2) نهاية المحتاج 4/25، وروضة الطالبين 4/322، وما بعدها.
(3) مواهب الجليل 7/163.
(4) مواهب الجليل 7/163، وانظر: المعونة 2/1240.
(5) المقنع مع الشرح الكبير 13/563.(13/66)
قال في الشرح: (إلاَّ أن تقوم به بينة، وإن لم تقم به بينة لم يلزمه الدفع إليه وإن صدقه) (1) .
والراجح في نظري أنها لاتثبت بتصديق الخصم؛ لأن الوكالة يتعلق بها حق للغير، وهو الموكل فلم يعتبر إقرار الخصم فيما يتعلق به حق الغير، ولما ذكره المالكية من خشية التواطؤ عليها لأخذ حق الغير، والله أعلم.
المبحث الثالث: الشرط الثالث: أن لايكون الموكّل مبطلاً
اشترط الفقهاء لصحة الوكالة في الخصومة أن لايكون الموكِّل مبطلاً سواء كان المدعي أو المدعى عليه، وقد نص على هذا الشرط فقهاء المالكية (2) والحنابلة (3) .
قال في تبصرة الحكام: (ولاتجوز الوكالة عن المتهم بدعوى الباطل ولا المجادلة عنه) (4) .
وفي الفروع قال: (ولايصح ممن علم ظلم موكله في الخصومة قاله في الفنون، فظاهره يصح إذا لم يعلم، فلو ظن ظلمه جاز، ويتوجه المنع، ومع الشك يتوجه احتمالان، ولعل الجواز أولى كالظن فإن الجواز فيه ظاهر وإن لم يجز الحكم مع الريبة في البينة) (5) .
واستشهد بما ذكره في المغني في الصلح عن المنكر يشترط أن يعلم صدق المدعي فلايحل دعوى ما لم يعلم ثبوته (6) .
وعند الحنفية قال الجصاص (7) في تفسير قوله تعالى: (وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ((8) .
__________
(1) الشرح الكبير 13/563.
(2) تبصرة الحكام 1/136.
(3) الفروع 4/350.
(4) تبصرة الحكام 1/136.
(5) الفروع 4/350، والإنصاف 5/395.
(6) الفروع 4/350.
(7) هو: أحمد بن علي، أبو بكر، الجصاص، كان إمام الحنفية في عصره، له تصانيف منها أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي وشرح الأسماء الحسنى وأدب القضاء، توفي سنة 370 هـ، وكان مولده 305 هـ. انظر: الفوائد البهية 27 وما بعدها.
(8) سورة النساء: الآية 105.(13/67)
قال: (وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره ... ) (1) .
وقد جاء في كتب فقهاء المذهب أن الوكالة التي تضر بالخصم بأن كان الوكيل يجتهد في الحيل لإبطال حق المدعي لاتقبل
قال في البحر: (وإن علم منه قصد الإضرار بالحيل كما هو صنيع وكلاء المحكمة لايقبل) (2) .
وفي تكملة حاشية رد المحتار قوله: (وإن علم من الموكّل قصد الإضرار لخصمه بالحيل كما هو صنيع وكلاء المحكمة لايقبل منه التوكيل إلاَّ برضاه ... ) (3) .
ومن المعلوم أن من أعظم الضرر التوكل عن المبطل لتبرئته مِمَّا هو عليه من الباطل.
وقال الغزالي من الشافعية بعد أن ذكر بعض الأحاديث في ذمّ الخصومة: (فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل، والذي يخاصم بغير علم، مثل وكيل القاضي، فإنه قبل أن يتعرف أن الحق في أي جانب، هو يتوكل في الخصومة من أي جانب كان، فيخاصم بغير علم) (4) .
الأدلة:
استدل الفقهاء على عدم جواز التوكل في الخصومة بالباطل بما يلي:
1 - قول الله عزّوجل: (وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ((5) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/265.
(2) البحر الرائق 7/145.
(3) تكملة حاشية رد المحتار 11/375، وفتاوى قاضيخان مع الفتاوى الهندية 3/7، وتكملة فتح القدير 8/9.
(4) إحياء علوم الدين 9/1557.
(5) سورة النساء: الآية 105.(13/68)
قال القرطبي (1) - رَحِمَهُ اللهُ - في التفسير: (في هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لاتجوز، فلايجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلاَّ بعد أن يعلم أنه محق) (2) .
وقال: (الخصيم هو المجادل ... فنهى الله عزّوجل رسوله عن عَضُدِ أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة) (3) .
وقال ابن العربي (4) : (إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لاتجوز، بدليل قوله عزّوجل لرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيمًا () (5) .
__________
(1) هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح، الشيخ، الإمام، أبو عبد الله، الأنصاري، الأندلسي، القرطبي، المفسر، جمع في تفسير القرآن كتاباً كبيراً أسماه: (جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي القرآن) ، توفي سنة 671 هـ. انظر: الديباج المذهب 2/308، وشجرة النور ص 197.
(2) الجامع لأحكام القرآن 5/242.
(3) المرجع السابق.
(4) هو: القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد، المعروف بابن العربي، من فقهاء المالكية، إمام حافظ، له مصنفات منها: شرح على الموطأ، وأحكام القرآن، توفي سنة 543 هـ. انظر: شجرة النور 136 وما بعدها.
(5) أحكام القرآن لابن العربي 1/498.(13/69)
وقال الجصاص: (قوله تعالى: (وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (روي أنه أنزل في رجل سرق درعاً فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها، وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه، ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مِمَّا كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق، وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره؛ لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه، وهذه الآية وما بعدها في النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكره كله تأكيد للنهي عن معونة من لايعلمه حقاً) (1) .
ثانياً: عن ابن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) (2) .
وفي لفظ: ((من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله)) رواهما أبو داود (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/265.
(2) روى الحاكم في المستدرك في سبب نزول الآية أنها نزلت في طعمة بن أبيرق، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. المستدرك 4/427، وروى الترمذي أنها نزلت في بني أبيرق بشير ومبشر وبشر. انظر: سنن الترمذي، حديث [336] 5/244، وقال: حديث غريب لانعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.
(3) رواهما أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب: فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، حديث [3597] ، [3598] 4/23، وأخرج الحاكم في المستدرك نحوه من حديث عبد الله بن عمر 2/32، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(13/70)
قال الشوكاني (1) : هذا ذم شديد له شرطان:
أحدهما: أن تكون المخاصمة في باطل.
والثاني: أن يعلم أنه باطل فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد، وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلاً (2) .
وأمَّا قوله (3) : (من أعان على خصومة بظلم فهو في معنى ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس بن شرحبيل أنه سمع رسولَ الله يقول: من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام) (4) .
وقال أيضاً: (في الحديث دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصماً أو معيناً على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه لينتهي) (5) .
ثالثاً: روى عروة بن الزبير أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أمها أم سلمة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرتها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: ((إنَّما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيتُ له بحق مسلم فإنَّما هي قطعة من النَّار فليأخذها أو فليتركها)) رواه البخاري وبوب له: (باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه) (6) .
__________
(1) هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ولد سنة 1173 هـ، وله مصنفات كثيرة، منها: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، وهو مطبوع، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، توفي سنة 1250 هـ. انظر: البدر الطالع 2/214 - 225، والأعلام 6/298.
(2) نيل الأوطار 5/550.
(3) المرجع السابق.
(4) المعجم الكبير للطبراني 916.
(5) نيل الأوطار 5/550.
(6) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه 3/101، ورواه في مواضع أخرى.(13/71)
قال ابن حجر (1) : (وفيه أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم فإن المراد بقوله: (أبلغ) أي أكثر بلاغة، ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنَّما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق) (2) .
وقال أيضاً: وفي هذا الحديث من الفوائد: إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئاً هو في الباطن حرام عليه.
وفيه: أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقاً في الظاهر، ويحكم له به أنه لايحل له تناوله في الباطن، ولايرتفع عنه الإثم بالحكم (3) .
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن من قصد التوكل عن المبطل من أجل تبرئته من باطله وإعانته على ظلمه وهو يعلم بذلك أو يظنه، فهذا لايجوز وفعله محرم، وهذه الأدلة تدل عليه.
أمَّا من قصد من التوكل له إظهار باطله ورده عن ظلمه وإعادة الحق إلى مستحقه فيجوز ويدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) ، وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنى نصره ظالماً بأن يرده عن ظلمه فهذا نصره، والله أعلم.
المبحث الرابع: في الشرط الرابع: أن لايكون توكيله إضراراً بخصمه
لقد نص على هذا الشرط جماعة من الفقهاء.
ففي التبصرة لابن فرحون (4) المالكي قوله: ومن وكل ابتداءً إضراراً لخصمه لم يُمكن من ذلك.
__________
(1) هو: أحمد بن علي بن محمد بن محمد العسقلاني المصري الشافعي، إمام حافظ، ولد سنة 773 هـ، تعلم الشعر فبلغ فيه الغاية ثم طلب الحديث فسمع الكثير وبرع، توفي سنة 852 هـ، له مصنفات كثيرة من أشهرها: فتح الباري شرح صحيح البخاري وغيره كثير. انظر: التعليقات السنية على الفوائد البهية 16.
(2) فتح الباري 13/219.
(3) فتح الباري 13/216، ونيل الأوطار 5/561.
(4) سبقت ترجمته هامش رقم [278] .(13/72)
ونقل عن محمد بن لبابة (1) قوله: (كل من ظهر منه عند القاضي لدد تشغيب في خصومته فلاينبغي له أن يقبله في وكالة، إذ لايحل إدخال اللدد على المسلمين) .
وقال ابن سهل (2) : (والذي ذهب الناس إليه في القديم والجديد قبول الوكلاء إلاَّ من ظهر منه تشغيب ولدد فذلك يجب على القاضي إبعاده وأن لايقبل به وكالة على أحد) (3) .
وقد مرّ أن الإمام أبا حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يشترط لصحة التوكيل رضا الخصم لئلا يتضرر بالوكالة.
والمحققون من فقهاء المذهب يرون الأخذ بقول الإمام إذا كان هناك ضرراً على الخصم.
فيفهم من ذلك أنهم يعتبرون هذا الشرط في الجملة.
ويُمكن أن يستدل لهذا بما يلي:
1 - ما في الصحيحين من قوله - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم -: ((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) متفق عليه (4) .
قال النووي: (والألد شديد الخصومة مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه؛ لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأمَّا الخَصِمُ فهو الحاذقُ بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل) (5) .
قلتُ: وهذا شأن كثير من الوكلاء إنَّما يقصدون لهذا المعنى ولذا فإن من توكل في باطل فهو داخل في هذا الحديث.
__________
(1) هو: أبو عبد الله، محمد بن عمر بن لبابة القرطبي الفقيه العالم الإمام الحافظ، فقيه مالكي، انفرد بالفتوى بعد أيوب بن سليمان ودارت عليه الأحكام نحو ستين سنة، وتوفي في شعبان سنة 314 هـ. انظر: شجرة النور 86.
(2) سبقت ترجمته هامش [200] .
(3) تبصرة الحكام 1/132.
(4) سبق تخريجه هامش [61] .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 16/219.(13/73)
قال النووي: فإن قلت لابُدّ للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه فالجواب ما أجاب به الغزالي من أن الذم إنَّما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل قبل أن يعرف الحق في أي جانب، ويدخل في الذم من يطلب حقاً لكن لايقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب لإيذاء خصمه، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر خصمه وكسره، ومثله من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي وليس إليها ضرورة في التوصل إلى غرضه، فهذا هو المذموم، بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة في الحجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموماً ولا حراماً لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا.
وعلل ذلك بأن ضبط اللسان على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وينتج عن ذلك الحقد بينهما والطعن في العرض وانشغال المرء حتى في صلاته بالمخاصمة فلايبقى حاله على استقامة، والخصومة مبدأ الشر، فينبغي التحرز منها إلاَّ لضرورة (1) .
ثانياً: قوله - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم -: ((أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) متفق عليه (2)
ووجه الاستدلال من الحديث: أن من توكل في باطل أو قصد الإضرار بخصمه فهو لايخلو من خصلتين من هذه الخصال أن يكذب في حديثه، وأن يفجر في خصومته، وهذا من أعظم الضرر بالمسلمين.
__________
(1) الأذكار بتصرف 531، وسبل السلام 4/203 وما بعدها، وانظر: كلام الغزالي في الإحياء 9/1557.
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب في المظالم والغصب، باب إذا خاصم فجر 3/101، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، حديث [58] 1/78.(13/74)
ومعنى فجر: أي مال عن الحق، وقال الباطل والكذب، قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن القصد (1) .
وقال ابن رجب (2) : (يعني بالفجور: أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الحق باطلاً والباطل حقاً، وهذا مِمَّا يدعو إليه الكذب كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النَّار)) ) (3) .
وقال: (فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق) (4) .
وقال النووي: (اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه، أي هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النَّار) (5) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 2/48.
(2) هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، الحافظ، له تصانيف منها: شرح البخاري بلغ فيه إلى كتاب الجنائز، وله شرح على الترمذي، وذيل على كتاب طبقات الحنابلة، وله القواعد في الفقه، توفي سنة 795 هـ. انظر: شذرات الذهب 6/339.
(3) جامع العلوم والحكم 560.
(4) المرجع السابق.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 2/47.(13/75)
ثالثاً: يُمكن أن يستدل له أيضاً بقوله - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم -: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) فإنه عام في نفي جميع أنواع الضرر.
ومِمَّا ألحقه فقهاء المالكية بهذا الشرط توكيل العدو على عدوه في الخصومة فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للخصم، فإذا كان الذي وكل هو المدعي فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للمدعى عليه، وإن كان الموكل هو المدعي عليه فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للمدعي بل تعدى المالكية إلى أبعد من ذلك فقالوا: لو وكل كُلُّ واحد من المتداعيين وكيلاً وبين الوكيلين عداوة لم يباح ذلك (2) .
قال ابن فرحون: وللحاكم عزله (3) .
ووجهه: ما ورد من النهي عن الضرر والضرار.
ولأنه مع العداوة لايسلم من دعواه الباطل لعداوته لخصمه (4) .
المبحث الخامس: الشرط الخامس: العلم بالوكالة
اشترط فقهاء الحنفية علم الوكيل بالوكالة وعلم من يعامله.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب: القضاء في المرافق 2/745 مرسلاً، والدارقطني 4/228، والحاكم 2/57 وما بعدها من حديث أبي سعيد وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
... ورواه ابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت [234] 2/784، قال في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/282: فيه انقطاع.
... ورواه من حديث ابن عباس برقم [2341] 2/784، وفيه جابر الجعفي متهم.
... وروي من حديث أبي هريرة وأبي لبابة وثعلبة بن مالك وجابر بن عبد الله وعائشة. انظر: نصب الراية 4/384.
... قال في أحاديث جامع العلوم والحكم 404: حديث حسن وقال محققه: صحيح بالشواهد كما هو مخرج في الصحيحة برقم [250] .
(2) منح الجليل 6/387.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.(13/76)
قال الكاساني في البدائع: (لا خلاف في أن العلم بالتوكل في الجملة شرط إمَّا علم الوكيل وإمَّا علم من يعامله حتى أنه لو وكل رجلاً ببيع عبده فباعه الوكيل من رجل قبل علمه وعلم الرجل بالتوكيل لايجوز بيعه حتى يجيزه الموكل أو الوكيل بعد علمه بالوكالة) (1) .
وعلل ذلك بأن حكم الآمر لايلزم إلاَّ بعد العلم بالمأمور به أو القدرة على اكتساب سبب العلم بالمأمور به كما في أوامر الشرع (2) .
وذهب الشافعية (3) والحنابلة (4) إلى أن علم الوكيل ليس بشرط ولم أجد لهم في اشتراط علم من يعامله نصاً والظاهر من كلامهم عدم اشتراطه.
وأمَّا المالكية فيشترطون القبول، وبناء عليه فلا إشكال في اعتبار العلم؛ لأنه لايُمكن القبول بما لايعلم به (5) .
فمن تصرف قبل العلم بالوكالة فعند المالكية لايصح؛ لأنه تصرف قبل القبول.
وعند الشافعية مبني على مسألة من تصرف في مال أبيه يظن أنه حي فبان ميتاً ولهم فيه قولان: أظهرهما أنه يصح لصدوره من مالك فيجري هنا كذلك (6) .
ورأي الحنابلة في هذا كرأي الشافعية أصح الروايتين أن من باع ملك غيره فبان وكيلاً أن تصرفه صحيح (7) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6/20 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.
(3) مبنى هذه المسألة عند الشافعية على اشتراط القبول فقد اختلفوا هل هو شرط أم لا؟ ، والمراد القبول اللفظي، وأصح الأوجه أنه لايشترط، والثاني: يشترط، والثالث: إن أتى بصيغة أمر ك: بع واشتر، لم يشترط فعلى القول باشتراط القبول لا إشكال وعلى القبول بعدم اشتراطه إذا وكله والوكيل لايعلم ثبتت الوكالة على الأصح. انظر: روضة الطالبين 4/300.
(4) الشرح الكبير مع المقنع 13/573.
(5) مواهب الجليل 7/174.
(6) انظر: روضة الطالبين 4/300، 3/355.
(7) الفروع 4/37، وتصحيح الفروع معه.(13/77)
لكن هذا الشرط بالنسبة للخصومة يغني عنه في نظري ما مر من اشتراط ثبوت الوكالة؛ لأنّا قد قلنا إن من الشروط المتعلقة بالوكالة بالخصومة ثبوت الوكالة، ومعنى هذا أن الوكيل يدعي الوكالة فهو قد علم بها وإلاَّ لم يدِّعها، والله أعلم.
المبحث السادس: الشرط السادس: أن يكون وكيل الخصومة واحداً لا أكثر
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعدد الوكلاء
اختلف العلماء- رَحِمَهُمُ اللهُ - في اشتراط عدم تعدد الوكلاء على قولين:
القول الأول: للمالكية قالوا باشتراط هذا الشرط، وبناءً عليه فلايجوز توكيل وكيلين في الخصومة، وإنَّما يجوز توكيل واحد معين غير مبهم، وسواء كان الموكِّل رجلاً أو امرأة إلاَّ أن يرضى الخصم فيجوز.
بل قال المالكية أيضاً: لو كان الحق لاثنين فقالا من حضر منا خاصم فليس لهما ذلك؛ لأنه كتوكيل وكيلين (1) .
ووجهه: أن في توكيل أكثر من واحدٍ إضراراً بالخصم فلايجوز (2) .
القول الثاني: يجوز توكيل وكيلين فأكثر في الخصومة، وهو قول الجمهور من الحنفية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) ، أي: أن اشتراط عدم تعدد الوكلاء غير معتبر عندهم.
ولعل مستند هذا القول: أنه كما جاز توكيل الواحد يجوز توكيل الاثنين.
ولأن الحاجة كما دعت إلى توكيل الواحد فهي تدعو إلى توكيل الاثنين.
وهذا هو الراجح في نظري فكما لَمْ نعتبر رضا الخصم في توكل الواحد لانعتبره في توكيل الاثنين، والضرر مدفوع؛ فإن القاضي إذا رأى في تعدد الوكلاء إضراراً فله عزل أحدهما، والله أعلم.
__________
(1) مختصر خليل مع مواهب الجليل 7/162، ومواهب الجليل ومنح الجليل 6/359، والخرشي 6/394، وحاشية الدسوقي، والشرح الكبير بهامشه 3/378، والبهجة 1/330، وحلي المعاصم معه.
(2) البهجة 1/330، وحلي المعاصم معه.
(3) الكتاب للقدوري وشرحه اللباب 2/144، وبدائع الصنائع 6/32.
(4) روضة الطالبين 4/321.
(5) المغني 7/206.(13/78)
المطلب الثاني: تصرف الوكيلين
إذا وكل المدعي وكيلين في مخاصمة فهل ينفرد بها أحدهما أو لابد من اجتماعهما؟ .
اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أن كل واحد من الوكيلين ينفرد بالتصرف، وهو قول أئمة الحنفية الثلاثة - أبي حنيفة وصاحبيه (1) - وهو قول عند الحنابلة، قال في الإنصاف: (وقيل: لايجوز لأحدهما الانفراد بالتصرف إلاَّ في الخصومة) (2) .
وقال في الفروع: (قيل: إن وكلهما في خصومة انفرد أحدهما للعرف) .
قال في الإنصاف: (وهو الصواب) (3) .
ووجهه:
1 - أن الغرض من الخصومة إعلام القاضي بما يملكه المخاصم واستماعه، واجتماع الوكيلين على ذلك يخل بالإعلام والاستماع؛ لأن ازدحام الكلام يخل بالفهم فكان إضافة التوكيل إليهما تفويضاً للخصومة إلى كل واحد منهما فأيهما خاصم كان تمثيلاً، إلاَّ أنه لايملك أحدهما القبض دون صاحبه، وإن كان وكيل الخصومة يملك القبض عند الحنفية؛ لأن اجتماعهما على القبض ممكن فلايكون الموكل، راضياً بقبض أحدهما بانفراده (4) .
2 - ولأن الاجتماع في الخصومة متعذر للإفضاء إلى الشغب في مجلس القضاء، والرأي يحتاج إليه سابقاً لتقويم الخصومة (5) .
القول الثاني: لاينفرد بالخصومة واحد منهما، وهو قول زفر من الحنفية (6) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 6/32.
(2) الإنصاف مع المقنع والشرح 13/482.
(3) الفروع 4/351، والإنصاف مع المقنع والشرح 13/482.
(4) بدائع الصنائع 6/32 وما بعدها.
(5) اللباب في شرح الكتاب، تأليف: عبد الغني الغنيمي الحنفي 1/144.
(6) بدائع الصنائع 6/32.
... وزفر هو: زفر بن الهذيل بن قيس بن سليم بن قيس، ويكنى بأبي الهذيل، ولد سنة 110 هـ، صحب الإمام أبي حنيفة، وأخذ الفقه عنه ثم غلب عليه الرأي، فصار من أئمة الحنفية المجتهدين، توفي سنة 158 هـ. انظر: الطبقات السنية 3/244، ووفيات الأعيان 2/317.(13/79)
ووجهه: أن الخصومة مِمَّا يحتاج إلى الرأي ولم يرض برأي أحدهما فلايملكها أحدهما دون الآخر (1) .
القول الثالث: للشافعية قالوا: إن صرح باستقلال كل واحد منهما استقل بها، وإن لم يصرح باستقلال كل واحد منهما فوجهان:
الأصح: أنه لايستقل واحد منهما بل يتشاوران ويتباصران كما لو وكلهما في بيع أو طلاق أو غيرهما أو أوصى إليهما.
والآخر: أنه يستقل: لتعذر الاجتماع على الخصومة (2) .
ومذهب الحنابلة في هذا كالصحيح المعتمد عند الشافعية من أنه إن صرح بالاستقلال استقل بها وإن لم يصرح أو لم يجعل له ذلك فليس له الاستقلال (3) .
ووجهه ما يلي:
1 - أن التصرف يعتمد الإذن فإن وجد صح التصرف، وإن لم يوجد لم يصح التصرف، ومن وكل وكيلين وجعل لكل واحد منهما التصرف فقد وجد الإذن، وإن لم يجعل لكل واحد منهما التصرف فالإذن لم يوجد لكل واحد منهما بانفراده فجاز لهما معاً التصرف، ولم يجز الانفراد؛ لأن الموكل لم يرض بتصرف أحدهما منفرداً بدليل إضافته الغير إليه.
2 - القياس على من وكل اثنين ببيع أو شراء أو طلاق فليس لأحدهما الانفراد، فكذا في الخصومة (4) .
ويُمكن مناقشته: بأنه إنَّما منع من الاجتماع في الخصومة لما يفضي إليه من الشغب في مجلس القضاء بخلاف البيع والشراء فإن محلهما الأسواق والشغب فيها معتاد، والطلاق ليس مختصاً بمجلس القضاء، والله أعلم.
القول الرابع: لكل واحد منهما الاستبداد إلاَّ أن يشترط الاجتماع.
وهذا قول المالكية إن حصل التعدد بإذن الخصم (5) .
ووجهه: أن الأصل عدم الشرط (6) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) روضة الطالبين 4/321.
(3) المقنع والشرح الكبير معه 13/482 وما بعدها، والممتع شرح المقنع 3/360، والمستوعب 2/277، والإنصاف مع المقنع والشرح 13/482، والمغني 7/207.
(4) انظر: الممتع شرح المقنع 3/360 وما بعدها.
(5) الذخيرة للقرافي 8/15.
(6) المرجع السابق.(13/80)
والراجح في نظري هو التفصيل الذي ذكره الشافعية والحنابلة؛ لأن من وكل وكيلين فهو دليل على أنه لايرضى إلاَّ باجتماعهما وتعاونهما إلاَّ أن يجعل لكل واحد منهما الانفراد، فهذا دليل على أنه رضي برأي الواحد.
ولايستلزم توكيل الاثنين الشغب؛ لأنهما لايتصور أن يتكلما في وقت واحد وإنَّما يعين أحدهما الآخر ويبصره بما يحتاج إليه، والله أعلم.
الفصل الثالث: كتصرفات وكيل الخصومة
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
التمهيد: فيما لوكيل الخصومة فعله وما ليس له فعله بلا نزاع.
الوكيل بالخصومة إمَّا أن يكون من جهة المدعي أو من جهة المدعى عليه، فأمَّا وكيل المدعي، فهو يدعي ويقيم البنية، ويسعى في تعديلها، ويطلب الحكم والقضاء ويفعل ما يقع وسيلة إلى الإثبات.
والوكيل بالخصومة من جهة المدعى عليه ينكر ويطعن في الشهود ويسعى في الدفع بما يُمكنه (1) .
وليس له أن يصالح ولايبري، حكى ابن قدامة الإجماع عليه، فقال: ولايملك المصالحة عن الحق ولا الإبراء منه بغير خلاف نعلمه؛ لأن الإذن في الخصومة لايقتضي شيئاً من ذلك (2) .
وقال الماوردي (3) : وهكذا ليس للوكيل أن يصالح على ما وكل في المطالبة به؛ لأن الصلح إمَّا أن يكون بيعاً، ولايجوز إلاَّ بإذن موكله أو يكون إبراء فلايصح (4) .
__________
(1) العزيز شرح الوجيز 5/243، والفروع 4/363، وفيه قوله: ولا خلاف أن وكيل الخصومة يملك الطعن في الشهود ومدافعتهم وسماع البينة لضرورة المخاصمة ويلزمه طلب الحظ لموكله.
(2) المغني 7/211.
(3) هو: أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، الفقيه الشافعي، كان من وجوه الفقهاء الشافعية، ومن كبارهم ... له تصانيف منها الحاوي في الفقه، والأحكام السلطانية وغيرها، توفي سنة 450 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/303 وما بعدها، ووفيات الأعيان 3/282.
(4) الحاوي 6/514، 515.(13/81)
ووجه عدم جواز تلك التصرفات من الوكيل: أن اسم الخصومة لايتناول الصلح والإبراء فالإذن في الخصومة لايتناول شيئاً من ذلك (1) .
المبحث الأول: إقرار الوكيل وإنكاره
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: إقرار الوكيل في الوكالة المطلقة
والمقصود بالوكالة المطلقة: هي الوكالة التي لم يفوض الموكل فيها إلى الوكيل جميع التصرفات بما فيها الإقرار ولم ينهه عنه.
فهل يُعدّ إقرار الوكيل في هذا النوع من الوكالة جائز أو لا؟ .
لقد اختلف العلماء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في حكم إقراره في هذا النوع - أعني به الوكالة المطلقة - على قولين:
القول الأول: أن الوكيل بالخصومة يملك الإقرار، وبه قال أئمة الحنفية الثلاثة (2) .
وحجتهم: أن الوكيل بالخصومة وكيل بالجواب الذي هو حق عندالله - عَزَّ وَجَلَّ -، وقد يكون ذلك إنكاراً، وقد يكون إقراراً فإذا أقر على موكله دل أن الحق هو الإقرار فينفذ على الموكِّل كما لو أقر على موكله وصدقه (3) .
وبعد أن اتفق أئمة الحنفية على هذا القدر اختلفوا في شروط قبول الإقرار: فذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه يشترط لقبول الإقرار من الوكيل أن يكون في مجلس القاضي لا غير.
وحجتهما: أن الموكِّل فوض الأمر للوكيل لكن في مجلس القاضي؛ لأن التوكيل بالخصومة أو بجواب الخصومة، وكل ذلك يختص بمجلس القاضي بدليل أن الجواب لايلزم في غير مجلسه، وكذا الخصومة لاتندفع باليمين في غير مجلس القاضي فتتقيد بمجلس القاضي، إلاَّ أنه إذا أقر في مجلس غير مجلس القاضي خرج عن الوكالة وانعزل؛ لأنه لو بقي وكيلاً لبقي وكيلاً بالإقرار عيناً؛ لأن الإنكار لايسمع منه للتناقض، والإقرار عيناً غير موكّل به.
__________
(1) العزيز 5/244، والكافي 3/314.
(2) بدائع الصنائع 6/24، والبحر الرائق 7/181.
(3) المرجعان السابقان، والفتاوى الهندية 3/617.(13/82)
وذهب أبو يوسف - رَحِمَهُ اللهُ - إلى أنه لايشترط أن يكون إقراره في مجلس القاضي بل يصح فيه وفي غيره.
ووجهه: أن التوكيل تفويض ما يملكه الموكّل إلى غيره، وإقرار الموكِّل لاتقف صحته على مجلس القاضي فكذا إقرار الوكيل.
وبعبارة أخرى: الموكِّل أقام الوكيل مقام نفسه، والموكل يجوز إقراره عند القاضي وعند غيره فكذا الوكيل لأنه قائم مقامه (1) .
واعترض عليه: بأن الموكِّل إنَّما أقام الوكيل مقام نفسه في الخصومة، والخصومة لاتكون إلاَّ عند القاضي، والإقرار لايجوز إلاَّ عنده (2) .
والشرط الثاني: أن لايكون الإقرار في حد قذف أو قصاص؛ لأن التوكيل بالخصومة جعل توكيلاً بالجواب مجازاً بالاجتهاد فتمكنت فيه شبهة العدم في إقرار الوكيل فيورث شبهة في درء ما يدرأ بالشبهات (3) .
القول الثاني: لايصح إقرار الوكيل على الموكِّل لا عند القاضي ولا عند غيره، ولا في حد ولا غيره، وهذا قول الجمهور من المالكية في القول المعتمد عندهم (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) ، وزفر من الحنفية (7) .
واحتجوا بما يلي:
1 - أن الإقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها فلايملكه الوكيل في الخصومة كالإبراء (8) .
__________
(1) المراجع السابقة، وأدب القاضي للخصاف وشرحه لأبي بكر الرازي 330.
(2) أدب القاضي للخصاف 330.
(3) تبيين الحقائق 4/281.
(4) انظر: الكافي لابن عبد البر 395، ومواهب الجليل 7/171، والتاج والإكليل معه، والذخيرة 8/14، وحلي المعاصم مع البهجة 1/330 وقال: والمعروف من المذهب أنها لاتستلزم الإقرار ولو أقر لم يلزم.
(5) العزيز شرح الوجيز 5/243 وما بعدها، والحاوي للماوردي 6/513.
(6) المغني 7/211، والفروع 4/349.
(7) البحر الرائق 7/181، وأدب القاضي 330.
... وزفر سبقت الترجمة له هامش رقم [350] .
(8) المغني 7/211، والبحر الرائق 7/181.(13/83)
2 - القياس على الإقرار في دعوى النكاح والطلاق والقصاص والعفو وقد سلمها الحنفية (1) .
3 - القياس على الأب والوصي، فلهما أن يخاصما وليس لهما الإقرار، والجامع بين هؤلاء أن كلاً منهم ندب إلى استيفاء الحق فلم يكن له إسقاطه (2) .
4 - ولأن كل ما لم يملكه الوكيل من إسقاط الحق في غير مجلس الحكم لم يلزمه في مجلس الحكم كالإبراء طرداً والقبض عكساً.
5 - ولأن ما لم يصح من الوكيل الإبراء منه لم يصح منه الإقرار به كالجناية.
6 - ولأن كل من لايصح إقراره مع النهي لايصح إقراره مع الترك كالمحجور عليه (3) .
ونوقش استدلال الحنفية بما يلي:
1 - قولهم المخاصمة تتضمن إقراراً وإنكاراً غير مسلم بل تتضمن من جهة الوكيل الإنكار لما عليه من المعونة وحفظ الحق، ومن جهة الموكل الإقرار والإنكار.
2 - قولهم: لما قام في الإنكار مقام موكله وجب أن يكون في الإقرار بمثابته.
جوابه: أن في الإنكار معونة لموكله وحفظاً لحقه، فصح من الوكيل، أمَّا الإقرار فمعونة عليه، وإسقاط لحقه فلم يصح من الوكيل (4) .
3 - الإنكار لايقطع الخصومة بخلاف الإقرار، ويملكه في الحدود والقصاص وفي مجلس الحكم وغيره، والوكيل لايملك الإنكار على وجه يمنع الموكِّل من الإقرار فلو ملك الإقرار لامتنع على الموكِّل الإنكار فافترقا فلايقاس أحدهما على الآخر (5) .
4 - القياس على الموكِّل قياس مع الفارق فإن الموكِّل يملك الإبراء فيملك الإقرار والوكيل لم يملك الإبراء فلم يملك الإقرار (6) .
__________
(1) العزيز شرح الوجيز 5/244.
(2) الحاوي 6/514، وأدب القاضي للخصاف 330.
(3) الحاوي 6/514.
(4) المرجع السابق.
(5) المغني 7/211.
(6) الحاوي 6/514.(13/84)
والراجح في نظري أن إقرار الوكيل على موكِّله في الوكالة المطلقة التي لم يأذن فيها الموكِّل بالإقرار ولم ينهه، ولم يفوض إليه كل تصرف لايصح لا عند القاضي ولا عند غيره؛ لأن الإقرار يتعلق به حق الغير فلايصح منه، والله أعلم.
المطلب الثاني: إقرار الوكيل في الوكالة التي نهاه فيها
الموكِّل عن الإقرار (استثناء الإقرار)
يرى فقهاء الحنفية في ظاهر الرواية أن الموكل إذا وكل بالخصومة ونهى الوكيل عن الإقرار أن هذا الاستثناء يصح، ولايملك الوكيل الإقرار لكنه يملك الإنكار (1) ، والقول بعدم صحة إقراره هنا هو مقتضى قول الجمهور من المالكية (2) والشافعية والحنابلة؛ لأنهم إذا لم يجيزوا إقراره مع إطلاق الوكالة فمن باب أولى أن لايجوز مع نهيه عنه.
لكن قال المالكية في الموكِّل يوكل على الخصام ولم يجعل لوكيله الإقرار بأن نهاه عنه، أو أطلق لم يلزم الموكّل ما أقر به في الأولى بلا خلاف، ولايلزم في الثانية على المعروف من المذهب، وهو رواية عن مالك إلاَّ أن هذا التوكيل توكيل ناقص، وللمطلوب أن يرده ولايخاصم معه حتى يجعل له الإقرار والإنكار، أو يفوض إليه، وذلك لما عليه من الضرر في مخاصمة مسلوب الإقرار.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3/617، والبحر الرائق 7/182.
(2) نص في حلي المعاصم على هذا فقال: ثم اعلم أن الوكيل إمَّا مفوض فيلزم إقراره أو غير مفوض فلايخلو إمَّا أن ينهاه الموكل عن الإقرار فلايلزم ما أقر به بلا خلاف ... انظر: حلي المعاصم مع البهجة شرح التحفة 1/330.(13/85)
نقل في حلي المعاصم عن المتيطي (1) قوله: وهو المشهور المعمول به عند القضاة والحكام، ونقل عن البيان: نزلت فقضى فيها بأنه لاتقبل الوكالة إلاَّ أن يحضر الموكل مع وكيله في وقت الحكم ليقر بما يوقف عليه خصمه أو يكون قريباً من مجلس القاضي (2) .
واحتج الحنفية على جواز استثناء الإقرار من الوكالة بالخصومة بما يلي: أن الحاجة داعية إلى استثناء الإقرار في عقد الوكالة لكل منهما إذ الوكيل بالخصومة يملك الإقرار عند الحنفية، ولو أطلق التوكيل من غير استثناء لتضرر به الموكِّل، وهذا المعنى لايوجب الفصل بين التوكيل من الطالب والمطلوب - المدعي والمدعى عليه - لأن كل واحد منهما يحتاج إلى التوكيل بالخصومة (3) .
أمَّا المالكية: فقالوا: لايلزم بأن يجعل له الإقرار مخافة أن يرتشي - يعني الوكيل (4) - فتجويزهم لهذا الاستثناء هو مخافة أن يرتشي الوكيل، فلذا جاز منعه من الإقرار لكن لما كان على الخصم ضرر في ذلك قالوا: له أن يضطر الموكل إلى جعل الإقرار إليه أو يحضر مجلس القضاء أو يكون قريباً منه ليقر بما يدعيه خصمه أو ينكره (5) .
القول الثاني: أن استثناء الإقرار إنَّما يصح من الطالب - أي من المدعي - أمَّا المطلوب إذا وكل واستثنى الإقرار فلايجوز، وهو رواية عن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ (6) -.
ووجهه:
__________
(1) هو: أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، يعرف بالمتيطي السبتي الفاسي، الإمام، الفقيه، المالكي، ألف كتاباً كبيراً في الوثائق سماه النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام، اعتمده المفتون والحكام، واختصره أعلام منهم ابن هارون، توفي سنة 570 هـ. انظر: شجرة النور 163.
(2) حلي المعاصم مع البهجة 1/331.
(3) بدائع الصنائع 6/22.
(4) البهجة 2/331.
(5) المرجع السابق وحلي المعاصم معه.
(6) بدائع الصنائع 6/22، والبحر الرائق 7/182.(13/86)
1 - أن الطالب لايجبر على الخصومة فله أن يوكل بشيء دون شيء على ما يختار، والمطلوب يجبر عليها فلايملك التوكيل بما فيه إضرار بالطالب.
2 - أن الطالب يثبت حقه بالبينة أو بنكول الموكِّل - المدعى عليه -؛ لأن الوكيل لايحلف فلايفيد استثناء الإقرار في حقه (1) .
وما ذهب إليه الجمهور في نظري هو الراجح إن شاء الله؛ لأن التوكيل حق للموكل فجاز أن يستثني منه الإقرار مع ما ذكره المالكية من مخافة أن يرتشي الوكيل فيقر على موكله؛ ولأن الحق يُمكن أن يتوصل إليه بغير الإقرار، والله أعلم.
المطلب الثالث: استثناء الإنكار
ومعنى ذلك أن يوكله في الخصومة جائز الإقرار وممنوع من الإنكار فهل يصح التوكيل على هذا الوجه أو لا؟ .
وهذه الصورة لم أجد من الفقهاء من نص عليها غير فقهاء الحنفية حيث قالوا: يصح استثناء الإنكار ويصير وكيلاً بالإقرار، وهذا هو ظاهر الرواية عند الحنفية (2) ، وبعضهم يجعل هذا قول محمد خلافاً لأبي يوسف (3) .
ووجه ظاهر الرواية: أن الإنكار قد يضر الموكِّل بأن كان المدعى وديعة، فلو أنكر الوكيل لاتسمع منه دعوى الهلاك والرد، وتسمع قبل الإنكار فكان للتوكيل على هذا الوجه فائدة فلم يمنع منه (4) .
المطلب الرابع: التوكيل في الخصومة مع جواز الإقرار
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حكم التوكيل في الخصومة مع جواز الإقرار:
__________
(1) بدائع الصنائع 6/22، وتبيين الحقائق 4/280، وهناك رواية أخرى عن محمد بن الحسن كقول الجمهور يصح استثناء الإقرار منهما معاً. انظر: تبيين الحقائق 4/280، والبحر الرائق 7/182.
(2) الفتاوى الهندية 3/617، والبحر الرائق 7/182، وتكملة رد المحتار 11/492، وتكملة فتح القدير 8/129.
(3) المبسوط 19/6.
(4) تكملة رد المحتار 11/492، والبحر الرائق 7/182، والمبسوط 19/6.(13/87)
وهذه من المسائل التي انفرد بها أيضاً الفقه الحنفي كإحدى صور التوكيل ونجد أن في هذه الصورة وفي التي قبلها حصل التوكيل في الإقرار.
ولقد ذكر الحنفية صورة التوكيل في الإقرار بأن يقول للوكيل وكلتك بالخصومة وبالذب عني فإذا رأيت مذمّة تلحقني بالإنكار واستصوبت الإقرار عليَّ فإني قد أجزت ذلك (1) .
أمَّا عند بقية الفقهاء فيؤخذ حكم هذه المسألة من كلامهم في حكم التوكيل في الإقرار إذا تبين هذا فإن الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - اختلفوا في حكم التوكيل بالإقرار على قولين:
القول الأول: يصح التوكيل بالإقرار، وهو قول الحنفية قال في تكملة فتح القدير: ((ويجب أن يعلم أن التوكيل بالإقرار صحيح عندنا)) (2) .
وفي البحر الرائق: ((ويصح التوكيل بالإقرار)) (3) ، ومثله في الفتاوى الهندية (4) .
وإلى هذا - أيضاً - ذهب المالكية (5) ، وقول عند الشافعية (6) ، وأحد الوجهين عند الحنابلة (7) .
ووجهه: أنه إثبات حق في الذمة فجاز التوكيل فيه كالبيع (8) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3/617.
(2) تكملة فتح القدير 8/129.
(3) البحر الرائق 7/182.
(4) الفتاوى الهندية 3/617.
(5) الكافي لابن عبد البر 395.
(6) العزيز شرح الوجيز 5/209، وروضة الطالبين 3/292.
(7) المغني 7/200، والإنصاف مطبوع مع المقنع والشرح الكبير 13/444، وتصحيح الفروع مطبوع معه 4/362، والإرشاد 367.
(8) المغني 7/200، والعزيز شرح الوجيز 5/208.(13/88)
القول الثاني: لايصح التوكيل في الإقرار، وهو قول عند المالكية، قال ابن عبد البر في الكافي: وزعم ابن خويزمنداد (1) : أن تحصيل مذهب مالك أنه لايلزمه إقراره، قال: وهذا في غير المفوض إليه (2) .
وهو أحد الوجهين عند الشافعية ويحكى عن ابن سريج، وهو اختيار القفال (3) (4) .
وهو أحد الوجهين عند الحنابلة (5) .
واستدلوا: بالقياس على الشهادة بجامع أن كلاً منهما إخبار عن حق فلايقبل التوكيل، إذ التوكيل إنَّما يليق بالإنشاءات (6) .
ونوقش: بأنه قياس مع الفارق، والفارق أن الشهادة لاتثبت الحق، وإنَّما هي إخبار بثبوته على غيره بخلاف الإقرار (7) .
والراجح في نظري هو القول الأول القاضي بصحة التوكيل في الإقرار؛ لأنه وسيلة إلى أداء الحق، فإذا وكل فيه فقد أذن به وليس في ذلك ضرر على أحد.
لكن هل يكون مقراً بنفس التوكيل أم لا:
__________
(1) هو: أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويزمنداد، الإمام العالم الفقيه الأصولي، ألَّف كتاباً كبيراً في الخلاف وكتاباً في أصول الفقه وكتاباً في أحكام القرآن لم يذكر تاريخ وفاته. انظر: شجرة النور 103.
(2) الكافي 395.
(3) هو: أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي، أحد أئمة الإسلام فقيه شافعي، وعنه انتشر مذهب الشافعي بما وراء النهر، ولد سنة 291 هـ، وتوفي في ذي الحجة سنة 365، وقيل: 366 هـ. انظر: طبقات الشافعية للشيرازي 209
(4) العزيز شرح الوجيز 5/208، وروضة الطالبين 3/292.
(5) تصحيح الفروع مطبوع مع الفروع 4/363.
(6) العزيز 5/208، وروضة الطالبين 3/292.
(7) المغني 5/208.(13/89)
ذهب المالكية (1) ، والشافعية في أحد الوجهين (2) ، وبه قال ابن القاص تخريجاً، واختاره الإمام (3) ، والحنابلة في قول (4) وهو الصحيح من المذهب، أنه يجعل بنفس التوكيل مقراً.
ووجهه: أن توكيله في الإقرار عليه دليل ثبوت الحق عليه (5) .
وذهب الحنفية (6) ، والشافعية في أصح الوجهين (7) أنه لايكون بذلك مقراً.
ووجهه: القياس على الإبراء فإن من وكل عليه لايجعل ذلك إبراء (8) .
والأول هو الراجح في نظري، وذلك لأن قياس الإقرار على الإبراء قياس مع الفارق والفارق بينهما أن الإبراء إسقاط حق فلايثبت حكمه إلاَّ بحصوله بخلاف الإقرار فإنه إخبار بثبوت الحق فتوكيله في الإقرار يدل على ثبوت الحق عليه، والله أعلم.
المسألة الثانية: شروط صحة إقرار الوكيل على موكله:
اشترط الفقهاء لصحة الإقرار من الوكيل على موكله شروطاً بعضها محل اتفاق وبعضها محل نزاع وفيما يلي بيان هذه الشروط:
الشرط الأول: أن يكون قد وكّله فيه بأن نص عليه في الوكالة، وقد مرّ الكلام على هذا الشرط.
الشرط الثاني: أن يكون الموكَّل بالإقرار به معلوماً.
__________
(1) الذخيرة 8/7، ومختصر خليل وشرحه منح الجليل 6/364.
(2) العزيز 5/208، وروضة الطالبين 3/292.
(3) هو: إمام الحرمين، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ضياء الدين، أبو المعالي، المتوفى سنة 478 هـ. انظر: التعليقات السنية على الفوائد البهية ص 246.
(4) الإنصاف مع المقنع والشرح 13/444، وتصحيح الفروع 4/366، وذكر فيه أن الخلاف محله في الظاهر على القول بعدم صحة التوكيل في الإقرار، أمَّا على القول بصحته فلايكون التوكيل فيه إقرار قولاً واحداً أو يقال: القولان مبنيان على القولين هناك: إن قلنا يصح التوكيل لم يكن إقراراً وإن قلنا لايصح كان إقراراً.
(5) المرجعان السابقان.
(6) الفتاوى الهندية 3/617.
(7) العزيز 5/208، وروضة الطالبين 3/292.
(8) المرجعان السابقان.(13/90)
وذلك كأن يقول أقر عني بكذا ونحوه، فأمَّا التوكيل بالإقرار بشيء مجهول مثل أن يقول: وكلتك لتقر عني وسكت، أو وكلتك لتقر عني بشيء، ونحو ذلك، فهذا لايصح، وبهذا قال الشافعية.
قال الماوردي: (فإذا وكله في الإقرار عنه، فإن لم يذكر القدر الذي يقر به ويصفه لم يصح التوكيل فيه، ولم يكن إقراره لازماً للموكل، وإن ذكر قدره وصفته ففيه لأصحابنا وجهان) (1) .
فلم يختلف الشافعية أنه إذا لم يذكر القدر والصفة أن التوكيل لايصح، وإنَّما النزاع بينهم فيما إذا كان معلوماً قدره وصفته.
وقال النووي: وإذا صححنا التوكيل - يعني في الإقرار - فينبغي أن يبين الوكيل جنس المقرّ به وقدره فلو قال: أقر عني بشيء فأقر أخذ الوكيل (2) بتفسيره، ولو اقتصر على قوله: أقر عني لفلان فوجهان، أحدهما: كقوله: أقر عني بشيء، وأصحهما: لايلزمه شيء بحال لاحتمال أن يريد الأقرار بعلم أو شجاعة لا بمال) (3) .
ومذهب الحنابلة في هذا قريب مِمَّا ذكره الشافعية ففي الفروع قوله: وذكر الأزجي يعتبر تعيين ما يقر به، وإلاَّ رجع في تفسيره إلى الموكل (4) .
وفي الإقناع وشرحه: (( (ولابد من تعيين)) الموكِّل ((ما يقر به)) وكيله عنه ((وإلاَّ)) بأن قال: وكلتك في الإقرار لزيد بمال أو شيء فأقر كذلك ((رجع في تفسيره إلى الموكِّل)) ؛ لأنه أعلم بما عليه) (5) .
وظاهر هذا الكلام أن الوكالة لاتبطل إذا لم يبين ما يقر به إذ لو بطلت لم يرجع إليه في تفسيره والله أعلم.
ولم أجد في كتب الحنفية والمالكية ما يفيد اعتبار هذا الشرط أو عدم اعتباره.
__________
(1) الحاوي للماوردي 6/515.
(2) في بعض النسخ: (الموكل) .
(3) روضة الطالبين 4/292 وما بعدها.
(4) الفروع 4/362.
(5) الإقناع وشرحه كشاف القناع 3/463، وما بين الأقواس هو متن الإقناع.(13/91)
والراجح في نظري أنه لابد منه؛ لأن الوكيل نائب عن الموكل، والنائب يتقيد تصرفه بما وكل فيه فلابد من العلم بما وكل فيه، والله أعلم.
الشرط الثالث: أن يكون ما أقر به في معنى الخصومة التي وكل عليها.
فإن أقر بشيء ليس من معنى الخصومة التي وكل عليها لم يصح.
وهذا الشرط صرح باشتراطه فقهاء المالكية وذكروا أن اشتراطه هو أصح القولين (1) .
وصورة ذلك: أن يخاصمه في دين له عليه ثمن سلعة مثلاً فيقر بأنه كان استعار منه كتاباً وادّعى تلفه (2) ، أو كمن وكل شخصاً وجعل له فيه الإقرار والإنكار فأقر بشيء أجنبي من تلك الخصومة كإقراره أن موكله وهب داره لزيد أو لفلان عليه مائة ونحو ذلك (3) .
وخالف في هذا الشرط بعض المالكية فقالوا: لايشترط ويلزم الموكل ما أقر به الوكيل ولولم يكن من معنى الخصومة التي وكل فيها (4) .
ولم أجد من تعرض لذكر هذا الشرط غير فقهاء المالكية ورُبَّما أغنى عنه اشتراط العلم بما يقر به؛ لأن إذا عين له ما يقر به فليس له أن يقر بغيره.
واشتراط هذا الشرط صحيح في نظري؛ لأن الإذن إنَّما تناول الخصومة في شيء معين وإذنه بالإقرار عليه ينصرف إلى ما هو من معنى الخصومة الموكل عليها فإقراره بشيء خارج عنها غير مأذون فيه، فلايصح.
الشرط الرابع: أن لايكون إقراره لمن يتهم عليه.
وهذا الشرط أيضاً صرح باشتراطه فقهاء المالكية (5) ، ولم يذكره غيرهم.
الشرط الخامس: أن لايكون الإقرار في حد قذف أو قصاص.
وهذا الشرط نص عليه فقهاء الحنفية.
__________
(1) منح الجليل 6/360، والبهجة 1/332 وما بعدها، وحلي المعاصم معها.
(2) حاشية العدوي مع شرح الخرشي 6/365.
(3) مواهب الجليل 7/172 وما بعدها.
(4) المراجع السابقة.
(5) الخرشي 6/395.(13/92)
ووجه اشتراطه: أن التوكيل بالخصومة جعل توكيلاً بالجواب مجازاً بالاجتهاد فتمكنت فيه شبهة العدم في إقرار الوكيل فيورث شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات (1) .
وتوضيحه: أن التوكيل محمول على الجواب؛ لأن جواب الخصم من الخصومة ولكن هذا نوع من المجاز فأمَّا في الحقيقة فالإقرار ضد الخصومة فيصير ذلك شبهة فيما يندرئ بالشبهات دون ما يثبت مع الشبهات (2) .
الشرط السادس: أن يكون إقراره على المعروف، وهذا الشرط لفقهاء المالكية أيضاً (3) .
المطلب الخامس: التوكيل في الخصومة واستثناء الإقرار والإنكار
وصورة ذلك: أن يوكل وكيلاً ويستثني الإقرار والإنكار فهل يصح هذا التوكيل أم لا، وهذه الصورة نص عليها الحنفية والمالكية.
وليس في المسألة رواية عن أئمة الحنفية (4) ، واختلف المتأخرون فيها على قولين مع ما ذكره المالكية فتلخص في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: لايصح التوكيل واستثناء الإقرار والإنكار، وهذا أحد القولين عند الحنفية.
ووجهه: أن التوكيل بالخصومة توكيل بجواب الخصومة، وجواب الخصومة إقرار وإنكار فإذا استثنى الأمرين فهو لم يفوض إليه شيئاً (5) .
__________
(1) فتح القدير 8/129، والفتاوى الهندية 3/617.
(2) المبسوط 19/106.
(3) منح الجليل وفيه قوله: (ويلزم موكله ما أقر به على المعروف) .
وقال الخرشي 6/395: (فللوكيل حينئذٍ أن يقر على موكله بما يشبهه) ، وهذا قوله في المنح: (على المعروف) .
(4) تكملة فتح القدير 8/129.
(5) المرجع السابق.(13/93)
القول الثاني: يصح التوكيل في الخصومة واستثناء الإقرار والإنكار ويصير وكيلاً بالسكوت متى حضر مجلس الحكم حتى يسمع البينة عليه، وهذا قول حكي عن القاضي صاعد النيسابوري من الحنفية (1) .
ووجهه: أن ما هو مقصود الطالب وهو الوصول إلى حقه بواسطة إقامة البينة، يحصل مع منعه من الإقرار والإنكار (2) .
القول الثالث: أن التوكيل واستثناء الإقرار والإنكار توكيل ناقص ولخصمه اضطراره إليه، أي لخصم الموكل أن يضطر الموكل أن يجعل إلى الوكيل الإقرار والإنكار فإن لم يفعل فله أن يرده ولايخاصم معه إلاَّ أن يحضر الموكل مع وكيله في وقت الحكم ليقر بما يوقفه عليه خصمه أو يكون قريباً من مجلس القاضي.
وهذا قول المالكية: قال المتيطي: وهو المشهور المعمول به عند القضاة والحكام.
وقال في البهجة عند قول الناظم:
(والنقض للإقرار والإنكار من ... توكيل الاختصام بالرد قمن) (3)
قال: (ومعناه: أن من وكل على الخصام ولم يجعل له موكله في الوثيقة الإقرار والإنكار فإن التوكيل قمن بالرد حقيق به لما على المطلوب من الضرر في ذلك ... ) (4) .
ووجه هذا القول كما هو واضح من تعليل البهجة: أن في سلب الإقرار والإنكار من الوكيل إضراراً بالخصم فلايجوز.
__________
(1) هو: القاضي صاعد بن محمد بن عبد الله، أبو العلاء، الاستوائي، قرية من ناحية نيسابور، ولد سنة 343 هـ، درس الفقه على أبي نصر بن سهل القاضي جده من جهة الأم، انتهت إليه رياسة الحنفية بخراسان في زمانه، توفي سنة 432 هـ. انظر: الفوائد البهية 83.
(2) تكملة فتح القدير 8/129.
(3) حلي المعاصم مع البهجة 1/331.
(4) البهجة 1/331.(13/94)
وما ذكره المالكية له وجاهته إذ لا فائدة في حضور الوكيل وهو ممنوع الإقرار والإنكار إلاَّ أن تطول مدة الخصومة فإذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء أو قريباً منه لم يكن في التوكيل فائدة كبيرة ترجى، وهذا يضر بالطرف الآخر فله أن يمتنع من مخاصمة الوكيل حتى يجعل له موكله الإقرار أو الإنكار، والله أعلم.
المبحث الثاني: قبض وكيل الخصومة المال
الذي وكل بالمخاصمة فيه
اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في وكيل الخصومة هل له القبض أو لا؟، على قولين:
القول الأول: أن الوكيل بالخصومة في المال وكيل بقبضه، وبهذا قال أئمة الحنفية الثلاثة (1) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أنه لما وكله بالخصومة في مال فقد ائتمنه على قبضه؛ لأن الخصومة فيه لاتنتهي إلاَّ بقبضه فكان التوكيل بها توكيلاً بالقبض.
2 - القياس على الوكيل بتقاضي الدين فإنه يملك القبض في ظاهر الرواية؛ لأن حق التقاضي لاينقطع إلاَّ بالقبض فكان التوكيل به توكيلاً بالقبض (2) .
القول الثاني: أن وكيل الخصومة لايملك القبض، وبه قال زفر من الحنفية، وهو قول المتأخرين منهم قال في البدائع: (إلاَّ أن المتأخرين من أصحابنا قالوا: إنه لايملك في عرف ديارنا؛ لأن الناس في زماننا لايرضون بقبض المتقاضي كالوكلاء على أبواب القضاة لتهمة الخيانة في أموال الناس) (3) .
وبهذا قال الشافعية (4) والحنابلة (5) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن القبض لايتناوله الإذن نطقاً ولا عرفاً إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه (6) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3/620، وبدائع الصنائع 6/24.
(2) بدائع الصنائع 6ِ/25، وأدب القاضي للحصاف وشرحه لأبي بكر الرازي 329.
(3) بدائع الصنائع 6/25.
(4) الحاوي 6/500، والعزيز 5/230 وما بعدها.
(5) الكافي لابن قدامة 3/314 تحقيق: د. عبد الله التركي.
(6) المرجع السابق والمغني 7/211، وأدب القاضي للخصاف وشرحه 329 وما بعدها.(13/95)
2 - أن المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء، ومن الوكيل بالقبض الأمانة وليس كل من يهتدي إلى شيء يؤتمن عليه، فلايكون التوكيل بالخصومة توكيلاً بالقبض (1) .
والقول الثاني هو الراجح في نظري؛ لأن الوكيل إنَّما أذن له في الخصومة، والقبض معنى آخر فلايملكه إلاَّ بالإذن له فيه، ولايسلم للحنفية أن من وكّل في الخصومة في مال فقد وكل بقبضه، بل هما شيئان، وقد يرضى لأحدهما من لايرضاه للآخر.
وأمَّا القياس على الوكيل بتقاضي الدين فهو قياس مع الفارق، ذلك أن الموكل بتقاضي الدين يشعر اللفظ بالقبض أيضاً، والله أعلم.
المبحث الثالث: توكيل وكيل الخصومة لشخص آخر
والمراد: أن الوكيل بالخصومة هل يملك أن يوكل غيره أو لا؟ .
قسم ابن قدامة - رَحِمَهُ اللهُ - في المغني التوكيل إلى ثلاثة أقسام، أو ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينهاه الموكِّل عن التوكيل، فهذا لايجوز له أن يوكِّل، قال في المغني: (بغير خلاف؛ لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجز له كما لولم يوكله) (2) .
الحالة الثانية: أن يأذن له في التوكيل صريحاً فيجوز له أن يوكل؛ لأنه عقد أذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون له فيه.
قال في المغني: (ولانعلم في هذين خلافاً) (3) .
فإن قال له: افعل ما شئت أو اعمل برأيك، أو وكله في كل تصرف فهل يعتبر هذا إذناً بالتوكيل.
__________
(1) بدائع الصنائع 6/25.
(2) المغني 7/207 وما بعدها.
(3) المغني 7/208، وانظر: الهداية وشرحها فتح القدير 8/103 وما بعدها، والكتاب للقدوري وشرحه اللباب 2/144 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3/388.(13/96)
ذهب الحنفية (1) والمالكية (2) في المشهور وأحد الوجهين عند الشافعية (3) والحنابلة (4) إلى أن له أن يوكل.
ووجهه: أن هذا لفظ عام فيما شاء فيدخل في عمومه التوكيل (5) .
وأصح الوجهين عند الشافعية: أنه لايكون إذناً في التوكيل؛ لأن قوله: افعل ما شئت ينصرف إلى تصرفه بنفسه.
إلاَّ أن الشافعية استثنوا ما إذا كان الموكَّل فيه لايتأتى للوكيل مباشرته فالظاهر جواز التوكيل في هذه الحالة (6) .
والذي يظهر لي أن الوجه الثاني عند الشافعية أولى؛ لأن قوله: افعل ما شئت يراد منه الأعمال التي يقوم بها بنفسه، والتوكيل ليس بداخل في ذلك؛ إذ قد يرضى الإنسان بتوكيل شخص ولايرضى بتوكيل غيره.
إلاَّ أن يقال بأن هذا مدفوع باشتراط أن يكون الوكيل الثاني أميناً.
لكن ليست الأمانة وحدها هي المقصود من الوكيل، والله أعلم.
الحالة الثالثة: أن يطلق الوكالة أي لاينهاه عن التوكيل ولايفوض إليه التصرف، فهذا هل له أن يوكل أم لا؟ .
أقول: إن هذا ينبني على صحة عقد الوكالة على هذه الصفة أولاً، ثم بعد ذلك يتقرر هل له التوكيل أم لا؟ .
فذهب المالكية إلى أن الوكالة لاتصح هنا فلابد من التفويض أو التعيين؛ ولهذا قال ابن عرفة: شرط صحتها علم متعلقها خاصاً أو عاماً بلفظ أو قرينة أو عرف خاص أو عام، فلو أتى بلفظ التوكيل مطلقاً كأنت وكيلي أو وكلتك فطريقان:
__________
(1) الهداية وشرحها فتح القدير 8/103 وما بعدها، والكتاب للقدوري وشرحه للباب 2/144 وما بعدها، وفتاوى قاضيخان 3/11.
(2) الخرشي 6/411.
(3) العزيز شرح الوجيز 5/237.
(4) المغني 7/208.
(5) المغني 7/208، وشرح فتح القدير 8/104 وما بعدها.
(6) العزيز 5/237.(13/97)
قال ابن بشير (1) وابن شاس (2) : لغو، وهو قول ابن الحاجب: لم يفد.
وقال ابن رشد: إنَّما تكون الوكالة مفوضة في كل شيء إذا لم يسم فيها شيئاً.
ولهذا قالوا في الوكالة: إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت (3) .
فأمَّا الوكيل غير المفوض وهو المخصوص فلايجوز له عند المالكية أن يوكل إلاَّ أن لايليق الفعل الموكل عليه به، فله أن يوكل سواء علم موكله أنه لايليق به أم لا.
ويجوز له أن يوكل إذا كثر الفعل الموكِّل فيه بحيث يتعذر على الوكيل استقلاله فيه فله أن يوكل من يعينه عليه لا من يستقل به، بخلاف من لايليق به فيوكل من يستقل به (4) .
أمَّا الحنفية (5) والشافعية (6) والحنابلة (7) فلايشترطون التفويض أو التعيين، ولذا لو وكله وسكت صحت الوكالة.
وعلى هذا فلايخلو من أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أن يكون العمل مِمَّا يترفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة، أو يعجز عن عمله لكونه لايحسنه أو غير ذلك.
__________
(1) هو: عبد الرحمن القاضي بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشير، مولى بني فطيس، المعروف بابن الحصار، كان من أجل علماء وقته، توفي سنة 422 هـ، وكانت ولادته سنة 364 هـ. انظر: الديباج المذهب 1/149، 1/7.
(2) هو: نجم الدين الجلال، أبو محمد بن شاس بن نزار الجذامي السعدي، من بيت إمارة وعفة وأصالة، فقيه مالكي، إمام فاضل، عمدة محقق، ألف الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، اختصره ابن الحاجب، توفي سنة 610 هـ. انظر: شجرة النور 165.
(3) التاج والإكليل 7/174، ومواهب الجليل 7/176، ومنح الجليل 6/369.
(4) منح الجليل 6/390.
(5) اللباب 2/144.
(6) العزيز 5/235.
(7) المغني 7/208.(13/98)
فهذا يجوز له التوكيل فيه؛ لأنه إذا كان مِمَّا لايعمله الوكيل عادة انصرف الإذن إلى ما جرت به العادة من الاستنابة فيه (1) .
القسم الثاني: أن يكون مِمَّا يعمله بنفسه إلاَّ أنه يعجز عن عمله كله لكثرته وانتشاره فيجوز له التوكيل في عمله أيضاً؛ لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فجاز التوكيل في فعل جميعه كما لو أذن في التوكيل بلفظه.
وقال القاضي: عندي أنه إنَّما له التوكيل فيما زاد على ما يتمكن من عمله بنفسه؛ لأن التوكيل إنَّما جاز للحاجة، فاختص ما دعت إليه الحاجة، بخلاف وجود إذنه فإنه مطلق (2) .
وللشافعية في هذا ثلاث طرق:
أصحها: أنه يوكل فيما يزيد على القدر الذي يُمكنه توليه أمَّا في القدر الذي يُمكنه عمله ففيه وجهان:
أصحهما: أنه لايوكل في القدر المقدور عليه؛ لأن لا ضرورة إليه.
وهذا كقول القاضي من الحنابلة.
والثاني: أنه يوكل فيه أيضاً؛ لأنه ملك التوكيل في البعض فيوكل في الكل كما لو أذن صريحاً (3) ، وهذا موافق للقول الأول عند الحنابلة.
القسم الثالث: ما عدا هذين القسمين: وهو ما يُمكنه عمله بنفسه، ولايترفع عنه، فهذا اختلف في جواز التوكيل فيه على قولين:
الأول: لايجوز التوكيل فيه، وهو قول الحنفية (4) والشافعية (5) ، ورواية عن الإمام أحمد ورجحه ابن قدامة (6) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن الموكِّل لم يأذن للوكيل في التوكيل، ولاتضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه.
2 - ولأنه استئمان فيما يُمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه من لم يأمنه عليه كالوديعة ليس له أن يودعها مع قدرته على حفظها (7) .
__________
(1) المرجع السابق، والعزيز شرح الوجيز 5/235 وما بعدها.
(2) المغني 7/208.
(3) العزيز 5/235 وما بعدها.
(4) اللباب 2/144، والفتاوى الهندية 3/566، وفتاوى قاضيخان مع الفتاوى الهندية 3/11.
(5) العزيز 5/235 وما بعدها.
(6) المغني 7/209.
(7) المغني 7/209.(13/99)
3 - ولأن الناس يتفاوتون في الخصومة، والموكل رضي برأي الأول دون غيره (1) .
لكن قال الحنفية إن خاصم الوكيل الثاني، والوكيل الأول حاضر جاز ويصير كأن الأول خاصم بنفسه (2) .
وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار ما يدل على أن الخصومة لاتكفي فيها الحضرة خلافاً لما في الخانية (3) .
القول الثاني: يجوز له أن يوكل، وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل (4) .
ووجه هذه الرواية: أن الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملك التوكيل كالمالك (5) .
ونوقش بالفرق فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف يشاء بخلاف الوكيل فإنه يتصرف نيابة عن المالك فينحصر تصرفه فيما أذن له فيه (6) .
والراجح - إن شاء الله - هو القول الأول بعدم جواز توكيله في هذه الحالة لعدم سلامة حجة القول الثاني؛ ولأن الوكيل نائب عن المالك فليس له أن يتصرف إلاَّ فيما أذن له فيه، والتوكيل على هذا الوجه غير مأذون فيه فكان ممنوعاً، والله أعلم.
الفصل الرابع: العوض في الوكالة
لا نزاع بين الفقهاء أن الوكالة بغير عوض جائزة؛ لأنها من التبرعات، أمَّا إن كانت بعوض فلايخلو إمَّا أن يكون على سبيل الإجارة أو على سبيل الجعالة.
__________
(1) فتاوى قاضيخان 3/11.
(2) المرجع السابق.
(3) تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار مع تكملة حاشية رد المحتار 11/478.
(4) المغني 7/209.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.(13/100)
فإن كان على سبيل الإجارة فقد صرحت المذاهب الثلاثة الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) بالجواز وعلى هذا فيشترط فيها شروط الإجارة من تسمية العوض وتحديد الأجل أو العلم بالعمل (4) .
ولم أجد للحنابلة نصاً في جوازها على سبيل الإجارة لكن قواعد المذهب لاتأباه إذا كان عملاً معلوماً وعوضاً معلوماً وتوافرت بقية شروط الإجارة.
وإن كان على سبيل الجعالة صح عند المالكية (5) والشافعية (6) والحنابلة (7) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عُمَالة؛ ولهذا قال ابنا عمه: لو بعثتنا على هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ونصيب ما يصيبه الناس يعنيان العُمالة (8) .
فيقاس على ذلك التوكيل بالخصومة.
2 - القياس على مجاعلة الطبيب على البرء.
3 - أن بالناس ضرورة إلى ذلك (9) .
أمَّا الحنفية فلايجيزون الجعالة أصلاً (10) .
__________
(1) انظر: تكملة حاشية رد المحتار 11/362 وما بعدها، وفتح القدير 8/3، وغمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر 4/120.
(2) تبصرة الحكام 1/135.
(3) روضة الطالبين 3/332، ومغني المحتاج 2/232.
(4) انظر: تكملة حاشية رد المحتار 11/362، حيث شرط لصحتها تحديد الوقت، وغمز عيون البصائر 3/13، والتبصرة 1/135، ومغني المحتاج 2/232، ونهاية المحتاج 5/52، وحاشية الشبراملسي عليه، وروضة الطالبين 3/332، ولا نزاع عند الشافعية إن عقد بلفظ الإجارة، وإن عقدت بلفظ الوكالة فيتخرج فيه قولان: بناء على أن العبرة بصيغ العقود أم بمعانيها.
(5) تبصرة الحكام 1/135.
(6) الحاوي 6/529.
(7) المغني 7/204.
(8) المرجع السابق 7/205.
(9) تبصرة الحكام 1/135.
(10) انظر: الجعالة وأحكامها في الشريعة الإسلامية د. خالد الجميلي 16 وما بعدها.(13/101)
القول الثاني: يكره الجعل في الخصومة على أنه إن فلج فله كذا وإلاَّ فلا شيء له، وهو قول لمالك - رَحِمَهُ اللهُ -، ففي تبصرة الحكام نقلاً عن التهذيب قوله: (وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لايأخذ إلاَّ بإدراك الحق) .
قال ابن القاسم: فإن عمل ذلك فله أجرة مثله.
وروي عنه أنه أجاز ذلك كما مر في القول الأول وإنَّما كره - رَحِمَهُ اللهُ - ذلك؛ لأنها على الشرط والمجادلة، ولأنها قد تطول، ولايتنجز منها غرض الجاعل فيذهب عمله مجاناً.
ونقل في التبصرة أيضاً عن الطرر قال الشعباني: لا خير في الوكالة على الخصومة إذا كانت بالأجرة حتى تنقطع؛ لأنها قد تطول وتقصر.
قال: ولو توكل على أن يحضر معه مجلس السلطان في كل يوم كذا يناظر عنه، كان جائزاً وإن لم يعلم قدر مقامه من الساعات.
وقال غيره معللاً لذلك: لأن ذلك خفيف متقارب الأجر.
قال: ولو حضر معه اليوم فلم يجلس من يخاصم إليه فانتظره إلى آخر مجلسه وجب له حقه وإن انصرف في أول ما حضر بطل ذلك، ولم يكن عليه حضور يوم آخر؛ لأن اليوم الذي كان أجره فيه قد ذهب (1) .
وقال في الكافي: (لا يجوز أن يستأجر خصماً على أنه إن أدرك حقه كان له ما جعل له وإن لم يدركه فلا شيء له عليه بل يجعل له جعلاً معلوماً على كل حال، وإلاَّ فيكون له أجرة مثله) (2) .
فتلخص من هذه النقول أن لمالك - رَحِمَهُ اللهُ - قولان:
أحدهما: الجواز كما مرّ في القول الأول.
__________
(1) المرجع السابق، والكافي لابن عبد البر 394.
(2) الكافي لابن عبد البر 394.(13/102)
والثاني: الكراهة، أي كراهة الجعالة على أنه إن أصاب الحق أخذ وإلاَّ فلا، وجوازها بدون هذا القيد، ولعل المراد هنا عدم الصحة؛ لأنه قال له أجرة مثله، وهذا يعني فساد الجعالة، لاسيما وأن لفظ الكراهة عند الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ - يراد به الحرمة أو التحريم (1) .
وعلى القول الأول لابد من العلم بالعوض بالاتفاق (2) ، واشترط الحنابلة تحديد الوقت (3) فإن فسدت صح التصرف لوجود الإذن وللوكيل أجرة مثله (4) .
والراجح في نظري أن العوض في الوكالة جائز سواء كان على سبيل الإجارة أو على سبيل الجعالة إذا كان عوضاً مباحاً وعملاً مباحاً معلوماً وليس لمن منعه حجة إلاَّ من جهة أن العمل قد يطول، وقد لايحصل من ذلك غرض الجاعل، وهذا لايمنع من صحة الجعالة؛ لأنها مشروعة للحاجة على العمل الذي لاتصح فيه الإجارة لكون العمل لايتقدر بزمن معين، فهي أوسع باباً من الإجارة، والله أعلم.
الفصل الخامس: صفة عقد الوكالة وأسباب الفسخ
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الوكالة بين اللزوم والجواز
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: صفة الوكالة الخالية عن العوض
الوكالة بالخصومة - كما مرّ - إمَّا أن تكون بعوض أو بغير عوض، فإن كانت بغير عوض فقد اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - هل هي عقد لازم لايُمكن فسخه أو أنها من العقود الجائزة التي يحق لكل من العاقدين فسخه؟ ، وفيما يلي تفصيل الأقوال في هذه المسألة:
القول الأول: للحنفية يرون أن الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين فيحق لكل منهما فسخه وهذا هو الأصل فيها، لكن يعرض لها اللزوم في صور منها:
__________
(1) انظر: مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري د. محمد بلتاجي 2/118.
(2) الكافي لابن عبد البر 394، والتاج والإكليل 7/214، والحاوي 6/529، والفروع 4/372.
(3) الفروع 4/372، والإنصاف مع المقنع والشرح 13/557.
(4) المراجع السابقة.(13/103)
أنه لو وكل رجلاً بالخصومة ثم عزله حال غيبة الخصم، فهذا على وجهين:
أحدهما: إن كان وكيل الطالب - أي المدعي - فيصح عزله وإن كان المطلوب - المدعى عليه - غائباً.
ووجهه: أن الطالب بالعزل يُبْطِلُ حق نفسه؛ ذلك أن خصومة الوكيل حق الطالب، وإبطال الإنسان حق نفسه صحيح من غير أن يتوقف على حضور غيره.
والثاني: أن يكون وكيل المطلوب - المدعى عليه - فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون التوكيل من غير التماس أحد - سواء المدعي أو القاضي - ففي هذا الوجه يصح العزل وإن كان الطالب غائباً.
والثاني: أن يكون التوكيل بالتماس الخصم أو القاضي، وفي هذا الوجه إن كان الوكيل غائباً وقت التوكيل ولم يعلم بالتوكيل صح عزله على كل حال.
وذلك: لأن الوكالة غير نافذة؛ لأنه لا نفاذ لها قبل علم الوكيل فكان العزل رجوعاً وامتناعاً فيصح، وهذا على الرواية التي تشترط علم الوكيل بصيرورته وكيلاً.
وإن كان الوكيل حاضراً وقت التوكيل، أو كان غائباً لكن علم بالوكالة ولم يردها فإن كانت الوكالة بالتماس الطالب - المدعي - فلايصح عزل الوكيل في حال غيبة الطالب، ويصح في حال حضوره رضي بذلك الطالب أو لم يرض.
وذلك: لأنه بالتوكيل ثبت نوع حق للطالب قِبَل الوكيل، وهو حق أن يحضره مجلس الحكم فيخاصمه، ويثبت حقه عليه، وبالعزل حال غيبة الطالب لو صح بطل هذا الحق أصلاً؛ لأنه لا يُمكنه الخصومة مع الوكيل، والمطلوب رُبَّمَا يغيب قبل أن يحضر الطالب فلا يُمكنه الخصومة معه أيضاً فيبطل حقه أصلاً.
وأمَّا إذا كان الطالب حاضراً فحقه لا يبطل أصلاً؛ لأنه إن كان لا يُمكنه الخصومة مع الوكيل يُمكنه مع المطلوب، ويُمكنه أن يطلب من المطلوب أن ينصب وكيلاً آخر (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8/143 وما بعدها، وتكملة حاشية رد المحتار 11/519، وبدائع الصنائع 6/38.(13/104)
القول الثاني: إن قاعد الوكيلُ الخصم عند الحاكم ثلاثة مجالس ولو كانت في يوم واحد، فالوكالة لازمة مطلقاً، فليس للموكّل عزله ولا للوكيل عزل نفسه إلاَّ من عذر، وهذا قول المالكية، والمرتين كالثلاث ذكره ابن رشد وقال: هذا هو المشهور من المذهب (1) .
قال في مواهب الجليل: ( ... ليس للموكل عزل وكيله بعد مناشبته للخصام ومقاعدة خصمه ثلاثاً، ومفهوم ذلك أن له عزله قبل ذلك وهو كذلك إذا أعلن بعزله وأشهد عليه ولم يكن منه تفريط في تأخير إعلام الوكيل بذلك، وأمَّا إن عزله سراً فلايجوز عزله ويلزمه ما فعله الوكيل وما أقر به عليه إن كان جعل له الإقرار ... ) (2) .
فشرط جواز عزله قبل الثلاث أو الثنتين على ما قاله ابن رشد أن لايكون عزله سراً؛ إذ لو عزله سراً لم يصح عزله.
ووجهه:
1 - أنه يجب رفع العدوان فوراً فإن أحد المتخاصمين ظالم، والمنكرُ والفسادُ تجب إزالته على الفور (3) .
2 - أنه لو جاز عزل الوكيل بعد أن ناشب خصمه في الخصام وقاعده فيه، أو قبل ذلك سراً لم يشأ أحد أن يوكل وكيلاً عن المخاصمة عنه ويشهد في السر على عزله إلاَّ فعل ذلك فإن قضي له سكت وإن قضي عليه قال كنت قد عزلته (4) .
3 - أنه بعد المقاعدة ثلاثاً أو اثنتين قد تعلق حق الخصم بخصومته (5) .
4 - أن في العزل سراً من الخدعة والقصد إلى الغش فلا يلتفت إليه ولايعلم به (6) .
وأمَّا العذر الذي يفسخ لأجله فكالمرض الظاهر، والسفر لكن يحلف في السفر أنه ما سافر ليوكل وعليه أن يحلف في المرض الخفي فإن نكل لم يجز له العزل.
__________
(1) المقدمات لابن رشد 3/59، ومواهب الجليل 7/169 وما بعدها، والتاج والإكليل معه 7/169.
(2) مواهب الجليل 7/169.
(3) الذخيرة 8/15.
(4) مواهب الجليل 7/169.
(5) البهجة 1/339.
(6) مواهب الجليل 7/169.(13/105)
ومثل المرض ظهور تفريطه من قلة قيامه بأمر الخصام، أو يظهر ميله للخصم، أو مسامحته في الحق فله عزله حينئذٍ ويوكل غيره أو يخاصِم بنفسه.
وحكى بعضهم الاتفاق عليه، ولو كانت الوكالة بأجرة فظهر غشه ونحو ذلك مِمَّا مر كان عيباً وله أن يفسخ الوكالة.
ومقتضى قولهم أنه يحلف في المرض الخفي أن يحلف في هذه الأمور إن ادّعاها ولم تظهر (1) .
القول الثالث: أن له أن يعزله وللوكيل أن يعزل نفسه ما لم يُشرف على تمام الحكم فإذا أشرف على تمام الحكم وكان قد قبل الوكالة لم يكن له عزل نفسه، وهذا قول عند المالكية (2) .
القول الرابع: أن له أن يعزله وللوكيل عزل نفسه مطلقاً، وهذا قول الشافعية (3) والحنابلة (4) .
قال المزني: (فإن وكله بخصومة فإن شاء قبل وإن شاء ترك، فإن قبل فإن شاء فسخ وإن شاء ثبت) (5) .
وقال الماوردي - رَحِمَهُ اللهُ -: (وهذا صحيح، وعقد الوكالة إرفاق ومعونة في العقود الجائزة دون اللازمة) (6) .
__________
(1) انظر: البهجة 1/339، ومنح الجليل 6/361 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3/397، ومواهب الجليل 7/170.
(2) المقدمات لابن رشد 2/59.
(3) انظر: الحاوي للماوردي 6/511، وللمالكية قولان أخران فمجموع أقوالهم في المسألة خمسة أقوال. انظر: مواهب الجليل 7/170.
(4) انظر: المغني 7/234، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/466.
(5) مختصر المزني على الأم 121. ... ... ... ... ... ...
... والمزني هو: الإمام العلامة، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، تلميذ الإمام الشافعي، ولد سنة 175 هـ، وكان قليل الرواية، رأساً في الفقه، له المختصر في الفقه شرحه عدة من الكبار، توفي سنة 264 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 12/492.
(6) الحاوي 6/511.(13/106)
وفي المغني لابن قدامة قوله: (وجملته أن الوكالة عقد جائز من الطرفين، فللموكل عزل وكيله متى شاء وللوكيل عزل نفسه) (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - أن عقد الوكالة إمَّا أن يكون من العقود اللازمة فلايجوز لأحدهما أن يفسخ إلاَّ برضا صاحبه كالبيع أو يكون من العقود الجائزة فيجوز أن ينفرد بفسخه كالجعالة، فلما لم يكن الرضا فيه معتبراً كان التفرد بفسخه جائزاً (2) .
2 - أن الوكالة إذن في التصرف فكان لكل منهما إبطاله كما لو أذن في أكل طعامه (3) .
3 - أن كل من لم يكن رضاه معتبراً في دفع العقد لم يكن حضوره معتبراً في رفعه كالمطلقة طرداً وكالإقالة عكساً، وكان كل من صح منه فسخ الوكالة بحضور صاحبه صح منه أن ينفرد بفسخها كالموكل (4) .
ذكر هذا الماوردي - رَحِمَهُ اللهُ - ويشير بهذا إلى الرد على الأحناف الذين لايجيزون الفسخ في حالة حصول التوكيل بالتماس الطالب حيث كان الوكيل حاضراً وقت التوكيل، أو كان غائباً لكنه علم بالوكالة ولم يردها، إلاَّ إذا كان المدعي حاضراً (5) .
4 - أنه عقد وكالة يصح من الموكّل أن ينفرد بفسخه فصح من الوكيل أن ينفرد بفسخه كالوكالة التي لم يشرع الوكيل في المخاصمة فيها (6) .
والقول الرابع هو الراجح في نظري؛ لأن الوكالة بالخصومة نوع من أنواع الوكالات، والوكيل فيها متبرع بالعمل فكانت جائزة كغيرها.
ثم هل يشترط للفسخ حيث جاز الفسخ لكونها جائزة غير لازمة علم الموكل أو الوكيل؟ لايخلو الفسخ إمَّا أن يكون من الموكّل أو من الوكيل.
فإن كان الفسخ من الوكيل حصل الفسخ بمجرد قوله فسخت الوكالة أو خرجت منها ولايشترط علم الموكّل ولاتشترط الشهادة على الفسخ (7) .
__________
(1) المغني 7/234.
(2) الحاوي للماوردي 6/512.
(3) المغني 7/234.
(4) الحاوي 6/512.
(5) انظر: ما سبق ص 94.
(6) الحاوي 6/512.
(7) الحاوي 6/512، وكشاف القناع 3/472، والذخيرة للقرافي 8/9.(13/107)
وعند المالكية قول مرجوح أنه ليس له أن يعزل نفسه في غيبة الموكل (1) .
أمَّا إن كان الفسخ من جهة الموكل فقد اختلف الفقهاء - رَحِمَهمُ اللهُ - في اشتراط علم الوكيل على قولين:
الأول: لايشترط علم الوكيل بالفسخ، وهو رواية عن مالك (2) وقول للشافعي (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
واستدلوا بما يلي:
1 - القياس على الطلاق والعتاق بجامع أن كلاً رفع عقد لايفتقر إلى رضى صاحبه فلايفتقر إلى علمه (5) .
2 - أنه لما لم يكن علم الموكل معتبراً في فسخ الوكالة لم يكن علم الوكيل معتبراً في فسخها (6) .
الثاني: أنّ علم الوكيل شرط لعزله، وهذا قول آخر للشافعي (7) ، ورواية عن الإمام أحمد (8) ، نص عليه في رواية جعفر بن محمد، وهو قول الإمام أبي حنيفة (9) ، ورواية عن مالك (10) .
واستدلوا بما يلي:
1 - أنه لما كان علم الوكيل معتبراً في عقد الوكالة كان معتبراً في الفسخ.
2 - ولأنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر؛ لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة.
3 - ولأنه يتصرف بأمر الموكل ولايثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه (11) .
والراجح في نظري هو القول الثاني؛ وذلك لأن القياس على الطلاق والعتاق قياس مع الفارق، ذلك أن العتاق مبني على التغليب والسراية، والشارع يتشوّف إليه ويحث عليه، فلم يكن علم العبد فيه معتبراً، والطلاق حق للرجل فلم يعتبر فيه علم المرأة، ولايؤدي إلى ضياع شيء من حقوقها.
__________
(1) الذخيرة 8/9.
(2) المرجع السابق.
(3) الحاوي 6/512.
(4) المغني لابن قدامة 7/234.
(5) المرجع السابق، والحاوي 6/512 وما بعدها.
(6) الحاوي 6/512.
(7) المرجع السابق.
(8) المغني 7/234.
(9) بدائع الصنائع 6/37.
(10) الذخيرة 8/9، ومواهب الجليل 7/169.
(11) الحاوي 6/512، والمغني 7/234.(13/108)
أمَّا الوكالة ففيها حق للموكل، وفيها حق للوكيل، ويتعلق بها حقوق للغير، ولما لم يكن على الموكِّل ضرر في فسخ الوكيل لم يكن علمه معتبراً للفسخ بخلاف علم الوكيل؛ لأنه يتصرف تصرفات مع الغير، وفسخ الوكالة بدون علمه يعود على تلك التصرفات بالإبطال، وذلك ضرر به لذا كان اشتراط علم الوكيل هو الصواب إن شاء الله. والله أعلم.
المطلب الثاني: صفة الوكالة المشتملة على عوض
وفيه فرعان:
الفرع الأول: صفة الوكالة التي عقدت على سبيل الإجارة:
الوكالة التي بعوض إمَّا أن تكون على سبيل الإجارة أو على سبيل الجعالة فإذا كانت كذلك فهل تكون لازمة أو لا؟ .
أمَّا إن كانت بأجرة فمذهب الحنفية والمشهور عند المالكية أنها لازمة لأنها إجارة (1) .
وذهب الشافعية إلى أنها إن شرط فيها جعل معلوم واجتمعت شرائط الإجارة وعقد بلفظ الإجارة فهي لازمة، وإن عقد بلفظ الوكالة أمكن تخريجه على أن الاعتبار بصيغ العقود أم بمعانيها (2) .
احتمالان ذكرهما الروياني وجهين وصحح منهما الأول على القاعدة الغالبة في ذلك، قال الشيخ الشربيني: وهو المعتمد كما جزم به الجويني في مختصره؛ لأن الإجارة لاتنعقد بلفظ الوكالة (3) .
ولم أجد للحنابلة نصاً في هذه المسألة.
ومن خلال ما تقدم يلاحظ أن المالكية يرون أن الوكالة التي عقدت بأجر لازمة لأنها إجارة والإجارة لازمة لاتنفسخ إلاَّ بما تنفسخ به العقود اللازمة.
ويوافقهم الشافعية فيما إذا عقدت بلفظ الإجارة وكان العوض معلوماً واجتمعت فيها شروط الإجارة.
أمَّا التي عقدت بلفظ الوكالة فعلى وجهين المعتمد في المذهب أنها وكالة لاتكون لازمة بناء على أن العبرة بالصيغة لا بالمعنى.
__________
(1) الذخيرة 8/6، وغمز عيون البصائر 3/13، والتاج والإكليل 7/214، ومواهب الجليل 7/171.
(2) روضة الطالبين 4/332، والعزيز شرح الوجيز 5/256.
(3) مغني المحتاج 2/232.(13/109)
والراجح في نظري أنها لازمة سواء عقدت بلفظ الإجارة أم بلفظ الوكالة إذ العبرة بالمعنى على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهذه في المعنى إجارة، والله أعلم.
الفرع الثاني: صفة الوكالة التي عقدت على سبيل الجعالة:
إذا عقدت الوكالة على سبيل الجعالة فهل تكون لازمة أو جائزة؟ .
لقد اختلف الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللهُ - في لزوم الجعالة هنا وجوازها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها لازمة من الطرفين، وهو قول عند المالكية ذكره القرافي في الذخيرة ولم يذكر وجهه.
القول الثاني: أنها جائزة من الطرفين، وهو قول آخر للمالكية (1) ، وقول للشافعية مبني على أن العبرة بصيغ العقود، قال في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج للرملي الوكالة ولو بجعل بناء على أن العبرة بصيغ العقود هنا كما رجحه الروياني وجزم به الجويني في مختصره ما لم تكن بلفظ الإجارة بشروطها ... جائزة أي غير لازمة من الجانبين) (2) .
وهذا ظاهر كلام الحنابلة؛ لأنهم ذكروا أن الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين ولم يفرقوا بين أن تكون بجعل أو بغير جعل (3) ، وأيضاً فالعبرة عند الحنابلة في العقود بالمعنى لا باللفظ (4) وهي في المعنى جعالة، والجعالة جائزة من الطرفين (5) .
ووجهه: أن الموكل قد تظهر له المصلحة في ترك ما وكل فيه أو توكيل آخر؛ ولأن الوكيل قد يعرض له ما يمنعه عن العمل (6) .
__________
(1) الذخيرة للقرافي 8/9. ويظهر أن محل الخلاف عند المالكية فيما إذا لم يقاعد الوكيل الخصم ثلاثة مجالس أو اثنين، ذلك أنها لازمة في هذين الموضعين بالاتفاق في الأول، وعلى المشهور من المذهب في الثاني مع كونها بغير عوض كما مر فمع العوض من باب أولى.
(2) نهاية المحتاج 5/52.
(3) المغني 7/234.
(4) القواعد لابن رجب 13.
(5) الشرح الكبير مطبوع مع المغني والإنصاف 16/171.
(6) نهاية المحتاج 5/52.(13/110)
القول الثالث: أنها لازمة للجاعل دون المجعول له بالشروع في العمل، وهو قول ثالث للمالكية (1) وهو المشهور من المذهب.
ومحل هذا الخلاف فيما إذا عقدت بلفظ الوكالة (2) .
أمَّا إن عقدت بلفظ الإجارة أو الجعالة فهي مثلهما (3) ، فتكون إجارة لازمة إن كانت بلفظ الإجارة، وتكون جعالة لاتلزم إلاَّ بالشروع في العمل في حق الجاعل، وجائزة في حق المجعول له.
والراجح في نظري - والله أعلم - أنها إن كانت على سبيل الإجارة وعقدت بلفظها أي بلفظ الإجارة فهي إجارة وتكون لازمة كسائر الإجارات، وإن عقدت بلفظ الوكالة فهي لازمة أيضاً نظراً للمعنى؛ لأنها في المعنى إجارة وإن كانت بلفظ الوكالة، وإن عقدت على سبيل الجعالة فهي مثلها فتكون جائزة من الطرفين قبل تمام العمل كما هو رأي الشافعية والحنابلة.
ووجه جوازها من جانب الجاعل أنها تعليق للاستحقاق على الشرط فما لم يحصل الشرط فله الفسخ، وأمَّا من جهة العامل فلأنها عقد على ما لايقدر على تسليمه، وعلى هذا فلو فسخ أحدهما قبل الشروع في المخاصمة فلا شيء له، وإن حصل الفسخ من جهة الوكيل بعد الشروع في العمل فلا شيء له؛ لأنه لم يتم عمله وإن كان الفسخ من جهة الجاعل فللعامل أجرة مثل عمله كالجعالة من غير وكالة (4) ، والله أعلم.
المبحث الثاني: أسباب الفسخ
الوكالة إذا كانت بغير عوض فهي جائزة كما مرّ إلاَّ أنه يعرض لها اللزوم عند بعض الفقهاء في صور، وإن كانت على سبيل الإجارة فالإجارة من العقود اللازمة فلاتنفسخ الوكالة هنا إلاَّ بما تنفسخ به العقود اللازمة.
__________
(1) الذخيرة 8/9، ومنح الجليل 6/416، والتاج والإكليل 7/214، وحاشية الدسوقي 3/397، والخرشي 7/336.
(2) انظر: حاشية الدسوقي 3/397، والعزيز شرح الوجيز 5/256.
(3) انظر: المرجعين السابقين.
(4) انظر: نهاية المحتاج 5/476 وما بعدها، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 16/171.(13/111)
وإن كانت على سبيل الجعالة فالجعالة عقد جائز قبل الشروع في العمل، وبعده تكون جائزة في حق العامل ولازمة في حق الجاعل، وقد بينت هذا بالتفصيل.
وفي هذا المبحث سوف أذكر أسباب الفسخ بشيء من الإيجاز:
السبب الأول: عزل الوكيل وقد مر الكلام عليه قريباً.
السبب الثاني: إقرار الوكيل على موكله (1) ؛ لأن إقراره اعتراف بأن لا خصومة بينه وبين المطلوب إذ لم يبق للطالب شيء فيعزل عن الوكالة (2) .
السبب الثالث: موت الموكل، وقد اتفق العلماء (3) على أن موت الموكِّل سبب للفسخ، قال في المغني: (ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم) (4) .
وسبب ذلك: أنه بموت الموكِّل ينتقل الحق لغيره وهم الورثة فليس للوكيل أن يتصرف لهم بغير إذنهم فإن فعل فلهم رده (5) .
ولأن الوكالة بأمر الموكِّل وقد بطلت أهليته فتبطل الوكالة (6) .
شروط انفساخ الوكالة بموت الموكِّل:
اشترط الفقهاء لانفساخ الوكالة بموت الموكِّل شروطاً فيما يلي بيانها:
الشرط الأول: العلم بموته.
وبهذا قال المالكية في القول الراجح (7) ، وأحمد في رواية (8) .
وخالف الحنفية (9) والشافعية (10) في القول المعتمد، وأحمد (11) في رواية فقالوا: ينعزل علم بموته أم لم يعلم.
ووجه الأول:
__________
(1) انظر: أدب القضاء للخصاف 332 وما بعدها.
(2) أدب القضاء 333.
(3) انظر: بدائع الصنائع 6/38، والبهجة 1/337، وحلي المعاصم معه، والعزيز شرح الوجيز 5/255، والمغني 7/234.
(4) المغني 7/234.
(5) انظر: البهجة وحلي المعاصم معه 1/337.
(6) بدائع الصنائع 6/38.
(7) البهجة 1/337 وما بعدها.
(8) المغني 7/234.
(9) بدائع الصنائع 6/38.
(10) نهاية المحتاج 5/55.
(11) المغني 7/234 وما بعدها.(13/112)
1 - أنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر؛ لأنه قد يتصرّف تصرفات فتقع باطلة، ورُبَّما باع الجارية فيطؤها المشتري، أو الطعام فيأكله، أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري، ويجب ضمانه، ويتضرر المشتري والوكيل.
2 - ولأن الوكيل يتصرف بأمر الموكِّل ولايثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه كالنسخ (1) ، فإن حكمه لايثبت في حق المكلف قبل علمه.
ووجه الثاني: أن الفسخ رفع عقد لايحتاج إلى رضا الآخر لكونه من العقود الجائزة، فلايفتقر إلى علمه كالطلاق والعتاق (2) .
وإذا دققنا النظر في أدلة القول الأول لوجدنا أنها خاصة بالتوكيل في البيع والشراء ونحوهما من التصرفات ولاتنطبق على الوكالة بالخصومة إذ ليس هناك ضرر يُمكن أن يترتب على الموكّل أو على ورثته في الاستمرار فيها؛ إذ المقصود بالوكالة إثبات حقهم.
لذا فالذي يظهر لي أن القول بعدم الفسخ أولى، ولو رأى الورثة أن الضرر يلحق بهم فإن لهم الفسخ في العقد الجائز، والله أعلم.
الشرط الثاني: أن لايكون وكيل الخصومة قد أشرف على تمامها بحيث لو أراد عزله لم يكن له ذلك، وهذا الشرط اشترطه المالكية فقط (3) .
واشتراطه له وجاهته فإن الطرف الآخر يتضرر بالفسخ في هذه الحالة إذ يتعين عليه إعادة الدعوى وفيه ما فيه من تضييع الوقت، وإشغال القضاة والمتداعيين مرة أخرى حين إعادة الدعوى، والله أعلم.
السبب الرابع: موت الوكيل؛ لأنه مبطل لأهليته، وليست الوكالة حقاً يورث عنه حتى يقول وارثه أنا أقوم مقامه (4) .
السبب الخامس: خروج أحدهما عن أهلية التصرف بجنون أو حجرٍ عليه.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) البهجة 1/337 وما بعدها.
(4) بدائع الصنائع 6/38، ونهاية المحتاج 5/55، وحلي المعاصم مع البهجة 1/337.(13/113)
وبهذا قال الحنفية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3) .
لكن الحجر الذي تنفسخ به الوكالة في الخصومة عند الحنابلة هو الحجر بسبب السفه.
أمَّا الحجر بسبب الفلس، فهذا لاينعزل به وكيل الخصومة؛ لأنه لايخرج به عن كونه أهلاً للتصرف.
وكذا لو كان الذي حجر عليه بسبب الفلس هو الموكِّل لاينعزل الوكيل بذلك؛ لأن الموكِّل أهل للخصومة، وله أن يستنيب في الخصومة ابتداءً فلاتنقطع الاستدامة (4) .
أمَّا عند الحنفية فهذا فقط في حق العبد المأذون له إذا وكَّل ثم حجر عليه، فتنفسخ الوكالة.
ولذا قال في البحر عند قول الكنز: (وعجز موكله لو مكاتباً وحجره لو مأذوناً) قال: لما ذكرنا من أن قيام الوكالة يعتمد قيام الأمر وقد بطل بالحجر والعجز علم أو لم يعلم، أطلقه وهو مقيد بما إذا كان وكيلاً في العقود والخصومات، وأمَّا الوكيل في قضاء الدين واقتضائه فلاينعزل بهما ... ) (5) .
وفي الفتاوى الهندية: أن الوكالة إنَّما تبطل بالعجز والحجر إذا كان وكيلاً بالبيع والشراء أمَّا إذا كان التوكيل بالتقاضي أو بقضاء الدين فلاتبطل (6) .
فإن كان مرادة بالتقاضي الاختصام فيعتبر قولاً آخر خلاف ما قاله ابن نجيم وإن كان مراده اقتضاء الحقوق والديون فيكون كلامه موافقاً لكلام البحر، وهذا هو الظاهر.
والظاهر من كلام الشافعية أن الحجر بالسفه والفلس إنَّما يؤثر في الوكالة بالتصرفات التي يؤثر فيها السفه والفلس كالمعاوضات والتبرعات أمَّا الوكالة بالخصومات فلايؤثر فيها (7) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6/38، والدر المختار مع تكملة حاشية رد المحتار 11/525 و 527 والبحر الرائق 7/189 وما بعدها، وفتح القدير 8/147.
(2) نهاية المحتاج 5/55.
(3) المغني 7/235، والفروع 4/341.
(4) المغني 7/235.
(5) البحر الرائق 7/190، وفتح القدير 8/150.
(6) الفتاوى الهندية 3/638.
(7) انظر: العزيز 5/255، وروضة الطالبين 4/330.(13/114)
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الحجر الذي يفسخ به الوكالة في الخصومة هو الحجر بسبب السفه؛ لأن السفيه لايحسن التصرف لنفسه فلايحسنه لغيره.
أمَّا الدَّين فالمدين إنَّما منع من التصرف في المال لحق غيره بسبب الدين وليس لسوء تصرفه فهذا لايؤثر على الوكالة بالخصومة، والله أعلم.
وأمَّا الجنون فالجمهور كما مرّ يرون أنه سبب للفسخ لكن اختلفوا في الجنون الذي يفسخ به الوكالة.
فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه الجنون المطبق (1) ، وإن اختلفوا في تفسيره:
فعند أبي يوسف هو ما يستوعب الشهر.
ووجهه: أن هذا القدر أدنى ما يسقط به عبادة الصوم فكان التقدير به أولى.
وقال محمد: حده ما يستوعب الحول.
ووجهه: أن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كلها فكان التقدير به أولى (2) .
وروي عن أبي يوسف أن المطبق ما كان أكثر من يوم وليلة لسقوط الصلوات الخمس فصار كالميت.
وصحح ابن نجيم في البحر قول محمد أنه سنة (3) .
ولكن ذكر ابن عابدين (4) في حاشيته على البحر أن الفتوى على قول أبي يوسف، ونقل عن الخانية أن هذا قول أبي حنيفة وأن عليه الفتوى (5) .
أمَّا الشافعية فلم يشترطوا في الجنون أن تطول مدته في القول المعتمد عندهم بل قالوا ينعزل بالجنون وإن زال عن قرب (6) .
لكن لم يذكروا حد القرب.
__________
(1) بدائع الصنائع 6/38، والإنصاف مع المقنع والشرح 13/468.
(2) بدائع الصنائع 6/38، والبحر الرائق 7/189.
(3) البحر الرائق 7/189.
(4) هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، ولد سنة 1198 هـ، وتوفي سنة 1252 هـ، له مصنفات منها: رد المختار ويعرف بحاشية ابن عابدين، وله حاشية على البحر الرائق. انظر: الأعلام 6/42.
(5) حاشية ابن عابدين على البحر الرائق 7/189.
(6) نهاية المحتاج 5/55، ومغني المحتاج 3/232.(13/115)
ووجهه: أن الجنون لو قارن لمنع من الانعقاد فإذا طرأ أبطل العقد (1) .
وفي وجه: لاينعزل بجنون لايمتد بحيث تتعطل المهمات ويحوج إلى نصب قوام (2) .
أمَّا المالكية فقالوا: إن جنون الوكيل لايوجب عزله إن برأ فكذا جنون الموكّل، وإن لم يبرأ فإن طال جداً نظر السلطان في أمره (3)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) العزيز 5/255، وروضة الطالبين 4/330.
(3) منح الجليل 6/417، وحاشية الدسوقي 3/396.
* * *
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
أحكام القرآن: لأبي بكر محمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي المتوفى سنة 543 هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، نشر دار الفكر - بيروت.
أحكام القرآن: تأليف: أحمد بن علي الرازي الجصاص، المتوفى سنة 370 هـ، تحقيق: محمد صادق قمحاوي، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت 1405 هـ.
أدب القاضي: لأبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، تحقيق: الدكتور حسين خلف الجبوري، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م، نشر: مكتبة الصديق للنشر والتوزيع، الطائف - المملكة العربيَّة السعوديَّة.
أدب القاضي: للخصاف وشرحه لأبي بكر أحمد بن علي الرازي، المتوفى سنة 370 هـ، طبعة عام 1400 هـ، نشر: السيد أسعد طرابزوني الحسيني.
الأذكار: للنووي، الإمام الفقيه المحدث محيي الدين أبي زكريا بن يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة 676 هـ، تحقيق وتخريج: عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثالثة، دار الهدي للنشر والتوزيع، الرياض.
الإرشاد إلى سبيل الرشاد: تأليف: الشريف محمد بن أحمد بن محمد بن أبي موسى، المتوفى سنة 428 هـ، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1419 هـ، نشر: مؤسسة الرسالة.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى عام 1399 هـ - 1979 م، المكتب الإسلامي.
أصول البزدوي: للإمام فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن حسين البزدوي، مطبوع بهامش كشف الأسرار، الناشر: الصدف ببلشرز، كراتشي - باكستان.
أصول مذهب الإمام أحمد: تأليف: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الرابعة 1416 هـ - 1996 م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
الأعلام: تأليف خير الدين الزركلي، المتوفى سنة 1396 هـ، الطبعة الخامسة 1980 م، الناشر: دار القلم للملايين، بيروت - لبنان.
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: تأليف أبي النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي، المتوفى سنة 968 هـ، تحقيق: د. عبد الله التركي، نشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع.
الأم: تأليف الإمام محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى سنة 204 هـ، الطبعة الأولى، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى سنة 855 هـ تحقيق: د. عبد الله التركي، مطبوع مع المقنع والشرح الكبير، نشر دار هجر.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق: تأليف: زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن بكر بن نجيم، الطبعة الثالثة 1413 هـ، دار المعرفة، بيروت - لبنان.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: تأليف: علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، المتوفى سنة 587 هـ، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت.
البداية والنهاية: لأبي الفداء، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774 هـ، طبعة عام 1402، الناشر: دار الفكر - بيروت.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: لمحمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1250 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت.
بلغة السالك لأقرب المسالك: تأليف: أحمد الصاوي، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
البهجة في شرح التحفة: لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي المتوفى سنة 1258 هـ، الطبعة الأولى 1418 هـ، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
التاج والإكليل بشرح مختصر خليل مطبوع مع مواهب الجليل: لأبي عبد الله محمد بن يوسف ابن أبي القاسم، الشهير بالمواق، المتوفى سنة 897 هـ، الطبعة الأولى، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: للإمام برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن فرحون المالكي، تخريج وتعليق: الشيخ / جمال مرعشلي، الطبعة الأولى 1416 هـ، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفى سنة 742 هـ، الطبعة الثانية معادة بالأوفست، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
تصحيح الفروع: لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى سنة 885 هـ، مطبوع مع الفروع لابن مفلح، الطبعة الرابعة: 1405 هـ - 1985 م، الناشر: عالم الكتب.
التعليقات السنية على الفوائد البهية: لمحمد بدر الدين أبو فراس النعساني، مطبوع مع الفوائد البهية في تراجم الحنفية، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
التفريع: لأبي القاسم عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن الجلاب البصري، المتوفى سنة 378 هـ، تحقيق: د. حسين سالم الدهماني، الطبعة الأولى 1408 هـ، الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت.
تكملة فتح القدير المسمّى (نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار) : تأليف شمس الدين أحمد ابن قودر، المعروف بقاضي زاده، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: تأليف: أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ، تحقيق: مجموعة من العلماء، الطبعة الثانية عام 1402 هـ، نشر: مطبعة فضالة المحمدية - المغرب.
تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، تصحيح: عبد الله هاشم، ط: المدينة المنورة 1384 هـ - 1964 م.
الجامع لأحكام القرآن الكريم: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المتوفى سنة 671 هـ، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، توزيع: مكتبة عباس أحمد الباز - مكة المكرمة.
جامع العلوم والحكم: تأليف الإمام ابن رجب الحنبلي، تحقيق: فؤاد بن علي حافظ، الطبعة الأولى عام 1419 هـ، مؤسسة الريان، بيروت - لبنان.
الجرح والتعديل: تأليف: عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس، المتوفى سنة 327 هـ، الطبعة الأولى سنة 1326 هـ، مطبعة دائرة المعارف في الهند.
الجوهر النقي: تأليف: علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني، الشهير بابن التركماني، المتوفى سنة 745 هـ، مطبوع مع السنن الكبرى للبيهقي، الطبعة الأولى.
حاشية ابن عابدين على البحر الرائق: تأليف: محمد أمين الشهير بابن عابدين، مطبوع مع البحر الرائق.
حاشية إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: لأبي بكر السيد البكري بن محمد شطا الدمياطي، الناشر: دار الفكر.
حاشية الخرشي على مختصر خليل: تأليف: محمد بن عبد الله بن علي الخرشي، المتوفى سنة 1101 هـ، الطبعة الأولى 1417 هـ / 1997 م، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
حاشية الدسوقي: لمحمد بن عرفة الدسوقي، المتوفى سنة 1230 هـ، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى، توزيع: دار الفكر، بيروت - لبنان.
حاشية رد المحتار: لمحمد أمين، المعروف بابن عابدين، المتوفى سنة 1252 هـ، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: تأليف أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملسي المتوفى سنة 1096 هـ، بهامش نهاية المحتاج، الناشر: مكتبة دار الباز - مكة المكرمة، طبعة عام 1414 هـ، دار الكتب العلمية.
حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: لأحمد الشلبي، مطبوع مع تبيين الحقائق للزيلعي، الطبعة الثانية معادة بالأوفست، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
حاشية العدوي على الخرشي: للشيخ علي بن أحمد العدوي الصعيدي، مطبوع بهامش شرح الخرشي، نشر: دار صادر - بيروت.
حاشية قرة عيون الأخيار تكملة ردّ المحتار: لمحمد علاء الدين أفندي، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
حاشية منتهى الإرادات: لعثمان بن أحمد بن سعيد النجدي، الشهير بابن قائد، المتوفى سنة 1097 هـ مطبوع مع منتهى الإرادات، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الطبعة الأولى 1419 هـ، مؤسسة الرسالة.
الحاوي الكبير: لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.
حلي المعاصم لفكر ابن عاصم: للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد التاودي، المتوفى سنة 1209 هـ مطبوع مع البهجة، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1998 م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 هـ، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني المدني، نشر: دار المعرفة - بيروت.
الدر المختار شرح تنوير الأبصار: لعلاء الدين محمد بن علي بن محمد بن علي، المعروف بالحصكفي المتوفى سنة 1088 هـ، مطبوع مع حاشية رد المحتار لابن عابدين، وتكملتها لمحمد علاء الدين أفندي، الطبعة الأولى 1415 هـ، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، وتوزيع دار الباز.
الديباج المذهّب: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن فرحون، المتوفى سنة 799 هـ، تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، الناشر: دار التراث للنشر والطبع – القاهرة.
الذخيرة: تأليف: أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي، المعروف بالقرافي، المتوفى سنة 684 هـ، الطبعة الأولى عام 1994 هـ، الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت.
الذيل على طبقات الحنابلة: للحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي الشهير بابن رجب، المتوفى سنة 795 هـ، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
روضة الطالبين: لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة 676 هـ، الطبعة الثانية 1405 هـ، الناشر: المكتب الإسلامي.
روضة القضاة وطريق النجاة: لأبي القاسم علي بن محمد بن محمد بن أحمد الرحبي السمناني، المتوفى سنة 499 هـ، تحقيق: صلاح الدين الناهي، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ودار الفرقان عمان.
سبل السلام: لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، المتوفى سنة 852 هـ، تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي، الطبعة الرابعة، نشر: دار إحياء التراث العربي 1379 هـ.
سنن ابن ماجة: للإمام أبي عبد الله محمد القزويني، المتوفى سنة 275 هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية 1413 هـ، توزيع: دار سحنون - تونس، ضمن موسوعة الكتب الستة وشروحها.
سنن أبي داود: للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث المتوفى سنة 275 هـ، ضمن سلسلة موسوعة السنة الكتب الستة وشروحها، الطبعة الثانية 1413 هـ، نشر: دار سحنون ودار الدعوة.
سنن البيهقي (السنن الكبرى) : لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، المتوفى سنة 458 هـ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، نشر: مكتبة دار الباز - مكة المكرمة 1414 هـ - 1994 م.
سنن الترمذي (الجامع الصحيح) : لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة المتوفى سنة 297 هـ، ضمن موسوعة السنة (الكتب الستة وشروحها) الطبعة الثانية، نشر: دار سحنون ودار الدعوة.
سنن الدارقطني: لعلي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، المتوفى سنة 385 هـ، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، نشر: دار المعرفة - بيروت 1386 هـ / 1966 م.
سنن النسائي (السنن الكبرى) : لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المتوفى سنة 303 هـ ضمن موسوعة السنة (الكتب الستة وشروحها) ، الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشران: دار سحنون ودار الدعوة.
سير أعلام النبلاء: لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، المتوفى سنة 748 هـ، الطبعة الأولى سنة 1402 هـ، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: للشيخ محمد محمد مخلوف، الناشر: دار الفكر - بيروت.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفرج عبد الحي بن العماد الحنبلي، المتوفى سنة 1089 هـ الطبعة الأولى عام 1399 هـ، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
شرح الزرقاني على الموطأ: لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني، طبعة عام 1398 هـ، نشر: دار المعرفة - بيروت.
الشرح الصغير: لأحمد الدردير بهامش بلغة السالك، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت.
الشرح الكبير: لأبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر بن أحمد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 682 هـ مطبوع مع المقنع والإنصاف، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، نشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة موزعة على نفقة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.
الشرح الكبير على مختصر خليل بهامش حاشية الدسوقي: تأليف أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد العدوي، الشهير بالدردير، المتوفى سنة 1201 هـ، مطبوع مع حاشية الدسوقي، نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
شرح منتهى الإرادات: للشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، المتوفى سنة 1051 هـ، نشر: عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى عام 1414 هـ - 1993 م.
شرح النووي على مسلم: للإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة 676 هـ، طبعة دار الفكر عام 1401 هـ، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
صحيح البخاري: للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة 256 هـ، ضمن موسوعة السنة (الكتب الستة وشروحها) ، الطبعة الثانية، الناشران: دار سحنون ودار الدعوة.
صحيح مسلم (وهو الجامع الصحيح) : للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة 261 هـ، ضمن موسوعة السنة (الكتب الستة وشروحها) ، الطبعة الثانية الناشران: دار سحنون ودار الدعوة.
طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، المتوفى سنة 527 هـ، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
الطبقات السنية في تراجم الحنفية: لتقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري الغزي الحنفي، المتوفى سنة 1005 هـ، تحقيق: د. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى 1403 هـ، الناشر: دار الرفاعي بالرياض.
طبقات الشافعية: لأبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن محمد بن قاضي شهبة، المتوفى سنة 851 هـ، تحقيق: الحافظ عبد العليم خان، طبعة عام 1407 هـ، الناشر: دار الندوة الجديدة - بيروت.
طبقات الشافعية: لأبي بكر بن هداية الله الحسيني، المتوفى سنة 1014 هـ، تحقيق: عادل نويهض، الطبعة الثانية 1979 م، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت.
طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، المتوفى سنة 771 هـ، الطبعة الثانية، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
طبقات الفقهاء: تأليف: إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، أبو إسحاق، المتوفى سنة 476 هـ تحقيق: خليل الميس، نشر دار القلم - بيروت.
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير: تأليف: الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي الشافعي، المتوفى سنة 623 هـ، تحقيق: الشيخ علي محمد معوّض، والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأولى 1417 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
العناية: تأليف محمد بن محمود بن أحمد الحنفي، مطبوع مع فتح القدير لابن الهمام، الطبعة الأولى عام 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر لابن نجيم: وهو شرح السيد أحمد بن محمد الحنفي الحموي، الطبعة الأولى 1405 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
الفائق: لمحمود بن عمر الزمخشري، المتوفى سنة 538 هـ، الطبعة الثانية، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعرفة - لبنان.
فتاوى قاضيخان - وتسمى الفتاوى الخانية: تأليف: فخر الدين حسن منصور الأوزجندي الفرغاني الحنفي المعروف بقاضيخان، ط مع الفتاوى الهندية، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
الفتاوى الهندية: للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 هـ الطبعة الأولى عام 1418 هـ - 1997 م، نشر مكتبة دار السلام - الرياض ومكتبة دار الفيحاء للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق.
فتح القدير: تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام، المتوفى سنة 681 هـ علق عليه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
الفتح المبين في طبقات الأصوليين: تأليف عبد الله بن مصطفى المراغي، الطبعة الثانية 1394 هـ، الناشر: محمد أمين وشركاه، بيروت - لبنان.
الفروع: تأليف أبي عبد الله محمد بن مفلح، المتوفى سنة 763 هـ، الطبعة الرابعة 1405 هـ - 1985 م، عالم الكتب - بيروت.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية: تأليف محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، طبع ونشر: دار المعرفة بيروت - لبنان.
القاموس المحيط: تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي، نشر: دار العلم للجميع بيروت - لبنان.
قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، المتوفى سنة 660 هـ، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
القواعد في الفقه الإسلامي: للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، المتوفى سنة 795 هـ الناشر: دار الباز للنشر والتوزيع - مكة المكرمة.
الكافي في فقه أهل المدينة: تأليف أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، المتوفى سنة 741 هـ، الطبعة الأولى 1407 هـ، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
الكافي: لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر: المكتب الإسلامي، وتوزيع: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الكتاب: لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري الحنفي، المتوفى سنة 428 هـ، مطبوع مع شرحه اللباب عام 1400 هـ، نشر: المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.
كشاف القناع على متن الإقناع: لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، الناشر: مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي: تأليف: عبد العزيز البخاري، الناشر: الصّدَف ببلشرز، كراتشي – باكستان.
اللباب في شرح الكتاب: تأليف الشيخ عبد الغني الدمشقي الميداني الحنفي، الناشر: المكتبة العلمية بيروت - لبنان.
لسان الحكام: لإبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، الطبعة الثانية، نشر: مطبعة البابي الحلبي - القاهرة 1393 هـ.
لسان العرب: للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري المتوفى سنة 711 هـ، الناشر: دار صادر - بيروت.
المبسوط: لشمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، المتوفى سنة 438 هـ، طبعة معادة بالأوفست سنة 1398 هـ، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
المبدع في شرح المقنع: لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح، المتوفى سنة 884 هـ، الناشر: المكتب الإسلامي.
المحاماة رسالة وأمانة: لأحمد حسن كرزون، الطبعة الأولى عام 1413 هـ - 1993 م دار ابن حزم - بيروت.
المحلى: لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، نشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت.
مختار الصحاح: لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، المتوفى سنة 721 هـ، تحقيق: محمود خاطر، نشر: مكتبة لبنان 1415 هـ.
مختصر سنن أبي داود: للحافظ المنذري ومعه تهذيب السنن لابن القيم، تحقيق: أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، طبعة عام 1400 هـ، نشر: دار المعرفة - بيروت.
مختصر المزني على الأم: للإمام أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، مطبوع مع كتاب الأم الطبعة الأولى 1413 هـ، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
المستوعب: للإمام نصير الدين محمد بن عبد الله السامري الحنبلي، دراسة وتحقيق: د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، الطبعة الأولى 1420 هـ، دار خضر للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
المستدرك على الصحيحين: للإمام أبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، المتوفى سنة 405 هـ، نشر: دار الكتاب العربي - بيروت.
مصنف عبد الرزاق: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 211 هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية 1403 هـ، توزيع: المكتب الإسلامي.
المصنف في الأحاديث والآثار: للإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان أبي بكر ابن أبي شيبة، المتوفى سنة 235 هـ، نشر: الدار السلفية، بومباي - الهند.
المعونة على مذهب عالم المدينة الإمام مالك بن أنس: للقاضي عبد الوهاب البغدادي، تحقيق: الدكتور حميش عبد الحق، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الرياض - الطبعة الأولى 1415 هـ.
المغني: تأليف: أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى 1406 هـ / 1986 م، نشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع.
مغني المحتاج إلى معرفة المنهاج: لمحمد بن أحمد الشربيني الخطيب، المتوفى سنة 977 هـ، الناشر: دار الفكر العربي 1398 هـ.
الممتع في شرح المقنع تصنيف: زين الدين المنجى التنوخي الحنبلي، دراسة وتحقيق: د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، الطبعة الثانية 1418 هـ، نشر: دار خضر للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
المنتقى شرح موطأ مالك: لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفى سنة 494 هـ، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى التي طبعت سنة 1331 هـ، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت.
المنثور في القواعد: للزركشي بدر الدين محمد بن بهادر الشافعي، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود، طبعة معادة بالأوفست عن الطبعة الأولى عام 1402 هـ - 1982 م.
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد: تأليف: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الطبعة الأولى 1410 هـ، الناشر: مكتبة الرشد الرياض.
المقدمات الممهدات: تأليف: أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المتوفى سنة 520 هـ، تحقيق: الدكتور محمد حجي، الطبعة الأولى 1408 هـ، نشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان.
المقنع: لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620 هـ، تحقيق: د. عبد الله التركي، مطبوع مع الشرح الكبير والإنصاف، الطبعة الأولى 1415 هـ، نشر: دار هجر.
مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري: د. محمد بلتاجي، الطبعة الثانية 1420 هـ، مكتبة البلد الأمين.
منتهى الإرادات: لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي، الشهير بابن النجار، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى عام 1419 هـ، نشر: مؤسسة الرسالة.
منح الجليل شرح على مختصر خليل: للشيخ محمد عليش، الطبعة الأولى عام 1404 هـ - 1984 م، نشر: دار الفكر، بيروت - لبنان.
الموافقات في أصول الشريعة: لأبي إسحاق الشاطبي، نشر: دار المعرفة، بيروت - لبنان
مواهب الجليل شرح مختصر خليل: لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي، المعروف بالحطاب، المتوفى سنة 954 هـ، ضبط وتخريج الشيخ زكريا عميرات، الطبعة الأولى عام 1416 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، نشر: مكتبة دار الباز - مكة المكرمة.
الموطأ: للإما مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللهُ - ضمن (موسوعة الكتب الستة وشروحها) ، الطبعة الثانية، نشر: دار سحنون، ودار الدعوة.
نصب الراية لأحاديث الهداية: لأبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، المتوفى سنة 762 هـ، الطبعة الثانية 1393 هـ، الناشر: المكتبة الإسلامية - الهند.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي، الشهير بالشافعي الصغير، المتوفى سنة 1004 هـ، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للإمام محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1250 هـ، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م، الناشر: دار الكلم الطيب - بيروت، توزيع: دار المغني - الرياض.
وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية: للدكتور محمد الزحيلي، الطبعة الثانية 1414 هـ - 1994 م، دمشق - بيروت.
وفيات الأعيان: لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، المتوفى سنة 681 هـ، الناشر: دار صادر – بيروت.
الهداية شرح بداية المبتدي: لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني، مطبوع مع فتح القدير لابن الهمام طبعة عام 1415 هـ، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت.(13/116)
فالمالكية إذن لم يضعوا للجنون حداً معلوماً ينتهي إليه.
* * *
الخاتمة:
وبعد: لقد توصلت من خلال هذا البحث إلى نتائج أهمها:
تميز التشريع الإسلامي في شأن التوكيل بالخصومة، إذ تعد نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى الهدف منها معاونة صاحب الحق لاستعادة حقه، ورد الباطل.
الوكالة بوجه عام الأصل فيها الجواز، وقد تنتظمها الأحكام الخمسة، وكذا التوكيل بالخصومة سواء كان الموكل المدعي أو المدعى عليه.
ينبغي التحرز عن الخصومة قدر الإمكان، ولصاحب الحق المطالبة بحقه سواء بنفسه أو بوكيله.
يجوز التوكيل بإثبات حقوق الله - عَزَّ وَجَلَّ - سواء كانت مِمَّا لايحتاج في إثباته إلى خصومة كحد الزنا والشرب، أو كانت مِمَّا يحتاج إلى خصومة كحد السرقة والقذف.
يجوز التوكيل في استيفاء الحدود سواء كان الموكِّل حاضراً أو كان غائباً.
يجوز التوكيل في حقوق الآدميين، سواء كان الحق قصاصاً فيوكل في إثباته واستيفائه، أو كان حقاً مالياً غيره، وسواء رضي الخصم أو لم يرض وفي حال حضوره وغيابه.
من شروط الوكالة بالخصومة أن تثبت الوكالة عند القاضي.
إذا وكل بالخصومة عند القاضي فلابد من الإشهاد على وكالته من يعرف اسمه ونسبه سواء عرفه القاضي أو لم يعرفه.
إذا ادّعى شخص أن غائباً وكله بالخصومة ولم يكن أثبت وكالته عند القاضي فلابُد من إثبات الوكالة قبل سماع الدعوى ولايشترط لإثباتها حضور الخصم.
تثبت الوكالة بشهادة رجلين بلا نزاع، وتثبت بشهادة رجل وامرأتين فيما يتعلق بالأموال كالتوكيل في المطالبة بالمال، ولايقبل فيما عدا ذلك إلاَّ رجلان عدلان، ولاتثبت بإقرار الخصم أو بتصديق الخصم للوكيل.
لايصح التوكُّل في الخصومة عن المبطل إذا علم أو ظن كونه مبطلاً بقصد إعانته على باطلة أمَّا إذا قصد من الوكالة عنه إظهار باطلة ورده عنه، وإيصال الحق إلى مستحقه فيجوز، والله أعلم.(13/117)
لايجوز التوكيل في الخصومة بقصد الإضرار بالخصم ولايُمكن منه.
يجوز توكيل أكثر من واحد في الخصومة وإن لم يرض الخصم.
من وكل وكيلين وأذن لكل واحد منهما أن يستقل بالخصومة فلكل واحد منهما أن يستقل بها، وإن لم يأذن في الاستقلال لم يجز أن يستقل بها أحدهما، وإن حدث من تعدد الوكلاء شغب في مجلس القضاء فللقاضي منعهما من الشغب، وذلك داخل في سلطته.
وكيل المدعي يدعي، ويقيم البينة، ويسعى في تعديلها ويطلب الحكم والقضاء ويفعل ما يقع وسيلة إلى الإثبات.
ووكيل المدعى عليه ينكر ويطعن في الشهود ويسعى في الدفع بما يُمكنه.
ليس للوكيل أن يصالح، ولا أن يبرئ الخصم بلا نزاع.
لايصح إقرار الوكيل على موكِّله في الوكالة المطلقة.
يجوز للموكِّل أن يمنع الوكيل من الإقرار، ويجوز له أن يأذن فيه، ولابُدّ حينئذٍ من تعيين ما يقر به، وأن يكون من معنى الخصومة، وأن لايكون إقراره لمن يتهم عليه، وأن لايكون في حد أو قصاص، وأن يكون على المعروف.
من وكل وكيلاً ممنوعاً من الإقرار والإنكار ولم يكن حاضراً مجلس القضاء أو قريباً منه فللخصم أن يمتنع من مخاصمة الوكيل حتى يجعل له موكّله شيئاً من ذلك.
من وكل وكيلاً للمطالبة بمال لم يكن له قبض المال إذا ثبت لموكِّله إلاَّ بإذن.
من وكَّل وكيلاً للمخاصمة عنه ونهاه أن يوكِّل غيره لم يجز أن يوكِّل غيره.
من وكَّل وكيلاً للمخاصمة عنه وأذن له التوكيل إذناً صريحاً كان له أن يوكل.
أمَّا إن أطلق الوكالة فلم ينهه عن التوكيل ولم يأذن له فيه فإن كان ممن يترفع عن ذلك عادة فله أن يوكِّل، أو كان مِمَّا يعجز عنه لكثرته وانتشاره فله أن يوكل في القدر الذي يعجز عنه، وفي القدر الذي لايعجز عنه خلاف والذي يظهر لي أن له التوكيل في الجميع.
ما يُمكنه عمل جميعه بنفسه ولايترفع عنه ليس له التوكيل فيه إلاَّ بإذن خاص.(13/118)
تجوز الوكالة بغير عوض، وتجوز بعوض سواء كان على سبيل الإجارة أو الجعالة.
الوكالة بغير عوض من العقود الجائزة من الطرفين لكل واحد منهما الفسخ.
أمَّا التي بعوض فإن كانت على سبيل الإجارة فهي لازمة من الطرفين، وإن كانت على سبيل الجعالة فهي لازمة في حق الجاعل بالشروع في العمل كأصلهما.
إذا كان الفسخ من جهة الوكيل لم يشترط علم الموكّل، أمَّا إن كان الفسخ من جهة الموكِّل فيشترط علم الوكيل به.
تنفسخ الوكالة بإقرار الوكيل على موكله حيث لم يوكله في الإقرار، وبموت الموكِّل وبموت الوكيل، وبخروج أحدهما عن أهليته بجنون ونحوه.(13/119)
منهاج الإمام مالك
في التعامل مع الأخبار المتعارضة
الدكتور محمد سعيد منصور
الأستاذ المساعد في أصول الفقه، كلية الحقوق، جامعة الأزهر، غزة
ملخص البحث
يبين هذا البحث كيفية تعامل الإمام مالك (مع الأخبار المتعارضة؛ لكونها ظنية الثبوت أو الدلالة؛ لإزالته بعد أن يُحَكِمَ ظنه من تلقاء نفسه، وفق قرائن تعين على النظر في ثبوتها؛ إذ تحف بكل سند من أسانيدها لمعرفة الصَّالِح فيما ينسب إلى النبي (منها للعمل به وترك ما سواه، وكذلك تعين في الكشف عن دلالتها؛ إذ قد يكون معناها قطعياً فلا تحتمل غير ما دلت عليه، وقد يكون ظنياً فتحتمل غيره، وعندئذٍ يمكن أن تُؤَوِّلَ بَعضُها بعضا، إما بصرف الظاهر منها بما يوافق الآخر في معناه، أو بتخصيص العام بالخاص، أو تقييد المطلق بالمقيد، أو بترجيح ما يقبل الترجيح بالمزية الداخلية أو الخارجية.
* * *
تقديم:
الحمد لله الذي وضع عنا ما كان على من قبلنا من إصرٍ وأغلال، وتعهد بحفظ الوحي بشقيه من الاختلاف والتغيير والزوال، كي نعبده أبداً عبادةً سليمة خالية من كل مظاهر الزيغ والضلال، والصلاة والسلام على سيد الرسل كافة محمد المبعوث لإزالة الإلحاد والانحلال، وعلى سائر المرسلين وآلهم وصحبهم صفوة الأجيال، وعلى كل من ساروا على نهجهم فحرموا الحرام وأحلوا الحلال.
أما بعد: فإن المستقرئ لكتب الفروع المختلفة يجد أن التعارض في المسألة الواحدة بين ظواهر الأدلة الصحيحة هو سبب الاختلاف فيها، وأنه بين الأخبار يشكل أكثر أنواعه وأعقدها بينها جميعاً نظرياً وعمليا، وقد عمل كل إمام مجتهد منهاجاً يقوم على قوانين وأسس ليسير على وفقه لدفعه بينها (1)
__________
(1) لحواشي والتعليقات
(*) هذا البحث سيكون –إن شاء الله تعالى- باكورة عمل للتعرض لمنهاج الأئمة الأربعة في التعامل مع الأدلة المتعارضة.(13/120)
، بحيث يسري عليها كلها بصورة إجمالية أيّاً كانت آية من قرآن، أو خبر، أو إجماع، أو قياس، أو ما عداها من أدلة الأحكام الشرعية، أما بصورة تفصيلية فإنه يختلف تبعاً لاختلاف طبيعة الدليل الذي يتعلق به، وأتناول في هذا البحث على وجه التحديد منهاج الإمام مالِك في التعامل مع الأخبار المتعارضة، معتمداً على الموارد والأدلة والقرائن الموجودة في كتب الفقه وأصوله والحديث وعلومه؛ لكشف النقاب عن هذا الموضوع الذي يعتبر من أهم الأدوات والوسائل التي تستخدم في استخراج الأحكام الشرعية العملية من الأحاديث النبوية، بعد تمحيصها وتحقيقها وفهمها على أكمل وجه وأتم شكل.
وقد جاء البحث بعد هذا التقديم الموجز في ثلاثة مباحث وخاتمة:
- أما المبحث الأول: فقد عرضت فيه للكلام عن: أوجه الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وجعلته في تسعة مطالب:
المطلب الأول: الجمع ببيان اتحاد مدلولي اللفظين.
المطلب الثاني: الجمع ببيان اختلاف المحل أو الحال.
المطلب الثالث: الجمع ببيان التقاء مدلولي الأمر أو النهي.
المطلب الرابع: الجمع بين الخبرين العامين.
المطلب الخامس: الجمع بين الخبرين الخاصين.
المطلب السادس: الجمع بين الخبرين لتعارضهما في العموم والخصوص المطلق.
المطلب السابع: الجمع بين الخبرين لتعارضهما في العموم والخصوص الوجهي.
المطلب الثامن: الجمع ببيان المقيد للمطلق.
المطلب التاسع: الجمع ببيان الاختلاف من جهة المباح.
- وأما المبحث الثاني: فقد خصصته لدراسة: النسخ بين الأحاديث المتعارضة.
- ثم عقبتها بالمبحث الثالث، وهو: الترجيح بين مختلف الحديث، وجعلته في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الترجيح من جهة الأسانيد وما يتعلق بها.
المطلب الثاني: الترجيح من جهة المتون وما يتعلق بها.
المطلب الثالث: الترجيح باعتبار أمر خارجي.
- وأخيراً الخاتمة: وضمنتها أهم ما توصلت إليه من نتائج.(13/121)
والله تعالى أسأل أن يلهمنا الصواب والسداد، وأن يوفقنا إلى الخير والرشاد.
30 رمضان 1421هـ الموافق 26 ديسمبر 2000م.
المبحث الأول: أوجه الجمع بين الأحاديث المتعارضة
وتحته تسعة مطالب
إذا كان النسخ بين الأخبار محتملاً فإن مالكاً يقوم بالجمع بينها جميعا) (1) (، وسأتناول -إن شاء الله تعالى- منهاجه في الجمع من خلال أنواعه التي تنتظم تحت المطالب الآتية:
المطلب الأول: الجمع ببيان اتحاد مدلولي اللفظين
إذا أفاد مدلول كل من الخبرين حكماً يخالف الآخر، فالأولى بدلاً من توهيم أحدهما وإطراحه وإعمال ما يعارضه، القيام بمحاولة تأويل ما يحتمل التأويل، كي يتفق كلاهما في المعنى المراد، ولكن بشرط ألاَّ يخرج به عن روح الشريعة، ولا يخالف إجماع الأمة، ومن أمثلة ذلك: ما جاء عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي (أنها قالت: (ما طال عَلَيَّ وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا)) (2) (.
فهذا الحديث يفيد أن يد السارق لا تقطع حتى تبلغ سرقته ربع دينار فأزيد.
فيقابله: ما رواه أبو هريرة (عن النبي (أنه قال: {لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده} ) (3) (.
فهذا الحديث يدل على أن يد السارق تقطع في القليل والكثير، وذلك يوافق عموم قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما () (4) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 176، 177، وابن الحاجب: المختصر 2/309، 310، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 421، والشاطبي: الموافقات 4/88، والزركشي: البحر المحيط 6/135، والعبادي: الآيات البينات 4/290- 296، والشنقيطي: نشر البنود 2/273
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (1517) ، والمدونة 6/2853، واللفظ له، والبخاري (6789) ، ومسلم (1/ 1684) .
(3) متفق عليه: البخاري (6799) ، ومسلم (7/ 1687) ، وكلاهما بلفظه.
(4) من الآية 38 من سورة المائدة.(13/122)
فيبين مالك أن الجمع بين هذين الحديثين ممكن؛ وذلك بجعل حديث عائشة رضي الله عنها أصلا، فيقطع في ربع دينار فصاعدا، وكذا فيما قيمته ذلك كذلك) (1) (؛ فكأنه ذهب إلى أن الرسول (أراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فأكثر، كبيض الحديد لا بيض الدجاج وما ماثله، وكذا الحبل لعله يرى أن منها ما يساوي النصاب المقرر أو يزيد عليه كحبل السفينة وشبهه، وبذلك يزول التعارض) (2) (.
المطلب الثاني: الجمع ببيان اختلاف المحل أو الحال
__________
(1) انظر: الموطأ (1518) ، والمدونة 6/ 2852، 2853.
(2) انظر: الشيرازي: اللمع 9، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/ 160، 161، وابن حجر: الفتح 12/ 108، 109.(13/123)
إذا ورد خبران لبيان شيء واحد بحكمين متناقضين، تبعاً لتباين إدراك مَنْ يلتمسهما؛ إذ هنالك من لا ينتبه إلى سبب تضاد المحل أو الحال اللذين يُسَنُّ فيهما الحكمان المتغايران فيعتقد أن بينهما تعارضا، وفي الحقيقة أنه منتفٍ ألبتة؛ نظراً لأنه يمكن أن يحمل كل واحد منهما على محل أو حال مختلفين تماماً عن بعضهما، فيعمل بكل واحد في موضعه المناط به، بحسب القرائن التي ترشد إليه) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (، أنه كان وهو بمصر يقول: والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس) (2) (، وقد قال رسول الله (: {إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها بفرجه} ) (3) (.
وما روي عن أبي هريرة (أن النبي (: (نهى أن تستقبل القبلة لبول أو غائط)) (4) (.
فيعارضهما: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (إن أُناساً يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس) ، قال عبد الله: (لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله (على لبنتين مستقبل بيت المقدس)) (5) (؛ أي: لحاجته، هذه رواية مالك عنه، وفي غير رواية مالك: (مستقبل بيت المقدس مستدبر القبلة) ، وهو مفسر لما وقع في روايته) (6) (.
__________
(1) انظر: الشافعي: الرسالة 214، والغزالي: المستصفى 2/ 395، وابن قدامة: روضة الناظر 3/ 1029، وابن السبكي: الإبهاج 2/ 211، وابن نجيم: فتح الغفار 2/ 113، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 144.
(2) الكرابيس: واحداها كرباس، وهو الكَنِيف؛ أي الخلاء، الذي يكون مشرفاً على سطح بقناة إلى الأرض، فإذا كان أسفل فليس بكرباس. انظر: ابن منظور: لسان العرب 6/ 194، 9/ 310.
(3) ... أخرجه: مالك في الموطأ (454) واللفظ له، والبخاري (394) ، ومسلم (59/ 264) .
(4) أخرجه: مالك في المدونة 2/ 569.
(5) أخرجه: مالك في الموطأ (456) ، والمدونة 2/ 569.
(6) انظر: مالك: المدونة 2/ 569.(13/124)
وقد بين مالك أن استعمال هذه الأحاديث كلها ممكن؛ إذ جعل حديث ابن عمر رضي الله عنهما مخصصاً لحديث أبي أيوب وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: إنما عنى بذلك الصحاري والفيافي ولم يعنِ بذلك القرى والمدائن، هذا قوله في المدونة، فعلى قوله فيها يجوز استقبال القبلة واستدبارها في القرى والمدائن من غير ضرورة إلى ذلك) (1) (.
وقد تعرض مالك لكثير من الأخبار التي تعارضت بسبب اختلاف أحوالها، وقام بالجمع بينها، وإزالة ما يكتنفها من تعارض، وذلك بإنزال كل واحد بحسب ما يقتضيه حاله؛ كي يعمل بها جميعا؛ فمن ذلك: مسألة محل سجود السهو) (2) (، والصيام في السفر) (3) (، والتقبيل للصائم) (4) (، وأكل المحرم للحم الصيد الذي يهدى له) (5) (، والخِطبة على الخِطبة) (6) (، وحضانة الغلام) (7) (.
المطلب الثالث: الجمع ببيان التقاء مدلولي الأمر أو النهي
__________
(1) المصدر نفسه، نفس الموضع، بتصرف يسير.
(2) انظر: مالك: الموطأ (206- 215) ، والمدونة 1/ 158- 164، والبخاري (714، 1224) ، ومسلم (97/ 573، 101/ 574) .
(3) انظر: مالك: الموطأ (654- 662) ، والمدونة 1/ 209، 210.
(4) انظر: مالك: الموطأ (646، 652) ، والمدونة 1/ 205، وأبو داود (2385) ، والخطابي: معالم السنن 3/ 262.
(5) انظر: مالك: الموطأ (772- 791) ، والمدونة 1/ 390، وابن العربي: أحكام القرآن 2/ 199- 201، وابن قدامة: المغني 3/ 313، والكحلاني: سبل السلام 2/ 194، والشوكاني: نيل الأوطار 5/ 20.
(6) انظر: مالك: الموطأ (1100، 1101) ، وأحمد: المسند 6/ 412، 413.
(7) انظر: ابن رشد: بداية المجتهد 2/ 67، والشوكاني: نيل الأوطار 6/ 328- 332.(13/125)
أ- الجمع بحمل الأمر على الندب: إذا ورد خبران أحدهما يقتضي الفعل على جهة الوجوب، والثاني يجعل فعل ذلك الفعل مندوبا، فيصير حد التأويل الراجح جعل الخبر النادب قرينة صارفة لظاهر الأمر في الخبر الموجب من الوجوب إلى الندب، بحيث لا يترتب على فعله إثم) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن المغيرة بن شعبة (أن النبي (: (مسح أعلى الخف وأسفله)) (2) (.
فيقابله: ما روي عن علي (أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله (: يمسح على ظاهر خفيه)) (3) (.
فذهب مالك مذهب الجمع بين هذين الحديثين، حيث حمل حديث المغيرة (على الاستحباب، وحديث علي (على الوجوب) (4) (.
ومنها: ما روي عن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله (قال: {غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم} ) (5) (.
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (قال: {إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل} ) (6) (.
__________
(1) انظر: الغزالي: المستصفى 1/ 387، والكلوذاني: التمهيد 1/ 174، والقرافي: نفائس الأصول 8/ 3848، 3849، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 3/ 461، والشوكاني: إرشاد الفحول 177.
(2) أخرجه: الترمذي (97) ، وابن ماجه (550) ، وكلاهما بلفظه، وانظر أيضا: مالك: الموطأ (70) ، والبخاري (182) ، ومسلم (75/ 274) .
(3) أخرجه: أبو داود (163) .
(4) انظر: مالك: المدونة 1/ 85، 86، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 22، والكحلاني: سبل السلام 1/ 58، 59، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 184.
(5) أخرجه: مالك في الموطأ (226) ، والبخاري (879) ، ومسلم (5/ 846) ، وكلهم بلفظه.
(6) أخرجه: مالك في الموطأ (227) ، والبخاري (877) ، وكلاهما بلفظه، ومسلم (1/ 844) .(13/126)
فيعارضهما: ما روي عن سالم بن عبد الله أنه قال: دخل رجل) (1) (من أصحاب رسول الله (المسجد يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: (أية ساعة هذه) ؟ فقال: (يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت) ، فقال عمر: (والوضوء أيضاً وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل)) (2) (.
وما روي عن سمرة بن جندب (أنه قال: قال رسول الله (: {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل} ) (3) (.
وقد جمع مالك بين هذه الأحاديث جميعا؛ حيث ذهب كما هو معروف من مذهبه إلى إمكانية حمل الأخبار التي صُرِّحَ فيها بأنه لا يجزئ غير الغسل على الندب، والقرينة الدالة عليه، هذه الأخبار المختلفة، والجمع بينها ما أمكن هو الواجب، وقد أمكن بهذا) (4) (.
وبالرغم من ذلك: "فالأحوط للمؤمن ألاَّ يترك غسل الجمعة") (5) (.
ومن الأوامر التي صرفها مالك من الوجوب إلى الندب: الغسل من غسل الميت) (6) (، واستئذان البكر) (7) (.
__________
(1) هو: عثمان بن عفان (. انظر: مسلم (4/ 845) .
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (225) واللفظ له، والبخاري (878) ، ومسلم (3، 4/ 845) .
(3) أخرجه: أبو داود (354) واللفظ له، والترمذي (497) ، والنسائي (1379) .
(4) انظر: ابن العربي: أحكام القرآن 4/ 253، والكاساني: البدائع 1/400، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 202، والقرافي: نفائس الأصول 8/ 3848، 3849، والكحلاني: سبل السلام 1/ 88، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 274، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 231، 232.
(5) الكحلاني: سبل السلام 1/88.
(6) انظر: الكحلاني: سبل السلام 1/ 69، 70، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 237- 239.
(7) انظر: مالك: الموطأ (1103- 1106) .(13/127)
ب- الجمع بحمل النهي على الكراهة: إذا ورد خبران وكان أحدهما ينهى عن فعل شيء، والثاني يجيزه بعينه، فَيُجْمَعُ بينهما بجعل الخبر المجيز دليلاً مانعاً للتحريم؛ لأنه بمقتضاه يمكن تأويل صيغة التحريم في الخبر المحرم من التحريم إلى الكراهة) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن أبي هريرة (: أن النبي (كان في جنازة، فرأى عمر امرأة فصاح بها، فقال النبي (: {دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب} ) (2) (.
وما روي عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)) (3) (، قال النووي: "معناه نهانا رسول الله (عن ذلك نهي كراهة تنزيه لا نهي عزيمة تحريم") (4) (.
فيعارضهما: ما روي عن علي (إذ قال: خرج رسول الله (، فإذا نسوة جلوس، قال: {ما يجلسكن؟} قلن: ننتظر الجنازة، قال: {هل تغْسلن؟} قلن: لا، قال: {هل تحملن؟} قلن: لا، قال: {هل تدلين فيمن يدلي؟} قلن: لا، قال: {فارجعن مأزورات غير مأجورات} ) (5) (.
غير أن مالكاً أجاز اتباع النساء للجنائز، وكرهه للشابة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من فتنة؛ لأنه حمل حديث النهي ههنا على التنزيه بقرينة حديثي الجواز) (6) (.
__________
(1) انظر: السرخسي: أصول السرخسي 1/19، والغزالي: المستصفى 1/ 435، وابن الحاجب: المختصر 2/91، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 139- 141، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 3/ 56- 60.
(2) أخرجه: ابن ماجه (1587) .
(3) متفق عليه: البخاري (1278) ، ومسلم (35/ 938) ، وكلاهما بلفظه.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 2/7.
(5) أخرجه: ابن ماجه (1578) .
(6) انظر: مالك: المدونة 1/200، وابن عبد البر: الكافي 1/ 283، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 2/7، والشوكاني: نيل الأوطار 4/111.(13/128)
ومن النواهي التي تفيد التنزيه لا التحريم عند مالك: ما جاء في الحجامة وإجارة الحجام) (1) (.
المطلب الرابع: الجمع بين الخبرين العامين
إذا كان الخبران على وزان واحد في القوة، وكذا العموم؛ بأن يصدق كل منهما على كل ما يصدق عليه الآخر، وأمكن الجمع بينهما بإنزال كل واحد على حال مغاير لما أنزل عليه الآخر، جمع؛ لأنه أولى من إلغاء أحدهما) (2) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن زيد بن خالد الجُهَنِي (، أن رسول الله (قال: {ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها} ) (3) (.
فيقابله: ما روي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما حيث قال: قال النبي (: {خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} . قال عمران: لا أدري أذكر النبي (بَعْدُ: قرنين أو ثلاثة، قال النبي (: {إن بعدكم قوماً يَخونون ولا يُؤتمنون، ويَشهدون ولا يُستشهدون، ويَنذرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمَنُ} ) (4) (.
وقد جمع مالك بينهما؛ إذ حمل الأول على المبادر بالشهادة وهو يعلم أن المشهود له عالم بها، فهذا قبيح؛ لعدم الحاجة إلى مبادرته حينئذٍ.
بخلاف من بادر ليخبر صاحبها، وهو لا يعلم بها، أو يخبر ورثته بعد وفاته، أو من يتحدث عنهم بذلك، فهذا حسن؛ لأنه يوصل إلى الحق) (5) (.
المطلب الخامس: الجمع بين الخبرين الخاصين
__________
(1) انظر: مالك: الموطأ (1778- 1780) ، وابن رشد: بداية المجتهد 2/252، 253، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 10/233، والكحلاني: سبل السلام 3/80، والشوكاني: نيل الأوطار 5/284- 286.
(2) انظر: المراجع نفسها، نفس المواضع.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (1399) ، ومسلم (19/ 1719) ، وكلاهما بلفظه.
(4) متفق عليه: البخاري (2651) واللفظ له، ومسلم (214/ 2535) .
(5) انظر: ابن حجر: الفتح 5/307، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 274.(13/129)
إذا كان الخبران على استواء واحد في القوة، وكذا خاصين في الدلالة؛ أي: أن كلاً منهما خاص بالنسبة للآخر؛ لعدم تناول أحدهما ما يتناوله الثاني، وأمكن الجمع بينهما بحمل كل واحد على خلاف ما يحمل عليه معارضه، جمع؛ لأنه أولى من إلغاء أحدهما كما سبق) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النساء يبعثن إليها بالدِّرْجَةِ) (2) (فيها الكُرْسُفُ) (3) (فيه الصُّفْرَةُ من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى تَرَيْنَ القَصَّة البيضاء)) (4) (، تريد بذلك الطهر من الحيضة) (5) (.
فيقابله: ما روي عن أم عطية رضي الله عنها إذ قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا)) (6) (، وفي رواية أخرى: (بعد الطهر شيئا)) (7) (.
وقد رام مالك في إحدى الروايتين عنه الجمع بينهما، إذ ذهب إلى أن خبر عائشة رضي الله عنها في إثر انقطاع الدم، وخبر أم عطية رضي الله عنها هو بعد انقطاعه، أو أن خبر عائشة رضي الله عنها هو في أيام الحيض، وخبر أم عطية رضي الله عنها في غير أيام الحيض) (8) (.
__________
(1) انظر: المحلي: شرح الورقات 57، والمارديني: الأنجم الزاهرات 196.
(2) الدِّرْجَة: جمع دُرْج، وهو كالسَّفَط؛ أي الوعاء الصغير تضع فيه المرأة خِف متاعها وطيبها. انظر: ابن الأثير: النهاية 2/111، وابن منظور: لسان العرب 2/ 269، 7/315.
(3) الكرسف: جمع كرسفة، وهو القطن. انظر: ابن الأثير: النهاية 4/163، وابن منظور: لسان العرب 9/297.
(4) القصة البيضاء: هي أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها الحائض كأنها قَصَّةٌ بيضاء لا يخالطها صُفرة ولا كُدْرة. انظر: ابن الأثير: النهاية 1/121، 4/71، وابن منظور: لسان العرب 7/77.
(5) أخرجه: مالك في الموطأ (126) .
(6) 49) أخرجه: البخاري (326) .
(7) أخرجه: أبو داود (307) .
(8) ابن رشد: بداية المجتهد 1/62 بتصرف يسير، وانظر أيضا: مالك: المدونة 2/ 592.(13/130)
المطلب السادس: الجمع بين الخبرين لتعارضهما في العموم والخصوص المطلق
إذا كان الخبران المتعارضان بينهما عموم وخصوص مطلق، بمعنى أن يكون أحدهما عاماً في دلالته والآخر خاصا، ثم تجتمع دلالتهما العامة والخاصة تلك في شيء، ثم ينفرد العام في أحدهما عن الخاص في الثاني بصدد شيء آخر، فحينئذٍ يُجمع بينهما بحمل العام على الخاص، وذلك بأن يعمل بالخاص فيما دلّ عليه، ويعمل بالعام فيما انفرد به عنه) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن أبي هريرة (أن رسول الله (انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله، فقال رسول الله (: {أصدق ذو اليدين؟} فقال الناس: نعم، فقام رسول الله (فصلى ركعتين أُخريين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع) (2) (
فيقابله: ما روي عن ابن مسعود (أنه قال: قال رسول الله (: {إن الله يُحدث من أمره ما يشاء، وإن الله (قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة} ) (3) (.
وما روي عن زيد بن أرقم (أنه قال: (إنْ كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي (يُكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت (حافظوا على الصلاة () (4) (الآية فأمرنا بالسكوت)) (5) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 176، والباجي: إحكام الفصول 1/160- 162، والإشارة 196- 198، والآمدي: الإحكام 4/474، 475، والعضد: شرح المختصر 2/314، والزركشي: البحر المحيط 6/165، والمحلي: شرح الورقات 55، 56، والمارديني: الأنجم الزاهرات 194، 195، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 674، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 159، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 206.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (206) واللفظ له، والمدونة 1/ 158، والبخاري (714) ، ومسلم (99/ 573) .
(3) أخرجه: أبو داود (924) واللفظ له، والنسائي (1220) .
(4) من الآية 238 من سورة البقرة.
(5) متفق عليه: البخاري (1200) واللفظ له، ومسلم (35/ 539) .(13/131)
وما روي عن معاوية بن الحكم (أنه قال: سمعت رسول الله (يقول: …: {إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن} ) (1) (.
وقد بين مالك أن هذه الأخبار غير متعارضة، وأن الجمع بينها ممكن؛ لأنه لم يتمسك بظواهر ما يقتضي منها تحريم الكلام في الصلاة كيف كان؛ أي: على العموم، وإنما ذهب إلى تخصيصها بالخبر الذي يفيد أن من تكلم فيها متعمداً على جهة إصلاحها، أو ناسيا، بنى على صلاته ولم يعدها، إن كان قليلاً غير متباعد، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، وإن كان مع الإمام فإنه يحمل ذلك عنه) (2) (.
وتعرض مالك كذلك لجملة من المسائل التي تباينت فيها الأخبار لتباين العام والخاص، فجمع بينها بحمل العام على الخاص، من ذلك: ما يقوله السامع للمؤذن) (3) (، واشتراط النصاب في زكاة النبات) (4) (وجناية البهيمة) (5) (.
__________
(1) أخرجه: مسلم (33/ 537) .
(2) انظر: مالك: المدونة 1/ 134، 158، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 143، 144، وابن قدامة: المغني 6/ 695.
(3) انظر: مالك: المدونة 1/ 101، 102، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 131، وابن قدامة: المغني 2/ 427، والكحلاني: سبل السلام 1/ 127، والشوكاني: نيل الأوطار 2/ 52.
(4) انظر: مالك: الموطأ (612) ، والمدونة 1/ 321، 322، والغزالي: المستصفى 2/ 141، وابن العربي: أحكام القرآن 1/ 313، 2/ 287، 288، والحازمي: الاعتبار 38، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 353، 354، وابن قدامة: المغني 6/ 695، 696، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 7/ 54، وابن الهمام: فتح القدير 2/ 241- 258، والمحلي: شرح الورقات 58، والمارديني: الأنجم الزاهرات 198، 199.
(5) انظر: مالك: الموطأ (1431) ، والبخاري (1499) ، ومسلم (45/ 1710) ، والدارقطني: سنن الدارقطني (3273، 3352) ، والبيهقي: السنن الكبرى 8/ 341، والكحلاني: سبل السلام 3/ 264، والشوكاني: نيل الأوطار 5/ 325.(13/132)
المطلب السابع: الجمع بين الخبرين لتعارضهما في العموم والخصوص الوجهي
إذا كان الخبران المتعارضان بينهما عموم وخصوص وجهي، وذلك بأن تلتقي دلالتهما العامة والخاصة على شيء، وينفرد أيضاً كل منهما في شيء آخر، فإنه والحال كذلك نخصص عموم الأول بالخصوص الكائن في الثاني، ثم نعكس؛ أي: نخصص عموم الثاني بالخصوص الوارد في الأول، ولا يتأتى العمل بأحدهما معيناً من غير مرجح لما في ذلك من التحكم) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: أن مالكاً قال في المدونة: "قال رسول الله (: {من نسي صلاة فليصلها حين يذكرها} ) (2) (، قال: ومن ذكر صلاة نسيها فليصلها إذا ذكرها في أية ساعة كانت من ليل أو نهار عند مغيب الشمس أو عند طلوعها، قال: وإن بدا حاجب الشمس فليصلها، قال: وإن غاب بعض الشمس فليصلها إذا ذكرها ولا ينتظر، وذلك أن رسول الله (قال: {من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها} ، قال مالك: فوقتها حين يذكرها فلا يؤخرها عن ذلك") (3) (.
ولمسلم عن أنس بن مالك (: (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها)) (4) (.
فيعارض ذلك أخبار أخرى تفيد انه لا تجوز الصلاة أيّاً كانت فريضة مقضية، أو سنة، أو نافلة، في أوقات معينة بإطلاق منها:
ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (قال: {لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها} ) (5) (.
__________
(1) انظر: المحلي: شرح الورقات 59، والمارديني: الأنجم الزاهرات 198، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 322.
(2) وأخرجه أيضا: مالك في الموطأ (24) ، والبخاري (597) ، ومسلم (314/ 684) .
(3) 1/ 153، 154، وانظر أيضا: ابن رشد: بداية المجتهد 1/ 123.
(4) 315/ 684) .
(5) أخرجه: مالك في الموطأ (515) ، والبخاري (585) ، ومسلم (289/ 828) ، وكلهم بلفظه.(13/133)
وما روي عن أبي هريرة (: أن رسول الله (: (نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس)) (1) (.
وما روي عن عقبة بن عامر (أنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله (ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نَقْبُرَ فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب)) (2) (.
إذاً إذا انضافت الأوقات المكروهة فيها الصلاة، المذكورة في هذه الأخبار إلى بعضها بعضاً كانت خمسة وهي: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وحين طلوع الشمس حتى ترتفع، وحين زوال الشمس وقت الظهر، وبعد العصر حتى تغيب الشمس، وحين تميل الشمس للغروب.
وقد بين مالك أن هذه الأخبار المتعارضة تدل على بعضها بعضا، لأن أول خبرين عامان في الأوقات؛ أي: أنهما يدلان على أنه يجوز لمن فاتته صلاة بنسيان أو نوم قضاؤها في أي وقت من الأوقات منهي عن الصلاة فيه أو غير منهي، خاصان من جهة الصلاة في الصلاة الفائتة، والأخبار الثلاثة المباينة لهما، عامة في الصلاة؛ أي: تدل على عدم الصلاة مطلقاً سواء كانت فائتة أم لا، وسواء كان لها سبب أم لا، خاصة من جهة الأوقات في الأوقات المكروهة كما ترشد أوجه دلالتها.
__________
(1) أخرجه: مالك في الموطأ (516) واللفظ له، والبخاري (588) ، ومسلم (285/ 825) .
(2) أخرجه: مسلم (293/ 831) .(13/134)
وبناء على ذلك أثبت مالك أن نهي النبي (ههنا لا يناط بكل صلاة لزمت المصلي بوجه من الوجوه، وإنما استثنى قضاء الصلوات المفروضة إذا فاتت لناسٍ في أي وقت ذكرها، أو لنائم حينما يستيقظ، وبذلك أكد أن النهي في هذه الأوقات يختص بالنوافل سواء كانت تفعل لسبب كتحية المسجد أم لغير سبب) (1) (.
المطلب الثامن: الجمع ببيان المقيد للمطلق
إذا تعارض خبران وكان أحدهما مطلقاً والثاني مقيدا، فإنه يجمع بينهما باتفاق العلماء بحمل المطلق على المقيد) (2) (؛ لكنهم اختلفوا في الحالات التي يجوز فيها الحمل من عدمه) (3) (، وكما لا يخفى عليك فإن المجال لا يتسع لذكرها ومناقشتها ههنا؛ ولكنَّ الذي يعنينا في هذا المقام ذكر أمثلة تطبيقية تبين مذهب مالك في الجمع ببيان المقيد للمطلق، وذلك فيما يأتي:
روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي (قال: {الطفل لا يُصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل} ) (4) (.
__________
(1) انظر: مالك: المدونة 1/ 153، 154، والشافعي: الرسالة 316- 330، والأم 1/ 97، 98، والخطابي: معالم السنن 1/ 250، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 123، 124، وابن قدامة: المغني 2/ 107، وابن الهمام: فتح القدير 1/ 217- 239، والكحلاني: سبل السلام 1/ 111- 114، والشوكاني: نيل الأوطار 2/ 25- 28.
(2) انظر: العضد: شرح المختصر 2/ 314، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 675، 676.
(3) انظر: الشيرازي: اللمع 43، 44، وابن قدامة: روضة الناظر 2/ 765- 769، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 266- 268، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 1/ 361- 368، والشوكاني: إرشاد الفحول 164- 166.
(4) أخرجه: الترمذي (1032) واللفظ له، وابن ماجه (1508) .(13/135)
فيعارضه: ما روي عن المغيرة بن شعبة (أن النبي (قال: {الطفل يُصلى عليه} ) (1) (.
فدفعاً للتعارض وجمعاً بين الحديثين، ذهب مالك إلى أن الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث ولا يُورث ولا يسمى ولا يغسل ولا يحنط حتى يستهل صارخا؛ لأنه حمل حديث المغيرة (المنتشر بلا قيد، على القيد الذي ذكر في حديث جابر () (2) (.
ومن ذلك: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين؛ وليقطعهما أسفل من الكعبين)) (3) (.
فيقابله: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (سمعت النبي (يخطب بعرفات من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين)) (4) (.
فمن أجل التوفيق بين الحديثين، ذهب مالك: إلى أن هذا القطع واجب؛ إذ رأى أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما مطلق عن شرط القطع، فلم يبق على شيوعه، وإنما يحمل على حديث ابن عمر رضي الله عنهما المقيد بالقطع) (5) (
المطلب التاسع: الجمع ببيان الاختلاف من جهة المباح
__________
(1) أخرجه: أبو داود (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1942) ، وابن ماجه (1507) ، وكلهم بلفظه ما عدا أبا داود جاء في روايته السقط بدلاً من الطفل.
(2) انظر: المدونة 1/ 193، وابن العربي: أحكام القرآن 3/ 273، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 314.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (715) ، والبخاري (1542) ، ومسلم (3/ 1177) ، واللفظ لمالك ومسلم.
(4) متفق عليه: البخاري (5804) واللفظ له، ومسلم (4/ 1178) .
(5) انظر: مالك: المدونة 1/ 86، 412.(13/136)
إذا جاء عن الرسول (فعلان متباينان فأزيد، لأمر واحد، بأن يفعل أحدهما تارة ويتركه تارة أخرى، أو يفعل نقيضه، وتيسر استخدامها كلها لكونها مباحة، تعين استخدامها، وعلى المكلف فعل أحدها على سبيل التخيير، ومن الأمثلة على ذلك: ما قاله مالك: في المدونة: "قد اختلفت الآثار في التوقيت يريد في الأعداد، وروي أن رسول الله (توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً ومرتين في بعض الأعضاء وثلاثاً في بعضها، وليس الاختلاف في هذا اختلاف تعارض وإنما هو اختلاف تخيير وإعلام بالتوسعة") (1) (.
ومنها: مسح الوضوء بالمنديل) (2) (.
المبحث الثاني: النسخ بين الأحاديث المتعارضة
إذا كان النسخ بين الأخبار متحققا، فإن مالكاً لا يعمد ألبته إلى دحضه بأي وجه من وجوه الجمع المعتبرة، وإنما امتثالاً وإذعاناً لما كشف عنه الشارع الحكيم، يلجأ مباشرة إلى نسخ أحدهما بالآخر؛ وذلك بأن يحكم أن المتأخر منهما رافع لحكم المتقدم) (3) (، وأشهر القرائن وأثبتها التي يستدل بها على معرفة ذلك أربعة، وهي: ما يعرف بتصريح الرسول (، أو بتصريح الصحابي، أو بالتاريخ، أو بدلالة الإجماع) (4) (، وإليك القول الجملي فيها:
__________
(1) 2/ 564، وانظر أيضا: الموطأ (31) ، والبخاري (157- 160) ، ومسلم (3/ 226- 18/ 235) ، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 15، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 141، 172، 173.
(2) انظر: مالك: المدونة 1/ 69، 70، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 175، 176.
(3) انظر: ابن الصلاح: علوم الحديث 277، وابن الحاجب: المختصر 2/ 185، 309، 310، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 421، وابن القيم: اعلام الموقعين 1/ 35، والشاطبي: الموافقات 3/ 81، 4/ 88، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 273، ومحمد منصور: منزلة السنة 436- 442.
(4) انظر: الشافعي: الأم 5/ 599، وابن الصلاح: علوم الحديث 277، 278.(13/137)
1- ما يعرف بتصريح الرسول (: ومن أمثلته: ما روي عن أبي سعيد الخدري (أنه قَدِمَ من سفر، فقدم إليه أهله لحما، فقال أبو سعيد: ألم يكن رسول الله (نهى عنها؟ فقالوا: إنه قد كان من رسول الله (بعد أمر، فخرج أبو سعيد فسأل عن ذلك فَأُخْبِرَ أن رسول الله (قال: {نهيتكم عن لحوم الأضحى بعد ثلاث، فكلوا وتصدقوا وادَّخِروا، ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجْرا} . يعني لا تقولوا سُوءَا) (1) (.
2- ما يعرف بقول الصحابي: ومن أمثلته: حديث أُبَي بن كعب (أن الفُتيا التي كانوا يفتون أن (الماء من الماء)) (2) (كانت رخصة رخصها رسول الله (في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد) (3) (.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة (عن رسول الله (أنه قال: {توضئوا مما مست النار} ) (4) (.
__________
(1) أخرجه: مالك في الموطأ (1042) ، وانظر أيضا: مسلم (39، 41/ 1977) ، والشيرازي: اللمع 61، والغزالي: المستصفى 1/ 128، والحازمي: الاعتبار 200- 202، 233- 237، وابن قدامة: روضة الناظر 1/ 314، وابن الصلاح: علوم الحديث 277، والقرافي: نفائس الأصول 9/ 3904، والعضد: شرح المختصر 2/ 195، 196، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 190، 191، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 222، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 95، والشوكاني: إرشاد الفحول 197.
(2) أخرجه: من حديث أبي سعيد الخدري (مسلم (80/ 343) .
(3) أخرجه: أبو داود (215) واللفظ له، والترمذي (110) ، وابن ماجه (609) ، وانظر أيضا: مالك: المدونة 1/ 78، 79، ومسلم (87- 89/ 348- 350) ، والحازمي: الاعتبار 52- 61، وابن الصلاح: علوم الحديث 277، وآل تيمية: المسودة 222، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 191.
(4) أخرجه: مسلم (90/ 352) .(13/138)
ثم نسخ ذلك بما روي عن جابر (إذ قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله (ترك الوضوء مما غيرت النار)) (1) (.
3- ما يعرف بالتاريخ: كحديث شداد بن أوس (أن رسول الله (أتى على رجل بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: {أفطر الحاجم والمحجوم} ) (2) (.
فيقابله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذ قال: (احتجم النبي (وهو صائم)) (3) (.
وقد ذهب مالك إلى أن خبر شداد (كان عام الفتح سنة ثمان، بينما خبر ابن عباس رضي الله عنهما كان عام حجة الإسلام سنة عشر؛ أي: بعده بسنتين فيكون ناسخاً له) (4) (.
4- ما يعرف بدلالة الإجماع: كحديث معاوية بن أبي سفيان (، قال: قال رسول الله (: {إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم} ) (5) (.
__________
(1) أخرجه: أبو داود (192) واللفظ له، والنسائي (185) ، وانظر أيضا: الشيرازي: اللمع 61، والحازمي: الاعتبار 77- 86، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 46، وابن الصلاح: علوم الحديث 277، 278، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 191.
(2) أخرجه: أبو داود (2369) واللفظ له، وابن ماجه (1681) .
(3) أخرجه: البخاري (5694) .
(4) انظر: مالك: الموطأ (663- 665) ، والشافعي: الأم 5/ 640، والحازمي: الاعتبار 216، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 293، 294، وابن الصلاح: علوم الحديث 278، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 191، 192.
(5) أخرجه: أبو داود (4482) واللفظ له، والترمذي (1444) ، وابن ماجه (2573) .(13/139)
فقتل شارب الخمر في المرة الرابعة كان في أول الأمر ثم نسخ بعد، بانعقاد الإجماع على وضعه، والإجماع كما يدل الاستقراء والتمحيص لا ينسخ نصا؛ لأنه لا ينعقد إلاّ بعد انتهاء زمن النص، والنسخ لا يكون إلاّ بنص، ولكن يدل على وجود ناسخ غيره) (1) (.
المبحث الثالث: الترجيح بين مختلف الحديث
ذكر العلماء وجوهاً للترجيح بين مختلف الحديث تكاد تتجاوز العد كثرة) (2) (، أو حتى لا تتناهى) (3) (، كما أن هنالك منها ما هو افتراضي، لا يمت إلى الواقع بصلة، وليس له أثر في الفقه، ولكن يمكن من رام هذه الصناعة أن يقف من تلقاء نفسه على تلك المرجحات التي لا تنحصر دون حاجة إلى تعدادها؛ لأن مثارها غلبة الظن) (4) (، إلاّ أن المتأمل فيها يجدها تتداخل فيما بينها؛ لذلك آثرت تيسيراً لإدراكها، وتنظيماً للعمل، ردها جميعاً وحصرها وضبطها في ثلاثة مطالب إجمالية، بحيث يندرج ما عداها تحتها) (5) (وهي:
المطلب الأول: الترجيح من جهة الأسانيد وما يتعلق بها
__________
(1) انظر: مالك: الموطأ (1530- 1533) ، والمدونة 6/ 2848، والشافعي: الأم 5/ 550،642، 643، والترمذي (1444) ، والخطابي: معالم السنن 6/ 287، والبيهقي: السنن الكبرى 8/ 314، والحازمي: الاعتبار 298- 300، وابن الصلاح: علوم الحديث 278، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 191، 192.
(2) انظر: الحازمي: الاعتبار 14، والآمدي: الإحكام 4/ 463- 468، والأرموي: التحصيل 2/ 263- 270، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 218- 233، والزركشي: البحر المحيط 6/ 149- 179، والسيوطي: تدريب الراوي 2/ 198، والعبادي: الآيات البينات 4/ 297، والشوكاني: إرشاد الفحول 276- 280.
(3) انظر: ابن رشد: الضروري 146.
(4) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 645، وابن رشد: الضروري 146، والرازي: المحصول 5/ 443، والأنصاري: غاية الوصول 147، والشوكاني: إرشاد الفحول 278
(5) انظر: الغزالي: المستصفى 2/ 395، وابن قدامه: روضة الناظر 3/ 1030- 1038.(13/140)
في هذا المطلب أعرض وجوه الترجيح المندرجة تحته في قسمين: الأول منهما يتناولها باعتبار حال الراوي، أما الثاني فباعتبار مجموع السند؛ أي: قوته في مجموعه، وذلك فيما يأتي:
القسم الأول: وجوه الترجيح باعتبار حال الراوي
الوجه الأول: الترجيح بقوة الحفظ وزيادة الضبط وما في معناهما:
أن يكون راوي أحد الخبرين أحفظ وأضبط، وراوي الذي يعارضه دون ذلك، وإن كان كل واحد منهما ثقة يحتج بروايته إذا انفرد، فيقدم خبر الحافظ الضابط؛ لأن الثقة بروايته أكثر) (1) (، ومثاله) (2) (: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله (قال: {من أعتق شِرْكاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّمَ عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حِصَصَهُم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ} ) (3) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 179، 180، والباجي: إحكام الفصول 2/ 648، 649، والإشارة 331، وإمام الحرمين: البرهان 2/ 1166، 1167، والغزالي: المستصفى 2/ 395، والسمرقندي: الميزان 733، وابن قدامة: روضة الناظر 3/ 1032، وابن الحاجب: المختصر 2/ 310، والأرموي: الحاصل 2/ 977، 978، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 422، والأرموي: التحصيل 2/ 264، والزركشي: البحر المحيط 6/ 156، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 635، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 163، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 278.
(2) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 648، 649، وابن رشد: بداية المجتهد 2/ 400- 401.
(3) الموطأ (1458) ، والبخاري (2522) ، ومسلم (1/ 1501) ، واللفظ لمالك ومسلم.(13/141)
فيعارضه: ما رواه الشيخان عن بشر بن محمد) (1) (عن عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة) (2) (عن قتادة عن النضر بن أنس) (3) (عن بشير بن نَهيك) (4) (عن أبي هريرة (عن النبي (قال: {من أعتق شَقيِصاً من مملوكه فعليه خَلاصُهُ في ماله فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عَدْل، ثم اسْتُسْعِيَ غير مشقوق عليه} ) (5) (.
وقد رجح مالك ما رواه؛ لأنه رواه كما ذكرنا آنفاً عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما وهم جميعاً حفاظ أئمة) (6) (، قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما) (7) (، بخلاف الخبر المخالف؛ إذ رواه سعيد بن أبي عروبة وهو كما بينا في ترجمته كثير التدليس واختلط.
الوجه الثاني: الترجيح بكثرة المزكين للراوي:
__________
(1) هو: بشر بن محمد السَّخْتياني، أبو محمد، المَرْوزي، صدوق، رُمي بالإرجاء، توفى سنة 224هـ. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (693) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/ 401.
(2) هو: سعيد بن أبي عروبة، أبو النضر البصري، ثقة حافظ، لكنه كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة، توفي سنة 157هـ. له ترجمة في: ابن النديم: الفهرست 375العارفين 5/ 387.
(3) هو: النضر بن أنس بن مالك الأنصاري، أبو مالك البصري، ثقة، روى عن أبيه وابن عباس، مات سنة بضع ومائة. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (7011) ، وابن حجر تهذيب التهذيب 10/ 389.
(4) هو: بشير بن نَهيك، السدوسي، ويقال: السلولي، أبو الشعتاء البصري، تابعي، وثقة العِجْلِي والنسائي، وضعفه أبو حاتم. له ترجمة في: الذهبي: الميزان (1439) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/ 412، 413.
(5) متفق عليه: البخاري (2492) واللفظ له، ومسلم (3/ 1503) .
(6) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 649.
(7) انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب 10/ 369.(13/142)
أن تكون كثرة المزكين في جانب أحد الخبرين فيرجح على الآخر؛ لأن التزكية مؤثرة للغاية في باب الرواية؛ لأنها ترفع مرتبتها وتؤكد صحتها) (1) (، ومن أمثلته ما روي عن أبي هريرة (عن النبي (أنه قال: {من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء} ) (2) (.
وما روي عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله (يقول: {إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ} ) (3) (.
فيقابلهما: ما روي عن قيس بن طلق) (4) (عن أبيه (قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله (فجاءه رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال: {وهل هو إلاّ مُضغة منك} ) (5) (
غير أن مالكاً قدم حديثي أبي هريرة وبسرة رضي الله عنهما؛ لأن رواتهما كَثُرَ مزكوهم، على حديث طلق (؛ لأنهم قلوا: بل واختلف أيضاً في عدالتهم) (6) (.
الوجه الثالث: الترجيح بتأخر إسلام الراوي:
__________
(1) انظر: ابن السبكي: الإبهاج 3/ 222، والزركشي: البحر المحيط 6/ 156، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 279، والعطار: حاشية العطار 2/ 406، 407.
(2) أخرجه: أحمد في المسند 2/ 333.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (88) ، والمدونة 1/ 64، وأبو داود (181) ، والترمذي (82) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (163) ، وابن ماجه: (479) ، واللفظ لمالك والنسائي وابن ماجه.
(4) هو: قيس بن طلق بن علي الحنفي اليمامي، وثقة العجلي وابن معين وضعفه أحمد. له ترجمة في: الذهبي: الميزان (7367) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 8/ 356.
(5) أخرجه: مالك في المدونة 2/ 572، وأبو داود (182) ، والترمذي (85) ، والنسائي (165) ، وابن ماجه: (483) ، واللفظ لمالك وأبي داود والنسائي.
(6) انظر: مالك: المدونة: 1/ 63، 2/ 572، 573، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 222، والزركشي: البحر المحيط 6/ 156، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 279، والعطار: حاشية العطار 2/ 406، 407.(13/143)
أن يكون أحدهما متقدم الإسلام والآخر متأخرا، فالأولى ترجيح رواية من تأخر إسلامه على من تقدم؛ لأن تأخر الإسلام دليل على أن روايته آخرا) (1) (، ومن أمثلة ذلك: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إذ قال: قال رسول الله (: {لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين} ) (2) (.
فيعارضه: ما روي عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت: جاءت سهلة بنت سُهيل إلى النبي (فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم -وهو حليفه- فقال النبي (: {أرْضِعِيهِ} ، قالت: وكيف أُرْضِعُهُ وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله (وقال: {قد علمت أنه رجل كبير} ) (3) (.
فاعتمد مالك خبر ابن عباس رضي الله عنهما الذي يبين أن حكم التحريم يختص بالصغير؛ لأنه تأخر إسلامه، فهو لم يَقْدِم المدينة إلاّ قبل الفتح، أما قصة سالم فكانت في أول الهجرة؛ لأن سهلة امرأة أبي حذيفة هاجرت عقب نزول قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم () (4) (، والآية نزلت في أوائل الهجرة) (5) (.
__________
(1) انظر: الرازي: المحصول 5/ 425، والأرموي: الحاصل 2/ 981، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، والإسنوي: نهاية السول 4/ 490، والزركشي: البحر المحيط 6/ 158، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 644، والعبادي: الآيات البينات 4/ 299، 300، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 282.
(2) أخرجه: الدارقطني (4318) .
(3) أخرجه: مسلم (26/ 1453) .
(4) من الآية 5 من سورة الأحزاب.
(5) انظر: مالك: المدونة 3/1087- 1089، والبخاري (4000) ، والخطابي: معالم السنن 3/10،11، وابن عبد البر: الاستيعاب (886) ، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 10/30،31، وابن القيم: التهذيب 3/11،12.(13/144)
ومنها: تقديم مالك أيضاً لحديثي أبي هريرة وبسرة رضي الله عنهما؛ لتأخر إسلامهما، على حديث طلق (، فإن طلقاً قدم المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وسمع من النبي (حديث عدم النقض، حين كان يبني مسجده في بدء الإسلام، أما أبو هريرة (فأسلم عام خيبر؛ أي: بعدها بست سنين، وبسرة رضي الله عنها أسلمت عام الفتح؛ أي: بعدها بثمان) (1) (.
قال الجعبري) (2) (: "فمذهب… مالك في الأشهر أن أحاديث النقض محكمة ناسخة لأحاديث الرخصة لصحتها وتأخرها عن حديث طلق [ولِمَا سيأتي إن شاء الله تعالى] ورجحانها بكثرة الرواة") (3) (.
الوجه الرابع: الترجيح بكون أحدهما صاحب الواقعة أو المباشر لها:
__________
(1) انظر: مالك: المدونة 2/572، والخطابي: معالم السنن 1/133، والبيهقي: السنن الكبرى 1/135، وإمام الحرمين: البرهان 2/1159.
(2) هو: إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، الخليلي، الشافعي، توفي سنة 732هـ. له ترجمة في: الإسنوي: طبقات الشافعية (351) ، وابن كثير: البداية والنهاية 14/160.
(3) رسوخ الأخبار 194.(13/145)
يقدم خبر من كان أشد ملابسة بما رواه على من عداه؛ لأنه يكون بلا ريب أعلم من غيره به وألصق، وأبعد عن الذهول والتخليط فيه؛ لذلك فإن القلب إلى قبول روايته أميل، والظن في صحته أغلب) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن رجلاً قال لرسول الله (وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبح جُنباً وأنا أريد الصيام، فقال (: {وأنا أصبح جنباً وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم} ، فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله (وقال: {والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي} ) (2) (.
وما روي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: (كان رسول الله (يصبح جنبا، من جماع غير احتلام، في رمضان، ثم يصوم)) (3) (.
فيقابلهما: ما روي عن أبي هريرة (أنه قال: (من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم … الحديث)) (4) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 179، 183، والباجي: إحكام الفصول 2/ 647، والإشارة 331، والغزالي: المستصفى 2/ 395، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، والزركشي: البحر المحيط 6/ 154، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 620، 637، والبناني: حاشية البناني 2/ 366، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 281- 283، والعطار: حاشية العطار 2/ 409، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 321.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (642) واللفظ له، ومسلم (79/ 1110) .
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (643) واللفظ له، والبخاري (1931، 1932) ، ومسلم (78/ 1109) .
(4) أخرجه: مالك في الموطأ (644) واللفظ له، والبخاري (1925، 1926) ، ومسلم (75/ 1109) .(13/146)
غير أن مالكاً قال في المدونة: "لا بأس أن يتعمد الرجل أن يصبح جنباً في رمضان") (1) (؛ إذ اعتبر ما روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما عن زوجهما رسول الله (، هو الراجح في الموضوع؛ لأنهما أعلم بكيفية الأمر، وبحاله (من غيره) (2) (.
ومنها: ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي (كانوا يقولون: (إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)) (3) (. وهنالك طائفة من الأخبار، تؤكد معناه وتعضده) (4) (.
لكن يقابلها: ما روي عن أبي سعيد الخدري ( [في سياق قصة] أن الرسول (قال: {إنما الماء من الماء} ) (5) (.
وقد جاءت أخبار أخرى تحمل نفس معناه) (6) (.
إلاّ أن مالكاً رجح خبر عائشة رضي الله عنها ومن وافقها حيث قال في المدونة: "إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل") (7) (؛ لأنها صاحبة الموضوع، والمباشرة له، فتكون أقعد بما باشرت وأعرف بشأنها وأثبت) (8) (.
الوجه الخامس: الترجيح بفقه الراوي:
تقدم رواية الفقيه على من دونه سواء كانت الرواية بالمعنى أم باللفظ؛ لأنه أعرف بمقتضيات الألفاظ.
ولكن هنالك من العلماء من قال: هذا الترجيح إنما يكون في خبرين مرويين بالمعنى، أما المروي باللفظ فلا ينطبق عليه ذلك.
__________
(1) 1/ 213، وانظر أيضا: ابن رشد: بداية المجتهد 1/ 398.
(2) انظر: التلمساني: مفتاح الوصول 148، والزركشي: البحر المحيط 6/ 154.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (100) .
(4) انظر: مالك: الموطأ (101- 104) ، والمدونة 1/ 79، والبخاري (291) ، ومسلم (87- 89/ 348 -350) .
(5) تقدم تخريجه، انظر رقم 83.
(6) انظر: البخاري (180، 292، 293) ، ومسلم (81 -86/ 343- 347) .
(7) 1/ 78.
(8) انظر: الحازمي: الاعتبار 19،20.(13/147)
والراجح الأول؛ لأن الاسترواح إلى حديث الفقيه أولى؛ لكون الوثوق باحترازه أتم؛ لتمييزه بين ما يجوز وما لا يجوز) (1) (.
وذلك كتقديم مالك رواية عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما بأن الغسل من الجنابة ليس شرطاً في صحة الصوم على رواية أبي هريرة (أنه شرط في صحته؛ لأنهما كانتا أفقه من أبي هريرة () (2) (.
وتقديمه أيضاً رواية عائشة رضي الله عنها بأنه يجب الغسل بمجرد التقاء الختانين وإن لم يحدث إنزال، على رواية أبي سعيد (بأن ذلك لا يكون إلاّ بالإنزال؛ لذات السبب) (3) (.
الوجه السادس: ترجيح رواية من كان أحسن استقصاء:
__________
(1) انظر: الشيرازي: اللمع 84، والحازمي: الاعتبار 20، والرازي: المحصول 5/ 415، 416، والآمدي: الإحكام 4/ 465، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 220، والزركشي: البحر المحيط 6/ 153، والعبادي: الآيات البينات 4/ 297، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 277، 278، والعطار: حاشية العطار 2/ 406.
(2) انظر: مالك: المدونة 1/ 213، والزركشي: البحر المحيط 6/ 153.
(3) انظر: مالك: الموطأ (100- 104) ، والمدونة 1/ 78.(13/148)
إذا كان أحد الراويين أبلغ استقصاء للحديث وأحسن نسقاً وسياقاً له من غيره، فيقدم على معارضه؛ لأن ذلك يدل على شدة اهتمامه بحكمه، وحفظ جميع أمره، بخلاف من لم يتحقق فيه ذلك، فإنه يحتمل أن يكون قد سمع جزءاً من الحديث، فتوهم أن ما سمعه هو المراد، وبه تتم الإفادة كاملة غير منقوصة؛ لذا اكتفى بما سمعه، مع أن الخبر قد يكون مرتبطاً بكلام آخر يتمم معناه، ولا يكون قد تنبه إليه) (1) (، وذلك مثل أن يقدم مالك) (2) (ما روي عن جابر (في إفراد الحج؛ إذ قال: في وصف حجة النبي ((أهللنا أصحاب رسول الله في الحج خالصاً ليس معه عمرة)) (3) (، على ما روي عن أنس (في القران، حيث قال: (أهل النبي (بحج وعمرة)) (4) (؛ لأن جابراً كان أكثر الناس استيفاء لحج الرسول (؛ إذ سرد الحديث من حال كون النبي (في المدينة إلى أن عاد إليها، فدل ذلك على تهممه وحفظه وضبطه وإتقانه لحجة النبي (، أما من نقل لفظة واحدة من الحج فإنه يجوز أنه لم يعلم سببها) (5) (.
الوجه السابع: ترجيح رواية الكبير على رواية الصغير:
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 658، والإشارة 336، والحازمي: الاعتبار 20، وآل تيمية: المسودة 308، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، والزركشي: البحر المحيط 6/ 161، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 636، والشوكاني: إرشاد الفحول 278.
(2) انظر: مالك: المدونة 1/ 332، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 461.
(3) متفق عليه: البخاري (7367) واللفظ له، ومسلم (147/ 1218) .
(4) متفق عليه: البخاري (4353، 4354) ، ومسلم (185، 186/ 1232) .
(5) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 658، والحازمي: الاعتبار 20، والزركشي، البحر المحيط 6/ 161.(13/149)
إذا كان أحد الراويين حين تحمل الراوية بالغا، والآخر صغيرا، فرواية البالغ أوثق؛ لأنه يكون مطلعاً على الأخبار، مرتبطاً بالوقائع، مهتماً بالأحداث، أكثر من الصغير؛ ولكونه أوسع منه تجربة، وأعمق خبرة، وأقرب ضبطا، وأزيد عناية، وأشد تحرزاً في روايته) (1) (، وَمَثَّلَهُ مالك بتقديم رواية ابن عمر رضي الله عنهما في الإفراد على رواية أنس (بالقران، إذ روي عن بكر) (2) (أنه ذكر لابن عمر أن أنساً حدثهم أن النبي (أهل بعمرة وحجة، فقال (أهل النبي (بالحج وأهللنا به معه)) (3) (؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما يرى: أن أنساً كان يلج على النساء وهن متكشفات الرؤوس؛ أي: أنه كان صغيرا) (4) (.
الوجه الثامن: ترجيح رواية من كان أقرب مكاناً أو نسبا:
__________
(1) انظر: الشيرازي: اللمع 83، والحازمي: الاعتبار 16، والرازي: المحصول 5/ 421، والآمدي: الإحكام 4/ 465، وابن الحاجب: المختصر 2/ 310، وآل تيمية: المسودة 307، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 424، والزركشي: البحر المحيط 6/153، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/647، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 164، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 208، والشوكاني: إرشاد الفحول 276.
(2) هو: بكر بن عبد الله بن عمرو المزني، أبو عبد الله البصري، ثقة ثبت جليل، مات سنة 108هـ على الراجح. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (735) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/ 424، 425.
(3) متفق عليه: البخاري (4353، 4354) واللفظ له، ومسلم (185، 186/ 1232) .
(4) انظر: مسلم (185، 186/ 1232) ، وابن قدامة: المغني 3/ 278.(13/150)
تقدم رواية الأقرب مكاناً من الرسول (على رواية الأبعد؛ لأن قربه من الصورة الواقعية الماثلة أمامه، واتصاله بها اتصالاً مباشراً وثيقاً أكيداً محكما؛ يجعله أقدر استيعاباً لكلامه (، واستيفاء له، وأسمع) (1) (، وتقدم كذلك رواية من كان أقرب نسباً له (على غيرها؛ لأن الظاهر أن كثرة المخالطة تقتضي زيادة الاطلاع) (2) (؛ لهذا قدم مالك رواية ابن عمر رضي الله عنهما في الإفراد بالحج، على رواية أنس (بالقران، لِمَا ذكر ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه أنه كان تحت ناقة رسول الله (ولعابها بين كتفيه، وأنه سمع إحرامه بالإفراد) (3) (.
وأيضا: فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان أقرب نسباً إلى النبي (من أنس (.
الوجه التاسع: الترجيح بالمشافهة:
__________
(1) انظر: الشيرازي: اللمع 83، والحازمي: الاعتبار 20، والآمدي: الإحكام 4/ 464، وآل تيمية: المسودة 306، والزركشي: البحر المحيط 6/ 155، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 641، 642، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 164، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 208، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 280، 281.
(2) انظر: الزركشي: البحر المحيط 6/ 154، 155.
(3) انظر: الحازمي: الاعتبار 20، والآمدي: الإحكام 4/ 465، والزركشي: البحر المحيط 6/ 155، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 642.(13/151)
إذا جمع أحد الراويين حالة أخذ الخبر بين المشافهة والمشاهدة، والثاني أخذه من وراء حجاب، فيؤخذ بالأول؛ لكونه أقرب إلى فهم المعاني، وإتقان الألفاظ، وأبعد عن السهو والخطأ؛ ولأنه شارك الرواية المأخوذة من وراء حجاب في السماع، وزاد عليها أيضاً بتيقن عين المسموع منه) (1) (؛ لهذا لَمَّا اختلف في زوج بريرة رضي الله عنها هل كان حرَّاً أو عبدا، لِمَا روى القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت بريرة من أناس من الأنصار واشترطوا الولاء، فقال رسول الله (فيه: {الولاء لمن ولي النعمة} ، وخيرها رسول الله (، وكان زوجها عبدا) (2) (، ورواه أيضاً عروة عنها؛ إذ قالت: (كان زوجها عبداً فخيرها رسول الله (فاختارت نفسها، ولو كان حراً لم يخيرها)) (3) (، ورواه كذلك الأسود بن يزيد عنها حيث قالت: (كان زوجها حرا)) (4) (.
فكان مصير مالك إلى حديثي القاسم وعروة؛ إذ القاسم هو ابن أخيها، وعروة ابن أختها، فكانا يدخلان عليها ويسمعان من غير حجاب، أما الأسود فكان يسمع من وراء حجاب) (5) (.
الوجه العاشر: ترجيح رواية أكابر الصحابة رضي الله عنهم:
__________
(1) انظر: الحازمي: الاعتبار 22، 23، والآمدي: الإحكام 4/ 468، 469، والتلمساني: مفتاح الوصول 149، والزركشي: البحر المحيط 6/ 161، 162، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 639، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 144، 145، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 286.
(2) أخرجه: مسلم (11/ 1504) .
(3) المصدر نفسه: (9/ 1504) .
(4) أخرجه: البخاري (6751، 6754) ، وفيه قال الأسود: وكان زوجها حرا، قول الأسود منقطع.
(5) انظر: الخطابي: معالم السنن 3/ 146، والحازمي: الاعتبار 23، والآمدي: الإحكام 4/ 469، والزركشي: البحر المحيط 5/ 162، والشوكاني: نيل الأوطار 6/ 154.(13/152)
إذا تعارض خبران وكان راوي أحدهما من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، فإنه تقدم روايته على أصاغرهم رضي الله عنهم؛ لقربه من النبي (غالبا، فيكون أعلم بحاله من البعيد، والوثوق بقول الأعلم أتم وأحكم؛ ولأنه أشد تصوناً وصوناً لمنصبه من غيره) (1) (، ويمكن التمثيل لهذا الوجه بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (: (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود)) (2) (
وقد روي مثل هذا أيضاً عن جمع غفير وعدد كثير من أكابر الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم) (3) (.
ولكن يخالف ذلك ما روي عن البراء بن عازب (أن رسول الله (: (كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود)) (4) (.
__________
(1) انظر: الآمدي: الإحكام 4/ 465، وابن الحاجب: المختصر 2/ 310، 311، وآل تيمية: المسودة 307، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 220، والزركشي: البحر المحيط 5/ 154، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 643، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/ 163، 164، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 207.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (160) ، والبخاري (735) واللفظ له، ومسلم (21- 26/ 390) .
(3) انظر: الدارقطني: سنن الدارقطني (1120) ، والبيهقي: السنن الكبرى 2/ 74، 75، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 220، والزركشي: البحر المحيط 6/ 154.
(4) أخرجه: أبو داود (749) .(13/153)
وما روي عن عبد الله بن مسعود (أنه قال: (صليت مع النبي (، ومع أبي بكر، ومع عمر رضي الله عنهما، فلم يرفعوا أيديهم إلاّ عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة)) (1) (.
وقد ذهب مالك إلى أن حديثي البراء وابن مسعود رضي الله عنهما لا يوازيان حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه روي أيضاً عن غيره من أكابر الصحابة رضي الله عنهم؛ لهذا فهو يميل في أنص الروايتين عنه إلى أن رفع اليدين عند الانحطاط في الركوع وعند الارتفاع منه سنة) (2) (.
القسم الثاني: وجوه الترجيح باعتبار مجموع السند
الوجه الأول: الترجيح بكثرة الرواة:
__________
(1) أخرجه: الدارقطني في سننه (1120) واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 79، 80كلاهما عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، وقال الدارقطني: "تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفا، عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي (، وهو الصواب".
(2) انظر: ابن رشد: بداية المجتهد 1/ 161، وابن قدامة: المغني 1/ 497، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 219، والزركشي: البحر المحيط 6/ 150.(13/154)
أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر، فيقدم الخبر الذي يزيد عدد رواته على معارضه؛ إذ احتمال الخطأ والسهو أبعد عن الأكثر وأقرب إلى الأقل، بل إن الظن يتأكد بترادف الروايات وتظاهرها، حتى ينتهي إلى القطع وهو التواتر) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: تقديم مالك أخبار نقض الوضوء نظراً لكثرة رواتها وتعددهم) (2) (.
وتقديمه خبر رفع اليدين؛ لكثرة رواته أيضا.
الوجه الثاني: ترجيح السماع على الكتابة:
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 178 -180، وإمام الحرمين: البرهان 2/ 1162، والغزالي: المستصفى 2/ 397، والكلوذاني: التمهيد 3/ 202- 206، والسمرقندي: الميزان 733، 734، والرازي: المحصول 5/ 401، 414، وابن قدامة: روضة الناظر 3/ 1030، والآمدي: الإحكام 4/ 463، وابن الحاجب: المختصر 2/ 310، والقرافي: نفائس الأصول 8/ 3843، والتلمساني: مفتاح الوصول 148، والإسنوي: نهاية السول 4/ 474، والزركشي: البحر المحيط 6/ 150- 152، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 628، 633، والعبادي: الآيات البينات 4/ 289، 296، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 284، والمطيعي: سلم الوصول 4/ 474.
(2) انظر: مالك: المدونة 1/63، 2/ 572، 573، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 279.(13/155)
أن يكون أحدهما قد روى أحد الخبرين سماعاً أو عرضاً أو نحو ذلك، والآخر عول على المكتوب، فالأول أولى؛ لأنه أبعد عن شبهة الانقطاع لعدم المشافهة، ولما لعله يعتور الخط من تحريف وتصحيف، أو يلتبس بخط يشابهه) (1) (، لهذا قدم مالك في أشهر الروايتين عنه) (2) (ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مرَّ رسول الله (بشاة ميتة كان قد أعطاها مولاة لميمونة زوج النبي (فقال: {أفلا انتفعتم بجلدها؟} فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال رسول الله ( {إنما حرم أكلها} ) (3) (.
وما روي عنه أيضا: أن رسول الله (قال: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} ) (4) (.
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 653، 654، والإشارة 332، والغزالي: المستصفى 2/ 395، 396، والحازمي: الاعتبار 18، 19، والرازي: المحصول 5/ 420، والآمدي: الإحكام 4/ 464، 465، 469، وابن الحاجب: المختصر 2/ 310، وآل تيمية: المسودة 309، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 222، والزركشي: البحر المحيط 6/ 156، والكراماستي: الوجيز 206، والأنصاري: غاية الوصول 142، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 653، والعبادي: الآيات البينات 4/ 298، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 207، والبناني: حاشية البناني 2/ 364.
(2) انظر: الخطابي: معالم السنن 6/ 64، والبيهقي: السنن الكبرى 1/ 15، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 92، 93، وابن حجر: الفتح 9/ 575، 576، والشوكاني: نيل الأوطار 1/ 61، 62.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (1073) واللفظ له، والبخاري (1492) ، ومسلم (100، 101/ 363) ، والنسائي (4246) .
(4) أخرجه: مالك في الموطأ (1073) ، ومسلم (105/ 366) ، وكلاهما بلفظه.(13/156)
على ما روي عن عبد الله بن عُكَيْم؛ إذ قال: قرئ علينا كتاب رسول الله (بأرض جهينة وأنا غلام شاب: {أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب} ) (1) (؛ لأن هذا كتاب وذاك سماع) (2) (.
الوجه الثالث: ترجيح المتفق على رفعه، على المختلف في رفعه، والمتفق على وقفه:
يقدم الحديث المتفق على رفعه إلى رسول الله (على المختلف في رفعه، والمتفق على وقفه أيضا؛ لأنه يبتعد عن خلل الاختلاف المؤدي إلى ضعف سنده) (3) (، ومن أمثلته: ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله (قال: {إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره} ) (4) (.
فيخالفه: ما روي عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: {من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا} ) (5) (.
غير أن مالكاً قال في الموطأ: "الضحية سنة وليست بواجبة، ولا أحب لأحد ممن قوى على ثمنها أن يتركها") (6) (، وقال كذلك في المدونة: "لا أحب لمن كان يقدر أن يضحي أن يترك ذلك") (7) (، عملاً بحديث أم سلمة رضي الله عنها الراجح؛ لأنه متفق على رفعه، بينما حديث أبي هريرة (مرجوح، لأنه اختلف في رفعه ووقفه، وكونه موقوفاً أشبه بالصواب) (8) (.
__________
(1) أخرجه: أبو داود (4127) واللفظ له، والترمذي: (1729) ، والنسائي (4260) ، وابن ماجه (3613) .
(2) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 654، والحازمي: الاعتبار 19.
(3) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 654، والإشارة 333، والغزالي: المستصفى 2/ 396، والرازي: المحصول 5/ 421، وابن الحاجب: المختصر 2/ 311، وآل تيمية: المسودة 310، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 422، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 223، 224، والزركشي: البحر المحيط 6/ 159، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 652، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 208.
(4) أخرجه: مسلم (41/ 1977) .
(5) أخرجه: ابن ماجه (3123) .
(6) 1047) .
(7) 2/ 763.
(8) انظر: البيهقي: السنن الكبرى 9/ 260، وابن حجر: الفتح 10/ 605.(13/157)
ومنها: العبد حينما يكون بين الرجلين ويعتق أحدهما حظه منه) (1) (.
الوجه الرابع: الترجيح بعلو الإسناد:
أن يكون أحد المسندين أعلى إسنادا، والمراد به: قلة عدد الطبقات إلى منتهاه، فإنه يقدم على ما ليس كذلك؛ لأن احتمال الصحة فيما قلت وسائطه أظهر؛ لهذا ما فتئ الحُفاظ الجهابذة يطلبون علو الإسناد، ويفتخرون به، ويتركون الديار، ويقطعون القفار، من أجل تحصيله) (2) (، ومن الأمثلة على ذلك: كيفية الإقامة، فقد روى خالد الحَذَّاء) (3) (عن أبي قلابة، عن أنس (أن رسول الله ((أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)) (4) (.
فيقابله: ما روي عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن مُحَيْرِيز أن رسول الله (: (علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.. وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى)) (5) (.
__________
(1) انظر: مالك: الموطأ (1458) ، والبخاري (2492، 2522) ، ومسلم (1501، 1503) ، والباجي: إحكام الفصول 2/ 654، 655، وابن رشد: بداية المجتهد 2/ 400، 401، والتلمساني: مفتاح الوصول 147، 148.
(2) انظر: الرازي: المحصول 5/ 414، 415، وابن الحاجب: المختصر 2/ 311، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 219، 231، والزركشي: البحر المحيط 6/ 152، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 649، 650، والعبادي: الآيات البينات 4/ 296، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 207، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 277، والعطار: حاشية العطار 2/ 406.
(3) هو: خالد بن مِهْرَان الحذاء، أبو المنازل البصري، مولى قريش، ثقة يرسل، توفي سنة 141هـ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (1637) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 3/ 104، 105.
(4) متفق عليه: البخاري (606) ، ومسلم (2/378) ، وكلاهما بلفظه.
(5) أخرجه: أبو داود (502) ، والنسائي (632) ، وانظر أيضا: الكاساني: البدائع 1/220، 221، وابن رشد: بداية المجتهد 1/132، وابن السبكي: الإبهاج 3/219، والزركشي: البحر المحيط 6/152.(13/158)
غير أن مالكاً يرى أن خبر أنس (أولى بالمصير إليه مما يعارضه) (1) (؛ لأن خالداً وعامراً متعاصران روى عنهما شعبة، فحديث خالد بينه وبين النبي (اثنان، بينما حديث عامر بينه وبين النبي (ثلاثة) (2) (.
ومنها أيضاً: مسألة رفع اليدين في الركوع) (3) (.
الوجه الخامس: ترجيح السند الحجازي:
يرجح ما كان سنده حجازيا، ولا سيما إذا كان مدني المخرج، على ما كان سنده عراقياً أو شاميا، وحظيت المدينة بذلك؛ لأنها مهبط الوحي، ومعدن الرسالة، وبين أظهر أهلها استقرت الشريعة، فإذا لم يوجد شيء بينهم دلّ ذلك على نسخه؛ ولأن المدنيات متأخرة عن الهجرة) (4) (، وعليه قدم مالك روايتهم بإفراد الإقامة، على رواية أهل الكوفة في تثنيتها) (5) (، وقدم كذلك روايتهم بأن زوج بريرة كان عبدا، على رواية أهل الكوفة أيضاً الذين ذهبوا إلى أنه كان حرا) (6) (.
الوجه السادس: الترجيح بسلامة السند من الاضطراب:
__________
(1) انظر: مالك: الموطأ (150) ، والمدونة 1/100.
(2) انظر: ابن السبكي: الإبهاج 3/219، والزركشي: البحر المحيط 6/152.
(3) انظر: مالك: المدوَّنة 1/107، 108، وابن رشد: بداية المجتهد 1/161 وابن الهمام: فتح القدير 1/281، 282، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/207.
(4) انظر: الحازمي: الاعتبار 22، والآمدي: الإحكام 4/483، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 423، ونفائس الأصول 9/3926، والإسنوي: نهاية السول 4/494، والزركشي: البحر المحيط 6/ 193، والشنقيطي: نشر البنود 2/286، 287.
(5) انظر: الموطأ (150) ، والمدونة 1/100، والحازمي: الاعتبار 106، والزركشي: البحر المحيط 6/ 163.
(6) انظر: الخطابي: معالم السنن 3/ 146، والبيهقي: السنن الكبرى 7/224.(13/159)
إذا كان أحد الإسنادين متسقاً خالياً من الاضطراب، والآخر مضطربا، فيكون السالم من الاضطراب أولى؛ لأن ذلك يدل على اتفاق رواته وحفظ جملته) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: أن مالكاً ترك خبر ابن عُكَيم الذي يدل على أن الدباغ لا يُطهِر في الجملة جلد الميتة للاضطراب الواقع في سنده، ويصور ذلك الحازمي) (2) (قائلاً: "في إسناده اختلاف رواه الحكم) (3) (مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن عُكَيم، ورواه عنه القاسم بن مُخَيْمَرة) (4) (عن خالد [الحَذَّاء] ، عن الحكم، وقال: إنه لم يسمعه من ابن عُكَيم، ولكن من أناس دخلوا عليه ثم خرجوا فأخبروه به") (5) (- وأخذ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي يفيد خلاف ذلك؛
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/658، والإشارة 336، والغزالي: المستصفى 2/395، وابن الصلاح: علوم الحديث 93،94، وآل تيمية: المسودة 306، والكراماستي: الوجيز 205، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/653، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/166.
(2) هو: محمد بن موسى بن عثمان بن حازم، أبو بكر، زين الدين، الهمداني، الشافعي، المعروف بالحازمي، الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ، المتوفى سنة 584هـ. له ترجمة في: الذهبي: تذكرة الحفاظ (1106) ، والإسنوي: طبقات الشافعية (369) ، وابن كثير: البداية والنهاية 12/ 332، والبغدادي: هدية العارفين 6/101.
(3) هو: الحكم بن عتيبة الكِندي، ويقال: مولى امرأة من كِنده، وليس بالحكم بن عتيبة بن النَّهَاس العِجْلِيِّ الذي كان قاضياً بالكوفة فإن ذاك لم يرو عنه شيء من الحديث، توفي سنة 114هـ. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (1420) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 2/372، 373.
(4) هو: القاسم بن مُخَيْمَرة، أبو عروة الهمداني، الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة 100هـ. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (5411) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 8/302، 303
(5) الاعتبار 93، وانظر أيضا: الترمذي (1729) ، والبيهقي: السنن الكبرى 1/15.(13/160)
لأنه غير مختلف في سنده) (1) (.
ومنها: مسألة أكل لحوم الحمر الإنسية) (2) (.
المطلب الثاني: الترجيح من جهة المتون وما يتعلق بها
وله وجوه:
الوجه الأول: ترجيح ما كان متنه سالماً من الاضطراب:
إذا تعارض خبران وكان لفظ أحدهما سالماً من الاختلاف والاضطراب، بخلاف الآخر، فسلامته مرجحة؛ لأن غلبة الظن بصحته تقوى، ويضعف ما اختلف لفظه؛ إذ اختلاف لفظه قد يؤدي إلى اختلاف معناه، وذلك يدل على قلة ضبط الراوي، وعدم إتقانه، وسوء حفظه، وكثرة تساهله في روايته) (3) (، ومن أمثلته: ما روي عن أبي هريرة (أن رسول الله ((نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس)) (4) (.
فيعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ترك رسول الله (ركعتين بعد العصر عندي قط)) (5) (.
__________
(1) انظر: الحازمي: الاعتبار 93، والشوكاني: نيل الأوطار 2/179، 180.
(2) انظر: مالك: الموطأ (1140) ، والمدونة 1/496، والبخاري (5523) ، ومسلم (22/ 1407) ، وأبو داود (3809) ، والخطابي: معالي السنن 5/ 317- 319، والبيهقي: السنن الكبرى 9/332، وابن عبد البر: الكافي 1/436، وابن رشد: بداية المجتهد 1/666، وابن القيم: التهذيب 5/ 317- 322، والشوكاني: نيل الأوطار 8/ 115.
(3) انظر: البصري: المعتمد 181، والباجي: إحكام الفصول 2/660، والإشارة 337، 338والغزالي: المستصفى 2/395، والآمدي: الإحكام 4/ 476، وابن الصلاح: علوم الحديث 93، 94، وآل تيمية: المسودة 308، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 652، 653.
(4) أخرجه: مالك في الموطأ (516) واللفظ له، والبخاري (588) ، ومسلم (285/ 825) .
(5) متفق عليه: البخاري (591) ، ومسلم (299/ 835) واللفظ له.(13/161)
غير أن مالكاً كَرِه النافلة بعد العصر) (1) (تمسكاً بحديث أبي هريرة (ونحوه) (2) (، وترك حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنه رُوِيَ عنها أيضاً بجانب هذا الحديث الذي ذكرناه، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي ((أنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس)) (3) (، وبذلك يكون قد روي عنها إثبات الحكم ونفيه، أما أبو هريرة (فلم يرو عنه إلاّ النفي فقط) (4) (.
ومنها: أنه ترك في أظهر الروايتين عنه الأحاديث التي تقرر عدم رفع اليدين في الركوع) (5) (، وعدم طهارة إهاب الميتة بالدباغ) (6) (، للاضطراب في متنها، وأخذ بما يخالفها.
الوجه الثاني: ترجيح ما كان قولاً صريحاً على ما كان استدلالا:
__________
(1) انظر: الترمذي (184) ، وابن عبد البر: الكافي 1/195، وابن رشد: بداية المجتهد 1/121.
(2) انظر: الترمذي (183) .
(3) أخرجه: الترمذي (184) .
(4) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/658، 659.
(5) انظر: مالك: المدونة 1/107،108، والشافعي: الأم 1/125، 5/635، والدارقطني: سنن الدارقطني (1118) ، والبيهقي: السنن الكبرى 2/76، والحازمي: الاعتبار 24،25، وابن رشد: بداية المجتهد 1/161.
(6) انظر: أبو داود (4128) ، والترمذي (1729) ، والخطابي: معالم السنن 6/64، 68، والبيهقي: السنن الكبرى 1/15، وابن رشد: بداية المجتهد 1/92، 93، وابن حجر: الفتح 9/ 575، 576، والشوكاني: نيل الأوطار 1/61- 65.(13/162)
إذا تعارض خبران وكان أحدهما منسوباً إلى النبي (نصاً وقولا، والآخر نسب إليه (استدلالاً واجتهادا؛ بأن يروى أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره، فما نسب إليه نصاً وقولاً أقوى؛ لكونه غير محتمل؛ إذ هو قول النبي (ولا خلاف في كونه حجة، وما في زمانه ربما لم يبلغه، وما في مجلسه ربما غفل عنه) (1) (، ومن أمثلة ذلك: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: {لا يُبَعْنَ، ولا يُوهَبْنَ، ولا يُرثن، يستمتع بها سيدها ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة} ) (2) (.
فيعارضه: ما روي عن أبي سعيد الخدري (حيث قال: (كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله ()) (3) (.
غير أن مالكاً ذهب إلى أن العمل بمقتضى حديث ابن عمر رضي الله عنهما أولى؛ لأنه نص صريح قاطع من الرسول (في عدم جواز البيع، أما حديث أبي سعيد (فلم ينسب إلى الرسول (نصا، وإنما استدلالاً واجتهادا، فليس في سياقه أمر منه (ولا نهي، إلاّ أن هذا الفعل كان على عهده (، وليس فيه أيضاً ما يدل على أنه (علم بذلك فأقرهم عليه) (4) (.
الوجه الثالث: ترجيح ما كان جامعاً بين الحكم وعلته:
__________
(1) انظر: الغزالي: المستصفى 2/ 396، والحازمي: الاعتبار 28- 30، والرازي: المحصول 5/421، وابن الحاجب: المختصر 2/ 311، 312، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 655، وأمير بادشاه: تيسير التحرير 3/160، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 319.
(2) أخرجه: الدارقطني: سنن الدارقطني (4203) ، وانظر أيضا: مالك: الموطأ (1462) ، والبيهقي: السنن الكبرى 10/ 342.
(3) أخرجه: الحاكم في المستدرك 2/19 وصححه، والدارقطني في سننه (4208) ، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 348، واللفظ للحاكم والبيهقي.
(4) انظر: مالك: المدونة 4/ 1731- 1736، والبيهقي: السنن الكبرى 10/ 348، والحازمي: الاعتبار 28- 30، والشوكاني: نيل الأوطار 6/ 98، 99.(13/163)
إذا تعارض خبران وكان أحدهما دالاً على الحكم والعلة، والآخر على الحكم دون العلة؛ فإنه يرجح الأول؛ إذ الانقياد إليه أشد من الانقياد إلى غير المعلل؛ لكونه أقرب إلى الإيضاح والبيان؛ ولأن ظهور التعليل من أسباب قوة التعميم) (1) (، ومثاله: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله (: {من بدل دينه فاقتلوه} ) (2) (، فظاهر هذا الخبر يدل على وجوب قتل كل من رجع عن الإسلام إلى الكفر طوعاً سواء كان رجلاً أم امرأة، غير أنه يعارضه خبر آخر يدل بظاهره على أنه لا يجوز قتل النساء مطلقاً سواء كن حربيات أم مرتدات، وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (: (رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان)) (3) (.
إذاً التضاد في وجه الدلالة بينهما يتعلق في المرأة المرتدة.
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 665، والغزالي: المنخول 435، 436، والحازمي: الاعتبار 34، والرازي: المحصول 5/ 431، والآمدي: الإحكام 4/ 477، 483، وابن الحاجب: المختصر 2/ 312، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 232، والإسنوي: نهاية السول 4/ 500، والزركشي: البحر المحيط 6/ 167، والعبادي: الآيات البينات 4/ 302، والبناني: حاشية البناني 2/ 367، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 287، والعطار: حاشية العطار 2/ 410، 411، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 322.
(2) أخرجه: البخاري (3017) .
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (972) واللفظ له، والبخاري (3015) ، ومسلم (24، 25/ 1744) .(13/164)
فمالك قال: بقتل المرتدة) (1) (عملاً بخبر ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن فيه الحكم وهو القتل، كما أنه يدل أيضاً بمسلك الإيماء والتنبيه على أن علة القتل هنا هي تبديل الدين، فيشمل الذكر والأنثى، أما خبر ابن عمر رضي الله عنهما فذكر فيه الحكم دون أن يعلل بشيء) (2) (، وعليه لا يصلح لدى مالك أن يكون دليلاً يرتكز عليه في ذلك، فهو كما ورد عنه في المدونة كان: "يكره قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير في أرض الحرب") (3) (.
الوجه الرابع: ترجيح ما يقصد به بيان الحكم:
إذا تعارض خبران وقصد بأحدهما بيان الحكم المختلف فيه، دون الآخر، فيكون الأخذ بما قصد به بيان الحكم أرجح؛ لأنه أمس بالغرض، وأبعد عن الاحتمال) (4) (، ومن أمثلة ذلك: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (قال: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} ) (5) (.
__________
(1) انظر: ابن رشد: بداية المجتهد 2/ 493، وابن قدامة: المغني 8/ 123.
(2) انظر: الحازمي: الاعتبار 34، وابن قدامة: المغني 8/ 123، 124، وابن السبكي: الإبهاج 3/ 232، والإسنوي: نهاية السول 4/ 500، والزركشي: البحر المحيط 6/ 167، والعبادي: الآيات البينات 4/ 302، 303، والبناني: حاشية البناني 2/ 367، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 287، والعطار: حاشية العطار 2/ 410، 411، والمطيعي: سلم الوصول 4/ 500، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 322.
(3) 1/ 450، وانظر أيضا: ابن العربي: أحكام القرآن 1/ 148، 149.
(4) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 663، 664، والإشارة 339، والغزالي: المستصفى 2/ 397، والرازي: المحصول 5/ 422، والآمدي: الإحكام 4/ 485، والعضد: شرح المختصر 2/ 316، والتلمساني: مفتاح الوصول 152، والزركشي: البحر المحيط 6/ 168، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 706، والشوكاني: إرشاد الفحول 279.
(5) تقدم تخريجه، انظر رقم 163.(13/165)
ورووا أيضاً بإزائه خبر أبي المَلِيح) (1) (عن أبيه: أن النبي ((نهى عن جلود السباع أن تُفترش)) (2) (.
وقد ذهب مالك في أشهر الروايتين عنه إلى طهارة جلود السباع إذا دبغت) (3) (، عملاً بمقتضى خبر ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه قصد به الكشف عن حكم الطهارة، من غير أن يفرق فيه بين الانتفاع بجلد ما يؤكل لحمه إذا دبغ وما لا يؤكل، فدلالة عمومه على طهارة جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالته على نجاستها؛ لنهيه عن افتراش جلود السباع؛ لكونه ما سيق أصلاً لبيان الطهارة والنجاسة، بل ربما نهى عن افتراشها للخيلاء والسرف والتشبيه بالأعاجم وما شاكل ذلك، أو للتعبد المحض الذي لا نعقل معناه) (4) (.
ومنها: تحديد أول وقت العصر) (5) (.
الوجه الخامس: ترجيح ما نقل معناه بألفاظ متغايرة وعبارات متباينة:
__________
(1) هو: أبو المَلِيح بن أسامة بن عُمير بن عامر الهذلي، اسمه: عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة، مات سنة 98هـ، وقيل 108، وقيل: بعد ذلك. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (8242) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 12/ 268، 269.
(2) أخرجه: أبو داود (4132) ، والترمذي (1771) ، والنسائي (4264) ، وكلهم بلفظه، غير أن الترمذي زاد في حديثه (أن تفترش) ، وجميعاً عن سعيد بن أبي عروبة.. به، وقال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال عن أبي المليح، عن أبيه غير سعيد بن أبي عروبة.
(3) انظر: الخطابي: معالم السنن 6/ 64، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 92، 93.
(4) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 664، والغزالي: المستصفى 2/ 397، والتلمساني: مفتاح الوصول 153، 154.
(5) انظر: مالك: المدونة 2/ 600، 601، والبخاري (557) ، وأبو داود (393) ، والترمذي (149، 2871) ، والنسائي (501) ، والخطابي: معالم السنن 1/ 234، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 111، وابن قدامة: المغني 1/ 371- 375، والتلمساني: مفتاح الوصول 152، 153، والزركشي: البحر المحيط 6/ 177، والشوكاني: إرشاد الفحول 279.(13/166)
إذا ورد أحد المعنيين بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة، والآخر روي بلفظ واحد من طريق واحد، فالأول أولى؛ لأنه يبتعد عن الخطأ والتأويل والسهو والتبديل، ومن ثَمَّ يقوى في النفس، وتصير إلى روايته أسكن) (1) (، ومن أمثلة ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (: (جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما)) (2) (.
فيخالفه ما روي عن مُجَمِّعٍ بن جارية (حيث قال: (قسمت خيبر على أهل الحديبية) (3) (فقسمها رسول الله (على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفاً وخمس مائة، فيهم ثلاث مائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما)) (4) (
غير أن مالكاً رجح ههنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لكثرة الروايات الموافقة له في المعنى، مع تغاير كلماتها وتباين عباراتها) (5) (.
الوجه السادس: ترجيح ما يتناول الحكم بمنطوقه:
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 666، والإشارة 341، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 424.
(2) متفق عليه: البخاري (2863) واللفظ له، ومسلم (57/ 1762) .
(3) الحديبية: قرية متوسطة ليست بالكبيرة، بينها وبين مكة مرحلة، وبينها وبين المدينة تسع مراحل. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان (3558) .
(4) أخرجه: أبو داود (3015) ، وقال ابن حجر: في الفتح 6/ 80 "في إسناده ضعف".
(5) انظر: مالك: الموطأ (984) ، والمدونة 1/470، والشافعي: الأم 4/ 356، 362، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 12/ 83، وابن حجر: الفتح 6/ 79، 80، والكحلاني: سبل السلام 4/ 58، والشوكاني: نيل الأوطار 7/ 281، 282.(13/167)
إذا تعارض خبران وكان ما تضمنه أحدهما من الحكم منطوقاً به، والآخر محتملا، فيقدم على الراجح ما نطق فيه بالحكم؛ لأن الغرض فيه أبين، والمقصود أجلى) (1) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن أنس (أن النبي (قال: {في الرِّقَّةِ) (2) (ربع العشر} ) (3) (، فهذا الحديث يدل على وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون) (4) (، ولكن هنالك حديث آخر ينفيهما عنهما وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي (أنه قال: {رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق} ) (5) (.
غير أن مالكاً أخذ بخبر أنس (؛ لأن فيه إيجاب الزكاة في المال، بخلاف خبر عائشة رضي الله عنها، فإنه ليس فيه نفي الزكاة عن المال، وإنما فيه نفي وجوبها عن الصبي والمجنون، وإذا تقرر هذا فإنه يجب على الولي أن يخرجها عنهما من مالهما) (6) (.
الوجه السابع: ترجيح ما دل على المراد من وجهين:
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 661، والإشارة 338، والشيرازي: اللمع 85، والآمدي: الإحكام 4/ 474، وابن الحاجب: المختصر 2/ 312، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 424، والعبادي: الآيات البينات 4/ 305، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 292، والعطار: حاشية العطار 2/ 412.
(2) الرِّقَّة: هي الفضة الخالصة، والدراهم المضروبة منها. انظر: ابن الأثير: النهاية 2/ 254، وابن منظور: لسان العرب 10/ 375.
(3) أخرجه: البخاري (1454) .
(4) انظر: مالك: المدونة 1/ 244، وابن قدامة: المغني 2/ 622.
(5) أخرجه: أبو داود (4398) ، والنسائي (3432) واللفظ له، وابن ماجه (2041) .
(6) انظر: المصدرين السابقين، نفس المواضع.(13/168)
إذا تعارض خبران وكان أحدهما دالاً على المراد من وجهين، فإنه يقدم على الدال عليه من وجه واحد) (1) (، ومن أمثلته: ما روي عن عبد الرحمن بن عوف (أن رسول الله (: (قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء) ، فقضيته أن ما قسم لا شفعة فيه، ثم قال: (فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة)) (2) (، فيقدم عند مالك) (3) (على ما روي عن جابر (؛ إذ قال: قال رسول الله (: {الجار أحق بشفعته} ) (4) (؛ لأن هذا الخبر يدل بوجه، وما يعارضه يدل بوجهين) (5) (.
الوجه الثامن: ترجيح ما تأكد بالتأكيد:
إذا تعارض خبران واقترن أحدهما بالتأكيد، فإنه يقدم على الخالي؛ لأن المؤكد لا يحتمل التأويل والمجاز أو يبعد فيهما، أما ما ليس مؤكداً فإنه يحتملهما) (6) (، ومَثَّلَه مالك بما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (قال: {أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل} ثلاث مرات) (7) (.
__________
(1) انظر: الزركشي: البحر المحيط 6/ 167.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (1394) واللفظ له، وهو متفق عليه: من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: البخاري (2213) ، ومسلم (134/ 1608) .
(3) انظر: الموطأ (1394) ، والمدونة 5/ 2453، 2506.
(4) أخرجه: أبو داود (3518) ، والترمذي (1369) واللفظ له، وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجه: (2494) .
(5) انظر: الكاساني: البدائع 5/ 6، 7، والزركشي: البحر المحيط 6/ 167.
(6) انظر: البصري: المعتمد 183، والباجي: إحكام الفصول 2/ 662، والرازي: المحصول 5/ 432، والآمدي: الإحكام 4/ 473، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 424، والعضد: شرح المختصر 2/ 313، 314، والزركشي: البحر المحيط 6/ 168، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 205، والشنقيطي/ نشر البنود 2/ 288، والشوكاني: إرشاد الفحول 279، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 322.
(7) أخرجه: أبو داود (2083) واللفظ له، والترمذي (1102) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه (1879) .(13/169)
فيعارضه: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله (قال: {الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها} ) (1) (.
غير أن مالكاً ذهب إلى أنه ليس للمرأة أن تلي عقد نكاحها بنفسها بغير وليها) (2) (، واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنه أغلب على الظن، وأقوى دلالة؛ إذ تكرار البطلان فيه توكيد لحكمه، أما خبر ابن عباس رضي الله عنهما المخالف له فمرجوح؛ لكونه لم يؤكد حكمه) (3) (.
الوجه التاسع: ترجيح ما تأكد بالاحتياط:
__________
(1) أخرجه: مالك في الموطأ (1103) ومسلم (66/ 1421) ، وكلاهما بلفظه.
(2) انظر: الموطأ (1105) ، والمدونة 2/ 917، 3/ 1244.
(3) انظر: الخطابي: معالم السنن 3/ 27، وابن العربي: أحكام القرآن 1/ 268، 3/ 505، 506، والرازي: المحصول 5/ 432، والآمدي: الإحكام 4/ 473، والعضد: شرح المختصر 2/ 314، والزركشي: البحر المحيط 6/ 168، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 288، والشنقيطي: مذكرة أصول الفقه 323.(13/170)
إذا تعارض خبران وكان أحدهما أقرب إلى الاحتياط، بخلاف الآخر، فإن الأحوط يقدم على ما لا احتياط فيه، لأن استحباب الاحتياط لا ينكر؛ إذ هو أليق بحكمة الشريعة ومحاسنها، وأبين لأسرارها ومراميها، وأقرب لمعانيها ومبانيها) (1) (، ومثاله: أن مالكاً قال: من باب الاحتياط في المدونة ما نصه: "لا يجب صيام شهر رمضان إلاّ برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما، قال النبي (في حديث ابن عمر {لا تصوموا حتى تَرَوْا الهلال ولا تفطروا حتى تَرَوْه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له} ) (2) (، وقال في حديث ابن عباس {فإن غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم أفطروا} ) (3) (، وأدخله مالك رحمه الله في موطئه بعد حديث ابن عمر على طريق التفسير له؛ لأن أهل العلم اختلفوا في معنى قول النبي (: {فاقدروا له} ") (4) (.
الوجه العاشر: ترجيح ما اشتمل على زيادة:
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 183، والشيرازي: اللمع 86، وإمام الحرمين: البرهان 2/1199 1200، والغزالي: المنخول 434، والحازمي: الاعتبار 37، 38، والآمدي: الإحكام 4/ 485، والتلمساني: مفتاح الوصول 155، والزركشي: البحر المحيط 6/ 170، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 706، 707، والشوكاني: إرشاد الفحول 279.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (634) ، والبخاري (1906) ، ومسلم (3- 9/ 1080) .
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (636) ، والبخاري (1909) ، ومسلم (17- 20/ 1081) .
(4) 2/ 660.(13/171)
إذا تعارض خبران وكان أحدهما مشتملاً على زيادة لم يتعرض لها الثاني، فيقدم الأول؛ لما فيه من زيادة علم خفي على الآخر) (1) (، ومن أمثلة ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله (: (كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمسا)) (2) (.
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: (شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الأخيرة خمس تكبيرات قبل القراءة)) (3) (.
فيقابلهما: ما روي عن مكحول، قال: أخبرني أبو عائشة -جليس لأبي هريرة- أن سعيد بن العاص، سأل أبا موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، كيف كان رسول الله (يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: (كان يكبر أربعاً تكبيره على الجنائز) ، فقال حذيفة: (صدق) ، فقال أبو موسى: (كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم) ، وقال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص) (4) (.
غير أن مالكاً رجح حديثي عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، على ما يعارضهما؛ لاشتمالهما على زيادة علم غير منافية، فتعين المصير إليهما) (5) (.
__________
(1) انظر: الحازمي: الاعتبار 37، والآمدي: الإحكام 4/ 476، 481، والشوكاني: إرشاد الفحول 279، والعطار: حاشية العطار 2/ 407، 410.
(2) أخرجه: أبو داود (1149) واللفظ له، وابن ماجه (1280) .
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (434) .
(4) أخرجه: أبو داود (1153) .
(5) انظر: المدونة 1/ 184، 185.(13/172)
وقد تعرض مالك لعدد من الأخبار التي تتعارض بسبب هذه الظاهرة، فرجح ما يتضمن زيادة؛ لأنها عن الثقة مقبولة، من ذلك: أنه قدم رواية من أثبت أنه لا يجزئ في التيمم إلاّ ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين، على رواية من نقل أنه يكفي ضربة واحدة لهما) (1) (، وقدم أيضاً الترجيع في الأذان على خبر من رواه من غير ترجيع) (2) (، وقدم كذلك في مسألة الأذان والإقامة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، الخبر الذي أثبت أذاناً واحداً وإقامتين، على الخبر الذي أثبت أذاناً وإقامة، وعلى الذي أثبت إقامتين فقط، أو إقامة واحدة من غير أذان ألبتة) (3) (.
المطلب الثالث: الترجيح باعتبار أمر خارجي
وله وجوه:
__________
(1) انظر: الموطأ (120) ، والمدونة 1/ 87، والبخاري (347) ، ومسلم (110- 112/ 368) ، والحاكم: المستدرك 1/ 179، والدارقطني: سنن الدارقطني (679) ، والبيهقي: السنن الكبرى 1/ 207، ومحمد منصور: منزلة السنة 356- 359.
(2) انظر: المدونة 1/ 100، والحازمي: الاعتبار 37.
(3) انظر: الموطأ (909) ، والبخاري (1673، 1675) ، ومسلم (147/ 1218) ، وابن عبد البر: الكافي 1/ 372، وابن قدامة: المغني 3/418، 419، وابن حجر: الفتح 3/ 612، 613.(13/173)
الوجه الأول: ما رجح لموافقته الكتاب) (1) (: ومن أمثلته ما يأتي: روي عن عائشة زوج النبي (أنها قالت: (إن كان رسول الله ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات) (2) (بمروطهن) (3) (ما يُعْرَفْنَ من الغلس) (4) ()) (5) (.
فهذا الحديث يبين أن الرسول (كان يصلي الصبح بغلس؛ أي: في أول وقتها) (6) (. فيقابله: ما روي عن رافع بن خديج (؛ إذ قال: سمعت رسول الله (يقول: {أسفروا) (7) (بالفجر، فإنه أعظم للأجر} ) (8) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 181، والشيرازي: اللمع 85، والحازمي: الاعتبار 30، 31، وآل تيمية: المسودة 311، 312، والزركشي: البحر المحيط 6/176، والعبادي: الآيات البينات 4/ 308.
(2) اللِّفَاع: ما يجلل به سائر الجسد، كساء كان أو غيره. انظر: ابن قتيبة: غريب الحديث 2/241، وابن منظور: لسان العرب 8/320، والفيومي: المصباح المنير 2/555، ومجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط 2/ 832.
(3) المروط: واحدها مِرْط، والمرط كساء من صوف أو خز غير مخيط، يؤتز به، وتتلفع المرأة به. انظر: ابن الأثير: النهاية 4/ 319، والرازي: مختار الصحاح 259، وابن منظور: لسان العرب 7/401، والفيومي: المصباح المنير 2/ 569.
(4) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح. انظر: ابن الأثير: النهاية 3/ 377، والرازي: مختار الصحاح 200، وابن منظور: لسان العرب 6/ 156، والفيومي: المصباح المنير 2/ 450.
(5) أخرجه: مالك في الموطأ (3) ، والبخاري (578) ، ومسلم (232/ 645) ، واللفظ لمالك ومسلم.
(6) انظر: ابن الأثير: النهاية 2/ 372.
(7) أسفر الصبح: إذا انكشف وأضاء. انظر: الترمذي (154) ، وابن الأثير: النهاية 2/ 372، والرازي: مختار الصحاح 127، وابن منظور: لسان العرب 4/ 369، 370، والفيومي: المصباح المنير 1/ 279.
(8) أخرجه: أبو داود (424) ، والترمذي (154) واللفظ له، والنسائي (548) ، وابن ماجه (672) .(13/174)
غير أن مالكاً رجح حديث عائشة رضي الله عنها لموافقته ظاهر قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات () (1) (، وقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم () (2) (.) (3) (
ومنها: أن مالكاً أخذ بالأخبار التي تدل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكافرين في القتال؛ لأنها ليس فيها جعل سبيل لهم على المؤمنين، وقد قال الله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا () (4) (، وترك ما يخالفها من أخبار) (5) (.
الوجه الثاني: ما رُجِّحَ لموافقته حديث آخر) (6) (: ومن أمثلة ذلك: ما روي عن أبي موسى (أن النبي (قال: {لا نكاح إلاّ بولي} ) (7) (.
فيعارضه: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله (قال: {الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها} ) (8) (.
وقد رجح مالك حديث أبي موسى (؛ لأنه يؤكد غلبة الظن بقصد مدلوله حديث عائشة رضي الله عنها أيضا، أن رسول الله (قال: {أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل} [ثلاث مرات] ) (9) (.) (10) (
__________
(1) من الآية 148 من سورة البقرة.
(2) من الآية 133 من سورة آل عمران.
(3) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/203، والزركشي: البحر المحيط 6/176.
(4) من الآية 141 من سورة النساء.
(5) انظر: مالك: المدونة 1/476، 477، 2/718، ومسلم (150/ 1817) ، والبيهقي: السنن الكبرى 9/37، 53، والحازمي: الاعتبار 323- 325، وابن قدامة: المغني 8/414، 415، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 12/ 198، 199، والكحلاني: سبل السلام 4/ 49، والشوكاني: نيل الأوطار 7/ 223، 224.
(6) انظر: الشيرازي: اللمع 85، والحازمي: الاعتبار 31، 32، والآمدي: الإحكام 4/ 483، والعبادي: الآيات البينات 4/ 308.
(7) أخرجه: أبو داود (2085) ، والترمذي (1101) ، وابن ماجه (1881) ، وكلهم بلفظه.
(8) تقدم تخريجه، انظر رقم 234.
(9) تقدم تخريجه، انظر رقم 233.
(10) انظر: الموطأ (1105) ، والمدونة 2/ 917، 3/ 1244.(13/175)
الوجه الثالث: ما رجح لموافقته إجماع الأمة) (1) (: ومن أمثلته: ما روي عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها أنها قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي (حين تُوُفِّيَ أبوها أبو سفيان بن حرب، فدعتْ أم حبيبة بِطِيب فيه صُفرة خلوق، أو غيره، فدهنتْ به جارية ثم مسحت بعارضيها، ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله (يقول: {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث ليال إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا} ) (2) (.
وفي الباب عن عائشة وحفصة زوجي النبي (وغيرهما) (3) (.
ويقابل ذلك خبر أسماء بنت عميس رضي الله عنها حيث قالت: دخل عليَّ رسول الله (إلىوم الثالث من قتل جعفر، فقال: {لا تحدي بعد يومك هذا} ) (4) (.
فمالك ترك خبر أسماء رضي الله عنها؛ لأنه يخالف الإجماع، وعمل بمقتضى خبر زينب رضي الله عنها؛ لكونه سنداً لإجماع الأمة في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل، على أن عدة المرأة الحرة المسلمة المتوفى عنها زوجها، إن لم تكن حاملاً ووضعت حملها، أمدها أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول، كبيرة بالغة، أو صغيرة لم تبلغ) (5) (.
__________
(1) انظر: البصري: المعتمد 181، والحازمي: الاعتبار 33، وابن حجر: الفتح 9/ 397، والعبادي: الآيات البينات 4/ 308.
(2) أخرجه: مالك في الموطأ (1265) واللفظ له، والبخاري (5334) ، ومسلم (58/ 1486) .
(3) انظر: مالك الموطأ (1266) .
(4) أخرجه: أحمد في المسند 6/ 369، وقال ابن حجر: في الفتح 9/ 397 إنه "حديث قوي الإسناد".
(5) انظر: مالك: المدونة 3/ 1267، وابن حزم: مراتب الإجماع 77، وابن رشد: بداية المجتهد 2/ 140، وابن قدامة: المغني 7/ 470، والنووي: صحيح مسلم بشرحه 10/ 112.(13/176)
الوجه الرابع: ما رجح لموافقته إجماع أهل المدينة لوحدهم) (1) (: ومن الأمثلة على ذلك صفة الأذان، حيث ورد ثلاث صفات مشهورة له، وهي:
الصفة الأولى: أذان المدنيين، وهو سبع عشرة كلمة: الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلاّ الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، ثم يرجع بأرفع من صوته بها أول مرة فيقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين، الله أكبر مرتين، لا إله إلاّ الله مرة واحدة) (2) (.
الصفة الثانية: أذان المكيين، تسع عشرة كلمة: وهو يماثل أذان المدنيين تماماً في جميع ألفاظه، ما عدا التكبير الأول، فالمدنيون قالوا بتثنيته، والمكيون قالوا بتربيعه) (3) (.
__________
(1) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 657، والغزالي: المستصفى 2/ 396، وابن الحاجب: المختصر 2/ 316، وآل تيمية: المسودة 313، وابن تيمية: مجموع الفتاوى 19/ 269، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 699، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 206، والشوكاني: إرشاد الفحول 280.
(2) انظر: مالك: المدونة 1/100، ومسلم (6/ 379) ، وابن عبد البر: الكافي 1/ 197، والباجي: إحكام الفصول 2/ 657، والكاساني: البدائع 1/220، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 126، وابن قدامة: المغني 1/ 404، 405.
(3) انظر: الشافعي: الأم 1/104، والكاساني: البدائع 1/ 220، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 126، وابن قدامة: المغني 1/ 404، 405، والشنقيطي: نشر البنود 2/ 280.(13/177)
الصفة الثالثة: أذان الكوفيين، وهو خمس عشرة كلمة: الله أكبر أربع مرات، أشهد أن لا إله إلاّ الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين، الله أكبر مرتين، لا إله إلاّ الله مرة واحدة) (1) (.
غير أن مالكاً يرى أن الصفة الأولى إلى الصحة أقرب، والأخذ بها أصوب؛ لأنه يشهد لها العمل المتصل في المدينة) (2) (.
وقد رجح مالك عدداً من الأخبار لموافقتها للعمل، على ما يعارضها من أخبار أخرى، من ذلك أنه ذهب إلى أن: الإقامة كلها فرادى إلاّ قوله الله أكبر في أولها وفي آخرها، فإنه مرتين مرتين) (3) (، وأن التكبير في الأولى من ركعتي العيد سبع، وفي الثانية خمس) (4) (، وإلى جواز القضاء في الأموال خاصة باليمين مع الشاهد الواحد) (5) (، وإنه لا يثبت حق الشفعة للشفيع إذا قسم المشفوع فيه ووقعت الحدود وبينت الطرق) (6) (.
__________
(1) انظر: مسلم (379) ، وأبو داود (499) ، والترمذي (189) ، وابن ماجه (706) ، والكاساني: البدائع 1/ 220، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 126، وابن قدامة: المغني 1/ 404، 405.
(2) انظر: مالك: الموطأ (41) ، والمدونة 1/100، وابن رشد: بداية المجتهد 1/126.
(3) انظر: الموطأ (150) ، والمدونة 1/100، وابن عبد البر: الكافي 1/197، والكاساني: البدائع 1/220، 221، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 132، وابن قدامة: المغني 1/406، 407.
(4) انظر: المدونة 1/ 184، 185، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 132، وابن قدامة: المغني 1/ 406، 407.
(5) انظر: الموطأ (1405) ، والمدونة 5/ 2242، والشافعي: الأم 1/270، والحازمي: الاعتبار 33، وابن الهمام: فتح القدير 8/ 170- 172، والشوكاني: نيل الأوطار 3/298
(6) انظر: الموطأ (1394) ، والمدونة 5/ 2453.(13/178)
الوجه الخامس: ما رجح لموافقته عمل الخلفاء الراشدين: إذا تعارض خبران وعمل بأحدهما الخلفاء الراشدون، دون الثاني، فيكون آكد؛ لأن عملهم به يدل على أنه آخر الأمرين وأولاهما وأشهرهما؛ إذ هم أجل من أن يخفى عليهم الحكم الثابت الواجب العمل به) (1) (، ومما رجحه مالك لأنه يوافق عملهم: تَرْك الوضوء مما غيرت النار) (2) (، وأن تكبيرات العيدين سبعاً وخمسا) (3) (، والقضاء بالشاهد واليمين فيما يتعلق بالأموال فقط) (4) (.
__________
(1) انظر: الشيرازي: اللمع 85، وإمام الحرمين: البرهان 2/ 1176، والحازمي: الاعتبار 33، والآمدي: الإحكام 4/ 483، وابن الحاجب: المختصر 2/ 316، وآل تيمية: المسودة 314، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 425، وبحر العلوم: فواتح الرحموت 2/ 206، والشوكاني: إرشاد الفحول 280.
(2) انظر: الحازمي: الاعتبار 77- 86، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 46.
(3) انظر: ابن عبد البر: الكافي 1/ 151، وابن رشد: بداية المجتهد 1/ 46، 47، وابن قدامة: المغني 9/ 151، والشوكاني: نيل الأوطار 8/ 285.
(4) انظر: الموطأ (1405) ، والمدونة 5/ 2242.(13/179)
الوجه السادس: ما رجح لموافقته القياس) (1) (: ومن أمثلة ذلك: ما ذهب إليه مالك أنه لا زكاة تجب في الخيل السائمة إذا كانت ذكوراً وإناثاً متخذة للنسل) (2) (، لما رواه بسنده عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: {ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقه} ) (3) (، فهذا نفي، والنفي على الإطلاق يقتضي الاستغراق، ومما يؤكد ذلك كذلك حديث علي (إذ قال: قال رسول الله (: {عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق} ) (4) (، إلاّ إذا كانت للتجارة ففيها الزكاة بلا خلاف) (5) (.
خلافاً لأبي حنيفة فقد ذهب إلى أنها إذا كانت تسام للدر والنسل، ومختلطة ذكوراً وإناثا، فإن الزكاة تجب فيها قولاً واحدا، أما إذا كانت ذكوراً منفردة أو إناثاً منفردة ففيها عنه قولان) (6) (، واستدل بما روي عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: {الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر [وساق الحديث وفيه] ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينسَ حق الله في رقابها، ولا في ظهورها فهي لذلك ستر} ) (7) (.
__________
(1) انظر: الحازمي: الاعتبار 32، والعبادي: الآيات البينات 4/ 309.
(2) المدونة 2/ 702 بتصرف يسير.
(3) أخرجه: مالك في الموطأ (613) ، والبخاري (1463) ، ومسلم (8/ 982) ، واللفظ لمالك ومسلم.
(4) أخرجه: أحمد في المسند 1/ 121، 145، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 118، وكلاهما بلفظه، وانظر أيضا: مالك: المدونة 2/ 702.
(5) انظر: الكاساني: البدائع 1/ 51.
(6) انظر: المرجع نفسه، نفس الموضع، وابن قدامة: المغني 2/ 620.
(7) أخرجه: مالك في الموطأ (966) واللفظ له، والبخاري (2371) ، ومسلم (24/ 987) .(13/180)
غير أن مالكاً دعم ما استدل به من أخبار من جهة المعنى والقياس إذ جاء في المدونة: "أنه لما اجتمع أهل العلم في البغال والحمير على أنه لا زكاة فيها، وإن كانت سائمة، واجتمعوا في الإبل والبقر والغنم على الزكاة فيها إذا كانت سائمة، واختلفوا في الخيل السائمة وجب ردها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل والبقر والغنم؛ لأنها بها أشبه؛ لأنها ذات حافر كما أنها ذوات حوافر، وذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخف أو الظلف؛ ولأن الله تبارك وتعالى قد جمع بينها فجعل الخيل والبغال والحمير صنفاً واحدا؛ لقوله: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة () (1) (، وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفاً واحدا؛ لقوله: (والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون () (2) (؛ ولقوله (: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون () (3) (".) (4) (
الوجه السابع: ما رجح لموافقته واقع الحال:
إذا تعارض خبران وكان أحدهما ينفي النقص عن أصحاب رسول الله (، والثاني يضيفه إليهم، فيكون الذي ينفيه أولى؛ لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحالهم، وما وصفهم الله تعالى به وأثنى عليهم) (5) (، ومن الأمثلة على ذلك: ما روي عن جابر (أنه قال: (إذا ضحك الرجل في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء)) (6) (.
__________
(1) من الآية 8 من سورة النحل.
(2) الآيتان 5،6 من سورة النحل.
(3) الآية 79 من سورة غافر.
(4) 2/ 702، وانظر أيضا: ابن العربي: أحكام القرآن 3/ 124- 126، والحازمي: الاعتبار 32، وابن قدامة: المغني 2/ 620.
(5) انظر: الباجي: إحكام الفصول 2/ 668، والإشارة 341، والغزالي: المستصفى 2/ 397، والحازمي: الاعتبار 35- 37، والآمدي: الإحكام 4/ 485، والقرافي: شرح تنقيح الفصول 424، والزركشي: البحر المحيط 6/ 179، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 707.
(6) أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى 1/ 144.(13/181)
فيقابله: ما روي عن أبي العالية) (1) (: (أن رجلاً أعمى جاء والنبي (في الصلاة، فتردى في بئر، فضحك طوائف من أصحاب النبي (، فأمر النبي (من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة)) (2) (.
فقدم مالك خبر جابر (؛ لأن معارضه يقتضي غضاً من منصب الصحابة رضي الله عنهم، ويستلزم إضافة النقص إليهم؛ إذ ينسب إليهم ضد ما كانوا عليه من الإقبال والخشوع والتذلل والخضوع، وهم في صلاتهم بين يدي ربهم) (3) (، ويشهد لما رجحه مالك أيضاً خبر صفوان بن عَسَّال (، حيث قال: (كان رسول الله (يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلاّ من جنابة، ولكن من غائط ونوم وبول)) (4)
__________
(1) هو: رُفَيع، بالتصغير، ابن مهران، أبو العالية الرِياحي، مولاهم البصري، تابعي ثقة كثير الإرسال، مات على الراجح في ولاية الحجاج. له ترجمة في: المزي: تهذيب الكمال (1905) ، وابن حجر: تهذيب التهذيب 3/ 246، 247.
(2) أخرجه: الدارقطني في سننه (596) ، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 146 واللفظ له.
(3) انظر: ابن عبد البر: الكافي 1/151، والباجي: إحكام الفصول 2/ 669، والغزالي: المستصفى 2/397، والحازمي: الاعتبار 36،37، والكاساني: البدائع 1/ 48، 49، وابن رشد: بداية المجتهد 1/47، والآمدي: الإحكام 4/ 485، وابن الهمام: فتح القدير 1/ 51، وابن النجار: شرح الكوكب المنير 4/ 707.
(4) أخرجه: الترمذي (96) وقال: هذا حديث حسن صحيح، واللفظ له، والنسائي (127) وابن ماجه (478) .
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد (631هـ) : الإحكام في أصول الأحكام، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1405هـ.
ابن الأثير، المبارك بن محمد الشيباني (606هـ) : النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر الزاوي، دار الفكر، بيروت- 1399هـ.
أحمد بن حنبل (241هـ) : مسند أحمد، دار صادر، بيروت.
الأرموي، محمد بن الحسين بن عبد الله (652هـ) : الحاصل من المحصول في أصول الفقه، تحقيق: د. عبد السلام أبو ناجي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي- 1994م.
الأرموي، محمود بن أبي بكر بن أحمد (682هـ) : التحصيل من المحصول، تحقيق: د. عبد الحميد أبو زنيد، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت - 1408هـ.
الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسين القرشي (772هـ) : طبقات الشافعية، الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت- 1416هـ.
الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسين القرشي (772هـ) : نهاية السول في شرح منهاج الأصول، عالم الكتب.
إمام الحرمين، عبد الملك بن عبد الله الجويني (478هـ) : البرهان في أصول الفقه، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة- 1400هـ.
الأنصاري، زكريا بن محمد (926هـ) : غاية الوصول شرح لب الأصول، الطبعة الأخيرة، مصطفى الحلبي، القاهرة- 1360هـ.
أمير بادشاه البخاري، محمد أمين (حوالي 987هـ) : تيسير التحرير، شرح كتاب التحرير، لابن الهمام، مصطفى الحلبي، القاهرة- 1350هـ.
الباجي، سليمان بن خلف بن وارث (474هـ) : الإشارة في معرفة الأصول، والوجازة في معنى الدليل، تحقيق: محمد فركوس، الطبعة الأولى، المكتبة المكية، مكة المكرمة، ودار البشائر الإسلامية، بيروت- 1416هـ.
الباجي، سليمان بن خلف بن وارث (474هـ) : إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق: د. عبد الله الجَبُّوري، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت- 1409هـ.
بحر العلوم، عبد العلي محمد الأنصاري (توفي بعد سنة 1180هـ) : فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، دار الفكر، بيروت.
البخاري، محمد بن إسماعيل (256هـ) : صحيح البخاري.
البصري، محمد بن علي (436هـ) : المعتمد في أصول الفقه، قدم له وضبطه: خليل المَيس، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت-1403هـ.
البغدادي، إسماعيل باشا (1339هـ) : هدية العارفين- أسماء المؤلفين وآثار المصنفين: دار الكتب العلمية، بيروت- 1413هـ.
البنا، أحمد بن محمد الدمياطي (1117هـ) : حاشية البنا على شرح الورقات للمحلي، مكتبة محمد صُبيح، بميدان الأزهر.
البناني، عبد الرحمن بن جاد الله (1198هـ) : حاشية البناني على شرح المحلي على متن جمع الجوامع، دار الفكر، بيروت - 1415هـ.
البيهقي، أحمد بن الحسين (458هـ) : السنن الكبرى، دار الفكر.
الترمذي، محمد بن عيسى (279هـ) : سنن الترمذي.
التلمساني، محمد بن أحمد (771هـ) : مفتاح الوصول في علم الأصول، مكتبة الكليات الأزهرية.
ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم (728هـ) : مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، توزيع الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين.
آل تيمية، عبد السلام بن عبد الله (652هـ) و (آخرون) : المسودة في أصول الفقه، جمع: أحمد عبد الغني، تحقيق: محمد عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بيروت.
الجعبري، إبراهيم بن عمر (732هـ) : رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار، تحقيق: د. حسن الأهدل، الطبعة الأولى، مؤسسة الكتب الثقافية - 1409هـ.
ابن الحاجب، عثمان بن عمر بن يونس (646هـ) : مختصر المنتهى الأصولي، مراجعة: شعبان إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة - 1394هـ.
الحازمي، محمد بن موسى (584هـ) : الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى، دار الوعي، حلب- 1403هـ.
الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله (405هـ) : المستدرك على الصحيحين، مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض.
ابن حجر، أحمد بن علي (852هـ) : فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب، ترقيم: محمد عبد الباقي، مراجعة: قصي محب الدين، الطبعة الأولى، دار الريان للتراث، القاهرة- 1407هـ.
ابن حزم، علي بن أحمد (456هـ) : مراتب الإجماع، دار الكتب العلمية، بيروت.
الخطابي، حمد بن محمد (338هـ) : معالم السنن، تحقيق: محمد الفقي، مكتبة السنة المحمدية- القاهرة.
الدارقطني، علي بن عمر بن مهدي (385هـ) : سنن الدارقطني، دار الفكر، بيروت- 1414هـ.
الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن (255هـ) : سنن الدارمي، تحقيق: سليم إبراهيم، وعلي محمد، وفهرسة د. مصطفى الذهبي، الطبعة الأولى، دار الحديث، القاهرة- 1420هـ.
أبو داود، سليمان بن الأشعث الأزدي (275هـ) : سنن أبي داود.
الذهبي، محمد بن أحمد (748هـ) : تذكرة الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت.
الذهبي، محمد بن أحمد (748هـ) : ميزان الاعتدال، توثيق: صدقي العطار، الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت- 1420هـ.
الرازي، محمد بن أبي بكر (666هـ تقريبا) : مختار الصحاح، مكتبة لبنان، بيروت- 1985م.
الرازي، محمد بن عمر (606هـ) : المحصول في علم الأصول، تحقيق: د. طه العَلواني، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت- 1412هـ.
ابن رشد (الحفيد) ، محمد بن أحمد (595هـ) : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: محمد محيسن، وشعبان إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية- 1394هـ.
ابن رشد (الحفيد) ، محمد بن أحمد (595هـ) : الضروري في أصول الفقه، أو مختصر المستصفى، تحقيق: جمال الدين العلوي، تصدير: محمد سيناصر، الطبعة الأولى، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، مركز الدراسات الرشيدية، فاس، ودار الغرب الإسلامي، بيروت- 1994م.
الزركشي، محمد بن بهادر (794هـ) : البحر المحيط في أصول الفقه، مراجعة: د. عمر الأشقر، الطبعة الأولى، وزارة الأوقاف بالكويت- 1409هـ.
السبكي وابنه، علي بن عبد الكافي (756هـ) ، وعبد الوهاب بن علي (771هـ) : الإبهاج في شرح المنهاج، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - 1404هـ.
السرخسي، محمد بن أحمد (483هـ) : أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت.
السمرقندي، محمد بن أحمد (539هـ) : ميزان الأصول في نتائج العقول، تحقيق: د. محمد عبد البر، الطبعة الأولى، مطابع الدوحة الحديثة- 1404هـ.
السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ) : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ومكتبة دار التراث، القاهرة- 1392هـ.
الشاطبي، إبراهيم بن موسى (790هـ) : الموافقات في أصول الفقه، شرح: عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت.
الشافعي، محمد بن إدريس (204هـ) : الأم، دار الفكر، بيروت- 1410هـ.
الشافعي، محمد بن إدريس (204هـ) : الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، دار الفكر- 1309هـ.
الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم (1230هـ) : نشر البنود على مراقي السعود، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1409هـ.
الشنقيطي، محمد الأمين بن المختار: مذكرة أصول الفقه، المكتبة السلفية، المدينة المنورة- 1391هـ.
الشوكاني، محمد بن علي (1250هـ) : إرشاد الفحول، إلى تحقيق الحق في علم الأصول، دار الفكر.
الشوكاني، محمد بن علي (1250هـ) : نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، دار الجيل، بيروت- 1973م.
الشيرازي، إبراهيم بن علي (476هـ) : اللمع في أصول الفقه، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1405هـ.
ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (643هـ) : علوم الحديث، تحقيق: نور الدين عتر، الطبعة الثالثة، دار الفكر، دمشق- تصوير 1406هـ.
العبادي، أحمد بن قاسم (994هـ) : الآيات البينات، ضبط: زكريا عميرات، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - 1417هـ.
ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله (463هـ) : الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي معوض، وعادل عبد الموجود، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1415هـ.
ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله (463هـ) : الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، تحقيق: د. محمد الموديتاني، الطبعة الثانية، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، البطحاء- 1400هـ.
ابن العربي، محمد بن عبد الله (543هـ) : أحكام القرآن، تحقيق محمد عطا، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1408هـ.
العضد، عبد الرحمن بن محمد (756هـ) : شرح العضد لمختصر المنتهى الأصولي. انظر: رقم (26) .
العطار، حسن بن محمد (1250هـ) : حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت.
الغزالي، محمد بن محمد (505هـ) : المستصفى من علم الأصول. انظر رقم (14) .
الغزالي، محمد بن محمند (505هـ) : المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: د. محمد هيتو، الطبعة الثانية، دار الفكر، دمشق - 1400هـ.
الفيومي، أحمد بن محمد (770هـ) : المصباح المنير، دار الفكر.
ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم (276هـ) : غريب الحديث، تحقيق: د. عبد الله الجبوري، الطبعة الأولى، وزارة الأوقاف العراقية- 1397هـ.
ابن قدامة، عبد الله بن أحمد (620هـ) : روضة الناظر وجنة المناظر، تحقيق: د. عبد الكريم النملة، الطبعة الثانية، مكتبة الرشد، الرياض - 1414هـ.
ابن قدامة، عبد الله بن أحمد (620هـ) : المغني، مكتبة الرياض الحديثة- الرياض.
القرافي، أحمد بن إدريس (684هـ) : شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، تحقيق: طه سعد، الطبعة الأولى، مكتبة الكليات الأزهرية، ودار الفكر، القاهرة- 1393هـ.
القرافي، أحمد بن إدريس (684هـ) : نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق: عادل الموجود، وعلي معوض، الطبعة الثالثة، المكتبة العصرية، بيروت- 1420هـ.
القرطبي، محمد بن أحمد (671هـ) : الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: إبراهيم اطفيش، الطبعة الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1987م.
ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر الزرعي (751هـ) : اعلام الموقعين عن رب العالمين، تعليق: طه سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر الزرعي (751هـ) : التهذيب. انظر رقم (31) .
الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود (587هـ) : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت - 1417هـ.
الكحلاني، محمد بن إسماعيل الأمير (1182هـ) : سبل السلام، شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام لابن حجر، تعليق: محمد الخولي، الطبعة الرابعة، مصطفى الحلبي، القاهرة- 1379هـ.
ابن كثير، إسماعيل بن عمر (774هـ) : البداية والنهاية، دار الفكر، بيروت- 1398هـ.
الكراماستي، يوسف بن حسين (899هـ) : الوجيز في أصول الفقه، تحقيق: السيد كساب، دار الهدى للطباعة، القاهرة - 1404هـ.
الكلوذاني، محفوظ بن أحمد (510هـ) : التمهيد في أصول الفقه، الجزءان الأول والثاني، تحقيق: د. مفيد أبو عمشة، والجزءان الثالث والرابع، تحقيق: د. محمد إبراهيم، الطبعة الأولى، دار المدني، جدة- 1406هـ.
ابن ماجه، محمد بن يزيد (275هـ) : سنن ابن ماجه.
المارديني، محمد بن عثمان (871هـ) : الأنجم الزاهرات، على حل ألفاظ الورقات، في أصول الفقه، تحقيق: أ. د. عبد الكريم النملة، الطبعة الثالثة، مكتبة الرشد، الرياض- 1420هـ.
مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) : المدونة الكبرى، الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت- 1419هـ.
مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) : الموطأ، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1405هـ.
مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، دار الفكر.
المحلي، محمد بن أحمد (864هـ) : شرح الورقات في علم أصول الفقه. انظر رقم (18) .
محمد السعيد بسيوني زغلول: موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف، دار الفكر، بيروت- 1414هـ.
محمد سعيد منصور (الدكتور) : منزلة السنة من الكتاب، وأثرها في الفروع الفقهية، الطبعة الأولى، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، ومكتبة وهبة، القاهرة- 1413هـ.
محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الطبعة الثانية، دار الفكر- 1401هـ.
المزي، يوسف بن عبد الرحمن (742هـ) : تهذيب الكمال في أسماء الرجال، حققه: أحمد عَبيد، وحسن آغا، وراجعه: د. سهيل زكار، دار القلم، بيروت- 1414هـ.
مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ) : صحيح مسلم.
المطيعي، محمد بخيت بن حسين (1354هـ) : سلم الوصول، لشرح نهاية السول. انظر رقم (8) .
ابن منظور، محمد بن مكرم الأنصاري (711هـ) : لسان العرب، دار صادر، بيروت.
ابن النجار، محمد بن أحمد الفتوحي (972هـ) : شرح الكوكب المنير، تحقيق د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض- 1413هـ.
ابن نجيم، إبراهيم بن محمد (970هـ) : فتح الغفار بشرح المنار، راجعه: محمود أبو دقيقة، الطبعة الأولى، مطبعة الحلبي، القاهرة- 1355هـ.
ابن النديم، محمد بن أبي يعقوب اسحاق (380هـ) : الفهرست، علق عليه: د. يوسف الطويل، ووضع فهارسه: أحمد شمس الدين، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1416هـ.
النسائي، أحمد بن شعيب (303هـ) : سنن النسائي، تحقيق: د. السيد محمد، وعلي محمد، وسيد عمران، وضبط: د. مصطفى الذهبي، الطبعة الأولى، دار الحديث، القاهرة - 1420هـ.
النووي، يحيى بن شرف الحوراني (676هـ) : صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر.
ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد (861هـ) : شرح فتح القدير على الهداية، دار الفكر، بيروت.
ياقوت الحموي، ياقوت بن عبد الله الرومي (626هـ) : معجم البلدان، تحقيق: فريد الجندي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت- 1410هـ.(13/182)
(.
خاتمة البحث:
بعد أن أتيت على نهاية البحث، أسجل بإيجاز أهم ما أرشد إليه في ثناياه، وما تمخضت عنه دراسته من نتائج، وهي كالتالي:
1- بَيَّنَ البحث أن التعارض الحقيقي بين الأخبار باستثناء الناسخ والمنسوخ منها، لا يدخلها ألبتة، وإنما هي متآلفة متوافقة لا تنافي بينها ولا اختلاف، وأنه إذا وجد خبران يوهم ظاهرهما التنافي والاختلاف، فإنه يكون تعارضاً صورياً لا في الواقع ونفس الأمر، ومرده نقص في علم الناظر وخلل في إدراكه، بحسب جلائهما وخفائهما بالنسبة إليه، حيث إنه غير معصوم من الخطأ والسهو وما شاكلهما، وإن هذا التعارض يزول بعد إنعام النظر فيها وتسريح الفكر، بأي وجه من وجوه الجمع الصحيحة، أو بيان النسخ، أو الترجيح، وقد اتضح ذلك جلياً من خلال الأمثلة التطبيقية التي سيقت لبيان ذلك.
2- أكد البحث أن الثمرة المرجوة من وراء الجمع عند الإمام مالك هي التوفيق بين الأخبار المتعارضة، وأنه يقدمه على النسخ إذا كان محتملاً والترجيح، بل ويستعمله أيضاً أكثر منهما، أما النسخ فقد حدد معناه عما قد يلتبس به وضبطه؛ إذ ذهب إلى أنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخٍ عنه، أما الترجيح عنده فهو: تفجير القوة الزائدة والطاقة الكامنة في أحد الخبرين المتعارضين ليعمل به، وقد يتبع تعارض الترجيح أيضاً تعارض أوجهه، وحينئذٍ يقدم الإمام مالك الترجيح باعتبار السند، ثم يليه بالنسبة إليه الترجيح باعتبار المتن، ثم يليهما الترجيح باعتبار أمر خارجي، إذ لا حاجة تدعو المجتهد أن يستعين بأدلة خارجة عن إطار الأخبار ما دام الأمر قد حسم في داخلها وانقضى.(13/183)
3- كشف البحث أن منهاج الإمام مالك في التعامل مع الأخبار المتعارضة لم يكن اعتباطياً أو عشوائيا، وإنما جعل لدفعه مسالك عدة، قائمة على الاتساق في التأصيل، والدقة في التقعيد، ويحصرها حصراً مركزاً ويربطها ربطاً وثيقا، عدد من المعايير الحساسة؛ لترتيبها بحسب مواقعها عند تطبيقها على الوقائع، وعليه فقد تَكَوَّنَ من جملتها منهاج متكامل أرشد إلى كيفية تعامله معها، وبالرغم مما قررنا فإن التزامه بهذا المنهاج التزام نسبي؛ إذ قد يغير فيه، تبعاً لتسامي ملكاته، المستندة على أدلة تقتضي ذلك.
4- أثبت البحث المستفيض أن التعامل مع الأخبار المتعارضة موضوع مهم خطير صعب عسير؛ إذ يحتاج خوضه إلى احتياط وورع ودقة وأمانة، وفهمه إلى غوص عميق في المعاني الدقيقة لدراسات متعددة الجوانب، ولا غرو فإنه يمثل أعلى المراتب في استيثاق الأخبار وحفظها وصيانتها من جهة أسانيدها أو متونها لتمييز الصحيح من السقيم والموضوع، وأن المحدثين تناولوه ضمن مبحث مختلف الحديث، أما الأصوليون فبسطوا الكلام فيه بشكل أوسع منهم تحت مبحث التعارض والترجيح.
5- توصل الباحث إلى أن طرائق الإمام مالك في دفع التعارض بين الأخبار لها أثر بالغ في استنباطاته الفقهية، وأنها تمثل الأصول التي تتفرع عنها، وعليه فإنها من أهم ما يجب أن يعرفه المجتهد؛ إذ لا يمكنه ادعاء استخراج الأحكام بدونها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(13/184)
مسائل في منهج دراسة السيرة النبوية
د. محمد بن صامل السلمي
الأستاذ المشارك بقسم التاريخ والحضارة الإسلامية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى
ملخص البحث
... السيرة النبوية بوقائعها المختلفة تمثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ودراستها بمنهجية علمية أمر مهم لكل مسلم فضلا عن المربين والمعلمين, إذ هي مادة سلوكية تربوية ذات أهداف اعتقادية وأخلاقية, وهذا البحث محاولة لبيان ضوابط لمنهج دراسة السيرة النبوية من خلال عرض بعض المسائل المهمة, وهي سبع مسائل:
الأولى: المصادر التي تستقى منها أخبار السيرة النبوية ووقائعها.
الثانية: التأصيل الشرعي لمن يشتغل بعلوم السيرة النبوية
الثالثة: تفسير أحداث السيرة النبوية
الرابعة: ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من السيرة.
الخامسة: الاهتمام بالسنن الربانية وإبرازها.
السادسة: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلى الله عليه وسلم.
السابعة: صدق العاطفة والوفاء بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسائل إذا جرى مراعاتها من قبل المربين والباحثين فإنها تنهض بعون الله بدراسة السيرة في مدارسنا وجامعاتنا ويظهر أثرها على سلوكيات المتلقين وهي الثمرة الأساس لدراسة السيرة النبوية.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير, رسول رب العالمين, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, محمد بن عبد الله, وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:(13/185)
.. فهذه نبذة يسيرة في موضوعات مهمة ومسائل جليلة في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام تمثل المنهج الذي ينبغي أن يتبع ويسلك في دراسة السيرة النبوية وتدريسها حتى تؤتى ثمارها, ونحصل على فوائدها, وندرك مقاصدها, ونعتبر بعبرها, ونقتدي بمواقف صاحبها عليه الصلاة والسلام, ونتأسى بأحواله, وذلك أن السيرة النبوية ليست ضربا من التاريخ فحسب إنما هي منهج متميز, وعبر متجددة, وسلوك يقتفى, فالسيرة النبوية متجددة العطاء لأنها سيرة الرسول الأسوة والإمام القدوة الذي لا يصح عمل ولا عبادة إلا باتباعه. وسيرته معيار تقاس إليه جميع السير والمواقف والأحداث, وهي صالحة لكل زمان, متسعة لجميع القدرات البشرية, وقد جمع الله فيه جميع الكمالات البشرية حتى يتمكن من الاقتداء به جميع المسلمين على مختلف أزمانهم وأوطانهم ومواقعهم الإدارية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتربوية ... إلخ.
... والسيرة النبوية مادة تربوية وسلوكية ينبغي أن تتلقى, ويتعلمها المتعلمون بهذا الهدف التربوي الذي يؤدي إلى تنمية السلوك البشري وتقويمه وفق الهدي النبوي الثابت في الكتاب والسنة.
ودارس السيرة النبوية بحاجة إلى التعرف على المنهج العلمي الصحيح في دراستها من حيث المصادر؛ ومنهج التلقي وضرورة التأصيل الشرعي لعلومها؛ والالتزام بنصوص الوحي وفهم السلف الصالح أهل السنة والجماعة؛ مع الوعي لقضايا العصر ومستجداته, مع مراعاة السنن الاجتماعية والشرعية والاهتمام بها حتى نجدد في دراسة السيرة وتدريسها ونجعلها من أهم الأسس والدعائم في بناء النهضة والحضارة الإسلامية المعاصرة.
إن المشكلة الواقعة في دراسة السيرة أنها تجري على الطريقة التقليدية في سرد الحوادث وحفظ الوقائع دون التنبه إلى أهميتها التربوية السلوكية؛ وأثرها في تقوية الإيمان وترسيخه؛ وفي بناء الجيل والأمة وفق السنن الشرعية والاجتماعية.(13/186)
ونظرا لبروز هذه المشكلة في مناهجنا الدراسية أحببت أن أسهم في إيجاد بعض الحلول لها من خلال مناقشة مجموعة من المسائل المتعلقة بمنهج دراسة السيرة النبوية التي ينبغي الاهتمام بها من قبل الدارسين والباحثين, وقد تعرضت في هذا البحث لسبع مسائل ذات صلة وثيقة بمنهج دراسة السيرة النبوية, وستراها مفصلة في البحث.
... وأسأل الله العلي القدير أن ينفع بها الباحث والسادة القراء. والحمد لله رب العالمين.
***
المسألة الأولى: المصادر التي تُستقى منها أخبار السيرة النبوية ووقائعها
هذه المسألة مهمة في منهج دراسة السيرة النبوية, لأن تحرير المصادر الموثوقة والرجوع إليها مما يساعد على الفهم الصحيح للسيرة النبوية, بخلاف من تأسره المصادر المنحرفة, التي كتبتها نوابت الضلال والانحراف من أهل الأهواء والبدع ليؤيدوا ضلالهم وانحرافهم, والحديث هنا ليس عن مصادر السيرة النبوية من حيث أنواعها وترتيبها التاريخي (1) , إنما هو عن مصادر السيرة من حيث التوثيق, ومن حيث الاتجاهات الفكرية للمصنفين, والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1 مصادر أصلية وموثوقة وهي:
أالقرآن الكريم, وهو رأس المصادر وأساسها, وثبوته بالتواتر القطعي أمر مسلٍّم لا مرية فيه, وحديثه عن السيرة كثير (2) , وعرضه منوع, ومنهجه في عرض الأحداث والوقائع يتميز بالشمول في تحليل الحدث ومعالجته, ويلاحظ الأهداف والغايات, ويركز على الآثار والنتائج, وينتزع الصورة الموحية من الحدث ثم يبرزها, غير ملتزم بتسلسل الحدث في سياقه التاريخي, لأن القرآن الكريم كتاب هداية وتربية وأحكام, لا كتاب تاريخ, فهو يهتم بالقيم والأخلاق. ومن مميزات النص القرآني وخصائصه:
عرض المشاعر والخواطر وما يجول في النفوس حتى يجعلها مكشوفة كأنها رأى العين.
بيان العواقب والمآلات للوقائع (3) , وذلك لأنه صادر من العليم الخبير, والسميع البصير, والحكيم القدير, الذي أحاط بكل شيء علما.(13/187)
فالنص القرآني يتميز بالصدق من جهتين:
الأولى: جهة النقل والثبوت.
الثانية: من حيث الوصف للواقعة التاريخية.
فإنه يصف الصورة الظاهرة للحدث كما يصف الصورة الباطنة له, ويوضح أثره في المشاعر والنفوس, كما يكشف الخواطر والأمنيات, حيث يستوي في علمه سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة.
ويلحق بهذا المصدر كتب التفسير وأسباب النزول, ففيها كم كثير من الأخبار المتعلقة بالسيرة النبوية, لكن رواياتها بحاجة إلى نقد وتمييز لمعرفة الصحيح من غيره.
ب – ما دونه علماء الحديث بالأسانيد في مصنفاتهم من أحداث السيرة وأخبارها.
فإن مصنفات المحدثين وما فيها من الأخبار والروايات قد خضعت لنقد وتمحيص من علماء الجرح والتعديل , ونصوا على صحيح الأخبار وحسنها, وميزوها عن ضعيفها وموضوعها كما نَصٍِوا على الرواة الثقاة العدول, والرواة الضعفاء والمجهولين والكذابين مما سَهل على الباحثين القدرة على النقد ومعرفة الصحيح من غيره.(13/188)
ج – ما جمعه علماء السيرة ورواتها الأوائل, من أمثال عروة بن الزبير ت: (93هـ) , ومحمد بن مسلم الزهري ت: (124هـ) , وموسى بن عقبة ت: (141هـ) , وابن إسحاق ت: (151هـ) , وأضرابهم, وكذا ما دُوِّن في المصادر التاريخية العامة من الحوادث والتراجم, وهذا النوع يحتاج إلى نقد وتمييز لمعرفة الصحيح من غيره قبل أن نأخذ الدرس التربوي والعبرة من الحدث, وقبل الاستدلال به على الحكم الشرعي. والمنهج المتبع في نقد الروايات التاريخية هو منهج المحدثين, لكن النتيجة قد تختلف من رواية إلى أخرى بحسب مضمون الرواية, وما يتعلق بها من أحكام, فإذا كانت الرواية متعلقة بحكم شرعي أو أدب نبوي, فلا بد من اتباع منهج المحدثين وشروطهم في الرواية الصحيحة والحسنة, أما إذا كانت الرواية متعلقة بأخبار ليست من هذا النوع – كتاريخ الحدث أو مكانه أو عدد المشاركين فيه أو أسمائهم أو ما يكون من أخبار التاريخ والحضارة – فإنه يتساهل في قبول الرواية حتى ولو لم تستجمع شروط القبول (4) . وهذا منهج سائغ وطريقة مسلوكه حيث يتشدد العلماء في الاستدلال على الفرائض وأحكام الحلال والحرام ويتساهلون في رواية ما لا يرفع حكما أو يضعه من أحاديث الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ (5) . كما أن نقد المتن هو خطوة نقدية بعد نقد السند, وهي مشتركة بين المحدثين والمؤرخين ويستطيع الباحث إذا أتقنها وتمرس بها تمييز الروايات الصحيحة من غيرها.
2 المؤلفات بعد عصر الرواية والإسناد:(13/189)
من بداية القرن الخامس الهجري تقريبا توقفت الرواية والتحديث في السنة والسيرة النبوية بالإسناد حيث صارت المؤلفات تغفل الإسناد, ويرجع المصنفون إلى الكتب والمؤلفات بدلا من التلقي المباشر من الرواة والشيوخ, وصار الإسناد إلى الكتب والإجازه (6) بها وتحمل روايتها بهذا الطريق , أو بطريق الوجادة (7) , وظهرت في تلك الفترة مؤلفات في السيرة النبوية تغفل الإسناد, وإذا وجد الإسناد فهو إلى المصنفات الأولى في عصر الرواية, وهذا النوع من المصادر ينظر إليها بحسب اتجاهات مصنفيها الفكرية والعقدية, وكذا بحسب مناهجهم في التصنيف, من حيث اشتراط الصحة فيما يذكرون أو عدم اشتراطها, وهؤلاء تسُبر طريقتهم بواسطة المقارنة والنقد الباطني للنصوص , أما إذا أسندوا فينقد الإسناد حتى يميز الصحيح من غيره.
والمصادر في هذا القسم أنواع:
منها: مصادر كتبها علماء ثقات من أهل السنة والجماعة وعلى طريقة السلف في الاعتقاد, ومنهج التلقي والاستدلال, من أمثال, ابن عبد البر (ت 463هـ) , وابن الجوزي (ت 597هـ) , والنووي (ت 676هـ) , وابن تيمية (ت 728هـ) , والذهبي (ت 742هـ) , وابن القيم (ت 751هـ) , وابن كثير (ت 774هـ) , وابن حجر (ت 852هـ) , وابن عبد الوهاب (ت 1206هـ) , فهذه مصادر يعتمد عليها ويهتم بدراستها مع ملاحظة اجتناب ما قد يقع فيه بعضهم من خطأ إذ لا عصمة لأحد من الخطأ, فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(13/190)
ونوع من المصادر كتبها علماء يغلب عليهم أو تنزعهم اتجاهات ونزعات فكرية مخالفة لطريقة السلف الصالح أهل السنة والجماعة, (اتجاه معتزلي , أو شيعي, أو صوفي ... إلخ) وتلك المصنفات لا تخلو من التأويل الفاسد, أو الأخبار الضعيفة, أو المكذوبة , وكذا الحكايات, والمنامات, والرؤى, وادعاء حالات وصور وأخبار عن السيرة النبوية يكون مؤداها ومآلها إخراج شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته عن مجال الاقتداء والتأسي به, حيث تضفي تلك الأخبار المزعومة, والحكايات والمنامات, على السيرة النبوية وصاحبها عليه الصلاة والسلام هالة من المبالغة والتبجيل الكاذب مما يخرجها عن قدرة البشر وطاقتهم فلا يستطيعون التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم عمليا, مما يجعل حظهم منه صلى الله عليه وسلم مجرد إعجاب , وانبهار, ومثاليه, وإشباع روحي, غير قابل للمتابعة والتطبيق الواقعي, وأكثر ما يبرز هذا في الفكر الشيعي؛ والفكر الصوفي اللذان يعتمدان شخصيات بديلة عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم, ويزعمون لأتباعهم أن لها خصوصية ولديها القدرة على التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم لما لها من الوسائل والخصائص المميزة, مثل الأئمة عند الشيعة, والسادة والأولياء عند الصوفية, أما الأتباع فدورهم التبرك بهؤلاء الوسطاء والاعتقاد فيهم ومتابعتهم من غير سؤال عن دليل أو برهان, وهذا غاية في الضلال والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحرمان للأمة من الاقتداء والتأسي به كما أمرهم الله سبحانه وتعالى. ولذا فإنه ينبغي تجنب تلك المصادر والمراجع خاصة من قبل الدارسين المبتدئين, أما الباحث المتخصص فإنه يستطيع الاستفادة منها في الجوانب التي أحسنوا فيها, ويحذر المزالق والأخطاء التي وقعوا فيها.
3 الدراسات المعاصرة عن السيرة النبوية:(13/191)
هذا العصر يموج بكثير من الأفكار والاتجاهات المختلفة, وقد تأثر بعضه ببعض بسبب تيسير نقل المعلومات وسهولتها وسرعة الاتصالات, وتقدم الوسائل الإعلامية حتى صار العالم يوصف بأنه قرية واحدة.
والدراسات عن السيرة النبوية في هذا العصر كثيرة, وعلى مستويات مختلفة, ومن اتجاهات فكرية كثيرة, مثل القومية, والاشتراكية, والشيوعية, والعقلانية, والعلمانية, ويغلب على كثير منها استخدام أسلوب التحليل للنصوص, وهو أسلوب ناجح ومفيد في دراسة السيرة النبوية إذا كان المؤلف أو الباحث يملك المرجعية الشرعية, فيفهم حقيقة الإسلام ومنهجه الكامل, وفقه اللغة التي نزل بها القرآن, مع الاعتقاد بأنه الدين الحق والمنهج الخالد الذي لا يقبل الله من أحد سواه, ولا يصلح لهذا العالم غيره, وأن له الحاكمية والهيمنة على الأديان كلها, وهو شامل في أحكامه لكافة مناحي الحياة وأنشطتها السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
أما إذا كان الباحث لا يؤمن بهذه المعاني أو تنقصه المعرفة الشرعية فإن الغالب أن لا تكون نتائج دراساته صحيحة وإن أتقن طرائق المنهجية المعاصرة, مثل أسلوب التحليل النفسي, والتحليل الاجتماعي, وبيان أثر البيئة. لأن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته ليست نابعة من هذه المنابع, إنما هو عليه الصلاة والسلام مرسل من الله, ويبلغ ما أوحي إليه, ولذا فإنه لا بد في دراسة السيرة النبوية من ملاحظة أثر الوحي والنبوة في تصرفاته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالتعبد وإبلاغ الوحي, ولا بد أيضا من فهم مقاصد الشريعة وغاياتها حتى يكون تفسير أحداث السيرة وتحليلها وفقا لنصوص الوحي ومقاصد الشريعة.(13/192)
ولهذا لا نستغرب أن نجد في الدراسات المعاصرة عن السيرة النبوية أثر الاتجاهات الفكرية السائدة, فالقوميون العرب يفسرون حوادث السيرة حسب الفكر القومي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو في نظرهم زعيم قومي وَحّد العرب لأول مرة في التاريخ تحت لواء دولة واحدة جامعة ومستقلة. والاشتراكيون يفسرون حوادث السيرة تفسيراً يخدم منهجهم وفكرهم, والشيوعيون يفسرون الغزوات النبوية تفسيرا اقتصاديا حسب نظرتهم للتاريخ البشري وأن الصراع فيه هو على الموارد الاقتصادية ولأجلها, وكذا العلمانيون يفرقون بين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم القائد والحاكم وبين شخصيته نبيٌ وزعيم ديني, ففي الأول يتصرف بكونه حاكما من غير النظر إلى النبوة والدين لأنهم يفصلون بين الدين والحياة. وهكذا تسير كل فرقة في دراساتها عن السيرة النبوية حسب منهجها الفكري, ولذا فإن على الباحث والقاريء المسلم الحذر من مثل هذه المؤلفات, ومعرفة اتجاهات الباحثين والكتاب حتى لا ينخدع بإحسان بعضهم لطرائق التحليل المنهجي للنصوص, والذي يستخدم وسيلة لتسويغ الفكر المنحرف وتسويقه.
ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة في الدراسات المعاصرة عن السيرة النبوية, وإنما توجد ولله الحمد دراسات جادة ونافعة, جمعت بين أسلوب التحليل للنصوص, وأسلوب القدامى من العلماء في حشد النصوص وتصحيحها والاستدلال بها, مع امتلاك القدرة العلمية والمرجعية الشرعية التي تلاحظ أثر النبوة والوحي, وتدرك مقاصد الشريعة وخلودها وتفردها بالمنهج المصلح للحياة البشرية وأنه لا منهج غيره يصلح لإنقاذ البشرية وإيصالها إلى نيل رضا الله والفوز بجناته.(13/193)
فعلى سبيل المثال أنجز في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, وجامعة أم القرى بمكة المكرمة, وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض عدد وفير من الرسائل الجامعية – ماجستير ودكتوراه – التي استوفت دراسة المغازي والسرايا النبوية دراسة توثيقية ونقدية للنصوص والروايات مع الدراسة التحليلية لاستنباط الدروس والأحكام والعبر التربوية.
كما أنجز في مواقع أخرى من الجامعات العربية والإسلامية دراسات في السيرة النبوية لها نصيب وافر من العلم الشرعي والأهداف التربوية, ومثل هذه الدراسات والأبحاث العلمية نحن بحاجة إلى تنميتها ونشرها بين طلاب العلم, بل والعامة من المسلمين ليستفاد منها, فإن السيرة النبوية مصدرٌ مهم في معرفة وسائل الدعوة ومناهجها, وما يقع في بعض الدراسات من نقص أو اجتهادات خاطئة لا ينبغي أن تكون مانعة من الاستفادة منها ما لم يكن صاحب الدراسة متعمداً مخالفة منهج السلف الصالح وراغباً عن طريقتهم.
المسألة الثانية: التأصيل الشرعي لمن يشتغل بعلوم السيرة النبوية
المشتغل بعلوم السيرة النبوية لا بد له من دراسة الشريعة من مصادرها حتى يفهم حقيقة الإسلام, ومنهجه الكامل, وفقه أحكامه, ودراسة منهج الاستدلال عند علماء الشريعة, كما يجب عليه الالتزام بمصطلحاته الشرعية, وفقه لغته التي نزل بها القرآن, والاعتقاد بأنه الدين الحق والمنهج الخالد الذي له الحاكمية والهيمنة على الأديان كلها.
فمن لا يفهم حقيقة الإسلام وشموليته لكافة مناحي الحياة وأنشطتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية, تكون أغلب تفسيراته وتحليلاته خاطئة ومخالفة لكثير من قواعد الشريعة وأحكامها, والقاعدة المنطقية تقرر أن الحكم على الشىء فرع عن تصوره. فلا بد من تصور حقيقة الإسلام من مصادره تصورا صحيحا وإلا وقع الباحث في خلط وقرر نتائج غير صحيحة.(13/194)
ومما ينبغي الالتزام به المصطلحات الشرعية, فإنها التي يتعلق بها الثواب والعقاب, والمدح والذم مثل: مؤمن, مسلم, منافق, كافر, أولياء الرحمن, أولياء الشيطان. فالواجب الالتزام بالتسميات الشرعية, ولا يعدل عنها في تقسيم الناس والدول إلى تقدمي ورجعي, ويميني ويساري, ووسط, ودول متقدمة, ودول متأخرة أو نامية, فإن هذا خلط يسبب التضليل وتمييع الأحكام الشرعية التي تستلزم المحبة والبغض, والولاء والبراء, وتترتب عليها الآثار الشرعية والمواقف الصحيحة, أما المصطلحات غير الشرعية فلا يترتب عليها مجردة مدح أو ذم في الشرع, وهذه المصطلحات وافدة من بيئة غير البيئة الإسلامية ومن ثقافة أمم غير الأمة الإسلامية, فلا يمكن تطبيقها أو استخدامها في التاريخ والحضارة الإسلامية لاختلاف المنشأ الفكري والبيئة والتراث الثقافي, فالتقدمي في عرفهم أفضل من الرجعي, وكذا اليساري بالنسبة لليميني, أما في الشريعة الإسلامية فإنه لا ينظر إلى مجرد المصطلح والوصف الذي يطلق, وإنما ينظر إلى موقف من يوصف بذلك المصطلح من الشرع والتزامه بذلك أو عدمه, فربما يكون الرجعي الذي هو وصف ذم عندهم أفضل وأتقى عند الله لتمسكه بالشرع المطهر, فيكون ممدوحاً, وإطلاق مثل هذا المصطلح يكون من باب التنابز بالألقاب المنهي عنه شرعاً.
المسألة الثالثة: تفسير أحداث السيرة النبوية(13/195)
إن تفسير أحداث السيرة النبوية واستخلاص فوائدها هو ثمرة دراستها ومقصدها الأسمى, وهذه السيرة هي سيرة نبي ورسول اختاره الله واصطفاه, والله أعلم حيث يجعل رسالته, وقد كَمّله بالوحي الذي هو الميزة العظمى والخصيصة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذا فإنه عند تفسير حوادث السيرة النبوية لا بد من ملاحظة أثر الوحي في تصرفاته ومواقفه صلى الله عليه وسلم. وإن تفسير حوادث السيرة النبوية من غير امتلاك للأدوات والوسائل الشرعية التي تمكن من ذلك يحمل كثيرا من المخاطر والمحاذير, لأن تفسير الحوادث يخضع في الغالب للفلسفة الفكرية والاتجاهات العقدية عند الدارسين, والتجرد من هذه النوازع غير ممكن لتحكمها في فكر المرء وقياده.(13/196)
والإنسان لا ينفك عن تصوره واعتقاده إلا إذا ترك الاعتقاد ونبذه, وتفسير حوادث التاريخ – والسيرة جزء منه - يخضع للتصور الاعتقادي والفكري, فإذا كان الباحث يحمل تصورا اعتقاديا صحيحا, كانت نتائج دراسته صورة لفكره وفلسفته في الحياة, وهذا الأمر يستلزم منا معرفة اتجاهات الباحثين والمؤلفين لنعرف مشاربهم الفكرية ومآخذهم الاعتقادية, وسنجد أن دراساتهم وأبحاثهم صورة لأفكارهم وعقائدهم, وبهذا الميزان نرفض نتائج أبحاث الأوربيين والمستشرقين عن السيرة النبوية, لأنهم ليسوا أهلا أن يحمل عنهم العلم عن سيرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ما داموا يكفرون به ولا يؤمنون بنبوته ورسالته إلا على وجه غير صحيح, وكذا الدراسات المتأثرة بأفكارهم والمعتمدة عليها يجب رفضها حتى ولو كان الباحث مسلما. فقد رفض علماء الحديث النبوي الرواية عن من اشتهر بالأخذ عن أهل الكتاب ورواية الإسرائيليات, وهؤلاء أولى بالرفض, لأنهم بتحليلهم لأحداث السيرة المتأثرة بعقائد وأفكار المستشرقين ينقلون لنا انحرافاتهم مسوغة باستنتاجات من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرفون فيها القول عن مواضعه, ويحاكمون نصوص الوحي محاكمة عقلية غير مهتدية, والعقل وحده لا يستقل بفهم نصوص الوحي, وخاصة في أمور الغيب مثل الحديث عن الجنة والنار والبعث والنشور, والملائكة والجن, والمعجزات ودلائل النبوة, ومما ينبغي التنبه له في تفسير أحداث السيرة النبوية أن لا نجعل الواقع الذي نعيشه مقياسا, ونحاول أن نؤول نصوص السيرة ووقائعها لتوافقه, فنسوغ للواقع الذي نعيشه ونجعله الأصل حتى لو كان فيه انحرافا, ونستدل له من السيرة النبوية, وهذا الأمر يحدث نتيجة لروح الانهزام أمام العدو والحضارة المعاصرة المسيطرة والانبهار بمنجزاتها المادية, كما يحدث لضعف الإيمان بخلود الرسالة المحمدية واستمرارها وعلوها وظهورها على جميع الملل والأديان.(13/197)
ولذا فإنه يجب على الباحث عدم الانسياق وراء المنطق التسويغي, وعليه التحرر من الروح الانهزامية عند تحليل أحداث السيرة النبوية, وأن يعظم ويحترم الأحكام الشرعية المقررة ويلتزم بها بكل وضوح مع الاعتزاز بمعطياتها.
المسألة الرابعة: ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من السيرة
إن استخراج الدروس والعبر والأحكام من حوادث السيرة النبوية من أهم أهداف الدراسة لها وأعظم فوائدها, لكن هذا الأمر لا يستطيعه كل باحث أو قارىء للسيرة , لأنه يحتاج إلى مرجعية شرعية, وإلى ضوابط تضبط طريقة الاستنتاج. وبالنظر إلى مناهج الاستدلال والاستنباط عند علماء المسلمين فإنه يمكن معرفة ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من خلال طريقتهم في البحث والاستدلال وفقا للخطوات التالية:
1 التأكد من صحة الحدث أو الواقعة التاريخية حتى يصح الاستدلال بها:
وذلك أن جوانب كثيرة من السيرة النبوية بعد البعثة هي جزء من السنة النبوية التي هي أحد مصادر الأحكام الشرعية فلا بد من التثبت من صحة الحادثة, ونجد أن العلماء يسلكون في منهج التوثيق لأحداث السيرة منهج علماء الحديث النبوي, لكنهم يفرقون في النتيجة بين الأحداث والوقائع التي تبنى عليها أحكام شرعية واعتقادية, وبين الأحداث التي لا تؤخذ منها الأحكام مثل: الفضائل, وأخبار الحضارة والعمران, فيتشددون في الأولى ويتساهلون في النوع الثاني من الأخبار, كما روي ذلك عن الإمام أحمد, وابن مهدي, وابن المبارك (8) , وأمثالهم.
2 بذل الجهد في جمع الأخبار الواردة في الموضوع الواحد:
وهذه هي الطريقة العلمية الصحيحة حيث يحيط الباحث بجميع الأخبار الواردة في الموضوع, بل يجمع الطرق والألفاظ لكل نص حتى يستطيع أن يخرج بحكم صحيح وتصور واضح, ويعرف المتقدم من المتأخر, والعام من الخاص. والألفاظ يفسر بعضها بعضا, وبهذا يتمكن من الجمع بين النصوص والأخبار المتعارضة, أو ترجيح أحدهما على الآخر على وجه صحيح.(13/198)
مثال ذلك: لو احتج بعض الباحثين أنه لا يجوز الدعاء على الكفار, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة رضي الله عنهم ادع الله على ثقيف قال: اللهم اهد ثقيفا (9) .
واحتج آخر بأنه لا يجوز الدعاء للكفار بل يدعى عليهم, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اشدد وطأتك على مضر, واجعلها عليهم كسني يوسف (10) فكيف العمل؟
نقول: إن الحديث الأول ضَعّف بعض أهل العلم إسناده, لكن لمعناه شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله, إن دوسا قد كفرت وأبت. فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. فقال: اللهم اهد دوسا وائت بهم (11) وبهذا نلجأ إلى الجمع بين الخبرين, فيقال: إنه يجوز في بعض الأحوال الدعاء للكفار الذين ترجى هدايتهم, ومن لا ترجى هدايته مع كثرة أذاه للمسلمين فيدعى عليه.
3 معرفة حدود العقل في نقد الأخبار:
المنهج النقدي الذي اتبعه العلماء المسلمون في نقد الأحاديث والأخبار النبوية يتناول نقد السند ونقد المتن, فلم يكتفوا بالنقد الخارجي للنص (نقد السند) وإنما نظروا إلى داخل النص, وقرروا ضوابط في نقد المتون منها:
عرض الحديث على القرآن, وعرض نصوص السنة بعضها على بعض, وعرض روايات الحديث الواحد بعضها على بعض حتى تتبين الألفاظ الشاذة والمنكرة والإدراج والوهم.(13/199)
كما أن من الضوابط سلامة النص من التناقض, وعدم مخالفته للوقائع والمعلومات التاريخية الثابتة, وانتفاء مخالفته للأصول الشرعية, وعدم اشتماله على أمر منكر أو مستحيل, وركاكة لفظ الحديث (12) , ورغم تطبيقهم لمثل هذه المقاييس الدقيقة إلا أنهم يحترمون النصوص الثابتة سندا, ويعرفون حدود العقل في نقد الأخبار, ويبتعدون عن المجازفة, فإن في أمور الشرع ومسائله ما لا يستطيع العقل إدراكه , بل هو فوق طاقته, مثل البحث في كيفية الصفات الإلهية, وأمور الغيب, ودلائل النبوة ومعجزاتها, ولهذا يجب الوقوف عند النصوص الثابتة وعدم معارضتها بالمقولات العقلية, أو متابعة الفكر المادي والفلسفات الوضعية التي أشاعها المستشرقون ومن تأثر بهم. فقد أنكر بعضهم حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم, وهو شاب في بادية بني سعد, بينما الخبر ثابت في صحيح مسلم (13) , وقد أفادنا راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه والذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة, ودخول الرسول صلى الله عليه وسلم العقد السادس من عمره أنه رأى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم. وهذا نص واضح يلغي أي محاولة لتأويل النص والقول بأنه تطهير معنوي.
4 ملاحظة المراحل التي مرت بها السيرة النبوية ونزول التشريع:
من المعروف أن الأحكام والتشريعات قد نزلت على مراحل وبالتدريج حتى استقرت واكتمل التشريع, وبوفاته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وثبتت الأحكام, فمثلا تحريم الخمر جاء على مراحل.(13/200)
أولا: بيان أن فيها إثما كبيرا كما قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ((14) ثم في مرحلة ثانية جاء النهي عن شربها قرب أوقات الصلوات, كما قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.... ((15) . وفي المرحلة الثالثة: جاء الأمر بتحريمها نهائيا وفي كل وقت, كما قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ((16) وهذا هو الحكم الثابت والمستقر, وهو تحريم الخمر وأنها من الكبائر وأم الخبائث. ... ومن الأمثلة التي قد يطرحها البعض ويجادل فيها: مسألة تغيير المنكر باليد, وأن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي لم يغير المنكر باليد, ولم يكسر شيئا من أصنام المشركين في مكة, وحيث أن الدعوة قد يأتي عليها زمان وحالة من الضعف تشبه الحالة المكية ولهذا فإنه يترك تغيير المنكر بحجة مشابهة الحال للحال.
نقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح ومعارض لنصوص شرعية, مثل قوله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (17) . فتغيير المنكر كما نص عليه الحديث هو بحسب القدرة والتمكن من التغيير, ونص أهل العلم على ضابط في ذلك وهو أن لا يترتب على تغيير المنكر المعين منكراً أعظم منه (18) , فليست العلة في ترك تغيير المنكر لأجل النظر إلى المرحلية ودعوى مشابهة الحال بالعهد المكي, ولكنها عدم التمكن, ومن تمكن من تغيير المنكر بضابطه الذي ذكره أهل العلم فالواجب عليه القيام بذلك.(13/201)
وكذلك الجهاد في سبيل الله قد جاء تشريعه على مراحل, واستقر الحكم على المرحلة الأخيرة وهي وجوب قتال الكفار كافة ابتداءً وطلباً, ولكن هذا منوط بالقدرة عليه والتمكن منه, فلا يجوز إيقاف الجهاد وتعطيله بدعوى مشابهة الحال للعهد المكي الذي كان الجهاد فيه ممنوعا كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشيةالله أوأشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال..الآية ((19) بل يجب على المسلمين الاستعداد وتكوين القدرة على الجهاد التي يحصل بها النكاية في العدو وحماية المسلمين من شره, وتتحقق بها أهداف الجهاد وغاياته.
وبهذا يتضح الفرق بين المرحلية في التشريع وسير الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وبين المرحلية في اكتساب القدرة والاستعداد للجهاد بما يستطاع من عدته, ومن ثم البدء بالمواجهة وتغيير المنكر.
5 ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض المواقف, وعقد بعض المعاهدات بموجب ما أوحى الله إليه:
الدارس للسيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمرَ من الله باتخاذ موقف محدد في بعض الحالات, وقد أُعْلم صلى الله عليه وسلم بأن مآل هذا سيكون خيرا على المسلمين في حين أن ظاهره غير ذلك, مثل: قبوله صلى الله عليه وسلم بعض الشروط في صلح الحديبية التي ظاهرها الحيف على المسلمين (20) , ولذلك أنكر بعض الصحابة القبول بها وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغربين ومستفسرين, فلما علموا أنه قد ألهم فيها وحيا من الله رضوا, ثم تحقق بعد الصلح والانصراف من الحديبية أن هذا الأمر كان فتحا عظيما بتقدير الله سبحانه وتعالى حيث نزلت سورة الفتح وسمت صلح الحديبية فتحا مبينا, ثم صار الأمر أن تنازل المشركون عن شرطهم الظالم حيث انقلب ضد مصلحتهم وجاءوا إلى رسول الله يطلبون موافقته على ذلك (21) .(13/202)
وبهذا يتضح أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لشرط قريش الجائر وغير المكافىء كان بوحي من الله, وأن الله قدر أن مآله إلى خير للمسلمين. ولكن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه, أما والي أمر المسلمين وخليفتهم فيجب عليه الاجتهاد في مصلحة المسلمين وعدم مهادنة العدو أو عقد الصلح معهم على شروط فيها ذل للمسلمين أو تفريط بحقوقهم وقضاياهم, أو قبول شروط فيها ضياع دينهم وعقيدتهم كما يحدث الآن في فلسطين حيث أن من أسس المصالحة نبذ الدين والاحتكام إلى القوانين الوضعية, وقيام نظام علماني يحكم المسلمين في فلسطين.
7 هناك أمور في السيرة النبوية وقع تحديدها قدرا واتفاقا فلا يقاس عليها:
مثال ذلك: كون الفترة المكية ثلاث عشرة سنة, وهي فترة الإعداد والتربية والصبر على الأذى وعدم المواجهة, فلا يلتزم بالمدة في الإعداد والتربية, لأنها ليست شرطا ولا مقصودة وإنما هذا يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المحيطة.
ومثل الاستدلال بإنزال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه الغرباء والفقراء في صفة المسجد على مشروعية بناء الزوايا الصوفية.(13/203)
وهذا استدلال غير صحيح, والغرباء الذين نزلوا الصُفّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من العزاب والفقراء الذين لا يستطيعون تدبير سكن لهم, ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر دار ضيافة ولا نزل, ولذا كان إنزالهم في المسجد حل لمشكلة, وتوظيف لمكان موجود, وبيان لبعض وظائف المسجد, وهم ليسوا منقطعين عن العمل بل يعملون إذا تيسر لهم ذلك ويبادرون إلى الخروج في السرايا والغزوات, ويتعلمون القرآن والأحكام طيلة مكثهم في المسجد, ومجرد نزولهم الصفة لا يعطيهم فضيلة أو منزلة يتميزون بها عن بقية الصحابة, فليس منقبة لأحدهم أنه نزل في الصفة كما يقال في مناقب الصحابة: مهاجري, بدري, عقبي, بايع تحت الشجرة ... الخ من المناقب والمشاهد العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتضح الفرق بين الصُفّة النبوية ومن نزلها, وبين الزوايا الصوفية البدعية المخالفة في الأصل والهدف والغاية (22) وأنه لا يمكن الاستدلال بالصفة النبوية على جواز بناء الزوايا الصوفية التي تمثل انحرافا عن المنهج النبوي في التعبد والسلوك والجهاد والدعوة.
المسألة الخامسة: الاهتمام بالسنن الربانية وإبرازها
إن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وما فيه لحكمة وغاية لأنه الحكيم الخبير, وأجراه على سنن وقوانين منها الثابت ومنها المتغير, وهو كله خاضع لحكمه ومشيئته النافذة, وهذه السنن تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 سنن طبيعية, مثل سنة الله في تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر, والرياح....الخ.
2 سنن شرعية, متعلقة بالأوامر والنواهي الواردة في الشريعة ومدى الاستجابة لها أو مخالفتها.
3 سنن اجتماعية, متعلقة بنشوء الدول وقيام الحضارات وسقوطها, واتجاهات المجتمعات السلوكية والاقتصادية والفكرية.
والذي يهم الباحث في السيرة النبوية ملاحظته هو القسمين الأخيرين من السنن, السنن الشرعية المتعلقة بالأمر والنهي الرباني, والسنن الاجتماعية.(13/204)
وسوف نعرض لثلاث سنن مهمة في هذا الجانب:
(أ) سنة الابتلاء.
وهي سنة جارية وملحوظة في أحداث السيرة النبوية, فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابتلي أصحابه ووقع عليهم بلاء عظيم خاصة في المراحل الأولى من الدعوة, فصبروا وصابروا حتى أنجاهم الله ونصرهم, يقول تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ((23) .
ويقول تعالى: (ألم, أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون, ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ((24) فالابتلاء سنة ربانية كما تقرر الآيات, ويبتلى الصالحون, بل الأنبياء, فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشدّ بلاء؟ قال: الأنبياء, ثم الأمثل فالأمثل, فيبتلى الرجل على حسب دينه, فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة (25) .(13/205)
فهكذا جرت سنة الله في ابتلاء المؤمنين لتمحيصهم ورفع درجاتهم, وتمييز الصادق من غيره, ويكون هذا الابتلاء تربية على الثبات في المحن والمواقف الصعبة, بل وحتى في السراء وإفاضة الخيرات والنصر تكون ابتلاء وفتنة, ليتميز الصادق والملتزم بدينه ممن تبطره نشوة النصر, وتنسيه نعمة السراء فضل الله عليه, فيتجاوز أمر الله وينساه, قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ((26) وقال تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ((27) وقد نجح المؤمنون الأوائل في أنواع الابتلاءات, وقاموا بما أوجبه الله عليهم من الصبر على البلاء, والمدافعة للأعداء, وبذل الأسباب المشروعة في رفع البلاء, وعدم الاستكانة والرضى بالواقع حتى يسر الله لهم الخروج من المحنة, كما كانت فتنة السراء والنصر بعد الهجرة إلى المدينة وظهور الدين ميدانا آخر فنجحوا في الجميع ولله الحمد, فتحقق لهم بذلك التمكين في الأرض ونشر الدين حتى أظهره الله على الدين كله, وكان هذا بعون من الله ثم بجهد منهم وعمل, وأخذ بالأسباب المعنوية والمادية المؤدية إلى ذلك, فما أحوج المسلمين اليوم وهم يجابهون أعداءهم إلى فقه هذه السنة الربانية حتى يجتازوا الفتنة والابتلاء بنجاح, ويحققوا النصر على عدوهم في الواقع, لكن لن يحصل ذلك حتى تنتصر المبادىء, وتستجيب النفوس لداعي الحق, وتحصل عندهم الرغبة والإرادة للنصر, والتمكين للدين الذي قَدّر الله أنه سيظهر على الدين كله لو كره المشركون, لكن لا بد من جهد وعمل وأخذ بالأسباب وإرادة قوية حتى تتحقق السنة الربانية والوعد الإلهي.
ب - سنة المدافعة للباطل وأهله.
إن الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية جارية كما قال تعالى: وكذلك (جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ((28) فالأنبياء وهم أكرم الخلق وأعدل الخلق وُجدَ لهم أعداء ومضادون, يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.(13/206)
وقد أمر الله المؤمنين بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله, وتضعف شوكة الباطل وتنكسر, وحتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى, قال تعالى: (الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ((29) ففي هذه الآية وآية سورة الفرقان التي ذكرناها قبل إشارة إلى ضعف الباطل وأهله إذا قام أهل الحق بواجبهم في مدافعتهم وقتالهم, لأن الله مع الذين اتقوا. فقوله في الآية الأولى: (وكفى بربك هاديا ونصيرا (وفي الآية الثانية: (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً (إشارة إلى ضعف كيد الشيطان الذي يتولاه الكفار والمشركون, فإذا كان وليهم ضعيفا فهم أضعف وأذل (30) , وهذا يعطي المؤمن قوة على العمل بما أوجبه الله عليه من مدافعة الباطل وأهله, كما يعطيه ثقة في نصر الله له, ومن ثم يعتز بدينه ويتمسك به, وهذا هو الذي قام به الصحابة رضي الله عنهم في العهد المكي, فقد وقع عليهم الاضطهاد الشديد من المشركين في مكة, ولم يكن بمقدورهم المواجهة العسكرية ولم يؤمروا بالجهاد بعد, وإنما أمروا بالصبر والتحمل, فصبروا رضي الله عنهم وتحملوا تلك المرحلة, ولكن مع الصبر والتحمل كانوا يسعون لإزالة هذا الواقع وعدم استمراره, فجاءت الهجرة الأولى إلى الحبشة, ثم ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف, ثم العرض على القبائل في المواسم, كلها بحث عن مخرج من ذلك الواقع حتى قيض الله طائفة من الأوس والخزرج لقبول دعوة الحق, ثم المبايعة على النصرة ليلة العقبة (31) , وأعقب ذلك الهجرة إلى المدينة, فخرج المسلمون من الاضطهاد ونصرهم الله بإخوانهم في المدينة عندما قاموا بالأسباب الموجبة لذلك. والملاحظ أن الصحابة تحملوا مرحلة الاضطهاد وواجهوها بالصبر ولكن مع عدم الاستكانة والرضى بالواقع, فأخذوا يعملون لإزالة ذلك الواقع حتى تمكنوا من رفعه(13/207)
وإزالته, وهو درس بالغ ينبغي أن يفهمه المسلمون اليوم فهم بحاجة إلى الصبر لمواجهة الواقع الذي يعيشونه, غير أنه لا ينبغي أن يتحول صبرهم إلى استكانة ورضى بالواقع واستسلام له فإن هذا خلاف سنة الله في المدافعة بين الحق والباطل.
ج – سُنّة التمكين:
وهذه السُّنة بحاجة إلى فقه المسلمين لها, والعمل على نشر هذا الفقه بينهم, لأنه وسيلتهم في الانتصار على العدو إذا أخذوا بأسباب التمكين والثبات على المنهج الرباني, فالتمكين في الأرض هبة من الله وفق مشيئته لمن سلك الأسباب الشرعية المؤدية إليه, قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ((32) .
فالتمكين بيد الله سبحانه وتعالى وتحت مشيئته, وقد قضى بعدله ورحمته أن التمكين الدائم هو لأهل طاعته, لكن لا يحصل إلا بتحقق شروط والقيام بواجبات وانتفاء موانع. قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ((33)(13/208)
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات, هم الذين صححوا معتقدهم وأقاموه على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وطريقة السلف الصالح وفهمهم , ثم قاموا بعمل الواجبات الشرعية والالتزام بها, وابتعدوا عن الشرك وتوابعه, هؤلاء قد وُعدوا من الله وعداً لا يخلف, بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من أتباع الرسل عليهم السلام, ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام. وتمكين الدين يكون: بتمكينه في القلوب, وبنشره وتعليمه, وبتمكينه من تصريف أمور الحياة والهيمنة عليها, وذلك بمراعاة أحكامه وتنفيذها في الواقع, فإذا فعلوا ذلك فقد اكتسبوا شروط التمكين وحصل لهم الأمن والاستخلاف, وانتفى عنهم الخوف. ثم كرر سبحانه الشرط الأساسي في الاستخلاف وأكد عليه بقوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا (ثم قال سبحانه وتعالى في الآية التي بعدها: (وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ((34)
فهذه هي عُدّة النصر ومتطلبات التمكين, كما قال جل شأنه: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ((35) فهذا هو واجب من مكنه الله وأعطاه سلطة وقدرة أن يقوم بتنفيذ شرع الله وحراسته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يستمر تمكين الله له, فإن الأمور كلها بيد الله ويعطيها سبحانه وتعالى من يستحقها ممن قام بعبادته وحده, ونفذ شرعه في واقع حياته, فالتمكين ليس من أجل الحكم والملك والغلبة وقهر الآخرين والاستئثار بالدنيا, إنما هو من أجل استخدامه في الإصلاح والبناء, وتحقيق المنهج الذي ارتضاه الله لعباده, ودفع الظلم والفساد وتحقيق العدل بين العباد.(13/209)
وقد يحصل التمكين المؤقت لمن يمتلك أسبابه المادية لكنه لن يكون تمكينا تاما ولن يكون مستمرا بل تنتابه الشرور والمنغصات, ولن يكون فيه الأمن الحقيقي ولا البركة في الأرزاق والأولاد قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ((36) .
وهذه السنن الثلاث (الابتلاء, المدافعة للباطل, التمكين (بينها ترابط فإن أهل الإيمان الحق يبتلون في أنفسهم وأهليهم, ويعاديهم أهل الباطل من المشركين والمنافقين والعصاة, فإذا ثبتوا على الحق ودافعوا أهل الباطل وسعوا في كشفه, وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر, كتب الله لهم التمكين والنصر, وأبدلهم بعد خوفهم أمنا, ومن بعد شدتهم رخاء, وهذه السراء من البلاء الذي يختبرون به, فلا بد من مراعاة حق الله, وحق عباده, والقيام بذلك في كل الأحوال, في السراء, وفي الضراء, حتى يستمر لهم التمكين والنصر في الدنيا, ويستحقون الجزاء الأخروى في جنات النعيم وإن هم أعرضوا وأخلوا بشروط التمكين فإن سنة الله الأخرى تنتظرهم وتحيق بهم, وهي سنة الاستبدال عندما تفقد الأمة صلاحية الاستمرار قال تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ((37) , والمتأمل في وقائع السيرة النبوية وسير الدعوة يرى التعامل مع هذه السنن والوعي بها واضحا حتى كتب الله لهم النصر والتمكين.
المسألة السادسة: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلى الله عليه وسلم
إن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما يفعله بحسب جبلته وطبيعته البشرية (38) مثل القيام والقعود والأكل والشرب, وقضاء الحاجة والنوم ... الخ فهذه أفعال مباحة لم يقصد بها التشريع في أصلها لكن لها آداب وقواعد عامة في ممارستها والقيام بها فهذه الآداب يتأسى به صلى الله عليه وسلم فيها ويبتعد عن ما نهى عنه منها.(13/210)
وهناك أفعال وأحكام ثبت اختصاصه صلى الله عليه وسلم بها, مثل الجمع بين أكثر من أربع نساء, وأنه لا يورث, وأبيح له الوصال في الصيام دون غيره من الأمة, ولم يحسن الكتابة ويحرم عليه تعلمها, والكذب عليه ليس كالكذب على غيره فإنه يوجب دخول النار, ومن سبه وجب قتله رجلا أو امرأة, والتبرك بآثاره مثل شعره وثيابه, وتنام عيناه ولا ينام قلبه, ولذلك لا ينتقض وضوءه بالنوم ... إلى غير ذلك من الخصائص الثابتة والتي ذكرها أهل العلم وأفردها بعضهم بمؤلفات (39)
فهذه الأفعال والأحكام خاصة به ويحرم الاقتداء والتأسي به فيها, وقد اهتم أهل العلم ببيانها حتى لا يغتر الجاهل إذا وقف عليها في أخبار السيرة النبوية فيعمل بها على أصل التأسي والاقتداء.
وهناك أفعال بيانية يقصد بها بيان التشريع مثل أفعال الصلاة, وأفعال الحج, فهذه الأفعال تابعة لما بينه؛ فإن كان الفعل المبين واجباً, كان الفعل المبين له واجبا وإن كان الفعل المبين سنة كان الفعل المبين له سنة, وهكذا, وهذا النوع من أفعاله صلى الله عليه وسلم هو الباب الواسع في الاقتداء والتأسي به, والواجب معرفة هذه الأنواع من أفعاله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل الاقتداء والتأسي به على علم وبرهان.
المسألة السابعة: صدق العاطفة والوفاء بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
عند دراسة السيرة وتحليل نصوصها لا يلزم أن تهيمن على الباحث النظرة (الأكاديمية) البحتة فقط, فتتسم دراسته بالجفاف, بل لا بد من ظهور صدق العاطفة من غير غلو, لأن حبه صلى الله عليه وسلم إيمان وعقيدة لا يمكن التجرد منها والتخلي عنها لحظة واحدة, والواجب على الباحث أن يبرز خصيصة النبوة والرسالة وأثرها في حياته وتصرفاته صلى الله عليه وسلم, يقول الشيخ أبو الحسن الندوي:(13/211)
(القرآن يطلب للأنبياء الإجلال المنبعث من أعماق القلب, والتوقير والتبجيل العميق, والحب العاطفي, ولا يكتفي بالطاعة المجردة من كل عاطفة وحُبّ وإجلال كطاعة الرعية والسوقة للملوك وكثير من قادة الجنود وزعماء الأحزاب) (40) .
قال تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ((41) فحقه صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به وتصديقه, التوقير والتعظيم كما قال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ((42) وقد نهى سبحانه وتعالى عن رفع الصوت فوق صوته فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ((43) هذا هو الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته, ومع شرعه وسنته بعد وفاته, فيعظم أمره ونهيه وتتتبع سنته فلا تزاحم أو تضاد بغيرها.
وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ((44) أي ادعوه بوصف الرسالة والنبوة فقولوا: يا رسول الله, يا نبي الله. والنصوص في طلب حب الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على النفس والأهل والولد كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (45) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان , أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... الحديث (46) . وهذه العاطفة وصدق الإيمان هي الباعث على المتابعة لهديه صلى الله عليه وسلم والدعوة إليه والجهاد في سبيل ذلك.(13/212)
وليس المنهج العلمي منافيا للحب والإيمان, وإنما المنهج العلمي يدعو إلى العدل والإنصاف وقول الحق, ومن العدل والإنصاف وقول الحق, الوفاء بحقوقه صلى الله عليه وسلم واحترامه ومحبته وإظهار ذلك, والعمل بالشرع الذي جاء به, والصلاة عليه كلما ذكر اسمه في البحث وغيره (47) , واتباع سنته والدعوة إليها.
كما أن الغلو خلاف العدل وتعد على الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم, ولهذا نهى صراحة عن ذلك بقوله: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم؛ فإنما أنا عبد, فقولوا عبد الله ورسوله (48) . فالتوازن هو منهج الوسطية الحق, فلا جفاء ولا غلو, وإنما وفاء بالحق والعدل وفق الميزان الشرعي. وفي أحداث السيرة نماذج ومواقف كثيرة من محبة الصحابة العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانوا أحرص الناس على طاعته, وأسرعهم إليها, وأنشطهم فيها, وأصبرهم عليها, ولهم في ذلك القدح المعلى والنصيب الأوفر إلى يوم القيامة (49) .
منها قصة الصديق رضي الله عنه لما ضربه المشركون عندما دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ... الآية ((50) فضربوه حتى أغمي عليه, وبعد إفاقته كان أول ما تكلم به أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما أخبر بحاله قال: إن لله عليَّ أن لا أذوق طعاما ولا شرابا, حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (51) .
... ومنها قصة زيد بن الدثنة (52) رضي الله عنه لما أخرجه المشركون إلى التنعيم ليقتلوه, وسأله المشركون ننشدك الله يا زيد, أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه, وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه, وأنا جالس في أهلي, فضحكوا. قال أبوسفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدا (53) .(13/213)
ومنها قصة المرأة الأنصارية من بني دينار التي قُتلَ زوجها وأخوها وأبوها في معركة أحد, فلما نعوا لها, قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان, هو بحمد الله كما تحبين, قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ فأشاروا إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (54) تريد صغيرة.
فهذه القصص وأمثالها توضح مقدار حب الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, الحب الإيماني الذي أمر الله به, والذي يتبعه العمل والتأسي والالتزام بالشرع الذي جاء به.
***
الخاتمة:
بعد هذه الجولة في مسائل من منهج دراسة السيرة النبوية يتضح لنا أهمية المنهج في الدراسة, وضرورة العناية به, وأن المنهج يتعدى ترتيب المسائل العلمية وذكر النصوص إلى التحليل واستخراج العبر والفوائد والتوجيهات التربوية, وفق منظور منهجي يسعى إلى ترتيب الأفكار, وبناء السلوك, وإثارة الاهتمام, وزرع الجدية والرغبة في الدراسة والتعلم, وإخراج الجيل من مشكلاته, والتقدم في مجال البناء الحضاري للأمة المسلمة التي تقتفي أثر نبيها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وتعتز بذلك فكرًًاً وواقعا.
... والحمد لله الذي وفق وهدى وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
الهوامش والتعليقات
تحدث كثير من الباحثين في مقدمات كتبهم عن مصادر السيرة النبوية مثل: مصطفى السباعي: السيرة النبوية دروس وعبر, وأكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة , ومهدي رزق الله أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية, وقد أفردها فاروق حمادة, بكتاب مستقل بعنوان: مصادر السيرة النبوية وتقويمها, الطبعة الثانية, دار الثقافة, الدار البيضاء.(13/214)
كتب محمد عزة دروزة: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صور مقتبسة من القرآن الكريم, في مجلدين نشر مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1384هـ وكان قد أصدر كتابا أخر عن: عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة. واعتمد فيه على الأيات القرأنية, ونشر بدمشق سنة1366هـ كما أعد الباحث د: محمد بن بكر آل عابد, رسالتي الماجستير والدكتوراه بالجامعة الإسلامية بعنوان: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, في مجلدين نشر دار الغرب الاسلامي.
انظر فصلا ممتعا حول هذا المعنى في ظلال القرآن , لسيد قطب 1\467-533
انظر: أكرم ضياء العمري , السيرة النبوية الصحيحة 1\39
الخطيب البغدادي, الكفاية في علم الرواية ص 212
الإجازة: هي إذن الشيخ لغيره بأن يروي عنه مروياته ومؤلفاته (الباعث الحثيث ص121)
الوجادة: هي ما أخذ من العلم بواسطة الصحف والكتب من غير سماع ولا إجازة (المصدر نفسه128)
الخطيب البغدادي, المصدرالسابق 212
أخرجه الترمذي في سننه, كتاب المناقب حديث رقم: 3942 وقال: حسن صحيح غريب. قال الشيخ الألباني في دفاع عن السيرة (ص7) رواية الترمذي ضعيفة لعنعنة أبي الزبير. وأخرجه أحمد في المسند3\ 343 وانظر احتجاج البوطي به في فقه السيرة له (ص395) .
متفق عليه من حديث أبي هريرة
صحيح مسلم , كتاب الفضائل, حديث رقم: 2524
انظر: مسفر الدميني, مقاييس نقد متون السنة, (ص 77-184) ومحمد السلمي, منهج نقد الروايات التاريخية (ص61 68)
كتاب الإيمان, حديث رقم: 261.
سورة البقرة, آية: (219) .
سورة النساء آية: 43.
سورة المائدة, آية: 90
رواه مسلم, كتاب الايمان حديث رقم (78) .
انظر: ابن تيمية, مجموع الفتاوى (28\129) .
سورة النساء, الآية: 77.
ابن هشام, السيرة النبوية: (2\316-320) .
المصدر نفسه (2\324) .
انظر: مجموع الفتاوى (11\40,44-56) وانظر بحثا لطيفا للأستاذ صالح الشامي بعنوان: أهل الصفة (بعيدا عن الوهم والخيال) .(13/215)
سورة البقرة آية (214)
سورة العنكبوت آية (1-3)
رواه الترمذي 2\64 وأحمد 1\172,174 وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (143)
سورة الأنبياء آية (35)
سورة الأعراف آية (168)
سورة الفرقان آية (31)
سورة النساء آية (76)
انظر تفسير المنار 5\212 وتفسير ابن سعدي ص152
المراد بيعة العقبة الكبرى حيث بايعوه على النصرة والحماية.
سورة آل عمران آية (26)
سورة النور آية (55)
سورة النور آية (56)
سورة الحج آية (41)
سورة طه آية (124)
سورة محمد آية (38) .
انظر عبد اللطيف الحسن, أصول وضوابط في دراسة السيرة النبوية, مجلة البيان عدد: 147 ذو القعدة 1420هـ.
للسيوطي كتاب كبير في ثلاثة مجلدات سماه: (الخصائص الكبرى) لكن فيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة الشيء الكثير كما قال العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني, وهو شامل للخصائص والدلائل والفضائل لكن أحسن ما وقفت عليه في ترتيب الخصائص والاقتصار على ما صح منها, ما ذكره الحافظ ابن كثير في أخر كتابه الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, فراجعه فإنه نافع جدا.
النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم ص 95.
سورة الفتح آية (9)
سورة الأعراف آية (157)
سورة الحجرات آية (3,2)
سورة النور آية (63)
صحيح البخاري كتاب الإيمان حديث رقم: 15 وصحيح مسلم رقم: 44
صحيح البخاري كتاب الإيمان حديث رقم: 16 وصحيح مسلم حديث رقم: 43.
بسبب دعوى اتباع المنهج العلمي الحديث نجد باحثا يكتب كتابا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ويسميه: حياة محمد, هكذا بالاسم المجرد من أي وصف بالنبوة والرسالة, ثم لا تجد في الكتاب ذكرا للصلاة والسلام على رسول الله , ولو مرة واحدة, وقد ذكر في مقدمته أنه يكتب هذا الكتاب على وفق المنهج العلمي الحديث!!
أخرجه البخاري في صحيحه, كتاب الأنبياء حديث رقم: (3445) .
أبو الحسن الندوي, النبوة والأنبياء ص96.
سورة غافر آية (28)(13/216)
أصل القصة في الصحيح, انظر: البخاري, كتاب مناقب الأنصار, باب ما لقي النبي وأصحابه من المشركين حديث رقم: 3856 وانظر: البداية والنهاية 3\33-34.
زيد بن الدثنة بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون, بن معاوية بن عبيد الأنصاري البياضي شهد بدرا وأحدا, وأسر في سرية الرجيع, وقتلته قريش في التنعيم هو وخبيب بن عدي. الإصابة (2\604)
ابن هشام, السيرة النبوية 2\172 وقد ذكره ابن اسحاق من غير اسناد, وانظر مغازي عروة ص 177 وأصل القصة في الصحيح, كتاب المغازي, باب قصة الرجيع.
ابن هشام, السيرة النبوية (2\99) وصرح ابن اسحاق بالتحديث لكن سنده منقطع.
المصادر والمراجع
1 الألباني, محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي, (ت 1420هـ)
... دفاع عن السيرة النبوية ضد جهالات البوطي, المكتب الإسلامي, بيروت,
... سلسلة الأحاديث الصحيحة, المكتب الإسلامي, بيروت,
2 البخاري, محمد بن إسماعيل, (ت256هـ) .
... الجامع الصحيح, المكتبة الإسلامية, تركيا سنة 1979م.
3 البوطي, محمد سعيد رمضان.
... فقه السيرة, دار الفكر, بيروت, ط 5, 1393هـ.
4 الترمذي, محمد بن عيسى (ت 279هـ) .
... سنن الترمذي, تحقيق: أحمد شاكر, دار إحياء التراث العربي.
5 ابن تيمية, أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت728هـ) .
... مجموع الفتاوى, ط2, مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
6 ابن حجر, أحمد بن علي العسقلاني, (ت852هـ) .
... الإصابة في معرفة الصحابة, تحقيق علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر.
7 ابن حنبل , أحمد بن محمد الشيباني, (ت241هـ)
... المسند, دار صادر, بيروت,
8 الخطيب البغدادي, أحمد بن علي بن ثابت, (ت463هـ) .
... الكفاية في علم الرواية, دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
9 دروزة , محمد عزة, (ت 1404هـ) .
... عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة, دمشق 1366هـ.
... سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, صورة مقتبسة من القرآن مكتبة البابي الحلبي بمصر 1384هـ.
10 الدميني, مسفر بن غرم الله.(13/217)
.. مقاييس نقد متون السنة, ط1, 1404هـ.
11 رشيد رضا , محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) .
... تفسير المنار, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972م.
12 السعدي, عبد الرحمن بن ناصر (ت 1376هـ) .
... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان, مؤسسة الرسالة, بيروت 1418هـ.
13 السلمي, محمد بن صامل
... منهج نقد الروايات التاريخية, مكتبة الصديق بالطائف 1420هـ.
14 سيد بن قطب بن إبراهيم (ت1387هـ)
... في ظلال القرآن, دار الشروق, القاهرة, 1400هـ.
15 شاكر, أحمد بن محمد (ت1377هـ) .
... الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث, ط3, مكتبة محمد علي صبح بالقاهرة.
16 الشامي, صالح بن أحمد.
... أهل الصفة بعيدا عن الوهم والخيال. دار القلم, دمشق 1412هـ.
17 آل عابد , محمد بن بكر.
... حديث القرآن عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, دار الغرب الإسلامي, تونس.
18 عبد اللطيف الحسن.
... أصول وضوابط في دراسة السيرة النبوية, مقالة في مجلة البيان الإسلامي, لندن, عدد 147شهر ذو القعدة 1420هـ, تصدر عن المنتدى.
19 العمري, أكرم بن ضياء.
... السيرة النبوية الصحيحة, مكتبة دار العلوم والحكم بالمدينة 1412هـ.
20 فاروق حمادة.
... مصادر السيرة النبوية وتقويمها, ط2 دار الثقافة, الدار البيضاء, 1410هـ.
21 ابن القيم, محمد بن أبي بكر الزرعي (ت751هـ) .
... أحكام أهل الذمة, تحقيق صبحي الصالح, دار العلم للملايين, بيروت, 1380هـ.
22 ابن كثير, إسماعيل بن عمر القرشي (ت774هـ) .
... البداية والنهاية, مكتبة دار المعارف, بيروت, ط3, سنة 1980م.
23 مسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) .
... صحيح الإمام مسلم, تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي, دار إحياء التراث العربي بمصر.
24 الندوي, أبوالحسن علي الحسني (ت1420هـ) .
... النبوة والأنبياء في ضوء القرآن, الدار السعودية للنشر بجدة.
25 ابن هشام, عبد الملك بن هشام الحميري (ت218هـ) .(13/218)
.. السيرة النبوية, تحقيق مصطفى السقا, مطبعة الحلبي بمصر سنة 1375هـ.(13/219)
موقف الإمام الذهبي من الدولة العبيدية
نسبا ومعتقداً
د. سعد بن موسى الموسى
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بجامعة أم القرى
ملخص البحث
... الإمام الذهبي إمام واسع الثقافة برع في علوم عديدة منها الحديث والسيرة والتاريخ، وله في التاريخ كتب هامة لا يستغني عنها باحث في التاريخ، وله وقفات عند حوادث التاريخ، ومنها موقفه من الدولة العبيدية حيث تعرض لها في كتبه من نواحي متعددة، واخترت من هذه الجوانب النسب والمعتقد.
ومن النتائج التي توصلت إليها:
سعة علم الإمام الذهبي ودقة أحكامه.
الإجماع على كذب الدول العبيدية في انتسابها إلى آل البيت.
إجماع علماء الأمة المعتبرين على كفر وردة بني عبيد.
* * *
مقدمة:
الذهبي إمام من أئمة الإسلام الكبار له في كل علم مشاركة واهتمام، وقد كان له في التاريخ وقفات هامة تنم عن دراسة عميقة متأنية أنتجت موقفا واضحا من العبيديين أو من عرفوا عند بعض المؤرخين بالفاطميين. والعبيديون كتب عنهم المؤرخون قديماً وحديثاً كتابات كثيرة، وكان لبعضهم موقف في الدفاع عنهم وعن كيانهم، ويبدو أن ذلك الموقف سببه التقليد لمن سبقهم أو الإعجاب وحب المخالفة، مع أن بعض من كتب عنهم يتبرأ من معتقداتهم. (1)
__________
(1)
الحواشي والتعليقات
() مثل ابن خلدون الذي وصفهم – في المقدمة ص22 ط/دار الشعب بمصر-» بأنهم كانوا على إلحاد في الدين وتعمق في الرفض. وقال: وليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم «والمقريزي حيث يقول: وقد جهل أكثر الناس اليوم معتقدهم فأحببت أن أبَيِّن ذلك على ماوَقَّفْتُ عليه في كتبهم المصنَّفَة في ذلك متبرئًا منه. الخطط ص9. ويقول: فرحات الدشراوي في كتابه الدولة الفاطمية بالمغرب ص17: إلا أنني ربما حابيت الفاطميين أكثر من اللازم، بل اتخذت موقفاً يكاد يكون مواليا لهم. وإني لا أخفي تعاطفي مع أولئك الملوك الشيعيين الجديرين بذلك، رغم أني أبريء نفسي من العدوى بمذهبهم والتأثر بدعوتهم «.(13/220)
وبالغ بعضهم في الدفاع عنهم، حتى عد من يقدح فيهم أنه يقدح في الدين الإسلامي. (1)
وهذا البحث محاولة لتتبع بعض ماجاء في كتابات الإمام الذهبي حول هذه الدولة نسبا، ثم جمعاً للعقائد التي كان يعتقدها بنو عبيد في الله والرسل والصحابة وغيرها من عقائد الإسلام، ولم ينفرد الذهبي بهذه المعلومات عنهم وقد وجدت عدداً من المؤلفات القديمة والحديثة توافق الذهبي وتدعم أراءه حول هذه الدولة المنبثقة عن فرقة الإسماعيلية.
نبذة عن الإمام الذهبي:
هو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ولد في شهر ربيع الآخر سنة 673هـ وتوفي سنة 748هـ نشأ وترعرع في بيئة علمية وكان والده يعمل في الذهب المدقوق، ولذا سمي بالذهبي.
ابتدأ طلب العلم وهو في سن الثامنة عشرة، وأهتم بعلم القراءات حتى أصبح على معرفة جيدة بالقراءات، وبأصولها ومسائلها، وهو لما يزل فتى لم يتعد العشرين من عمره. وترقى به الحال حتى صار شيخ الحلقة في الجامع الأموي
عام 693هـ. أما في الحديث فقد اجتهد في طلب الحديث فسمع مالا يحصى كثرة من الكتب والأجزاء. ولم تكن القراءات والحديث هما دراسته فقط بل درس النحو والتاريخ وعلم الرجال. ومع مشاركته في كثير من العلوم إلا أن مكانته العلمية وبراعته تظهر مشرقة متألقة عند دراسته محدثا ومؤرخا وناقداً. مع أنه عاش في بيئة غلب عليها الجمود والنقل والتلخيص، ولكنه تخلص من كثير من ذلك. ولم يقتصر في تأليفه على عصر معين بل درس العصور التاريخية حتى عصره. (2)
__________
(1) قال إبراهيم شعوط في كتابه أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ص358:» هذا التشكيك في نسب الفاطميين نوع من العداوة الخبيثة للإسلام والمسلمين «.
(2) بشار عواد معروف، الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام ص467.(13/221)
وتمثل طريقته في عرض التاريخ في كتابيه تاريخ الإسلام والعبر أسلوبا جديداً لايعرض التاريخ السياسي فقط كما هو الحال في كثير من كتب التاريخ السياسي، ولا يعرض تراجم الرجال فقط كما في كتب التراجم؛ بل يلخص الأحداث السياسية ثم يتوسع في تراجم الرجال حيث يعطي صورة عن الأمة بأجمعها وبكل نواحي الحياة.
وقد بلغ مكانة علمية عالية جعلت الإمام ابن حجر العسقلاني عندما يشرب من ماء زمزم يسأل الله أن يصل إلى مرتبة الذهبي. (1)
وقد ارتبط تكوين الذهبي الفكري بالحديث والمحدثين فأثر ذلك تأثيراً واضحاً في منهجه التاريخي حيث ربطه بالحديث وعلومه، واهتم بالتاريخ فسمع على شيوخه الكثير من كتب المغازي، والسير، والتاريخ العام، والمشيخات. وقد زادت مؤلفاته عن المائتين مصنف في شتى العلوم. منها في التاريخ والتراجم ست وسبعون كتاباً ورسالة.
من شيوخه أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي ت742هـ وشيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ وعلم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي ت789هـ. وقد اختصر الذهبي مايزيد على خمسين كتاباً ولم تكن اختصاراته عادية يغلب عليها الجمود بل في هذه الاختصارات إضافات كثيرة وتعليقات نفيسة، واستدراكات بارعة، وتصحيحات وتصويبات، ومقارنات تدل على معرفته وتبحره. (2)
قال عنه تلميذه الصفدي:» حافظ لايجارى ولافظ لايُبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر عللهُ وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم، لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات «. (3)
__________
(1) نفسه ص118.
(2) وأغلب التعريف من بشار عواد معروف، مقدمة سير أعلام النبلاء والذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام (بتصرف) ..
(3) الوافي بالوفيات 2/163.والكودنة: البلادة.(13/222)
وقال عنه التاج السبكي: كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يُعبَّر عنها إخبار من حضرها. (1) وقال عنه السخاوي:» وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال «. (2)
ومن درس علم التاريخ لاتخفى عليه مكانة هذا الإمام الجهبذ الذي له من اسمه نصيب حيث يجد الباحث لديه العمق ومحاولة التحقق من الأحداث والعدل في الأحكام مع السعة المكانية والزمانية
نبذة عن الدولة العبيدية:
الدولة العبيدية أو ما تسمى بالدولة الفاطمية أُسست في تونس سنة 297هـ وانتقلت إلى مصر سنة 362هـ واستقرت بها وامتدت إلى أجزاء هامة من العالم الإسلامي، حيث شمل سلطانها الشام، والجزيرة العربية، وحاولت الوصول إلى بغداد، وكان عهد هذه الدولة عهد اضطراب، وفتن، وإيذاء لأهل السنة، وتمكين لأهل الذمة، وتخلل هذه الفترة أوضاع اقتصادية سيئة مثل الشدة العظمى زمن المستنصر التي أكل الناس فيها الكلاب والبشر، وإحراق القاهرة زمن الحاكم، والمصادرات التي كانت تتم على فترات متفرقة، والتعاون مع الصليبيين على المسلمين، والمتأمل في تاريخ هذه الدولة ينتابه العجب مما يرى من الاختلاف في حال هذه الدولة وكثرة الكتابات حولها حيث انقسم الكتاب حولها إلى قسمين:
القسم الأول: ذام شاتم بل مكفر لها وهو موقف غالبية المؤرخين والأئمة مثل الباقلاني، وأبو حامد الغزالي، وابن خلكان، وعبد الجبار الهمذاني، وابن ظافر الأزدي، وأبو شامة، والذهبي، وابن كثير، وابن تيمية، وابن تغري بردي، وابن حجر، والسيوطي.
__________
(1) عبد الوهاب بن علي السبكي ت771هـ، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، عيسى البابي الحلبي، ط/1. 9/101.
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص722.(13/223)
القسم الثاني: مادح ممجد لها مصحح لنسبها معتذر لها مثل ابن خلدون، والمقريزي وهو موقف عجيب وخاصة موقف الأخير؛ حيث يصحح النسب مع أنه يتتبع مخازي وأخبار الدولة. (1) ويحاول بكل ما أوتى من جهد الدفاع عنها وتصحيح نسبها.
ويتبع القسم الثاني غالبية المؤرخين المحدثين والذين يصححون نسب هذه الدولة، وبعضهم يفخر بإنجازاتها وأحيانا بانحرافاتها وهذا الموقف صعب التفسير، وصعب القبول.
ومن أشهر أهل القسم الأول - والذين لهم اعتبار ولكلمتهم معنى ووزن - الإمام الذهبي: الذي كان واضحا كل الوضوح في موقفه من هذه الدولة ونسب حكامها، وملتهم، ومذهبهم وأعتمدت في هذا البحث من كتب الذهبي على تاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، ودول الإسلام، والعبر في خبر من غبر وهذا عرض مفصل لأقواله وأحكامه من خلال هذه المراجع الأساسية:-
موقف الذهبي من نسب الدولة العبيدية:
من الأمور المشكلة في التاريخ الإسلامي والتي صارت أحد مجالات الخلاف في العصر الحديث نسب الدولة العبيدية، وقد تحدث الذهبي عن هذا الأمر كثيراً كلما مر ذكر هذه الدولة أو مر ذكر حاكم من حكامها، ويلاحظ أن حديثه حديث الواثق من المعلومات ونظراً لعلو علم مكانة الذهبي وسعة إطلاعه ودقته في إيراد الأخبار كان لقوله مكان الصدارة. فهو يقول عن المهدي أول حكامها:» وفي نسب المهدي أقوالٌ: حاصِلُها أنَّه ليس بهاشميٍّ ولا فاطميٍّ « (2) وقال أيضاً:» وادعى هذا المدبر، أَنَّهُ فاطميُّ من ذُرِّية جعفر الصادق « (3)
__________
(1) انظر مثلا المقريزي، الخطط ط/الفرقان، ص104-105، اتعاظ الحنفا 2/137. فسر موقف ابن خلدون من قبل ابن حجر بأنه كان منحرفا عن آل البيت ولذا نسبهم إليهم بني عبيد لما اشتهر عنهم من سوء المعتقد. (نقل ذلك السخاوي، في التوبيخ لمن ذم التاريخ) أما المقريزي فهو ينتسب إلى بني عبيد.
(2) السير، 15/151.
(3) السير، 15/141.(13/224)
وقال مبينا رأى كثير من العلماء حول عبيد الله المهدي: «وادعى أنه علوي فاطمي فكذَّبوه» . (1)
وقال عن استقراء لأقوال العلماء: ”وأهل العلم بالأنساب والمحقّقين يُنكِرون دعواه في النَّسبِ“. (2)
ومما يدل على أنه يرى أن لانسب لهم ولاعلاقة تربطهم بآل البيت إيراده لأقوال العلماء التي تؤكد أنهم أدعياء مثل قوله عن عبيد الله: “والمحقِّقون على أنه دَعيُّ” (3) وقال عنه أيضا: ”والمحققون متفقون على أنه ليس بحسيني“. (4) ومما قاله:” فإن جدهم دعي في بني فاطمة بلا خلاف“. (5) ثم أورد ما قاله أحد العلماء المحققين: “وقد صنف ابن البَاقِلاَّني وغيرُهُ من الأئِمةِ في هَتْكِ مقالات العبيدية، وبطلان نسبهم” (6)
ثم فصل ماقاله القاضي أبو بكر بن الباقلاني (عن عبيد الله) من أن أصله مجوسي وبعد دخوله المغرب ادعى النسب العلوى الذي لم يعرفه أحد من علماء النسب. (7)
ونقل عن أبي شامة- الذي كتب عن هذه الدولة كتاب ” كشف ماكان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد “- قوله:» يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك وقيل الدولة العلوية والدولة الفاطمية وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الملحدة الباطنية. ثم قال ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر وأن نسبهم غير صحيح بل المعروف أنهم بنو عبيد وكان والد عبيد من نسل القداح المجوسي الملحد… وقال عن عبيد الله: وادعى نسبا ذكر بطلانه جماعة من علماء الأنساب «. (8)
__________
(1) دول الإسلام 1/261،1/294.
(2) الذهبي، التاريخ حوادث سنة 321-330 ص23.
(3) السير، 15/142.
(4) الذهبي، التاريخ حوادث سنة 321-330 ص108.
(5) العبر، 2/424.
(6) السير، 15/143.
(7) الذهبي، التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 22.
(8) السير، 15/213، الروضتين 1/216.(13/225)
وأورد عن القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار البصري مايفيد بأن المهدي من أصل يهودي وادعى أن له نسباً. (1)
ثم ذكر عن الوزير القفطي (2) الخبر المروي عن تشكيك أبي عبد الله الشيعي مشايخ كتامة في الإمام. (3) وأبو عبد الله الشيعي هو الذي مهد وسلم الأمر لعبيد الله المهدي فحين يشكك في المهدي فهو أعرف بمن أختاره ولذا سارع المهدي لقتله وأخيه!.
وذكر الذهبي أن المعز لما سأله السيد ابن طباطبا عن نسبه قال: غدا أخرجه لك، ثم أصبح وقد ألقى عرمة من الذهب، ثم جذب نصف سيفه من غِمْدِهِ، فقال: هذا نسبي، وأمرهُم بنهبِ الذهب، وقال: هذا حسبي. (4) وابن طباطبا هذا ذكر بعض المؤرخين أنه توفي قبل دخول المعز، ويبدو أنه أحد أبناءه، أو هو الشريف أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الحسيني، أو الشريف أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الحسيني الرسي. (5)
__________
(1) الذهبي، التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 22، تثبيت دلائل النبوة ص597.
(2) هو الوزير الأكرم جمال الدين علي بن يوسف الشيباني، وزير حلب، صاحب التصانيف والتواريخ، جمع من الكتب على اختلاف أنواعها مالايُوصَف، وكان ذا غرامٍ مُفْرطِ بها حتى أنه لم يتزوج ولم يمتلك داراً. انظر الذهبي، العبر حوادث سنة 646هـ، وابن رجب الحنبلي، شذرات الذهب 5/236.
(3) السير، 15/145-146، التاريخ حوادث سنة 321-330 ص109. الشيعي هو داعية الدولة العبيدية أصله من صنعاء قتله المهدي سنة 298هـ. كتامة: قبيلة من قبائل البربر تسكن الجبال بالمغرب، كانت معقلا للدعوة الباطنية وناصرت الدولة العبيدية.
(4) السير، 15/142.
(5) ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/83.(13/226)
ونقل ماذكره المؤيد الحموي في تاريخه حول نسبة عبيد الله المهدي إما إلى اليهود أو المجوس. (1) وعندما تحدث عن وفاة العزيز العبيدي أورد رسالة الأموي صاحب الأندلس التي فيها:” أما بعد، فإنك قد عرفتنا فهجوتنا، ولوعرفناك لأجبناك“ كما ذكر كلام ابن خلكان وغيره:» أكثر أهل العلم لايُصحِّحون نَسبَ المهدي جد خلفاء مصر، حتى إنَّ العزيز في أول ولايته صَعِدَ المنبر يوم جمعة، فوجد هناك رقعة فيها (2) :
يتلى على المنبر في الجامع
فاذكر أبا بعد الأب الرابع
فانسب لنا نفسك كالطائع
وادخل بنا في النسب الواسع
يقصر عنها طمع الطامع
إنا سمعنا نسباً منكراً
إن كنت فيما تدعي صادقاً
وإن ترد تحقيق ماقلته
أو لا دع الأنساب مستورةً
فإن أنساب بني هاشمٍ
ونقل ماذكره ابن خلكان أيضاً من الاختلاف في نسبه ثم قوله:» وأهل العلم بالأنساب والمحققين يُنكرون دعواه في النسب «. (3)
وقال في ترجمة الظاهر:» العبيدي المصري، ولا أستحلُّ أن أقول العلوي الفاطمي لما وقر في نفسي من أنه دعي «. (4)
وقال الذهبي عن العاضد: «المدعي هو وأجداده، أنهم فاطميون» . (5)
وقال: «ونسبهم إلى علي (غير صحيح» . (6)
__________
(1) السير، 15/147-148، المختصر في أخبار البشر 2/64-65.
(2) السير، 15/168-169وفي السير الأب السابع بدل الأب الرابع والصحيح أنهم أربعة كما في وفيات الأعيان 5/373 حيث أن أباء العزيز هم المعز- المنصور – والقائم- والمهدي. والخليفة الطائع هو الخليفة العباسي الرابع والعشرون بويع له يوم خلع أبيه وأقام سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وخلع نفسه سنة 381هـ ومات سنة 393هـ. ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب 3/143.
(3) الذهبي، التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 23.
(4) السير 15/184، التاريخ، حوادث 381-400 ص130-131.
(5) السير، 15/207.
(6) نفسه، 16/181.(13/227)
وكذلك اهتم الذهبي بمحاضر بغداد التي كتبها عدد من كبار العلماء، ففي ربيع الأول من سنة 402هـ كُتِبَ مِن الديوان –ديوان الخليفة- محضر في معنى الخلفاء الذين بمصر والقَدْح في أنسابهم وعقائدهم. وقُرِئت النَّسخةُ ببغداد. وأُخِذَت فيها خطوط القُضاة والأئمة والأشراف بما عندهم من العلم والمعرفة بنسب الدَيْصَانية، «وهم منسوبون إلى دَيْصَان بن سعيد الخُرّميّ إخوان الكافرين، ونُطَف الشياطين، شهادةً يتقرَّبُ بها إلى الله. ومعتقد ماأوجب الله تعالى على العلماء أن يبيّنوه للنّاس، وشهدوا جميعاً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملَقَّب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار، والخزْي والنّكال، بن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، لا أسعده الله، فإنه لما صار سعيد إلى بلاد الغرب تَسَمّى بعبيد الله وتلقَّب بالمهدي.
وهو ومن تقدَّم من سلفه الأرجاس الأنجاس، عليه وعليهم اللّعنة، أدعياء خوارج لانسب لهم في ولد عليّ بن أبي طالب (. وأنّ ذلك باطل وزُور. وأنتم لاتعلمون أن أحدا من الطالبيين توقَّف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء.
وقد كان هذا الانكار شائعا بالحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشارا يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم.
وممن وقع على هذا المحضر الشريف المرتضى، وأخوه الرضي، وجماعة من كبار العلوية، والقاضي أبو محمد بن الأكفاني، والامام أبو محمد الإسفراييني، والامام أبو الحسين القدوري. (1)
قال: «وفي سنة (444هـ) عُمِل محضر كبير ببغداد، يتضمن القَدْح في نسب بني عُبَيْد، الخارجين بالمغرب ومصر، وأن أصلهم من اليهود، وأنهم كاذبون في انتسابهم إلى جعفر بن محمد الصادق رحمه الله، فكتب فيه خلق من الأشراف والشيعة والسنة وأولي الخبرة» . (2)
__________
(1) تاريخ الإسلام حوادث سنة 401-410ص 11، دول الإسلام 1/353، العبر 2/200. ومابين الأقواس من نص المحضر.
(2) العبر 2/284.(13/228)
قال محمد عبد الله عنان معلقا على محاضر بغداد:» هذه الوثائق العباسية بالرغم مما يشوبها من كدر الخصومة السياسية من خلافة كانت تشعر بخطر الخلافة الشيعية الجديدة على سلطانها الروحي والزمني، فإنها مع ذلك تحمل من التوقيعات أسماء لها مكانتها الرفيعة من العلم والدين، مثل: القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي حامد الاسفراييني، وأبي الحسن القدوري، والأبيوردي وغيرهم. ومن ثم فإنها تجعلنا نشعر أنها لم تكن فقط مزاعم بلاط موتور، وأنما هي فوق ذلك وثائق لها قيمتها التاريخية فيما ذهبت إليه «. (1)
وقال عنان أيضا:» ولاشك أن هذه ((القضية)) تتجاوز حدود مؤامرة دبرتها حاشية القادر ضد منافسه بالقاهرة، أو سجل ادعاء النسب الذي شهد به فقهاء سنيون أجِلاء من المتزلفين أو أصحاب المصالح، أو لمجرد رد فعل المذهب السني على البدعة الشيعية الظافرة «. (2)
ويقول رحمه الله: «فأما نَسَبهم فأئمة النّسَب مُجْمِعُون على أنهم ليسوا من ولد عليّ رضوان الله عليه، بل ولا من قُريشٍ أصلاً» . (3)
ومما يؤكد أن لانسب لهم قول أحد أتباعهم الذي أختلف معهم فأكد هذه الحقيقة وهو الحسن ابن الأعصم القرمطي الذي حارب المعز ولعنه على منبر دمشق وراسله فقال: «هؤلاء من ولد القداح، كذابون ممخرقون، أعداء الإسلام ونحن أعلم بهم، ومن عندنا خرج القداح» . (4)
__________
(1) محمد عبد الله عنان، الحاكم بأمر الله ص 56.
(2) المرجع السابق ص 61.
(3) التاريخ، حوداث سنة 561-570 ص274-281.
(4) ثابت بن قرة، أخبار القرامطة، تحقيق سهيل زكار ص73.(13/229)
وكذلك ماحصل من عضد الدولة البويهي الشيعي أنه سأل الأشراف ببغداد قائلاً:» هذا الذي بمصر يقول: إنه علوي منكم، فقالوا: ليس هو منا. فقال لهم: ضعوا خطوطكم، فوضعوا خطوطهم بأنه ليس بعلوي، ولا من ولد أبي طالب، ثم أنفذ إلى نزار بن معد رسولاً يقول له: نريد أن نعرف ممن أنت؟ فعظم ذلك عليه، فذكر أن قاضيه ابن النعمان ساس الأمر لأنه كان يلي أمر الدعوة والمكاتبة في أمرها، فنسب نزاراً إلى آبائه، وكتب نسبه، وأمر به أن يقرأ على المنابر، فقرىء على منبر جامع دمشق صدر الكتاب، ثم قال: نزار العزيز بالله بن معد بن المعز لدين الله بن إسماعيل المنصور بالله بن محمد القائم بأمر الله بن عبيد الله المهدي بالله بن الأئمة الممتحنين، أو قال: المستضعفين- وقطع. « (1)
ويصم الذهبي من يسميهم فاطميين بأنه من العوام. (2) ويقول: «نسبهم مطعون فيه» . (3) وأخيرا يقول: «المحققون متفقون على أن عبيد الله المهدي ليس بعلوي» . (4)
ولم يكن الذهبي الوحيد في موقفه من الطعن في نسبهم بل شاركه كثير من أهل العلم منهم: عبد القاهر البغدادي، ومحمد بن مالك اليماني، وابن حزم الأندلسي، والأسفراييني صاحب ”التبصير في أصول الدين“، وابن واصل، وابن الجوزي، وابن تغري بردي، والنويري، والقلقشندي، والسخاوي، والسيوطي، وابن حجر في رفع الاصر، وابن عذاري في البيان. ومن المستشرقين دي غويه، ونيكلسون، ودوزي، وبراون. (5)
موقفه من الدولة العبيدية من حيث المعتقد
__________
(1) 33) المقريزي، اتعاظ الحنفا 1/35،36.
(2) تاريخ الإسلام حوادث سنة 569 ص275، أما السيوطي، في تاريخ الخلفاء ص4. فيقول: وإنما سمتهم فاطميين جَهَلَةُ العوام. وقال: وسماهم جهلة الناس الفاطميين.
(3) السير 23/271.
(4) السيوطي، تاريخ الخلفاء ص5.
(5) احسان إلهي ظهير، الإسماعيلية ص184-185.(13/230)
إن جادل بعض المؤرخين عن نسب بني عبيد فلن يجادلوا عن معتقداتهم ومذهبهم حيث اشتهر عنهم معتقدات باطلة مثل: ادعاء علم الغيب، وادعاء النبوة والألوهية، وطلب السجود من رعاياهم وأتباعهم، وسب الصحابة. وكثرة الإنفاق على الاحتفالات المبتدعة والتي أرجعها أحد المؤرخين: «لإلهاء الرعية من أهل السنة عن أمور السياسة، ومايقال من الطعن في نسبهم وأحقيتهم في الخلافة» . (1) ولم أتطرق إلى جوانب الخلاف الفقهي لأن الخلاف في الفقه سهل ويسير، ويتسع المجال لذلك حسب فهم الأدلة الشرعية.
ذكر الإمام الذهبي في كثير من مؤلفاته أن بني عبيد يدعون الألوهية والربوبية فعندما أراد أبو يزيد مخلد بن كيداد الخارجي (2) حرب بني عبيد لم يتردد العلماء في المسير معه ف: «تسارع الفقهاء والعباد في أهبة كاملة بالطبول والبنود وخطبهم في الجمعة أحمد ابن أبي الوليد وحرضهم وقال: جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله، ... وقال: اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية جاحد لنعمتك كافر بربوبيتك طاعن على رسلك مكذب بمحمد نبيك سافك للدماء فالعنه لعنا وبيلا وأخزه خزيا طويلا واغضب عليه بكرة وأصيلا. ثم نزل فصلى بهم الجمعة» . (3)
__________
(1) حسن خضيري أحمد، علاقات الفاطميين في مصر بدول المغرب (362-567هـ) ص269.
(2) الخارجي هو مخلد بن كيداد رجل كبير السن حتى أنه لم يستطع ركوب الخيل فركب حماراً فسمى بصاحب الحمار، كان على مذهب الخوارج وثار على بني عبيد فاجتمع عليه الناس وهَزم بني عبيد وحاصرهم في المهدية ومات القائم والمدينة محاصرة وجعل مخلد أهل السنة في المقدمة لغلبة الخارجية عليه، وانسحب عنهم فحلت الهزيمة، وقتل عدد من العلماء، والصلحاء، والعباد، وقتل قادته ثم قبض عليه المنصور وقتله سنة 336هـ. تاريخ الإسلام ص32-37، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب 5/236.
(3) السير 15/155.(13/231)
وقيل في سنة تسع وتسعين ومائتين: إن عبيد الله المهدي الزنديق سمح لأتباعه أن يغرقوا في كفرهم حتى ألَّهوه فقد كانت أيمانهم المغلظة: «وحق عالم الغيب والشهادة، مولانا الذي برقادة» . (1)
كان بعض دعاة بني عبيد يقول عن المهدي هو الخالق الرازق. (2)
قال الشاعر القيرواني أبو القاسم الغماري ت345هـ عن بني عبيد (3) :
نالُوا بهم سبب النجاة عُموما
عبدوا ملوكَهُمُ، وظنُّوا أنّهم
قال الذهبي: «وفي سنة ستين وثلاث مئة، وجد بالسُّوق قماش قد نُسِجَ فيه: المُعِزُّ عَزَّ وجَلَّ، فأُحضر النَّسَّاج إلى جوهر، فأنكر ذلك، وصُلِبَ النَّساجُ ثم أُطلق» . (4)
ورد في مخطوط ”عقيدة الإسماعيلية“ الذي نشره المستشرق جويار عن تأليه المعز لدين الله. (5)
وقال حسن إبراهيم حسن: «وقد بالغ ابن هانيء في غلوه فنسب لمولاه (المعز) بعض صفات النبوة والألوهية وبهذا مهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء. يدل على ذلك القصيدة الطويلة التي أنشدها في حضرة المعز والتي منها:
ولعلة ماكانت الأشياءُ
تجري بأمرك والرياح رخاء
أقدارُ واستحيت لك الأنواء
في راحتيك يدور حيث تشاء
هو علة الدنيا ومن خُلقت له
ولك الجواري المنشآتُ مواخر
فَعَنَتْ لك الأبصارُ وانقادت لك ال
لاتسألن عن الزمان فإنه
وقال: «ولم يفتر ابن هانيء عن مواصلة مدحه للمعز؛ ولكنا نراه يُغرق فيجعله في منزلة عيسى ومحمد، بل ينسب إليه بعض صفات الألوهية، كما يتضح ذلك في قصيدة أخرى حيث يقول:
غفارَ موبقة الذنوب صفوحا
لدعيتَ من بعد المسيح مسيحا
وتنزَّل القرآن فيك مسيحا
__________
(1) علي محمد الصلابي، الدولة العبيدية في ليبيا ص86. ونسبه للذهبي، السير 15/215 ولم أجده.
(2) التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 22.
(3) اليعلاوي، ابن هانيء الأندلسي ص250.
(4) السير 15/165.
(5) انظر حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية ص329.والمقصود بالمخطوط هو أجزاء عن عقائد الإسماعيلية جمعه ونشره المستشرق جويار.(13/232)
ندعوه منتقماً عزيزاً قادراً
أقسمتُ لولا أن دعيتَ خليفةً
شهدتْ بمفخرك السموات العلى
وفي قصيدة أخرى يبالغ ابن هانيء في مدح المعز فيشبهه بالخالق سبحانه وبالنبي (. ويشبه أشياعه بأنصار النبي حيث يقول (1) :
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنصارك الأنصار
حقاً وتَخْمُدُ ان تراه النار
ماشئت لا ماشاءت الأقدار
وكأنما أنت النبيُّ محمدٌ
هذا الذي تُجدي شفاعته غداً
وممن كان يدعي الربوبية والإلهية الحاكم العبيدي حيث قال عنه الذهبي: «الإسماعيلي الزنديق المدعي الربوبية» . (2)
وقال عنه أيضا: «يقال إنه أراد أن يدّعي الإلهية، وشرع في ذلك فكلّمه أعيان دولته وخوَّفوه بخروج النّاس كلهم عليه، فانتهى» . (3)
وممن حرض الحاكم على هذا الادعاء حمزة بن علي قال الذهبي: «وقد قُتل الدرزي الزنديق لادعائه ربوبية الحاكم. وكان قوم من جهلة الغوغاء إذا رأوا الحاكم يقولون يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت» . (4)
ومما جاء في محضر بغداد الذي عقد سنة 402هـ: وأن هذا الناجم بمصر وسلفه… وادعوا الربوبية. (5)
ومما ورد في المحضر أيضاً: وأن هذا الناجم بمصر هو وسيلة كفار وفساق فجار زنادقة. ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية» . (6)
__________
(1) المرجع السابق ص348.
(2) السير 15/173.
(3) تاريخ الإسلام حوادث سنة 411ص 289، السير 15/176.
(4) السير 15/180-181.حمزة بن علي الزوزني من دعاة تأليه الحاكم ومؤسس المذهب الدرزي ببلاد الشام.
(5) تاريخ الإسلام حوادث سنة 401-410ص 11، دول الإسلام 1/353، العبر 2/200.
(6) تاريخ الإسلام حوادث سنة 401-410ص 11، دول الإسلام 1/353، العبر 2/200.(13/233)
قال حسن إبراهيم حسن: وعقيدة تأليه الحاكم أثارت سخط الأهلين وأمثالها، إذا كان لايزال هناك كثيرون يناوئون سياسة الفاطميين، فقد كتب أحد الشعراء بيتين من الشعر في ورقة على المنبر، فوقعت في يد العزيز وقرأها فإذا فيها (1) :
وليس بالكفر والحماقة
فقل لنا كاتبَ البطاقة
بالظلم والجور قد رضينا
إن كنت أُعطيتَ علمَ غيبٍ
قال الذهبي: «قرأت في تاريخ صُنِّف على السنين في مجلد صنفه بعض الفُضَلاء سنة بضع وثلاثين وستمائة، قدمه لصاحب مصر الملك الصالح: في سنة سبع وستين قال: وكانت الفِعْلة (القضاء على الدولة العبيدية) من أشرف أفعاله (صلاح الدين) ، فَلَنِعْمَ مافعل، فإنّ هؤلاء كانوا باطنية زنادقة، دعوا إلى مذهب التناسخ، واعتقاد حلول الجزء الإلهي في أشباحهم.
وقال الذهبي: أن الحاكم قال لداعيه: كم في جريدتك؟
قال: ستة عشر ألفاً يعتقدون أنّك الإله.
قال شاعرهم:
فاحكم فأنت الواحد القهار
ماشئت لا ماشاءت الأقدار
فلعن الله المادح والممدوح، فليس هذا في القبح إلا كقول فرعون أنا ربكم الأعلى.
وقال بعض شُعرائهم في المهديّ برَقّادة:
حل بها آدمُ ونوحُ
فما سوى الله فهو ريحُ
حلّ برقادة المسيحُ
حل بها الله في عُلاهُ
قال: وهذا أعظم كُفراً من النّصارى، لأن النّصارى يزعمون أن الجزء الإلهيّ حلّ بناسوت عيسى فقط، وهؤلاء يعتقدون حُلُوله في جسد آدم ونوح والأنبياء وجميع الأئمة.
هذا اعتقادهم لعنهم الله» . (2)
__________
(1) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية ص 349، وانظر ابن خلكان، وفيات الأعيان 2/200، الذهبي، السير 15/169.
(2) التاريخ، حوداث سنة 561-570 ص274-281.(13/234)
ومع ادعائهم الربوبية والألوهية كانوا يدعون النبوة أيضاً: حتى عوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني، حضرت عقداً فيه جمع من سنة ومشارقة وفيهم أبو قضاعة الداعي فجاء رئيس فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله يعني أبا قضاعة فما نطق أحد. (1)
وكان بعض دعاة بني عبيد يقول عن المهدي: هو رسول الله. (2) ويُرْمىَ عبيد الله بأنه قتل جماعة من العلماء السنيين لم يعترفوا بأنه رسول الله. (3)
فعندما ادعى عبيد الله الرسالة أحضر فقيهين من فقهاء القيروان وهو جالس على كرسي ملكه وأوعز إلى أحد خدمه فقال للشيخين: أتشهدا أن هذا رسول الله؟ فقالا: والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان: إنه رسول الله، ماقلنا ذلك. فأمر بذبحهما. (4)
وكان عبيد الله المهدي يسخر من النبي (ومن موسى (-في رسالة بعثها إلى داعيه أبي طاهر القرمطي-فيقول: ولاتكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: «الروح من أمر ربي» لما لم يعلم ولم يحضره جواب المسألة، ولاتكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة. (5)
__________
(1) السير 15/154.والمقصود بالسنة أهل السنة أما المشارقة فلقب يطلق على الباطنية لأنهم من أهل المشرق.
(2) التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 22.
(3) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية ص328.
(4) السير 14/217.
(5) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق ص296.وانظر إحسان إلهي ظهير، الإسماعيلية ص117.(13/235)
وكان لعن الأنبياء من شعائرهم فقد ذكر القاضي عبد الجبار المتكلم: أن القائم أظهر سب الأنبياء وكان مناديه يصيح العنوا الغار وما حوى. (1) وذكر الهمذاني أيضا أن القائم جاهر بشتم الأنبياء وكان يلعنهم جميعاً. (2)
كما ذكر بعض أهل التاريخ: أن المعز أراد ادعاء النبوة ولكنه خاف من الرعية فقد ذكر الخبر ابن عذاري أنه وقع في المغرب حيث أذن مؤذنه فوق صومعة جامع القيروان ب: أشهد أن معداً رسول الله فارتج البلد لذلك. (3)
أما صاحب الاعتصام (4) فيذكر أن معداً من العبيدية الذين ملكوا إفريقية، فقد حكى عنه أَنه جعل المؤذن يقول: أشهد أن معدًا رسول الله، عوضا عن كلمة الحق ((أشهد أن محمداً رسول الله)) فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره؟ فلما انتهى كلامهم إليه، قال: «أردد عليهم أَذانهم لعنهم الله» .
ومن عقائدهم ادعاء علم الغيب ورد في حوار بين أبي عبد الله الشيعي وبين قبيلة كتامة أنه قال لهم: «أن تَدِينوا بإمامٍ معصوم يعلم الغيب» . (5)
قال ابن خَلكان: «وذلك لأنهم ادَّعوا علم المغيبات. ولهم في ذلك أخبار مشهورة» . (6)
وكان يُسجد لهم ويأمرون الناس بالسجود لهم، قال الذهبي: «ففي سنة 396هـ خطب بالحرمين لصاحب مصر الحاكم، وأُمَر الناس عند ذكره بالقيام وأن يسجدوا له، فإنا لله وإنا إليه راجعون» . (7)
__________
(1) السير 15/152. والقائم هو الإمام الإسماعيلي الثاني من حكام الدولة العبيدية في المغرب حكم من 322 إلى سنة 334هـ وقد وسوس وأختل عقله. قال الذهبي: كان مَهيباً شُجَاعاً، قليلَ الخير، فاسِد العقيدة… وكان شيطاناً مريداً يتزَنْدَق. السير 15/153،العبر 2/49.
(2) أخبار القرامطة، جمع سهيل زكار ص181،163.
(3) البيان المغرب 1/282.
(4) الشاطبي 2/97.
(5) التاريخ حوادث سنة291-300 ص135.
(6) وفيات الاعيان 5/373-374، الذهبي، السير 15/169.
(7) دول الإسلام 1/350.(13/236)
وكان إذا ذُكِر (الحاكم) «قاموا وسجدوا في السُّوق، وفي مواضع الاجتماع، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فلقد كان هؤلاء العُبَيْدِيُّون شرّاً على الإسلام وأهله من الشرّ» . (1)
وكان الحاكم يسخر من النار حيث: «أنشأ دارا كبيرة ملأها قيودا وأغلالا وجعل لها سبعة أبواب وسماها جهنم فكان من سخط عليه أسكنه فيها» . (2)
وكانوا يبيحون المحظورات فقد نقل الذهبي قول ابن النديم (3) - الذي أطلع على أحد كتب الباطنية-: «قد قرأته فرأيت فيه أمراً عظيماً من إباحة المحظورات، والوضع من الشرائع وأصحابها» . (4)
__________
(1) التاريخ، حوادث 381-400 ص234.
(2) السير 15/177.
(3) الفهرست، ص 400.
(4) السير 15/144.(13/237)
قال ابن خلكان: «استفتى (صلاح الدين) الفقهاء فأفتوا بجواز خلع (العاضد) (1) لما هو من انحلال العقيدة والاستهتار فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الشيخ نجم الدين الخبوشاني فإنه عدد مساوئ هؤلاء وسلب عنهم الإيمان» . (2)
وكانوا يقتلون العلماء ممن لايقول بقولهم: قال أبو الحسن القابسي صاحب الملخص: «إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة» . (3)
والغرض من قتلهم العلماء -كما قال الذهبي عن عبيد الله-: «أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق» . (4)
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي المصري الرافضي، خاتمة خلفاء الباطنية. وُلدَ في أوّل سنة ستِ وأربعين وخمس مئة، وأقامه الصالح بن رزّيك بعد هلاك الفائز. وفي أيامه قدم حسين بن نزار بن المُسْتَنْصر العُبَيْدي في جموع من المغرب. فلما قرب غَدَر به أصحابُه وقبضوا عليه وحملوه إلى العاضد فذبحه صبراً. ووَرَدَ أنَّ موت العاضد كان بإسهال مُفْرط. وقيل مات غمًّا لمَّا سمع بقطع خطبته. وقيل بل كان له خاتم مسمومٌ فامتصّه وخسر نفسه. وعاش إحدى وعشرين سنة. الذهبي، العبر 3/ 50-51
(2) السير 15/212، نجم الدين الخُبوشاني محمد بن الموفق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي. تفقه على ابن يحيى. وكان يستحضر كتاب ” المحيط“ ويحفظه. وألف كتاب ” تحقيق المحيط“ في ستّة عشر مجلّداً. روى عن هبة الرحمن القُشَيْريّ، وقدم مصر وسكن بتربة الشافعي، ودرّس وأفتى، وكان كالسكّة المحماة في الذمّ لبني عُبَيْد. ولما تهيب صلاح الدين من الإقدام على قطع خطبةِ العاضد وقف الخبوشاني قدّام المنبر وأمر الخطيب أن يخْطَب الخطبة لبني العبّاس. ففعل ولم يتم إلاّ الخير. توفي سنة 587هـ. الذهبي، العبر 3/95.
(3) السير 15/145.
(4) التاريخ، حوادث 321-330 ص23.(13/238)
وشاركوا القرامطة جرائمهم: «ففي أيام المهدي عاثت القرامطة بالبحرين وأخذوا الحجيج وقتلوا وسبوا واستباحوا حرم الله وقلعوا الحجر الأسود وكان عبيد الله يكاتبهم ويحرضهم قاتله الله» . (1)
وذكر القاضي عبد الجبار المتكلم: أن القائم أباد عدة من العلماء وكان يراسل قرامطة البحرين ويأمرهم بإحراق المساجد والمصاحف. (2)
ومن عقائد بني عبيد أنهم: «قلبوا الإسلام وأعلنوا بالرفض وأبطنوا مذهب الإسماعيلية» . (3)
وقال الذهبي: «وأما العبيديون الباطنية فأعداء الله ورسوله» . (4) وقال أيضاً: «لايوصف ماقلب هؤلاء العبيديون الدين ظهراً لبطن» . (5)
وقال عن عبيد الله: «كان يُظهر الرَّفض ويُبطن الزندقة» . (6) وقال أيضا: «وياحبذا لو كان رافضياً، ولكنه زنديق» . (7)
أما أبوعبد الله الشيعي فكان يقول: إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن هي كاللب والظاهر كالقشر. وقال: لكل آية ظهر وبطن، فمن وقف على علم الباطن فقد ارتقى عن رتبة التكاليف. (8)
وقال عن جوهر الصقلي بعد أن ذكر عقله وشجاعته وحسن سيرته أنه: «على نحلة بني عبيد التي ظاهرها الرفض وباطنها الانحلال» . (9)
وكانت نظرة علماء المغرب لبني عبيد واضحة بينة قال الذهبي: «وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما أشهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه وقد رأيت في ذلك تواريخ عدة يصدق بعضها بعضا» . (10)
__________
(1) السير 15/147.
(2) السير 15/152.
(3) السير 15/141.
(4) السير 15/373.
(5) السير 16/149.
(6) العبر 2/17.
(7) التاريخ حوادث سنة 321-330، ص 23، بشار عواد معروف، الذهبي ومنهجه، ص337.
(8) السير 15/149.
(9) السير 16/468.
(10) السير 15/154.(13/239)
وهذا قول لأحد الأئمة بأفريقية يرى فيه أن الخوارج مع انحرفاهم هم من أهل القبلة بعكس بني عبيد قال الذهبي: وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد، وقال: هُمْ أهل القْبِلة، وأولئك ليسوا أهل قِبْلَةٍ، وهم بنو عَدوِّ اللهِ، فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، لأنه خارجيٌ. (1)
قال القاضي عياض: قال أبو يوسف الرعيني: «أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة» . (2)
ومما يؤكد ضلالهم أنه وجد بخط فقيه قال: في رجب سنة 331هـ قام المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي (وعلقت رؤوس حمير وكباش على الحوانيت كتب عليها أنها رؤوس صحابة. (3)
وقال عن المنصور العبيدي: «وفيه إسلام في الجملة وعقل بخلاف أبيه الزنديق» . (4)
وفي أيامه (العزيز) أُظهر سبُّ الصحابةِ جِهَاراً. (5)
فقد أمر بكَتْب سَبّ الصّحابة على أبواب المساجد والشّوارع، وأمر العمال بالسب في سنة خمسٍ وتسعين وثلاث مئة. (6)
وقال في السير: وكان سَبُ الصحابة فاشيا في أيامه (المستنصر) والسنة غريبة مكتومة. (7)
وكان لليهود والنصارى حظوة ومكانة عند بني عبيد، فقد كانوا يقدمون اليهود على المسلمين. فمن اليهود الذين عملوا معهم يعقوب بن كلس، ومنشا، وبلغ اليهود المكانة العالية وتسلطوا حتى قال الشاعر:
ومنهم المستشار والملكُ
تهوَّدوا، قد تهود الملك
العز فيهم والمال عندهم
ياأهل مصر إني قد نصحت لكم
__________
(1) السير 15/155.
(2) ترتيب المدارك 4/720، الذهبي، السير 15/151.التاريخ حوادث سنة 401-420 ص512. والمقصود بالعلماء كما في الكتاب الأول هم: أبو محمد بن الكراني، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم بن شبلون، وأبو علي بن خلدون، وأبوبكر الطبني، وأبو بكر بن عذرة.
(3) السير 15/154.والمكوكب أحد الدعاة للمذهب الباطني.
(4) السير 15/157.
(5) السير 15/170.
(6) تاريخ الإسلام حوادث سنة 395ص 283.
(7) السير 15/196.(13/240)
أما النصارى فمنهم فهد بن إبراهيم، وأبو سعيد التستري، وأم المستنصر كانت مولاة للتستري، وصدقة بن يوسف الفلاحي، وأبو نصر التستري، عيسى بن نسطورس، وسهل بن معَشر النصراني طبيب الحاكم، ومنصور بن عبدون وزير الحاكم سنة 400هـ، وزرعة بن نسطورس، وأبو نجاح الراهب ت523هـ، وبهرام الأرمني ت535هـ، وقد حزن عليه بنو عبيد. ووالي قوص الباساك. قال رجل يوم الجمعة مبينا تمكن النصارى في رقاب الناس: ياأهل مصر! انظروا عدل مولانا الآمر في تمكينه النصراني من الناس. (1)
وقال الشاعر يوضح مابلغ النصارى في هذا العهد (2) :
وغالوا بالبغال وبالسروج
وصار الأمر في أيدي العلوج
زمانك إن عزمت على الخروج
إذا حكم النصارى في الفروج
وذلت دولة الإسلام طراً
فقل للأعور الدجال هذا
قال قاسم عبده قاسم: ويعتبر العصر الفاطمي هو العصر الذهبي لأهل الذمة. والغريب أن الدولة الفاطمية لم تتبع سياسة التسامح الديني إزاء المصريين المسلمين أتباع المذهب السني في الوقت الذي حظي فيه أهل الذمة بمثل هذه الحريات.
قال الذهبي في ترجمة الشاعر عمارة اليمني: وله بيتٌ كَيِّس في العبُيديين:
وإن خالَفُوني في اعتقادِ التَّشَيُّعِ
أفاعيلُهُم في الجودِ أفعالُ سُنَّةٍ
ثم قال: ياليته تَشَيُّعٌ فقط، بل ياليته ترفُّض، وإنما يُقال: هو انحلالٌ وزَنْدقة. (3)
ويصح قول حسن إبراهيم حسن: ذهب السنيون إلى أن عبيد الله كان يعمل على هدم الإسلام متستراً بالتشيع. (4)
__________
(1) انظر حسن إبراهيم حسن، الدولة الفاطمية ص202-216.
(2) انظر قاسم عبده قاسم، أهل الذمة في العصور الوسطى ص 53.
(3) السير 20/596.
(4) تاريخ الدولة الفاطمية ص327.(13/241)
ومن العجيب أنك لاتجد واحداً من خلفاء الدولة العبيدية أدى فريضة الحج رغم التبجح بخلافة النبي (وعلي بن أبي طالب (. (1) ولذا قال حسن إبراهيم حسن: «يرى الإسماعيلية أن مذهبهم إنما قام ليحل محل الإسلام. وقال أيضا: ولا يبعد أن يكون كثير مما ذهب إليه السنيون (في وصف المذهب الإسماعيلي) صحيحاً» . (2)
ومع هذه النصوص الواضحة في انحراف العبيدية نجد مؤرخاً من المعاصرين لايزال مغتراً بهم حيث يقول: «أقاموا دولة إسلامية على أسس إسلامية واضحة، وخلَّفوا حضارة يعتز بها المسلمون إلى الآن» . (3)
__________
(1) أيمن السيد، الدولة الفاطمية ص17، محمد اليعلاوي، ابن هانيء ص155.
(2) تاريخ الدولة الفاطمية ص328.
(3) إبراهيم شعوط، أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ص348.
المصادر والمراجع
ابن خلكان أحمد بن محمد بن أبي بكر ت681هـ، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد ت 748هـ، تاريخ ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق د/عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، ط/2، 1414، دول الإسلام، تحقيق حسن إسماعيل مروة، دار صادر، بيروت، ط/1، 1999م، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت ط/2، 1405هـ، العبر في خبر من غبر، تحقيق بسيوني زغلول، دار الباز، مكة، ط/1، 1405هـ
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ت911هـ، تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، مصر، ط/4،1389هـ
الشاطبي: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي ت 790هـ، الاعتصام، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1402هـ
أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم ت665هـ
الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق إبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/1، 1418هـ
ابن عذاري أبو عبد الله محمد بن محمد المراكشي ت695هـ، البيان المغرب، تحقيق ليفي بروفنسال، ليدن، 1948م.
القاضي عياض بن موسى اليحصبي ت544هـ، ترتيب المدارك وتقريب السالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، وزارة الأوقاف المغربية، المغرب.
المؤيد الحموي عماد الدين إسماعيل أبي الفداء صاحب حماة ت732هـ، المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية، مصر.
ابن النديم محمد بن إسحاق ت 380هـ، الفهرست، تحقيق ناهد عباس عثمان، دار قطري بن الفجاءة، ط/1985م.
الهمذاني عبد الجبار بن أحمد البصري، تثبيت دلائل النبوة، تحقيق عبد الكريم عثمان، دار العربية، بيروت، 1970م
إبراهيم علي شعوط، أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، مطبعة دار التأليف- القاهرة ط/4 1396هـ
إحسان إلهي ظهير، الإسماعيلية، إدارة ترجمان القرآن، باكستان، ط1، 1406هـ.
بشار عواد معروف، الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط/1، 1976م
حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط/4، 1981م
حسن خضيري أحمد، علاقات الفاطميين في مصر بدول المغرب (362-567هـ، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط/1، 1996م
فرحات الدشراوي، الخلافة الفاطمية بالمغرب، عربه حمادي الساحلي، دار الغرب، بيروت، ط/1 1994
علي محمد محمد الصلابي، الدولة العبيدية في ليبيا، دار البيارق، عمان، الأردن، ط/1، 1418هـ
محمد عبد الله عنان، الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية، مكتبة الخانجي، القاهرة، مكتبة الرفاعي، الرياض، ط/3، 1404هـ
محمد اليعلاوي، ابن هانيء المغربي الأندلسي شاعر الدولة الفاطمية، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1405هـ(13/242)
نتائج البحث:
الإمام الذهبي إمام واسع الإطلاع في التاريخ والتراجم.
أجمع من يعتد به من العلماء على عدم صحة انتساب بني عبيد إلى آل البيت.
أجمع من يعتد به من علماء الإسلام على كفر وردة بني عبيد.
عدد من أهل التاريخ في العصر الحديث يحاولون بصور شتى التقليل من شأن علماء الأمة الأعلام وتسفيههم ووصفهم بالتعصب السنى والمذهبي.
الإمام الذهبي نموذج من نماذج علماء الأمة الذين أظهروا عوار بني عبيد ولم يكن الوحيد فقد شاركه أغلبية أئمة التاريخ.
أحكام الإمام الذهبي مبنية على قراءة واسعة في كتب كثيرة مع عقلية ناقدة.(13/243)
صوت الهاء في العربية
د. ابراهيم كايد محمود
الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية – كلية التربية
جامعة الملك فيصل – الاحساء
ملخص البحث
تناول البحثُ الحديثَ عن تحديد الصوت اللغوي الذي يصدر عن الإنسان وأوضح أنَّه يجب أن يكون ذا معنى وينقل رسالة من عقل إنسان إلى آخر. ثم أشار إلى جهود العلماء القدماء في الدرس الصوتي ومعرفتهم المبكرة لهذا النوع من الدراسة. ثم تحدث عن الصفات الصوتية التي تميز بها صوت الهاء وإنه يمكن اعتباره صوتاً صامتاً كما يمكن اعتباره صوتاً صائتاً في بعض الحالات. وتابع تعداد صفات هذا الصوت وتباين آراء العلماء حول موضع نطقه ومخرجه مما ترتب عليه أن وصف هذا الصوت بصفات كثيرة.
ثم تحدث عن المواقع المختلفة لهذا الصوت والأسماء التي أطلقت عليه حسب موقعه، فتحدث عن هاء السكت أو الوقف أو الاستراحة. وقد ذكر الباحث أن هذه الهاء امتداد للنفس الذي حشده المتكلم، وناقش آراء العلماء في هذه الصفات والأسماء. كما أشار إلى أن هاء التنبيه قد تكون من الأصوات الشفطية التي تنتج عن هواء الشهيق لا عن هواء الزفير. كما تحدث عن الأصوات التي تبدل من الهاء وتبدل الهاء منها. وخلص إلى عدد من النتائج تضمنتها الخاتمة.
مقدمة:(13/244)
الصوت ظاهرة طبيعية، وشكل من أشكال الطاقة، وهو يستلزم وجود جسم في حالة اهتزاز أو تذبذب، وهذه الاهتزازات أو الذبذبات تنقل عبر وسط معين حتى تصل إلى أذن الإنسان، وقد تكون ناتجة عن اصطدام جسم بآخر، أو سقوط جسم أو انفجار أو غير ذلك، كما أنها قد تكون صادرة عن الحيوانات إلى جانب صدورها عن الإنسان. وقد فرّق العلماء بين نوعين من الأصوات: النوع الأول هو الصوت الطبيعي، وهو ما يصدر عن كل ظواهر الطبيعة وكل الموجودات فيها، والنوع الآخر هو ما يصدر عن الإنسان دون غيره. فالجهاز النطقي للإنسان قادر على إنتاج أصوات كثيرة، كما أنه قادر على إنتاج أنواع من الضجيج والضوضاء تبعد عن اللغة بقدر ما تبعد عنها أصوات الطبيعة. ولكي "يكون الصوت لغوياً بالمعنى العام فإن الأصوات الصادرة عن الجهاز النطقي يجب أن تكون ذات معنى وتنقل رسالة محددة من عقل إنسان إلى آخر (1) " وهذا الصوت هو الذي يهمنا هنا، أي أننا نهتم بالصوت باعتباره ظاهرة طبيعية وباعتباره في نفس الوقت ظاهرة سيكولوجية (2) …
... وليس كل صوت يصدر عن الإنسان مفهماً وإرادياً، أي أنه الأثر السمعي الذي يصدر طواعية واختياراً عن أعضاء النطق، بل إن الصوت حتى يكون مفهماً أو لغوياً لابد أن يكون صادراً بقصد عن المتكلم، إذ أن هناك بعض الأصوات قد تصدر عن المتكلم دون قصد منه، وقد تصدر ويكون المتكلم قد أصدرها بقصد وعناية، فهذه الأصوات تكون مرة طبيعية ومرة لغوية.
جهود العرب القدماء في الدرس الصوتي:(13/245)
.. وقد كان للعرب القدماء جهود مشكورة في الدرس الصوتي تنم عن فهم مبكر دقيق لطبيعة الصوت اللغوي، كما تدل على معرفة تامة بالجهاز النطقي وأعضائه. فقد عكفوا على دراسة أصوات لغتهم، وتمكنوا من وصفها وصفاً دقيقاً، ووضعوا القواعد والقوانين لتلك الأصوات وخصائصها وعلاقاتها مع بعضها البعض. يتضح ذلك فيما فعله أبو الأسود الدؤلي من نقط الإعراب بملاحظته الذاتية، وما قدمه الخليل بن أحمد من تقسيم لأصوات اللغة، وتحديد مخارجها معتمداً على حسه الصوتي، فقد "نظر إلى الحروف كلها وذاقها فوجد مخرج الكلام كلّه الحلق، فصيّر أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق، وإنما كان ذواقه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو: ابْ، اتْ، احْ، اعْ، اغْ فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فجعلها أول الكتاب (3) " وهو يتحدث عن الحروف ويقصد بها الأصوات فيقول: "في العربية تسعة وعشرون حرفاً: منها خمسة وعشرون حرفاً صحاحاً لها أحياز ومدارج، وأربعة جوف، وهي الواو والياء والألف اللَّينة والهمزة، وسميت جوفاً لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة (4) ".(13/246)
.. وقسّم سيبويه أصوات العربية حسب مخارجها وأحيازها، ووصف كل صوت منها وصفاً دقيقاً إلاّ أنه – كأستاذه الخليل – لم يكن يفرّق بين الحرف والصوت إذ يقول: "هذا باب عدد الأحرف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها (5) " ويقول في موضع آخر "وتكون خمسة وثلاثين حرفاً، بحروف هُنَّ فروع وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار، وهي النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين والألف التي تمال إمالة شديدة، والشين التي كالجيم، الصاد التي تكون كالزاي وألف التفخيم (6) " ثم ينتقل للحديث عن مخارج تلك الحروف التي يقصد بها الأصوات فيقول: "ولحروف العربية ستة عشر مخرجاً. فللحلق منها ثلاثة، فأقصاها مخرجاً الهمزة والهاء والألف، ومن وسط الحلق مخرج العين والحاء، وأدناها مخرجاً من الفم الغين والخاء ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف …. (7) " ويستمر في تحديد مخرج كل حرف ووصفه من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها، مما يؤكد أنه يقصد بالحرف هنا الصوت.(13/247)
.. أما أبو الفتح ابن جنّي فقد كان أكثر وضوحاً وأدق تفريقاً بين الأصوات والحروف، قال: "اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيسمى المقطع أين عرض له حرفاً. وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها (8) ". واضح من كلام ابن جنّي هذا أنه لا يقصد بالمقطع ما نقصده نحن الآن من مصطلح المقطعSyllable، الذي يعني "وحدة صوتية تتكون من صائت واحد على الأقل هو نواة المقطع، بالإضافة إلى احتمال وجود صامت واحد أو أكثر قبل الصائت أو بعده مثل in,no,sit على التوالي، ولكل مقطع درجة مناسبة من النبر تأخذ نواته. وقد يكون المقطع كلمة مثل lip، أو جزءاً من كلمة مثل win في window، وقد يكون المقطع مفتوحاً إذا انتهى بصائت مثل no، أو مغلقاً إذا انتهى بصامت مثل not (9) ". ويستمر ابن جنّي في توضيح هذا الأمر، وأن الطريقة المثلى لتحديد الحرف وصداه أو امتداده هي أن يكون ساكناً، فيقول: "وسبيلك إذا أردت أن تعرف صدى الحرف أن تأتي به ساكناً لا متحركاً لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقرة وتجتذبه إلي جهة الحرف الذي هي بعضه، ثم تُدْخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله لأن الساكن لا يمكن الابتداء به، فتقول: إِكْ، إِفْ، إِجْ وكذلك سائر الحروف (10) " فهو يقصد بالصوت ما يتبع نطق بعض الأصوات من استمرار وامتداد وتفشٍ، ثم يؤكد هذا التفريق بين الحرف والصوت، فيقول: "وذلك أن الحرف حدّ منقطع الصوت وغايته وطرفه، كحرف الجبل ونحوه، ويجوز أن تكون سميت حروفاً لأنها جهات للكلم ونواح كحروف الشئ وجهاته المحدقة به (11) " ثم يقول: "فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحروف وكشفنا عنهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما ووضحت حقيقتهما لمتأملهما (12) ". فابن جني جازم في تفريقه بين الصوت والحرف، وقد يُفهم من كلامه في هذا الشأن أنه كان يعتبر الحرف(13/248)
مقام ما يُعرف في الدراسات اللغوية المعاصرة باسم الفونيم Phoneme، الذي هو أصغر وحدة صوتية قادرة على تغيير معنى، وأن هذه الأصوات التي أشار إليها ليست إلاّ صوراً لتلك الفونيمات أو ألوفونات Allophones لها، وهو ما يعد فهماً مبكراً لطبيعة الصوت اللغوي عند اللغويين العرب بعامة وعند ابن جنّي بخاصة. ولم يقتصر الدرس الصوتي عند العرب على اللغويين فقط، بل شارك في هذه الدراسات علماء التجويد وعلماء البلاغة وغيرهم.
... قدم العرب ملاحظات قيمة في مجال الدراسة الصوتية، يبدو ذلك واضحاً في ما خلفوه من دراسات شملت أصوات العربية كافة. ومن الأصوات التي حظيت بعناية فائقة عند العرب صوت الهاء، الذي ربما يصدر عن الإنسان لا لغرض الكلام بل بسبب إرهاق أو تعب، أو حالة نفسية معينة دون قصد من المتكلم، فهو اندفاع غزير للهواء في عملية تنفسيّة غير طبيعية ينتج عنها سماع صوت الهاء، يقول إبراهيم أنيس: "عند النطق بالهاء المجهورة يندفع من الرئتين كمية كبيرة من الهواء أكبر مما يندفع من الأصوات الأخرى، فيترتب عليه سماع صوت الحفيف مختلطاً بذبذبة الوترين الصوتيين (13) ". ومثل هذا الصوت نسمعه يصدر عن الحيوانات عند تعبها أو نصبها، ولعل هذا التشابه كان سبباً من الأسباب التي حدت بالباحث أن يدرس صوت الهاء.
شبه الهاء بأصوات اللين:(13/249)
تميزت الهاء بصفات صوتية خاصة جعلت منها صوت الهاء الذي يتصف بصفات الصوامت إلى جانب اتصافه بصافات تنطبق على الصوائت، ولابد في هذا الموضع من الحديث عن نوعين من الأصوات: الأصوات الصائتة، والأصوات الصامتة. فأما لأصوات الصائتة Vowels "فهي التي تصدر دون إعاقة لتيار النفس (14) ". إنها الأصوات التي ليس لها مكان نطق محدد، كما لا يحدث معها إغلاق أو تضييق لمجرى تيار الهواء (15) ". ويوضح محمود السعران الصوت الصائت فيقول: "إنه الصوت المجهور الذي يحدث في تكوينه أن يندفع الهواء في مجرى مستمر خلال الحلق والفم، وخلال الأنف معهما أحياناً دون أن يكون ثمة عائق (يعترض مجرى الهواء اعتراضاً تاماً) أو تضييق لمجرى الهواء من شأنه أن يحدث احتكاكاً مسموعاً، أما الصوت الصامت فهو الصوت الذي له نقطة نطق محددة وله ناطق وأي صوت لا يصدق عليه هذا التعريف يعد صوتاً صامتاً، أي أن الصامت هو المجهور أو المهموس الذي يحدث في نطقه أن يعترض مجرى الهواء اعتراضاً كاملاً أو اعتراضاً جزيئاً (16) " فالصوت الصامت Consonant إذاً هو الصوت الذي له نقطة نطق محددة، وله ناطق محدد، كما يحدث لتيار النفس عند نطقه نوع من الإعاقة أو الإغلاق ثم الانطلاق (17) ".(13/250)
وإذا حاولنا وضع صوت الهاء تحت الصوائت أو الصوامت لما أمكننا ذلك لأننا لا نستطيع أن نقول أنه من الصوائت في جميع حالات نطقه أو أنه من الصوامت مطلقاً، لأنه يجمع بين صفات الصوائت وصفات الصوامت حسب طريقة نطقه والظروف اللغوية التي ينطق بها، فقد يحدث عند نطقه أن يبقى الوتران الصوتيان ساكنين دون تحرك، وقد يصاحب هذا الوضع نوع من الحفيف يسمع في أقصى الحلق، وتتخذ أعضاء النطق في هذه الحالة وضعاً يشبه الذي يكون مع أصوات اللين، لأنه (صوت النفس الخالص الذي لا يلقى مروره اعتراضاً في الفم، وللسان أن يتخذ في نطق الهاء أي موضع من المواضع التي يتخذها في نطق "الصوائت"، ومن ثم فمن المستطاع نطق أنواع من الهاء قدر ما يستطيع نطقه من أنواع "الصوائت". ولذلك أمكن اعتبار أصوات الهاء "صوائت مهموسة"، أي صوائت يصحبها همس لا جهر (18) ". إنه صوت غير لساني، أي انه صوت لا يشترك اللسان في نطقه بصفته ناطقاً متحركاً (19) . فعلى هذا نجد أن صوت الهاء ليس له موضع نطق محدد كالأصوات الصامتة، بل يمكننا نطق هذا الصوت والإطالة في نطقه لأنه ليس إلاّ نفساً خارجاً من الرئتين. كما قال الخليل في قول الشاعر:
يُدَهْدِهْنَ الرُّؤوسَ كما تُدَهْدِي
حَزاوِرَةٌ بِأَيْديها الكُريناج(13/251)
قال "حوّل الهاء الآخرة ياء، لأن الياء أقرب الحروف شبهاً بالهاء، ألا ترى أن الياء مَدّ والهاء نفس (20) ". وقد أشار سيبويه إلى هذا بقوله: (كما أن دهديت هي فيما زعم الخليل "دهدهت بمنزلة "دحرجت"، ولكنه أبدل الياء من الهاء لشبهها بها، وأنها في الخفاء والخفة نحوها (21) ". ويؤكد الخليل أن الهاء نَفَس فيقول: "الهمز صوت مهتوت في أقصى الحلق فإذا رُفِّه عن الهمز صار نفساً تحول إلى مخرج الهاء (22) ". وقد وافقه ابن جني على هذا وأن الهاء ضعيفة خفّية فقال "ومن الحروف المهتوت وهو الهاء، لما فيه من الضعف والخفاء (23) " ويستمر الخليل في تأكيد صفة الضعف لصوت الهاء فيقول "ولم يكن في الحروف أهش من الهاء لأن الهاء نَفَسُ (24) ". والهش: كل شئ فيه رخاوة (25) ".
الهاء صوت صامت:
... ومن هنا عُدَّ صوت الهاء ضمن الأصوات الصائتة. وإذا تتبعنا نطق هذا الصوت في جميع حالاته وجدنا أنه لم يستقر على صفات الصوائت فقط، بل اتصف كذلك بصفات خاصة بالأصوات الصامتة، إنه في بعض حالات نطقه يحدث تضييق لمجرى الهواء يُنْتِج تذبذب الوترين الصوتيين الذي يؤدي الى حدوث احتكاك Friction مسموع وهذه صفة من صفات الصوامت، فالهاء في هذه الحالة صوت صحيح لكنه "ألين الحروف الصحاح (26) " وعند النطق بأصوات اللين يندفع الهواء من الرئتين إلى الفم دون أن يعترضه أي اعتراض قد يضيّق مجراه فهو أكثر ليناً من الأصوات الرخوة التي يضيق مجرى الهواء عند نطقها.
إن عدم ثبوت هذا الصوت على صورة واحدة، وعدم اعتماده موضع نطق محدد، وعدم ثبات الوترين الصوتيين من حيث التذبذب وعدمه عند نطقه أَدّى إلى اتصاف هذا الصوت بصفات متباينة، أدى إلى ظهور صور متعددة منه وأنواع مختلفة له، شكلت مجتمعة ظاهرة صوتية معينة جديرة بالدراسة والتحليل.(13/252)
وقد تباينت آراء العلماء قديماً وحديثاً حول صوت الهاء من حيث موضع نطقه ومخرجه مما ترتب عليه اختلاف صفات هذا الصوت وخصائصه، فقد ذهب معظم العلماء في العصر الحديث إلى اعتبار الهاء "صوت صامت مهموس حنجري احتكاكي (27) ". وقد بينا من قبل كيف اعتبر صوت الهاء من الصوامت ذلك لأنه في حال نطقه يُعْتَرَضُ مجرى الهواء في الفم. وهو صوت مهموس لأنه حال نطقه تكون فتحة المزمار في حالة انفتاح يترتب عليه عدم تلاقي الوترين الصوتيين أو اهتزازهما. فالنفس يجري بسرعة ودون أية إعاقة عند نطق الصوت المهموس الذي هو "حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه، وأنت تعتبر ذلك بأنه قد يمكنك تكرير الحرف مع جري الصوت نحو: سَسَسَس، كَكَكَك، هَهَهَه، ولو تكلفت مثل ذلك في المجهور لما أمكنك، لأن المجهور حرف أشبع الاعتماد من موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت (28) " والمقصود بالاعتماد هنا الضغط (29) أي الوضوح والقوة Sonority. فالأصوات المهموسة هي التي تتردد في اللسان بنفسها أو بحرف اللين الذي معها، ولا يمتنع الصوت الذي يخرج معها وليس من الصدر (30) . من هذا النص ندرك أن صوت الهاء يمتاز عن غيره من أصوات العربية في أنه ليس له موضع نطق واضح محدد، فقد يكون مهموساً في موضع معين، وربما تحول إلى صوت مجهور (31) في موضع آخر، وبرصد هذا الصوت تبين أنه يتردد بين الهمس والجهر وهي صفة لا يشاركه فيها غيره من أصوات العربية، وهذه الذبذبة ربما كانت السبب في عدم اتفاق علماء الأصوات – قدماء ومحدثين – ومقدرتهم على تحديد موضع معين لنطق هذا الصوت. وقد أوضح الخليل معنى الهمس فقال: "الهمس حسّ الصوت في الفم مما لا إشراب له من صوت الصدر، ولاجهارة في المنطق ولكنه مهموس في الفم كالسر (32) " فالهمس كما فهمه الخليل إخفاء الصوت وعدم ظهوره أثناء مروره بالفم، وسلامته من أي إشباع أو ضغط مما يجعله ضعيفاً غير(13/253)
ظاهر، أي أن الهواء المكوِّن للصوت المهموس يخرج دون أي احتكاك قد ينتج عنه ذبذبة للأوتار الصوتية.
والصفة الثانية من صفات الهاء، أنه صوت حنجري Laryngeal أي أنه صوت مكان نطقه الحنجرة (33) . وقد ذهب الخليل إلى أن مخرج الهاء من الحلق وليس من الحنجرة فقال: "وأما مخرج العين والحاء والهاء والخاء والغين فالحلق (34) " ولم يحدد الجزء من الحلق الذي يخرج منه هذا الصوت، وهو ما فعله كارل بروكلمان في العصر الحديث الذي اكتفى بالقول أن صوت الهاء من الأصوات الحلقية (35) . أما سيبويه فذهب إلى أنه من أقصى الحلق فقال: "ولحروف العربية ستة عشر مخرجاً، فللحلق منها ثلاثة: فأقصاها مخرجاً الهمزة والهاء والألف (36) " وقد وافقه على هذا الرأي في العصر الحديث جان كانتينو الذي أكَّد أن "أقصى الحلق هو مخرج الهمزة والهاء والألف (37) " وأوضح المراد بالحروف الأقصى حلقية Pharyngeals بأنها "التي تقرع في أقصى الحلق، أو بالأحرى في رأس قصبة الرئة وهو قادر على الانفتاح أو الانغلاق، نحو: الهمزة والهاء (38) ". أما ابن يعيش فقد اعتبر أن مخرج الهاء هو أول الحلق وليس أقصاه كما ذهب سيبويه وغيره فقال: "الحاء من وسط الحلق والهاء من أوله وليس بينهما إلاّ العين (39) ".(13/254)
نرى أن القدماء اعتبروا مخرج الهاء من الحلق، ولم يشيروا أية إشارة إلى الحنجرة في هذا المقام، وهذا يخالف كثيراً من علماء العصر الحديث الذين يذهبون إلى أن مخرج الهاء هو الحنجرة. وربما كان السبب في هذا أن القدماء لم يستطيعوا ان يحددوا الحلق – وهو الجزء الواقع بين الحنجرة والفم – تحديداً دقيقاً فاتسع هذا الجزء ليشمل الحنجرة. وهم معذورون في هذا باعتمادهم في دراساتهم على الملاحظة الذاتية، ولم يتوفر لديهم ما توفر لعلماء العصر من معدات وأجهزة قادرة على تحديد كل جزء من أجزاء الجهاز النطقي. ويبرر كمال بشر هذا القصور من القدماء بأنه إما أن يكون راجعاً لعدم استطاعتهم التفريق بين مخارج الأصوات، وإما لأنهم اعتبروا الحنجرة ضمن الحلق (40) . ومهما يكون من أمر فإن عدداً من العلماء في العصر الحديث – بما يملكون من وسائل وأجهزة علمية متطورة – قد خفي عليهم ما خفي على قدمائنا، وعدوا مخرج الهاء من الحلق كما فعل القدماء (41) .(13/255)
والصفة الأخرى من صفات هذا الصوت أنه صوت احتكاكي Fricative وهو الصوت الذي يحدث في نطقه اعتراض لمجرى الهواء يؤدي إلى تضييقه دون أن ينحبس ذلك الهواء حبساً محكماً، ويحدث مع هذه الحالة نوع من الحفيف أو الصفير ناتج عن احتكاك تيار الهواء بجدران الممرات الصوتية، وهذا الصوت هو ما عرف عند القدماء بالصوت الرخو (42) ، وقد وضح ابن جني معنى الرخو فقال: "والصوت الرخو هو الذي يجري فيه الصوت، ألا ترى أنك تقول: المسّ والرّشّ والشّحّ ونحو ذلك فتمد الصوت جاريا مع السين والشين والحاء (43) ". إنه الصوت الذي يجري النفس فيه من غير تردد وهو صوت من الصدر (44) . ويعده ابن جني من الأصوات المنخفضة في مقابل الأصوات المستعلية (45) ، والاستعلاء هو ارتفاع اللسان إلى الحنك (46) . إضافة إلى ذلك فقد ذكر كانتينو أن بعض المؤلفين المتأخرين في الزمن يضيفون الهاء والعين إلى الحروف المستعلية (47) . وما ذكره كانتينو هنا يغاير الحقيقة ويخالف طبيعة نطق الهاء، إذ أن نطق الهاء يتم واللسان في قاع الفم ولا يرتفع إلى الحنك بشكل من الأشكال، كما أن كانتينو نفسه ذكر أن "الهاء من الأصوات الهاوية aspirees وهي الأصوات التي الانفتاح فيها أكبر ما يكون، أي التي ينفتح فيها جهاز التصويت انفتاحاً عادياً فيجري النفس جرياً (48) " وهذا يعني أن اللسان حال نطق هذا الصوت لا يتحرك ولا يشترك في نطقه لأن الهاء "صوت غير لساني أي أنه صوت لا يشترك اللسان في نطقه بصفته ناطقاً متحركاً (49) ". وقد اعتبره محمد الخولي صوتاً موشوشاً whispered voice والصوت الموشوش هو الصوت الناتج عن تضييق لفتحة المزمار وتقارب للوترين الصوتيين، ويصاحب ذلك اندفاع كبير للهواء الخارج من الرئتين، كل ذلك يؤدي إلى ذبذبة للوترين الصوتيين يصاحبها حفيف مسموع وفي أثناء هذه العملية النطقية "تصبح الأصوات المجهورة موشوشة أما المهموسة فتبقى كما هي (50) "، وهذا ما جعل بعض العلماء في(13/256)
العصر الحديث يعدون صوت الهاء ضمن الأصوات المجهورة (51) . وتحوله أحياناً إلى صوت مجهور عند استعماله كما يذكر تمام حسان يدخل في نطاق علم الأصوات السلوكي (52) .
هكذا نرى أن صوت الهاء لضعفه وخفته وسهولة نطقه ظهرت له عدة صفات نطقية خفيت على عدد من العلماء في القديم والحديث وأوقعتهم في حيرة من أمر هذا الصوت، ولم يتمكنوا من تحديد مواضع نطقه بدقة تامة، ترتب على ذلك تباين آرائهم وتعارضها بالنسبة لهذا الصوت.
وقد ظهرت الهاء بصفات متباينة وفي مواقع مختلفة، أطلق على كل وضع منها اسماً خاصاً وهذه الصفات والأسماء هي:
هاء الوقف أو السكت أو الاستراحة:
وهي الهاء التي تلحق أواخر بعض الكلمات عند الوقف عليها، وعزا العلماء ظهور هذه الهاء في نهاية تلك الكلمات لغرض تبين وإظهار صوت المد الذي في نهاية الكلمة. ويمكن تعليل ظهور هذه الهاء بأنها امتداد للصوت الخارج من الرئتين، الذي يكون الإنسان قد حشده للنطق، وبعد انتهاء النطق المطلوب يزفر الناطق ما تبقي من ذلك الهواء الذي احتشد في الفم فيسمع صوت الهاء الذي هو نفس.
وقد تحدث سيبويه عن الوقف بهاء السكت في مواضع كثيرة نوجزها فيما يلي:
في الفعل الأمر الذي بقي على حرف واحد فلا يستطاع أن يُتَكلَّم به في الوقف وذلك قولك: عِهْ وشِهْ، وكذلك جميع ما كان من باب وعي يعي، فإذا وصلت قلت: عِ حديثاً، وشِ ثوباً (53)
آخر الفعل المعتل في حال الجزم نحو: ارْمِهْ، ولم يَغْزُهْ (54) .
في المضارع الذي بقي على حرف واحد، نحو: لاَتقِهْ من وَقَيْتُ، وإن تَعِ أَعِهْ، ومن وَعَيْتْ (55) .
نون الاثنين والجمع، مثل: هما ضارِبانِهْ، وهم مُسْلمِوُنَهْ، وهُنَّهْ، وضَرَبْتُنَّهْ (56) .
في بعض الظروف مثل: أين وثم، يقال: أَيْنَهْ، وثَمّهْ (57) .
في اسم الفعل هَلمَّ، يقال: هَلُمَّهْ ومنه قول الشاعر: يا أَيُّها النَّاسُ أَلاَ هَلُمَّهْ (58) .(13/257)
في الحرف "إن" الذي بمعنى "نعم" أو "أجل" يقال: إنه. ومنه قول الشاعر:
ويَقُلْنَ شَيْبُ قد عَلاك وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ. (59)
في كيف، وليت، ولعل، يقال: كَيْفَهْ، ولَيْتَهْ، ولَعَّلَهْ. (60)
في تاء المتكلم، نحو انطلقت، يقولون: انْطَلَقْتُهْ. (61)
في ياء المتكلم في مثل: هذا غُلامِيَهْ، وجاء من بَعْدِيَهْ وإنه ضَرَبَنِيَه (62) .ومنه قوله تعالى: (ياليتني لم أوتَ كِتابِيَهْ، ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ((الحاقة 25) وقوله تعالى: (ما أغنى عني مالِيَهْ هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ ((الحاقة 28، 29) .
في بعض الضمائر المنفصلة نحو: هي، وهو، يقال: هِيَهْ وهُوَهْ (63) ومنه قوله تعالى (وما أدراك ماهِيَهْ ((القارعة 10) . ومنه كذلك قول الشاعر: فما أَنْ يُقالُ له مَنْ هُوَهْ. (64) .
ضمير المخاطب، نحو: خذه بحُكْمِكَهْ (65) .
الهاء التي تلزم "طلحة" في أكثر كلامهم في النداء (66) .
ميم الاستفهام إذا سبقت بحرف جر وحذفت ألفها، مثل: عَلامَهْ، وفِيْمَهْ، ولِمَهْ، وبِمَهْ، وحَتَّامَهْ (67)
في بعض أسماء الإشارة نحو: هؤُلاء، ههُنا، يقال: هؤُلاه، وههُناهْ (68)
في الألف التي في النداء، والألف والواو والياء في الندبة نحو: ياغُلاَماهْ، ووازَيْداه وواغُلاَمهُوهْ، وواذَهابَ غُلامِهِيهْ (69) .
هذا مجمل المواضع التي ذكر سيبوبه أن الهاء فيها تأتي للوقف. وقد جاءت الهاء في مثل هذه المواقع لتفيد أغراضاً أخرى إلى جانب إفادتها الوقف أو السكت. وقد أطلق عليها كذلك هاء الاستراحة، فهل حقاً أن هذه الهاء يقصد بها المتكلم العربي الاستراحة من عناء الحديث، أو استراحة أعضاء النطق التي قد أرهقت من كثرة الكلام؟ وقد رويت لنا شواهد لغوية كثيرة في هذا المجال قديماً، ولا تزال هذه الهاء مستخدمة عند المحدثين، نجد مثل هذه الهاء في قصيدة إبراهيم طوقان "الحمائم البيضاء" التي يقول فيها:(13/258)
بِيضُ الحَمائمِ حَسْبَهُنَّهْ
أَني أُرَدِدُ سَجْعَهُنَّهْ
رَمْزُ السَّلاَمةِ وَالوَداعَةِ
مُنْذُ بَدءِ الخَلّْقِ هُنَّهْ
وَيَمِلْنَ والأَغْصانُ ما
خَطَرَ النَّسيمُ بِرَوْضِهِنَّهْ (70)
... كما نسمع مثل هذه الهاء في بعض اللهجات العربية المعاصرة كما في الأردن وفلسطين فعند السؤال عن شئ معين تقول: "كيفه" ونقول كذلك: هذا كتابيه. وإذا حاولنا تفسير شيئاً من هذه الهاء صويتاً أمكن القول أن المتكلم يطلقها دون قصد منه، إذ أنه قد حشد كيمة من الهواء لغرض نطق كلمة أو جملة معينة، وبطريقة معينة من النبر أو التنغيم وتنتهي هذه الكلمة أو تلك الجملة ولازال قسم من ذلك الهواء يجري في الفم ولابد من خروجه، فتخرج أشبه ما تكون بزفرة نسميها "هاء" وهي ما لم يكن المتكلم يقصدها.(13/259)
كما يمكننا القول إن الهاء التي قد تلحق بعض الأسماء لغرض الوقف أو الاستراحة كما قال النحاة وعلماء الأصوات – إنما هي تابعة لنفسية المتكلم، وتنبىء عن حالة معينة يعيشها، ونفسية خاصة انعكست بداخلها تلك الحالة التي يعيشها والأحاسيس التي يحس بها، ففي مثل قوله تعالى: (وأَمّامَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ فيقولُ يا لَيْتَني لَمْ أُوتَ كتابِيَهْ، ولم أَدرِ ما حِسابِيَهْ، يا ليتها كانت القاضيةَ ما أَغْنى عنّي مالِيَهْ هَلكَ عنّي سُلطانِيَهْ ((الحاقة 25، 29) . فهذه الآيات جاءت صياغتها على لسان من رفض الإيمان بالله، وأنكر البعث والحساب، وعند بعثه، ومشاهدته ليوم الحشر عياناً، ورؤيته هول ذلك اليوم، أسقط في يده وعجز عن الدفاع عن نفسه ولو بكلمة واحدة، أيقن أن العذاب محيط به، وأنه هالك لا محالة، وإن كل ما كان يعتز به في دنياه قد ذهب عنه، فلم يبق له مال ولاجاه، وأن لانجاة له، ولابد من مواجهة مصيره المحتوم وهو الخلود في نار جهنّم. فانطلقت تلك العبارات على لسانه في عتاب للنفس بصوت حزين متهدج ونبرة محشرجة، لقد أحسّ بالتعب والعجز، إنه منهار تماماً أمام الهول العظيم الذي يراه والمصيبة الكبرى التي أوقع نفسه فيها، فبدا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، نادماً على مافات بعد أن أيقن العذاب، فسمعت تلك الزفرات التي انتهت بها جمله وكأنه صوت الهاء. فهو لا يقصد نطق الهاء، وأن ما سمع وكأنه هاء ليس إلاّ اندفاع الهواء في سرعة واضطراب تناسب خفقات قلبه المنهار. ولو كان هذا الرجل في حالة نفسية مستقرة، ووضع طبيعي يبشر بالخير لاختلف حديثه واختلفت نبراته وسمعت كلماته بصورة أخرى تغاير الصورة التي سمعت بها.(13/260)
وفي حالة الفعل المعتل المجزوم، فإن الهاء قد لحقت ذلك الفعل لأنه قد نقص عن أصله بحذف آخره الذي هو صوت اللين، ولذلك فإن التأهب المعدّ سابقاً لنطق ذلك الفعل كاملاً قد زاد عن الحاجة بعد حذف آخر ذلك الفعل، فخرج ما تبقى من الهواء وسمع هاء.
ويمكن تعميم هذا الأمر على ميم الاستفهام المسبوقة بحرف جر، وكذلك "إن" الذي بمعنى نعم، فقد وُقف على النون التي آخرها فتحة فامتد النفس فسمع هاء كما أشار الى ذلك إبراهيم أنيس (71) . وقد يوقف على ضمير المتكلم المفرد بالهاء كذلك. قال المالقي في حديثه عن الهاء المبدلة من الأصل "أن تكون بدلاً من ألف الوقف في "أنا" إذا وقفت عليه قلت: أنا أو أَنَهْ حكي من قولهم "هذا قصدي أَنَهْ" وإنما جعلناها بدلاً من الألف، لأن الألف في "أنا" أكثر استعمالاً من الهاء (72) ". وقد اعتبر الفراء هذا الوقف لغة جيدة فقال: "ومن العرب من يقول إذا وقف: أَنَهْ، وهي في لغة جيدة. وهي عليا تميم وسفلى قيس (73) ". وقد يرى الباحث أن الهاء في "إنَّه" بقية من ضمير الغائب المفرد، أي أن أصل الكلمة هو "إنّ هو" أسقطت الواو فبقيت الهاء فاتصلت بما قبلها، ولعل ضمائر الغائب الموصولة تأتي تحت هذا النوع مثل: له "ل + هو" كتابه " "كتاب + هو" وهكذا، كما أنه يمكن اعتبار الأسماء والظروف والحروف التي تلحقها هاء السكت من هذا القبيل، ففي قولنا: أَيْنَه، ولَيْتَه، وكَيْفَه،، تكون: أين + هو، وكيف + هو، وليت + هو. أسقطت الواو وبقيت الهاء فاتصلت بهذه الكلمات وأمثالها فسمعت أَيْنَهُ ولَيْتَهُ وكَيْفَهُ. ولا نزال نسمع مثل هذا في بعض لهجات بلاد الشام إذ يقولون: كِيْفُهْ، ولَيْتُهْ، وما أشبه ذلك يريدون: كيف هو، وليت هو. وهو ما ذكره ابن منظور بقوله: "بنو أسد تسكِّن هِي وهُو فيقولون هُو زيد وهي هند، كأنهم حذفوا المتحرك، وهي قالته وهُو قاله وأنشد:(13/261)
وكُنَّا إذا ما كانَ يَوْمُ كَرِيهةٍ
فَقَدْ عَلِمُوْا أَنَّي وهُو فَتَيانِ
فأسكن. ويقال: ماهُ قاله وماهِ قالته يريدون: ماهُوَ وماهِيَ. وأنشد: دارُ لِسَلْمَى إذْهِ مِنْ هَو اكا. فحذف ياء هي (74)
وقد ذهب علماؤنا إلى أن الهاء في مثل هذه المواقع تأتي للتبيين، وأنها تسقط عند وصل الكلام، قال ابن يعيش: "واعلم أنه قد يؤتي بهذه الهاء لبيان حروف المدّ واللين، كما يؤتي بها لبيان الحركات، نحو: وازيداه، وواعمراه، وواغلا مهموه، ووانقطاع ظَهْرِهْيِه (75) ". ولعل السبب الذي دعاهم إلى هذا القول هو أن الإنسان عندما ينطق بالصائت يندفع الهواء بسرعة دون أي تضييق أو إعاقة لمجراه، فإذا نطق بصوت الهاء بعد ذلك – أي بعد حرف اللين – كان ذلك إراحة للنفس من الامتداد الى ما لانهاية لأن النطق بالهاء يمكنه من أن يضيق مجرى الهواء تضييقاً ينتج عنه حفيف أو احتكاك، ويصاحب ذلك إراحة للإنسان من استمرارية امتداد النفس مع حرف اللين. لكن كيف يمكن أن نبرر عدم لحاق الهاء في لغة من ينتظر الذين يقولون: جاء خالدو ومررت بخالدي، فلا يلحقون الهاء هنا لبيان حرفيّ المدّ الواو والياء اللذين جاءا في نهاية الكلمة ولم يكن وصل في الكلام؟ .
وكذلك الهاء اللاحقة لبعض الضمائر المنفصلة، كما في هِيَهْ وهُوَهْ، كما في قوله تعالى: (وما أدراك ماهِيَه ((القارعة 10) ، وفي قول حسان بن ثابت:
إذا ما تَرَعْرَعَ فينا الغُلامُ
فما أَنْ يُقالُ لَهْ مَنْ هُوَهْ (76)(13/262)
وقد أشار سيبويه إلى ذلك بقوله: "وقالوا هِيَهْ، وهم يريدون "هِيَ" شبهوها بياء "بَعْدِي". وقالوا "هُوَهْ" لما كانت الواو لا تصرَّف للإعراب، كرهوا أن يلزموها الإسكان في الوقف فجعلوها بمنزلة الياء، كما جعلوا "كيفه" "بمنزلة" "مسلمونه". ومثل ذلك قولهم: خُذْهُ بحُكمِكَهْ. وجميع هذا في الوصل بمنزلة الأول. ومن لم يلحق هنا الهاء في الوقف لم يلحقها هنا. وقد استعملوا في شيء من هذا الألف في الوقف، كما استعملوا الهاء، لأن الهاء أقرب المخارج إلى الألف وهي شبيهة بها (77) ". فليست الهاء وحدها التي تلحق في مثل هذه الواقع بل إن العرب قد استعملوا الألف في الوقف، بل إن كلام سيبويه السابق يشير إلى أن الأصل في الإلحاق للألف، واستخدمت الهاء في ذلك لشبهها بالألف ولقرب مخرجها من مخرج الألف. وإذا كانت الهاء في مثل المواضع السابقة هاء سكت زيدت من أجل تبيين الحركة التي قبلها، أي حركة آخر الكلمة التي تم الوقف عليها، فلم لم تطرد هذه الزيادة في كل المواضع من أجل تبيين الحركة؟ ولماذا استُعيض عنها في حالات أخرى بالالف؟ أليست الألف إطالة لحركة الفتحة وتبييناً لها؟ وإذا كان الغرض من زيادة الهاء في مثل هذه الواضع هو التبيين فقط، فلم لا يقتصر هذا الأمر عليها دون الألف في كل الحالات المشابهة؟
إن ظهور هذه الهاء في بعض المواضع قد يكون ناتجاً عن الحالة النفسية للمتكلم التي تنعكس في نطقه، ويمكن القول أن هذه الهاء تلحق مثل هذه الضمائر "هوه، هيه" عندما يكون المتكلم في نفسية متوترة وتغلب عليه العصبية والاضطراب. ومعلوم أن هذا التوتر والاضطراب يفرض على الشخص تتابع النفس بقوة وشدة، وذلك التتابع القوي يسمع على شكل صوت الهاء في نهاية الكلام، وأن المتكلم لا يقصد إلى نطق الهاء هنا، بل سُمع النفس القوي هاء دون قصد. وقد نسمع هذه الهاء في مثل هذه الحالة من التوتر والاضطراب مع الأصوات الصامتة أيضاً.(13/263)
أما هاء الندبة التي تلحق آخر الاسم المندوب، فهي كذلك تنتج عن كمية الهواء المندفع من الرئتين، فالنادب الذي فقد عزيزاً عليه، متألم أشد الألم تعتصره الحسرة على فقدان ذلك العزيز، فهو يعاني من التعب والنصب، إنه مرهق منهار القوى، أنفاسه متلاحقة، فإذا ما صرخ باسم المندوب مع مابه من انفعال شديد وحرقة مؤلمة، فإنه ينطق الاسم ويمتد نفسه بألف الندبة إلى أن يصبح غير قادر على متابعة استمرارية الهواء المندفع من رئتيه فيلفظه دفعة واحدة فيسمع هاء. وقد ذهب العلماء إلى القول بأن هذه الهاء تأتي لبيان ألف الندبة وتكون مع الوقف، وتحذف مع الوصل. إلاّ أن ورود هذه الهاء لم يقتصر على الوقف فقط، فقد سمعت كذلك في حالة الوصل، كقول الشاعر:
يامَرْحَباهُ بحمارِ ناجِيهْ
كما وردت في قول امرىء القيس:
وقَدْ رابَني قَوْلُها ياهَنا
هـ وَيْحَكَ أَلَحَقْتَ شَرَّاً بِشَرّْ
وقد جعل إلحاق الهاء في الموضعين السابقين على الضرورة الشعرية (78) .
وليس إلحاق الهاء أمراً حتمياً في كثير من المواقف، فقد لا تلحق في الوقف ولا يراد بها تبين شيء. وقد أشار سيبويه إلى ذلك بعد أن تحدث عن المواضع التي تلحق فيها الهاء لتبين الحركة فقال: "وغير هؤلاء من العرب، وهم كثير، لا يلحقون الهاء في الوقف ولا يبِّينون الحركة، لأنهم لم يحذفوا شيئاً يلزم هذا الاسم في كلامهم في هذا الوضع، كما فعلوا ذلك في بنات الياء والواو (79) ". لذا يمكن القول أن إلحاق الهاء هنا يمثل لغة القلة من العرب، فأكثرهم لا يلحقونها.(13/264)
أما الهاء التي تلزم "طلحة" في أكثر كلامهم في النداء إذا وقفت (80) ، فإن وجود الهاء في نهاية مثل هذه الكلمة "طلحة" عند الوقف لا يدل على إلحاق الهاء هنا لتكون هاء سكت، بل إن ما يحدث في مثل هذه الحلة هو حذف الحرف الأخير من الكلمة الذي يترتب عليه امتداد النفس حين الوقوف على صوت المدّ أو صوت اللين، وهذا النفس يسمع هاء، مما جعل القدماء يعتبرون أن مثل هذه الكلمات حين الوقوف عليها يوقف عليها بهاء السكت، ولعل هذه الهاء "وسيلة لإغلاق المقطع (81) ". قال ابن يعيش: "متى كان آخر الاسم تاء تأنيث من نحو طلحة وحمزة وقائمة وقاعدة، كان الوقف عليه بالهاء، فتقول: "هذا طلحه، وهذا حمزه" وكذلك قائمة وقاعدة، وذلك في الرفع والنصب والجر، والذي يدل على أن الهاء بدل التاء، أنها تصير تاء في الوصل، والوصل مما ترجع فيه الأشياء إلى أصولها، والوقف من مواضع التغيير (82) ". ولا نعدم أن نجد عكس ذلك، فنجد أن من العرب من يقف على هذه التاء بالتاء كما هي، وهو ما أشار إليه النحاة بإجراء الوقف مجرى الوصل، قال ابن يعيش "إن من العرب من يجري الوقف مجرى الوصل، فيقول في الوقف: هذا طلحت، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب، ومنه قولهم، وعليه السلام والرحمت، وقول الشاعر:
بل جوز تيهاء كظهر الجحفت.
وقول الآخر.
اللهُ نَجّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلِمَتْ
مِنْ بَعْدِما وَبَعْدِما وَبَعْدِمِتْ
صارَتْ نفوسُ القومِ عِندْ الغَلّْصَمَتْ
وكادَتْ الحُرَّةُ أَنْ تُدعى أُمَتْ (83)(13/265)
من هنا يمكن القول أن هذه "الهاء" التي تنطق حينا بالتاء، وحيناً آخر بالهاء، والتي ذهب علماؤنا القدماء أنها تبدل من التاء عند الوقف. ويمكن القول أن السبب في كل هذا اختلاف لهجي؛ يؤكد صحة هذا الفرض وجود بعض القبائل كقبيلة طيء يقلب التاء هاء في جمع المؤنث السالم. فقد روي عنهم أنهم يقولون: دفن البناه من المكرماه، وكيف الأخوة والأخواه" وقد جاءت بدلاً من تاء التانيث في الحرف شاذاً، قالوا: لاه (84) ". وربما كانت هذه الظاهرة سمة من سمات اللهجات البدوية التي تهتم بسرعة الأداء وكل ما يمكنها من ذلك. يؤكد ذلك ما رواه أبو زيد في نوادره فقال: "سمعت أعرابياً من أهل العالية يقول هوَ لَكَهْ وعَلَيْكَهْ يريد هو لك وعليك، وجعل الله البركة في دارِكَهْ هذا في الوقف ويلقيها في الأدراج، وسمعت نميرياً يقول ما أحسن وجهكَهْ في الوقف، وما أكرم حسبكَهْ في الوقف ويطرحها في الإدراج (85) ". من كل ما سبق يمكن القول "أن الوقف بهاء السكت من سمات اللهجات البدوية، ولا تزال هذه الظاهرة مستمرة في لهجات أهل اليمن، إذ يقولون: "لمه؟ " يريدون لماذا؟ و "علامه؟ " يريدون على ماذا؟ و "هُنَّهْ" يريدون "هُنَّ (86) ". أما إبراهيم أنيس فقد رأى أن هذه الظاهرة ناتجة عن استمرار الهواء في النطق فقال: "ليست هذه الظاهرة في الحقيقة قلب صوت إلى آخر، بل هي حذف الآخر من الكلمة، وماظنه القدماء "هاء" متطرفة هو في الواقع امتداد في النفس حين الوقوف على صوت اللين الطويل، أو كما يسمى عند القدماء ألف المدّ وهي نفس الظاهرة التي شاعت في الأسماء المؤنثة المفردة التي تنتهي بما يسمى بالتاء المربوطة، فليس يوقف عليها بالهاء كما ظن النحاة، بل يحذف آخرها، ويمتد التنفس بما قبلها من صوت لين قصير "الفتحة" فيخيل السامع أنها تنتهي بالهاء (87) ".(13/266)
ومع كل ما تقدم، وسواء أكانت هذه الهاء ناتجة عن حذف آخر الكلمة كما ذهب إبراهيم أنيس أم أنها وسيلة لإغلاق المقطع كما أشار عبد الصبور شاهين، أم أنها ناتجة عن سرعة الأداء والحرص عليها في اللهجات البدوية، ورغم كل ما سبق، فإننا لا نعدم أن نجد في اللهجات العربية القديمة عكس ذلك أيضاً.
إبدال الهاء:
ومن الخصائص الصوتية للهاء ظاهرة الإبدال، وهي إبدال الهاء من غيرها وإبدال غيرها منها أي إحلالها محل صوت آخر، وإحلال صوت محلها. وهذه الظاهرة ليست خاصة بالهاء دون غيرها، بل تشترك فيها معظم أصوات العربية. قال ابن فارس: "من سنن العرب إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض (88) " وهذا الحكم يكاد يكون عاماً في الأصوات العربية "فقلما نجد حرفاً إلاّ وقد جاء فيه البدل ولو نادراً (89) "، وهذه الظاهرة ناتجة عن اختلاف اللهجات العربية، إذ لم يصل إلينا أن قبيلة واحدة أبدلت صوتاً من صوت آخر هكذا دونما سبب. قال أبو الطيب اللغوي: "ليس المراد بالإبدال أن العرب تتعمد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغات مختلفة لمعان متفقة، تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنى واحد، حتى لا يختلفا إلاّ في حرف واحد، والدليل على ذلك أن قبيلة واحدة لا تتكلم بكلمة طوراً مهموزة، وطوراً غير مهموزة، لا بالصاد مرة وبالسين أخرى، وكذلك إبدال لام التعريف ميماً، والهمزة المصدرة عيناً، كقولهم في نحو: أَنْ عَنْ، لاتشترك العرب في شيء من ذلك، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون … (90) . ولعل السبب في ظهور ظاهرة الإبدال هذه في العربية هو أن الرواة والعلماء الذين جمعوا العربية لم يقصروا جمعهم لها على قبيلة واحدة، بل جمعوها من قبائل عدة، وكانوا حريصين كل الحرص على عدم التفريط بأي لفظ من الألفاظ، لإيمانهم بقدسية العربية، وقناعتهم بوجوب المحافظة على كل ألفاظها.(13/267)
وأصوات العربية ليست متساوية في إبدالها فمنها ما يقلّ إبداله ومنها ما يكثر، وأكثر الأصوات إبدالاً أحد عشر صوتاً هي: الهمزة، والألف، والياء، والواو، والميم، والنون، والتاء، والهاء، والطاء، والدال، والجيم (91) ، وزاد القالي الميم (92) .
وإذا حاولنا استقصاء المواضع التي تبدل فيها الهاء، وحصر الحروف التي تبدل منها وجدناها خمسة أحرف هي: الهمزة والألف، والياء، والواو، والتاء (93) . فهي تبدل من الهمزة أصلية أو زائدة، فتبدل الهمزة عنها في "ماء"، وأصله "مَوَه" لقولهم "أمواه" فقلبت الواو ألفاً، وقلبت الهاء همزة فصار "ماء" وقالوا في الجمع "أمواء" فهذه الهمزة أيضاً بدل من هاء "أمواه (94) ". ومن ذلك قولهم "آل" التي أصلها "أهل" ثم أبدلت الهاء همزة، فصارت "أَأَْل" فلما توالت همزتان أبدلوا الثانية ألفاً فقالوا "آل (95) ". ومن إبدال الهمزة هاء: أيا وهيا، وإيّاك وهيّاك، واتمأَلّ السنام واتمهلَّ إذا انتصب، وأرحت دابتي وهرحتها، وأبزت له وهبزت، وأرقت الماء وهرقته (96) ". وحكي اللحياني: هَرَدْتُ الشيء أُهَرِيدُهُ، أي أردته (97) .
قال الراجز:
يا خالِ هَلاّ قُلْتَ إذ أَعْطَيْتَنِي
هَيّاكَ هَيّاكَ وحَنواءَ العُنُقْ (98)
كما تبدل الهاء من همزة "أن"، قالوا: "لهنّك قائم "والأصل "لأنّك" قال الشاعر:
ألا ياسنا بَرقٍ على قُلَلِ الحِمَى
لِهَنَّكَ من بَرْقٍ عليَّ كريمُ
وطيىء تقول: هِنْ فعلت فعلتُ، يريدون "إنْ (99) " ولعل هذه الرواية تؤكد أن الإبدال ناتج عن اختلاف اللهجات العربية.(13/268)
وقال بعضهم في "هات يا رجل" أن الهاء بدل من همزة أتى يؤتى، قال الخليل "المهاتاةُ: من قولك: هات، يقال: اشتقاقه من "هاتى يُهاتي" الهاء فيه أصلية، ويقال: بل الهاء في موضع قطع الألف من آتى يُؤاتي، ولكن العرب أماتوا كل شيء من فعلها إلاّ "هات" في الأمر، وقد جاء في الشعر. قوله: لله مايُعْطي وما يُهاتي" أي: يأخذ (100) ".
وتبدل همزة الاستفهام هاء، فيقولون: هزيد منطلق؟ أي: أزيد منطلق؟
قال الشاعر:
وأَتى صَواحِبُها فَقُلنَ: هَذا الذي
مَنَحَ المودةَ غيرَنا وجفانَا
يريد أذا الذي؟ (101)
ونسب الأزهري هذا النوع من الإبدال إلى الحجازيين، فذكر أنهم يقولون: ها إنك زيد، ومعناه أَإنّك زيد، في الاستفهام (102) .
... والذي سوغ هذا الإبدال هو قرب مخرج الهاء من مخرج الهمزة، فكلاهما صوت حنجري إلاّ أنه عند نطق الهمزة ينطبق الوتران الصوتيان انطباقاً تاماً فلا يسمع للهواء بالنفاذ من الحنجرة بضغط الهواء فيما دون الحنجرة، ثم ينفرج الوتران فينفذ الهواء من بينهما فجأة محدثاً صوتاً انفجارياً (103) .
... وتبدل الألف هاء في الوقف، كقول الراجز:
قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ ... ... مِنْ ههَنا ومِنْ هُنَهْ
إن لمْ أُرَوِّها فَمَهْ
أي: من هنا. ومن ذلك أيضاً قولهم في الوقف على " أَنَ فعلتُ" أنا وأَنَهْ فالوجه أن تكون الهاء في "أَنَهْ" بدلاً من الألف في أنا (104) .
... وتبدل الياء هاء وذلك في قولهم "هذي هند": هذه، فالهاء في "هذه" بدل من ياء هذي (105) . وقال سيبويه: "إن دَهَديت هي فيما زعم الخليل بمنزلة دحرجت، ولكنه أبدل الياء من الهاء لشبهها بها، وأنها في الخفاء والخفة مثلها، فأبدلت كما أبدلت من الياء في "هذه" (106) ". ومن ذلك أيضاً إبدال ياء هنيّة هاء لتصبح هنيهة (107) .
كما تبدل الهاء عن الواو وكما في قول امرىء القيس:
وقد رابني قولها ياهنا
هـ ويحك ألحقت شراً بشر(13/269)
فالهاء الآخرة في "هناه" بدل من الواو في هنوك وهنوات. وكان أصله "هناو" فأبدلت الواو هاء، فقالوا: هَناه (108) . ولعل الذي سوغ مثل هذه الإبدالات هو "أن الهاء أقرب المخارج إلى الألف وهي شبيهة بها (109) ". و "لأن الياء أقرب الحروف شبهاً بالهاء، ألآترى أن الياء مَّدة والهاء نفس، ومن هنالك صار مجرى الياء والواو والألف والهاء في روي الشعر واحد (110) ".
وتبدل الحاء هاء في مثل: كدحه وكدهه، وقحل جلده. وقهل: إذا يبس، والجَلَح والجَلَه: انحسار الشعر عن مقدمة الرأس، وحبش وهبش: أي جمع، وحقحق في السير وهقهق: إذا سار متعباً، وبُحْتُر وبُهْترُ: القصير… (111) .
وسوغ هذا النوع من الإبدال أن الحاء والهاء تتقاربان في المخارج، فالحاء صوت صامت مهموس حلقي احتكاكي، يحدث احتكاكه في الفراغ الحلقي أعلى الحنجرة إذ يضيق المجرى الهوائي في هذا الموضع (112) .
وتبدل التاء هاء في الوقف، في نحو جوزة في الوصل جوزه في الوقف. وحكي قطرب عن طيىء أنهم يقولون: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواه. فأما التابوه فلغة في التابوت. ووقف بعضهم على اللات بالهاء فقال: اللاهْ (113) .
وذكر السيوطي أن الخاء تبدل من الهاء مثل: اطرَخَمَّ واطرَهَمَّ، إذا كان طويلاً مشرفاً، وبخ بخ به به إذا تعجب من الشيء، وصخدته الشمس وصهدته إذا اشتد وقعها عليه (114) .
وذكر ابن السكيت إبدال الباء من الهاء في البشاشة والهشاشة (115) . وهذه الأنواع من الإبدال وقعت بين أصوات متباعدة المخارج، لأن الإبدال يقع بين الأصوات المتقاربة في الحّيز والمخرج، وبين المتباعدة أيضاً، والأول هو الأغلب حدوثاً (116) . ومع التسليم بأن الإبدال قد يقع بين الأصوات المتباعدة في المخارج إلاّ أنه نادر جداً، وهذا ما ذكره ابن الصائغ بقوله: "قلّما تجد حرفاً إلاّ وقد جاء فيه البدل ولو نادراً (117) ".
متى تكون الهاء حرف روي:(13/270)
ومما يتصل بدراسة الهاء صوتياً أنها لا تستعمل حرف روي إلاّ إذا كانت أصلا من أصول الكلمة الأخيرة في بيت الشعر، أو كان قبلها ساكن (118) . وقيد الساكن هنا غير دقيق كما يرى إبراهيم أنيس الذي يقول: "أن الهاء في لم يعلمه ولم يعرضه وأمثالها ليست حرف روي، فرغم أنه قد سكن ما قبل الهاء في هاتين العبارتين، لانكاد نحس فيهما بموسيقى القافية، فليس يكفي سكون ما قبل الهاء لجعلها رويّاً (119) ". ويرى أنه من الواجب أن ينصوا بوضوح على أن الهاء لا تحسن في الروي إلاّ إذا سبقها حرف مَدٍّ مثل لا يرعاه، ولاينساه (120) ". كما أن الهاء التي للتبيين الحركة لاتعُدّ من حروف الروي نحو: اقضه وارمه، وكذلك الهاء التي للتأنيث نحو: طلحه وحمزه، ولاهاء الإضمار نحو ضربته وضربتها (121) .
فالهاء في قول لبيد:
عفت الديارُ مَحَلُها فمقامُها
بمنى تَأَبَّد غَوْلُها فرجامُها
ليست روياً، "فالروي هو الميم، والهاء بعد الميم هي الصلة لأنها اتصلت بالروي والألف بعدها الخُرج" (122) كما أن الهاء في قصيدة إبراهيم طوقان السابق ذكرها صفحة 10 ليست حرف روي، بل النون قبلها.
وليست الهاء في قول شوقي:
قِفْ بطوكيو وطُفْ على يُكاهامَهْ
وسَلْ القَرْيَتَينِ كَيْفَ القيامَهْ
دَنَتْ الساعةُ التي أُنذرَ النا
سُ وحلَّت أشراطُها والعلامَهْ
قِفْ تَأَمَّلْ مصارعَ القومِ وانظرْ
هل ترى من ديارِ عادٍ دَعامَهْ
خُسِفَتْ بالمساكِنِ الأرضُ خَسفاً
وطوى أَهْلُها بِساطَ الإقامَهْ (123)(13/271)
حرف روي، ولكنها للتأنيث بعد الوقف عليها. وحرف الروي هنا هو الميم لكن ما سبب عدم كون الهاء في هذه المواقع وأمثالها روياً؟ وما سبب اشتراط شرطين هما: أن تكون الهاء أصلاً من أصول الكلمة، وأن تكون مسبوقة بحرف مدّ حتى تكون الهاء رويا؟ السرّ في ذلك أنها قد تقع لاحقة للكلمة، ولا تكوّن منها أصلاً من أصول الكلمة وأساس الروي والشعور بموسيقاه مبني على كونه جزءاً من بنية الكلمة، فاللواحق وإن اتصلت بالكلمات نشعر بانفصالها عنها واستقلالها (124) .
أضف إلى ذلك أن الهاء صوت مهموس، والمهموس ما ضعف الاعتماد عليه، أي الضغط عليه، والشعر بموسيقاه معتمد على القافية، والروي الذي هو في الشعر بمثابة الإيقاع في الموسيقى يجب أن تشعر به الأذن، فإن كان ضعيفاً غير مشبع – مهموساً – كان الحرف السابق عليه هو حرف الروي حتى يشعر السامع بالموسيقى الشعرية ووضوح الإيقاع.
لكن إذا كان صوت الهاء لا يصلح أن يكون روياً بغير الشرطين السابقين، فلماذا يكون روياً إذا كان أصلاً من أصول الكلمة؟ يصلح لذلك لأنه إذا كان أصلاً فإننا لا نستطيع تجاهله أو الاستغناء عنه، فهو في هذه الحالة كأي صوت مهموس آخر. إما إذا كان غير ذلك فيمكننا الاستغناء عنه بالحرف السابق له ليكون روياً.
وقد تذكر الهاء في الشعر لاطلاق القوافي المقيدة لأنها أقرب الأصوات إلى حروف المدّ التي تأتي في نهايات القوافي المطلقة. فقد ذكر المالقي المواضع التي تأتي إليها الهاء وهي أصل فقال: أن تكون للإطلاق في القوافي كما تكون الألف لذلك، لأنها تُسرِّحُ القافية إلى الحركة من التقييد وهو السكون كما تفعل الألف وذلك نحو قول الشاعر:
اكْسُ بُنَياَّتِي وأُمَّهُنَّهْ
أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
وقوله:
وقائلةِ: أَسِيتَ فَقُلْتُ جَيرٍ
أَسِيٌّ إِنَّني مِنْ ذَاكَ إنَّهْ (125)
الهاء صوت انفعالي:(13/272)
ومن الخصائص الصوتية للهاء أنها صوت أساسي من ضمن الأصوات التي تعرف بالأصوات الانفعالية Interjections، التي هي عبارة عن أصوات قصيرة تعبّر عن التوجع والدهشة أو الألم أو ما إليها من الوجدانات العابرة، وهي شائعة في جميع اللغات قيل: آه، وي، أواه، ها، هيا، واه، واه، أوه (126) ، هذه الصرخات الانفعالية والصيحات الفطرية التي استخدمها الإنسان في بداية حياته، وشاعت في لغته كانت سبباً جعل بعض العلماء المحدثين يرون أنها الأساس الأول الذي استمدت منه اللغة الإنسانية نشأتها.
... وقد جاء صوت الهاء من أكثر الأصوات شيوعاً بين الأصوات الانفعالية، لأنه من أسهل الأصوات نطقاً لأن "الهاء نفس (127) " يحدث بواسطة الزفير الاعتيادي دون أن يستعمل الإنسان في نطقه أيّاً من اللسان أو الأسنان أو الشفتين، إنه هواء الزفير الخارج من الفم دون أي جهد، لذا يمكن القول أن هذا الصوت هو أساس الصيحات الانفعالية التي يصدرها الإنسان البدائي تلقائياً دون أدنى جهد أو تفكير.
ويوضح إبراهيم أنيس هذا الأمر عند تفسيره لنشأة اللغة من خلال هذه الصيحات الانفعالية فيقول: "وكذلك الحال حين يدهش المرء أو يفزع، يميل عادة إلى فغر فمه كما لو كان يتنفس بعمق، فإذا زفر هذا الهواء الذي تنفسه حين فغرفاه وجدنا الفم يميل إلى الاستدارة قليلاً، ومثل هذا الوضع للشفتين يولد لنا صوت اللين المسمى بالضمة، وهي حين تطول قد يتصل بها صوت يشبه الهاء. ويترتب على هذا أن تنشأ تأوهات مثل oh، وهو الصوت الذي نسمعه عادة من جمهور المتفرجين حين يفاجأون بمنظر بالغ الدهشة أما في حالة الألم فتتقلص أعضاء الجسم كلها بما في ذلك الوجه، مما يترتب عليه أن الشفتين تأخذان الوضع المناسب لصوت اللين "a " أي الفتحة، ويؤدي هذا إلى صوت مثل ah أو ach" (128) .(13/273)
ونظراً لأهمية صوت الهاء في إنتاج الصيحات أو الصرخات الانفعالية ودوره الواضح في تكوينها ظهر في اسم إحدى نظريات نشأة اللغة وهي نظرية Pooh Pooh كما ظهر هذا الصوت واضحاً في أسماء تلك الصيحات والصرخات فهي إما شهقات أو آهات أو تأوهات. ويظهر صوت الهاء محوراً لهذه الانفعالات فكلها لاتخلو منه. وهي لا تبتعد عن كونها زفرات خارجة من الفم دون عناء. فعند التوجع أو التألم أو التأوّه نقول "آه" وهو صوت اندفاع للهواء خارج الفم. وقد اشتق منه العرب أفعالاً ومصادر وأسماء أفعال وأسماء أصوات، فقالوا: "آه يأوه أوها" أي: شكا وتوجع، وهكذا "تأوه أوها"، وقد دعوا داء الحصبة "آهة" والجدري "مآهة" وكل ذلك لتناسب في المعنى واللفظ … فإنهم بتسميتهم الحصبة "آهة" كأنهم يشخصون ما يرافق ذلك الداء من تأوه المرض (129) . وهذا ما أشار أليه الخليل بقوله: "آه: حكاية المتأوه في صوته، وقد يفعله الإنسان من التوجع. قال المثقّب العبدي:
إذا ماقُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلِ
تَأَوَّهَ آهةَ الرجلِ الحزينِ
وأَوَّهَ فلان وأهَّهَ، إذا توجع فقال: آه. أو قال: هاه عند التوجع فأخرج نفسه بهذا الصوت ليتفرج عنه به (130) .(13/274)
.. وقد ارتقت هذه الشهقات والآهات، أو الصيحات الانفعالية التلقائية عند الأمم تدريجياً، أو سارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً للارتقاء العقلي والتطور الفكري عند الإنسان، ومن ثم ابتعدت عن العفوية والتلقائية واستعملت بصور مهذبة منظمة بعيدة عن الانفعال العفوي الذي كان سبباً لوجودها عند الإنسان الأول. يؤكد ذلك أنها بدأت تستعمل في الكلام المفهوم المحتوي على معان محددة واضحة، إضافة إلى استخدامها في بليغ القول وفصيحه، في الشعر الذي يحتاج إلى كثير من الدقة والتروي وحسن الصنعة كي يسير على القواعد المرعية والأسس المتبعة من حيث الوزن القافية والروي وكل الخصائص الخاصة بالشعر، وهذا التفنن في نظم الشعر يتنافى مع العفوية ويتناقض مع الانفعالات التلقائية التي هي عبارة عن صيحات مختلفة ذات دلالات محددة. قال الشاعر:
فَأوهِ لِذْكراها إذا ماذَكَرْتُها
ومن بُعْدِ أَرضٍ بيننا وسماء (131)
فأوهِ وما شابهها من ألفاظ: أَوَّهْ، وأَوّهُ، وآووه، وأوْهِ، وأوْهَ، وآهِ كلها كلمة واحدة معناها التحزن، وأَوْهِ من فلان إذا اشتد عليك فقده (132) . فكل هذه الآهات والتأوهات أسماء أفعال تدل على معنى الحزن والحسرة، كما تدل على معنى اللهفة والحرقة والاشتياق. قال الخليل: وواه تلهف وتلدد، وينون أيضاً كقول أبي النجم:
واهاً لرّيا ثم واها واها (133) . إنها صرخات تصدر عن شخص يمزقه البعد والحرمان، يصرخ بها معبراً عما به من لهفة ولوعة. إنها وسيلة يلجأ إليه المتألم من حزن ألمّ به، والمتوجع من كآبة أصابته فإذا شعر بهذا الحزن وتلك الكآبة صاح قائلاً آه، وها. فهذه الأصوات علامة على ما يشعر به ويعاني منه، فهي أسماء أفعال بمعنى أتوجع، ومن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
لا، بل يَمُلّك عند عَوْدَتِهِ
فيقول هاه وطالما لبىّ (134)
قال الأزهري: آه حكاية المتأهِّه في صوته، وقد يفعله الإنسان شفقة وجزعاً(13/275)
كقول الشاعر:
آهِ مِنْ تَيَّاكِ آهَا
تَرَكَتْ قَلْبي مُتاها (135)
وغير بعيد عنا من الأمثلة قول محمود درويش: (136)
آهِ ياجُرحي المكابرْ
وطني ليس حَقيبةْ
وأنا لستُ مسافرُ
إنني العاشقُ والأرضُ حبيبةْ
وقد استخدم المصدر من هذه الكلمات للدلالة على المعنى نفسه، قال العجاج:
وإن تَشَكَّيْتُ أَذَى القَرَوحِ
بأَهَّةٍ كأَهَّةِ المَجْرُوحِ (137)
وقد استخدمت الهاء مسبوقة بالهمزة والياء "إيه" بمعنى الاستزادة والاستنطاق، كما في قول ذي الرُّمَّة:
وَقَفْنا فَقُلْنا: إيهِ عن أُمَّ سِالمٍ
وما بالُ تَكْليمِ الدَّيارِ البَلاقِعِ (138)
وهي مبنية على الكسر، وقد تنون، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيهِ بكسر الهاء. فإن وصلت نونت فقلت: إيهٍ حدثنا، وإذا قلت: إيها بالنصب فأنت تأمره بالسكوت.
وتستخدم كلمة زجر بمعنى حسبك وتنون فيقال إيهاً (139) . إلاّ أن الخليل يرى أن التي تستخدم للزجر والنهي هي المفتوحة لا المكسورة فتقول: إيهَ حَسْبُكَ يارَجُل (140) .
والتَأْيِيِهُ الصوت. وقد أَيَّهْتُ به تَأْيِيهاً: يكون بالناس والإبل، قال ابن الأثير:
أيهت بفلان تأَييهاً إذا دعوته وناديته، كأنك قلت له يا أيها الرجل، قال الشاعر:
مُحَرَّجةً حُصَّاً كأَنَّ عُيونَها
إذا أَيَّهَ القَنّاصُ بالصَّيْدِ عَضْرَسُ (141)
أمَّا وَيْهَ منصوبة فإنها تدل على الإغراء، يقال وَيْهَ فُلانُ اضْرِبْ، ومنهم من ينوّن.
قال الشاعر: وَيْهَاً يَزيدُ وَوَيْهَاً أَنْتَ يا زُفَرُ (142)(13/276)
وقد تعددت الصور التي ظهر فيها صوت الهاء حسب ما أضيف إليه من أصوات المدّ، واستخدم استخدامات متعددة، ودلّ على معان كثيرة. فقد جاء الياء والألف قبله فحمل معنى النداء، فإذا دعوت شخصاً أو ناديته، قلت: ياه ياه. واشتق من هذا اللفظ أفعالاً نقول: يَهْيَهْتُ، وأُيَهْيِهُ، قال الخليل: وكذلك ياه: تقول: يَهْيَهْتُ بالإبل إذا قلت: ياه ياه. ويقول الرجل لصاحبه من بعيد " ياهْ ياهْ أَقْبِلْ. قال ذو الرمة:
تلَوّم يَهْياهٍ بياهٍ وقَدْ مَضَى
من اللّيلِ جَوْزٌ واسْبَطرَّتْ كواكِبُهْ (143)
ومثل صيغة النداء هذه لا تزال تستخدم في عدد من اللهجات العربية المعاصرة، فإذا أراد شخص أن ينادي آخر فإنه يقول: "ياه"، وأكثر مايكون هذا الأسلوب من النداء إذا كان المنادى غير معروف للمنادي. وقد يستخدم هذا اللفظ "ياه" بتنغيم خاص للدلالة على التعجب والدهشة أو الاستغراب. ويمكن القول أن الأصل في هذه الصيغة هو حرف النداء "يا" زيدت عليه هاء السكت، أو أنه حرف "يا" خرجت معه أثناء نطقه كمّية أكبر من الهواء اللازم لنطقه فاندفع من الفم فسمع هاء. كما يمكن القول أن حرف النداء "هيا" قد نتج بسبب تقديم الهاء على صوتيّ المدّ "الياء والإلف". كما يحتمل أن يكون الهاء قد أبدل من الهمزة في "أيا" قال الحطيئة:
وقَالَ هَيا رَبَّاهُ ضَيْفُ ولاقِرىً
بِحَقِّكَ لاتُحْرِمُهُ تالليلةِ اللَّحما (144)
وقد تظهر "هيا" في لهجاتنا المعاصرة "هِيّْ" وتفيد معنى التهديد والزجر.
وتكون الهاء جواباً للنداء وتلبية له بالمد والقصر، فالعرب تقول: ها، إذا أجابوا داعياً، يصلون الهاء بألف المد تطويلاً للصوت، قال الشاعر:
لا، بَلْ يُجِيبُكَ حينَ تَدْعو باسمِهِ
فيقولُ: هاءَ، ولطالَما لَبَّى (145)(13/277)
ولا نزال نسمع مثل هذه الصيغة من الإجابة في لهجاتنا، فعند إجابة من ينادي نقول: "ها" أو "أيوه". وقد تستخدم "ها" في الاستفهام وعند طلب التعيين، فيقول الشخص السامع أأنت فعلت هذا؟ ها؟ وكأنه أضاف "ها" حثاً على الإجابة إلى جانب ما قد تحمله من معنى الوعيد.
هكذا ندرك أن صوت الهاء أكثر الأصوات استخداماً في هذه الصيحات الانفعالية، من أجل التعبير عن حاجة نفسية معينة. ولعل السبب في كثرة استخدامه هذه أنه أسهل الأصوات نطقاً وأقلها حاجة إلى جهد أعضاء النطق. على أن هذا لاينفي ورود شواهد كثيرة استعملت فيها مثل هذه الصيحات المشتملة على صوت الهاء بصورة عفوية دالة على الألم أو الحزن أو الغضب أو غير ذلك. فمن ذلك ما روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله "أوْهِ عَيْنُ الرَّبا … وقد تفتح الواو مع التشديد كقوله عليه الصلاة والسلام "أَوَّهِ لفِراخِ مُحَمَّدٍ من خَليفةٍ يُسْتَخْلَفُ (146) ". ومثل ذلك ما قاله حنظلة الكاتب: " كّنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأى امرأةً مَقْتولَةً فقال: هَاهْ ما كانَتْ هذه تُقاتِلُ. الحقْ خالداً فَقُلْ له لا تَقْتُلَنَّ ذريةً ولا عسيفاً (147) ".
هذه الصيحات الانفعالية موجودة في اللغة العربية، ومنها ما يخلو من الهاء مثل أُف، أخ، أح، ومنها ما يوجد فيها، مثل: ها، وهيا، وهَيّا، وهلاّ، وهيت، وهيهات، وهلم وهاه وإيه وواه، وواهاً وآه، ومه، وصه، وغيرها من الألفاظ التي أطلق عليها اسم أصوات الأفعال.(13/278)
وربما كان أصل هذه الأصوات الانفعالية صوت الهاء ثم أضيف إليه صوت أو أكثر قبله أو بعده. وأغلب ما أضيف إليه من أصوات المدّ وثبت على هذه الحالة التي نراها. ويرى بعض الباحثين أن هذه الأصوات ليست من اللغة، بل هي أصوات لاعلاقة لها بصيغ أخرى مشتقة منها أوهي مشتقة منها (148) . وقد أشار سليم النعمي إلى هذا بقوله: "هيهات ليست مصدراً وليست ظرفاً وليست مفردة وليست جمعاً، بل هي صوت انفعالي يقوله العربي حين يستبعد شيئاً أو أمراً (149) . وهَلُمَّ مكونة من صوت الهاء أضيف إليه "لُمّ" (150) فعل الأمر بمعنى تعال أو مُرَّ. ويرى الخليل أنها تتركب من هاء التنييه و "لمّ" من قولهم: لَمّ الله شعثه أي: جمعه (151) .
هاء التنبيه:
إضافة إلى المعاني السابقة التي تأتي الهاء لها، أنها تستخدم للتنبيه من أجل افتتاح الكلام، ولابد من تفخيم الألف معها في هذا المقام حتى تميزها عن غيرها من الهاءات، "الهاء بفخامة الألف تنبيه وبإمالة الألف حرف هجاء، وهي تنبيه تفتتح العرب بها الكلام بلا معنى سوى الافتتاح تقول: هذا أخوك، ها إنَّ ذا أَخُوكَ" (152) .
وهي تفيد تنبيه المخاطب على ما بعدها من الأسماء المبهمة، قال ابن بعيش: "إعلم أن هذه الحروف معناها تنبيه المخاطب على ما تحدثه به، فإذا قلت: هذا عبد الله منطلقاً، فالتقدير انظر إليه منطلقاً، أو انتبه إليه منطلقاً، فأنت تنبه المخاطب لعبد الله في حال انطلاقه، فلا بد من ذكر منطلقاً لأن الفائدة به تنعقد، ولم ترد أن تعرفه إياه وهو يقدر أن يجهله" (153) فا لهاء إذاً تكون للتنبيه وفق شروط معينة، وفي إطار تحقيق الفائدة، فإن انعدمت هذه القرائن فإن الهاء لا تفيد التنبيه، وتكون صوتاً عادياً لا دلالة فيه على التنبيه كغيره من أصوات اللغة.(13/279)
وقد يرى الباحث أن الهاء حتى تكون للتنبيه يجب أن يحمل نطقها صفات أو خصائص توحي بشي من التنبيه، لذا فإن نطقها لن يكون نطقاً عادياً كنطق بقية أصوات الهاء (ألوفونات allophones فونيم phoneme الهاء) . فلعل نطقها يكون مع هواء الشهيق الداخل إلى الرئتين بدلاً من هواء الزفير الخارج منهما، أي أنها لا تكون دالة على التنبيه إلا إذا كانت من تلك الأصوات التي عرفت بالأصوات الشفطية (الانفجارية الداخلية) Implosive (154) حيث أن شفط الصوت إلى الداخل يسمع المخاطب شهقة تلفت انتباهه وتشده إلى الصوت الذي سمعه وحمل معه شيئاً غير عادي. إنه يشير إلى المفاجأة والغرابة، كما يحصل عندما يرى أحدنا أو يسمع أمراً مفاجئاً يذهله فإنه يشهق بشدة شهقة تجعل من حوله يلتفتون إليه. وأكثر ما تكون تلك الشهقات من النساء. أما أن تنطق الهاء صوتاً عادياً أي خارجاً مع هواء الزفير كغيره من الأصوات فإنه لا يثير في السامع أي دهشة أو استغراب ولا يترتب عليه أي تنبيه للسامع.
وتدخل هذه الهاء- هاء التنبيه-على كثير من الكلمات العربية، فهي تدخل على أسماء الإشارة كصوت للتنبيه "وتقع في الكلام على وجهين: منضبط ومتفرق، فالمنضبط وقوعها مع أسماء الإشارة التي أصولها: ذا، وذي، وذان، وذين، وتان، وتين، وأولى مقصوراً أو ممدوداً قياساً مطرداً، ولا يلزم معها إلا إذا أريد الحضور والقرب.... وربما جاءت مع الكاف آخراً الموضوعة للمسافة المتوسطة، كقول طرفة:
رَأَيْتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونَنِي
وَلا أَهْلَ هاذاكَ الطِّرافِ المُمَدَّدِ
ولا يقاس عليه (155) .(13/280)
وتقع الهاء كذلك مع "أي" في أسلوب النداء، في نداء المعرف بال، نحو: يا أيها الرجل، وقد اختلف العلماء في هذه الهاء، فمنهم من يقول إنها حرف تنبيه وأكثر استعمالها مع ضمير رفع متصل (156) . ومنهم من يعتبرها صلة للتأييه أي التصويت، وبيان ذلك قولهم: يا أَيْتُها المرأةُ. ولو لم تكن الهاء صلة ما حسن أن يجيء قبلها تاء التأنيث (157) . كما أنها تقع في باب القسم مع اسم الله خاصة، فتنوب عن حرف القسم، ويقسم بها بدلاً منه، فيقال: لا هااللهِ ما فعلت، أَيْ لا واللهِ ما فعلت، أبدلت الهاء من الواو، وقولهم: لا ها اللهِ ذا، بغير ألفٍ، أَصْلُهُ لا واللهِ هذا ما أُقْسِمُ بِهْ، ففَرقْتَ بين ها وذا، وجَعَلْتَ اسمَ اللهِ بينهما، وجررته بحرفِ التنبيه، والتقدير: لا واللهِ ما فَعَلّْتُ هذا، فحُذِفَ واخْتُصِرَ لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم، وقُدِّمَ ها كما قُدِّمَ في قولهم ها هو ذا، وهأنذا. قال زهير:
تَعَلّماً ها لَعَمْرُ اللهِ ذا قسَماً
فاقْصِدْ بذَرْعِكَ وانْظُرْ أَيْنِ تَنْسَلِكُ (158)
كل تلك المواقع التي تقعها الهاء قياسية مطردة، وهي وجوه منضبطة، كما أشار إلى ذلك المالقي. وهاء هذه التي يراد بها التنبيه لا تدخل على الإشارة فحسب، بل تقع في وجوه متفرقة فتدخل على الضمير ويكون هذا الضمير فاصلاً بينها وبين اسم الإشارة كقولنا: ها أنتم أؤلاء، وها أنتم هؤلاء، ونقول: ها أنا ذا أفعل. كما أنها قد تستعمل مفردة فيقال: ها بمعنى تنبه (159) ولا تزال هذه الصيغة تستخدم في لهجاتنا المعاصرة لنفس الغرض. كما أنها قد تدخل على "إن" كما في قول النابغة:
ها إن تا عِذْرَةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ نَفَعَتْ
فإنَّ صاحِبَها قَدْ تاهَ في البَلَدِ
قال ابن يعيش: الشاهد فيه إدخال ها التي للتنبيه على إن (160) .
وتدخل كذلك على الواو، كما في قول الشاعر:
ونَحْنُ اقْتَسَمْنا المالَ نِصْفَينِ بَيْنَنَا(13/281)
فَقُلْتُ لَهُمْ هذا لَها هَا وذَا لِيا (161)
ومما يتصل بصوت الهاء، التي هي تعبير انفعالي عن خلجات النفس من توجع أو غضب أو إثارة أو تنبيه، أنها تأتي كصوت للتنبيه في بعض اللغات السامية حيث يدخل على أسماء الإشارة، نقول في العربية هذا وهذه وهذان وهاتان وهؤلاء وفي العبريةhazzeh،hazzot، haelleh (162) . كذلك تدخل الهاء على الضمير في العبرية، نقول في العربية "هاهم" و "هاهنّ" وفي العبرية وقد تجيء هذه الهاء مستقلة تماماً عن أسماء الإشارة أو الضمائر.
في بعض الاستعمالات في اللغة العربية، وقد أشار ابن منظور إلى ذلك بقوله "ها مقصورة: كلمة تنبيه للمخاطب، ينبه بها على ما يساق من كلام. وقالوا: ها السلام عليكم، فها منبهة مؤكدة، قال الشاعر:
وقَفْنا فَقُلْنا ها السَّلامُ عليكُمُ
فَأَنْكَرَها ضَيْقُ المَجَمِّ غَيُورُ
وقال آخر:
ها إِنَّها إِنْ تَضِيقِ الصُّدُورُ
لا يَنْفَعُ القُلُّ ولا الكَثِيرُ (163)(13/282)
وقد يفهم معنى الإشارة من هذا التنبيه، وهو ما يزال مستعملاً في كثير من بيئاتنا العربية في بلاد الشام، إذ يقول البعض ها الإنسان، ها الشجرة، فقد يفهم من هذا القول "هذا الإنسان" و "هذه الشجرة". واستعمال "ها" ha للإشارة عرفه القدماء، لذا "عدت من أسماء الإشارة البدائية التي لا تزال تستخدم في العربية للتنبيه. بمعنى "نظر" (164) كما استعملتها السبئية للإشارة للمذكر والمؤنث بمعنى هذا وهذه (165) واستعملت للإشارة والتعريف في الصفوية واللحيانية والثمودية (166) كما استعملها للتعريف بعض من اللغات السامية الأخرى، ففي الآرمية تكون للتعرف في آخر الكلمة مثل baytha البيت (167) ، وفي العبرية في أول الكلمة (168) . وربما كان الأصل في هذه الهاء هو "هل" ثم عند دخولها على الاسم المراد تعريفه، تحذف اللام من "هل"، وتدغم حركتها في الحرف الأول من ذلك الاسم، فينتج عن ذلك الإدغام تشديد لذلك الحرف فنقول مثلاً: "بيت" "هبيت"البيت.
وهذا عينه ما يوجد في اللغة العربية ويعرف بأل الشمسية، فنقول: رجل والرجل، وقد حصل عدم نطق اللام وإدغام حركتها فيما بعدها فيشدد "أرّجل". ولعل هذ1 يدفع إلى القول بأن أل التعريفية في العربية هي "هل" التعريفية في العبرية، بعد وقوع الإبدال بين حرفي الهاء والهمزة، وهو إبدال شائع مشهور سبقت الإشارة إليه.(13/283)
والتعريف بالهاء في أول الكلمة ليس خاصاً بالعبرية وحدها، بل نجده في بعض اللهجات العربية البائدة. (169) . فأداة التعريف في الصفوية هي ال "هـ" أو"ها" وهي الأداة نفسها المستعملة في اللحيانية والثمودية، فلفظ مثل "هبيت" تعني البيت ولفظ مثل "هخط" تعني الخط (170) . ويذهب جواد علي إلى القول بوجود صلة بين التعريف والإشارة، وأن الهاء تستعمل لإفادة كل منهما، فيقول "ويؤدي حرف هـ" الذي عرفناه أداة للتعريف معنى اسم الإشارة وبينهما صلة، حيث ذُهب إلى أن أداة التعريف هي إشارة في الأصل، فلفظة مثل "هدر" تعني في الواقع "هذه الدار" وهذا المكان. ونعني بالدار: الدار المعهودة المشار إليها، وترى ذلك واضحاً في هذا النص: "لحوق بن كنيت هدر" أي: لحوق بن كنيت هذه الدار. وتعتبر "هذه الدار" أقرب للواقع من "الدار" لأن صاحبها كتب كتابته هذه لتكون وثيقة عنده تشير إلى ملكيته لهذه الدار المعهودة، ولهذا فإن الإشارة تكون أقرب إلى الفهم من التعريف (171)
كما استعملت "هـ" للتعريف في اللهجات العربية الجنوبية "السبئية والمعينية والحضرمية…." هذا ما ذكره حسن ظاظا بقوله "كذلك ظهرت أداة التعريف في العربية الجنوبية لا مثل "ال" في العربية الفصحى، ولكن بأشكال مختلفة منها "الهاء" و "هل" و "هن" (172) .
الهاء المفردة:(13/284)
وقد تأتي "هاء" مفردة في بعض استعمالاتها العربية، وتعد في هذه الحالة اسم فعل أمر بمعنى خذ (173) وهاء حرف يستعمل للمناولة، ونقول: هاء وهاك مقصور فإذا جئت بكاف المخاطبة قصرت ألف "هاك"، وإذا لم تجىء بالكاف مددت فكانت المدة في "هاء" خلفا لكاف المخاطبة. ونقول للرجل: هاءَ، وللمرأة هائي، وللاثنين من الرجال والنساء: هاؤما، وللرجال هاؤم، وللنساء هاؤنّ يا نسوة، بمنزلة هاكنّ يا نسوة، ولم يجىء شيء في كلام العرب يجري مجرى كاف المخاطبة غير هذه المدة التي في وجوهها (174) . وقد تلحق "هَ" ها سكت لتصبح "هَهْ" فتدل على معان مختلفة، قال الليث: هَهْ تَذَكُّر في حال وتحذير في حال أخرى، فإذا مددتها كانت وعيداً في حال، وحكاية لضحك الضاحك في حال، نقول: ضحك فلان فقال: هاه هاه (175) . فهي قد تكون اسم فعل، للتذكر أو التحذير أو الوعيد، كما أنها قد تكون اسم صوت لحكاية الضحك، ومن هذا القبيل تأتي "هاءِ" لزجر الإبل ودعاء لها، وهو مبني على الكسر إذا مددت وقد يقصر، تقول: ها هيت بالإبل إذا دعوتها (176) .
وزعم بعض العلماء أن الهاء قد تأتي لإفادة المبالغة، وهو ما أشار إليه ابن منظور عند حديثه عن معنى الجَذعَمة فقال "الجذعمة: الصغير. وفي حديث علي: أسلم أبو بكر رضي الله عنهما، وأنا جذعمة، وأصله جذعة، والميم زائدة، أراد: وأنا جذع أي حديث السن غير مدرك، فزاد في آخره ميماً، كما زادوها في سُتْهُم العظيم الاست وزرقم الأزرق، وكما قالوا للابن ابنم، والهاء للمبالغة (177) . والهاء هنا للمبالغة كما في صيغ "علامة ونسّابة وفهّامة، وقد نسب ابن يعيش شيئاً مثل هذا إلى بعض اللغويين عند شرحه للشاهدين النحويين:
فَهَيّاكَ والأمر الذي إن توسَّعَتْ
مَوارِدُهُ ضاقَتْ عليكَ مَصادِرَهْ
وقول الآخر:
فانْصَرَفَتْ وهيَ حِصانُ مُغْضَبَةْ
ورَفَعَتْ بصَوْتِها هَيّا أبَهْ(13/285)
قال أنشدها ابن السكيت وقال: أراد أيا أبه، وإنما أبدل من الهمزة هاء، ولا يبعد ما قاله، لأن أيا أكثر استعمالاً من هيا فجاز أن يعتقد أنها أصل. وقال آخرون هي يا أدخل عليها هاء التنبيه مبالغة (178) .
الخاتمة:
بعد هذا العرض لصفات صوت الهاء والأغراض التي يستخدم من أجلها يمكن أن نقول:
إن الهاء نفس خالص لذا أخذت بعض خصائص الصوامت كما أخذت بعض خصائص الصوائت، كما أنها يمكن أن نعدها ضمن الأصوات المهموسة وكذلك ضمن الأصوات المجهورة. ونتيجة لما اكتسبته من خصائص وصفات استخدمت في مواقع كثيرة، لأغراض متعددة. ونتج، عن هذه الاستخدامات تعدد الظواهر اللغوية التي ظهرت فيها الهاء.
فجاءت هاء للسكت والاستراحة والتبيين عندما تقع بعد صوت من أصوات المد واللين أو بعد إحدى الحركات لغرض التبيين والاستراحة.
كما جاءت هاء للندبة وقد تبين أن هاء السكت وهاء الندبة إنما تأتيان نتيجة حتمية لوقف الهواء المندفع من الرئتين عبر القصبة الهوائية فالفم، فعند غلق مجرى الهواء أو تضييقه ينقطع الهواء ويسمع صوت "هـ"، وهذا الصوت المسموع ربما كان ناتجاً عن حالات نفسية معينة لدى المتكلم. أما هاء التنبيه فقد تكون من الأصوات الشفطية أي أن صوتها يسمع مع الشهيق لا مع الزفير حتى تأخذ صفة التنبيه الانفعالية. ثم إن صوت الهاء من أقدم الأصوات الإنسانية لأنها عبارة عن شهقات أو آهات أو تأوهات، إنها صرخات انفعالية قد تدل على الألم والحسرة وقد تدل على الفرح والسرور، يصدرها الإنسان لا لغرض الكلام وإيصال المعنى، إنما يعبر بها عما بداخله من أفكار وما يختلج نفسه من أحاسيس. وهي موجودة في كل لغات البشر.
الحواشي والتعليقات
ماريو باي: أسس علم اللغة، ترجمة: د. أحمد مختار عمر. ليبيا: منشورات جامعة طرابلس كلية التربية، 1973م، ص38.
د. عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة، الطبعة الثانية، القاهرة: مطبعة الكيلاني 1968م ص95.(13/286)
الفراهيدي، الخليل بن أحمد: كتاب العين، الطبعة الأولى، تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي. بيروت: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات 1988م، 1/47
المرجع السابق 1/57.
سيبويه، أبو بشر عمرو بن قنبر: الكتاب، الطبعة الثالثة، تحقيق: عبد السلام هارون، بيروت – عالم الكتب 1983م، 4/431.
المرجع السابق 4/432.
المرجع السابق 4/433.
ابن جني، أبو الفتح عثمان: سر صناعة الإعراب، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق: حسن هنداوي. دمشق: دار القلم 1985م، 1/6.
Al Khuli, Muhammad Ali: A Dictionary of Theoretical Linguistics, first edition, Beirut: Librairie du Liban, 1982. P. 276
ولمزيد من التفصيل حول المقطع syllable، انظر:د. أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي، الطبعة الأولى، القاهرة: عالم الكتب 1976م، 237 – 264، د. محمد علي الخولي: الأصوات اللغوية، الطبعة الأولى، الرياض: مكتبة الخريجي 1987م، 192 – 199.
سر صناعة الإعراب 1/6-7.
المرجع السابق 1/14.
المرجع السابق 1/9.
د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، الطبعة السادسة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1984م ص89.
A Dictionary of Theoretical Linguistics, p.246
الأصوات اللغوية – الخولي من 39.
د. محمود السعران: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي. بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ص148
A Dictionary of Theoretical Linguistics, p. 54
علم اللغة – السعران ص178.
الأصوات اللغوية – الخولي، ص44.
العين 3/348.
الكتاب 4/393.
العين 4/394.
سر صناعة الإعراب 1/64.
العين 3/355.
المرجع السابق 3/343.
المرجع السابق 1/355.
علم اللغة – السعران ص188، الأصوات اللغوية؛ الخولي ص93؛ كمال محمد بشر: علم اللغة العام – الأصوات. القاهرة: دار المعارف 1986م، ص 122 وما بعدها.
الكتاب 4/434، سر صناعة الأعراب 1/60.(13/287)
د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها. الطبعة الثالثة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م، ص61.
ابن يعيش، موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش: شرح المفصل. بيروت – عالم الكتب – القاهرة مكتبة المتنبي 10/129.
د. تمام حسان: مناهج البحث في اللغة. الدار البيضاء، دار الثقافة 1979م، ص103؛ الأصوات اللغوية – إبراهيم أنيس ص89.
العين 4/10.
الأصوات اللغوية – الخولي، ص32.
العين 1/25.
كارل بروكلمان: فقة اللغات السامية، ترجمة: د. رمضان عبد التواب. مطبوعات جامعة الرياض 1977م، ص40.
الكتاب 4/433.
جان كانتينو: دروس في علم أصوات العربية، ترجمة: صالح القرمادي. الجامعة التونسية – نشريات مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية 1966، ص31.
المرجع السابق ص23.
شرح المفصل 10/136.
علم اللغة العام – الأصوات – ص123.
ينظر ابراهيم انيس، الأصوات اللغوية ص 88، وكارل بروكلمان، فقه اللغات السامية ص 40، وجان كانتينو، دروس في علم اصوات العربية، ص31.
الكتاب 4/434، المبرد، محمد بن يزيد: المقتضب، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة. بيروت، عالم الكتب، 1/207.
سر صناعة الإعراب 1/61.
شرح المفصل 10/129، وانظر: دروس في علم أصوات العربية 32.
سر صناعة الإعراب 1/62.
شرح المفصل 10/129.
دروس في أصوات العربية 37.
المرجع السابق 24 – 25.
الأصوات اللغوية –الخولي 44
المرجع السابق 40.
مناهج البحث في اللغة 103، الأصوات اللغوية – إبراهيم أنيس 89.
سعد عبد الله الغريبي: الأصوات العربية وتدريسها لغير الناطقين بها من الراشدين، الطبعة الأولى. مكة المكرمة – مكتبة الطالب الجامعي 1986م. ص 36.
الكتاب 4/144.
المرجع السابق 4/159.
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق 4/161.
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق 4/162.
المرجع السابق والصفحة.(13/288)
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق 4/163.
المرجع السابق والصفحة
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق 4/164.
المرجع السابق والصفحة.
المرجع السابق 4/165.
المرجع السابق 4/165 – 166.
إبراهيم طوقان: ديوان إبراهيم طوقان: بيروت، دار العودة 1997م، ص428.
د. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، الطبعة السادسة. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1984م، ص136.
المالقي، أحمد عبد النور: رصف المباني في شرح حروف المعاني. الطبعة الثانية تحقيق: أحمد محمد الخراط. دمشق دار القلم 1985م، ص 467. وانظر: سر صناعة الإعراب 2/552.
الفراء، أبو زكريا يحيى بن زياد: معاني القرآن، تحقيق: محمد علي النجار. بيروت: دار السرور 2/144.
ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: لسان العرب. بيروت: دار صادر 15/478.
شرح المفصل 9/47، 10/2. وانظر: الكتاب 2/242، 4/159، 161، 162، 236، المتقتضب 1/60؛ سر صناعة الأعراب 2/555؛ الهروي، علي بن محمد: كتاب الأزهرية في علم الحروف. تحقيق: عبد المعين الملوحي. دمشق – مجمع اللغة العربية 1993م، ص256، 258.
حسان بن ثابت: ديوان حسان بن ثابت. بيروت: دار صادر 1974م، ص258.
الكتاب 4/162.
رصف المباني 464.
الكتاب 4/162.
المصدر السابق والصفحة.
د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث. القاهرة: مكتبة الخانجي، ص85
شرح المفصل 9/81.
المرجع السابق والصفحة.
رصف المباني 468، وانظر: اللسان 15/479.
الأنصاري، أبو زيد: النوادر في اللغة، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد. بيروت: دار الشروق 1981م. ص472.
أحمد حسين شرف الدين: لهجات اليمن قديماً وحديثاً. القاهرة: مطبعة الحبلاوي 1970م، ص66 –67.
في اللهجات العربية ص 137.(13/289)
ابن فارس، أبو الحسن أحمد. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها. تحقيق: السيد أحمد صقر – القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي، ص 203.
السيوطي، جلال الدين: المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وآخرين. بيروت: دار الفكر، 1/461.
المرجع السابق 1/460.
سر صناعة الإعراب 1/62.
المزهر 1/474.
سر صناعة الإعراب 2/551.
المرجع السابق 1/100.
المرجع السابق 1/100 – 101.
المزهر 1/462، الكتاب 4/238، سر صناعة الإعراب 2/554، شرح المفصل 10/5.
سر صناعة الإعراب 2/554، رصف المباني 467.
سر صناعة الإعراب 2/552.
المرجع السابق والصفحة.
العين 4/81، سر صناعة الإعراب 2/553.
سر صناعة الإعراب 2/554.
اللسان مادة "ها" 15/475.
علم اللغة: السعران 157.
سر صناعة الإعراب 2/555.
المرجع السابق 2/556.
الكتاب 4/393، الأزهية ص 258.
سر صناعة الإعراب 2/560.
المرجع السابق 2/560 – 560.
الكتاب 4/162.
العين 3/348.
المزهر 1/466، الصاحبي ص203.
علم اللغة: السعران ص178.
سر صناعة الإعراب 2/563.
المزهر 1/466؛ ابن فارس، أبو الحسين أحمد: مقاييس اللغة – الطبعة الأولى – تحقيق: عبد السلام محمد هارون. بيروت: دار الجيل، 1991م، 1/193.
ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب: القلب والإبدال تحقيق: اوغست هفنر (في الكنز اللغوي) بيروت: المطبعة الكاثوليكية 1903 م، ص105.
د. محمد حسن آل ياسين: الدراسات اللغوية عند العرب، الطبعة الأولى. بيروت: دار مكتبة الحياة 1980م، ص407.
المزهر 1/461.
الخطيب التبريزي، ابو زكريا يحيى بن علي: الكافي في العروض والقوافي. تحقيق الحساني حسن عبد الله. القاهرة: مكتبة الخانجي، ص105.
د. إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر. الطبعة الرابعة. بيروت: دار القلم 1972، ص283.
المرجع السابق 282.
الكافي في العروض والقوافي 150.
العين 4/158.(13/290)
أحمد شوقي: الشوقيات. بيروت – دار الكتب العلمية 2/83.
موسيقى الشعر 284.
رصف المباني 465.
د. حسن ظاظا: اللسان والإنسان. الطبعة الثانية. دمشق – دار القلم. بيروت – الدار الشامية 1990م ص33.
د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ. الطبعة الرابعة. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية 1980م ص23. جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية – الطبعة الثانية، بيروت: دار الجيل، 1987، ص110.
دلالة الألفاظ ص24.
الفلسفة اللغوية ص118؛ اللسان مادة "أوه" 13/472؛ الفيروزابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب. ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي. بيروت: دار الفكر. مادة "أوه" ص1119.
العين 4/104.
اللسان 13/472.
المرجع السابق والصفحة.
العين 4/106، اللسان 13/563.
الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين: الأغاني. الطبعة الأولى. بيروت: دار إحياء التراث العربي 1994م، 1/206.
اللسان 13/472.
محمود درويش: ديوان محمود درويش. الطبعة السادسة. بيروت. دار العودة للصحافة والطباعة والنشر 1987 ص553.
اللسان 13/473.
العين 4/103 – 104، اللسان 13/474.
اللسان 13/474.
العين 4/104.
اللسان 13/475.
العين 4/106، اللسان 13/563.
العين 4/106.
الحطيئة، جرول بن أوس: ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكبت. تحقيق: نعمان محمد أمين طه – مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1987م، ص337.
اللسان 15/475، 481.
اللسان 13/473، ابن الأثير، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر. القاهرة المطبعة الخيرية، ص63.
الزمخشري، جارالله: الفائق في غريب الحديث. الهند: حيدر أباد 1/212.
Hartmann and Storck: Dictionary of Language and Linguistics, London 1972, 115.
النعيمي، سليم: اسم الفعل دراسة وطريقة تفسير، مجلة المجمع العلمي العراقي – العدد 16، 1968م ص78.(13/291)
ابن الأنباري، كمال الدين، أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن سعيد: الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. بيروت: دار الفكر، 1/211.
الاستراباذي، رضي الدين: شرح الكافية في النحو. الطبعة الثانية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. بيروت: دار الفكر 1979م 2/72-73؛ شرح المفصل 4/41-42؛ الزجاجي، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: حروف المعاني – الطبعة الأولى، تحقيق: على توفيق الحمد، بيروت: مؤسسة الرسالة. إربد – دار الأمل 1984م ص74؛ ابن جني، أبو الفتح عثمان: الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار. بيروت: دار الكتاب العربي 3/35.
اللسان 15/475، العين 4/103.
شرح المفصل 8/114.
توجد الأصوات الشفطية في لغة الإيبو Igbo في نيجيريا، وهي أصوات تنتج عن انخفاض الحنجرة بدلاً من أن تندفع إلى أعلى مخلخلة الهواء الموجود في تجاويف الفم والحلق، فإذا حصل هذا، وسهل للهواء الخارجي أن يدخل ليملأ الفراغ، حصلنا على تيار هوائي شهيقي ingressive وساكن يعرف بالانفجاري الداخلي أو الشفطي، أو يعرف في بعض الأحيان بالطقطقة الحنجرية glottalic click. انظر برتيل مالمبرج الصوتيات. ترجمة د. محمد حلمي هليل. القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 1994. ص70.
رصف المباني ص468 – 469.
أبو حيان الأندلسي، أبو عبد الله محمد بن يوسف: البحر المحيط. الرياض. مكتبة ومطابع النصر الحديثة 1/93 – 94.
العين 4/108.
اللسان 15/481، رصف المباني 469.
رصف المباني 469.
شرح المفصل 8/114.
الأشموني، أحمد بن عبد الكريم بن محمد: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك". تحقيق: عبد الحميد السيد عبد الحميد. القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث 1/159.(13/292)
د. علي العناني وآخرون: كتاب الأساس في الأمم السامية وقواعد اللغة العربية وآدابها القاهرة: بولاق 1953م، ص137.
اللسان 15/480، رصف المباني 469.
فقه اللغات السامية 89.
د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. بيروت: دار العلم للملايين وبغداد: مكتبة النهضة 1976م، 7/79.
المرجع السابق 7/258.
فقه اللغات السامية 89.
إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية. الطبعة الأولى – بيروت: دار القلم 1980م ص19؛ فقه اللغات السامية ص89.
تاريخ اللغات السامية ص19.
تاريخ العرب قبل الإسلام 7/258، وانظر: تاريخ اللغات السامية 180-187.
تاريخ العرب قبل الإسلام 7/259.
د. حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم. الطبعة الثانية. دمشق: دار القلم وبيروت: الدار الشامية 1990م، ص119.
العين 4/102؛ الرماني، علي بن عيسى: معاني الحروف. الطبعة الثانية. تحقيق: عبد الفتاح إسماعيل شلبي. مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي 1986م، ص92؛ حروف المعاني ص73.
العين 4/102.
اللسان 13/551.
المرجع السابق 15/481.
المرجع السابق 8/45.
شرح المفصل 8/119.
المصادر والمراجع
ابن الأثير، مجد الدين:
... النهاية في غريب الحديث والأثر. القاهرة، المطبعة الخيرية.
الإستراباذي، رضي الدين:
... شرح الكافية في النحو. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية دار الفكر. بيروت 1979م.
الأشموني، أحمد بن عبد الكريم محمد،
... شرح الأسموني على ألفية ابن مالك "نهج السالك إلى الغية ابن مالك" تحقيق عبد الحميد السيد عبد الحميد المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة.
الأصفهاني، ابو الفرج علي بن الحسين.
... الأغاني، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الاولى 1994م.
ابن الأنباري، كمال الدين، أبوالبركات عبد الرحمن عبد الرحمن بن محمد بن سعيد:(13/293)
.. الأنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
الأنصاري، أبو زيد:
... النوادر في اللغة، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت الطبعة الأولى 1981م.
أنيس إبراهيم:
الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة – الطبعة السادسة 1984م.
دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة – الطبعة الرابعة 1980م.
في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة – الطبعة السادسة 1984م.
موسيقى الشعر، دار القلم، بيروت، الطبعة الرابعة 19872م.
أيوب، عبد الرحمن:
... أصوات اللغة، مطبعة الكيلاني، القاهرة – الطبعة الثانية 1968م.
باي، ماريو:
أُسس علم اللغة، ترجمة: أحمد مختار عمر، منشورات جامعة طرابلس، كلية التربية ليبيا 1973م.
بروكلمان، كارول:
فقه اللغات السامية، ترجمة: رمضان عبد التواب، مطبوعات جامعة الرياض 1977م.
بشر، كما حمد:
علم اللغة العام – الأصوات، دار المعارف – القاهرة 1986م.
ثابت، حسان:
ديوان حسان بن ثابت، دار صادر – بيروت 1974م.
ابن جني، أبو الفتح عثمان:
الخصائص: تحقيق محمد علي النجار – دار الكتاب العربي، بيروت.
سر صناعة الاعراب، دراسة وتحقيق حسن هنداوي، دار التعلم، دمشق، الطبعة الأولى 1985م.
حسان، تمام:
اللغة العربية معناها ومبناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة الطبعة الثالثة 1985م.
مناهج البحث في اللغة، دار الثقافة، الدار البيضاء 1979م.
الحطيئة، جدول بن اوس:
ديوان الخطيئة برواية ابن السكيت، تحقيق: نعمان محمد أمين طه، مطبعة الخانجي القاهرة – الطبعة الأولى 1987م.
أبو حيان الأندلسي، أبو عبد الله محمد بن يوسف:
البحر المحيط، مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض.
الخطيب التبريزي، أبو زكريا يحيي بن علي:(13/294)
الكافي في العروض والقوافي، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، مكتبة الخانجي، القاهرة.
الخولي، محمد:
الأصوات اللغوية، مكتبة الخريجي، الرياض، الطبعة الأولى 1987م.
درويش، محمود:
ديوان محمود درويش، دار العودة للصحافة والطباعة والنشر، بيروت الطبعة السادسة 1987م.
الرماني، علي بن عيسى:
معاني الحروف، تحقيق: عبد الفتاح اسماعيل شلبي، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة الطبعة الثانية 1986م.
الزجاجي، أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق:
حروف المعاني، تحقيق: علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت، دار الأمل، إربد، الطبعة الأولى 1984م.
الزمخشري، جار الله:
الفائق في غريب الحديث، حيدر أباد، الهند.
زيدان، جرحي:
الفلسفة اللغوية، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية 1987م.
السعران، محمود:
علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، دار النهضة للطباعة والنشر – بيروت.
ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب:
القلب والإبدال، تحقيق: أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1903م.
سيبوية، ابو شر عمرو بن قنبر:
الكتاب، تحقيق: عبد السلام هارون، عالم الكتب، بيروت 1983م.
السيوطي، جلال الدين:
المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: محمد أحمد جاد المولي وآخرين، دار الفكر، بيروت.
شاهين، عبد الصبور:
القراءات القرآنية، في ضوء علم اللغة الحديث. مكتبة الخانجي، القاهرة.
شرق الدين، أحمد حسين:
لهجات اليمن قديماً وحديثاً، مطبعة الحبلاوي، القاهرة 1970م.
شوقي، أحمد:
الشوقيات، دار الكتب العلمية، بيروت.
طوقان، إبراهيم:
ديوان إبراهيم طوقان، دار العودة، بيروت 1997م.
ظاطا، حسن:
اللسان والإنسان، دار القلم – دمشق، الدار الشامية – بيروت. الطبعة الثانية 1990 م.
علي، جواد:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين – بيروت، مكتبة النهضة – بغداد 1976م.(13/295)
عمر، أحمد مختار:
دراسة الصوت اللغوي، عالم الكتب، القاهرة الطبعة الأولى 1976م.
العناني، علي:
كتاب الأساس في الأمم السامية وقواعد اللغة العربية وآدبها، بولاق، القاهرة 1953م.
الغريبي، سعد عبد الله:
الأصوات العربية وتدريسها لغير الناطقين بها من الراشدين، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1986م.
ابن فارس، أبو الحسين احمد:
الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق: السيد أحمد صقر، مطبعة الأولى عيسى البابي الحليبي، القاهرة.
مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجبل، بيروت، الطبعة الأولى 1991م.
الفراء، أبو زكريا يحي بن زياد:
معاني القرآن، تحقيق: محمد علي النجار، دار السرور، بيروت.
الفراهيدي، الخليل بن أحمد:
كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1988م.
الفيروز ابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار – الفكر، بيروت.
كانتينو، جان:
دروس في علم أصوات العربية، ترجمة: صالح القرمادي، منشورات الجامعة التونسية 1966م.
مالبرج، برتيل:
الصوتيات، ترجمة: محمد حلمي هليل، عين للدراسات والبحوث الإنسانية، القاهرة 1994م.
المالقي، أحمد عبد النور:
رصف المباني في شرح حروف المعاني، تحقيق: أحمد محمد الخراط، دار القلم دمشق، الطبعة الثانية 1985م.
المبرد، محمد بن يزيد:
المقتضب، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت.
ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم:
لسان العرب، دار صادر، بيروت.
النعيمي، سليم: اسم الفعل دراسة وطريقة تفسير، مجلة المجمع العلمي العراقي – العدد 16.
الهروي، علي بن محمد:
كتاب الأزهية في علم الحروف، تحقيق: عبد المعين الملوحي، جميع اللغة العربية، دمشق الطبعة الثانية 1993م.
ولفنسون، إسرائيل:(13/296)
تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى 1980م.
أل ياسين، محمد حسن:
الدراسات اللغوية عند العرب، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى 1980م.
ابن يعيش، موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش:
شرح المفصل، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي، القاهرة.
... Al Khauli, Muhammad Ali;:
Dictionary of Theoretical Lingwistics, Librairie duliban, Beirut, first edition, 1982.
... Hartman and Storck:
Dictionary of Language and Linguistics. London 1972.(13/297)
بعض آراء ابن سِيْدَه النَّحويَّة
من خلال شرحه لمشكل شعر المتنبِّي
د. فائزة بنت عُمر بن علي المؤيَّد
أستاذ النَّحو والصَّرف المشارك - قسم اللُّغة العربيَّة وآدابها
كليَّة الآداب للبنات بالدَّمام
ملخَّص البحث
يعدُّ شعر المتنبِّي ظاهرة أدبيَّة أقبل عليها الأدباء، وعلماء اللُّغة بالدَّرس، والتَّحليل، والموازنة منذ أن جادت قريحته به في النِّصف الأوَّل من القرن الرَّابع الهجري، وكان من مظاهر ذلك الاهتمام، ومن تلك العناية أن ألَّف بعضٌ منهم في مشكله؛ كمصنَّف (الفتح الوهبي على مشكلات المتنبِّي) لابن جنِّي، و (شرح مشكل شعر المتنبِّي) لابن سِيْدَه الَّذي جاء زاخرًا بالاستطرادات اللُّغويَّة، والتَّعليقات النَّحوية الجديرة بالأخذ والدِّراسة؛ ولذا جعلته ميدانًا لهذا البحث الَّذي سعى جاهدًا في تتبُّع آراء ابن سِيْدَه النَّحوية؛ ليكون مرجعًا واضحًا في هذا المجال؛ وهو إبراز بعضٍ من آراء ابن سِيْدَه في الدَّرس النَّحوي تبيِّن موقف هذا النَّحوي الأندلسي من نحو المشارقة من جهة، ومدى تمسكِّه بكتاب سيبويه من جهةٍ أخرى، بل إنَّ أهميَّة هذا البحث تكمن أيضًا في تقديم شواهد شعريَّة جديدة لأحد الشُّعراء المولَّدين البارزين ...
وعلى الله تعالى قصد السَّبيل.
* * *
ابن سِيْدَه هو (1) : أبو الحسن علي بن إسماعيل الضَّرير، لغوي الأندلس وأديبها المرموق، وهو من أهل (مُرسيَّة) في جنوب الأندلس، كان رأسًا في العربيَّة، حجَّةً في نقلها، روى عن أبيه، وأبي عمر الطَّلَمَنْكيِّ، وصاعد بن الحسن البغدادي اللُّغوي وغيرهم.(13/298)
يقول أبو عمر الطَّلَمَنْكِيِّ: دخلتُ مُرسيَّة، فتشبَّث بي أهلها ليسمعوا عليَّ (غريب المصنَّف) لأبي عمرو الشَّيباني (1) ، فقلت لهم: انظروا مَنْ يقرأ لكم، وأمسكُ أنا كتابي، فأتوني برجلٍ أعمى يُعرف بابن سِيْدَه، فقرأه عليَّ من أوَّله إلى آخره ما أخلَّ فيه بلفظة، فعجبت من حفظه.
وحسبنا معرفةً بابن سِيْدَه وفضلِه أن نعلم أنَّه هو مَن ألَّف المعجم اللُّغوي القيِّم (المخصَّص في اللُّغة) ، وهو أيضًا مؤلِّف المعجم اللُّغوي الآخر (المحكم والمحيط الأعظم) الَّذي " لو حلف الحالف أنَّه لم يُصنَّف مثله لم يحنث “ (2) ، كما أنَّ له كتابَ (شرح أبيات الجمل للزَّجَّاجي) ، وكتابَ (الأنيق في شرح الحماسة) ، وكتابَ (العويص في شرح إصلاح المنطق) ، وكتابَ (تقريب غريب المصنَّف) ، وكتابَ (الوافي في علم القوافي) ، وكتابَ (شرح مشكل شعر المتنبِّي) .
أمَّا عن وفاته فتكاد تجمع الكب الَّتي ترجمت له على أنَّها كانت سنة (458 هـ) ، وقد بلغ من العمر ستين عامًا تقريبًا.(13/299)
هذا تعريفٌ موجز لهذا العالم الكبير، واللُّغوي المتقن، والنَّحوي المحقِّق، والأديب الواسع، الَّذي امتدحه كلُّ مَنْ ترجم له بأجمل العبارات، ولقَّبوه بأحسن الصِّفات، ولكن المتأمِّل في تلك العبارات، وفي تلك الصِّفات سيلحظ أنَّها جميعًا كانت تدور حول تفوُّقه في جمع اللُّغة وحفظها، أمَّا الجانب النَّحوي عنده فلم يُخصَّص بأيِّ إشارةٍ تُذكر (1) على الرَّغم من أنَّ مصنَّفاته سواءً اللُّغويَّة منها، أو الأدبيَّة كانت تزخر بالمسائل النَّحويَّة الجديرة بالأخذ والدِّراسة، لذا رأيت أن أتتبع آراءه النَّحويَّة في أحد كتبه، وأسلِّط الضَّوء عليها، لعلِّي أضيف شيئًا جديدًا إلى مناقب هذا العالم الفاضل، ونظرت في كتبه المطبوعة، واخترت من بينها كتابه (شرح مشكل شعر المتنبِّي) ؛ لأنَّ هذا الكتاب قد جمع حسبما أرى الحُسنيين؛ فهو كتابٌ زاخرٌ باستطرادات ابن سِيْدَه اللُّغويَّة، وتعليقاته النَّحويَّة حول شعرِ أبي الطيِّب المتنبِّي، فرأيت في جعله مجالَ الدِّراسة والبحث فرصةً لتحقيق هدفين هامين:
أحدهما: تقديم بعضٍ من آراء ابن سِيْدَه في الدَّرس النَّحوي.
والآخر: تقديم مسائل تطبيقيَّة على قواعد نحويَّة من شعرِ أحد المولَّدين البارزين.
واتبعت لتحقيق ذلك النَّهج التَّالي:
جمع المسائل النَّحويَّة الَّتي عبَّر فيها ابن سِيْدَه عن رأيه بصراحة، أمَّا التَّوجيهات الَّتي كان يوجِّه بها بعض الكلمات في الأبيات دون أن يصرِّح برأيه فيها، فهذه لم يعرِّج عليها البحث؛ خشية أن يُنسبَ إليه شيءٌ لم يرده.
ترتيب تلك المسائل في أبوابها، الَّتي رُتِّبت هي حسب ترتيب ابن مالك لألفيته.
وضع عنوان مناسب لكلِّ مسألةٍ من تلك المسائل.
عرض كلِّ مسألة، مع ربطها ببيت أبي الطيِّب؛ ليكون كالشَّاهد عليها(13/300)
الاكتفاء في المسائل المشهورة، والموافقة لرأي الجمهور بتوثيقها؛ وذلك بتتبعها في كتب الأصول الَّتي تناولتها؛ ليكون في ذلك دليلٌ إلى مظانها عند مَن سبقوه مِن النُّحاة، ومَن جاء بعده منهم.
الوقوف عند المسائل الَّتي خالف فيها رأي الجمهور، ومناقشته فيها.
فأسفر البحث والجمع عمَّا يربو على الخمسين مسألةً في أربعة وعشرين بابًا من أبواب النَّحو؛ جاءت على النَّحو التَّالي:
من باب النَّكرة، والمعرفة:
المسألة الأولى: جواز حذف مرجع الضَّمير
ومرجع الضَّمير هو الَّذي أشار إليه ابن سِيْدَه بقوله: " فالهاء في قوله: (فيه) راجعة إلى المزن " (1) ، وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
حَصَانٌ مِثْلُ مَاءِ المُزْنِ فيهِ كَتُومُ السِّرِّ صَادِقَةُ المَقَالِ (2)
أمَّا تصريحه بجواز حذفه؛ فذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
كَأنَّهُ زَادَ حتَّى فَاضَ عَنْ جَسَدِي فَصَارَ سُقْمِي بِهِ في جِسْمِ كِتمَاني (3)
حيث يقول: ".. وإن شئت قلت: الهاء في (كأنَّه) راجعة إلى الكتمان، وإن لم يجرِ له ذكر؛ كقوله:
من كذب كان شرًّا له؛ أي: كان الكذب شرًّا له “ (4) .
المسألة الثَّانية: جواز حذف (ها التَّنبيه) من اسم الإشارة
فقد نصَّ (5) على أنَّ (ها التنبيه) محذوفة من اسم الإشارة (تين) في قول المتنبِّي:
اختَرْتَ دَهماءَ تَيْنِ يَا مَطَرُ وَمَنْ لَهُ فِي الفَضَائِلِ الخِيَرُ (6)
وأشار إلى أنَّ حذفها هنا موافقٌ للمسموع عن العرب؛ إذ إنَّ المسموع في أسماء الإشارة مجيئُها ب (ها التنبيه) وبحذفها؛ ولذا جاء تجويزه حذفَها موافقًا لما جوَّزه النُّحاة (7) .
المسألة الثَّالثة: عدُّ (الأُلى) من الأسماء الموصولة
ونصَّ (8) على أنَّها بمعنى (الَّذين) ؛ أي: إنَّها لجماعة الذُّكور؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:(13/301)
أَلقَى الكِرَامُ الأُلَى بَادُوا مَكَارِمَهُم عَلى الخَصِيبِيِّ عِندَ الفَرضِ وَالسُّنَنِ (1)
وبما أنَّها اسمٌ موصولٌ لذا عدَّ جملة (بادوا) صلةً لها. وعدُّ (الأُلى) من الأسماء الموصولة لا خلاف فيه (2) ، وتأتي بمعنى (الَّذين) فتقع على مَن يعقل من المذكَّرين، وبمعنى (اللَّاتي) فتقع على مَن يعقل من المؤنَّثات، وقد تقع على ما لا يعقل.
المسألة الرَّابعة: بعض الأوجه الإعرابيَّة في (ما)
وقد أشار (3) إلى تلك الأوجه عند شرحه لقول المتنبِّي:
فَلا عَزَلٌ وَأَنْتَ بِلا سِلاحٍ لِحَاظُكَ مَا تَكُونُ بِهِ مَنِيعَا (4)
فقد جوَّز في (ما) ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موصولةً بمعنى (الَّذي) ، ويكون ما بعدها صلةً لها.
الثَّاني: أن تكون نكرة بمعنى (شيء) ، فيكون ما بعدها في محلِّ رفع صفةٍ لها.
الثَّالث: أن تكون زائدة؛ كأنَّه قال: لحاظك تكون به منيعا.
ويقيس احتمالها للوجهين الأوَّل والثَّاني على احتمالها لهما في قول الله تعالى:
(هَذَا مَا لَدَيَّ عَتيد ( [ق 23]
وقوله في الآية الكريمة موافقٌ لرأي الجمهور (5) .
المسألة الخامسة: التَّعويض ب (الألف واللاَّم) عن الضَّمير المضاف المضاف إليه
وقد صرَّح (6) بذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
تُمْسِي على أَيدِي مَوَاهِبِهِ هِيَ أَو بَقِيَّتُهَا أَوِ البَدَلُ (7)
حيث أوضح أنَّه أراد ب (البدل) : أو بدلها [أي: بالإضافة] ولكنَّه عوَّض بالألف واللاَّم من الإضافة، وعلَّل لذلك بأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما للتَّعريف، وهو بقوله هذا يوافق رأي الكوفيين (8) في جواز نيابة (ال) عن الضَّمير المضاف إليه؛ ومن ذلك قول الله تعالى:
(فإنَّ الجَنَّةَ هيَ المَأوَى ( [النَّازعات 41]
فإنَّ تخريجها على قولهم: (فإنَّ الجنة هي مأواه) (9) فحُذف الضَّمير، وعوَِّض عنه بالألف واللاَّم (10) .
من باب الابتداء(13/302)
المسألة الأولى: إذا اجتمع معرفةٌ ونكرة، فالمبتدأ المعرفة والنَّكرة الخبر
ولذا آثر عدَّ (سواء) خبرًا مقدَّمًا، و (الباز) مبتدأ مؤخَّرًا في قول المتنبِّي:
وَصَلَتْ إِلَيكَ يَدٌ سَوَاءٌ عِندَهَا ألبَازُ الاشْهَبُ والغُرابُ الأبقَعُ (1)
وقال: " وإنَّما آثرنا ذلك؛ لأنَّ (سواء) نكرة، وإن تقوَّى بقوله (عندها) ، و (الباز الأشهب) معرفة، وإذا اجتمع معرفة ونكرة، فالاسم المعرفة، والخبر النَّكرة " (2)
ولذا اضطرَّ في موضعٍ آخر إلى تقدير مبتدأ محذوف، تكون النَّكرة خبرًا عنه؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
سِرْبٌ مَحَاسِنُهُ حُرِمْتُ ذَواتِهَا دَانِي الصِّفَاتِ بَعِيدُ مَوصُوفَاتِها (3)
فقد عدَّ (سربٌ) خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هواي؛ وذلك " لقبح الابتداء بالنَّكرة ” (4) ، وهو في إعرابه المعرفة مبتدأ، والنَّكرة خبرًا يوافق مذهب الجمهور (5) .
المسالة الثَّانية: لا يُخبر عن المبتدأ إذا كان وصفًا باسم ذات
وقد عبَّر ابن سِيْدَه عن اسم الذَّات ب (الجوهر) وعن الصِّفة العارضة ب (العَرَض) (6) ، وبما أنَّه نصَّ على أنَّه لا يُخبر عن الوصف باسم الذَّات، قدَّر مضافًا محذوفًا في قول المتنبِّي:
وَذَاكَ النَّشر عِرْضُكَ كَانَ مِسْكًا وَذَاكَ الشِّعر فِهْرِي وَالمَداكَا (7)(13/303)
أي: وذاك النَّشر نشرُ عِرْضِك؛ وذلك لأنَّه أعرب (ذاك) مبتدأ، و (ذا) اسم ذات، أي " جوهر "، ولكنَّه لمَّا أعرب (النَّشر) صفةً له أصبح " عَرَضًا "، وعليه لم يعد يصلح أن يُخبر عنه ب (عِرْضُك) لأنَّه اسم ذات " جوهر "؛ ولذا قدَّر مضافًا محذوفًا قبل (عِرْضك) ، وقال: " هذا إن عنى ب (العِرْض) الأنا والذَّات؛ لأنَّها جواهر، و (النَّشر) عَرَض، فلا يُخبر عن العَرَض بالجوهر؛ فلذلك احتجنا إلى تقدير المضاف ... وإن جعلت (العِرْض) هنا المجد وسائر أنواع الفضائل لم يحتج إلى حذف المضاف؛ لأنَّ النَّشر والمجد كلاهما ليس بجوهر " (1) ، ويصرِّح بأنَّه استنتج هذا الحكم من تقدير سيبويه لقول الله تعالى:
(ولكنَّ البرَّ من آمنَ بالله ( [البقرة 177]
حيث إنَّه قدَّرها ب: ولكنَّ البرَّ برُّ مَنْ آمن (2) ، ويقول: “ لأنَّ (البرَّ) عَرَض، و (مَنْ آمنَ بالله) جوهر، فقدَّر مضافًا ليُخبر عن العَرَض بالعَرَض " (3) ، واستنتاجه هذا موافقٌ لرأي الجمهور (4)
المسألة الثَّالثة: مجيء الخبر جملةً فعليَّة
وهذا يُستنتج من إعرابه (5) جملة (حُرِمْتُ ذواتِها) خبرًا عن (محاسنُه) في قول المتنبِّي:
سِرْبٌ مَحَاسِنُهُ حُرِمْتُ ذَوَاتِهَا دَانِي الصِّفَاتِ بَعِيدُ مَوصُوفَاتِهَا (6)
وقد ذكر هذا أيضًا عند شرحه (7) لقول المتنبِّي:
وَالمَدْحُ لابنِ أبي الهَيجَاءِ تُنجِدُهُ بِالجَاهِليَّةِ عَينُ العَيِّ والخَطَلِ (8)
فقد أعرب جملة (تنجده) خبرًا عن المبتدأ (المدحُ) ، والقول بمجيء الخبر جملةً فعليَّة موافقٌ لقول الجمهور (9) .
المسألة الرَّابعة: مجيء الخبر جملةً اسميَّة
فهو كما أعرب الجملة الفعليَّة خبرًا، أعرب الجملة الاسميَّة أيضًا خبرًا؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
ثُمَّ غَدَا قِدُّهُ الْحِمَامُ وَمَا تَسلَمُ مِنْهُ يَمِينُ مَصْفُودِ (10)(13/304)
فقد قدَّر (1) اسم (غدا) ضميرًا مستترًا فيها، والجملة الاسميَّة (قِدُّهُ الحِمَامُ) خبرًا لها، وهو في هذا أيضًا يوافق الجمهور (2) .
المسألة الخامسة: وقوع الجار والمجرور في موضع الخبر
وهذا الحكم نصَّ (3) عليه أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
مَنْ لَيسَ مِنْ قَتْلاهُ مِنْ طُلَقَائِهِ مَنْ لَيسَ مِمَّنْ دَانَ مِمَّنْ حُيِّنَا (4)
فقد خرَّج قوله: (مِنْ طلقائِه) في موضع خبر المبتدأ الَّذي هو (مَنْ) الأولى، وقوله (مِمَّن حُيِّنَا) في موضع خبر المبتدأ الَّذي هو (مَنْ) الثَّانية، وواضحٌ من قوله (في موضع الخبر) أنَّه لا يعدُّ الجار والمجرور هما الخبر، وإنَّما في موضعه، وهذا هو رأي الجمهور (5) .
المسألة السَّادسة: سدُّ الحال مسدَّ الخبر
فقد صرَّح بأنَّ الحال قد تأتي بعد المبتدأ فتغنيه عن الخبر؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
بِحُبِّ قَاتِلَتِي والشَّيبِ تَغذِيَتِي هَوَايَ طِفْلاً وَشَيْبِي بَالِغَ الحُلُمِ (6)
حيث قال: " (هواي) يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الحال الَّذي هو (طفلاً) ؛ كقولك: أكثر شربي السويقَ ملتوتًا " (7) ، وقوله بجواز سدِّ الحال مسدَّ الخبر موافقٌ لقول الجمهور (8) .
المسألة السَّابعة: لا يُخبر عن المبتدأ قبل أن يستكمل جميع متعلِّقاته
ولذا قرَّر بأنَّ الباء في (بأن تسعدا) متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديره: وفاؤكما بالإسعاد؛ وذلك في قول المتنبِّي:
وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْعِ أَشجَاهُ طَاسِمُهْ بِأنْ تُسْعِدَا وَالدَّمعُ أَشفَاهُ سَاجِمُهْ (9)(13/305)
وقال: "ولا تكون متعلِّقة ب (وفاؤكما) الأولى؛ لأنَّك قد أخبرت عنها بقولك: (كالرَّبع) ، فمحال أن تُخبر عن الاسم وقد بقي ما يتعلَّق به لأنَّ هذا المتعلَّق به جزءٌ منه، فكما لا يُخبر عن الاسم قبل تمام حروفه كذلك لا يُخبر عنه وقد بقي ما هو جزءٌ منه" (1) ، وما نصَّ عليه موافق لما جاء عن الجمهور (2) .
من باب (كان) وأخواتها
المسألة الأولى: كان التَّامة
وسمَّاها ابن سِيْدَه (الغنيَّة) (3) لأنَّها تقابل كان النَّاقصة (الفقيرة) إلى الخبر، وقد ذكر (4) هذا أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
ثَنَى يَدَهُ الإحسَانُ حتَّى كأنَّها وقَد قَبَضَتْ كَانَتْ بِغيرِ بَنَانِ (5)
فقد جوَّز أن تكون (كانتْ) في البيت بمعنى: (خُلقتْ) ، ويقيسها على ما حكاه سيبويه من قول العرب: أنا أعرفك مذ كنتَ؛ أي: مذ خُلقتَ (6) ، والقول بمجيء (كان) تامة مكتفية بفاعلها موافقٌ لرأي الجمهور. (7)
والفرق بين (كان) التَّامة هذه والنَّاقصة؛ أنَّ المرفوع بالتَّامة فاعلٌ يتمُّ الكلام به، وأنَّها تؤكَّد بالمصدر، ويتعلَّق بها الجار والمجرور، وتعمل في الظَّرف والحال. والنَّاقصة بخلافها في ذلك كلِّه (8) .
المسألة الثَّانية: عدم إعمال (كان) وهي مضمرة
ويقصد بهذا الحكم (كان) النَّاقصة؛ فهو بعد أن قدَّرها في قول المتنبِّي:
وَصَارَ مَا في مِسْكِهِ لِلمِرْجَلِ فَلَم يَضِرْنَا مَعْهُ فَقْدُ الأجدَلِ (9)(13/306)
نفى أن يكون لها عملٌ في الجملة، وقال: " أراد: ما كان في مسكه، ف (في مسكه) من صلة (الَّذي) ولا تكون خبرًا ل (كان) هذه المرادة؛ لأنَّ تلك لا تُضمر وتعمل؛ لأنَّها فعلٌ كونيٌّ غير مؤثِّر، ولذلك منع سيبويه إضمارها، وإعمالها " (1) ، وهو يبني رأيه هذا على الكثير الشَّائع؛ وإلاَّ فهو مخالفٌ لما استقرَّ عند النُّحاة من جواز حذف (كان) تخفيفًا مع بقاء عملها، قياسًا على قول الشَّاعر (2) :
أَبَا خُرَاشَةَ أَمَّا أنتَ ذَا نَفَرٍ فَإِنَّ قَوْمِي لَمْ تَأكلْهُم الضَّبعُ
فقد استشهد به كثيرٌ من العلماء على حذف (كان) والتَّعويض عنها ب (ما) ؛ وقالوا إنَّ (أمَّا) في البيت مركبَّة من (أنْ) ضُمَّت إليها (ما) المؤكِّدة، ولزمتها عوضًا من ذهاب (كان) ، والضَّمير المنفصل (أنت) في محل رفع اسم (كان) ، و (ذا نفرٍ) خبرها (3) .
وذلك من الأمور الَّتي اختصَّت به (كان) دون باقي أخواتها؛ لأنَّها الأمُّ في بابها (4) .
من باب (إنَّ وأخواتها)
المسألة الأولى: عمل (لكنَّ)
وعملها هو نفس عمل (إنَّ) ؛ وهو نصب المبتدأ ورفع الخبر، وقد أشار ابن سِيْدَه إلى ذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
ما مَضَوْا لم يُقاتِلُوكَ ولَكِنَّ القِتَالَ الَّذي كَفَاكَ القِتَالا (5)
فقد نصَّ (6) على أنَّ (القتالَ) اسمٌ منصوبٌ ب (لكنَّ) ، و (الَّذي) خبرها؛ والتَّقدير: ولكنَّ القتالَ القديمَ الَّذي علموه منك هو الَّذي كفاك القتالَ الآن، وإعمال (لكنَّ) المشدَّدة وأخواتها هذا العمل من الأمور المتفق عليها لدى جمهور النُّحاة (7) .
المسألة الثَّانية: إضمار ضمير الشَّأن في الحروف النَّاسخة(13/307)
وضمير الشَّأن هو الضَّمير الَّذي يُكنَّى به عن جملةٍ بعده اسميَّة أو فعليَّة، تكون هي مرجعه ومفسِّرةً له، ويكون هو دائمًا بلفظ المفرد؛ لأنَّه يراد به الأمر والحديث؛ وذلك نحو: هو زيدٌ قائمٌ (1) .
وقد صرَّح ابن سِيْدَه بجواز إضماره في الحروف النَّاسخة في موضعين؛ الموضعِ الأوَّل عند شرحه لقول المتنبِّي:
إذا وَرِمَتْ مِنْ لَسعَةٍ مَرِحَتْ لهَا كَأنَّ نَوَالاً صَرَّ في جِلْدِهَا النَّبْرُ (2)
حيث قال: " يجوز أن يكون (نوالاً) منصوبًا ب (كأنَّ) والجملة الَّتي هي (صرَّ في جلدها النبرُ) خبر (كأنَّ) وفيه ضعف؛ لأنَّ اسم (كأنَّ) نكرة غير مؤيَّدة بالصِّفة " ثُمَّ قال: " وخيرٌ منه عندي أن يكون في (كأنَّ) إضمار الشَّأن أو الحديث، أي: كأنَّ الأمر أو الحديث، و (نوالاً) مفعول ل (صرَّ) ، فقوله: نوالاً صرَّ في جلدها، تفسير للمضمر الَّذي في (كأنَّ) " (3) .
وأمَّا الموضعِ الثَّاني الَّذي صرَّح فيه بإضمار ضمير الشَّأن في الحروف النَّاسخة؛ فهو عند شرحه لقول المتنبِّي:
يَرَى أَنَّ مَا مَا بَانَ مِنْكَ لضَارِبٍ بِأَقْتَلَ مِمَّا بَانَ مِنْكَ لِعَائِبِ (4)
حيث قال: " ففي (أنَّ) مضمرٌ على شريطة التَّفسير، و (ما) الأولى نفي، والثَّانية بمعنى الَّذي، والجملة بكلِّيتها تفسير المضمر على شريطة التَّفسير " (5)(13/308)
وهو في هذا يوافق سيبويه (1) فهو الَّذي جوَّز حذف اسم هذه الحروف إذا كان ضمير شأن (2) ، أمَّا جمهور النُّحاة فقدجاء رأيهم في ضمير الشَّأن مع النَّواسخ عمومًا فيه تفصيل؛ حيث إنَّهم رأوا جواز استتاره في (كان) وأخواتها، وفي المقابل ضرورة بروزه مع (إنَّ) وأخواتها، و (ظنَّ) وأخواتها (3) ؛ وذلك لأنَّ اسم (كان) مرفوع، والضَّمير المرفوع يستتر في الفعل، بخلاف الضَّمير المنصوب الَّذي لا يكون إلاَّ ظاهرًا (4) ، كما أنَّه مع (إنَّ) وأخواتها لا يمكن استتاره فيها؛ لأنَّها حروف، والحروف لا تستتر فيها الضَّمائر (5) .
من باب (ظنَّ وأخواتها)
مسألة: إعمال أفعال القلوب في ضميري الفاعل والمفعول المتصلين مع اتحاد المسمَّى
نحو: ظننتُني وحسبتُني، وهذا ممَّا تميَّزت به هذه الأفعال دون غيرها من الأفعال الحسيَّة (6) ؛ فلا يُقال: أكرمتُني، وأكرمتَكَ، وأكرمْكَ، بل يُقال: أكرمتُ نفسي، وأكرمتَ نفسَكَ، وأكرمْ نفسَكَ، وقد علَّل العلماء للمنع في غير أفعال القلوب بأمرين:
أحدهما: الاستغناء بالنَّفس عن الضَّمير (7) .
الآخر: أنَّ الأصل في الفاعل أن يكون مؤثِّرًا، والمفعول به متأثِّرًا منه، والمؤثَّر يغاير المتأثِّر، فإن اتحدا معنًى امتنع اتحادهما لفظًا (8) .
أمَّا عن علَّة جواز الجمع بين الضَّميرين في أفعال القلوب فترجع أيضًا إلى أمرين:
أحدهما: أنَّه لمَّا كان المقصود هو المفعول الثَّاني؛ لتعلُّق العلم والظَّن به؛ لأنَّه محلهما بقي المفعول الأوَّل كأنَّه غير موجود، والأمر يختلف مع غيرها من الأفعال نحو: ضربتُني، وضربتَك؛ لأنَّ المفعول محل الفعل فلا يُتوهَّم عدمه (9) .
الآخر: أنَّ علم الإنسان وظنَّه بأمور نفسه أكثر من علمه بأمور غيره، فلمَّا كثُر فيها، وقلَّ في غيرها حُمل على الأكثر، فجُمع بينهما (10) .(13/309)
ويلحق بأفعال القلوب في هذا الحكم (رأى) البصريَّة؛ حيث حُملت على (رأى) القلبيَّة (1) ، لذا عندما قال المتنبِّي:
يَرَى حَدُّهُ غَامِضَاتِ القُلُوبِ إٍذا كُنتُ في هَبْوَةٍ لا أَرَاني (2)
لم يتردَّد ابن سِيْدَه في عدِّ (أراني) بصريَّة، معلِّلاً رأيه بقوله: " لمَّا كانت (أرى) الَّتي هي للعين مطابقةَ اللَّفظ ل (أرى) الَّتي هي للقلب، وهذه تتعدَّى على هذه الصُّورة؛ لأنَّها غيرُ حسيَّة؛ كقولهم: أراني ذاهبًا، استجاز أن يجري (أرى) الَّتي هي للعين مجراها " (3) ، ويستدلُّ على هذا بما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: أما ترى أيُّ برقٍ هاهنا (4) ؛ حيث عُلِّقت فيه (أرى) عن العمل، ورؤية البرق بصريَّة لا نفسانيَّة.
من باب (أعلم وأرى)
مسألة: نهاية التعدِّي
وعنى بها: أنَّ هذه الأفعال لمَّا تعدَّت إلى ثلاثة مفعولين، ولم يعد بمقدورها أن تتعدَّى أكثر، عادت كالفعل اللَّازم الَّذي لا يتعدَّى، وأشبهت بذلك تصغير (لُيَيْلتُنا) في قول المتنبِّي:
أُحَادٌ أم سُدَاسٌ في أُحادِ لُيَيْلَتُنَا المَنُوطَةُ بالتَّنَادِي (5)
وتصغير (جبل) في قول أوس بن حجر:
فُوَيقَ جُبَيْلٍ شَاهِقِ الرَّأسِ لم يَكُنْ لِيَبْلغَهُ حتَّى يَكِلَّ ويَعمَلا (6)(13/310)
لأنَّ اللَّيلة الَّتي تعدل ست ليالٍ ليست بلُيَيْلَة وإنَّما ليلة، والجبل الَّذي هذه حاله ليس بجُبَيْل وإنَّما هو جبل، ولكنَّهما صُغِّرا تصغير" تعظيم " (1) ، ويعلِّل تصغيرهما هذا التَّصغير بقوله: " ووجه تصغير التَّعظيم؛ أنَّ الشَّيء قد يعظم في نفوسهم حتَّى ينتهي إلى الغاية، فإذا انتهاها عكسوه إلى ضدِّه؛ لعدم الزِّيادة في تلك الغاية، وهذا مشهورٌ من رأي القدماء الفلاسفة الحكماء: أنَّ الشَّيء إذا انتهى انعكس إلى ضدِّه " (2) ، ولذا يرى موافقًا سيبويه أنَّ الأفعال الَّتي تتعدَّى إلى ثلاثة مفعولين بمنزلة الفعل اللَّازم؛ يقول سيبويه: "لأنَّها لمَّا انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدَّى " (3) .
من باب الفاعل
المسألة الأولى: رفعه بفعلٍ مضمر
وقد نصَّ على ذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
كَفَى ثُعَلاً فَخْرًا بِأنَّكَ مِنهُمُ ودَهرٌ لِأَنْ أَمسَيْتَ مِنْ أَهْلِهِ أَهْلُ (4)
فقد أعرب (دهرٌ) فاعلاً لفعلٍٍ مضمر تقديره: وليفخر دهرٌ، وقال: "وحسُن هذا الإضمار؛ لأنَّ قوله: كفى ثُعلاً فخرًا بأنَّك منهم، في قوَّة قوله: لتفخر ثُعلٌ، فحمل الثَّاني على المعنى؛ فكأنَّه قال: لتفخر ثُعلٌ، وليفخر دهرٌ، والحمل على المعنى كثير " (5) ، ويريد من هذا أنَّ الَّذي سوَّغ حذف الفعل هنا وجود قرينة معنويَّة في الكلام تدلُّ عليه. وحذف الفعل الرَّافع للفاعل مع وجود قرينةٍ لفظيَّة، أو معنويَّة تدلُّ عليه جائزٌ لدى جمهور النُّحاة (6) .
المسألة الثَّانية: لحوق تاء التَّأنيث الفعلَ للدِّلالة على تأنيث الفاعل
وهذه القضيَّة أشار فيها إلى حالة ما إذا كان الفاعل مذكَّرًا في اللَّفظ مؤنَّثًا في المعنى؛ نحو: (أتمُّ الطَّير) في قول المتنبِّي:
تُفدِّي أَتَمُّ الطَّيرِ عُمرًا سِلاحَهُ نُسُورُ الفَلا أحْداثُها والقَشَاعِمُ (7)(13/311)
فهو بمعنى (النُّسور) ؛ ولذا لحقت تاء التَّأنيث الفعلَ (تُفدِّي) حملاً على المعنى، ومثلها في كلام العرب: فلانٌ لغوب جاءته كتابي فاحتقرها؛ حيث " أنَّث الكتاب لمَّا كان في معنى الصَّحيفة " (1) ، وهذا ما يسمِّيه النُّحاة بالمؤنَّث المجازي، وحكم (التَّاء) معه جائز (2) ؛ أي قد تلحق فعلَه التاءُ؛ كما في قول الله تعالى:
(قَدْ جَاءَتكُم بيِّنةٌ مِنْ ربِّكُمْ فَأوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ ( [الأعراف 85]
وقد لا تلحقه؛ كقوله عزَّ مَن قائل:
(فَقَدْ جَاءَكُم بيِّنةٌ مِنْ ربِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ( [الأنعام 157]
المسألة الثَّالثة: جرُّ الفاعل ب (الباء) الزَّائدة
وقد ذكر هذا الحكم للفاعل عندما فرَّق (3) بين (الباء) الدَّاخلة على لفظ الجلالة في قول الله عزَّ وجلَّ:
(كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ( [النِّساء 79]
و (الباء) الدَّاخلة على الضَّمير المتصل (الكاف) في قول المتنبِّي:
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى المَوتَ شَافِيا وحَسْبُ المَنايَا أنْ يَكُنَّ أمَانِيَا (4)
فقد نصَّ على أنَّ مدخولها في الموضعين مختلف؛ حيث إنَّها في الآية الكريمة قد دخلت على الفاعل، بينما هي في البيت داخلةٌ على المفعول به؛ لأنَّ التَّقدير: كفاك داءً، وهو بهذه الموازنة ينبِّه إلى شيءٍ مهم في الفعل (كفى) ؛ وهو أنَّه ليس بالضَّرورة أن يكون كلُّ مجرورٍ ب (الباء) بعده فاعلاً كما هو المشهور (5) وإنَّما قد يكون داخلاً على المفعول.
من باب تعدِّي الفعل ولزومه
المسألة الأولى: من مواضع وجوب تقدُّم المفعول به على فعله
وذلك إذا كان اسمَ استفهام؛ نحو (أيٍّ) في قول المتنبِّي:
وتَغْبِطُ الأرضُ منها حيثُ حَلَّ بِهِ وَتَحْسُدُ الخَيْلُ منها أيَّها رَكِبَا (6)(13/312)
فقد عدَّ (أيًّا) اسم استفهام منصوبًا (1) ، وقال: " (أيَّها) منصوب ب (ركب) ولا يكون ب (تحسدُ) ؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلاَّ أن يكون حرفَ جرٍّ " (2) ، ووجوب تقدُّم المفعول به على فعله إذا كان اسمَ استفهام قد صرَّح به جماعةٌ من النُّحاة (3) ؛ لأنَّهم قد أجمعوا على أنَّ أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها (4) إلاَّ أن يكون حرفَ جرٍّ.
المسألة الثَّانية: تعدية الفعل الَّذي ينصب مفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبرًا إلى أحد مفعوليه بحرف جرٍّ جائز الحذف
وقد أشار إلى ذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
قَدِ اخْتَرتُكَ الأملاكَ فاخْترْ لَهُمْ بِنَا حَدِيثًا وقَد حَكَّمْتُ رَأَيَكَ فاحْكُمِ (5)
فقد بادر بقوله: " أي: من الأملاكِ، فحذف وأوصل الفعل " (6) ،وإنَّما قال هذا لأنَّ الفعل (اختار) هو واحدٌ من تلك الأفعال الَّتي سُمع فيها تعدِّيها إلى أحد مفعوليها بحرف جرٍّ جائز الحذف؛ وهي: اختار، وأمر، واستغفر، ودعا بمعنى سمَّى، وكنَّى، وصدق، وزوَّج، وحدَّث، ونبَّأ، وأنبأ، وخبَّر، وأخبر، وعلى الرَّغم من كثرتها إلاَّ أنَّ رأي الجمهور فيها أنَّها تُحفظ ولا يُقاس عليها (7) ، وابن سِيْدَه لم يُخالف رأيَ الجمهور؛ وإنَّما عقَّب في نهاية المسألة بقوله: " ومثله [أي: اختار] كثير، إلاَّ أنَّه مسموعٌ لا يُقاس عليه " (8) ، وتعدية هذه الأفعال إلى أحد مفعوليها بحرف جرٍّ هي الأصل، والدَّليل على ذلك كثرته، و " ما كثُر في كلام العرب وفشا ينبغي ألاَّ يُدَّعى أنَّه ثانٍ " (9) ، ولكن سُمِع حذف حرف الجرِّ معها؛ كما في بيت المتنبِّي السَّابق، وكما في قول الله تعالى:
(وَاخْتَارَ مُوْسَى قَوْمَهُ سَبْعِيْنَ رَجُلاً لِمِيْقَاتِنَا ( [الأعراف 155](13/313)
حيث إنَّ العلماء (1) أجمعوا على أنَّ تقديرها: (مِن قومه) ؛ ف (قومَه) و (سبعين) مفعولان ل (اختار) ؛ الأوَّل منهما (سبعين) ، والثَّاني (قومَه) (2) ؛ أي: اختار موسى سبعين رجلاً من قومه، والله تعالى أعلم.
المسألة الثَّالثة: إسقاط حرف الجرِّ مع (أنْ)
وقد نصَّ على هذا أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
وَأنَّكَ لا تَجُودُ على جَوَادٍ هِبَاتُكَ أنْ يُلقَّبَ بِالجَوادِ (3)
فقال: " (أنْ) ... نصب بإسقاط الحرف؛ أي: بأنْ يلقَّبَ “ (4) ، وحذف حرف الجرِّ مع (أنْ) النَّاصبة للفعل المضارع من المواضع المقيسة عند النُّحاة (5) ؛ ومنه قول الله تعالى:
(إنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُوْن ( [البقرة 169]
أي: وبأنْ تقولوا، ومثل ذلك كثيرٌ في الكتاب العزيز، وغيره (6) “ وإنَّما استحسنوا حذف الباء مع (أنْ) لطول (أنْ) بصلتها الَّتي هي جملة “ (7) ، أمَّا الخلاف الَّذي وقع بين النُّحاة في المسألة فكان حول المحلِّ الإعرابي للمصدر المُؤوَّل من (أنْ) والفعل بعد حذف حرف الجرِّ؛ فالجمهور عدا سيبويه يرونه في محلِّ نصب (8) ، وبرأيهم أخذ ابن سِيْدَه كما هو واضحٌ من قوله (نصب) ، أمَّا سيبويه (9) فقد جوَّز الوجهين؛ النَّصب والجرَّ، ووافقه ابن هشام (10) .
المسألة الرَّابعة: الأفعال الَّتي تتعدَّى بنفسها تارةً، وبواسطة حرف جرٍّ يجوز حذفه تارةً أخرى
وذكر منها الفعل (ركض) ؛ وذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
فَبعَدَه وإلى ذَا اليَومِ لَو رَكَضَتْ بِالخيلِ في لَهَوَاتِ الطِّفلِ ما سَعَلا (11)(13/314)
فقد قال: " وقوله (ركضتْ بالخيلِ) إنَّما وجهه: لو ركضتْ الخيلَ، يقال: ركضتُ الدَّابةََ، ولا يقال: ركضتُ بها، هذا هو المعروف في اللُّغة، لكن قد يجوز أن يكون (ركضتُ بالدَّابة) لغة، فيكون من باب " طوَّحتُه " و " طوَّحتُ به " (1) ؛ أي من تلك الأفعال الَّتي سُمع فيها الوجهان: التَّعدِّي بنفسها، والتَّعدِّي بحرف الجرِّ، وأشهرها الفعل: نصح، وشكر، وكال، ووزن، وركب، وجاء، ورجع، وطمس (2) ، وهذه الأفعال أيضًا تُحفظ ولا يُقاس عليها (3) .
ولكن لمَّا جاءت هذه الأفعال بهذه الازدواجيَّة في التَّعدِّي، توقَّف النُّحاة عندها؛ لتحديد أيّ الاثنين أصل للآخر؛ أهو تعدِّيها بالحرف، أم تعدِّيها بنفسها؟ وانقسموا في ذلك إلى ثلاثة فِرق:
الفريق الأوَّل؛ ويرى أنِّه: بما أنَّها تتعدَّى تارةً بنفسها، وأخرى بحرف الجرِّ، فعليه لا يكون أحدهما أصلاً للآخر (4) .
والفريق الثَّاني يرى: أنَّ الأصل في هذه الأفعال التعدِّي بحرف الجرِّ، ثم توسَّعت العرب بحذفه (5) ؛ وعلى رأيهم يكون الأصل في نحو: نصحت زيداً، نصحت لزيدٍ، ثم حُذِف منه حرفُ الجرِّ في الاستعمال، وكثُر فيه الأصل والفرع.(13/315)
أمَّا الفريق الثَّالث فيرى: أنَّ هذه الأفعال من باب ما يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف الجرِّ؛ كالفعل (اختار، وأمر، واستغفر ... ) وأخواتها، وأنَّ الأصل في نحو: نصحت زيداً، نصحت لزيدٍ رأيَه؛ أُخذ من: نصح الخائطُ الثوبَ، إذا أصلحه، وضمَّ بعضه إلى بعض (1) ، فاستُعير في الرَّأي؛ وقيل: نصحت له رأيَه؛ أي أخلصته وأصلحته له، ثم حُذف المفعول الثَّاني، وأُسقط حرفُ الجرِّ من المفعول الأوَّل؛ لتضمُّن (نصح) معنى: (أرشد) ، وكذلك (شكر) فإنَّ الأصل فيه على رأي هؤلاء: شكرت لزيدٍ إحسانَه، فحُذف المفعولُ الثَّاني، وقيل: شكرت لزيدٍ، ثم حُذف حرفُ الجرِّ، لتضمُّن (شكر) معنى: (حمِد) أو (مدح) (2) .
ولاشكَّ في أنَّ الَّرأي الأوَّل هو الَّرأي الرَّاجح؛ لكثرة استعمال الوجهين، ولبعده عن تكلُّف تقدير الحذف، وبعده عن التَّضمين الَّذي هو ليس بقياس (3) ، وأحسبه هو الرَّأي الَّذي أخذ به ابن سِيْدَه؛ لأنَّه عدَّهما لغتين.
من باب التَّنازع
مسألة:قضيَّة التَّنازع
وقضيَّته تتلخَّص في أن يتنازع عاملان على معمولٍ واحد (4) ، وقد يختلف مطلبُهما، وقد يتفق، وقد وردت صورتاهما في شعر المتنبِّي؛ فأمَّا الصُّورة الأولى؛ وهي عندما يختلف مطلبُ العاملين، فقد جاءت في قول المتنبِّي:
ألَمْ يَسألِ الوبْلُ الَّذي رَامَ ثَنْيَنَا فَيُخْبِرَهُ عَنْكَ الحَدِيدُ المُثَلَّمُ (5)(13/316)
فالفعلان (يسأل، ويخبر) يتنازعان كلمة (الحديد) ؛ فكلُّ واحدٍ منهما يطلبه معمولاً له، ولكن يختلف طلبُ كلِّ واحدٍ منهما له؛ فالفعل (يسأل) يطلبه مفعولاً به، والفعل (يخبر) يطلبه فاعلاً، ويرى ابن سِيْدَه موافقًا مذهب البصريين في المسألة أنَّ العمل للثَّاني؛ أي للفعل (يخبر) ، بدليل مجيء كلمة (الحديدُ) بالرَّفع، ويقول: " وهذا كقولك ضربتُ وضربني زيدٌ، أي: ضربتُ زيدًا وضربني زيدٌ، فحذف الأوَّل؛ لدلالة الثَّاني عليه " (1) .
أمَّا الصُّورة الأخرى للتَّنازع؛ وهي الَّتي يتفق فيها مطلبُ العاملين، فقد جاءت في قول المتنبِّي:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ فَزِعتُ فيهِ بِآمَالِي إلى الكَذِبِ (2)
فالفعلان (طوى، وجاء) متنازعان على كلمة (خَبَرٌ) ، وكلُُّ واحدٍ منهما يطلبه فاعلاً له، ويصرِّح ابن سِيْدَه بأنَّه آخذٌ برأي البصريين؛ فيقول: " و (خَبَرٌ) مرفوع على مذهب البصريين ب (جاءني) ؛ لأنَّهم إنَّما يُعملون أقربَ الفعلين، ولابدَّ على هذا من إضمار الفاعل في (طوى) على شريطة التَّفسير، وإن كان إضمارًا قبل الذِّكر ... وأمَّا على مذهب الكوفيين، فيرفع (خَبَرٌ) على أنَّه فاعلٌ ب (طوى) ؛ لأنَّهم يُعملون أسبقَ الفعلين، فلا بدَّ على هذا من الإضمار في (جاءني) ؛ أي: طوى الجزيرةَ خبرٌ حتَّى جاءني، والقول الأوَّل عندي أحسن في هذا البيت؛ لأنَّ النَّكرة الَّتي هي (خَبَرٌ) على ذلك القول موصوفة بالجملة الَّتي هي (فزعت فيه بآمالي) إلاَّ أنَّ فيه ما قد أريتك من الإضمار في الأوَّل على شريطة التَّفسير، وعلى هذا القول الثَّاني ليس للنَّكرة وصف " (3) .
من باب المفعول فيه
المسألة الأولى: العامل في الظَّرف
وقد أشار إليه عَرَضًا أثناء توضيحه لِمَا أراده المتنبِّي من كلمة (الفتى) في قوله:(13/317)
ولا فَضلَ فِيهَا لِلشَّجَاعةِ والنَّدَى وصَبرِ الفَتَى لَولا لِقَاءُ شَعُوبِ (1)
فقد نصَّ ابن سِيْدَه على أنَّه أراد بها الجَلِد الصَّابر، ولم يَعنِ بها ذا السِّنِّ، وحتَّى يؤكِّد ذلك المعنى جاء ببيتٍ لمالك بن خالد الخناعي الهذلي، وهو قوله:
فتًى مَا ابنُ الأغَرِّ إذا شَتَوْنَا وحُبَّ الزادُ في شَهرَي قُمَاحِ (2)
وقال: “ كنَّى بالفتوة عن الكرم؛ كأنَّه قال: ابن الأغرِّ كريم، ولولا ذلك لم يعمل (فتى) في (إذا) ؛ لأنَّ الظُّروف لا تعمل فيها [إلاَّ] (3) الأفعال، أو ما هو في طريقها، وإذا قلت: زيدٌ فتى، تعني به السِّن، فليس فيه معنى الفعل “ (4) ، وواضحٌ من قوله أنَّه يرى أنَّ الظُّروف لا يعمل فيها إلاَّ الفعل، أو ما هو في قوَّة الفعل، وهذا هو رأي الجمهور (5) .
المسألة الثَّانية: إعراب كلمة (بدل) ظرف مكان
وقد أعربها هذا الإعراب عند شرحه لقول المتنبِّي:
عَذِيرِي مِنْ عَذَارَى مِنْ أُمُورٍ سَكَنَّ جَوَانِحِي بَدَلَ الخُدُورِ (6)
فأعرب (بدل) ظرف مكان؛ لأنَّها بمعنى: مكان الخدور (7) ، وقاسه على ما حكاه سيبويه من قولهم: إنَّ بدلك زيدًا، أي: إنَّ مكانك (8) ، وعلى قولِهم للرَّجل: اذهب معك بفلان، فيقول: معي رجلٌ بدلَ فلان؛ أي: يغني غَناءه، ويكون في مكانه (9) .
من باب المفعول معه
مسألة: الحالة الَّتي يترجَّح فيها نصب الاسم على رفعه
وهي الَّتي يكون المعطوف عليه ضميرَ رفعٍ متصل، لم يُفصل بينه وبين الاسم المقترن بالواو بأيِّ فاصل؛ فإنَّه في هذه الحالة يترجَّح نصب الاسم الواقع بعد الواو على رفعه؛ ولذا عدَّ ابن سِيْدَه رفعَ (وصلُه) و (صدُّه) في قول المتنبِّي:
يُبَاعِدْنَ حِبًّا يَجتَمِعْنَ وَوصْلُهُ فَكَيْفَ بِحِبٍّ يَجتَمِعْنَ وَصَدُّهُ (10)(13/318)
عدَّه ضرورة، وقال: " ولو كان الرَّوي منصوبًا لكان (وصدَّه) هو الأجود على المفعول معه " (1) ، وترجيح نصب الاسم على رفعه وهو في هذه الحالة هو قول الجمهور (2) .
من باب الحال
المسألة الأولى: حكم الاسم الجامد إن وقع حالاً
وحكمه أن يؤوَّل بمشتقٍّ (3) ؛ ولذا أوَّل (4) ابن سِيْدَه كلمة (تمائمًا) بعد أن أعربها حالاً ب (حوارس) ، وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
نُظِمَتْ مَواهِبُهُ عَليهِ تمَائِمًا فَاعتَادَهَا فَإذَا سَقَطْنَ تَفَزَّعَا (5)
وقاس تأويلها بمشتقٍّ في البيت على تأويلها في قول الله تعالى:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آية ( [الأعراف 73]
فقد أوَّل النُّحاة كلمة (آية) في الآية الكريمة ب (علامة) أي: بالمصدر؛ وذلك لكي يعربوها حالاً (6) .
المسألة الثَّانية: مجيء الفعل الماضي حالاً دون (قد)
وقد نصَّ (7) على جواز ذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
كَمْ مَهْمَهٍ قَذَفٍ قَلْبُ الدَّلِيلِ بِهِ قَلْبُ المُحِبِّ قَضَانِي بَعدَ مَا مَطَلا (8)
وعلَّل تجويزه هذا بكون الفعل الماضي قد يقع موقع الفعل المستقبل؛ في نحو: إن فعلَ فعلْتُ، وفيما حكاه سيبويه من قولهم: والله لا فعلْتُ؛ أي: لا أفعلُ، وهو بهذا يوافق رأي الكوفيين (9) والأخفش (10)
الَّذين جوَّزوا وقوع الفعل الماضي حالاً محتجِّين بالقياس الَّذي ذكره، وبالسَّماع الَّذي منه قول الله تعالى:
(أو جَاؤُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهم ( [النِّساء 90](13/319)
فقد أعربوا جملة (حصرت صدورُهم) في محلِّ نصب حال (1) ، أمَّا البصريون فقد منعوا وقوع الفعل الماضي حالاً إلاَّ أن تكون معه (قد) ظاهرةً أو مقدَّرة (2) ؛ لأنَّ الحال وصفٌ لهيئة الفاعل والمفعول، والماضي قد انقضى، فلا يكون وصفًا لهيئة الاسم (3) ، والرَّاجح في المسألة رأي ابن سِيْدَه والكوفيين؛ لأنَّ القياس والسَّماع يؤيِّده، ولأنَّه خالٍ من التَّقدير الَّذي هو ليس بقياس (4) .
لمسألة الثَّالثة: وجوب اشتمال الجملة الحاليَّة على ضميرٍ يعود على صاحب الحال
وهذا ما صرَّح به أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
بِوَادٍ بِهِ مَا بِالقُلُوبِ كَأنَّهُ وَقَدْ رَحَلُوا جِيْدٌ تَنَاثَرَ عِقْدُهُ (5)
حيث قال: " (وقد رحلوا) جملةٌ في موضع الحال؛ أي: في حال رحيلهم عنه، وكأنَّه قال: مرحولاً عنه جِيدٌ هذه صفته، ولابدَّ من تقدير (عنه) إذ لا بدَّ لصاحب الحال من ضميرٍ يعود إليه من الحال " (6) .
وواضحٌ من قوله (لابدَّ) أنَّه يرى وجوب اشتمال جملة الحال على ضميرٍ يعود على صاحب الحال إمَّا مذكورًا أو مقدَّرًا، والواقع ليس كذلك؛ لأنَّه كما يكون (الضَّمير) رابطًا جملة الحال بصاحبها تكون (الواو) أيضًا رابطةً لهما من دون الضَّمير؛ وذلك كما في قولهم: جاء زيدٌ وعمروٌ جالس، ولذا اعتاد النُّحاة (7) عند ذكرهم للضَّمير الرَّابط لجملة الحال بصاحبها أن يذكروا الرَّابط الثَّاني وهو (الواو) ، وابن سِيْدَه لو عدَّ (الواو) رابطةً لجملة الحال بصاحبها؛ لأغناه ذلك عن التَّقدير الَّذي هو ليس بأصل.
المسألة الرَّابعة: حكم صاحب الحال
والحكم الغالب فيه أن يكون معرفةً، أو قريبًا من المعرفة (8) ، ولا يكون نكرةً إلاَّ بمسوِّغات ليس منها تنكير (قوم) (9) في قول المتنبِّي:
إذَا تَرَحَّلتَ عَنْ قَومٍ وَقَد قَدَرُوا أنْ لاَ تُفَارِقَهُم فَالرَّاحِلُونَ هُمُ (10)(13/320)
ولذا حاول ابن سِيْدَه أن يبحث لها عن مسوِّغٍ، فلم يجد إلاَّ معنى العموم الَّذي دلَّت عليه، فقال: " (وقد قدروا) جملة في موضع الحال، وجاز أن تكون حالاً من (قوم) وإن كان نكرة؛ لأنَّ فيه معنى العموم، ولولا هذه الواو لكان أولى من ذلك أن تكون الجملة في موضع الصِّفة للنَّكرة " (1)
والنُّحاة إنَّما اشترطوا في صاحب الحال التَّعريف، وأن لا يكون نكرةً إلاَّ بمسوِّغ؛ لأنَّ للحال شبهًا بالخبر، ولصاحبها شبهٌ بالمبتدأ في كونه محكومًا عليه، والحكم على الشَّيء لا يكون إلاَّ بعد معرفته (2) ، ثُمَّ إنَّه بتنكيرها، وتعريف صاحبها يتحقَّق الفرق بينها وبين الصِّفة (3) .
من باب حروف الجرِّ:
المسألة الأولى: معاني بعض حروف الجرِّ
فقد ذكر ابن سِيْدَه بعضًا من معاني بعضِ حروف الجرِّ؛ فذكر ل (اللاَّم) معنيين:
أحدهما: الاستحقاق (4) ؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
دَارُ المُلمِّ لهَا طَيفٌ تَهدَّدَنِي لَيْلاً فَمَا صَدَقَتْ عَينِي ولاَ كَذَبَا (5)
ف (اللاَّم) في (لها) للاستحقاق، وهذا من أهمِّ معانيها (6) .
والآخر: معنى (إلى) (7) ؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
وَلَهُ وَإنْ وَهَبَ المُلُوكُ مَواهِبٌ دَرُّ المُلُوكِ لِدَرِّهَا أَغبَارُ (8)
ف (اللاَّم) في (لدرِّها) بمعنى (إلى) أي: درُّها بالإضافة إلى درِّها، ومجيء (اللاَّم) بمعنى (إلى) قد صرَّح به جماعةٌ من النُّحاة (9) .
وذكر ل (مِنْ) أربعة معانٍ:
أحدها: التَّبعيض (10) ؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
تَخلُو الدِّيَارُ منَ الظِّبَاءِ وَعِندَهُ منْ كُلِّ تَابِعَةٍ خَيَالٌ خَاذِلُ (11)
ف (مِنْ) في الموضعين من البيت للتَّبعيض، والتَّبعيض من أشهر معاني (مِنْ) (12) .
الثَّاني: التَّبيين (13) ؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:(13/321)
عَذِيرِي مِنْ عَذَارَى مِنْ أُمُورٍ سَكَنَّ جَوَانِحِي بَدَلَ الخُدُورِ (1)
ف (مِنْ) في البيت للتَّبيين؛ أي: ليست هؤلاء العذارى من النِّساء، وإنَّما هي مِنْ أمور الدَّهر وخطوبه.
وقد جاءت (مِنْ) للتَّبيين (2) أيضًا في قول المتنبِّي:
قَلَّدَتْنِي يَمِينُهُ بِحُسَامٍ أَعقَبَتْ مِنهُ واحِدًا أَجدَادُهْ (3)
أي: إنَّ الهند لم تطبع له نظيرًا يكون له ثانيًا، فقد أعقبت منه واحدًا، والتَّبيين هو أحد معاني (مِنْ) أيضًا المشهورة (4)
الثَّالث: التَّعليل (5) ؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
وَبِهِ يُضَنُّ عَلَى البَرِيَّةِ لا بِها وَعَليهِ منها لا عَلَيها يُوسَى (6)
ف (مِنْ) للتَّعليل؛ أي: من أجلها، ودلالة (مِنْ) على التَّعليل نصَّ عليه الإربلي، والمرادي، وابن هشام (7) .
الرَّابع: الزِّيادة؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
نَوَاخسَ الأطرَافِ للأكفَالِ يَكدْنَ يَنفُذْنَ مِنَ الأطَالِ (8)
فقد نصَّ (9) على أنَّ (مِنْ) في البيت زائدة، ونبَّه على الخلاف الواقع بين سيبويه والأخفش في زيادة (مِنْ) ؛ حيث إنَّ سيبويه (10) يشترط لزيادتها أن يكون ما قبلها غير موجب؛ أي أن يكون نفيًا، أو نهيًا، أو استفهامًا ب (هل) (11) نحو: ما قام من رجل، ولا تضرب من رجل، وهل جاءك من رجل. أمَّا الأخفش فيرى جواز زيادتها في الإيجاب (12) ، وبرأيه أخذ ابن سِيْدَه؛ حيث عدَّها زائدة في كلامٍ موجب، وأراه الرَّأي الرَّاجح؛ لثبوت السَّماع بذلك في النَّثر والنَّظم، أمَّا النَّثر؛ فنحو قول الله تعالى:
(ويُكَفِّر عَنكُم مِنْ سَيْئَاتِكُم ( [البقرة 271]
وأمَّا النَّظم؛ فكقول الشَّاعر (13) :
وكُنتُ أرَى كَالمَوتِ مِنْ بَينِ سَاعةٍ فَكَيفَ بِبَينٍ كَانَ مَوعِدهُ الحَشْرُ
وذكر ل (في) معنًى واحدًا؛ وهو: التَّعليل؛ وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:(13/322)
بِنتُم عَنِ العَينِ القَرِيحةِ فيكُمُ وسَكَنتُمُ وَطَنَ الفُؤَادِ الوَالِهِ (1)
فقال: " (فيكم) أي: من أجلكم،كما تقول: هجرت فيك، أي: من أجلك " (2) .
وذكر ل (حتَّى) أيضًا معنًى واحدًا؛ وهو معنى (إلى) (3) ، وذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
حَتَّامَ نَحنُ نُسَارِي النَّجْمَ في الظُّلَمِ وَمَا سُرَاهُ عَلَى خُفٍّ وَلا قَدَمِ (4)
وهذا من أشهر معانيها (5) .
المسألة الثَّانية: حذف الجار والمجرور
وهذا مِمَّا صرَّح به أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
وَبِهِ يُضَنُّ عَلَى البَرِيَّةِ لا بِهَا وعَلَيهِ منها لا عَلَيها يُوسَى (6)
حيث قال: " تقديره: لا بها عليه، فحذف (عليه) للعلم به " (7) ، وحذفهما إن دلَّ عليهما دليل كثيرٌ في العربيَّة (8) ؛ ومنه قول الله تعالى:
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيْئًا ( [123 البقرة]
أي: يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ فيه شيئًا (9) ، والله تعالى أعلم.
المسألة الثَّالثة: امتناع دخول حرف جرٍّ على حرف جرٍّ آخر
وقد صرَّح بامتناع ذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
فَجَازَ لَهُ حتَّى عَلَى الشَّمسِ حُكمُهُ وَبَانَ لَهُ حتَّى عَلَى البَدرِ مِيسَمُ (10)(13/323)
فقال: " وينبغي أن يكون الفعل منويًّا مع (حتَّى) كأنَّه قال: حتَّى جاز على الشَّمس، وحتَّى بان على البدر، أي (إلى أن) ، ولا تكون (حتَّى) هنا حرف غاية، وتكون داخلة على (على) ؛ لأنَّ (حتَّى) و (على) حرفان، ولا يدخل حرفٌ على حرف، فلا بدَّ من تقدير (حتَّى) ب (إلى أن) ، وإذا قدَّرتها ب (إلى أن) فقد حصل الفعل؛ لأنَّ (أن) لا بدَّ لها من فعل " (1) ، ومنع دخول حرف جرٍّ على حرف جرٍّ آخر ثابت عند النُّحاة؛ يقول ابن السَّرَّاج: " لا يجوز أن يدخل حرفٌ من هذه الَّتي ذكرت على حرفٍ منها؛ فلا يجوز أن تُدخل (الباء) على (إلى) ولا (اللاَّم) على (مِنْ) ولا (في) على (إلى) ولا شيئًا منه على آخر " (2) .
من باب الإضافة
المسألة الأولى: الإضافة من خواص الأسماء
وقد نصَّ على هذا أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
بَلَى يَرُوعُ بِذِي جَيشٍ يُجدِّلهُ ذَا مِثلِهِ في أَحَمِّ النَّقْعِ غِرْبِيبِ (3)
فقال: " وقوله: ذا مثله، أقام فيه الصِّفة مقام الموصوف؛ أي: ذا جيشٍ مثلِه، وحسُن حذف الموصوف هنا وإقامة الصِّفة مقامه لأمرين: أحدهما أنَّ (مثل) مضافة، فشاكلت بذلك الأسماء؛ لأنَّ الإضافة إنَّما هي للاسم، والآخر أنَّ لفظ الموصوف المحذوف وهو الجيش قد تقدَّم مظهرًا في قوله: بلى يروع بذي جيشٍ يجدِّله " (4) ، وعدُّ الإضافة من خواص الأسماء من الأمور المتفق عليها عند جمهور النُّحاة (5) .
المسألة الثَّانية: الإضافة وسيلة من وسائل تعريف الاسم
وقد نبَّه إلى ذلك عندما جعلها في منزلة (الألف واللاَّم) ؛ وذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
تُمسِي عَلَى أَيدِي مَوَاهِبِهِ هِيَ أَو بَقِيَّتُها أَو البَدَلُ (6)(13/324)
فقال: " أراد: أو بدلها، فجعل (الألف واللاَّم) عوضًا من الإضافة؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما للمعرفة " (1) ، ولا شكَّ في أنَّه يقصد بهذا الحكم " الإضافةَ المحضة " أمَّا نحو: (مالكَ الأرض) ممَّا إضافتُه غيرُ محضة في قول المتنبِّي:
ويَجهَلُ أَنِّي مَالِكَ الأرضِ مُعْسِرٌ وأنِّي عَلَى ظَهْرِ السِّمَاكَينِ رَاجِلُ (2)
فإنَّه رأى فيها ما رآه النُّحاة من أنَّها لا تُكسب المضاف تعريفًا ولا تخصيصًا (3) ؛ ولذا أعرب (مالكَ الأرضِ) حالاً من الضَّمير المتصل ب (أنِّي) ، وعقَّب بقوله: “ والنِّية فيه الانفصال؛ أي: مالكًا للأرض “ (4) ، وكأنَّه يشير بهذا إلى السَّبب الَّذي جعل المضاف لا يكتسب تعريفًا من المضاف إليه في مثل هذه الإضافة؛ وهو أنَّ ارتباط المضاف بالمضاف إليه ليس بقوي وإنَّما هما على نيَّة الانفصال.
المسألة الثَّالثة: بناء الظَّرف (فوقُ) على الضمِّ
فقد صرَّح (5) بأنَّ الظَّرف (فوقُ) مبنيٌّ على الضَّمِّ في قول المتنبِّي:
فَأضْحَى كَأنَّ السُّورَ مِن فَوقُ بَدْؤُهُ إلى الأَرضِ قَد شَقَّ الكَواكِبَ والتُّربَا (6)
وعلَّل لبنائه ب (حذف المضاف إليه) ، ولا شكَّ في أنَّه يقصد: حذفه مع إرادة معناه؛ لأنَّ هذا الظَّرف من الظُّروف الَّتي تُبنى إذا قُطعت عن الإضافة، فإذا ما أُضيفت، أو نُكِّرت؛ بحذف المضاف إليه دون إرادة لفظه، أو معناه، فإنَّها تُعرب (7) .(13/325)
وقد علَّل النُّحاة لبنائها بأنَّها لمَّا كانت مع ما تضاف إليه بمنزلة كلمةٍ واحدة؛ لذا فإنَّها لمَّا قُطعت عن الإضافة تنزَّلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبنيٌّ لا معرب (1) ، وبُنيت على حركة مع أنَّ الأصل في البناء أن يكون على السُّكون تمييزًا لها عمَّا كان ملازمًا للبناء، وليس له حالة إعراب؛ وذلك لفضل الحركة على السُّكون (2) ، واختير لها الرَّفع دون النَّصب والجرِّ؛ لأنَّه قد حُذف منها المضاف، وتضمَّنت معنى الإضافة، فعوِّضت من المحذوف بالضَّمة؛ لأنَّها أقوى الحركات، ثُمَّ إنَّ النَّصب والجرَّ يدخلها في حال الإعراب، فلو بُنيت على أحدهما لالتبس الإعراب بالبناء (3) .
المسألة الرَّابعة: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
وقد أشار إلى هذا في أكثر من موضع (4) ؛ فمثلاً عند شرحه لقول المتنبِّي:
ولَكِنَّهُنَّ حِبَالُ الحَيَاةِ وكَيدُ العُدَاةِ ومَيْطُ الأَذَى (5)
قدَّر: كيدُ العداة، وميطُ الأذى؛ ب: سببُ كيدِ العداةِ، وسببُ ميطِ الأذى، وقال: " فحذفَ المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه " (6) ، وكذلك عند شرحه لقول المتنبِّي:
إٍذَا امْتَلأَتْ عُيُوْنُ الْخَيْلِ مِنِّي فَوَيْلٌ لِلتَّيَقُظِ وَالْمَنَامِ (7)
نصَّ على أنَّ المتنبِّي أراد: إذا امتلأت عيون فرسان الخيل، فحذف المضاف (8) . وحذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه كثُر في كلامهم كثرةً دعت ابنَ جنِّي لأن يقول: " حذف المضاف في الشِّعر، وفصيح الكلام في عدد الرَّمل سعةً " (9) .
من باب إعمال المصدر
مسألة: إضافة المصدر إلى معموله
والمقصود بمعموله: إمَّا فاعله وإمَّا مفعوله، وقد مرَّت بابن سِيْدَه الصورتان في شعر المتنبِّي؛ فمن إضافة المصدر إلى فاعله قوله:
بِحُبِّ قَاتِلَتِي والشَّيبِ تَغْذِيَتِي هَوايَ طِفلاً وشَيْبِي بَالِغَ الحُلُمِ (10)(13/326)
حيث توقَّف عند قوله (تغذيتي) وقال: " الياء في (تغذيتي) تكون في موضع الفاعل، فيكون المفعول حينئذٍ محذوفًا؛ أي: تغذيتي نفسي، كما تقول: عجبت من ضرب زيدٍ عمرًا " (1) ، وكما أُضيف المصدر هنا إلى فاعله، وحُذف مفعوله، أُضيف في بيت المتنبِّي التَّالي إلى مفعوله، وحُذف فاعله؛ يقول:
مَلامُ النَّوَى في ظُلمِهَا غَايَةُ الظُّلْمِ لَعَلَّ بِهَا مِثْلَ الَّذي بِي مِنَ السُّقْمِ (2)
فقوله: ملامُ النَّوى، قدَّره ابن سِيْدَه ب: ملامي للنَّوى (3) ، وكذلك (فراقَ القوسِ) في قول المتنبِّي:
يُفَارِقُ سَهمُكَ الرَّجُلَ المُلاقِي فِرَاقَ القَوسِ ما لاقَى الرِّجَالا (4)
قدَّره ب: فراقَه القوسَ (5) ، ونصَّ في الموضعين على أنَّ المتنبِّي أضاف المصدر إلى مفعوله قياسًا على قول الله تعالى:
(لايَسْأمُ الإنسَانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيرِ ( [فُصِّلت 49]
لأنَّ تأويلها عند النُّحاة: من دعائه الخيرَ (6) ، والله تعالى أعلم.
من باب إعمال اسم الفاعل
مسألة: شرط (الاعتماد) لإعمال اسم الفاعل
وقد نصَّ على هذا الشَّرط عند شرحه لقول المتنبِّي:
لاَ نَعذُلُ المَرَضَ الَّذي بِكَ شَائِقٌ أَنتَ الرِّجَالَ وشَائِقٌ عِلاَّتِهَا (7)
فقال: " (شائقٌ) خبر مبتدأ مقدَّمٌ و (أنت) مبتدأ؛ أي: أنت شائقٌ الرِّجالَ وعلَلَها، ولا يجوز أن يكون (شائقٌ) مبتدأ و (أنت) فاعل ب (شائق) لأنَّ اسم الفاعل إنَّما يعمل عمل الفعل إذا كان [معتمدًا] (8) على شيءٍ قد عمل في الاسم قبله؛ أعني: كأن يكون خبرًا لمبتدأ، أو فاعلاً لفعل، أو صفة لموصوف، أو حالاً لذي حال، ونحو ذلك " (9) . وهو باشتراطه (الاعتماد) لإعمال اسم الفاعل يوافق رأي الجمهور (10) .
من باب (أفعل) التَّفضيل
المسألة الأولى: حذف (مِنْ) الجارة للمفضَّل عليه(13/327)
وهذا الحكم مختصٌّ به (أفعل) المجرَّد من (ال) والإضافة، فهو الَّذي تلحقه (مِنْ) جارةً للمفضَّل عليه، ولكنَّها قد تُحذف كما حُذفت في قول المتنبِّي:
أُغَالِبُ فِيكَ الشَّوقَ والشَّوقُ أَغلَبُ
وأَعجَبُ مِنْ ذَا الهَجرِ والوَصْلُ أَعجَبُ (1)
فقدَّرها ابن سِيْدَه ب: والشَّوقُ أغلبُ منِّي له، وقال: ” حَذفَ للعلم بما يعني؛ كقولنا: (الله أكبر) ، أي: من كلِّ شيء فحذف " (2) ، ثُمَّ استشهد بما استشهد به سيبويه في المسألة، وهو قول سُحيم بن وَثيل:
مَرَرتُ على وادِي السِّباعِ ولا أرَى كَوَادِي السِّباعِ حِينَ يُظْلِمُ وَادِيَا
أَقَلَّ بِهِ رَكْبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً وأَخْوَفَ إلاَّ مَا وَقَى اللهُ سَارِيَا
يقول سيبويه: " أراد: أقلَّ به الرَّكبُ تئِيَّةً منهم به، ولكنَّه حذف ذلك استخفافًا؛ كما تقول: أنت أفضلُ، ولا تقول: مِن أحد، وكما تقول: الله أكبرُ، ومعناه: الله أكبرُ مِن كلِّ شيء “ (3) .
المسألة الثَّانية: صياغة (أفعل) من الفعل الثُّلاثي
وهذا هو أهمُّ شرطٍ في الشُّروط الَّتي يجب توافرها في الفعل الَّذي يُصاغ منه (أفعل) التَّفضيل (4) ، وابن سِيْدَه ذكره مرَّتين، ولكنَّه في كلتا المرَّتين لم ينصَّ عليه كشرطٍ من شروط صياغة (أفعل) التَّفضيل، وإنَّما كان " يعتذر " للمتنبِّي عن صياغته (أفعل) من غير الثُّلاثي؛ حيث قال عند شرحه لقول المتنبِّي:
إِبْعَدْ بَعِدتَ بَيَاضًا لا بَيَاضَ لَهُ لأَنْتَ أَسوَدُ في عَينِي مِنَ الظُّلَمِ (5)(13/328)
“ أمَّا قوله: أسود في عيني من الظُّلم، فخطَّأه فيه قوم، قالوا: إنَّ فِعْلَ هذا على أكثر من ثلاثة أحرف، وهو (اسودَّ) فلا تقع المفاضلة إلاَّ بأشدَّ وأبين وغيرهما من الأفعال الثُّلاثية الَّتي تُصاغ؛ ليوصل بها إلى التَّعجُّب من الأفعال الَّتي على أكثر من ثلاثة، وهذا منهم غلط؛ ليست (أفعل) هنا للمفاضلة، ولا (مِنْ) متعلَّق بأسود على حدِّ تعلُّق (مِنْ) ب (أفضل) في قولك: زيدٌ أفضل من عمرو، وإنَّما هو كقولك: لأنت أسود معدودٍ من الظُّلم في عيني، ف (مِنْ) غير متعلِّقة بأسود كتعلُّق (مِنْ) ب (أفعل) الَّتي للمفاضلة، وإنَّما هي في موضع رفعٍ حالَّةً محلَّ الظَّرف بمنزلتها في قول الأعشى:
فلستَ بالأكثرِ منهمْ حصى وإنَّما العِزَّةُ للكاثر
ولا يجوز أن تكون (مِنْ) متعلِّقة ب (الأكثر) ؛ لأنَّ اللاَّم تعاقب (مِنْ) وإنَّما هي هنا بمنزلة الظَّرف “ (1) .
وكما اعتذر للمتنبِّي من هؤلاء القوم، اعتذر له من ابن جنِّي الَّذي أخذ عليه قوله:
وأَغرَبُ منْ عَنْقَاءَ في الطَّيرِ شَكْلُهُ وأَعْوَزُ منْ مُسْتَرفِدٍ منهُ يُحرَمُ (2)
حيث صاغ أفعل التَّفضيل (أعوزُ) من الفعل غير الثُُّلاثي (أعوزَ) (3) ، فقال ابن سِيْدَه: “ قال: أعوزُ، وإنَّما هو أشدُّ إعوازًا؛ لأنَّه جاء به على حذف الزَّائد، هذا قول أبي الفتح، وليس على حذف الزَّائد كما قال؛ لأنَّه يُقال: عازَه الأمر وأعوزَه، ف (أعوزُ) في بيت المتنبِّي على (عازَ) لا على (أعوزَ) وإنَّما يُتوهم حذف الزَّائد إذا لم يوجد عنه مندوحة؛ كقولهم: ما أعطاه للدِّرهم، وآتاه للجميل، وأولاه للمعروف، فإنَّ هذا كلَّه على حذف الزَّائد " (4) .
من باب النَّعت
المسألة الأولى: اشتراط كون الصِّفة مشتقَّة
فإذا جاءت جامدة أُوِّلت بالمشتق (5) ؛ وهذا ما فعله ابن سِيْدَه في (قُطْن) من قول المتنبِّي:(13/329)
رَمَانِي خِسَاسُ النَّاسِ مِنْ صَائِبِ استِهِ وآخَرُ قُطْنٌ منْ يَدَيهِ الجَنَادِلُ (1)
حيث إنَّه عندما أراد أن يعربها صفةً ل (آخرُ) ، و (قُطْنٌ) اسم ذاتٍ جامد، وهو ما عبَّر عنه ب (الجوهر) أوَّله ب (ليِّن) ليصحَّ النعتُ به (2) ، وقاسه على ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: مررت بسرجٍ خزٍّ صفته، أي: ليِّن، وقولهم: مررت بقاعٍ عرفجٍ كلِّه، أي: خشن (3) ، وإنَّما لزم أن تكون الصِّفة بالمشتق، أو الجاري مجراه؛ لأنَّ الغرض من الوصف هو الفرق بين مشتركين في الاسم، " والفرق إنَّما يحصل بأمرٍ عارض يوجد في أحد الشَّيئين أو الأشياء دون باقيها، وهذا إنَّما يكون في المشتقات " (4) .
المسألة الثَّانية: الصِّفة والموصوف كالشَّيء الواحد
وقد نصَّ على هذا الحكم لهما عندما فصلت (الواو) بينهما في قول المتنبِّي:
إذَا تَرَحَّلتَ عَنْ قَومٍ وقَد قَدَرُوا أَن لا تُفَارِقَهُم فَالرَّاحِلونَ هُمُ (5)
فإنَّ جملة (قد قدروا) حقُّها أن تُعرب صفةً للاسم النَّكرة (قوم) ، ولكنَّ ابن سِيْدَه أعربها حالاً كما مرَّ وقال: “ ولولا هذه (الواو) لكان أولى من ذلك أن تكون الجملة في موضع الصِّفة للنَّكرة، فأمَّا مع (الواو) فلا تكون صفة؛ لأنَّ الصِّفة والموصوف كالشَّيء الواحد، فإذا عطفتَ الصِّفة على الموصوف، فكأنَّك عطفت بعض الاسم على بعض، وهذا ما لا يسوغ، وأمَّا الحال فمنفصلة من ذي الحال فجاز الفصل بينهما لذلك " (6) ، وقد نصَّ على هذا الأمر أيضًا الفرَّاء، وابن عصفور، وابن أبي الرَّبيع (7) .
المسألة الثَّالثة: حذف الموصوف وإقامة الصِّفة مقامه
وقد ذكر هذا الحكم مرَّتين؛ إحداهما بالتَّصريح، والأخرى بالتَّلميح، فأمَّا المرَّة الَّتي صرَّح فيها بالحكم فهي عند شرحه لقول المتنبِّي:
بَلَى يَرُوعُ بِذِي جَيشٍ يُجَدِّلُهُ ذَا مِثلِهِ في أَحَمِّ النَّقْعِ غِربِيبِ (8)(13/330)
حيث قال: " قوله: ذا مثله، أقام فيه الصِّفة مقام الموصوف؛ أي: ذا جيشٍ مثله، وحسُن حذف الموصوف هنا وإقامة الصِّفة مقامه لأمرين؛ أحدهما: أنَّ (مثل) مضافة، فشاكلت بذلك الأسماء؛ لأنَّ الإضافة إنَّما هي للاسم، والآخر: أنَّ لفظ الموصوف المحذوف وهو الجيش قد تقدَّم مُظهرًا في قوله: بلى يروع بذي جيشٍ يُجدِّله " (1) .
وأمَّا المرَّة الأخرى الَّتي لمَّح فيها بالحكم فهي عند شرحه لقول المتنبِّي:
لاَ تَلقَ أَفرَسَ مِنْكَ تَعرِفُهُ إِلاَّ إِذا ضَاقَتْ بِكَ الحِيَلُ (2)
حيث قال: " قوله: (أفرسَ منك) صفة موضوعة موضع الاسم؛ أي: رجلا أفرسَ منك وحسن وضع الصِّفة هنا موضع الاسم؛ لأنَّها قد تقوَّت بقوله (منك) " (3) . وحَذْفُ الموصوف وإقامة الصِّفة مقامه من الأمور المتفق عليها عند جمهور النُّحاة (4) .
من باب عطف النَّسق
مسألة: طريقة العطف على ضمير الرَّفع المتصل
وطريقته تكون إمَّا بتأكيده بضمير رفعٍ منفصل؛ نحو: جئتُ أنا وزيدٌ، وإمَّا بالفصل بينهما [أي: بين المتعاطفين] بأيِّ فاصلٍ؛ نحو قول الله تعالى:
(لَوْ شَاءَ الله ُمَا أشْرَكْنَا وَلا آباؤنَا ( [الأنعام 148]
ولذا عندما قال المتنبِّي:
يُبَاعِدْنَ حِبًّا يَجْتَمِعْنَ ووَصْلُهُ فَكَيفَ بِحِبٍّ يَجتَمِعْنَ وَصَدُّهُ (5)
بعطفِ (وصلُه) و (وصدُّه) على ضمير الرَّفع المتصل في (يجتمعْن) من دون توكيده، أو فصله عن المعطوف بأيِّ فاصلٍ، عدَّ ابن سِيْدَه هذا العطف ضرورة، كالضَّرورة الَّتي ارتكبها عمر بن أبي ربيعة حين قال:
قُلتُ إذْ أقبَلَتْ وزُهرٌ تَهَادَى كَنِعَاجِ المَلا تَعسَّفنَ رَملا (6)(13/331)
حيث عطف (زُهر) على ضمير الرَّفع المستتر في (أقبلتْ) من دون توكيده، أو فصله، وقال: " ولو أسعده الوزن بتأكيد الضَّمير؛ فقال: هي، لكان الرَّفع لا ضرورة فيه " (1) ، وهو بهذا يوافق رأي البصريين (2) ، أمَّا الكوفيون فقد جوَّزوا (3) العطف على الضَّمير المرفوع المتصل دون فصلٍ في اختيار الكلام، واحتجُّوا ببيت عمر بن أبي ربيعة السَّابق، ووافقهم ابن مالك؛ حيث قال بعد أن ذكر البيت: " رفع زهرًا عطفًا على الضَّمير المستكن في (أقبلتْ) مع التَّمكُّن من جعله مفعولاً معه " (4) ، كما احتجَّ بما حكاه سيبويه من قول بعضهم: " مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ " (5) ؛ حيث عطف (العدمُ) دون فصلٍ، ودون ضرورة على ضمير الرَّفع المستتر في (سواء) ، وبقول علي بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) : كنت أسمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: “ كنتُ وأبوبكرٍ وعمرُ، وفعلتُ وأبو بكرٍ وعمرُ، وانطلقتُ وأبو بكرٍ وعمرُ " (6) .
وهذه الشَّواهد وإن كانت تعزِّز قول الكوفيين، وابنَ مالك إلاَّ أنَّه ينبغي الحكم بقلَّة ما ورد منها، وعدم القياس عليها.
من باب البدل
مسألة: حكم إبدال الاسم الظَّاهر من ضميري المتكلِّم والمخاطب
وقد نصَّ على منعه بقوله: " المخاطب لا يُبدل منه البتَّة “ (7) ، وعلَّل سبب المنع بقوله: “ لأنَّ المخاطب والمخْبِر عن نفسه قد أمِن التباسهما، فقد أغنى ذلك عن الإبدال منهما؛ إذ البدل إنَّما هو للبيان “ (8) ، ولذا أعرب كلمة (هباتُك) في قول المتنبِّي:
وَأَنَّكَ لا تَجُودُ على جَوَادٍ هِبَاتُكَ أَنْ يُلَقَّبَ بِالجَوادِ (9)(13/332)
أعربها: فاعلاً للفعل (تجود) وقال: “ ولا تكون التَّاء في (تجود) للمخاطبة، وتكون (هباتُك) بدلاً من الضَّمير الَّذي في (تجود) “ (1) ، وهو في هذا يوافق سيبويه، ويأخذ برأيه (2) ؛ إذ كما رفض الَّذي رفضه سيبويه من إبدال الظَّاهر من ضمير المخاطب في بدل كلٍّ من كلٍّ، قَبِلَهُ في بدل الجزء من كلٍّ؛ وصرَّح بذلك أثناء شرحه لقول المتنبِّي:
جَرَى الخُلْفُ إِلاَّ فيكَ أَنَّكَ وَاحِدٌ وأَنَّكَ لَيْثٌ، والمُلُوكُ ذِئَابُ (3)
إذ أعرب المصدر المؤوَّل من (أنَّكَ واحدٌ) بدلاً من (الكاف) في (فيك) وقال: “ إنَّما منع سيبويه في هذا بدل الجملة من الجملة؛ أعني: الكلَّ من الكلِّ الَّذي هو هو، فأمَّا بدل الجزء من الكلِّ، فغير ممتنع؛ كقولك: أعجبْتَني وجهُك، وعجبت منك صبرِك “ (4) ، وهذا الَّذي نصَّ عليه هو المشهور من أقوال العلماء (5)) ، بل قد حكى ابن يعيش الإجماع على جوازه في بدل الاشتمال (6) ، أمَّا الأخفش (7) والكوفيون (8) فقد جوَّزوا الإبدال من ضميري المتكلِّم والمخاطب مطلقًا؛ أي: في بدل كلٍّ من كلٍّ، وبدل بعضٍ من كلٍّ؛ فصحَّ على مذهبهم: رأيتك زيدًا، على أنَّ (زيدًا) بدل من (الكاف) ورأيتني عمرًا، على أنَّ (عمرًا) بدل من (الياء) ، ورأي الجمهور هو الرَّاجح في المسألة " لأنَّ الغرض من البدل البيان، وضميري المخاطب والمتكلِّم في غاية الوضوح، فلم يحتج إلى بيان " (9)
من باب التَّرخيم
مسألة: ترخيم المضاف(13/333)
التَّرخيم هو: " حذف أواخر الأسماء الأعلام المفردة، ولا يكون إلاَّ في النِّداء ... ولا يُرخَّم إلاَّ ما استحقَّ البناء على الضَّمِّ مِمَّا عدد حروفه أكثر من ثلاثة أحرف " (1) ، وواضحٌ من تعريفه أنَّه لا يكون إلاَّ في النِّداء، ولا يدخل الأسماء المضافة، وهذا هو رأي البصريين (2) ، أمَّا الكوفيون فلم يمنعوا ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه (3) ، وابن سِيْدَه لمَّا كان آخذًا برأي البصريين عدَّ ترخيم (عمرو حابِ) في قول المتنبِّي:
مَهْلاً أَلا لِلَّهِ ما صَنَعَ القَنَا في عَمْرِو حَابِ وَضَبَّةَ الأَغتَامِ (4)
ضرورة (5) ؛ لأنَّه قدَّره ب (عمرو بن حابس) ؛ أي إنَّه مضاف قد رُخِّم في غير نداء؛ أي فقدَ شرطي قياسيَّة التَّرخيم.
أمَّا رأي الكوفيين فيضعِّفه أنَّ التَّرخيم إمَّا أن يكون في المضاف، أو في المضاف إليه، وترخيم المضاف يقتضي حذف أوسط الكلمة؛ لأنَّ المضافَ إليه تتمته، وترخيم المضاف إليه لا يستقيم؛ لأنَّه ليس بمنادى (6) .
من باب أسماء الأفعال
مسألة: عمل (بَلْهَ)
ولها عملان؛ النَّصب: وذلك إذا عُدَّت اسم فعلٍ بمعنى: دعْ واتركْ، فإنَّ ما بعدها يكون منصوبًا بها، والجرُّ: وذلك إن عُدَّت مصدرًا مضافًا إلى ما بعده، فيكون ما بعدها مجرورًا على أنَّه مضافٌ إليه (7) ، وقد صرَّح ابن سِيْدَه بعمليها هذين عند شرحه لقول المتنبِّي:
أَقَلُّ فَعَالِي بَلْهَ أَكثَرَهُ مَجدُ وذَا الجِدُّ فِيهِ نِلتُ أم لم أَنَلْ جَدُّ (8)
فقال: " (بَلْهَ) يُنصب بها ويُجر، النَّصب على أنَّه اسمٌ للفعل ك (رويد) ، والجرُّ على أنَّه مصدر، وإن لم يكن له فعل، فقد وجدنا مصدرًا دون فعل ك (ويل) وأخواتها " (9) .
من باب ما لا ينصرف
مسألة: منع الاسم الأعجمي من الصَّرف
وقد نصَّ على هذا لمَّا شرح قول المتنبِّي:(13/334)
وَكَأَنَّما عِيسَى بنُ مَريَمَ ذِكرُهُ وكَأَنَّ عَازَرَ شَخْصُهُ المقْبُورُ (1)
فقال: " وترك صرف (عازرَ) لأنَّه أعجمي " (2) ، ويعني بترك الصَّرف عدم التَّنوين؛ لأنَّ الاسم هنا مستحقٌّ له، ولكنَّه لم يُنوَّن للعلميَّة والعُجمة، وهذا هو رأي الجمهور فيه (3) .
وبهذه المسألة أكون قد أتيت على المسائل النَّحويَّة الَّتي صرَّح ابن سِيْدَه برأيه فيها خلال شرحه لمشكل شعر المتنبِّي، والَّتي أكَّدت على أنَّ الرَّجل لم يكن في النَّحو بأقلَّ ممَّا هو عليه في اللُّغة، وقد صدق حين أشاد بنفسه ذاكرًا اهتماماته الأدبيَّة والفلسفيَّة واللُّغويَّة والمنطقيَّة قائلاً: " إنِّي أجد علمَ اللُّغة أقلَّ بضائعي، وأيسر صنائعي إذا أضفته لما أنا به من علم حقيق النَّحو، وحوشي العروض، وخفي القافية، وتصوير الأشكال المنطقيَّة، والنَّظر في سائر العلوم الجدليَّة " (4) .
أمَّا عن أهم سمات منهجه في تلك المسائل؛ فالَّذي ظهر منها مجرَّد إشارات، ولكن يمكن عدُّها علامات على أمورٍ، من أهمِّها:
استطاعته أن يقدِّم آراءه النَّحويَّة بعباراتٍ سهلةٍ واضحة؛ لا لبس فيها، ولا غموض.
تأثُّره بآراء البصريين في الغالب الأعم، وخصوصًا سيبويه.
اتباعه مسلك البصريين في القياس؛ حيث إنَّه لم يستشهد إلاَّ بالشَّائع المعروف.
انتهاجه في العلَّة المنهج التَّعليمي الَّذي يُقصد به المتعلِّم في الدَّرجة الأولى.
وأخيرًا أرجو الله عزَّ وجلَّ أن أكون قد وفقت في أن أضيء جانبًا ولو كان محدودًا من جوانب علم النَّحو عند هذا العالم الكبير، وأن أكون بعرضي لتلك المسائل، وربطها بشعر المتنبِّي قد أضفت للدَّرس النَّحوي شواهد شعريَّة جديدة لأحد المولَّدين البارزين، كما أرجوه عزَّ اسمه أن يهيأ لكتب ابن سِيْدَه الأخرى مَن يجمع ما تناثر فيها من آرائه النَّحويَّة الأخرى، فإنَّها جديرةٌ بذلك، وعلى الله تعالى قصد السَّبيل.(13/335)
الحواشي والتعليقات
انظر ترجمته في: فهرسة ابن خير 356 - 357؛ إنباه الرُّواة 2/225 - 27؛ إشارة التَّعيين 210 - 211؛ مرآة الجنان 3/83؛ البداية والنِّهاية 12/95؛ البلغة 148؛ بغية الوعاة 2/143 - 144؛ شذرات الذَّهب 3/305 - 306 تراجم الأعلام 4/263 - 264؛ كشف الظنون 961، 1616، 1617، 1639، 1997؛ نفح الطِّيب 4/351؛ معجم المؤلِّفين 7/36.
انظر: كشف الظُّنون 1209.
إنباه الرُّواة 2/225.
عدا العبارة الَّتي قالها السُّيوطي في البغية 2/143؛ وهي أنَّه: “ كان حافظًا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنَّحو، واللُّغة والأشعار، وأيام العرب، وما يتعلَّق بها ".
شرح المشكل 188، وانظر: الكتاب 1/121؛ اللُّباب 1/474؛ الكُنَّاش 1/241 - 242؛ التَّذييل والتَّكميل 2/252؛ الهمع 1/226.
انظر شرح البيت في: شرح ديوان المتنبِّي للعُكبري 3 /16؛ العرف الطيِّب في شرح ديوان أبي الطيِّب لليازجي 273.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4 /192؛ العرف الطيِّب 21.
شرح المشكل 156، وانظر المسألة في: الكتاب 1/130 – 131؛ معاني القرآن للفرَّاء 3/266، 285؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/117، 154؛ البسيط 1/303.
انظر: شرح المشكل 188.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/89؛ العرف الطيِّب 290.
انظر: الكتاب 1/379؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/466؛ المقتضب 3/275، 4/217 شرح الكتاب للسِّيرافي 1/118 – 119؛ شرح اللُّمع 1/317؛ المرتجل 302؛ التَّوطئة 194؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/716، 986؛ شرح الكافية للرَّضي 1/471 البسيط 1/308.
انظر: شرح المشكل 133.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/214؛ العرف الطيِّب 172، والخصيبي هو الممدوح.(13/336)
انظر: اللُّباب 2/119؛ شرح المفصَّل 3/142؛ التَّوطئة 167؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/724؛ المقرَّب 1/59؛ البسيط 1/290؛ ارتشاف الضَّرب 1/527 شرح اللَّمحة البدريَّة 1/270 وعبارته: “ الأُلى، وتكون بغير (واو) والأشهر فيها القصر.. . وقد تُمدُّ ".
انظر: شرح المشكل 78.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/258؛ العرف الطيِّب 87.
انظر: الكتاب 1/269؛ معاني القرآن للفرَّاء 3/82؛ معاني القرآن للأخفش 1/37؛ معاني القرآن للزَّجَّاج 5/45؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 3/220؛ المسائل البغداديَّات 262؛ شرح ملحة الإعراب 193؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/554؛ البيان 2/386؛ شرح المفصَّل 4/3، 8، 108؛ لباب الإعراب 177.
انظر: شرح المشكل 337.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/305؛ العرف الطيِّب 598.
انظر نسبة الرَّأي إليهم في: المغني 1/54؛ المساعد 1/200، وقد ردَّه السَّمين الحلبي عليهم " بأنَّه لو كانت (ال) عوضًا من الضَّمير لما جُمع بينهما، وقد جُمع بينهما؛ قال النَّابغة:
... رَحِيبٌ قطابُ الجيبِ منْها رَفِيقةٌ بجسِّ النَّدَامَى بَضَّة المتَجرِّدِ
... فقال: الجيب منها “ انظر: الدرَّ المصون 1/215.
انظر: مشكل إعراب القرآن 2/799؛ الكشَّاف 4/215 – 216؛ البحر المحيط 10/401.
انظر: جواهر الأدب 394 – 395؛ الجنى 198- 199؛ تعليق الفرائد 2/361.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/274؛ العرف الطيِّب 534.
شرح المشكل 306.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/225؛ العرف الطيِّب 189.
شرح المشكل 118.
انظر: الكتاب 1/22؛ المقتضب 3/222؛ الأصول 1/65؛ الإيضاح العضدي 97؛ اللُّمع 110؛ شرح اللُّمع 1/34؛ المقتصد 1/305 – 306؛ شرح عيون الإعراب 94؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/193؛ أسرار العربيَّة 69؛ نتائج الفكر 76؛ التَّوطئة 216؛ البسيط 1/537.(13/337)
انظر: شرح المشكل 356، والجوهر والعَرَض من مصطلحات المتكلِّمين الَّتي اعتنى بها نحاة الأندلس، يقول المحقِّق الدكتور الدَّاية في مقدِّمة التَّحقيق 12 عند حديثه عن ابن سِيْدَه " واستفاد من خلفيته الثَّقافيَّة الفلسفيَّة والمنطقيَّة وحكَّمها في دراسة شعر المتنبِّي، وصبغ كتابه بتلك الصِّبغة "، وقد وجدت السُّهيلي وهو من نحاة الأندلس استخدم أيضًا هذين المصطلحين في كتابه (نتائج الفكر) انظر: 204، 308.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/393؛ العرف الطيِّب 622، والنَّشر: الرَّائحة الطيِّبة، والفهر: الحجر يُسحق به الطِّيب، والمداك: الصِّلاية الَّتي يُسحق عليها.
شرح المشكل 356.
انظر: الكتاب 1/108.
شرح المشكل 356.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 3/272؛ مجاز القرآن 1/65؛ معاني القرآن للأخفش 1/47 – 48؛ معاني القرآن للزَّجَّاج 1/246؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 3/720؛ سِمْط اللآلي 1/465؛ البيان 1/139؛ البحر المحيط 2/132؛ الدرَّ المصون 2/245.
انظر: شرح المشكل 118.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/225؛ العرف الطيِّب 189.
انظر: شرح المشكل 219.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/80؛ العرف الطيِّب 351، والعي: العجز عن الكلام، والخطل: فساد النُّطق.
انظر: الكتاب 1/41، 64؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/104 – 105؛ المقتضب 4/128 – 129؛ الأصول 1/64؛ الإيضاح العضدي 43؛ اللُّمع 110 - 111؛ شرح اللُّمع 1/35؛ شرح اللُّمع للواسطي 31؛ المقتصد 1/278؛ شرح عيون الإعراب 95؛ شرح ملحة الإعراب 148؛ أسرار العربيَّة 73؛ التَّوطئة 221 أمالي ابن الحاجب 3/79؛ المقرَّب 1/83؛ البسيط 1/554
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/266؛ العرف الطيِّب 303، والحِمام: الموت والمصفود: المقيَّد.
انظر: شرح المشكل 195.(13/338)
انظر: الأصول 1/64؛ الإيضاح العضدي 44؛ اللُّمع 110 - 111؛ شرح اللُّمع 1/35؛ شرح اللُّمع للواسطي 31؛ المقتصد 1/279؛ شرح ملحة الإعراب 149؛ أمالي ابن الحاجب 3/79؛ المقرَّب 1/83.
انظر: شرح المشكل 108.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/202؛ العرف الطيِّب 154، وحُيِّن: أي أهلك.
انظر: الكتاب 1/165 – 166؛ الأصول 1/63؛ الإيضاح العضدي 48؛ شرح اللُّمع 1/36؛ المقتصد 1/274 - 275؛ شرح ملحة الإعراب 148؛ أسرار العربيَّة 73؛ المقرَّب 1/83؛ شرح الكافية للرَّضي 1/237؛ البسيط 1/547 - 548؛ ارتشاف الضَّرب 2/54.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/36؛ العرف الطيِّب 30.
شرح المشكل 49.
انظر: الكتاب 1/98، 208؛ الإيضاح العضدي 34، 201؛ المقتصد 1/240 681؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/104 – 105؛ نظم الفرائد 64؛ شواهد التَّوضبح والتَّصحيح 110.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/325؛ العرف الطيِّب 261.
شرح المشكل 169.
ينقل ابن الشَّجري في أماليه 1/299، والعُكبري في شرحه لديوان المتنبِّي 3/326 عن ابن جنِّي عند شرحه للبيت أنَّه قال: " كلَّمته [أي: المتنبِّي] وقت القراءة عليه، فقلت له: بأيِّ شيءٍ تتعلَّق (الباء) من (بأن) ؟ فقال: بالمصدر الَّذي هو (وفاؤكما) فقلت له: وبمَ ارتفع (وفاؤكما) ؟ فقال: بالابتداء، فقلت: وما خبره؟ فقال: كالرَّبع، فقلت: وهل يصحُّ أن تُخبر عن اسمٍ وقد بقيت فيه بقيَّة، وهي (الباء) ومجرورها؟ فقال: لا أدري ما هو.. "، وفي الخصائص 2/402 معناه، وقد عدَّه الجرجاني في دلائل الإعجاز 83 " من فساد النَّظم "، وأدرجه ابن هشام في المغني 2/541 تحت باب في ذكر الجهات الَّتي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها ، أمَّا ابن الحاجب فقد دافع عن المتنبِّي والتمس لقوله عدَّة مخارج، انظر: أماليه 3/109 – 110.(13/339)
أظنُّه قد تفرَّد بهذه التَّسمية ل) كان (؛ لأنَّي لم أجدها عند غيره من النُّحاة.
انظر: شرح المشكل 294.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/246؛ العرف الطيِّب 514.
انظر: الكتاب 1/21.
ممَّن نصَّ على مجيء (كان) تامَّة: الفرَّاء في معانيه 1/186 – 187، والمبرِّد في المقتضب 4/95 – 96، وابن السَّرَّاج في الأصول 1/91، والزَّجَّاجي في الجمل 49، والفارسي في المسائل البغداديَّات 113، وابن جنِّي في اللُّمع 121، والصَّيمري في التَّبصرة والتَّذكرة 1/191، وابن برهان في شرح اللُّمع 1/48، والواسطي في شرح اللُّمع 39، والحريري في شرح ملحة الإعراب 244، وابن الشَّجري في أماليه 1/52، 2/30، والأنباري في أسرار العربيَّة 134، والشَّلوبين في التَّوطئة 225، وابن عصفور في المقرَّب 1/92، وأبوحيَّان في ارتشاف الضَّرب 2/77
انظر: البسيط 2/738؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 2/865.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/208؛ العرف الطيِّب 131، والمرجل: القدر، والأجدل: الصَّقر.
شرح المشكل 98 – 99، وانظر: الكتاب 1/133.
هو العباس بن مرداس، والبيت في ديوانه 87، وهو من شواهد: الكتاب 1/148؛ الإيضاح العضدي 109؛ الخصائص 2/381؛ شرح اللُّمع 1/243؛ الإنصاف 1/71؛ شرح المفصَّل 2/99؛ المقرَّب 1/259؛ شرح الكافية الشَّافية 1/418؛ شرح الكافية للرَّضي 2/146، وقد أفرد ابن شُقير بابًا في كتابه المحلَّى 85 سمَّاه (النَّصب بإضمار " كان ") .
انظر: الكتاب 1/293 – 294؛ الأصول 2/254؛ معاني الحروف 129، 130 المنصف 3/116؛ الإنصاف 1/71؛ شرح المفصَّل 2/99، 8/122؛ الجنى 333، 528؛ التَّصريح 1/194، 195.(13/340)
من الَّذين صرَّحوا بأنَّها الأمُّ في بابها: المبرِّد في المقتضب 3/ 167، وابن بابشاذ في شرح المقدِّمة المحسبة 2/349، والعُكبري في اللُّباب 1/165، وابن يعيش في شرح المفصَّل 7/97، وابن جمعة في شرح ألفيَّة ابن معطي 2/864.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/139؛ العرف الطيِّب 434.
انظر: شرح المشكل 260.
انظر: الكتاب 1/280، 286؛ المقتضب 4/109؛ الأصول 1/229؛ المحلَّى 14 علل النَّحو 235؛ اللاَّمات للزَّجَّاجي 136؛ اللُّمع 124؛ شرح اللُّمع للواسطي 47 المقتصد 1/443؛ شرح عيون الإعراب 109؛ شرح المقدِّمة المحسبة 1/216؛ شرح ملحة الإعراب 236؛ الإنصاف 1/176؛ التَّوطئة 231؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/961؛ المقرَّب 1/106؛ البسيط 2/768؛ ارتشاف الضَّرب 2/128.
انظر: الإفصاح 281 - 282؛ منثور الفوائد 59؛ المفصَّل 173؛ شرح المفصَّل 3/114؛ الكُنَّاش 1/259؛ المغني 2/489 - 493.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/156؛ العرف الطيِّب 198، والنَّبِر: دويبة تلسع الإبل فيُزم موضع لسعها
شرح المشكل 127، ولعلَّ قوله الأوَّل؛ وهو أنَّ (نوالاً) اسم (كأنَّ) هو الأقوى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى تقدير محذوف، و " كلامٌ بلاحذف أحسن من كلامٍ بحذف ". البسيط 2/834.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/158؛ العرف الطيِّب 234.
شرح المشكل 155.
انظر: الكتاب 1/35 - 36.
انظر: ارتشاف الضَّرب 2/133 - 134.
المقتضب 4/99؛ الجمل للزَّجَّاجي 49 - 50؛ الإيضاح العضدي 103 - 104 شرح المقدِّمة المحسبة 2/353؛ المفصَّل 133؛ التَّبصرة والتَّذكرة 1/192؛ أسرار العربيَّة 135؛ الهادي في الإعراب 68؛ شرح المفصَّل 3/114 - 116؛ شرح الكافية الشَّافية 1/235؛ شرح الكافية للرَّضي 2/28؛ فاتحة الإعراب 110؛ الملخَّص 1/214؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/649.(13/341)
انظر: المقتضب 4/99؛ الأصول 1/232؛ المقتصد 1/421؛ التَّبصرة والتَّذكرة 1/193؛ منثور الفوائد 37؛ الإيضاح في شرح المفصَّل 1/472.
انظر: المقتصد 1/421؛ الإيضاح في شرح المفصَّل 1/472؛ الكُنَّاش 1/259 - 260.
انظر: الكتاب 1/385؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/106؛ المقتضب 3/277؛ الأصول 2/121؛ المقتصد 1/499؛ منثور الفوائد 30؛ المفصَّل 262؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/57؛ شرح المفصَّل 7/88؛ تسهيل الفوائد 73؛ شرح الكافية للرَّضي 4/169؛ فاتحة الإعراب 187؛ المغني 518؛ المساعد 1/372؛ شفاء العليل 1/402.
انظر: الكتاب 1/385؛ المسائل المنثورة 110؛ شرح عيون كتاب سيبويه 178.
انظر: منثور الفوائد 30؛ شرح المفصَّل 7/88؛ شرح الكافية للرَّضي 2/285.
انظر: منثور الفوائد 30؛ شرح المفصَّل 7/88؛ فاتحة الإعراب 187؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/517.
انظر: شرح ألفيَّة ابن معطي 1/517.
انظر: شرح الكافية الشَّافية 2/564؛ البحر المحيط 5/308؛ المساعد 1/372؛ شفاء العليل 1/402.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/191؛ العرف الطيِّب 28، والهبوة: الغبار.
شرح المشكل 43.
انظر: الكتاب 1/120.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/353؛ العرف الطيِّب 79، والمنوطة: المعلَّقة.
في ديوانه، وروايته فيه: فويقَ جبيلٍ شامخِ الرأسِ لم تكنْ لتبلغهُ حتَّى تكلَّ وتعْملا
نسب السُّيوطي في الهمع 6/130 القولَ بهذا النَّوع من التَّصغير إلى الكوفيين، والَّذي يظهر من أقوال البصريين أنَّهم يقولون به. انظر: كتاب الشِّعر 2/391؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/256 – 257؛ الإنصاف 1/138؛ شرح الشَّافية 1/191.
شرح المشكل 74.
الكتاب 1/19، وانظر: المقتضب 3/121.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/190؛ العرف الطيِّب 40.
شرح المشكل 56.(13/342)
انظر: المقتضب 3/282 - 283؛ مجالس العلماء20؛ المقتصد 1/215؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/131، 254، 2/86؛ التَّوطئة 161؛ شرح المقدِّمة الكافية 1/332؛ توضيح المقاصد 2/8؛ التَّصريح 1/274؛ الهمع 2/258؛ شرح الأشموني 2/127 فتح الرَّبِّ المالك 320؛ حاشية الصَّبان 2/48.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/379؛ العرف الطيِّب 401، والفلا: الصَّحراء، وأحداثها: أي صغارها، والقشاعم: المسنَّة منها.
شرح المشكل 240، وانظر: الخصائص 2/416؛ الصِّحاح 1/220.
انظر: الكتاب 1/235 – 236؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/125 – 126؛ المقتضب 2/144، 3/349، 4/59؛ الأصول 1/173؛ ضرورة الشِّعر 211 - 212؛ اللُّمع 116؛ شرح اللُّمع 1/42؛ شرح اللُّمع للواسطي 36؛ شرح ملحة الإعراب 159 - 160؛ منثور الفوائد 52؛ نتائج الفكر 168؛ التَّوطئة 162؛ المقرَّب 1/302؛ البسيط 1/264؛ توضيح المقاصد 2/9؛ التَّصريح 1/277؛ البهجة المرضيَّة 15؛ شرح الأشموني 2/128؛ فتح الرَّبِّ المالك 321؛ حاشية الصَّبان 2/50.
انظر: شرح المشكل 277.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/281؛ العرف الطيِّب 471.
انظر: الكتاب 1/19؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/119؛ معاني الحروف 37؛ المسائل البغداديَّات 172؛ سرَّ صناعة الإعراب 1/141؛ شرح عيون كتاب سيبويه 44؛ شرح اللُّمع 1/47؛ المقتصد 1/376؛ شرح اللُّمع للواسطي 60؛ الإفصاح 200؛ التَّوطئة 247؛ شرح الكافية للرَّضي 2/328؛ البسيط 1/463، 2 855؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/396؛ رصف المباني 226؛ الجنى الدَّاني 49، وقد حكى السَّمين الحلبي عن بعضهم القولَ بأنَّ) كفى (اسم فعلٍ، وخطَّأه. انظر: الدرَّ المصون 3/586
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/115؛ العرف الطيِّب 94.(13/343)
أمَّا العُكبري فقد عدَّه اسمًا موصولاً، والنَّاصب له الفعل (تحسد) ؛ لأنَّ (ركب) من صلة (أيَّ) ، وأراه الرأي الرَّاجح.
شرح المشكل 84.
انظر: لإيضاح العضدي 65؛ الإفصاح 310؛ البسيط 1/276؛ الهمع 3/10.
انظر: اللُّباب 2/132 - 133.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/140؛ العرف الطيِّب 497.
شرح المشكل 286.
انظر: الكتاب 1/16 – 17؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/395؛ المقتضب 2/321؛ الأصول 1/178؛ شرح أبيات سيبويه للنَّحَّاس 42؛ الجمل للزَّجَّاجي 28؛ شرح الكتاب للسِّيرافي 1/310 - 311؛ الإيضاح العضدي 173 - 174؛ المحتسب 1/51؛ الصَّاحبي 389؛ التَّبصرة والتَّذكرة 1/110؛ شرح اللُّمع 1/122 المقتصد 1/613؛ شرح عيون الإعراب 479؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/285؛ نتائج الفكر 330؛ التَّوطئة 205؛ شواهد التَّوضبح والتَّصحيح 190؛ البسيط 1/422؛ الهمع 5/ 17 - 18.
شرح المشكل 286.
البسيط 1/423.
هذا مذهب الجمهور. انظر: الكتاب 1/16؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/395؛ مجاز القرآن 1/229؛ معاني القرآن للأخفش 2/534؛ تأويل مشكل القرآن 229؛ المقتضب 2/320، 342، 4/330؛ معاني القرآن للزَّجَّاج 2/380؛ الأصول 1/177 - 178؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 2/154؛ المسائل العضديَّات 99؛ مشكل إعراب القرآن 1/332؛ البيان 1/376، ولابن الحاجب في المسألة رأيٌ مخالف؛ فقد نصَّ في أماليه 4/97 - 98 على أنَّ ما ورد في الآية الكريمة: " صحَّ من وجهين: أحدهما - أنَّ) اختار (تارةً يتعدَّى بنفسه، وتارةً بحرف الجر كقولك: استغفرت الله الذَّنب، ومن الذَّنب، فليست) من (فيه محذوفة، وإنَّما هي أحد اللُّغتين، والآخر - أنَّه معدَّى بنفسه، وجاءت) من (على سبيل الزِّيادة لا على أنَّه معدَّى ب) من (، ثُمَّ حُذفت؛ كقولك: ما ضربت أحدًا، وما ضربت من أحد “(13/344)
انظر: الأصول 1/177؛ المقتصد 1/614؛ الدُّرَّ المصون 5/475.
انظر: انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/359؛ العرف الطيِّب 79.
شرح المشكل 76.
يقول ابن مالك: وعدِّ لازِمًا بحرفِ جرِّ وإنْ حُذِف، فالنَّصب للمنجرِّ
نقلاً، وفي أنَّ وأنْ يطَّرِد معَ أمْنِ لَبْسٍ: كعجِبْتُ أنْ يدُوا
انظر: الكُنَّاش 2/88.
الأمالي الشَّجريَّة 2/133.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 1/211؛ معاني القرآن للأخفش 1/144؛ المقتضب 2/35؛ الأصول 1/178؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/152، 163؛ ارتشاف الضَّرب 2/388.
انظر: الكتاب 1/17، 418، 475 - 476.
انظر: المغني 2/527.
انظر: انظر شرح البيت في: شرح العُكبري3/169؛ العرف الطيِّب 14، والَّهوات: جمع اللَّهاة؛ وهي لحمةٌ في الحلق عند أصل اللِّسان.
شرح المشكل 34.
انظر: شرح المقدِّمة المحسبة 2/386؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/129؛ الهادي في الإعراب 134؛ شرح الكافية الشَّافية 2/636؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/487، ويقول الفرَّاء في معانيه 1/92: " العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنَّما تقول: شكرت لك " ثُمَّ قال في مكانٍ آخر 2/20 " والعرب تقول: كفرتك وكفرت بك، وشكرتك وشكرت بك وشكرت لك " وهما لغتان، وأفصحهما باللاَّم؛ لذا لم يذكر الكسائي في (ما تلحن فيه العامة) 102، وثعلب في (الفصيح) 278 إلاَّ تعدِّيها باللاَّم.
انظر: اللاَّمات للزَّجَّاجي 147؛ اللاَّمات للهروي 53؛ شرح المقدِّمة المحسبة 2/369؛ التَّبصرة والتَّذكرة 1/112؛ شرح الجمل لابن عصفور 1/300؛ شرح الألفيَّة لابن النَّاظم 246؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/488؛ أوضح المسالك 2/16.(13/345)
أصحاب هذا الرأي هم: المبرِّد في المقتضب 4/338، والزَّجَّاجي في الجمل 31، وابن عصفور في شرح الجمل 1/300، وابن مالك في شرح الكافية الشَّافية 2/636، وابن القواس في شرح ألفيَّة ابن معطي 1/487، وأبو حيَّان في ارتشاف الضَّرب 3/49.
أصحاب هذا الرأي هم: ابن الشَّجري في أماليه 2/129، وابن النَّاظم في شرحه للألفيَّة 246، وابن أبي الرَّبيع في الملخَّص 1/365، وابن هشام في أوضح المسالك 2/16.
انظر: تهذيب اللُّغة 4/249؛ الصِّحاح 1/411؛ المحكم 3/113.
من أصحاب هذا الرأي: ابن درستويه وقد نسب الرَّأي إليه ابنُ عصفور في شرح الجمل 1/ 301، ووافق ابنَ درستويه السُّهيلي في نتائج الفكر 352، وابنُ القيِّم في بدائع الفوائد 2/73 –74.
انظر: شرح الجمل لابن عصفور 1/322؛ البحر المحيط 1/392، 4/76؛ المساعد 1/444.
انظر: الكتاب 1/37 - 40؛ المقتضب 4/75؛ الإيضاح العضدي 66؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/120؛ التَّوطئة 276؛ شرح المقدِّمة الكافية 1/339؛ المقرَّب 1/250؛ تسهيل الفوائد 86؛ البسيط 1/303؛ الهمع 5/137؛ شرح الحدود 152.
انظر: انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/355؛ العرف الطيِّب 311.
شرح المشكل 212.
انظر: انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/87؛ العرف الطيِّب 461.
شرح المشكل 272، وهو بقوله هذا قد لخصَّ رأي البصريين والكوفيين في المسألة؛ فالتنازع من المسائل الخلافيَّة الَّتي تناولها الأنباري في إنصافه 1/83 م: 13 .
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/50؛ العرف الطيِّب 332، والنَّدى: الجود وشعوب: علمٌ للمنية.
البيت في ديوان الهذليين 3/5، “ وشهرا قُماح هما الكانون أشدُّ الشِّتاء بردًا؛ سمِّيا شهري قُماح؛ لكراهة كلِّ ذي كبدٍ شرب الماء فيهما “ تهذيب اللُّغة 4/81.
الحرف (إلاَّ) ساقطٌ من الأصل، وقد أضفته لأنَّ المعنى يقتضيه.
شرح المشكل 197.(13/346)
انظر: المقتضب 4/328 - 329؛ الأصول 1/190؛ الإيضاح العضدي 177؛ شرح اللُّمع 1/122؛ شرح اللُّمع للواسطي 65؛ المقتصد 1/631؛ شرح عيون الإعراب 148 – 149؛ شرح ملحة الإعراب 204؛ التَّوطئة 208؛ شرح المقدِّمة الكافية 2/484؛ المقرَّب 1/144.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/141؛ العرف الطيِّب 168.
انظر: شرح المشكل 116.
انظر: الكتاب 1/284.
انظر: تهذيب اللُّغة 14/132؛ الصِّحاح 4/1632؛ لسان العرب 11/48؛ ارتشاف الضَّرب 2/268.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/19؛ العرف الطيِّب 486.
شرح المشكل 284.
انظر: الكتاب 1/390؛ معاني القرآن للفرَّاء 3/177 – 178؛ المقتضب 3/210 الأصول 1/211، 2/79، 119؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 2/105؛ الخصائص 2/386؛ المقتصد 2/957 - 959؛ الإنصاف 1/475؛ البسيط 1/344، وسيأتي بإذن الله تعالى توضيحٌ آخر للمسألة في باب (العطف) .
انظر: الكتاب 1/275؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/216؛ المقتضب 3/234، 253 269، 4/312؛ الإيضاح العضدي 200؛ المقتصد 1/677 - 679؛ شرح ملحة الإعراب 193؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/6؛ نظم الفرائد 229؛ التَّوطئة 212؛ شرح الكافية للرَّضي 2/32؛ الهمع 4/9.
انظر: شرح المشكل 87.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/262؛ العرف الطيِّب 115، والتمائم: جمع تميمة وهي خرزٌ يُعلَّق على المولود.
يقول ابن بابشاذ في شرح المقدِّمة المحسبة 2/313 " فإن قيل: فما تصنع بقوله سبحانه (هذه ناقة الله لكم آية (فآية حال، وليست بمشتقَّة؟ قيل: هي في معنى المشتق؛ لأنَّ الآية العلامة، والعلامة اسمٌ واقعٌ موقع المصدر، والمصدر مشتق، فهو يعود إلى الاشتقاق "، وانظر: المقتصد 2/725؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/257، 3/6، 98 نظم الفرائد 224؛ شرح الألفيَّة لابن النَّاظم 312.
انظر: شرح المشكل 35.(13/347)
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/170؛ العرف الطيِّب 14، والمهمه: الفلاة الواسعة، والقذف: البعيد.
انظر نسبة الرَّأي إليهم عدا الفرَّاء في: البيان 1/263؛ التَّبيين 386؛ المغني 1/173 المساعد 2/47؛ ائتلاف النُّصرة124، أمَّا الفرَّاء فقد اشترط تقدير (قد) . انظر: معانيه 1/24، 282.
انظر: معانيه 1/244.
انظر: البحر المحيط 4/14؛ الدرَّ المصون 4/66.
انظر: المقتضب 4/123؛ معاني القرآن للزَّجَّاج 2/89؛ الأصول 1/216؛ الإيضاح العضدي 276 – 277؛ سرَّ صناعة الإعراب 2/641؛ مشكل إعراب القرآن 1/201؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/146؛ الإنصاف 1/252؛ المقرَّب1/153؛ لباب الإعراب 328؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/558.
انظر: التَّبيين 386.
انظر: المغني 1/173.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/20؛ العرف الطيِّب 486.
شرح المشكل 285.
انظر: سرَّ صناعة الإعراب 2/641، 645؛ شرح اللُّمع 1/132؛ شرح اللُّمع للواسطي 74؛ شرح ملحة الإعراب 192؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/11؛ نظم الفرائد 231؛ التَّوطئة 214؛ شرح المقدِّمة الكافية 2/516؛ شرح الكافية للرَّضي 1/40 البسيط 2/814؛ رصف المباني 480؛ الفصول المفيدة في الواو المزيدة 155.
لقد صرَّح بضرورة مجيء صاحب الحال معرفة أو قريبًا من المعرفة جماعة؛ منهم: ابن جنِّي في اللُّمع 145، والمجاشعي في شرح عيون الإعراب 153، والحريري في شرح ملحة الإعراب 190، والسُّهيلي في نتائج الفكر 234 - 236، والمهلَّبي في نظم الفرائد 228، وابن معطي في الفصول الخمسون 186، وابن الحاجب في شرح المقدِّمة الكافية 2/504، وابن مالك في التَّسهيل 109، وابن النَّاظم في شرح الألفيَّة 318 - 321، وأبو حيَّان في ارتشاف الضَّرب 2/346، وابن هشام في شرح شذور الذَّهب 251، والسُّيوطي في الهمع 4/21.(13/348)
أمَّا سيبويه فقد جوَّز مجيئها من النَّكرة بلا مسوِّغ على قلَّة، ووافقه الجرمي والمبرِّد، انظر: الكتاب 1/272؛ المقتضب 4/286، 290، 314، 397، وانظر نسبة الرَّأي إلى الجرمي في: إعراب القرآن للنَّحَّاس 4/126؛ مشكل إعراب القرآن 2/287.
يقول السُّيوطي في الهمع 4/21: " من النَّادر قولهم: عليه مائة بيضًا، وفيها رجلٌ قائمًا ... ومن المسوِّغات:
* النَّفي كقوله تعالى: (وما أهلكنا مِنْ قريةٍ إلاَّ ولها كتابٌ معلوم (.
... * والنَّهي نحو: لا يركنن أحدٌ إلى الإحجام يومَ الوغى متخوِّفًا لحِمَامِ
... * والاستفهام نحو: يا صاح هل حُمَّ عيشٌ باقيًا فترى ...
... * والوصف نحو: (فيها يُفرقُ كلُّ أمرٍ حكيم أمرًا ( ...
... * والإضافة نحو: (في أربعة أيَّام سواءً (، (وحشرنا عليهم كلَّ شيءٍ قُبُلا (.
والعمل نحو: مررت بضارب هندًا قائمًا ... "
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/372؛ العرف الطيِّب 345.
شرح المشكل 214 – 215.
انظر: شرح الكافية الشَّافية 2/737؛ الفوائد الضِّيائيَّة 1/384 - 385؛ شرح الأشموني 2/507.
انظر: الكتاب 1/272؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/555.
انظر: شرح المشكل 83.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/110؛ العرف الطيِّب 92.
انظر: الكتاب 2/304؛ الأصول 1/413؛ كتاب اللاَّمات للزَّجَّاجي 66؛ اللُّمع 157؛ شرح اللُّمع للواسطي 92؛ شرح عيون الإعراب 194؛ التَّوطئة 248؛ البسيط 2/857؛ جواهر الأدب 72؛ الجنى 96؛ المغني 1/208.
انظر: شرح المشكل 185.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/87؛ العرف الطيِّب 285، والدَّر: الَّبن، وأراد به العطاء.(13/349)
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 1/250، 2/10، 3/22؛ تأويل مشكل القرآن 572؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/31؛ جواهر الأدب 76؛ المغني 1/212، ويقول الرمَّاني في كتابه اللاَّمات 143: ".. أمَّا قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الَّذي هدانا لهذا ( [الأعراف 43] فلا خلاف فيه أنَّ تقديره: هدانا إلى هذا، فهذه لام (إلى) "، وانظر اختيار هذا المعنى في الآية الكريمة عند: الأخفش في معانيه 1/298، والزَّجَّاج في معانيه 2/339، والنَّحَّاس في إعرابه 1/612.
انظر: شرح المشكل 113.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/250؛ العرف الطيِّب 180، والتَّابعة: الظَّبية الصَّغيرة تتبع أمَّها، والخاذل: الَّذي تخلَّف عن أصحابه فلم يلحق بهم.
انظر: الكتاب 2/307؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/78؛ المقتضب 1/44، 4/52؛ الأصول 1/409؛ اللُّمع 155؛ شرح اللُّمع للواسطي 87؛ شرح عيون الإعراب 190؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/112؛ أسرار العربيَّة 259؛ التَّوطئة 243؛ جواهر الأدب 338؛ الجنى 309؛ المغني 1/319.
انظر: شرح المشكل 116.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/141؛ العرف الطيِّب 168.
انظر: شرح المشكل 321.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/50؛ العرف الطيِّب 572.
انظر: شرح اللُّمع للواسطي 87؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/197، 2/529؛ أسرار العربيَّة 259؛ التَّوطئة 243؛ جواهر الأدب 338؛ الجنى 309؛ المغني 1/319.
انظر: شرح المشكل 163.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/198؛ العرف الطيِّب 53، والبرية: الخليقة، ويوسى: من الأسى، وهو الحزن.
انظر: جواهر الأدب 339؛ الجنى 310؛ المغني 1/320.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/318؛ العرف الطيِّب 615، والأطراف: أطراف القرون، والأكفال: جمع كفل؛ وهو العجز، والآطال: الخواصر.
انظر: شرح المشكل 345.(13/350)
انظر: الكتاب 2/307، ووافقه المبرِّد في المقتضب 4/137 – 138، وابن السَّرَّاج في الأصول 1/94، وأبو نصر القرطبي في شرح عيون كتاب سيبويه 44، وابن بابشاذ في شرح المقدِّمة المحسبة 1/236، وابن مالك في شرح الكافية الشَّافية 2/797، وابن أبي الرَّبيع في الملخَّص 512، وأبو حيَّان في ارتشاف الضَّرب 2/444، والمرادي في الجنى 317 – 318، وابن هشام في المغني 1/322، وابن عقيل في المساعد 2/249.
يقول أبو حيَّان في ارتشاف الضَّرب 2/445 " أمَّا الاستفهام فليس عامًا في جميع أدواته وإنَّما يحفظ ذلك مع (هل) في جميع ما ورد في النَّفي ... وفي إلحاق الهمزة ب (هل) في ذلك نظر، ولا أحفظه من لسان العرب ".
انظر: معاني القرآن 2/272 – 273، 488.
هو سلمة بن يزيد الجعفي كما في ديوان الحماسة 1/536.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/55؛ العرف الطيِّب 291، والقريحة: الَّتي بها قروح من طول البكاء.
شرح المشكل 203، ولقد صرَّح بإفادة (في) معنى التَّعليل الإربلي في جواهر الأدب 279، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى على لسان امرأة العزيز: (فَذَلكُن الَّذِي لمتُنَني فِيهِ ( [يوسف 32] ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: (عُذِّبت امرأة في هرَّة سجنتها حتَّى ماتت، فدخلت فيها النَّار) صحيح مسلم 16/172، وانظر: شواهد التَّوضبح والتَّصحيح 67؛ المغني 1/168.
انظر: شرح المشكل 307.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/155؛ العرف الطيِّب 536، ونساري: نغافل من السَّرى؛ وهو مشي اللَّيل
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 1/136 – 137؛ الأصول 1/424؛ الإيضاح العضدي 257؛ اللُّمع 162؛ شرح اللُّمع 1/184؛ شرح اللُّمع للواسطي 99؛ المقتصد 2/841؛ شرح عيون الإعراب 210؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/214؛ أسرار العربيَّة 265؛ اللُّباب 1/383؛ التَّوطئة 248؛ البسيط 2/854.(13/351)
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/198؛ العرف الطيِّب 53.
شرح المشكل 163.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 1/32؛ المقتضب 2/348، 3/60 – 61، فهذا حكم حذفهما معًا، أمَّا عن حذف حرف الجرِّ دون مجروره، فقد صرَّح النُّحاة بعدم قياسيته، انظر: الكتاب 1/49، 128، 133؛ شرح الكتاب للسِّيرافي 1/91؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/132، 355؛ الكُنَّاش 2/89؛ الهمع 4/221، أمَّا ابن مالك في شواهد التَّوضبح والتَّصحيح 93 - 94 فإنَّه ذكر مبحثًا كاملاً بعنوان (حذف عامل الجرِّ مع إبقاء عمله) ، وقال في ألفيَّته:
... وقَد يُجرُّ بِسوى رُبَّ، لدى حذفٍ، وبعضُهُ يُرَى مُطَّرِدَا
انظر: معاني القرآن للأخفش 1/88.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/351؛ العرف الطيِّب 309، والميسم: من الوسم؛ وهو التَّأثير بكيٍّ ونحوه.
شرح المشكل 208.
الأصول 1/415.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/173؛ العرف الطيِّب 484، ويجدِّله: يصرعه على الجدالة؛ وهي الأرض، والأحم: الأسود، والنَّقع: الغبار، والغربيب: الشَّديد السَّواد.
شرح المشكل 283، ومن الملاحظ أنَّ النصَّ يحتمل مسألتين؛ الأولى: ما نحن بصدده وهو اختصاص الأسماء بالإضافة، والمسألة الثَّانية هي: حذف الموصوف وإقامة الصِّفة مقامه، وهذه ستأتي بإذن الله تعالى في باب النَّعت.
انظر: شرح ملحة الإعراب 136؛ تسهيل الفوائد 155؛ التَّذييل والتَّكميل 1/54؛ الهمع 4/264.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/305؛ العرف الطيِّب 598.
شرح المشكل 337.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/175؛ العرف الطيِّب 29، والسِّماكان: نجمان نيِّران.(13/352)
انظر: الكتاب 1/84، 211، 226؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/409؛ المقتضب 3/227، 4/279؛ الإيضاح العضدي 269؛ شرح اللُّمع 1/198؛ شرح اللُّمع للواسطي 95؛ المقتصد 2/883؛ شرح ملحة الإعراب 137؛ أسرار العربيَّة 280؛ اللُّباب 1/389؛ التَّوطئة 250؛ شرح المقدِّمة الكافية 2/596؛ المقرَّب 1/209؛ البسيط 1/312.
شرح المشكل 46.
انظر: شرح المشكل 214.
انظر شرح البيت في: شرح العكبري 1 /66؛ العرف الطيِّب 338
انظر: الكتاب 1/ 4، 311، 2/ 44؛ معاني القرآن للأخفش 2/658؛ المقتضب 3/175 - 176، 4/205 - 206؛ الأصول 2/142؛ اشتقاق أسماء الله 190 شرح الكتاب للسِّيرافي 1/131 - 132؛ شرح عيون كتاب سيبويه 208 - 209؛ مشكل إعراب القرآن 2/175- 176؛ المقتصد 1/ 146؛ النُّكت في تفسير كتاب سيبويه 2/680 - 681؛ أسرار العربيَّة 31؛ المرتجل 102 أمالي السُّهيلي 92؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/770؛ البسيط 2/880؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/546 - 547.
انظر: شرح كتاب سيبويه للسِّيرافي 1/130 - 131؛ أسرار العربيَّة 31؛ سفر السَّعادة 2/847 - 848؛ شرح ألفيَّة ابن معطي 1/547.
انظر: الأصول 2/142؛ شرح كتاب سيبويه للسِّيرافي 1/131؛ مشكل إعراب القرآن 2/176؛ المرتجل 102؛ المقتصد 1/146؛ البيان 2/248؛ سفر السَّعادة 2/848؛ شرح الجمل لابن عصفور 2/335.
انظر: معاني القرآن للزَّجَّاج 4/176؛ اشتقاق أسماء الله 190؛ شرح كتاب سيبويه للسِّيرافي 1/131 - 132؛ المقتصد 1/146؛ أسرار العربيَّة 31؛ شرح الجمل لابن عصفور 2/336؛ شرح الكافية للرَّضي 2/102.
من المواضع الأخرى الَّتي ذكر فيها حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، انظر: شرح المشكل 36، 277.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/38؛ العرف الطيِّب 552، والميط: الدَّفع.
شرح المشكل 302.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/45؛ العرف الطيِّب 46.(13/353)
انظر: شرح المشكل 60، وانظر في المسألة: معاني القرآن للفرَّاء 1/61 – 62؛ تأويل مشكل القرآن210؛ مجالس العلماء 243، 260؛ كتاب الشِّعر 2/346؛ أمالي المرتضي 1/615؛ أمالي ابن الحاجب 1/42.
المحتسب 1/188.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/36؛ العرف الطيِّب 30.
شرح المشكل 49.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/47؛ العرف الطيِّب 74.
انظر: شرح المشكل 70.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/231؛ العرف الطيِّب 143.
انظر: شرح المشكل 107.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/404؛ الأصول 1/137؛ الإيضاح العضدي 157 الخصائص 3/248؛ أمالي المرتضي 2/47؛ شرح المقدِّمة المحسبة 394؛ الإفصاح 356؛ الأمالي الشَّجريَّة 1/63؛ نتائج الفكر 310؛ التَّوطئة 277؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/827؛ المقرَّب 1/129؛ شرح الكافية للرَّضي 3/408
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/233؛ العرف الطيِّب 139.
زيادة يقتضيها المعنى.
شرح المشكل 124، وأحسبه أراد بقوله: " ونحو ذلك " اسمَ الفاعل الواقع مبتدأ معتمدًا على نفيٍّ أو استفهام؛ نحو: ما قائمٌ أخواك، وأ قائمٌ أخواك؟ فإنَّه من الثَّابت عند النُّحاة أنَّ) قائمٌ (مبتدأ، و) أخواك (فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر. انظر: الإيضاح العضدي 35؛ المقتصد 1/247؛ التَّصريح 1/156.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/202؛ الأصول 1/60؛ الإيضاح العضدي 141؛ شرح اللُّمع 1/214؛ شرح اللُّمع للواسطي 30؛ المقتصد 1/508؛ شرح ملحة الإعراب 175 - 176؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/220؛ نظم الفرائد 131؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/831.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/176؛ العرف الطيِّب 502.
شرح المشكل 286.(13/354)
الكتاب 1/233، وانظر: الأصول 2/30؛ شرح أبيات سيبويه للنَّحَّاس 113؛ النَّكت في تفسير كتاب سيبويه 1/454؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/855 - 856؛ شرح الكافية للرَّضي 3/470؛ ارتشاف الضَّرب 3/234؛ الوضع الباهر 34.
انظر: الكتاب 1/37؛ معاني القرآن للفرَّاء 2/127 - 128؛ المقتضب 4/178 - 180؛ شرح اللُّمع للواسطي 185؛ شرح المقدِّمة الكافية 3/848؛ المقرَّب 1/73؛ تسهيل الفوائد 131.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/35؛ العرف الطيِّب 30.
شرح المشكل 48، وقد فصَّل في المسألة العُكبري عند شرحه للبيت 4/35، وانظر كذلك: الخصائص 1/185 – 186، 3/234.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/86؛ العرف الطيِّب 112، والعنقاء: طائرٌ غريب المنظر، وأعوز: تفضيل من قولهم: عوِزَ الشَّيء إذا لم يوجد، والمسترفد: السَّائل.
انظر: الخصائص 1/185 – 186.
شرح المشكل 86 – 87.
انظر: شرح ملحة الإعراب 292؛ نتائج الفكر 204؛ التَّوطئة 179؛ شرح المقدِّمة الكافية 2/626؛ المقرَّب 1/220؛ شرح الكافية للرَّضي 2/289؛ الهمع 5/176.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/174؛ العرف الطيِّب 29، والجنادل: الصُّخور.
انظر: شرح المشكل 45.
في الكتاب 1/223 - 229، وانظر: المقتضب 4/284؛ الأصول 2/28؛ الإيضاح العضدي 38؛ شرح اللُّمع للواسطي 104.
اللُّباب 1/404.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/372؛ العرف الطيِّب 345.
شرح المشكل 215.
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/58، 345؛ المقرَّب 1/228؛ البسيط 1/300، 323 – 324.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/173؛ العرف الطيِّب 484.
شرح المشكل 283.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 3/309؛ العرف الطيِّب 600.
شرح المشكل 338.(13/355)
انظر: الكتاب 1/273؛ شرح اللُّمع 1/234؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/68؛ نتائج الفكر 95؛ تسهيل الفوائد 170؛ الملخَّص 1/560؛ المغني 2/626؛ شرح ابن عقيل 2/205؛ التَّصريح 2/118، وعبارته: " ويجوز بكثرة حذف المنعوت إن عُلم " الهمع 5/186.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/19؛ العرف الطيِّب 486.
البيت في ديوانه 490.
شرح المشكل 284، أمَّا العُكبري فجوَّز العطف بلا توكيد، انظر: شرحه 2/19.
انظر: الكتاب 1/390؛ معاني القرآن للفرَّاء 1/304؛ المقتضب 3/210؛ الأصول 1/78- 79، 119؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 2/105؛ الخصائص 2/386 التَّبصرة والتَّذكرة 1/139؛ شرح المقدِّمة المحسبة 1/224؛ المقتصد 2/957 - 959؛ الأمالي الشَّجريَّة 3/177؛ الفصول الخمسون 237.
انظر نسبة الرَّأي إليهم في: الإنصاف 2/474؛ البحر المحيط 4/681؛ الدُّرَّ المصون 1/278.
شرح الكافية الشَّافية 3/1246.
الكتاب 1/232، وعدَّه سيبويه قبيحًا حتَّى يُقال: برجلٍ سواءٍ هو والعدمُ.
أخرجه البخاري في صحيحه) باب: فضائل أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم (5/12.
شرح المشكل 76.
شرح المشكل 278.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/359؛ العرف الطيِّب 81.
شرح المشكل 76.
انظر: الكتاب 1/255.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/199؛ العرف الطيِّب 520.
شرح المشكل 298، ومن الملاحظ في نصِّه أنَّه أدخل) الألف واللاَّم (على كلمة (كلّ) وفي هذه القضيَّة كلامٌ للأصمعي في عبث الوليد 196 - 197، ولسان العرب 7/119، وشرح التَّسهيل لابن مالك 3/244 - 245.(13/356)
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/73؛ التَّمام 21؛ المقتصد 2/931؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/93؛ اللُّباب 1/412؛ شرح المفصَّل 3/70؛ شرح الجمل لابن عصفور 1/289 - 290؛ شرح الكافية الشَّافية 3/1281 - 1285؛ شرح الكافية للرَّضي 2/391؛ فاتحة الإعراب 190؛ ائتلاف النُّصرة 56؛ التَّصريح 2/160.
شرح المفصَّل 3/70.
انظر: معانيه 2/482.
انظر النسبة إليهم في: شرح الكافية الشَّافية 3/1284؛ المساعد 2/432؛ ائتلاف النُّصرة 56؛ التَّصريح 2/161
شرح المفصَّل 3/70، وانظر: فاتحة الإعراب 190.
التَّبصرة والتَّذكرة 1/366.
انظر رأيهم في: الكتاب 1/330؛ المقتضب 4/260؛ الأصول 1/359؛ الجمل للزَّجَّاجي 168؛ الإيضاح العضدي 237؛ اللُّمع 200؛ شرح اللُّمع للواسطي 150 المقتصد 2/791؛ شرح عيون الإعراب 274؛ نظم الفرائد 151؛ الأمالي الشَّجريَّة 2/315؛ التَّوطئة 294؛ شرح المقدِّمة الكافية 2/435.
انظر نسبة الرأي إليهم في: الإنصاف 1/347؛ نظم الفرائد 152؛ التَّبيين 453؛ شرح المفصَّل 2/20؛ أوضح المسالك 2/101؛ ائتلاف النُّصرة 47؛ التَّصريح 2/184.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 4/11؛ العرف الطيِّب 454، والقنا: الرِّماح، وعمرو حابِ: أراد به عمرو ابن حابسٍ؛ وهو بطنٌ من أسد، والأغتام: جمع أغتم؛ وهو الَّذي في منطقه عُجمة.
انظر: شرح المشكل 115.
انظر: نظم الفرائد 151 - 152؛ الإيضاح في شرح المفصَّل 2/298؛ الإرشاد إلى علم الإعراب 291.
انظر: الكتاب 2/310 - 311؛ الإيضاح العضدي 165؛ شواهد التَّوضبح والتَّصحيح 203.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 1/373؛ العرف الطيِّب 204.
شرح المشكل 128.
انظر شرح البيت في: شرح العُكبري 2/132؛ العرف الطيِّب 67؛
شرح المشكل 68.(13/357)
انظر: معاني القرآن للفرَّاء 1/340؛ المقتضب 3/319؛ الأصول 2/92؛ ما ينصرف وما لا ينصرف 45؛ إعراب القرآن للنَّحَّاس 1/260؛ التَّبصرة والتَّذكرة 2/555؛ الإيضاح العضدي 305؛ اللُّمع 239؛ المقتصد 2/1031؛ شرح ملحة الإعراب 312؛ التَّوطئة 302؛ شرح المقدِّمة الكافية 1/288؛ المقرَّب 1/286؛ الكافية 64؛ شرح الألفيَّة لابن النَّاظم 634؛ الملخَّص 1/625؛ ارتشاف الضَّرب 1/438؛ الدُّرَّ المصون 2/106.
المحكم 1/16.
المصادر والمراجع
ائتلاف النُّصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة، لعبد اللَّطيف الشرجي الزُبيدي، تحقيق: طارق الجنابي، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
الألفات، وهو كتاب يتعرَّض للهمزة والألف وأنواعها في العربيَّة، لابن خالويه، تحقيق: د. علي حُسين البوَّاب، مكتبة المعارف، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م.
أدب الكاتب، لابن قتيبة، تحقيق: مُحمَّد محي الدِّين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الطَّبعة الرَّابعة، 1382 هـ - 1963 م.
ارتشاف الضَّرب من لسان العرب لأبي حيَّان الأندلسي، تحقيق: د. مصطفى أحمد النحَّاس، مطبعة المدني، القاهرة، الطَّبعة الأولى ج 1 1404 هـ - 1984 م، ج 2 1408 هـ - 1987 م، ج 3 1409 هـ - 1989 م.
الإرشاد إلى علم الإعراب، للكيشي، تحقيق: د. عبد الله علي الحُسيني البركاتي، د. محسن سالم العُميري، مركز إحياء التُّراث الإسلامي، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى 1410 هـ - 1989 م.
أسرار العربيَّة، لأبي البركات الأنباري، تحقيق: مُحمَّد بهجة البيطار، من مطبوعات المجمع العلمي العربي، دمشق، الطَّبعة (بدون) ، 1377 هـ - 1957 م.
الأشباه والنظائر في النَّحو، للسيوطي، راجعه وقدَّم له: فائز ترحيني، دار الكتاب العربي، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1404 هـ - 1984م.(13/358)
اشتقاق أسماء الله، للزَّجَّاجي، تحقيق: د. عبد الحُسين المبارك، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1406 هـ - 1986 م.
الأصول في النَّحو، لابن السَّرَّاج، تحقيق: د. عبد الحُسين الفتلي، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.
إعراب القرآن، لأبي جعفر النحَّاس، تحقيق: د. زهير غازي زاهد، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطَّبعة الثَّالثة، 1406 هـ - 1986 م.
الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب، لأبي نصر الفارقي، تحقيق: سعيد الأفغاني، مؤسَّسة الرِّسالة بيروت، الطَّبعة الثَّالثة، 1400 هـ - 1980 م.
* لقد أسقطت من هذه القائمة المصادر الَّتي استقيت منها ترجمة ابن سِيْدَه رحمه الله تعالى.
أمالي السُّهيلي في النَّحو واللُّغة والحديث والفقه، تحقيق: مُحمَّد إبراهيم البنا، مطبعة السعادة، مصر، الطَّبعة الأولى، 1390 هـ - 1970 م.
الأمالي الشَّجرية، لأبي السَّعادات هبة الله العلوي المعروف بابن الشَّجري، تحقيق: محمود مُحمَّد الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م.
أمالي المرتضي (غرر الفوائد ودرر القلائد) ، للشريف علي بن الحُسين الموسوي العلوي، تحقيق: مُحمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1387 هـ - 1967 م.
الأمالي النَّحويَّة، لابن الحاجب، تحقيق: هادي حسن حمودي، مكتبة النهضة العربيَّة، وعالم الكتب، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.
الإنصاف في مسائل الخلاف بين النَّحويين البصريين والكوفيين، لأبي البركات الأنباري، تحقيق: مُحمَّد محي الدِّين عبد الحميد، مكان النَّشر (بدون) ، الطَّبعة (بدون) 1982م.(13/359)
أوضح المسالك إلى ألفيَّة ابن مالك، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السَّقا، وإبراهيم الأبياري، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت، الطَّبعة السَّادسة، 1980 م.
الإيضاح العضدي، لأبي علي الفارسي، تحقيق: د. حسن شاذلي فرهود، مطبعة دار التَّأليف، مصر، الطَّبعة الأولى، 1389 هـ - 1969 م.
الإيضاح في شرح المفصَّل، لابن الحاجب، تحقيق: موسى بناي العليلي، وزارة الأوقاف والشُّؤون الدِّينية، مطبعة العاني، بغداد، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
البحر المحيط، لأبي حيَّان، عناية: صدقي مُحمَّد جميل، دار الفكر، بيروت، الطَّبعة (بدون) ، 1412 هـ - 1992 م.
البسيط في شرح جمل الزَّجَّاجي، لابن أبي الرَّبيع، تحقيق ودراسة: د. عيَّاد الثبيتي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1407 هـ - 1979م.
البهجة المرضيَّة، للسُّيوطي، تحقيق: علي سعد الشينوي، منشورات كلية الدعوة الإسلاميَّة، ليبيا، طرابلس، الطَّبعة الأولى، 1403 هـ.
البيان في غريب إعراب القرآن، لأبي البركات الأنباري، تحقيق: طه عبد الحميد طه، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، الطَّبعة (بدون) ، 1407 هـ - 1987 م.
تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، شرحه ونشره: السَّيِّد أحمد صقر، دار التُّراث، القاهرة، الطَّبعة الثَّانية، 1393هـ - 1973 م.
التَّبصرة والتَّذكرة، للصَّيمري، تحقيق: د. فتحي أحمد مصطفى، مركز البحث العلمي وإحياء التُّراث الإسلامي، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م.
التَّبيين عن مذاهب النَّحويين البصريين والكوفيين، لأبي البقاء العُكبري، تحقيق: عبد الرَّحمن بن سُليمان العُثيمين، دار القرب الإسلامي، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.(13/360)
التَّذييل والتَّكميل في شرح كتاب التَّسهيل، لأبي حيَّان الأندلسي، تحقيق: د. حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، لابن مالك، تحقيق: د. مُحمَّد كامل بركات، دار الكتاب العربي للطِّباعة والنَّشر، مكان النَّشر (بدون) ، الطَّبعة (بدون) ، 1387 هـ - 1967 م.
التَّصريح على التَّوضيح، للشَّيخ خالد الأزهري، مطبعة الاستقامة، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1374 هـ - 1954 م.
تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، للدَّماميني، تحقيق: د. مُحمَّد بن عبد الرَّحمن المفدى، مطابع الفرزدق التِّجاريَّة، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م.
تفسير البحر المحيط، لأبي حيَّان الأندلسي، دار الفكر، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1403 هـ - 1983 م.
تهذيب اللًّغة، لأبي منصور الأزهري، المؤسَّسة المصريَّة العامة للتَّأليف والأنباء والنَّشر، الطَّبعة (بدون) ، 1384 هـ - 1964 م.
توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفيَّة ابن مالك، للمرادي، تحقيق: عبد الرَّحمن علي سُليمان، مكتبة الكليَّات الأزهريَّة، القاهرة، الطَّبعة الثَّانية، التَّاريخ (بدون) .
التَّوطئة، لأبي علي الشَّلوبين، تحقيق: يوسف أحمد المطوِّع، دار التُّراث العربي للطَّبع والنَّشر، القاهرة، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
الجمل في النَّحو، للزَّجَّاجي، تحقيق: د. علي توفيق الحمد، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، دار الأمل، الأردن، الطَّبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م.
الجنى الدَّاني في حروف المعاني، للمرادي، تحقيق: فخر الدِّين قباوة، مُحمَّد نديم فاضل، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1403 هـ - 1983 م.(13/361)
جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدِّين الإربلي، شرح وتحقيق: د. حامد أحمد نيل، مكتبة النهضة المصريَّة، القاهرة، الطَّبعة (بدون) ، 1403 هـ - 1983 م.
حاشية الصَّبان على شرح الأشموني على ألفيَّة ابن مالك، دار إحياء الكتب العربيَّة، مصر، الطَّبعة، والتَّاريخ (بدون)
حروف المعاني، للزَّجَّاجي، تحقيق: د. علي توفيق الحمد، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، دار الأمل، الأردن، الطَّبعة الثَّانية، 1406 هـ - 1986 م.
الخصائص، لابن جنِّي، تحقيق: مُحمَّد علي النجَّار، دار الهدى، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، التَّاريخ (بدون)
الدرُّ المصون في علوم الكتاب المكنون، للسَّمين الحلبي، تحقيق: د. أحمد مُحمَّد الخرَّاط، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.
دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، تعليق: محمود مُحمَّد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة الثَّانية، 1410 هـ - 1989 م.
ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي بشرح أبي البقاء العُكبري، المسمَّى بالتِّبيان في شرح الدِّيوان، ضبطه وصحَّحه: مصطفى السَّقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، دار المعرفة، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
ديوان أوس بن حجر، تحقيق: د. إحسان عبَّاس، الكويت.
ديوان العبَّاس بن مرداس، تحقيق: يحيى الجبُّوري، المؤسَّسة العامة للصَّحافة والنَّشر، بغداد، الطَّبعة (بدون) ، 1388 هـ - 1968 م.
رصف المباني في شرح حروف المعاني، للمالقي، تحقيق: د. أحمد مُحمَّد الخرَّاط، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الثَّانية، 1405 هـ - 1985 م.
سرُّ صناعة الإعراب، لابن جنِّي، تحقيق: د. حسن هنداوي، دار القلم، الطَّبعة الثَّانية، التَّاريخ (بدون)(13/362)
سفر السَّعادة، وسفير الإفادة، للسَّخاوي، تحقيق: مُحمَّد أحمد الدَّالي، مطبوعات مجمع اللُّغة العربيَّة، دمشق، الطَّبعة (بدون) 1403 هـ - 1983 م.
سِمط اللآلي، لأبي عُبيد البكري، تحقيق: عبد العزيز الميمني، دار الحديث، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1404 هـ - 1984 م.
كتاب شرح أبيات سيبويه، للنحَّاس، تحقيق: د. زهير غازي زاهد، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.
شرح ألفيَّة ابن مالك، لابن النَّاظم، تحقيق: د. عبد الحميد السيد مُحمَّد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
شرح ألفيَّة ابن معطي، لابن جمعة الموصلي، تحقيق: د. علي موسى الشوملي، مكتبة الخريجي، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.
شرح التَّسهيل، لابن مالك، تحقيق: د. عبد الرَّحمن السَّيِّد، د. مُحمَّد بدوي المختون، هجر للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع والإعلان، مكان النَّشر (بدون) الطَّبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.
شرح جمل الزَّجَّاجي، لابن عصفور، تحقيق: د. صاحب أبو جناح، وزارة الأوقاف والشؤون الدِّينية، العراق، الطَّبعة (بدون) ، 1400 هـ - 1980 م.
شرح الحدود النَّحويَّة، للفاكهي، تحقيق: د. مُحمَّد الطيِّب الإبراهيم، دار النَّفائس، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م.
شرح شافية ابن الحاجب، للرَّضي الاستراباذي، مع شرح شواهده للبغدادي، تحقيق: مُحمَّد نور الحسن، مُحمَّد الزَّفزاف، مُحمَّد محي الدِّين عبد الحميد، دار الكتب العلميَّة، بيروت، الطَّبعة (بدون) 1402 هـ - 1982 م.
شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، لابن هشام، تحقيق: مُحمَّد محي الدِّين عبد الحميد، المكتبة العصريَّة، صيدا، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1986 م.(13/363)
شرح عيون كتاب سيبويه، لأبي نصر هارون بن موسى القرطبي، تحقيق: د. عبد ربه عبد اللطيف عبد ربه، مطبعة حسَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1404 هـ - 1984م.
شرح الكافية في النَّحو، للرَّضي الاستراباذي، دار الكتب العلميَّة، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
شرح الكافية الشَّافية، لابن مالك، تحقيق: د. عبد المنعم هريدي، مركز البحث العلمي وإحياء التُّراث الإسلامي، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى، 1402 هـ - 1982م.
شرح كتاب سيبويه، لأبي سعيدٍ السِّيرافي، ج 1 تحقيق: د. رمضان عبد التَّواب، د. محمود فهمي حجازي، د. مُحمَّد هاشم عبد الدايم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطَّبعة (بدون) ، 1986 م، ج 2 تحقيق: د. رمضان عبد التواب، الطَّبعة (بدون) ، 1990 م.
شرح اللَّمحة البدريَّة في علم العربيَّة، لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د. صلاح رواي، مطبعة حسَّان، القاهرة، الطَّبعة الثَّانية، 1404 هـ - 1983 م.
شرح اللُّمع، لابن برهان العُكبري، تحقيق: د. فائز فارس، من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطَّبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م.
شرح مشكل شعر المتنبِّي، لابن سِيْدَه، تحقيق: د. مُحمَّد رضوان الدَّاية، دار المأمون للتُّراث، دمشق، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
شرح المفصَّل، لابن يعيش، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
شرح المقدِّمة الكافية في الإعراب، لابن الحاجب، تحقيق: جمال عبد العاطي مخيمر أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
شرح المقدِّمة المحسبة، لابن بابشاذ، تحقيق: خالد عبد الكريم، النَّاشر (بدون) ، الكويت، الطَّبعة الأولى، 1977 م.(13/364)
شرح ملحة الإعراب، للحريري، تحقيق: د. أحمد قاسم، مكتبة دار التُّراث، المدينة المنوَّرة، الطَّبعة الثَّانية، 1412 هـ - 1991 م.
كتاب الشِّعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب، للفارسي، تحقيق وشرح: د. محمود مُحمَّد الطَّناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
شفاء العليل في إيضاح التَّسهيل، للسَّلسيلي، تحقيق: عبد الله البركاتي، المكتبة الفيصلية، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.
شواهد التَّوضبح والتَّصحيح لمشكلات الجامع الصَّحيح، لابن مالك، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
الصَّاحبي، لابن فارس، تحقيق: السيِّد أحمد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
ضرورة الشِّعر، لأبي سعيد السِّيرافي، تحقيق: د. رمضان عبد التَّواب، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.
عبث الوليد، شرح ديوان البحتري، لأبي العلاء المُعرِّي، تعليق: مُحمَّد عبد الله المدني، دار الرِّفاعي، الرِّياض، الطَّبعة الثَّالثة، 1405 هـ - 1985 م.
العرف الطيِّب في شرح ديوان أبي الطيِّب، للشَّيخ ناصيف اليازجي، دار القلم، بيروت، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون)
علل النَّحو، لابن الورَّاق، تحقيق ودراسة: محمود جاسم الدرويش، مكتبة الرُّشد، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
فاتحة الإعراب في إعراب الفاتحة، للإسفراييني، تحقيق: د. عفيف عبد الرَّحمن، منشورات جامعة اليرموك، الأردن، الطَّبعة (بدون) ، 1399 هـ - 1979 م.
فتح الربِّ المالك بشرح ألفيَّة ابن مالك، للغزِّي، تحقيق: مُحمَّد المبروك الختروشي، منشورات كلية الدعوة الإسلاميَّة، ليبيا، طرابلس، الطَّبعة الأولى، 1401 هـ - 1991 م.(13/365)
الفصول الخمسون، لابن معطي، تحقيق: محمود مُحمَّد الطَّناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
الفصول المفيدة في الواو المزيدة، للعلائي، تحقيق: د. حسن الشَّاعر، دار البشير، عمَّان الطَّبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.
كتاب الفصيح، لثعلب، تحقيق: د. عاطف مدكور، دار المعارف، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1983 م.
الفوائد الضِّيائيَّة (شرح كافية ابن الحاجب) للجامي، تحقيق: د. أسامة طه الرِّفاعي، وزارة الأوقاف والشُّؤون الدِّينيَّة، العراق، الطَّبعة (بدون) 1403 هـ - 1893 م.
الكتاب، لسيبويه، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، الطَّبعة الأولى، 1316 هـ.
الكُنَّاش في فنَّي النَّحو والصَّرف، لأبي الفداء، تحقيق: د. رياض بن حسن الخوَّام، المكتبة العصريَّة للطِّباعة والنَّشر، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
اللاَّمات، للزَّجَّاجي، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، دمشق، الطَّبعة الثَّانية، 1405 هـ - 1985 م.
اللاَّمات، للهروي، تحقيق: يحيى علوان البلداوي، مكتبة الفلاح، الكويت، الطَّبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م.
اللُّباب في علل البناء والإعراب، للعُكبري، تحقيق: د. عبد الإله نبهان، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م.
اللُّمع في العربيَّة، لابن جنِّي، تحقيق: د. حُسين مُحمَّد مُحمَّد شرف، عالم الكتب، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م.
ما تلحن فيه العامة، للكسائي، تحقيق: د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1403 هـ - 1982 م.
ما ينصرف وما لا ينصرف، للزَّجَّاج، تحقيق: د. هدى محمود قراعة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، الطَّبعة (بدون) ، 1391 هـ - 1971 م.(13/366)
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لابن جنِّي، تحقيق: علي النَّجدي ناصف، المجلس الأعلى للشُّؤون الإسلاميَّة، مصر، الطَّبعة (بدون) ، 1386 هـ
المحكم والمحيط الأعظم، لابن سِيْدَه، تحقيق: د. حُسين نصَّار، وآخرين، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1377 هـ - 1985 م.
المحلَّى " وجوه النَّصب "، لابن شُقير، تحقيق: د. فائز فارس، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت الطَّبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.
مجاز القرآن، لأبي عُبيدة، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة (بدون) ، 1374 هـ - 1954 م.
المرتجل، لابن الخشَّاب، تحقيق: علي حيدر، النَّاشر (بدون) ، دمشق، 1392 هـ - 1972 م.
المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات، لأبي علي الفارسي، تحقيق: صلاح الدِّين السَّكاوي، وزارة الأوقاف والشئون الدِّينية، بغداد، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
المسائل المنثورة، لأبي علي الفارسي، تحقيق: مصطفى الحدري، مجمع اللُّغة العربيَّة، دمشق، الطَّبعة، والتَّاريخ (بدون) .
المساعد على تسهيل الفوائد، لابن عقيل، تحقيق: د. مُحمَّد كامل بركات، دار الفكر، دمشق، 1400 هـ - 1980 م.
مشكل إعراب القرآن، للقيسي، تحقيق: ياسين مُحمَّد السَّواس، دار المأمون للتُّراث، دمشق، الطَّبعة الثَّانية، التَّاريخ (بدون) .
معاني الحروف، لأبي الحسن الرمَّاني، تحقيق: د. عبد الفتَّاح إسماعيل شلبي، دار الشُّروق جدة، الطَّبعة الثَّالثة، 1404 هـ - 1984 م.
معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: د. فائز فارس، النَّاشر ومكان النَّشر (بدون) ، الطَّبعة الثَّانية، 1401 هـ - 1981 م.
معاني القرآن، للفرَّاء، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة الثَّالثة، 1403 هـ - 1983 م.(13/367)
معاني القرآن وإعرابه، للزَّجَّاج، تحقيق: د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
مغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، تحقيق: مُحمَّد محي الدِّين عبد الحميد مكتبة ومطبعة: مُحمَّد علي صبيح وأولاده، الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
المفصَّل في علم العربيَّة، للزَّمخشري، دار الجيل، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، التَّاريخ (بدون) .
المقتصد في شرح الإيضاح، لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق: كاظم المرجان، وزارة الثَّقافة والإعلام، العراق، الطَّبعة (بدون) ، 1982 م.
المقتضب، لأبي العبَّاس المبرِّد، تحقيق: مُحمَّد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت الطَّبعة والتَّاريخ (بدون) .
المقرَّب، لابن عصفور الإشبيلي، تحقيق: أحمد عبد الستَّار الجواري، عبد الله الجبوري، رئاسة ديوان الأوقاف، العراق، الطَّبعة الأولى، 1391 هـ - 1971 م.
الملخَّص في ضبط قوانين العربيَّة، لابن أبي الرَّبيع، تحقيق: د. علي بن سلطان الحكمي، النَّاشر (بدون) ، مكان النَّشر (بدون) ، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.
منثور الفوائد، للأنباري، تحقيق: د. حاتم الضَّامن، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م.
المنصف، شرح ابن جنِّي لكتاب التَّصريف للمازني، تحقيق: إبراهيم مصطفى، عبد الله أمين، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطَّبعة الأولى، 1373 هـ - 1954 م.
نتائج الفكر في النَّحو، للسُّهيلي، تحقيق: د. مُحمَّد إبراهيم البنا، دار الرِّياض للنشر والتوزيع، الرِّياض، الطَّبعة الثَّانية، 1404 هـ - 1984 م.
نظم الفرائد وحصر الشَّرائد، للمهلَّبي، تحقيق: د. عبد الرَّحمن بن سُليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.(13/368)
النُّكت في تفسير سيبويه، للأعلم الشَّنتمري، تحقيق: زهير سلطان، منشورات معهد المخطوطات العربيَّة، الكويت، الطَّبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
الهادي في الإعراب إلى طرق الصَّواب، لابن القبيصي، تحقيق: د. محسن سالم العُميري، دار التُّراث، مكَّة المكرَّمة، الطَّبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
همع الهوامع، للسُّيوطي، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلميَّة، الكويت، الطَّبعة (بدون) ، 1394 هـ - 1975 م.
كتاب الوضع الباهر في رفع (أفعل) الظاهر، لابن الصَّائغ، تحقيق: د. جمال عبد العاطي مخيمر، مطبعة حسَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م.(13/369)
وقفات في جزم المضارع في جواب الطلب
وأثر المعنى على الحركة الإعرابية في الجواب
د. سلوى محمد عمر عرب
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة الملك عبد العزيز
ملخص البحث
...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
... فإن هذا البحث يعالج بعض قضايا الجزم في جواب الطلب؛ فبعد التعريف بالجزم، وتقديم نبذة مختصرة عن جزم المضارع عامة، وعن جزمه في جواب الطلب، يتوقف عند أربع قضايا من قضايا المضارع الواقع بعد الطلب، عانت من الاضطراب، وكانت موضع خلاف بين النحويين، وهي:
أولاً: عامل الجزم في جواب الطلب.
ثانيًا: علة امتناع جزم المضارع بعد النفي والخبر المثبت.
ثالثًا: الجزم في جواب النهي.
رابعًا: أثر المعنى على الحركة الإعرابية في المضارع الواقع بعد الطلب.
وقد أسفر عن نتائج فيها تيسيرٌ للنحو، وحلٌّ للإشكال، وإزالةٌ للغموض الذي يكتنف بعض المسائل.
وخُتم البحث بتطبيقٍ على بعض الآيات القرآنية الكريمة، تناولها بالدراسة العميقة للمعنى الذي هو الركيزة الأساس في تحديد الحركة الإعرابية المناسبة.
وهو يفتح آفاقاً لدراساتٍ مستقبليّةٍ لمعاني آيات القرآن الكريم، معتمدة على ما جاء من أقوال النحاة والمفسرين.
أسأل الله أن يجعل فيه النفع، وبالله التوفيق
* * *
تقديم:
معنى الجزم:
الجزم في اللغة: " القطع، وكل أمر قطعته قطعاً لا عودة فيه فقد جزمته " (1)
وفي الاصطلاح النحوي: " عبارة عن حذف حركة أو حرف من حروف العلة - أو ما شبه به - بعامل " (2) .
وجاء في (اللسان) : (3) " أن الجزم في النحو سمي جزماً لقطع الإعراب عن الحرف وإسكانه ".(13/370)
وعرّفوا السكون بأنه " عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحرف، ولا يحدث بعد الحرف صوت، فينجزم عند ذلك، أي ينقطع؛ فلذلك سمي جزماً، اعتباراً بانجزام الصوت، وهو انقطاعه، وسكوناً، اعتباراً بالعضو الساكن (4) .
وعلة تسمية الجزم التي وردت في (اللسان) علة لفظية، لا تتطرق إلى الأبعاد التي أسكن من أجلها الحرف وقطعت عنه الحركة، وتتجاهل المعنى الذي دلت عليه الكلمة، ودل عليه الإعراب، وتدعونا إلى التساؤل عن العلة المعنويّة التي من أجلها أسكن الحرف، وقطعت عنه الحركة؟!!
ولعلّ العلّة تكمن في ذات المتكلم، فالمتكلم يقف على الحرف، ويجعله ساكناً، ويقطع الصوت بعده، فيقول: افعلْ، أو لا تفعلْ، أو لم أفعلْ، أو إنْ تفعلْ افعلْ؛ فكأنُما أراد أن يدلل على معنى الأمر، والنهي، والنفي، والشرط، وهي معانٍ تُشعر بالعزيمة القوية، والجزم والقطع في الأمر، والبت فيه؛ لذا يُعرًف الليث الجزم بقوله: " الجزم عزيمةٌ في النحو في الفعل " (5) .
فكأنما أراد أن يشير إلى العزيمة القوية الموجودة في نفس المتكلم، قال المبرد (6) : "إنما سمي الجزم في النحو جزماً؛ لأن الجزم في كلام العرب القطع، وكلّ أمرٍ قطعته قطعاً لا عودة فيه فقد جزمته "، فلما رأوا أن المتكلم يقف على الحرف ولا يجري الصوت فيه، جازماً في الأمر، قاطعاً له، وضعوا عليه علامة تدل على سكون الحرف وقطع الصوت عنه، وسميت هذه العلامة سكوناً، وجزماً.
وقد وُضِعَتْ علامات الإعراب لتُعْرِب عن المعاني التي تدور في النفس،، وكان ذلك في فترة زمنية متأخرة، عندما اتخذ أبو الأسود الدؤلي كاتباً من بني عبد القيس (7) ، وأمره أن يضع علامات تدل على الملفوظ من الكلام، ثم وُضعت بعد ذلك العلامات المعروفة؛ وهي الفتحة،والضمة،والكسرة، والسكون، وفقاً لحركة الفم وسكونه.(13/371)
فالمعنى الذي يدور في نفس المتكلم يأتي أولاً، ثم يليه التعبير عنه بالكلام الملفوظ، ثم الدلالة عليه في الخط المكتوب بالعلامات الدالة عليه.
وقيل: إن الدائرة الصغيرة قد اختيرت لتدل على السكون والجزم؛ لأنها مأخوذة من ميم " جزم ". وقيل: اتُخِذ رمز الدائرة الصغيرة - وهو رمز الصفر في حساب الهنود، الذي يدل على خلو المرتبة - ليدلّ على خلو الحرف من الحركة (8) .
ولعل السبب في أن الحروف أصلها السكون؛ لأنّ الحرف ليس له معنى بمفرده، ولا يكون له معنى إلاّ مع غيره، فحروف الهجاء تدب فيها الحركة إذا ائتلفت مع الحروف الأخرى في الكلمة، وتتغير حركاتها بتغيّر المعاني التي تدلّ عليها، ويسكن ما يسكن منها - بعد ائتلافها - منعاً لتوالي الحركات.
والجزم من خصائص الأفعال، والأفعال التي يلحقها السكون هي: فعل الأمر، والفعل المضارع إذا سبق بجازم، أو إذا وقع جواباً للطلب، وسيتضح ذلك فيما يلي.
جزم الفعل المضارع: (9)
... يجزم الفعل المضارع في موضعين:
أولهما: إذا سبق بأداة من الأدوات التي تجزم المضارع، وهي نوعان:
الأول - أدوات تجزم فعلاً واحداً، وهي أربعة أحرف: اللام الطلبية، و " لا " الطلبية، و"لم"، و" لمّا ".
الثاني - أدوات تجزم فعلين: أحدهما فعل الشرط، والآخر:جواب الشرط؛ وهي إحدى عشْرةَ أداةً: "إنْ - إِذْمَا - مَنْ - مَا - مَهْمَا – مَتَى - أيَّانَ - أيْنَ - أنَّى - حَيْثُمَا - أيّ ".
وثاني الموضعين: إذا وقع جواباً للطلب. وهو موضوع هذا البحث.
جزم المضارع في جواب الطلب
... يجوز جزم الفعل المضارع الواقع في جواب الطلب إذا سقطت الفاء، بشرط أنْ يقصد الجزاء.
والمقصود بوقوع الفعل المضارع جواباً للطلب؛ هو أنْ يكون مترتباً على كلام قبله ترتب الجواب على السؤال.
والمراد بقصد الجزاء؛ هو تقدير الفعل " مسبباً عن ذلك الطلب المتقدم، كما أن جواب الشرط مسبب عن فعل الشرط " (10) .(13/372)
فمثال جزم المضارع بعد الأمر: " ايتني أكرمْك ".
وبعد الدعاء: ربِّ وفقْني أطعْك ".
وبعد التمني: " ليت لي مالاً أنفقْه ".
وبعد الترجّي: لعلّك تتصدقُ تؤجرْ "
وبعد الاستفهام: " أين بيتك أزرْك؟ ".
وبعد العَرْض: " ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً ".
وبعد التّحْضِيض: " هلاّ تزورُنا نكرمْك "
وبعد النّهْي " لا تكفرْ تدخلْ الجنة ".
جزم ما جاء بمعنى الأمر:
كل ما دلّ على معنى الأمر - وإن لم يكن بصيغة فعل الأمر المخصوصة - يجوز عند الجمهور أن يُجزم بعده المضارع إذا خلا من الفاء، وقصد معنى الجزاء؛ لأن علة الجزم تكمن في المعنى لا في اللفظ، فما جاز فيما جاء بصريح اللفظ في الأمر وغيره، جاز فيما جاء بمعناه (11) .
فمما جاء على معنى الأمر (12) :
اسم الفعل:
وذلك نحو: " نزالِ أكرمْك "، و " مناعِ زيداً من الشرِّ تؤجرْ "،
و"تراكِ زيداً يخرجْ"، و "عليك زيداً أكرمْك "، و" دونك عمراً أحسنْ إليك ".
وأيضاً: " صَهْ أكلمْك "، و " مَهْ تُكْرَمْ "، و " رُوَيدَك أحسنْ إليكَ "؛ ومنه قول الشاعر (13) :
... رُوَيْدَ تَصَاهَلْ بالعِرَاقِ جيادُنا كأنّك بالضَّحَّاكِ قَدْ قَامَ نَادِبُه
ومنه قول الشاعر أيضاً (14) :
... وَقَوْلِي كلَّما جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أو تَسْتَرِيحِي.
فجزم في البيت الأول " تَصاهلْ " في جواب اسم الفعل " رُوَيْد "؛ لأنه بمعنى "تمهّلْ ". وجزم في البيت الثاني " تُحمدي " في جواب اسم الفعل " مكانَكِ "؛ لأنه بمعنى " اثبتي ". وكل ما أشبه هذا من أسماء الأفعال يجري مجراه.
ما جاء بلفظ الخبر:(13/373)
أ- ويكون دعاءً: نحو: " غفر الله لك يدخلْك الجنة "؛ أي: إنْ غفر لك يدخلْك الجنة، و" غفر الله لي أنج من عذاب الله "؛ أي: إنْ غفر الله لي أنجُ، ومعناه معنى " اللهمّ اغفرْ لي أنجُ "، لكنه جاء مجيء لفظ الإخبار بالغفران على خلاف الأصل، فصحّ الجزم؛ لأنّ معنى الشرط فيه صحيح.
ب- ويكون غير دعاء: نحو قولهم: " حَسْبُك يَنَمِ النَّاسُ"؛ أي: اكتفِ ينم الناس؛ وقالوا: " أتّقَى اللهَ امرؤٌ وفعل خيراً يُثَبْ عليه " معناه: لِيَتَّقِ وجعلوا منه قوله تعالى: ? تُؤْمِنُونَ بِاْللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فيِ سَبِيلِ اللهِ بأَمْواَلِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.... ? (15) فجزم" يغفرْ "؛ لأنه جواب " تؤمنون " لكونه في معنى: " آمنوا "، والدليل قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - " آمنوا …………وجاهدوا " (16) وقال أبو حيّان: (17) " قال بعض أصحابنا: الفعل الخبري لفظاً، الأمريّ معنى لا يقاس، ولم يُسمع منه إلاّ الذي ذكرناه ".
وجعل الشاطبي مما جاء بلفظ الخبر التحذير والإغراء ونحوهما قياساً على ما سبق؛ وذلك نحو: " إيَّاك وزيداً تسلمْ منه "، و " وأخاكَ تقو به".
ومن هذا الباب ما قام من المصادر مقام أفعال الأمر، ك " ضرباً زيداً يتأدبْ ". وصرّح الشاطبي بأنّ هذا كلّه إنّما أتى به على ما يحتمله كلام ابن مالك، وما يسوغه القياس، ولم ير فيه نصاً (18) .
وبعد هذا العرض الموجز لجزم المضارع في جواب الطلب، نقف عند بعض القضايا التي اختلف فيها النحويون في هذا الباب، وهي:
أولاً - عامل الجزم في جواب الطلب.
ثانيًا- علّة امتناع جزم المضارع بعد النفي والخبر المثبت.
ثالثًا- الجزم في جواب النهي.
رابعًا-أثر المعنى على الحركة الإعرابية في المضارع الواقع بعد الطلب.(13/374)
أولاً: عامل الجزم في جواب الطلب
لمَّا كان الطلب - وهو الأمر، والنهي، والدعاء، والتمنّي، والترجّي، والاستفهام، والعَرْض، والتخصيص - لا يقتضي جواباً لعدم توقف شيء منه في الفائدة على غيره، وقد تلاه جواب مجزوم؛ فقد دلّ ذلك على وجود جازم ترتب عليه الجواب فانجزم، ومن هنا أخذ النحويون يبحثون عن العامل الذي جزم جواب الطلب، فاختلفوا في تحديد هذا العامل على أربعة مذاهب:
أوّلها:أن الجازم هو لفظ الطلب ضُمّن معنى حرف الشرط فجزم، كما أن أسماء الشرط تضمنت معنى حرف الشرط "إنْ " فجزمت؛ نحو: " مَنْ يأتني أكرمْه، فأغنى ذلك التضمين عن تقرير لفظها بعد الطلب.
ونُسب هذا المذهب إلى الخليل، وسيبويه، وابن خروف، وابن مالك (19) ، ورُدّ هذا القول بالاعتراضات الآتية:
إنّ تضمين الفعل معنى الحرف إمّا غير واقع، أو غير كثير، بخلاف تضمين الاسم معنى الحرف (20) .
إنّ تضمين الفعل معنى الحرف يقتضي أن يكون العامل جملة، ولا يكون العامل جملة، قاله ابن عصفور (21) .
إنّ في تضمين الطلب معنى الشرط تضمين معنيين: معنى " إنْ "، ومعنى الفعل، ولا يوجد في لسان العرب تضمين لمعنيين، إنّما يكون التضمين لمعنى واحد.
إنّ معنى " إنْ تأتني " معنى غير طلبي، فلو تضمنه فعل الطلب في نحو: " ايتني آتك " لكان الشيء الواحد طلباً غير طلب؛ أي مضمناً لمعنيين متناقضين.
وهذا الاعتراض والذي قبله لأبي حيّان (22) .
إنّ تضمّن الطلب معنى حرف الشرط " إنْ " غير جائز؛ لأنّ حرف الشرط لابد له من فعل.
وهذا الاعتراض للأشموني (23) . وقد أجيب بأنّ هذا في الشرط التحقيقي لا التقديري، فهو ليس شرطاً حقيقة بل مضمناً معناه (24) .(13/375)
إن تضمين الطلب معنى الشرط ضعيف؛ لأنّ التضمين زيادة بتغيير الوضع، والإضمار زيادة بغير تغيير، فهو أسهل، ولأنّ التضمين لا يكون إلاَّ لفائدة، ولا فائدة في تضمين الطلب معنى الشرط؛ لأنه يدل عليه بالالتزام، فلا فائدة في تضمينه معناه، قاله ابن الناظم. (25) .
ثانيها: إنّ الجازم هو الطلب ناب مناب الشرط، لا على جهة التضمين، بل على جهة أنّ هذه الأشياء من أنواع الطلب قد نابت مناب الشرط؛ بمعنى أن جملة الشرط قد حذفت، وأنيبت هذه منابها في العمل، ونظيره قولهم: " ضرْباً زيداً "؛ فإنّ " ضرْباً " ناب عن "اضربْ " فنصب " زيداً "، لا أنّه ضمن المصدر معنى فعل الأمر، بل ذلك على طريق النيابة.
وهذا مذهب الفارسيّ (26) ، وابن عصفور (27) ، ونسبه أكثر النحويين إلى السيرافي (28) .
ورُدّ هذا القول بالاعتراضات الآتية (29) :
إن نائب الشيء يؤدي معناه، والطلب لا يؤدي معنى الشرط؛ إذ لا تعليق في الطلب بخلاف الشرط.
إنّ الأرجح في " ضرْباً زيداً " أنّه منصوب بالفعل المحذوف لا بالمصدر؛ لعدم حلوله محل فعل مقرون بحرف مصدري.
ثالثها: إن الجازم هو شرط مقدر دلّ عليه الطلب، وذهب إليه أكثر المتأخرين، واختاره أبو حيّان (30) ، ورجّحه خالد الأزهريّ (31) وزعم أنه مذهب الخليل، وسيبوية، والسيرافي, والفارسي، إلاّ أنّهم اختلفوا في علته؛ " فقال الخليل وسيبويه: إنما جَزَمَ الطلب لتضمنه معنى حرف الشرط، كما أنّ أسماء الشرط إنما جَزَمتْ لذلك. وقال الفارسي والسيرافي: لنيابته مناب الجازم الذي هو حرف الشرط المقدر ….." (32) .
مما سبق نجد أنّ المذاهب الثلاثة تدور حول مصطلحات ثلاثة: " التقدير، والتضمين، والنيابة "؛ فهل الجازم هو:
1- شرط مقدر بعد الطلب؟ " وهو المذهب الثالث "
2- أم الطلب الذي تضمن معنى الشرط؟ ... " وهو المذهب الأول "
3- أم الطلب الذي ناب مناب الشرط؟ ... " وهو المذهب الثاني "(13/376)
ولا يخفى ما في نسبه هذه المذاهب إلى كلٍّ من الخليل، وسيبويه، والسيرافي، والفارسي، من اضطرابٍ؛ فقد نُسب إلى الخليل، وسيبويه المذهب الأوّل وهو " التضمين "، كما نُسب إليهما المذهب الثالث وهو " التقدير ". ونُسب إلى السيرافيّ، والفارسي المذهب الثاني، وهو " النيابة "، كما نسب إليهما - أيضاً - المذهب الثالث وهو " التقدير ".
وللوقوف على الحقيقة لابدّ من ذكْر كلامِ كلِّ واحدٍ منهم بنصّه، قال سيبويه (33) : " وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب " إن تأتني " بإن تأتني؛ لأنهم جعلوه معلقاً بالأول غير مستغن عنه - إذا أرادوا الجزاء - كما أنّ " إنْ تأتني " غير مستغنية عن " آتك ".
وزعم الخليل: أنّ هذه الأوائل كلها فيها معنى " إنْ " فلذلك انجزم الجواب ……".
فكلام سيبويه يحتمل أن يكون الجازم " إنْ والفعل " أي: شرط مقدر، ويحتمل أن يكون الجازم الطلب تضمن معنى الشرط المقدر، أو الطلب ناب مناب الشرط المقدر، فهو يحتمل المذاهب الثلاثة.
وقوله: " وزعم الخليل " قد يشير إلى أن ثمة اختلافًا بين مذهبيهما.
وكلام الخليل يحتمل - أيضاً - المذاهب الثلاثة؛ فقوله: " إن هذه الأوائل فيها معنى إنْ " يحتمل أنّها تضمنت معنى " إنْ "، كما يحتمل انها نابت مناب " إنْ " ودلت على معناها. وقوله: " فيها معنى إنْ " يدل على أنّ الشرط ملحوظ مقدّر، إمّا على جهة التضمين، أو النيابة. فالتقدير، والتضمين، والنيابة محتمَلة في كلامه.
أما قول السيرافي (34) " جُزِمَ جواب الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض بإضمار شرط في ذلك كله0000 ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى، والذي يكشفه الشرط، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء ".(13/377)
فقوله: " بإضمار شرط في ذلك كله " يدل على أن الجازم هو الشرط المضمر في الطلب إمّا على جهة التضمين أو النيابة؛ لأنه يدل على معناه. وقوله: " فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " يقطع بأن يكون الجازم هو الشرط المقدر.
أما قول الفارسي في (الإيضاح) (35) : " وقد يحذف الشرط في مواضع فلا يؤتى به لدلالة ما ذكر عليه، وتلك المواضع: الأمر، والنهي 0000 "؛ فيدل على أن الجازم شرط مقدر محذوف، كما أنه قد يدل على أن الجازم الطلب الذي تضمن الشرط ودل عليه، أو الطلب الذي دل على الشرط فناب عنه؛ فاحتمل كلامه - أيضاً - المذاهب الثلاثة، ولا يبعد عنه ما جاء في (المسائل المنثورة) (36) .
وبإنعام النظر فيما أثر عن هؤلاء النحاة؛ نجد أنّ أقوالهم تتشابه ولا تناقض بينها - وإن اختلفت عباراتهم - كما أنّ بعضها يحتمل المذاهب الثلاثة، ومن هنا ندرك سبب اضطراب العلماء في نسبة هذه المذاهب إليهم.
والحقيقة أن الخليل، وسيبويه، والفارسي لم يصرح أحد منهم بتأييده لمذهب من هذه المذاهب، ولم يحدد أحد منهم مصطلحاً معيناً من المصطلحات الثلاثة ويتشبث به، وإنّما الذين أوجدوا هذا الخلاف وحاولوا أن يعمّقوه، وأن يوجدوا فروقاً بين أقوال النحاة؛ هم المتأخرون (37) ، فحاول كل منهم أن يؤوّل كلام السابقين ويوجهه وفق مذهبه، حتى اتسعت شقة الخلاف.
ولم يختلف أحد على وجود شرط ملحوظ في الكلام، سواء أقدرناه بعد الطلب، أم قدرناه في الطلب على جهة التضمين أو النيابة؟ فالشرط ملحوظ في جميع التراكيب التي انجزم فيها المضارع، والفرق بين التضمين والتقدير أنّ التضمين: يكون في المعنى المتضمن على وجه لا يصح إظهاره معه. والتقدير: يكون على وجه يصح إظهاره معه (38) .(13/378)
أما قول النحويين بأن الجازم هو الطلب مضمناً معنى الشرط، أو نائباً مناب الشرط ففيه ترخُّص؛ لأن الطلب في حد ذاته لا يفتقر إلى جواب، والكلام تام به، فإذا قلنا: " افعلْ " أو " لا تفعل " فإنما نطلب من المأمور أن يفعل، أو ننهاه عَنْ أَنْ يفعل، ولا وجود لمعنى الشرط فيه بمفرده؛ إذ لا يقتضي - بمفرده - جواباً، ولا يتوقف وجود غيره على وجوده، ولكن إذا أتينا معه بجواب، نحو: " ايتني آتك "، دلّ ذلك على أن هناك شيئاً يتوقف عليه هذا الجواب، ولم نلحظه من الطلب بمفرده، ولا من الجواب بمفرده، بل منهما معاً، ولله درّ ابن خروف! إذ قال: " كلُّ جوابٍ يُجزم فلتضمن الكلام معنى الشرط " (39) ، فقال: " لتضمن الكلام " ولم يقل: الطلب؛ لأن الطلب بمفرده - كما سبق- كلام تام، لا يوجب اقترانه بجواب، ولكن الكلام المشتمل على الطلب والجواب معاً دلاّ على معنى الشرط. وقال في (شرح الكتاب) (40) : "والجازم في هذا الباب للجوابات الكلام الذي دخله معنى الشرط؛ لأنه في معنى " إنْ تأتني آتك "، والعامل في جواب الشرط الصريح حرف الشرط ومجزومه، فكذلك ما ناب منابه وتضمن معناه ".
والأمر أيسر من أنْ يُجعل فيه خلافٌ، إذ قَصْدُ الشرط موجود في كلامهم وإن اختلفت العبارة، والجزم حاصل بالشرط الملحوظ من الكلام سواء أكان مقدراً في الكلام وجاز التلفظ به، أم تضمنه الطلب ولم يَجز التلفظ به، أم ناب عنه؟ . والذي قادهم إلى إيجاد هذا الخلاف مصطلحات ثلاثة: " التقدير، والتضمين،والنيابة "، وحسماً للخلاف يمكننا القول: بأن الجازم للجواب شرطٌ مقدرٌ ملحوظٌ، تضمنه الكلام، وناب منابه - وهو قريبٌ ممّا قاله ابن خروف - سواء تلفظنا به أم لم نتلفظ به، وبذلك نكون قد وَفّقْنا بين المذاهب الثلاثة. قال الشاطبيّ (41) : " والخَطْبُ في المسألة يسيرٌ، وكلاهما محتملٌ ممّا يقال به، فلا حاجة إلى الإكثار ".(13/379)
رابعها: أي المذهب الرابع في عامل الجزم في جواب الطلب هو: أن الجازم لامٌ مقدرةٌ. وهذا القول لا يُعتد به، قال الأشموني (42) " وهو ضعيفٌ، لا يطّرِدُ إلا بتجوّزٍ وتكلّفٍ "؛ فالتجوّز؛ لأن أمر المتكلم نفسه إنما هو على التجوز بتنزيل نفسِه منزلة الأجنبي، وأمّا التكلّف؛ فلأنّ دخول لام الأمر على فعل المتكلم قليلٌ (43) .
ثانياً: علة امتناع جزم المضارع بعد النفي والخبر المثبت
علّل النحويون امتناع جزم المضارع بعد النفي نحو: " ما تأتينا تحدثنا" بعللٍ شتى، منها ما يلحظ فيه التكلف والبعد عن المنطق، ومنها ما يكتنفه الغموض وعدم الوضوح، ومنهم من اكتفى بمنع الجزم ولم يعلل (44) .
وإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر وجدنا أنّ النفي كالإثبات خبر محض لا يتوقف عليه كلام قبله، ولا يترتب عليه ترتب الجواب على السؤال، فإذا قلت: "فعلتُ كذا"، أو" لمْ أفعلْ كذا" فهو خبر قابل للتصديق والتكذيب، وليس فيه طلب يترتب على تنفيذه أو عدم تنفيذه أمر ما، أو رد فعل معين، فالمتكلم أراد أنْ يخبر فحسب، ولم يرد أن يشترط لهذا الخبر شرطاً تترتب عليه نتيجة كما يترتب جواب الشرط على الشرط؛ ولذلك لم ينجزم بعده المضارع إذا خلا من الفاء؛ لأنه لم يحسن معه الشرط، فالشرط لا يحسن إلا مع الطلب، أما الخبر - سواء كان بالنفي أم بالإثبات - فلا يحسن معه الشرط، ولذلك لم يرد به سماع عن العرب، فالعرب لا تتكلم إلا بما هو صواب يقبله المنطق.
أمّا إطلاق كلمة " جواب " على الفعل المضارع المنصوب المسبوق بنفي فهو غير صحيح، وإنما هو من قبيل الاستطراد، ومجاراة لأساليب الطلب التي ينتصب معها المضارع بعد فاء السببية، ولما كان النفي - أيضاً - ينتصب معه المضارع المقترن بالفاء، أُطلق عليه طلب من قبيل التجوّز والترخص، وطرداً للتسمية على جميع الأساليب المتقدمة التي ينتصب بعدها المضارع.(13/380)
ونُسِبَ جواز الجزم بعد النفي إلى الكوفيين والزجاجي؛ (45) فأمّا نسبته إلى الزجاجيّ فما هو إلا من قبيل التعميم؛ فلما كان المضارع ينتصب بعد الفاء المسبوقة بطلب أو نفي لتضمنه معنى السببية، وبسقوط الفاء ينجزم بعد الطلب لتضمنه معنى الشرط الذي لا يحسن مع النفي لما ذكرناه سابقاً؛ أدخل النفي مع الطلب عن غير قصد، فقال: " وكل شيء كان جوابه بالفاء منصوباً، كان بغير الفاء مجزوماً " (46) ، فلم يصرح بالنفي في هذه العبارة، ولو قال: " كان فعله بالفاء منصوباً " لكان أدق في التعبير؛ لأن النفي إخبارٌ لا يحتاج إلى جواب كالطلب.
أما قوله: " اعلم أنَّ جوابَ الأمرِ، والنْهي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض، والجحد، مجزوم على معنى الشرط 000" (47) .
فالملاحظ أنّ عبارة " على معنى الشرط " ملحقة في بعض النسخ، وساقطة من بعضها، فلا يبعد أن تكون كلمة " الجحد " قد أُلحقت أيضاً من قبل النساخ ظناً منهم بأنه قد غفل عن إدراجها ضمن ما ينجزم بعده المضارع، إذ كان ضمن ما ينتصب بعده، وتناقل النحويون ذلك عنه ونسبوه إليه.
وعلى أي حال فقد خطّأه كثير من شراح (الجمل) وتعقّبوه وردّوه عليه (48) .
وأمّا ما نُسب إلى الكوفيين فلم أجده فيما اطلعت عليه من كتبهم.
وأجاز الصيمري في (التبصرة والتذكرة) الجزم بعد النفي، ومثّل له بقوله: " ما أنت جواداً أقصدْك " (49) . وقال أبو حيان: " والصحيح أنّ الجزم بعد حذف الفاء في النفي لا يجوز، ولم يرد به سماع، ولا يقتضيه قياس" (50) .
نستنتج مما سبق أن الجزم بعد النفي غير جائز؛ لأنّ النفي إخبار وليس طلباً، وما نسب إلى الزجاجي والكوفيين مشكوك في صحته، والصواب ما عليه الجمهور.
ثالثاً: الجزم في جواب النهي(13/381)
عرفنا فيما سبق أنّ جواب الطلب يُجزم عند سقوط الفاء إذا قُصد الجزاء، والجازم هو شرط مضمر ملحوظ من الكلام المكون من جملة الطلب وجملة الجواب معاً، يُقدر ب " إنْ " والفعل المناسب. واختيرت " إنْ " دون غيرها من حروف الجزاء؛ لأنّها أمُّ حروف الجزاء؛ فهي لا تفارق المجازاة، في حين غيرها من حروف الجزاء قد يتصرفن فيفارقن الجزاء.
والعلّة في تقدير المجازاة - هنا - هي إيجاد مسوّغ لجزم جواب الطلب؛ إذ الطلب في حد ذاته لا يقتضي جواباً، ولا يفتقر إلى جواب، ولكن لما وجد جواب مجزوم، كان لابد من إيجاد ما ينجزم به هذا الجواب ويتوقف عليه، لذلك قدّر النحويون المجازاة، بشرط مضمر يُقدر ب " إنْ والفعل "؛ فهذا الإضمار أو التقدير هو أمر وهميّ متخيّل، الغرض منه تسويغ الجزم في جواب الطلب؛ لذا لا يصح أن ينجزم الجواب إلاّ إذا صحّ المعنى بتقدير " إنْ والفعل "، فإذا لم يصح المعنى بتقدير الشرط، لم يجز الجزم في الجواب؛ فيجوز الجزم في نحو:" علّمني عِلْمًا انتَفِعْ به " (51) ،وقوله تعالى:
? ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا.... ? (52) ويمتنع الجزم في نحو: " أطعمْ جائعاً يبحثُ عن طعامٍ".
... ويجب الجزم في نحو: " افتحْ صنبورَ الماءِ ينهمرْ ماؤه "، وقوله تعالى: ? اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ.... ? (53) .
وأضاف أكثر النحويين (54) إلى هذا الشرط العام شرطاً آخر لصحة الجزم في جواب النهي، وهو وقوع " لا " بعد " إنْ " الشرطية المقدرة دون أنْ يقع فساد في المعنى؛ قال ابن مالك (55) :
وشَرْطُ جزمٍ بعدَ نهيٍ أنْ تضع " إنْ " قبلَ " لا " دونَ تخالفٍ يقع(13/382)
فصحّ الجزم في نحو: " لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ"،و" لا تعصِ اللهَ تدخلِ الجنةَ "؛ لأنّ التقدير: إنْ لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ، وإنْ لا تعصِ اللهَ تدخلِ الجنةَ؛ فصح المعنى؛ لأن عدم الدنو سبب في السلامة، وعدم المعصية سبب في دخول الجنة.
وامتنع الجزم - عندهم - في نحو: " لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك "، و" لا تعصِ اللهَ تدخلُ النارَ "، قالوا: لأنّ التقدير: إنْ لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك، وإنْ لا تعصِ اللهَ تدخلُ النارَ. فهذا المعنى فاسد - ولا شك - والسبب هو تقدير "لا" بعد " إنْ " الشرطية، ولو لم يقدروها لاستقامت العبارة، واستقام المعنى.
ولم يشترط الكسائي (56) هذا الشرط – وهو تقديره " لا " ضمن جملة الشرط المقدرة – بل يقدر التقدير المناسب للمعنى الذي تدل عليه القرائن، إذ المعوّل عليه في جزم الجواب هو المعنى؛ فيصح الجزم – عنده – في كلتا الحالتين لصحة المعنى بتقدير " لا " في جملة الشرط المقدرة في المثالين الأولين، أي: " إنْ لا تدنُ منْ الأسدِ تسلم "، و " إنْ لا تعصِ اللهَ تدخلُ الجنةَ " وعدم تقديرها في المثالين الأخيرين؛ لأنه واضح فيهما أنّ قصد المتكلم: " إنْ تدنُ من الأسدِ يأكلك "، و " إنْ تعصِ اللهَ تدخل النار ".
ونُسب هذا المذهب أيضاً - وهو صحة الجزم في نحو: " لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك " - إلى الكوفيين عامة (57) .وصرح السهيليّ بجوازه، وقال بأن له نظائر وشواهد يطول ذكرها وخرّجه على ما ذهب إليه الكسائي، أو على إضمار فعل يدل عليه النهي، أو أن يكون منجزماً على نهي آخر.
وقال بأن الثلاثة الأوجه جائزة على أصول النحويين أجمعين (58) وأجازه الأخفش (59) لا على أنه جواب، بل حملاً على اللفظ الأول؛ لأنه مجزوم.
وأجازه الجرميّ على قُبحٍ (60) ، وقال سيبويه: " فإن قلتَ: لا تدنُ من الأسد يأكلْك فهو قبيح إنْ جزمت، وليس وجه كلام الناس " (61) .(13/383)
واحتجّ المانعون بفساد المعنى عند تقدير " لا " بعد " إنْ " الشرطية، إذ سيصير " إنْ لا تدنُ من الأسدِ يأكلْك "، وهذا محال، لأنّ تباعده لا يكون سببًا لأكله، ويجوز الرفع، أو إدخال الفاء والنصب (62) .
وقالوا بأنّ المضمر يجب أنْ يكون من جنس المظهر (61) إذ لو خالفه لما دلّ عليه، فيجب أنْ تعاد " لا " في جملة الشرط المقدرة.
أما المجيزون فاحتجوا بالقياس والسماع، بالقياس على النصب فكما جاز النصب في " لا تدنُ من الأسدِ فيأكلَك " بثبوت الفاء والنصب، جاز الجزم عند سقوطها.
وبالسماع (64) ، فقد جاء في الأثر أنّ أبا طلحة قال للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – في بعض المغازي: " لا تُشْرِفْ يُصبْك سَهْمٌ من سِهَامِهِمْ " (65) –بجزم " يصبك " على جواب النهي –
وعنه- صلى الله عليه وسلم– "منْ أَكَلَ مِنْ هذه الشَّجَرَةِ فلا يقربْ مسجدَنا يؤذِنا بريحِ الثومِ " (66) بجزم " يؤذنا " على جواب النهي.
وعنه-صلى الله عليه وسلم-: " لا تَرْجِعُوا بعدي كفاراً يضربْ بعضُكم رقابَ بعضٍ " (67) بجزم " يضربْ " على جواب النهي.
كما احتجوا بقول بعض العرب: " لا تَسْألُونا نُجبْكم بما تكرهون " (68) بجزم " نجبْكم " على جواب النهي.
وبقراءة الحسن: ? وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثرْ ? (69) بالجزم في بعض التوجيهات.
وجاء في (كتاب الجمل) (70) " لا تقصدْ زيداً تندمْ ".
وفي (التبصرة والتذكرة) للصيمري (71) - في بعض النسخ -: " لا تشتم زيداً يضربْك ".
وأجاب البصريون بأنه لو صحّ القياس على النصب لصحّ الجزم بعد النفي قياساً على النصب (72) .
وردوا النصوص السابقة (73) بندورها، وبجواز أن يكون المجزوم ثانياً بدلاً من المجزوم أولاً لا جواباً، وبثبوت الياء في الحديث الأول والثاني في بعض الروايات.
أما قراءة الحسن، فقالوا بأنها تحتمل عدة أوجه (74) :(13/384)
أن تكون " تستكثر " بدلاً من " تمنن "، وأنكره أبو حاتم (75) ، وقال: إنّ المن ليس بالاستكثار فيبدل منه.
أن يكون قدّر الوقفَ عليه؛ لكونه رأس آية، فسكّنه ثم وصله بنية الوقف.
أن يكون سكّنه لتناسب الفواصل، وهي: فأنذر، فكبر، فطهر، فاهجر.
أن يكون أسكن الراء لثقل الضمة، مع كثرة الحركات تشبيهاً له ب "عضد".
إثبات الوجه إنْ لا تمنن تستكثر من الأجر.
وقد أجمع القراء السبعة على الرفع فيه (76) ، والجملة في موضع نصب على الحال؛ أي: ولا تمنن مستكثراً ما أعطيت، أو على حذف " أنْ " فارتفع الفعل.
وقرأ الأعمش (77) " تستكثرَ " بالنصب بأن مضمرة، أي: لا يكن منك منٌّ ولا استكثار، ويعضده قراءة ابن مسعود. " أنْ تستكثرَ " (78) .
وأجاز العكبري جزمه على الجواب، قال: " والتقدير في جعله جواباً: إنّك إن لا تمنن بعملك أو بعطيتك تزدد من الثواب لسلامة ذلك عن الإبطال بالمن والأذى. على ما قال تعالى: ? لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى ? (79) " (80) .
وبعد عرض القضية وحجج الفريقين، وبإنعام النظر في الأساليب التي أجازوا فيها الجزم والتي منعوه فيها، نحو: " لا تدنُ من الأسد تسلمْ "، و " لا تدنُ من الأسد يأكلْك "، نجد أنْ لا فرق بينهما في التركيب، فكلاهما يتكون من عناصر أساسية هي: أداة النهي، والفعل، وجار ومجرور، والجواب، وكلاهما نهي يترتب عليه جلب مصلحة أو دفع ضرر، وهذا هو وجه الاختلاف بينهما، فالمنع إذن ليس من جهة اللفظ، وإنما من جهة المعنى، والمتكلم عندما ينهى شخصاً إما أن يبين له عواقب الطاعة، أو أن يبين له عواقب المعصية، فإن أراد إقناعه نهاه ورغبه في الأمور الحسنة التي تترتب على الامتثال؛ نحو:" لا تعص الله تدخل الجنة " و " لا تكذبْ تنجُ " و " لا تهملْ واجبك تنجح ".(13/385)
وإنْ رآه في خطر نهاه وحذره من المخاطر التي تترتب على عدم الامتثال، ويكون همه هو درء الخطر عنه وتخويفه. ولنا أن نتخيل حالة الرعب والتوتر والاضطراب التي يكون عليها من رأى شخصاً أو طفلاً يهم بعمل يترتب عليه خطر؛ أينهاه مبيناً حسنات الامتثال، أم ينهاه مبينًا المخاطر؟
لا شكّ أنّ الحالة النفسية للمتكلم لها تأثير في تحديد الأسلوب الذي يُعبّر به عما يدور في نفسه، ففي الغالب ينهاه مبينًا المخاطر التي تترتب على عدم الامتثال، لأنّ همّه هو درء الخطر عنه، فيقول له: " لا تقتربْ من النار تحترق " و " لا تكسلْ تندمْ " و " لا تمسكْ الزجاج يقطعْ يدك ".
ولو تدبرنا الاستخدام اللغوي في وقتنا الحاضر، وجدناه يجري هذا المجرى، وعلى هذا جاء ت النصوص السابقة التي احتج بها الكسائي ومن وافقه.
والكسائيّ – كما هو معروف – علم من أعلام النحو، وهو إمام المذهب الكوفيّ، وأحد القراء السبعة، فما أجازه لابد أن يكون عن ُبعْدِ نظرٍ، وله وُجْهةٌ في ذلك. (81)
وقال الرضي (82) " وليس ما ذهب إليه الكسائيُّ ببعيد لو ساعده نقل " وقد ساعده النقل بالنصوص السابقة التي وردت.(13/386)
وحجّة المانعين هي عدم استقامة المعنى بتقدير " إنْ لا ". فإذا عرفنا أنَّ تقدير الشرط أمرٌ وهميٌّ افتراضيٌّ وضعه النحويون لتسويغ الجزم في جواب الطلب ولم تتكلم به العرب، ولم تظهره في كلامها، وعلة المنع هي من جهة المعنى عند تقدير: " إنْ لا "، ويترتب على النهي إمّا الطاعة وإمّا المعصية؛ إذن ِلمَ لا نقدر التقدير الذي يناسب المعنى ويحدّده السياق؟ ويتم ذلك بالاستغناء عن "لا" تلك التي يفسد معها المعنى- فيما ذكروا- فيكون التقدير في نحو " لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ ": إنْ لا تدنُ تسلمْ، وفي نحو " لا تدن من الأسد يأكلك ": إن تدن يأكلْك – وهو ما قاله الإمام السهيلي في بعض توجيهاته (83) – فالمعنى الذي يشتمل عليه أسلوب النهي المجاب عنه يتضمن طاعة يترتب عليها أمر حسن، أو معصية يترتب عليها أمر سيء، فالمهم إن معنى الجزاء الذي هو شرط في جزم الجواب متحقق في التركيب في كلتا الجملتين على اعتبارات معنوية مختلفة، وبالتقدير المناسب للمعنى الذي قصده المتكلم.
يقول السيوطي (84) : " ينبغي أنْ يُقدّرَ المُقدَّرُ من لفظِ المذكورِ مهما أمكن ... فإذا مَنع من تقدير المذكور مانعٌ معنويٌّ أو صناعيّ قُدِّر مالا مانع له".
ويقول ابن جني في (باب تجاذب المعاني والإعراب) (85) : " ... وذلك أنّك تجد في كثير من المنثور، والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين: هذا يدعوك إلى أمر، وهذا يمنعك منه، فمتى اعتورا كلاماً ما أمسكت بعروة المعنى، وارتحت لتصحيح الإعراب".(13/387)
وإذا أردنا أنْ نحتفظ بلفظ الفعل الأساسي، وبمعنى الطلب نقدر في الأول " لا تدنُ من الأسدِ [إنْ لا تدنُ] تسلمْ "، وفي الثاني " لا تدنُ من الأسد [إنْ تدنُ] يأكلْك "، ويساعد على هذا التقدير قيام القرينة المعنوية فلا داعي للتمسّك باشتراط تقدير " لا " الناهية في جملة الشرط – إذا وُجدت القرينة المعنوية – كما لم يشترطوا تقدير أدوات الطلب الأخرى؛ نحو " أيْنَ بيتك أزرْك؟ " و" ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً " و " ليتَ لي مالاً أنفقْ منه ".
كما أنَّ " لا " الناهية ستتحول عن أصلها بدخول " إنْ " الشرطية عليها وستصبح نافية.
ومن هنا ندرك سبب اختيار أكثر النحويين المذهب الثالث في عامل الجزم، وهو شرط مقدر، كما ندرك سبب قول كثير منهم أن يكون تقديره بعد الطلب؛ قال السيرافي: " ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى، والذي يكشفه الشرط، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " (86) .
لذا فالرأي هو جواز الجزم فيما ورد من النصوص على البدلية وعلى الجزاء.
فإذا كانوا قد أجازوا الجزم في النصوص التي وردت وخرَّجوه على البدلية، فلم لا يجيزون القياس على تلك النصوص؟
وإذا أجازوا القياس على تلك النصوص، وخرَّجوه على البدلية أليس من الأولى أنْ يُجاز على الجزاء ما دامت القرائن تبين المعنى؟! أليس من الأولى أنْ نعود إلى رأي الكسائي الذي يُجيزه على الجواب؟ وبينَ المعنيينِ فرقٌ بيّنٌ.
وليس حمل قراءة الحسن على ما ذهب إليه الجمهور - على جودته - بمانع من أن تحمل على ما ذهب إليه الكسائي؛ فهو أيضاً جيّد في أداء المعنى.
وإجازة هذا على قلة، وللقادر على التمييز بين دلالات التراكيب، ولا مانع عندئذ من الحمل عليه عندما يكون الحمل عليه أولى.
وفي تقديرِ الشرطِ بعدَ الطَّلَبِ، وعدمِ اشتراطِ تقديرٍ مُعيَّنٍ فوائد عديدة منها:
المحافظة على صيغة الطلب الذي هو أساس المعنى، وعدم اطراحه، أو تحويله عن وجهته.(13/388)
إبراز المعنى الإضافي الآخر الذي تضمنه الكلام ودلَّ عليه الطلب والجواب، وهو الشرط المقدر.
اطّراد القاعدة في جميع أساليب الطلب، ومعاملتها معاملة واحدة من حيث ذكر أداة الطلب أولاً وعدم إعادتها في الجملة الشرطية المقدرة.
الاحتفاظ بالحركة الإعرابية للفعل الطلبي، وبمكونات تركيب جملة الطلب؛ لأن حركة الفعل ستتغير بدخول " إنْ " الشرطية عليه.
ومثالٌ على ما سبق فإن جملة: " ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً " إذا قُدِّرَ الشرطُ مكان الطلب ستصبح: " إنْ تنزلْ عندنا تصبْ خيراً "، فيُلغى الطلب، ولا يصبح ثمّة ما يدلّ عليه، ولا يُعرف أصله أهو نهي، أم تمنٍ، أم عرض، أم تحضيض،أم غيره؟ ، وهل الأصل: " ألا تنزلُ "، أم " لا تنزلْ "، أم " هلاّ تنزلُ "، أم " ليتك تنزلُ "، أم " لعلّك تنزلُ "؟
كما أن الفعل الطلبي سيتغيّر بعد دخول " إنْ " الشرطية عليه، فبعد أن يكون مرفوعاً،أو مجزوماً ب" لا" الناهية سيصبح مجزوماً ب " إن " الشرطية.
أمَّا إذا كان تقدير الشرط بعد الطلب - وهو قول كثير من النحويين (87) - نحو: " ألا تنزلُ عندنا [إنْ تنزلْ عندنا] تصبْ خيراً " نكون قد حافظنا على مكونات الجملة الطلبية، ومعنى الطلب، وإعراب الفعل الطلبي.
الاحتفاظ ب " لا " الناهية وعدم تحوُّلها إلى نافية بدخول " إنْ " الشرطية عليها، وبالتالي سيتغير عملها، فلو أُنيب الشرطُ منابَ الطلب – وهو النَّهي – فإنَّ جملة " لا تهجُ زيداً تسلمْ " ستصبح: " إنْ لا تهجُ زيداً تسلمْ "، ف " لا " في الجملة الأولى ناهية جازمة، في حين هي في الجملة الثانية نافية غير عاملة. والفعل في الجملة الأولى مجزوم ب " لا " الناهية، وهو في الجملة الثانية مجزوم ب " إنْ " الشرطية، فاختلف عامل الجزم في الجملتين.
ولكن بتقدير الشرط بعد الطلب، نحو: لا تهجُ زيداً – إنْ لا تهجُه – تسلمْ " نكون قد حافظنا على الطلب، وعلى عامل الجزم في الفعل الأساسي.(13/389)
التمكن من إدراج النصوص السابقة التي استشهد بها الكسائي ومن ذهب مذهبه ضمن القاعدة، وعدم الاضطرار إلى القول بشذوذها، أو تأويلها، لا سيما أنّها قد وردت عن أفصح الناس لساناً، وأكثرهم بياناً. يقول ابن جني في (باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور) : " إذا اتفق شيء من ذلك نُظر في حال ذلك العربي وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به، وكان ما أورده مما يقبله القياس، إلا أنه لم يرد به استعمال إلاّ من جهة ذلك الإنسان فإنَّ الأولى في ذلك أنْ يُحسن الظن به، ولا يُحمل على فساده (88) "
أما احتجاجهم بندور النصوص التي وردت؛ فليست النصوص التي بين أيدينا هي كل ما قالته العرب، وقد يكشف لنا المستقبل عن نصوص أخرى مماثلة، فقد ذكر السهيلي بأنَّ له نظائر يطول ذكرها (89) ، يقول أبو عمرو بن العلاء: " ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلاَّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير " (90) .
ويقول أحد الباحثين المحدثين (91) : " استقرأ القوم هذه النصوص، ثم انتهوا إلى تقعيد القاعدة،ولمَّا استقرَّ القول فيها والاطمئنان إليها، وجدوا نصوصاً أخرى تأتي على خلاف ما انتهوا إليه، فماذا كان موقفهم حيال تلك النصوص؟ أخذوا يتأولونها بدلاً من أنْ يعملوا على إعادة النظر في القاعدة ".
لقد كان الكسائي بعيد النظر عندما لم يُوجب تقدير " لا " بعد " إنْ " الشرطية في جملة الشرط الوهمية المقدرة، لأن المعوِّل عليه عنده هو توجُّه الذهن وقيام القرائن؛ فالشرط المقدر يتعيَّن بفهم المعنى المراد، ففي نحو: " لا تدنُ من الأسدِ يأكلْك - بالجزم - معلوم أنَّ قصد المتكلم: إنْ تدنُ يأكلْك، ومثله: " لا تقتربْ من النار تحترقْ " و" لا تكسلْ تندمْ " و" لا توبخْ جاهلاً يمقتْك " و " لا تشتمْ زيداً يضربْك ".(13/390)
أمَّا إذا لم توجد قرينة توضح المعنى المراد، فعندئذ يتوجب تقدير"لا" في جملة الشرط المقدرة، لتُعيّن أحد المعنيين المحتملين؛ نحو: " لا تقصدْ زيداً تندمْ " و " لا تزرْ زيداً يُهنْك "؛ فلا يُعرف هل التقدير إنْ تقصدْه تندم، أم إنْ لا تقصدْه تندمْ؟ لأنَّ كلاهما محتمل.
وكذا لا يُعرف: إنْ تزرْه يُهنْك، أم إنْ لا تزرْه يُهنْك؟ فكلاهما -أيضًا – مُحتمَل.
... وقد كان الجُرجانيّ منصفاً عندما أجازه ولكن على إظهار الشرط؛ أي: " لا تدنُ من الأسدِ فإنَّك إنْ تدنُ منه يأكلْك "، قال: " فلمَّا كان هذا الشرط غير مجانس لما قبله من الكلام وجب إظهاره لينتفي اللبس …." (92) ، والحقيقة إنَّ هذا المثال ليس فيه لبس، ولو قصره على ما أوقع في لبس لكان أكثر إنصافاً.
وباستقراء النصوص التي وردت في النهي المجاب عنه، اتضح ما يلي:
لم يرد جواب النهي في القرآن الكريم إلا مقترناً بالفاء، ما عدا آية واحدة،هي ? وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? (93) بالجزم على قراءة الحسن عند من جعلها جواباً، وقد سبق ذكر الحركات الإعرابية التي وردت فيها وتوجيهاتها.
الغالب في كلام العرب عندما تنهى عن فعل، وتُبيِّن العواقب المترتبة على هذا النهي تجزم إذا قصدت الجزاء، وإنْ لم تقصد الجزاء ترفع، أو تُدخل الفاء وتنصب، فالجزم في الفعل المضارع الواقع بعد الطلب ليس على الوجوب، بل على الجواز، والحركة الإعرابية تخضع لاعتبارات معنوية مختلفة، وهو ما سنوضحه في المبحث القادم إن شاء الله.
رابعاً: أثر المعنى على الحركة الإعرابية في المضارع الواقع بعد الطلب
عرفنا فيما سبق أنّ جواب الطلب يجوز فيه الحركات الثلاثة؛ الجزم، والرفع، وإدخال الفاء والنصب، لكنّ هذا الجواز يخضع لاعتبارات معنوية، هي التي تتحكم في الحركة الإعرابية، فتقتضي الجزم أو الرفع أو النصب.(13/391)
وقول النحويين: " يجوز في جواب الطلب الحركات الثلاثة " قد يُوهم بأنَّ الحبل متروك على الغارب، وأنَّ لنا أنْ نختار أيَّة حركة نشاء، فتارة نختار الرفع، وتارة نختار النصب، وتارة نختار الجزم، دون أن يكون هناك أي تأثير على المعنى. وليس الأمر كما تُوهم؛ فالحركة الإعرابية مرهونة بالمعنى؛ فإمّا أن ننطلق من المعنى المراد فنعبِّر عنه بالتركيب الصحيح الذي يشتمل على المفردات المضبوطة ضبطاً مناسباً للمعنى المقصود، ويدل عليه أو أنْ ننطلق من نصّ مكتوب؛ فإنْ كان النص مضبوطاً بالشكل فقد أعفانا من عناء التخمين وافتراض المعاني، وإنْ لم يكن مضبوطاً بالشكل فعندئذٍ لنا أنْ نقلب الأمر وننظر في المعاني الصحيحة المحتملة، ونضع الحركة الإعرابية المناسبة لكل معنى منها، ونستبعد الحركات الإعرابية التي لا يستقيم معها المعنى.
فإذا قصدنا بالفعل الواقع بعد الطلب أنْ يكون مترتباً على الطلب السابق له، وأنْ يكون مشروطاً به، ومقيداً حصول الثاني بحصول الأول؛ فالجزم والكلام جملة واحدة، ولا يجوز السكوت على الطلب دون الجواب؛ لأنَّ المعنى المراد عندئذٍ سيكون ناقصاً؛ وذلك نحو: " لا تهملْ واجبك تفزْ ". فإنْ أردنا أنْ ننهاه فقط دون أنْ نوضح له النتائج التي تترتب على الطاعة اكتفينا بالطلب، وقلنا: " لا تهملْ واجبك ".
ولا يصح - إذا أردنا الجزاء - أنْ نكتفي بالطلب دون الجواب، كما لا يجوز في الشرط أنْ نكتفي بالشرط دون الجواب.
أمَّا إذا قصدنا بالفعل الواقع بعد الطلب الاستئناف، أو الوصف،أوالحال؛ فالرفع.
والاستئناف (94) : هو مواصلة الكلام إثْر انقطاعٍ دون أنْ يكون بين الجملة المستأنفة وما قبلها صلة إعرابية، وهو نوعان:(13/392)
استئناف بيانيّ:وهو الذي تكون فيه الجملة المستأنفة لبيان معنى سابق في الكلام المتقدّم؛ فهي مستقلة بنفسها في الإعراب، مرتبطة بما قبلها في المعنى؛ فتكون بمثابة ردّ على سؤال مقدّر؛ وذلك نحو: " لا تصاحبْ فلاناً يخذُلُك " - بالرّفع - فكأنّه سُئل: لماذا لا أصاحبه؟ فقيل: يخذلُك.
واستئناف غير بيانيّ: وهو الذي لا يكون فيه بين الجملة المستأنفة وما قبلها صلة معنوية ولا إعرابية؛ فهي مستقلة بنفسها، منقطعة عما قبلها إعراباً ومعنى؛ وذلك نحو: " لا تتهاونْ في الصلاة،يرحمُنا ويرحمُك الله ". وقد يُقصد بالفعل الواقع بعد الطلب الوصف - إذا أردنا أنْ نصف مجهولاً يتضح بتخصيصه - فيكون قبل الفعل عندئذ نكرة يصح وصفها به، ويكون الفعل متصلاً بما قبله، لأنَّ الصفة مرتبطة بالموصوف؛ وذلك نحو: " لا تتركْ طفلاً يبكي"؛ أي: لا تتركْ طفلاً باكياً؛ أي: لا تتركْ طفلاً صفته كذا.
وقد يقصد به الحال إذا كان ما قبله معرفة، ويكون الفعل - أيضاً - متصلاً بما قبله؛ لأنّ الحال مرتبطة بصاحبها؛ وذلك نحو: " لا تتركْ الطفلَ يبكي "؛ أي: لا تتركْ الطفلَ على هذه الحالة. وهذا التركيب صالح - أيضاً - لأنْ يكون على معنى القطع والاستئناف، وعندئذٍ يكون الفعل المضارع منقطعاً عمَّا قبله، كأنه قطع الكلام ثم بدا له أنْ يستأنفه.
ويجوز فيه الجزم على مذهب الكوفيين والكسائي إذا قُصِدَ معنى الجواب وترتَّب الكلام بعضه على بعض؛ أي: لا تتركْ الطفلَ إنْ تتركْه يبكِ،فكأنَّه نهاه ثم بيّن له ما يترتَّب على تركه، وجاز ذلك لوجود قرينة معنوية، وهو غير جائز على مذهب الجمهور، لاشتراطهم تقدير "لا" بعد " إنْ " في جملة الشرط المقدَّرة، فلا يستقيم المعنى بتقديرها إلا على معنًى آخر.(13/393)
وقد يُقصَد بالفعل الواقع بعد الطلب بيانُ السبب الذي نهاه عن هذا الفعل أو أمَرَه به من أجله، فعندئذٍ يكون إدخال فاء السببيَّة والنَّصب؛ أي: لا تتركْ الطفلَ فيبكي، فالبكاء متسبّب عن الترك، وكلّ هذه الأوضاع للفعل يحدِّدها المعنى الذي قصده المتكلم. والفرقُ - في حالة الرفع - بين الاستئناف، والوصف ,والحال أنَّ الفعل في الاستئناف يكون منقطعاً عمَّا قبله، فكأننا توقفنا وقطعنا الكلام السابق، ثمَّ بدا لنا أنْ نستأنف الحديث، فنقف وقفةً لطيفةً على ما قبل الفعل، ويتّضح هذا الأمر في المحادثة الشفهية، إذا كان المتحدِّث ممَّن يُحْسِن التعبير عن المعاني المختلفة بالأداء المناسب لكلّ معنًى، فنبرة الصوت لها أثرٌ في إبلاغ المعاني المرادة، وهو أمرٌ قد يُغفله الكثيرون رغم أهميته البالغة، لذا يجب أنْ يُدَرَّب النّاشئة على الخطابة والإلقاء، وأداء المعاني المختلفة أداءً صحيحاً معبّراً عن المعنى المراد، فالأداء الصحيح من أهم مقومات الخطابة الجيدة، والإلقاء المتميز.
أمّا في الوصف والحال فالفعل متصل بما قبله، والكلام يجب أنْ يكون متتابعاً؛ لما بين الصفة والموصوف، والحال وصاحبها من تلازم وارتباط قويّ.
والفرق بين الوصف والحال أنَّ الوصف يسبقه نكرة، والحال يسبقه معرفة.
وإنْ كنَّا نتعامل مع نصوص مكتوبة، فسنلاحظ أنَّ القرائن المعنوية ستوجِّه الذهن إلى أنَّ الفعل الواقع بعد الطلب يقوى فيه معنًى على المعاني الأخرى الجائزة، ومنها ما يمتنع فيه معنى، وتجوز فيه المعاني الأخرى على تفاوت في الجواز.
فممَّا يقوى فيه الجزم على الجواب من الآيات الكريمة قوله تعالى: ? وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذعِ النَّخْلَةِ تُسَاقطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ? (95) بجزم(13/394)
" ُتساقطْ "على جواب الطلب؛ وذلك أنَّ الله أمرها بهزّ الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع (96) ، فالتساقط مترتّب على هزّ الجذع؛ أي: إنْ تهزّي ُتساقطْ، وليس المقصود وصف النخلة بأنها نخلة تساقط رطباً - ولا يتأتى ذلك فيها؛لأن الفعل مسبوق بمعرفة - وليس المقصود بيان حال النخلة عند هزِّها، ولا استئناف الكلام والإخبار بأنَّ النخلة تُساقطُ رطباً، لذلك فالقراءة المتواترة بالجزم، وعليها القراء السبعة، ولم تردْ قراءة بالرفع - فيما أعلم.
وهو شبيه بقولك: افتحِ الصنبور ينهمرْ ماؤه، واضغطِ الزرَّ يُضأ المصباحُ، وأدرِ المِفتاحَ يُفتحِ البابَ. ومثله في القرآن كثير (97)
وممَّا ذُكر فيه الجزم على الجواب قوله تعالى: ? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مَمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مَن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ? (98) ذكرها سيبويه (99) ضمن ما ينجزم على الجواب، وكذا جاء عن الأخفش والمازني وغيرهما (100) ، وقالوا الفعل " يُقيموا " مجزوم على جواب (قلْ) ، والمعنى: قلْ لهم أقيموا يُقيموا، أي: إنْ تقلْ لهم يُقيموا.
وكذا جاء عن المبّرد (101) ، إلاّ أنّه يجعل الفعل مجزوماً على جواب "أقيموا" المحذوفة المقدرة.
فالفعل المضارع في الأقوال السابقة مبنيّ على الطلب، مترتّب عليه، ومشروط به، ومسبّب عنه.
ورُدّ قول الأخفش والمازنيّ ومن وافقهما:
بأنَّ (قلْ) لابدَّ له من جملة تُحكى به؛ لأنَّ أمرَ اللهِ لنبيّه بالقول ليس فيه بيانٌ لهم بأنْ يُقيموا الصلاة، حتّى يقول لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- " أقيموا الصلاة " (102) .
وبأنَّ تقدير: قلْ لهم أقيموا يُقيموا ليس بصحيح؛ لأنَّه يلزم فيه ألاَّ يتخلف أحد من المقول لهم عن الطاعة، والواقع بخلاف ذلك (103) .(13/395)
ورُدَّ بأنَّ الفعل مسندٌ إليهم على سبيل الإجمال، أو أنْ يكون المقصود المخلصين من المؤمنين (104) .
ورُدَّ قول المبرد، وقيل: فاسدٌ من وجهين (105) :
1- أنَّ الجواب يجب أنْ يخالف الشرط: إمَّا في الفعل؛ نحو:" أسلمْ تدخل الجنة"، أو في الفاعل؛ نحو:" أكرمْني أُكرمْك"، أو فيهما معاً؛ نحو:" ايتني أكرمْك".
أمَّا إنْ كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ كقولك: " قمْ تقمْ " وتقديره: إنْ يُقيموا يُقيموا.
2- أنْ الأمر المقدّر " أقيموا " للمواجهة، والفعل المذكور " يُقيموا " على لفظ الغيبة، وهذا لا يجوز إذا كان الفاعل واحداً.
وقال الرضي:" قول المبرّد فيه من التكلف ما فيه " (106) .
وجاء عن جماعة من النحويين المفسرين أنَّ المعنى هو الأمر بإقامة الصلاة، فتقدير: " قلْ لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ": قلْ لهم أقيموا الصلاة، والفعل " يُقيموا " مجزوم بلام أمر محذوفة، وتقديره: ليقيموا، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة " قلْ " على الأمر؛ وهو قول الكسائي، وابنِ مالكٍ، وجماعة، وأجازه الزّجاج (107) .
أو أنْ يكون الفعل " يُقيموا " مضارعاً بلفظ الخبر صُرف عن لفظ الأمر، والمعنى: " أقيموا " فلمَّا كان بمعنى الأمر بُني؛ قاله أبو علي الفارسي وفرقة (108) .
وقال الزجاج - بعد استعراض ما جاء فيه من المذاهب:" أجودها أنْ يكون مبنيّاً، لأنَّه في موضع الأمر " (109) .
وأجاز بعض الكوفيين أنْ يكون نحو: " مُرْهُ يَحْفِرَها " - بالنصب -على تقدير: " أنْ "؛ أي: بأنْ يحفرَها؛ ورُدَّ بأنَّ الفعل عامله لا يُضمر (110) .(13/396)
وبالنفاذ إلى عمق المعنيين، وبإنعام النظر فيهما نجد أنَّ معنى الأمر في الآية الكريمة أقوى من معنى الجزاء، وليس في الأمر بإقامة الصلاة دليل على الاستجابة أو عدمها؛ فالنتيجة المترتبة على الأمر بالصلاة هي معنى آخر، ليس في لفظ الآية ما يدل عليه، والمقصود - والله أعلم - هو حثّ المؤمنين على إقامة الصلاة والإنفاق، وليس في اللفظ ما يدلّ على الامتثال أو عدم الامتثال، ولا على النتيجة المترتبة على أمرهم بإقامة الصلاة والإنفاق؛ إذ ليس المقصود الإخبار بأنه إنْ أمرهم امتثلوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا!!
وشبيهٌ به قولُنا:" قلْ للطلاب يكتبوا الواجب"، المقصود وبكل بساطة هو أمرهم بالكتابة، والتقدير: قلْ للطلاب اكتبوا الواجبَ،أو أنْ يكتبوا الواجبَ، ويبعد تقدير: قلْ للطلاب اكتبوا يكتبوا؛ لأنَّه ليس في اللفظ دليل على إرادة الإخبار بنتيجة الأمر، ولا يلزم من مجرد القول الامتثال والكتابة، وليس في اللفظ دليل على الامتثال؛ لأنهم قد يمتثلون وقد لا يمتثلون. وشبيه به:" قلْ لزيدٍ يُسامح المعتذر"، وغيره مما نلمس في معنى الجزاء فيه بعد وتكلّف، وتزيّد في المعنى، وكثرة الحذف والتقدير؛ فالتكلّف يكمن في افتراض معنى الشرط والجزاء لتسويغ الجزم في الفعل " يُقيموا ".
والتزيّد في المعنى؛ لأنَّ اللفظ ليس فيه ما يدلّ على النتيجة المترتبة على أمرهم بالصلاة.
وكثرة الحذف والتقدير - ولنا مندوحة عنهما -؛ لأنَّ الفعل " يُقيموا " إذا جُعل جواباً للشرط فسيخلو القولُ من مقولٍ، ولابدَّ من تقديره، بالإضافة إلى تقدير الشرط الجازم للجواب.
وليس كذلك في المعنى الآخر الذي هو معنى الأمر؛ فبتقدير " أقيموا " مكان " يُقيموا " لن يكون فيه حذف، وسيكون المقدَّر في مكانه الأصلي، ومن لفظ المذكور.(13/397)
وبتقدير لام الأمر أو " أنْ " قبل الفعل سيكون التقدير أقل من تقدير جملة بأكملها كما هو في معنى الشرط والجزاء. وقد نصَّ السيوطي (111) على أنَّ:
القياس أنْ يُقدَّر الشيء في مكانه الأصلي.
وينبغي تقليل المقدَّر.
وأنْ يُقدَّر المقدَّر من لفظ المذكور مهما أمكن.
والذي دعاهم إلى تكلُّف الحذف والتقدير، والذهاب بعيداً عن المعنى هو محاولة تسويغ الجزم في الفعل " يُقيموا "، وفرارهم من تقدير لام الأمر أو "أنْ" قبل الفعل تمسّكاً بالقاعدة النحويّة: " الفعل عاملة لا يُضمر "، وهم مع قولهم بالجزاء لتسويغ الجزم يُقرُّون بأنَّ معناه الأمر، يقول الفرَّاء: " جُزمت يقيموا بتأويل الجزاء، ومعناه - والله أعلم - معنى أمر؛ كقولك: قلْ لعبد الله يذهب عنَّا، تُريد: اذهب عنَّا، فجزم بنية الجواب للجزم، وتأويله الأمر…" (112) ، فهذا نصٌّ صريحٌ منه بأنَّ معناه الأمر رغم أنَّ إحلال فعل الأمر محلّ المضارع لتسويغ الجزم أيسر من الشرط والجزاء، وهو ما قال به جماعة النحويين من المفسرين كالكسائيّ، والزجاج، والفارسيّ.
قال أبو حيان: " ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدَّر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق " (113) .
ويقوِّي هذا المعنى ما ذكره القرطبيّ من أنَّ المعنى:" قلْ لِمَنْ آمن وحقَّقَ عبوديته أنْ يُقيموا الصلاة " (114) .
وكذا الأخفش الذي ترأس المذهب الأول يعود في (معاني القرآن) ويقول في قوله تعالى: ? فَذَرُوهَا تَأْكُلْ ... ? (115) ، و? قُل لِّلَّذِينَءَامَنُوا يَغْفِرُوا.. ? (116) ونحوه:"فصار جواباً في اللفظ، وليس كذلك في المعنى" (117) .(13/398)
وقد تنبَّه الشاطبيُّ لهذا الأمر، فجعل ما ينجزم بعد الطلب على ضربين: ما يكون الجزاء مقصوداً فيهوما لا يُقصد فيه الجزاء، ومثَّل له بنحو:" قلْ له يقلْ كذا، ومُرْهُ يَحْفِر البئرَ"، و? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةََ.. ? (118) قال:" فالجزم- هنا- صحيح وإنْ لم يكنْ على معنى: إنْ تقلْ له يفعلْ، وإنْ تأمرْه يحفرْها … قال: فدلَّ ذلك على أنَّه ليس على معنى قصد الجزاء " (119) .
ويقوى في المجزوم - معنى الأمر على معنى الجزاء فيما لم يستوفِ مفعوله، أو بمعنًى آخر فيما احتاج فيه القول إلى مقول؛ نحو الآية الكريمة السابقة، وقوله تعالى? قُل لِّلَّذِينَءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ. ? (120) ، و" قلْ له يقلْ ذاك "، فالتقدير: قلْ لهم: اغفروا، وقلْ له: قلْ.
وممَّا جاء مرفوعاً على الحال وليس جواباً للطلب السابق قوله تعالى: ? ... ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ? (121) ؛ أي: لاعبين؛ فهو حال من المضمر في " ذرْهم ".
أمَّا قولهم: " خلِّ زيداً يمزحْ " (122) فيقوى فيه الحال إنْ رآه في حال مزاحٍ؛ والمعنى: خَلِّ زيداً مازحاً؛ أي: مستمراً في مزاحه. أمَّا إنْ كان مضيَّقاً عليه ممنوعاً من المزاح؛ فالمعنى: اتركه لكي يمزح - على التعليل - ولمْ أجدْ من تطرَّق إلى هذا المعنى رغم كثرته، أو على معنى: اتركْه إنْ تتركْه يمزحْ، بالجزم على جواب الطلب.
ومما يقوى فيه الرَّفع على الحال قول الحق تبارك وتعالى? وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? (123) ؛ فقد أجمع القراء السبعة على قراءة الرفع على الحال؛ أي: مستكثراً عطاءك وقد سبق شرحه والكلام عنه.(13/399)
ومنه قوله تعالى:? فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى ? (124) ؛ أي: غير خائف ولا خاشٍ، أو على الاستئناف؛ أي: وأنت لا تخافُ ولا تخشى. وقرأ الأعمش، وحمزة،وابن أبي ليلى: " لا تخفْ " بالجزم على جواب الطلب؛ أي: إنْ تضربْ لا تخفْ، أو على نهي مستأنف؛ أي: اضربْ ولا تخفْ.
ومما يقوى فيه الرفع على الاستئناف قولهم:"لا تذهبْ به، تُغْلَبُ عليه" (125) ؛ أي: فإنك تُغلبُ عليه. والجزم فيه قبيحٌ عند سيبويه؛ لأنَّه شبيهٌ بقولهم:" لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك " وهو جائزٌ عند الكسائيّ والكوفيين كما سبق
ومنه: " قُمْ يدعوك " (126) الأمير؛ أي: قُمْ إنَّه يدعوك؛ فالرفع على الاستئناف فيه أقوى من الجزم على الجواب؛ ذلك لأنَّه لم يُرِدْ أنْ يجعل الدعاء بعد القيام، ويكون القيام سبباً له، وإنَّما أراد: قُمْ؛ لأنَّ الأميرَ يدعوك، فالدُّعاء سابق للقيام،لا مسبباً عنه. وإنْ أراد معنى: قُمْ إنْ قُمْتَ يدعُك الأمير، فيكون الدعاء مسبباً عن القيام، فيقوى فيه عندئذٍ معنى الجزم جواباً للطلب المتقدم.
ومن الأفعال المضارعة الواقعة بعد الطلب ما حُمل على الصفة، أو على الاستئناف، ويُلمح فيه معنى التعليل؛ من ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ? خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ... ? (127) ، " تُطهرُهم " صفة للصدقة إنْ كان ضمير الفاعل يعود على الصدقة؛ أي: صدقةٌ مطهرةٌ ومزكيةٌ لهم، ويُبعده قوله " بها ".(13/400)
وإنْ كان ضمير الفاعل يعود على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو المخاطب في هذه الآية ف" تُطهرهم " حال من الفاعل؛ أي: مطهِّراً ومزكِّياً لهم بها؛ أي بالصدقة. والحمل على القطع والاستئناف فيه حلٌّ لهذا الإشكال؛ أي: أنت تُطهرهم وتُزكيهم بها، وقريب منه معنى التعليل؛ أي: لتطهِّرَهم وتزكِّيَهم بها، والله أعلم. وقيل: " لو قُرِئ بالجزم لم يمتنع في القياس" (128) .
وممَّا هو بسبيله، قوله تعالى: ?.. فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي..? (129) - في قراءة الرفع - وقرأ الكسائيُّ، وأبو عمرو بالجزم (130) ، وقال بعض العلماء: والرفع هنا أحسن من الجزم؛ وذلك من جهة المعنى والإعراب؛ أما المعنى فلأنه إذا رفع فقد سأل وليًّا وارثًا؛ لأنَّ من الأولياء من لا يرث، وإذا جزم كان المعنى: إنْ وهبته لي ورثني، فكيف يُخبر الله سبحانه بما هو أعلم به منه (131) ، وهذه الحجّة في ترجيح الرفع على الجزم - وإن كان الرفع هو الراجح - ليست بالحجة القوية؛ فقد جاء في الكتاب العزيز على لسان نوح عليه السلام: ? وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ? (132) ، فكيف أخبر الله سبحانه وتعالى بما هو أعلم به منه؟!(13/401)
وفي هذه الآية الكريمة نلحظ معنى التعليل وبيان السبب الذي من أجله طلب زكريا - عليه السلام - من ربِّه أنْ يهبَ له الولد؛ فهو لم يُرِدْ أنْ يشترط على ربِّه إنْ وهبتني ولداً ورثني؛ فمعلوم أنَّ الأولاد ترث آباءها،كما لم يُرِدْ - أيضاً - أنْ يصفه لمجرد الوصف في حدِّ ذاته، وإلا لوصفه بأوصافٍ أخرى حسنة أفضل من الوراثة يتمنَّاها كلُّ والد في ولده، وإنَّما حدّد فعلاً معيناً ينبئ عن الغرض الذي من أجله طلب الولد، فهو يُريد ولداً ليرث عنه العلم والحكمة فكأنَّه قال: فهب لي من لدنك وليّاً ليرثني؛ فالتعليل وبيان السبب واضح في هذه الآية.
فإذا اطمأننا إلى معنى التعليل فتسويغ الرفع يسير؛ فعندما سقطت اللام ارتفع الفعل، قال الحافظ ابن كثير: " سأل الله ولداً يكون نبيّاً بعده، ليسوسهم بنبوَّته" (133) ، فوجود لام التعليل " ليسوسهم " يؤكد معنى التعليل.
ومثله في الدلالة على معنى التعليل قوله تعالى: ? وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّيِ لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ? (134) ، أي: أرسلْه معي معيناً ليصدِّقني، ويحتمل الحال والاستئناف أيضاً (135) .
ومثله في القرآن كثيرٌ (136) ممَّا يترجَّح فيه معنًى على المعاني الأخرى، يحتاج إلى دراسةٍ أعمق لمعاني القرآن الكريم، فالدراسات حول القرآن الكريم لا ينضب معينها ولا يأسن.
والحمد لله الذي بفضله تتمُّ الصالحات.
* * *
نتائج البحث(13/402)
اتضح من البحث بعد معالجة القضية الأولى (عامل الجزم في جواب الطلب) أنَّ الخطب أيسر من أن يُجعل فيه خلاف، فهم يدورون حول محور واحد؛ فالمضارع الواقع جواباً للطلب مجزوم سواء كان عامل الجزم هو لفظ الطلب ضُمِّن معنى حرف الشرط، أم كان الجازم هو الطلب ناب مناب الشرط، أم كان الجازم شرطاً مقدَّراً دلّ عليه الطلب؟ والقول بأنَّ الجازم للجواب هو شرط ملحوظ من الكلام، فيه حلٌّ للخلاف؛ لأنَّ الإقرار بوجود الشرط موجود في المذاهب الثلاثة، سواء تلفظنا به أم لم نتلفظ به، سواء كان على جهة التضمين، أم النيابة، أم التقدير.
كما كشف البحث النقاب عن علة امتناع جزم المضارع بعد النفي، والخبر المثبت؛ وهي: أنهما ليسا طلباً يستدعي جواباً، فلا يُجزم المضارع بعدهما إلا مع الخبر إذا تضمَّن معنى الطلب. وعَدُّ النفي من قبيل الطلب في نصب المضارع عند اقترانه بالفاء، فيه تَجَوُّزٌ وترخُّص من قبل النحويين.
أمّا منعهم الجزم في جواب النهي إذا كان سلباً، واعتلالهم بعدم صحة المعنى بتقدير " لا " بعد " إنْ " في جملة الشرط المقدرة؛ نحو: " لا تدنُ من الأسدِ يأكلْك " ففيه تعسُّفٌ، إذ كان بالإمكان القول بجوازه فيما لا يوقع في لبس، إذا دلَّت عليه قرينة معنوية، ومَنْعُهُ فيما أوقع في لبس، ولم تدل عليه قرينة معنوية، أو إظهار الشرط لمنع اللبس كما قال الجرجانيّ؛ فالأمر يتوقف على المعنى أولاً وآخراً، وتقدير الشرط أمر وهميٌّ لتسويغ الجزم في الجواب، وقد أجاز الجزم في نحو ما سبق الكوفيون، والكسائيّ، ووردت به نصوص فصيحة، فالجواز يعضده القياس والسماع، ولا حجّة في قلّة النصوص الواردة، فما جاء عن العرب قليل من كثير.(13/403)
وأخيراً ... فإن الجزم في جواب الطلب ليس على الوجوب؛ إذ يجوز في المضارع الواقع في جواب الطلب الجزمُ،والرفعُ؛ الجزم على الجواب، والرفع على أحد ثلاثة أشياء: الصفة إن كان ما قبله نكرة، أو الحال إن كان ما قبله معرفة، أو الاستئناف.
وتحديد الحركة الإعرابية مرهون بتحديد المعنى الذي يحدّده السياق.
كما كشف البحث عن بعض المعاني المستترة التي أغفلها بعض النحويين بالقاعدة التي وقعوا تحت وطأتها؛ فالبحث نواة لدراسات مستقبليَّة لتيسير النحو، تجعل المعنى هو الأساس، وهو أقوى من أي اعتبارات أخرى.
وبالله التوفيق.
الحواشي والتعليقات
اللسان " جزم " 3/142.
شرح ألفية ابن معطي 1 / 315.
اللسان: " جزم " 3/142.
الأشباه والنظائر 2/74.
اللسان: " جزم " 3/142.
السابق، ولم أقف عليه في كتب المبرد.
انظر أخبار النحويين البصريين 35، والفهرست 60.
انظر رسم المصحف 588.
انظر في هذا الموضوع الكتاب 3/56،شرح المفصل 7/42،وشرح الألفية لابن عقيل 2/364،والتصريح 4/368.
شرح قطر الندى 80، وانظر الكتاب 3/93،وشرح المفصل7/48، والتصريح 4/334.
انظر شرح المفصل 7/49.
انظرالكتاب 3/100،وشرح المفصل 7/49، وشرح الكافية4/118، وشرح قطر الندى81،والمقاصد الشافية6/ 77،والتصريح4/343.
البيت في اللسان" رود " 6/261، والمقاصد الشافية 6/79 دون نسبة.
البيت لعمرو بن الإطنابة، وهو في الخصائص 3/35، وشرح المفصل 4/74، والمقرب 1/273، والمغني1/223، وأوضح المسالك4/189،والتصريح4/343، والهمع4/126، والخزانة 2/438.
سورة الصف: 11، 12.
انظر البحر المحيط 8/263.
انظر ارتشاف الضرب 4/1685.
المقاصد الشافية 6/81.
انظر الهمع 4/133، وانظر الكتاب 3/38، وشرح الجمل لابن خروف 2/861، وشرح الكافية الشافية 3/1551.
انظر حاشية الصبان 3/309.
انظر شرح الجمل 2/192.
انظر اعتراضَي أبي حيان في الهمع 4/134، وحاشية الصبان 3/309.(13/404)
انظر شرح الأشموني 3/310.
انظر حاشية الصبان 3/310.
انظر شرحه على الألفية 684.
انظر الإيضاح العضدي 333، والمسائل المنثورة 156.
انظر شرح الجمل 2/192.
انظر ارتشاف الضرب 4/1684، والمساعد 3/97، والتصريح 4/335، والهمع 4/134، والأشموني 3/310.
انظرها في التصريح 4/336.
انظر ارتشاف الضرب 4/1684.
انظر التصريح 4/336.
السابق 4/335.
الكتاب 3/93.
السابق 3/94 هامش (1) .
انظر الإيضاح العضدي 333.
ص 156.
انظر ارتشاف الضرب 4/1684،والتصريح4/334 والهمع4/133.
انظر الأشباه والنظائر 1/249، 250.
شرح الجمل 2/861.
انظر تنقيح الألباب 117.
المقاصد الشافية 6/72.
شرح الأشموني 3/310.
انظر حاشية الصبان 3/310.
انظر شرح التسهيل لابن مالك 4/40، وشرح قطر الندى 81، والتصريح 4/337 وحاشية الصبان 3/308.
انظر الأجوبة الثمانية 3 " مخطوط "، والمقاصد الشافية 6/73، والتصريح 4/337.
الجمل 210.
السابق.
انظر إصلاح الخلل 263، وشرح الجمل لابن خروف 2/863، وشرح الجمل لابن عصفور 2/192.
انظر التبصرة والتذكرة 1/406.
ارتشاف الضرب 4/1683.
انظر معاني القرآن للفراء 1/157، 158.
سورة الحجر: 3
سورة يوسف: 9.
انظر شرح المفصل 7/50، وشرح الجمل لابن عصفور 2/192، وشرح قطر الندى 82.
انظر شرح ابن عقيل 2/356.
انظر شرح الجمل لابن عصفور 2/193، وارتشاف الضرب 4/1685، والتصريح 4/339.
انظر المراجع السابقة.
انظر أمالي السهيلي 85، 86.
انظر ارتشاف الضرب 4/1685.
السابق.
الكتاب 3/97.
السابق
انظر شرح المفصل 7/50.
انظر المقاصد الشافية 6/75، والتصريح 4/339.
انظر صحيح البخاري / كتاب مناقب الأنصار / باب مناقب أبي طلحة 18 عن أنس 7/160 برواية يصيبُك " بالرفع، ولأبي ذر " يصبْك " بالجزم. وفي فتح الباري 7/419، وفي صحيح مسلم / كتاب الجهاد والسير باب غزوة النساء مع الرجال 12/394 رقم (4660) .(13/405)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان / باب ما جاء في الثوم النيء، ومسلم في كتاب المساجد، والإمام أحمد في مسنده 2/13.
أخرجه البخاري في كتاب العلم 43، والحج 132، والمغازي 77، والأضاحي 5، والأدب 95، والحدود 9، والفتن 8. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان 118، والقسامة 29، والفتن 050.
انظر المقاصد الشافية 6/75.
سورة المدثر: 6. وانظر قراءة الحسن في المحتسب 2/237.
ص 210.
1/406.
التصريح 4/340.
انظر المقاصد الشافية 6/76.
انظر شرح قطر الندى 82، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم 4/3/446.
انظر المحتسب 2/338.
انظر اتحاف فضلاء البشر 427.
انظر المحتسب 2/ 273.
انظر مختصر في شواذ القرآن 164.
سورة البقرة: 264.
انظر إملاء ما من به الرحمن 2/272.
إصلاح الخلل 263.
شرح الكافية 4/121.
انظر أمالي السهيلي 86.
الأشباه والنظائر 1/343.
الخصائص 3/255.
الكتاب 3/94 هامش (1) . وانظر في التقدير بعد الطلب الأصول 2/162، وشرح الكافية 4/116، وشرح ألفية ابن معطي 1/335.
انظر المراجع السابقة.
الخصائص 1/385.
انظر أمالي السهيلي 86.
الخصائص 1/386.
هو الدكتور سمير شريف ستيتية في كتابه الشرط والاستفهام في الأساليب العربية 14.
المقتصد 2/1127.
سورة المدثر:6. وانظر قراءة الحسن في المحتسب 2/237.
انظر مغنى اللبيب 2/427، ومعجم المصطلحات النحوية والصرفية14
سورة مريم: 25.
انظر تفسير البحر المحيط 6/173.
انظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم 4/3/426.
سورة ابراهيم: 31.
انظر الكتاب 3/99.
انظر البحر المحيط 5/414.
السابق 5/415.
انظر مشكل إعراب القرآن 1/406، وأمالي ابن الشجري 2/277، والبيان في غريب إعراب القرآن 2/59.
انظر شرح الكافية الشافية 3/1569.
انظر شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم 691.
انظر إملاء ما مَنّ به الرحمن 2/69، ومغنى اللبيب 1/250.
شرح الكافية 2/119.(13/406)
انظر البحر المحيط 5/414، وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/162، وشرح الكافية الشافية 3/1569.
انظر البحر المحيط 5/415.
معاني القرآن وإعرابه 3/162.
انظر شرح المفصل 7/52.
انظر الأشباه والنظائر 1/340، 341.
معاني القرآن للفراء 2/77.
البحر المحيط 5/415.
الجامع لأحكام القرآن 5/366.
سورة الأعراف: 73.
سورة الجاثية:14.
معاني القرآن للأخفش 2/106.
سورة إبراهيم: 31.
المقاصد الشافية 6/70.
سورة الجاثية: 14.
سورة الأنعام:91.
انظر شرح المفصل 7/51.
سورة المدثر: 6 وانظر توجيهها في المحتسب 2/338، وإملاء ما مَنّ به الرحمن 2/272، والبحر المحيط 8/364، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم 4/3/446.
سورة طه: 77، وانظر الكتاب 3/98.
انظر الكتاب 3/98.
السابق.
سورة التوبة: 103. وانظر إملاء ما مَنّ به الرحمن 2/21، والبحر المحيط 5/99.
انظر التصريح 4/336
سورة مريم: 6.
انظر التيسير 148.
انظر إعراب القرآن للنحاس 3/6، والجامع لأحكام القرآن 6/81، وشرح المفصل 7/51.
سورة نوح: 26، 27.
انظر تفسير ابن كثير 5/207.
سورة القصص: 34.
انظر البحر المحيط 7/113.
انظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم 4/3/440
المصادر والمراجع
الأجوبة الثمانية: لابن لب الغرناطي " مخطوط ".
أخبار النحويين البصريين: لأبي سعيد السيرافي. تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا. القاهرة: دار الاعتصام. الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م.
الأشباه والنظائر في النحو: لجلال الدين السيوطي- تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم - بيروت: مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1406هـ -1985م.
إصلاح الخلل الواقع في الجمل: لابن السيد البطليوسي- تحقيق:
... د. حمزة النشرتي- الرياض: دار المريخ-الطبعة الأولى 1399هـ- 1979م.
الأصول: لابن السراج - تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي - بيروت: مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ 1985م.(13/407)
إعراب القرآن: لأبي جعفر النحاس - تحقيق: د. زهير غازي زاهد - القاهرة: عالم الكتب - ومكتبة النهضة العربية- الطبعة الثانية 1405هـ - 1985م.
أمالي ابن الشجري: لهبة الله بن علي بن الشجري - تحقيق: د. محمود الطناحي - القاهرة: مكتبة الخانجي.
أمالي السهيلي: لأبي القاسم السهيلي - تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا - القاهرة: مطبعة السعادة - الطبعة الأولى 1390هـ - 1970م.
إملاء ما مَنّ به الرحمن: للعكبري - بيروت دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م.
ارتشاف الضرب: لأبي حيان - تحقيق: د. رجب عثمان محمد - القاهرة: مكتبة الخانجي - الطبعة الأولى 1418هـ 1998م.
الإيضاح العضدي: لأبي على الفارسي - تحقيق: د. حسن فرهود - دار العلوم للطباعة والنشر - الطبعة الثانية 1408هـ 1988م.
البحر المحيط: لأبي حيان - تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وآخرون - بيروت: دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م.
البيان في غريب إعراب القرآن: لأبي البركات بن الأنباري- تحقيق: د. طه عبد الحميد طه - منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب 1400هـ 1980م.
التبصرة والتذكرة: للصيمري - تحقيق: د. فتحي أحمد علي الدين - مكة المكرمة: مركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة أم القرى - الطبعة الأولى 1402هـ 1982م.
التصريح بمضمون التوضيح: للشيخ خالد الأزهري - تحقيق: د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم - القاهرة: الزهراء للإعلام العربي الطبعة الأولى 1413هـ - 1992م.
تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب: لابن خروف تحقيق خليفة محمد بديري - طرابلس: منشورات كلية الدعوة الإسلامية ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامي -الطبعة الأولى 1415هـ 1995م.
التيسير في القراءات السبع: لأبي عمرو الداني - بيروت: دار الكتاب العربي - الطبعة الثالثة 1406هـ -1985م.(13/408)
الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي - تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم اطفيش.
الجُمل: لأبي القاسم الزجاجي - تحقيق: د. علي توفيق الحمد - بيروت: مؤسسة الرسالة: إربد: دار الأمل - الطبعة الأولى 1404هـ 1984م.
حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك-مكة المكرمة: المكتبة الفيصلية.
خزانة الأدب: لعبد القادر البغدادي. تحقيق: عبد السلام هارون - القاهرة: مكتبة الخانجي - الطبعة الثالثة 1409هـ - 1989م.
الخصائص: لأبي الفتح بن جني. تحقيق: محمد على النجار. بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر. الطبعة الثانية.
دراسات لأسلوب القرآن الكريم: لمحمد عبد الخالق عضيمة- القاهرة: مطبعة دار السعادة - الطبعة الأولى 1392هـ 1972م.
رسم المصحف: لغانم قدوري الحمد. بغداد: منشورات اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري - الطبعة الأولى 1402هـ 1982م.
شرح ألفية ابن مالك: لابن الناظم- تحقيق: د. عبد الحميد السيد- بيروت: دار الجيل.
شرح ألفية ابن معطي: تحقيق: د. علي موسى الشوملي - الرياض: مكتبة الخريجي - الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م.
شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: لابن عقيل - تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد - الطبعة الثانية.
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك - مكة المكرمة: المكتبة الفيصلية.
شرح التسهيل: لابن مالك - تحقيق: د. عبد الرحمن السيد،ود. محمد بدوي المختون - القاهرة: هجر للطباعة والنشر - الطبعة الأولى 1410هـ 1990م.
شرح الجُمل: لابن عصفور الإشبيلي - تحقيق: د. صاحب أبو جناح - مكة المكرمة: المكتبة الفيصلية.
شرح جمل الزجاجي: لابن خروف - تحقيق: د. سلوى محمد عمر عرب - مكة المكرمة: جامعة أم القرى - الطبعة الأولى 1419 هـ.
شرح الكافية الشافية: لابن مالك - تحقيق: د. عبد المنعم هريدي - دار المأمون للتراث - الطبعة الأولى 1402هـ - 1982م.(13/409)
شرح الكافية: للرضي - تحقيق: يوسف حسن عمر - منشورات جامعة قار يونس.
شرح المفصل: لابن يعيش. القاهرة: مكتبة المتنبي.
شرح قطر الندى: لابن هشام الأنصاري. تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد- مصر: مطبعة السعادة - الطبعة الحادية عشرة 1383هـ - 1963م.
الشرط والاستفهام في الأساليب العربية: للدكتور: سمير شريف ستيتية - دبي: دار القلم - الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م.
صحيح البخاري - القاهرة: دار الحديث - تقديم: أحمد محمد شاكر.
صحيح مسلم: تحقيق: الشيخ خليل مأمون شيحا - بيروت: دار المعرفة - الطبعة الأولى 1414هـ - 1994م.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري - تحقيق: قصي محب الدين الخطيب - القاهرة: دار الريان للتراث - الطبعة الأولى 1407هـ 1986م.
الفهرست: لابن النديم. بيروت: دار المعرفة 1398هـ - 1978م.
الكتاب: لسيبويه - تحقيق: عبد السلام هارون - القاهرة: مكتبة الخانجي - الطبعة الثالثة 1408هـ - 1988م.
لسان العرب: لابن منظور - بيروت: دار صادر – الطبعة الأولى 2000م
المحتسب: لأبي الفتح بن جني - تحقيق: علي النجدي ناصف، وآخرون - القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث 1386هـ.
مختصر في شواذ القرآن: لابن خالوية - نشره: ج برجشتراسر، مصر: المطبعة الرحمانية - جمعية المستشرقين الألمانية.
المسائل المنثورة: لأبي علي الفارسي - تحقيق: د. مصطفى الحديدي- مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
المساعد علي تسهيل الفوائد: لابن عقيل - تحقيق د. محمد كامل بركات - مكة المكرمة: مركز البحث العلمي وإحياء التراث - دمشق: دار الفكر 1400هـ - 1980م.
مسند الإمام أحمد: إشراف: د. سمير طه المجذوب - بيروت - دمشق عمان: المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1413هـ 1993م.(13/410)
مشكل إعراب القرآن: لملكي بن أبي طالب القيسي - تحقيق: د. حاتم الضامن - بيروت: مؤسسة الرسالة - الطبعة الثالثة 1407هـ -1987م.
معاني القرآن: لأبي زكريا الفراء - تحقيق: محمد علي النجار - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب - الطبعة الثانية 1980م.
معاني القرآن: للأخفش الأوسط - تحقيق: د. فائز فارس - الطبعة الثانية 1401هـ - 1981م.
معاني القرآن وإعرابه: للزجاج - تحقيق: عبد الجليل شلبي - بيروت: عالم الكتب - الطبعة الأولى 1408هـ 1988م.
معجم المصطلحات النحوية والصرفية: للدكتور محمد سمير اللبدي - بيروت: مؤسسة الرسالة، الأردن: دار الفرقان - الطبعة الثالثة 1409هـ 1988م.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لابن هشام الأنصاري - تحقيق: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله - دمشق: دار الفكر - الطبعة الثانية 1384هـ - 1964م.
المقاصد الشافية: لأبي إسحاق الشاطبي - الجزء السادس - تحقيق: د. عبد المجيد قطامش - مكة المكرمة: جامعة أم القرى - مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي " تحت الطبع ".
المقتصد في شرح الإيضاح: لعبد القاهر الجرجاني - تحقيق: د. كاظم بحر المرجان - بغداد: دار الرشيد للنشر - منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1982م.
همع الهوامع: لجلال الدين السيوطي- تحقيق: د. عبد العال سالم كرم - الكويت: دار البحوث العلمية 1394هـ - 1975م.(13/411)
المواقع الإعرابية ل (أب) في القرآن الكريم
د. عبد الله بن عبد الرحمن المهوس
الأستاذ المشارك بقسم النحو والصرف وفقه اللغة
كلية اللغة العربية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملخص البحث
بيّنت في هذا البحث المواقع الإعرابية ل (أب) ومثنّاه وجمعه في القرآن الكريم، وذلك في (117) موضعاً.
ويقع في مقدّمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
وذكرت في المقدّمة موضوع البحث، وخطّته، وأبرز الأمور في منهج إعداده.
وذكرت في التمهيد أصل (أب) ومثنّاه وجمعه، وشروط إعراب (أب) بالحروف، وإعراب ما فقد أحد الشروط، واللغات في (أب) ، والخلاف في إعراب (أب) بالحروف.
وذكرت في الفصل الأول المواقع الإعرابية ل (أب) المعرب بالحروف، في الرفع والنصب والجر، وعدد مواضع (أب) في هذا الفصل (41) موضعاً في (15) موقعاً إعرابياً، وآخر موضع وموقع في هذا الفصل سيَرِدَان في الفصل الثاني، لذلك يعدّان مكررين.
و (أب) المعرب بالحروف ثلاثة أقسام:
1 المعرب إعراب الأسماء الستة،والمواضع في هذا القسم (33) موضعاً في (10) مواقع.
2 المعرب إعراب المثنى، والمواضع في هذا القسم (7) مواضع في (4) مواقع.
3 المعرب إعراب جمع المذكر السالم، في قراءة لآية واحدة، لها ذكر في الفصل الثاني.
وذكرت في الفصل الثاني المواقع الإعرابية ل (أب) المعرب بالحركات في الرفع والنصب والجر، وعدد مواضع (أب) في هذا الفصل (77) موضعاً في (18) موقعاً إعرابياً.
ويقع هذا الفصل في قسمين:
1 المعرب بالحركات الظاهرة، والمواضع في هذا القسم (64) موضعاً في (13) موقعاً.
2 المعرب بالحركات المقدّرة، والمواضع في هذا القسم (13) موضعاً في (5) مواقع.(13/412)
وفي الخاتمة أجملت المواقع الإعرابية مع ذكر المواضع التي وردت في كل موقع، ثم ذكرت بعض الإحصاءات لورود (أب) مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً، ومفرداً ومثنى وجمعاً، ومضافاً إلى الضمائر المتنوعة، ومجموع السور والآيات التي ذكر (أب) فيها.
بعد الخاتمة رتّبت الآيات التي ذُكر فيها (أب) على ترتيب المصحف، ثم ذكرت القراءات في (أب) ، ثم هوامش البحث، وفي آخر البحث المراجع مرتّبة على حروف المعجم.
والله الموفّق وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محّمد.
* * *
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
أما بعد فموضوع هذا البحث بيان المواقع الإعرابية ل (أب) ومثناه، وجمعه في القرآن الكريم في المواضع التي وردت فيها، ومجموعها (117) موضعاً.
ومن أسباب اختيار هذا الموضوع: تعلقه بكتاب الله عز وجل،وإفادة القراء بمواقع (أب) من الإعراب في القرآن الكريم.
ويقع في مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة.
الفصل الأول: إعراب (أب) بالحروف، وينقسم إلى: إعراب (أب) إعراب الأسماء الستة، وإعراب المثنى، وإعراب جمع المذكر السالم.
الفصل الثاني: إعراب (أب) بالحركات الظاهرة والمقدرة.
وقد بيّنت الموقع الإعرابي مرفوعاً، ومنصوبا, ً ومجروراً، مع العناية بما اختلف النحويون في إعرابه، وبما وردت فيه قراءات.
وقد عزوت الآيات داخل النص، فذكرت بعد الآية اسم السورة ورقم الآية، والتزمت ذكر وفاة العلم في أول مرة يرد فيها ذكره في البحث.
أسأل الله أن ينفع به، وأن يفيد به قارئه، ويثيب كاتبه، إنه سميع مجيب.
التمهيد:
الأبُ أصله: أَبَوُ، فلامه المحذوفة واو.
ومثنّاه: أبوان، بردّ لامه المحذوفة، وعند بعض العرب: أبان.
وجمعه: آباءُُ، وأَبُون، وأُبُوُُّ، وأُبُوَّة.(13/413)
قال ابن منظور (711هـ) : (ومن العرب من يقول: أُبُوّتُنا أكرم الآباء، يجمعون الأب على (فُعولة) , كما يقولون: هؤلاء عُمومتنا وخُؤلتنا) (1) .
وأصل (آباء) : أَأْباو، ووزنه: أَفْعال, اجتمعت همزتان، الأولى متحركة ,والثانية ساكنة، فقلبت الثانية ألفاً، قال ابن عصفور (669هـ) : ( ... إذا كان الحرف المفتوح الذي تليه الهمزة الساكنة همزة التزم قالب الهمزة الساكنة ألفاً، نحو "آدَم" و "آمَن", أصلهما: "أَأْدَم" و "أَأْمَن" , إلا أنه لا ينطق بالأصل، استثقالاًللهمزتين في كلمة واحدة) (2) .
وقلبت الواو المتطرفة ألفاً ثم همزة،قال ابن جني (392هـ) ،بعد أن ذكر أمثلة على همزة متطرفة بعد ألف ساكنة:
(فالهمزة في الحقيقة إنما هي بدل من الألف،والألف التي أبدلت الهمزة عنها بدل من الياء والواو، إلا أن النحويين إنما اعتادوا هنا أن يقولوا إن الهمزة منقلبة من ياء أو واو , ولم يقولوا من ألف , لأنهم تجوزوا في ذلك) (3) .
والنسبة إلى أبٍ: أَبَويُُّ. (4)
شروط إعراب (أب) بالحروف:
يعرب (أب) إعراب الأسماء الستة، بالواو في الرفع، والألف في النصب، والياء في الجر, بشروط:
1 أن يكون مفرداً.
2 أن يكون مكبّراً.
3 أن يكون مضافاً لغير ياء المتكلّم.
ومثال ما اجتمعت فيه الشروط: أبوك، تقول: هذا أبوك، وأكرمتُ أباك، وسلّمتُ على أَبيك (5) .
إعراب (أب) الفاقد لأحد الشروط:
ما فَقَد الشرط الأول إمّا أن يكون مثنى أو جمعاً.
فالمثنى يعرب إعراب المثنّى بالألف في الرفع، وبالياء في النصب والجر، نحو: جاء أبوان، رأيت أبوين، مررت بأبوين (6) .
والجمع إما أن يكون جمع مذكر سالماً، أو جمع تكسير.
فجمع المذكر السالم يعرب إعراب جمع المذكر السالم, بالواو في الرفع, وبالياءفي النصب والجر، نحو: جاء أبون، رأيت أبين، مررت بأبين (7) .
وجمع التكسير يعرب بالحركات الظاهرة, نحو: جاء آباؤُك، رأيت آباءَك مررت بآبائِك (8) .(13/414)
وقد سبق أنّ الأبَ يجمع على أبوُُّ، وأبوّةُُ، وإعرابهما بالحركات الظاهرة.
وما فقد الشرط الثاني بأَنْ كان على صيغة التصغير, يعرب بالحركات الظاهرة، نحو: جاء أبيُّك، رأيت أبيَّك، مررت بأبيِّك.
وما فقد الشرط الثالث إمّا أن يكون غير مضاف، أو يكون مضافاً إلى ياء المتكلّم.
فغير المضاف يعرب بالحركات الظاهرة، إذا لم يكن مثنى أو جمع مذكر سالماً, نحو: هذا أبٌ، ورأيتُ أباً ومررت بأبٍ (10) .
والمضاف إلى ياء المتكلم يعرب بالحركات المقدّرة على الباء، منع من ظهورها اشتغال المحلّ بحركة المناسبة, نحو: هذا أبِي رأيت أبِي، مررت بأبِي (11) .
اللغات في (أب) :
يجوز فيما اجتمعت فيه الشروط أربع لغات:
1 الإتمام: ويعرب بالحروف, نحو: جاء أبوك، رأيت أباك، مررت بأبيك.
2 القصر: ويعرب كإعراب المقصور، فتلزمه الألف، ويعرب بحركات مقدّرة على الألف في الرفع, والنصب, والجر، منع من ظهورها التعذر, نحو: أباك كريمٌ، إنّ أباك كريمٌ، سلمت على أباك.
ومن شواهد لغة القصر قول الشاعر:
إنَّ أباها وأبا أباها قَدْ بَلَغا في المجدِ غايتاها (12) .
حيث جاء المضاف إليه (أباها) بالألف.
3 النَّقص: بحذف لامه، وهي الواو، وإعرابه بحركات ظاهرة على الباء، نحو: هذا أبُك، رأيت أبَك، مررت بأبِك.
ومن شواهد لغة النقص قول الشاعر:
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَمْ وَمَن يُشابِهْ أبَهُ فما ظَلَمْ (13) .
فعلامة جر (بأبِه) الكسرة، وعلامة نصب (ومن يشابه أبَه) الفتحة.
4 التشديد: أي تشديد الباء والإعراب بحركات ظاهرة، نحو: هذا أبُّك، رأيت أبَّك، مررت بأبِّك (14) .
الخلاف في إعراب (أب) بالحروف:(13/415)
(أب) أحد الأسماء الستة، وقد اختلف النحويون في إعراب الأسماء الستة بالحروف على مذاهب مختلفة، ذكر منها أبو البركات الأنباري (577 هـ) خمسة مذاهب (15) ، وذكر منها العكبري (616هـ) سبعة مذاهب (16) ، وذكر منها السيوطي (911 هـ) اثني عشر مذهباً (17) .
وأبرز المذاهب مذهبا البصريين والكوفيين، فقد ذهب البصريون إلى أنّ الأسماء الستة معربة من مكانٍ واحدٍ، والواو والألف والياء حروف الإعراب.
وذهب الكوفيون إلى أنها معربة من مكانين بالحروف، وبالحركات التي قبلها (18) .
وأجدر المذاهب بالقبول أنّ الحروف علامات إعراب فرعية نائبة عن العلامات الأصلية للإعراب، فالواو تنوب عن الضمة، والألف تنوب عن الفتحة، والياء تنوب عن الكسرة، قال ابن مالك (672 هـ) : (ومنهم من جعل إعرابها بحروف المدّ على سبيل النيابة عن الحركات، وهذا أسهل المذاهب وأبعدها عن التكلّف) (19) .
الفصل الأول: إعراب (أب) بالحروف
ورد (أب) في القرآن الكريم معرباً بالحروف في (واحد وأربعين) ،موضعاً منها (ثلاثة وثلاثون) موضعاً أعرب فيها إعراب الأسماء الستة،ومنها (سبعة) مواضع أعرب فيها إعراب المثنى.
ومنها موضعٌ واحد في قراءةٍ أعرب فيه إعراب جمع المذكر السالم.
1 إعراب (أب) إعراب الأسماء الستة:
ورد في الحالات الثلاث: الرفع, والنصب, والجر، فقد ورد في حالة الرفع وعلامته الواو في (خمسة) مواضع، وورد في حالة النصب، وعلامته الألف في (أحد عشر) موضعاً، وورد في حالة الجر، وعلامته الياء في (سبعة عشر) موضعاً.
أالرفع:
ورد (أب) مرفوعاً، وعلامة رفعه الواو في (ثلاثة) مواقع إعرابية هي: المبتدأ، واسم كان، والفاعل.
فالمبتدأ في موضع واحد، هو:
1/قول الله تعالى: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص/23] .
واسم كان في موضعين:(13/416)
2/1 قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم/28] .
وفي هذه الآية قراءةٌ أُخرى، وهي قراءة عمر بن لجأ التيمي (105هـ) فقد قرأ: (ما كان أباك امرؤُ سَوْءٍ) (20) .
وإعراب (أباك) على هذه القراءة خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الألف، واسم كان (امرؤ) ،و (سَوْء) مضاف إليه, والإضافة هي المسوّغ لوقوع اسم كان نكرة.
3/ 2 قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف/82] .
والفاعل في موضعين:
4/1 قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف/68] .
5/ 2 قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُف} [يوسف/94] .
ب النصب:
ورد (أب) منصوباً وعلامة نصبه الألف، في (أربعة) مواقع إعرابية، هي: خبر كان، واسم إنّ، والمفعول به، والمنادى.
فخبر كان في موضع واحد، هو:
6/ قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب/40] .
يضاف إلى هذا الموضع قراءة سبقت الإشارة إليها في موقع الرفع،ورقمه في البحث (2) هي (ما كان أباك امرؤُ سَوْءٍ) .
واسم إنّ في موضعين:
7/ 1 قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف/8] .
8/2 قوله تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} [يوسف/80] .
ف (أباكم) اسم أنّ المفتوحة الهمزة، وهي أخت إنّ المكسورة الهمزة.
والمفعول به في موضعين:
9/1 قوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف/16] .
10/2 قوله تعالى: {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف/61] .(13/417)
يضاف إليهما موضع ثالث على قراءةٍ،هي: (كَذِكْرِكُمْ أَبَاكُمْ) [البقرة/200]
وسترد في المنصوب من المعرب بالحركات، في الموضع الأول من موقع المفعول به،ورقمه في البحث (81) .
والمنادى في (ستة) مواضع، هي:
11/1 قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُف} [يوسف/11] .
12/2 قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُف} [يوسف/17] .
13/3 قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} [يوسف/63] .
14/4 قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف/65] .
15/5 قوله تعالى: {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف/81] .
16/6 قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف/97] .
ففي هذه الآيات الستّ (أبا) منادى مضاف، والضمير (نا) مضاف إليه.
ج الجر:
ورد (أب) مجروراً، وعلامة جّره الياء؛ لأنه من الأسماء الستة, في (ثلاثة) مواقع إعرابية، هي: الجر بحرف الجر، والجر بالإضافة، والجر بالتبعية؛ لأنّه معطوف على مجرور بالحرف.
فالجر بحرف الجر في (ثلاثة عشر) موضعاً، فقد جاء الجر ب (مِنْ) في موضع واحد، هو:
17/ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف/59] .
وجاء الجر ب (إلى) في (ثلاثة) مواضع، هي:
18/1 قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف/8] .
19/2 قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} [يوسف/63] .
20/3 قوله تعالى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُم} [يوسف/81] .
وجاء الجر ب (اللام) في (تسعة) مواضع، هي:(13/418)
21/1 قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَة} [الأنعام/74] .
22/2 قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة/114] .
23/3 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} [يوسف/4] .
24/4 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ} [مريم/42] .
25/5 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} [الأنبياء/52] .
26/6 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء/70] .
27/7 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات/85] .
28/8 قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف/26] .
29/9 قوله تعالى: {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة/4] .
والجر بالإضافة في (ثلاثة) مواضع، هي:
30/1 قوله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُم} [يوسف/9] .
31/2 قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل} [الحجّ/78] .
32/3 قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد/1] .
وفي هذه الآية قراءةٌ شاذّةٌ: (يدا أبو لهب) (21) ،و (أبو) مجرور بالإضافة، وأتى بالواو على الحكاية.
يضاف إلى هذه المواضع الثلاثة موضعٌ رابعٌ على أحد التوجيهين لقراءة: (وإِلهَ أَبِيْكَ) [البقرة/133] ، وسيأتي الحديث عنها، وعن التوجيه في إعراب (أب) إعراب جمع المذكر السالم.
والجر بالتبعيّة في موضعٍ واحدٍ، هو:
33/ قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس/34،35] .
ف (أبيه) مجرور؛ لأنّه معطوف بالواو على (أخيه) المجرور ب (من) (22) .
2 أعراب (أب) إعراب المثنّى:(13/419)
ورد في الحالات الثلاث: الرفع، والنصب، والجر، فقد ورد في حالة الرفع وعلامته الألف في موضعين، وورد في حالة النصب وعلامته الياء في (ثلاثة) مواضع، وورد في حالة الجر وعلامته الياء في موضعين.
أالرفع:
ورد (أب) معرباً إعراب المثنى في حالة الرفع في موقعين إعرابيين، هما اسم كان، والفاعل.
فاسم كان في موضعٍ واحدٍ، هو:
34/قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف/80] .
والفاعل في موضعٍ واحدٍ، هو:
35/قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء/11] .
ب النصب:
ورد (أب) معرباً إعراب المثنّى في حالة النصب في موقعٍ إعرابيّ واحدٍ، هو المفعول به، وذلك في (ثلاثة) مواضع، هي:
36/1 قوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [لأعراف/27] .
37/2 قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْه} [يوسف/99] .
38/3 قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَ يْهِ عَلَى الْعَرْش} [يوسف/100] .
ج الجر:
ورد (أب) معرباً إعراب المثنّى في حالة الجر في موقعٍ إعرابيّ واحدٍ، هو الجر بحرف الجر، وذلك في موضعين:
39/1 الجرّ ب (على) في قوله تعالى: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىأَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاق} [يوسف/6] .
40/2 الجر ب (الّلام) في قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء/11] .
وفي (ستة) مواضع من مواضع التثنية يُراد بالأبوين: الأب والأم، غُلّب لفظ الأب في التثنية.
وفي الموضع السّابع في قوله تعالى: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىأَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاق} [يوسف/6] أطلق لفظ أبويك على الجدّ وأبي الجدّ؛ لأنّهما في عمود النسب (23) .(13/420)
وقد سُمّيا باسميهما في الآية، فإسحاق أبو يعقوب: جدّ يوسف، وإبراهيم أبو إسحاق: أبو جدّه.
3 إعراب (أب) إعراب جمع المذكر السالم:
ورد (أب) معرباً إعراب جمع المذكرّ السالم في موضعٍ واحدٍ في قراءةٍ لقوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق} [البقرة/133] وستأتي فيما يعرب بالحركات، ورقم الموضع في البحث (98) .
فقد ذكر ابن خالويه (370هـ) أنّ يحيى بن يعمَر (129هـ) قرأ: (وإله أبيك) (24) ، وذكر ابن جنّي أنّ قراءة (وإله أبيك) قرأ بها عدد من القراء منهم: ابن عباس (68هـ) ، والحسن البصري (110هـ) ، ويحيى بن يعمَر، وعاصم الجحدري (قبل130هـ) ، وأبو رجاء (105هـ) (25) .
وقد وجّه العلماء هذه القراءة بأحد توجيهين:
التوجيه الأول: أنّ (أبيك) جمع مذكر سالم مجرور بالإضافة، وعلامة جره الياء، أصله: (أبين) ، حذفت منه النون للإضافة.
ويؤيّد هذا التوجيه أربعة أمور:
الأول: الشواهد الشعرية التي جمع فيها (أب) جمع مذكر سالماً ومنها:
1- فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْواتَنا بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنا بِالأَبِينا (26)
(الأبين) جمع (أب) مجرور بالباء، وعلامة جره الياء.
2- أَلَمْ تَرَأَنِّي بَعْدَ هَمٍّ هَمَمْتُهُ لِفُرْقَةِ حُرٍّ مِنْ أَبِينَ كِرامِ (27)
(أبين) جمع (أب) مجرور بمن، وعلامة جره الياء.
3- أَقْبَلَ يَهْوِي مِنْ دُوَينِ الطِّرْبالْ فَهْوَ يُفَدَّى بِالأَبِينَ وَالخالْ (28)
(الأبين) جمع (أب) مجرور بالباء، وعلامة جره الياء.
4- نِيطَ بِحِقْوَي ماجِدِ الأَبِينِ مِن مَعْشَرٍ صِيغُوا مِن اللُّجَينِ (29)
(الأبين) جمع (أب) مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء.
5- لايَذُوقُ اليومَ كَأْساً أَوْ يُفَدَّى بِالأَبِين (30) ِ
(الأبين) جمع (أب) مجرور بالباء، وعلامة جره الياء.
6- أَغَرٌّ يُفَرِّجُ الظَّلْماءَ عَنْهُ يُفَدَّى بالأَعُمِّ والأَبِينا (31)(13/421)
(الأبين) جمع (أب) مجرور بالباء، وعلامة جره الياء.
7-يَدَعْنَ نِساءَكُمْ في الدَّارِ نُوحاً يُدَفِّنَّ البُعُولَةَ والأَبِينا (32)
(الأبين) جمع (أب) ، معطوف على (البعولة) منصوب وعلامة نصبه الياء.
8-أَبُونَ ثَلاثَةٌ هَلَكُواجَمِيعاً فَلا تَسْأَمْ دُمُوعُكَ أَنْ تُراقا (33)
(أبون) جمع (أب) مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو.
الثاني: قول سيبويه (180هـ) : (وسألت الخليل،عن "أبٍ" فقال: إن ألحقت به النون والزيادة التي قبلها قلت: أبون , وكذلك"أخ" تقول: أخون) (34) .
الثالث: إعراب الأعلام التي بعده بد لاً منه, قال ابن جني: (ويؤيد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: إبراهيم , وإسماعيل،وإسحاق، فأبدل الجماعة من أبيك فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل) (35) .
الرابع: ورود قراءة الجماعة بالجمع: (وإله آبائك) ، قال ابن جني: (فإن أمكن أن يكون جمعاً كان كقراءة الجماعة ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون "أبيك" جمع أب على الصحة) (36) .
وقد أخذ بهذا التوجيه:
أبو جعفر النحاس (338هـ) (37) , وابن مالك (38) .
التوجيه الثاني: أنّ (أبيك) مفرد، إمّا على إرادة الجمع، وإمّا أن يكون مفرداً في اللفظ والمعنى، فيكون مجروراً بالإضافة، وعلامة جره الياء؛ لأنّه من الأسماء الستة،ويكون (إبراهيم) بدلاً من (أبيك) ،ويكون عطف (إسماعيل وإسحاق) على (أبيك) ،بتقدير: وإله إسماعيل وإسحاق (39) .
وقد أخذ بإفراد (أبيك) في اللفظ والمعنى:
أبو زكريا الفراء (207هـ) (40) ،وأبو إسحاق الزجاج (311 هـ) (41) ،وأبو حيان (745هـ) ، الذي قال: (وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ "أبيك" أريد به الإفراد) (42) .
وممّن أورد التوجيهين: الجمع والإفراد دون ترجيح:
الزمخشري (538هـ) (43) ، والعكبري (44) .
الفصل الثاني: إعراب (أب) بالحركات(13/422)
ورد (أب) في القرآن الكريم معرباً بالحركات الظاهرة أو المقدرة في (سبعة وسبعين) موضعاً.
منها (أربعة وستون) موضعاً بالحركات الظاهرة، و (ثلاثة عشر) موضعاً بالحركات المقدّرة.
1 إعراب (أب) بالحركات الظاهرة:
سبق في التمهيد الحالات التي يعرب فيها (أب) بالحركات الظاهرة، وهي ثلاث حالات:
جمع التكسير، ومجموع ما ورد منه معرباً بالحركات الظاهرة (ثلاثة وستون) موضعاً.
المصغّر، ولم يرد في القرآن الكريم.
غير المضاف، وقد ورد في موضع واحد.
وقد ورد المعرب بالحركات الظاهرة مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً.
فالمرفوع في (ستة وعشرين) موضعاً.
والمنصوب في (واحد وعشرين) موضعاً.
والمجرور في (سبعة عشر) موضعاً.
أالمرفوع:
ورد (أب) مجموعاً جمع تكسير مرفوعاً، وعلامة رفعه الضمة في (خمسة) مواقع إعرابية، هي: المبتدأ، واسم كان، والفاعل، ونائب الفاعل، والمعطوف على المرفوع.
فالمبتدأ في (ثلاثة) مواضع هي:
41/1 قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء/11] .
42/2 قوله تعالى: {أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماًأَئنَّالَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات/16-17] .
ف (آباؤنا) : مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف تقديره مبعوثون، والجملة معطوفة بالواو على جملة (أئنّا لمبعوثون) .
وإلى هذا الإعراب ذهب أبو حيان (45) ، وأبو السعود (46) ، وذهب الزمخشري إلى إعراب هذه الآية بوجه آخر، فقال: (وآباؤنا: معطوف على محل إنّ واسمها، أو على الضمير في"مبعوثون"والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام) (47) .
وقد رد أبو حيان إعراب الزمخشري، بقوله (أمّا قوله: معطوف على محل إنّ واسمها، فمذهب سيبويه خلافه؛ لأن قولك: إنّ زيداً قائمُُ وعمروُُ، فيه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف.(13/423)
وأمّا قوله: أو على الضمير في "مبعوثون" إلى آخره، فلا يجوز عطفه على الضمير؛ لأنّ همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، لا على المفرد، لأنّه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها) (48) .
وقد قُرئ قوله: (أَوَ آباؤُنا) بقراءةٍ أُخرى، هي: (أَوْ آباؤُنا) بسكون الواو، قرأ بها ابن عامر، وأبو جعفر المدني (127هـ) ،وقالون (220هـ) (49) .
وعلى هذه القراءة لا وجود لهمزة الاستفهام التي مَنَعت العطف على الضمير في (لمبعوثون) لأنّ (أَوْ) حرف عطف، لكن العطف على الضمير ضعيف؛ لأنّه ضمير رفع متّصل لم يؤكد بضمير منفصل، قال سيبويه: (وإن حملت الثاني على الاسم المرفوع المضمر فهو قبيح؛ لأنك لوقلت: اذهبْ وزيدٌ، كان قبيحاً، حتى تقول: اذهبْ أنت وزيدٌ) (50) .
43/3 قوله تعالى: {وكَانُوا يَقُولُونَ أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة/4748] .
إعراب هذه الآية والخلاف فيه كالذي ذكر في الآية السابقة.
فممّن ذهب إلى العطف على محل إنّ واسمها، أو العطف على الضمير في (مبعوثون) : أبو جعفر النحاس (51) ، وذهب الزمخشري (52) ، وأبو السعود (53) إلى العطف على الضمير في (لمبعوثون) .
ويُردّ على هؤلاء بما نقلته عن أبي حيان، عند إعراب الآية التي قبل هذه.
ويُردّ على أبي السعود بأنّ إعرابه لهذه الآية مخالف لإعرابه للآية السابقة.
واسم كان في (ثلاثة) مواضع، هي:
44/1 قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة/170] .
45/2 قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعلَمونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة/104] .
46/3 قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُم ... } [التوبة/24] .
والفاعل في (ثمانية) مواضع، هي:(13/424)
47/1 قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء/22] .
48/2 قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف/70] .
(آباؤنا) فاعل (يعبد) ، واسم (كان) ضمير يعود على (آباؤنا) ففي الكلام تنازع.
ومذهب البصريين في التنازع ترجيح إعمال الثاني (54) .
ومذهب الكوفيين ترجيح إعمال الأول (55) .
فعلى مذهب الكوفيين يجوز إعراب (آباؤنا) اسم (كان) ، وفاعل (يعبد) ضمير.
ومذهب البصريين أرجح؛ لأنّه إذا أُعمل الأول برز الضمير في الثاني فيقال: (يعبدون) .
49/3 قوله تعالى: {َوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِم} [الأعراف /173] .
50/4 قوله تعالى: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود/62] .
51/5 قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود/87] .
52/6 قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل} [هود/109] .
53/7 قوله تعالى: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم/10] .
آباؤنا فاعل يعبد على إعمال الثاني (يراجع ما سبق في الآية الثانية من هذه المجموعة) .
54/8 قوله تعالى: {قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ/43] .
(آباؤكم) فاعل (يعبد) ، وهو يشبه الفاعل في الآية الثانية والآية السابعة.
يضاف إلى هذه المواضع الثمانية موضعٌ تاسعٌ على قراءةٍ، هي: (كذكركم آباؤُكم) [البقرة/200] وسترد في المنصوب من المعرب بالحركات، في الموضع الأول من موقع المفعول به، ورقمه في البحث (81) .(13/425)
ونائب الفاعل في موضعٍ واحدٍ، هو:
55/ قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس/6] .
والمعطوف على المرفوع في (أحد عشر) موضعاً، عُطفت كلمة (آباء) فيها على اسم كان، وعلى الفاعل، وعلى نائب الفاعل.
فقد عُطفت على اسم كان في موضعين، هما:
56/1 قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء/54] .
(آباؤكم) معطوفة على ضمير الرفع المتصل اسم كان في قوله ((كنتم)) ،وقد أُكّد المعطوف عليه بضمير رفع منفصل، هو قوله ((أنتم)) ، وهذا هو الجيّد الكثي (56) ر.
57/2 قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أئنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل/67] .
فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر كان،وهو قوله: (تراباً) .
وعُطفت (آباء) على الفاعل في (سبعة) مواضع، هي:
58/1 قوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُم} [الأنعام/91] .
فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالضمير المؤكِّد (أنتم) وب (لا) .
59/2 قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام/148] .
فصل بين المعطوف والمعطوف عليه ب (لا) .
60/3 قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم} [الأعراف/71] .
61/4 قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف/40] .
62/5 قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوالَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَامِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل/35] .
63/6 قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ} [الشعراء/7576] .(13/426)
64/7 قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم} [النجم/23] .
وعُطفت (آباء) على نائب الفاعل في موضعين، هما:
65/1 قوله تعالى: {َقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون/83] .
66/2 قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [النمل/68] .
ب المنصوب:
ورد (أب) منصوباً، وعلامة نصبه الفتحة، مفرداً غير مضاف في موضعٍ واحدٍ، ومجموعاً جمع تكسير في الباقي، في (خمسة) مواقع إعرابية،هي:
خبر (كان) ، واسم (إنّ) ، والمفعول الأول لأخوات (ظنّ) ، والمفعول به، والمعطوف على المنصوب.
فخبر (كان) في موضعٍ واحدٍ، هو:
67/ قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة/22] .
واسم (إنّ) في موضعٍ واحدٍ، هو:
68/ قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} [يوسف/78] .
(أباً) اسم (إنّ) تأخّر عن خبرها، وهو الموضع الوحيد الذي ورد غير مضافٍ.
والمفعول الأوّل لأخوات (ظنّ) في (اثني عشر) موضعاً، فقد جاءت كلمة (آباء) مفعولاً أوّلاً للفعل (وَجَد) في (تسعة) مواضع، وللفعل (أَلْفَى) في موضعين،وللفعل (أتَّخَذَ) في موضعٍ واحدٍ، وهذه المواضع في الآيات الآتية:
69/1 قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة/170] .
(آباء) مفعول به أوّل منصوب.
وذكر العكبريّ أنّ (ألفينا) بمعنى: (وجدنا) ،تحتمل هنا أن تكون متعدّية إلى مفعولين،و (عليه) مفعول ثانٍ، وأن تكون متعدية إلى مفعول واحد، و (عليه) حال (57) .(13/427)
وقال أبو حيان: (و"عليه" متعلّق بقوله: "ألفينا"، وليست هنا متعدية إلى اثنين؛ لأنّها بمعنى "وجد"، التي بمعنى: "أصاب") (58) .
ولعلّ التوسط في هذا الخلاف ترجيح تَعَدِّي (ألفَى) إلى مفعولين مع جواز تعديه إلى مفعول واحد.
70/2 قوله تعالى: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة/104] .
إعراب (آباء) في هذه الآية كإعرابها في الآية التي قبلها.
قال العكبري: (و"وجدنا" هنا يجوز أن تكون بمعنى: "علمنا" فيكون "عليه" المفعول الثاني، ويجوز أن تكون بمعنى: "صادفنا"، فتتعدى إلى مفعول واحد بنفسها، وفي " عليه " على هذا وجهان:
أحدهما: هي متعلّقة بالفعل معدّية له، كما تتعدى "ضربت زيداً بالسوط".
والثاني: أن تكون حالاً من الآباء) (59) .
71/3 قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف/28] .
72/4 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَعَلَىالأِيمَان} [التوبة/23] .
73/5 قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس/78] .
74/6 قوله تعالى: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء/53] .
75/7 قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء/74] .
76/8 قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان/21] .
77/9 قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} [الصافات/69] .
استشهد بهذه الآية ابن هشام (761هـ) على أنّ (ألفَى) من الأفعال القلبية، الدالة على اليقين، المتعدية لاثنين (60) .(13/428)
78/10 قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف/22] .
79/11 قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف/23] .
80/12 قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم} [الزخرف/24] .
في هذه الآيات الثلاث الأخيرة يحتمل أنّ (وَجَدَ) متعدّيةٌ لواحدٍ، و (أباءَ) مفعول (وجد) ، والجار والمجرور حالٌ من (آباء) .
والمفعول به في (أربعة) مواضع، هي:
81/1 قوله تعالى: {فَإِذَاقَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوااللَّهَ كَذِكْرِكُم آبَاءَكُمْ أَوأَشَدَّذِكْراً} [البقرة/200] .
(آباءَ) مفعول به للمصدر (ذِكْر) .
وقد قرأ محمد بن كعب القرظي (108هـ) : (كذِكْركم آباؤُكم) ، بالرفع وقرأ أيضاً: (كذكركم أباكم) بالإفراد (61) .
قال أبو حيّان: (ووجه الرفع أنّه فاعل بالمصدر، والمصدر مضاف إلى المفعول والتقدير: كما يذكركم آباؤُكم ... ، ووجه الإفراد أنّه استغنى به عن الجمع؛لأنّه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع؛ لأنّه معلوم أنّ المخاطبين ليس لهم أبٌ واحدٌ، بل آباءٌ) (62) .
وعلى قراءة الرفع يكون من المرفوع بالضمة الذي يعرب فاعلاً.
وعلى قراءة الإفراد يكون من المنصوب بالألف؛ لأنّه من الأسماء الستة، وهو مفعول به.
82/2 قوله تعالى: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ} [الأعراف/95] .
(آباءَنا) مفعول به للفعل (مسَّ) تقدم على الفاعل.
83/3 قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ} [المؤمنون/68] .
84/4 قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب/5] .(13/429)
(آباءَهم) مفعول به ل (تعلموا) ؛ لأنّها بمعنى: تعرفوا، فتكون متعدية إلى واحد (63) ٍ.
والمعطوف على منصوب في (ثلاثة) مواضع، فقد عُطفت كلمة (آباء) على المفعول به في هذه المواضع، وهي:
85/1 قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر} [الأنبياء/44] .
(آباءَهم) معطوف بالواو على اسم الإشارة المفعول به (هؤلاء) .
86/2 قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان/18] .
(آباءَهم) معطوف بالواو على ضمير النصب المفعول به في قوله: (متعتهم) .
87/3 قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف/ 29] .
(آباءَهم) معطوف بالواو على اسم الإشارة المفعول به (هؤلاء) .
ج المجرور:
ورد (أب) مجموعاً جمع تكسير، مجروراً وعلامة جره الكسرة في (ثلاثة) مواقع إعرابية، هي: الجر بحرف الجر، والجر بالإضافة، والجر بالتبعية؛ لأنّه معطوف على مجرور بالحرف.
فالجر بحرف الجر في (عشرة) مواضع، فقد جاء الجر ب (في) في (ثلاثة) مواضع، هي:
88/1 قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون/24] .
(في) حرف جر،و (آبائنا) اسم مجرور وعلامة جرّه الكسرة، قال محمود صافي (1985م) :
(في آبائنا، متعلّق بسمعنا بحذف مضاف أي في أخبارِ آبائِنا) (64) .
89/2 قوله تعالى: {قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص/36] .
(آبائنا) في هذه الآية، كآبائنا في الآية التي قبلها، ويجوز أن يتعلّق الجار والمجرور بحال، قال أبو حيان: (وفي آبائنا: حال، أي بهذا، أي بمثل هذا كائناً في أيام آبائنا) (65) .(13/430)
90/3 قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب/55] .
(" عليهن ّ: متعلّق بمحذوف خبر "لا"، " في آبائِهنّ "متعلّق بالخبر المحذوف بحذف مضاف، أي في رؤية آبائِهنّ) (66) .
ف (آباء) في الآيات الثلاث السابقات مجرور ب (في) وفي التقدير مجرور بالإضافة.
وجاء الجر ب (الباء) في موضعين، هما:
91/1 قوله تعالى: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان/36] .
92/2 قوله تعالى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية/25] .
وجاء الجر ب (مِنْ) في (ثلاثة) مواضع، هي:
93/1 قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام/87] .
الجار والمجرور متعلّق ب (فضلّنا) في الآية رقم (86) ، أو بهدينا في الآية رقم (84) .
94/2 قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد/23] .
الجار والمجرور متعلّق بحال مِنْ فاعل (صَلَح) ، وهو الضمير العائد على الموصول (مَنْ) .
95/3 قوله تعالى: {رَبَّنَاوَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر/8] .
(أباء) في هذه الآية ك (آباء) في الآية التي قبلها.
وجاء الجر ب (اللام) في موضعين، هما:
96/1 قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ} [الكهف/5] .
(لآبائهم) معطوف على (لهم) ويتعلّق بما تعلّق به.
97/2 قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب/5] .
والجر بالإضافة في (خمسة) مواضع هي:
98/1 قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق} [البقرة/133] .
(آبائِك) مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الكسرة.(13/431)
قال أبو حيان: (وقرأ أبيّ (21هـ) :وإله إبراهيم، بإسقاط آبائِك) (67) .
وسبق في إعراب (أب) إعراب جمع المذكر السالم، أنّ في هذه الآية قراءةً أخُرى هي: (وإله أبيك) ، وسبق توجيهها، بعد الموضع رقم (40) .
99/2 قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور/61] .
100/3 قوله تعالى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء/26] .
101/4 قوله تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات/126] .
102/5 قوله تعالى: {لا إِلَهَ إلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان/8] .
والجر بالتبعية في موضعين، فقد جاء معطوفاً على مجرور ب (اللام) في:
103, 104/قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور/31] .
(آباء) في الموضعين معطوفة ب (أو) على (بعولتهن) المجرور باللام.
2 إعراب (أب) بالحركات المقدّرة:
يعرب (أب) بالحركات المقدّرة إذا أضيف إلى ياء المتكلم، وقد ورد معرباً بالحركات المقدرة في (ثلاثة عشر) موضعاً.
أأبي وآبائي:
ورد (أب) مضافاً إلى ياء المتكلّم في (خمسة) مواضع، فقد أُضيف المفرد إلى ياء المتكلم في (أربعة) مواضع (أبي) ، وأضيف جمع التكسير إلى ياء المتكلم في موضعٍ واحدٍ (آبائي) .
وقد قدّرت الضمة في الرفع، والفتحة في النصب، والكسرة في الجر (68) .
فقد قدّرت الضمة في موضعٍ واحدٍ، هو:
105/قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف/80] .
(أبي) فاعل (يأذن) مرفوع بضمّة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلّم،منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة.(13/432)
وقدّرت الفتحة في المضاف إلى ياء المتكلّم في موضعٍ واحدٍ، هو:
106/ قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص/25] .
(أبي) اسم (إنّ) منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلّم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة.
وقدّرت الكسرة في (ثلاثة) مواضع، أحدها مجرور بالحرف، وهو (اللام) في:
107/ قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء/86] .
واثنان مجروران بالإضافة، وهما:
108/1 قوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف/38] .
وفيها قراءة عن المطوّعي (371هـ) بتسهيل الهمزة الثانية من (آبائي) (69) ،فإذا سهلت صارت: آبايي.
وقراءة للأعمش (148هـ) : (أبايَ) بفتح الياء من غير مدّ (70) .
والظاهر أنّ أصلها: (آبائي) حذفت منها الهمزتان الأولى والأخيرة.
109/2 قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف/93] .
ب يا أبتِ:
في نداء (أب) عند إضافته إلى ياء المتكلّم، عشر لغات:
1 يا أبيْ، بإثبات الياء ساكنة.
2 يا أبِ،بحذف الياء، وإبقاء الكسرة دليلاً عليها.
3 يا أبُ ,بحذف الياء، والبناء على الضم، تشبيهاً بالنكرة المقصودة.
4 يا أبيَ , بإثبات الياء مفتوحة.
5 يا أبا، بقلب الكسرة التي قبل الياء المفتوحة فتحة، فتنقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
6 يا أبَ، بحذف الألف، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها.
7 يا أبتِ،بإبدال الياء تاء مكسورة.
8 يا أبتَ، بإبدال الياء تاء مفتوحة.
9 يا أبتا، بالتاء والألف.
10 يا أبتي، بالتاء والياء (71) .
والتاء في (يا أبتِ) بدل من ياء المتكلّم (72) .
و (يا أبتِ) بكسر التاء على قراءة الجمهور، وردت في (ثمانية) مواضع، هي:(13/433)
110/1 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا} [يوسف/4] .
111/2 قوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف/100] .
112/3 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم/42] .
113/4 قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِك} [مريم/43] .
114/5 قوله تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَان} [مريم/44] .
115/6 قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَن} [مريم/45] .
116/7 قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْه} [القصص/26] .
117/8 قوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات/102] .
في هذه الآيات الثمان وقع (أب) منادى، وهو مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة التي أُبدلت منها التاء المكسورة، والكسرة دليل على ياء المتكلّم المحذوفة، وكانت الكسرة على الباء فنُقلت إلى التاء (73) .
و (أب) منادى مضاف منصوب، وعلامة النصب الفتحة المقدّرة على ما قبل ياء المتكلّم.
القراءات في (يا أبتَِ) :
(يا أبتِ) ، قراءة الجمهور، وسبق توجيهها.
(يا أبتَ) ، هي قراءة ابن عامر، ويقف عليها هو وابن كثير (120هـ) بالهاء (يا أبَهْ) ، والباقون يقفون بالتاء.
والوقف بالهاء؛ لأنّها تاء تأنيث، وبالتاء لأنها الأصل (74) ،وذكر أبن مالك أن الوقف بالتاء مراعاة لرسم المصحف (75) .
وفي فتح التاء (ثلاثة) أوجه:
الأول: أنّه حذف التاء، وزيدت بدلها تاءٌ أُخرى، وحُركت بحركةُ ما قبلها.
الثاني: أنّه أبدل من الكسرة فتحة.
الثالث: أنّه أراد: يا أبتَا، فحُذفت الألف تخفيفا ً (76) .
وذكر أبو البقاء العكبري ثلاث قراءاتٍ أُخرى، هي:
(يا أبتا، ويا أبتاهُ، ويا أبتُ) ، ولم ينسب هذه القراءات.
الخاتمة(13/434)
هذه هي المواقع الإعرابية لأب ومثناه وجمعه، المعرب منها بالحروف، والمعرب بالحركات في القرآن الكريم.
وترجع هذه المواقع إلى (11) باباً من أبواب النحو، هي:
الباب
عدد المواضع التي وردت فيه
الابتداء
4
كان وأخواتها
8
إنّ وأخواتها
4
ظنّ وأخواتها
12
الفاعل
12
نائب الفاعل
1
المفعول به
9
حروف الجر
26
الإضافة
10
العطف
17
المنادى
14
ومجموع مواضع الرفع (34) ، والنصب (44) ، والجر (39) .
وجاء (أب) مفرداً في (46) موضعاً، ومثنّى في (7) مواضع، وجمعاً في (64) موضعاً.
وجاء غير مضاف في موضعٍ واحدٍ، وأُضيف إلى اسم ظاهر في (3) مواضع.
وأضيف إلى الضمير في (113) موضعاً.
ومجموع سور القرآن التي ورد فيها (أب) أو مثناه أو جمعه (37) سورة.
ومجموع الآيات التي ذُكر (أبٌ) فيها (104) آيات، منها (12) آية تكرر فيها ذكر (أب) ، وفي (سورة النساء/11) ذكر (أب) في (3) مواضع.
وقد ورد (أبٌ) في سورةيوسف في (28) موضعاً، في (22) آية، ولم يصل إلىهذاالعددفي سورةأخرى. والحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الآيات التي ورد فيها (أب) ومثنّاه وجمعه مرتبة حسب ورودها في المصحف
رقم الموضع في البحث
الموقع الإعرابي لأب فيها
رقمها
الآية
98
69
44
81
مضاف إليه
مفعول أوّل
اسم كان
مفعول به
133
170
170
200
البقرة
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
40
35
41
47
مجرور باللام
فاعل
مبتدأ
فاعل
11
11
11
22
النساء
وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌوَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ(13/435)
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
70
45
مفعول أوّل
اسم كان
104
104
المائدة
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً
21
93
58
59
مجرور باللام
مجرور بمن
معطوف على الفاعل
معطوف على الفاعل
74
87
91
148
الأنعام
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَر َأَتَتَّخِذُ أَصْنَاما وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا
36
71
48
60
82
49
مفعول به
مفعول أوّل
فاعل
معطوف على الفاعل
مفعول به
فاعل
27
28
70
71
95
173
الأعراف
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّة
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا
وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم
وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
72
46
22
مفعول أوّل
اسم كان
مجرور باللام
23
24
114
التوبة
لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ...
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاعَنْ مَوْعِدَة
73
مفعول أوّل
78
يونس
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
50
51
52
فاعل
فاعل
فاعل
62
87
109
هود
أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ
110،23
39
18
7
30
11
9
12
مجرور باللام، منادى
مجرور بعلى
مجرور بإلى
اسم إنّ
مضاف إليه
منادى
مفعول به
منادى(13/436)
4
6
8
8
9
11
16
17
يوسف
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْت ...
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا
إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِاطْرَحُوهُ أَرْضاًيَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ
108
61
17
10
13،19
14
4
68
8
105
15,20
109
5
16
37
38
111
مضاف إليه
معطوف على الفاعل
مجرور بمن
مفعول به
مجرور بإلى، منادى
منادى
فاعل
اسم إنّ
اسم إن
فاعل
مجرور بإلى، منادى
مضاف إليه
فاعل
منادى
مفعول به
مفعول به
منادى
38
40
59
61
63
65
68
78
80
80
81
93
94
97
99
100
100
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَآبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب
مَاتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاأَسْمَاءًسَمَّيْتُمُوهَاأَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ
فَلَمَّارَجَعُواإِلَىأَبِيهِمْ قَالُوايَاأَبَانَامُنِعَ مِنَّاالْكَيْل
قَالُوايَاأَبَانَامَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ...
إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً
فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي
ارْجِعُواإِلَىأَبِيكُمْ فَقُولُوايَاأَبَانَاإِنَّ ابْنَكَ سَرَق
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُف
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ(13/437)
وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْياي
94
مجرور بمن
23
الرعد
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِم
53
فاعل
10
إبراهيم
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
62
معطوف على الفاعل
35
النحل
لَوْشَاءَاللَّهُ مَاعَبَدْنَامِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍنَحْنُ وَلاآبَاؤُنَا
96
34
3
مجرور باللام
اسم كان
اسم كان
5
80
82
الكهف
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً
2
112،24
113
114
115
اسم كان
مجرور باللام، منادى
منادى
منادى
منادى
28
42
43
44
45
مريم
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْجَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَالَمْ يَأْتِك
يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَان
يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَن
85
25
74
56
معطوف على المفعول
مجرور باللام
مفعول أوّل
معطوف على اسم كان
44
52
53
54
الأنبياء
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُم
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
قَالَ لَقَدْكُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
31
مضاف إليه
78
الحج
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم
88
83
65
مجرور بفي
مفعول به
معطوف علىنائب الفاعل
24
68
83
المؤمنون
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ
104,103
99
معطوف علىمجرورباللام
مضاف إليه
31
61
النور
وَلايُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ(13/438)
وَلاعَلَىأَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوامِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْبُيُوتِ آبَائِكُمْ
86
معطوف على المفعول
18
الفرقان
وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ
الشعراء
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ
وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ
26
70
74
76
86
مضاف إليه
مجرور باللام
مفعول أوّل
معطوف على الفاعل
مجرور باللام
100
26
75
63
107
النمل
أَئذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئنَّا لَمُخْرَجُونَ
قَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ
67
68
معطوف على اسم كان
معطوف علىنائب الفاعل
57
66
القصص
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ
وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
23
25
26
36
مبتدأ
اسم إنّ
منادى
مجرور بفي
1
106
116
89
لقمان
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
21
مفعول أوّل
76
الأحزاب
ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُواآبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ
5
5
40
55
مجرور باللام
مفعول به
خبر كان
مجرور بفي
97
84
6
90
سبأ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ
43
فاعل
54
يس
لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
6
نائب فاعل
55
الصافات
أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ(13/439)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ
17
69
85
102
126
مبتدأ
مفعول أوّل
مجرور باللام
منادى
مضاف إليه
42
77
27
117
101
غافر
وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
8
مجرور بمن
95
الزخرف
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
قَالَ أَوَلَوْجِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّاوَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ
وَإِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌمِمَّاتَعْبُدُونَ
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُم
22
23
24
26
29
مفعول أول
مفعول أوّل
مفعول أوّل
مجرور باللام
معطوف على المفعول
78
79
80
28
87
الدخان
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
8
36
مضاف إليه
مجرور بالباء
102
91
الجاثية
ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
25
مجرور بالباء
92
النجم
إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌسَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم
23
معطوف على الفاعل
64
الواقعة
أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ
48
مبتدأ
43
المجادلة
وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ
22
خبر كان
67
الممتحنة
إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك
4
مجرور باللام
29
عبس
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
35
معطوف علىمجرور بمن
33
المسد
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
1
مضاف إليه
32
القراءات في (أب)
القراءة
رقم الآية
الموقع الإعرابي لأب في القراءة
رقم الموضع في البحث
البقرة
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ أبيك
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ إِبْرَاهِيمَ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاؤكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ أبَاكُمْ
133
133
200
200
مضاف إليه
(القراءة بإسقاط آبائك)
فاعل
مفعول به
بعد 40و 98
98
81
81(13/440)
يوسف
يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَعَشَرَ كَوْكَباً
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَايي
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ أبايَ
4
38
38
منادى
مضاف إليه
مضاف إليه
بعد117
108
108
مريم
مَا كَانَ أَباكِ امْرُؤُ سَوْءٍ
28
خبر كان
2
المسد
تَبَّتْ يَدَا أَبُو لَهَبٍ وَتَبَّ
1
مضاف إليه على الحكاية
32
الحواشي والتعليقات
لسان العرب [أبى 18/7] .
الممتع في التصريف1/404.
سر صناعة الإعراب1/93.
ينظر كتاب سبيويه 3/359.
ينظر شرح ابن عقيل 1/53.
ينظر شرح ابن عقيل 1/54.
ينظر لسان العرب [أبى 18/6] .
ينظر شرح ابن عقيل 1/53.
ينظر شرح ابن عقيل 1/53.
ينظر أوضح المسالك 1/39.
ينظر أوضح المسالك 1/41، وذكر ابن مالك أن بعض النحويين يرى أن المضاف إلى ياء المتكلم مبني، ورد عليهم، واختار إعرابه تقديراً في الرفع والنصب، وإعرابه ظاهراً في الجر. ينظر شرح التسهيل لابن مالك 3/279.
ينسب إلى أبي النجم العجلي، ديوانه ص 277، وإلى رؤبة ابن العجّاج، ملحق ديوانه ص 168 وهو من شواهد الإنصاف 1/18، وشرح ابن يعيش 3/129، والمقرب 2/47.
لرؤبة بن العجاج، ملحق ديوانه ص 182، وهو من شواهد شرح ابن عقيل 1/50، والتصريح 1/64، وهمع الهوامع 1/128.
تنظر اللغات الثلاث الأول في الإنصاف 1/1718، وشرح المفصّل لابن يعيش 1/5153، واللغة الرابعة في شرح التسهيل لابن مالك 1/45، وهمع الهوامع للسيوطي 1/128.
ينظر الإنصاف 1/17.
ينظر التبيين ص 193.
ينظر همع الهوامع 1/123 126.
ينظر المقتضب للمبرد 2/155، وشرح المفصّل لابن يعيش 1/52، وائتلاف النصرة للزّبيدي ص 28.
شرح التسهيل 1/43.
ينظر مختصر ابن خالويه ص 85 ,وفيه:عمرو بن لجأ , والصواب:عمر , وهو المذكور في الكشاف 3/15 , وفي البحر المحيط 7/257, وقد كتبت الآية قي البحر على قراءة الجمهور.
ينظر مختصر ابن خالويه ص182 ,والكشاف 4/814.(13/441)
إذا تكررت المعطوفات تكون تابعة للمعطوف عليه الأول، ينظر حاشية ياسين العليمي على التصريح 2/152، وحاشية الصبّان على شرح الأشموني 3/119.
ينظر البحر المحيط 6/240.
ينظر مختصر ابن خالويه ص 9.
ينظر المحتسب 1/112.
لزيادبن واصل السلمي, وهوفي كتاب سيبويه 3/406,والمقتضب2/174,والمحتسب1/112.
لأبي طالب ابن عبد المطلب, وهو في ديوانه (غاية المطلب) ص159 وفيه:من بعد همٍّ ... بفرقة حر، والمحتسب1/112,وخزانة الأدب 4/475.
لم ينسب , وهو في المحتسب 1/112 , ولسان العرب [أبى] 18/7 وخزانة الأدب 4/475.
للشَّنباء بنت زيد بن عُمارة ,وهو في لسان العرب [أبى] 18 /6.
للفرزدق , وهوفي لسان العرب [أبى] 18/6.
لناهض الكلابي ,وهوفي لسان العرب [أبى] 18/6.
لغيلان بن سلمة الثقفي ,وهو في التكملة ص 148 ,وأمالي ابن الشجري 2/37 ,290.
لم ينسب , وهوفي لسان العرب [أبى] 18/7.
كتاب سيبويه 3/405.
المحتسب 1/113.
المحتسب 1/112.
ينظر إعراب القرآن 1/265.
ينظر شرح الكافية الشافية 2/1009.
ينظر التبيان 1/119.
ينظر معاني القرآن 1/82.
ينظر معاني القرآن وإعرابه 1/212.
البحر المحيط 1/641.
ينظر الكشاف 1/193.
ينظر التبيان 1/119 , وإعراب القراءت الشواذ 1/ 208 209.
ينظر البحر المحيط 9/96.
ينظر تفسير أبي السعود 4/530.
الكشاف 4/38.
البحر المحيط 9/ 95 , وينظر كتاب سيبويه 2 /144.
ذُكر الأول والثالث في التيسير ص 186 , وذُكر الثلاثة في النشر 2/357 ,وإتحاف قضلاء البشر 2 /410.
كتاب سيبويه 1/278.
ينظر إعراب القرآن 4/335.
ينظر الكشاف 4/463.
ينظر تفسير أبي السعود 5/362 363.
ينظر كتاب سيبويه 1/73 , والمقتضب 3 /112.
ينظر الإنصاف 1/ 83 , والتبيين ص 252.
ينظر شرح الكافية الشافية لابن مالك 3/1244 , والمساعد لابن عقيل 2/469.
التبيان للعكبري 1/465.
البحر المحيط لأبي حيان 2/103.
59 التبيان للعكبري 1/465.(13/442)
ينظر أوضح المسالك لابن هشام2/31.
القراءة الأولى في مختصر ابن خالويه ص12 , وقد نسبها إلى القرطبي , وهوخطأ مطبعي صوابه: القرظي.
البحر المحيط لأبي حيان 2/307.
ينظر التبصرة والتذكرة للصيمري 1/116.
الجدول في إعراب القرآن لمحمود صافي 9/169.
البحر المحيط لأبي حيان 8/305.
ينظر الجدول لإعراب القرآن لمحمود صافي 11/185.
البحر المحيط لأبي حيان 1/641.
سبق في هامش (11) ذكرماذهب ابن مالك في شرح التسهيل3/279إليه من أنّ الإعراب ظاهر في حال الجر، قال أبو حيّان في ارتشاف الضرب2/536: (ولا أعرف له سلفاًفي هذا المذهب) .
ينظر إتحاف فضلاء البشر 2/147.
ينظر مختصر ابن خالويه ص 63.
ينظر كتاب سيبويه 2/209, وأوضح المسالك لابن هشام 4/38، وشرح قطر الندى لابن هشام ص 206،والتصريح على التوضيح لخالد الأزهري 2 / 178.
ينظر مشكل إعراب القرآن لمكي 1/377.
ينظر السبعة في القراءات لابن مجاهد ص 344.
ينظر الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص 192.
ينظر شرح الكافية الشافية لابن مالك 3/1327.
ينظر التبيان للعكبري 2/721.
ينظر إعراب القراءات الشواذ للعكبري 1/681.
المصادر والمراجع
1 القرآن الكريم مصحف المدينة النبوية، طبع في مجمع الملك فهد بالمدينة المنوّرة.
2 ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة لعبد اللطيف بن أبي بكرالزّبيدي (802هـ) تحقيق: د. طارق الجنابي، عالم الكتب، ومكتبةالنهضةالعربية، ط1 1407هـ.
3 إتحاف فضلاءالبشر (بقراءات القراء) الأربعةعشرللشيخ أحمد بن محمد البنّا (1117 هـ) ، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، عالم الكتب، ط1 1407هـ.
4 ارتشاف الضّرَب من لسان العرب لأبي حيّان الأندلسي (745هـ) ، تحقيق: د. مصطفى أحمد النماس، ط1 1404هـ.
5 إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (338هـ) ، تحقيق: د. زهير غازي زاهد، عالم الكتب، بيروت، ط3 1409هـ.(13/443)
6 إعراب القراءات الشواذّ لأبي البقاء العكبري (616هـ) ، تحقيق: محمد السيّد أحمد عزّوز، عالم الكتب، بيروت، ط1 1417هـ.
7 الإنصاف في مسائل الخلاف-لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (577هـ) ، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية بمصر 1380هـ.
8 أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لجمال الدين ابن هشام (761هـ) تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5 1399هـ.
9 البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي (745هـ) ، بعناية الشيخ: عرفان العشا حسّونه، دار الفكر، بيروت 1413هـ.
10 التبصرة والتذكرة لعبد الله بن علي الصيمري (400هـ) ، تحقيق: د. فتحي أحمد علي الدين، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة 1402هـ.
11 التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري (616هـ) ، تحقيق: علي محمد البجاوي دار الجيل، بيروت، ط2 1407هـ.
12 التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين-لأبي البقاء العكبري (616هـ) ، تحقيق: د. عبد الرحمن العثيمين، دار الغرب الإسلامي بيروت 1406هـ.
13 التصريح علىالتوضيح-لخالدبن عبد الله الأزهري (905هـ) ،دارالفكر، بيروت، دون تاريخ.
14 تفسير أبي السعود لأبي السعود العمادي (982هـ) ، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، مكتبة الرياض الحديثة، مطبعة السعادة، دون تاريخ.
15 التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني (444هـ) ، تصحيح: أوتو برتزل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2 1404هـ.
16 الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه لمحمود صافي (1985م) دار الرشيد بدمشق ط1 1411هـ.
17 حاشية الصبان على شرح الأشموني لمحمد بن علي الصبان (1206هـ) ، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، دون تاريخ.
18 حاشية ياسين العُليمي على التصريح-لياسين بن زين الدين العليمي (1016هـ) ، دار الفكر، بيروت، دون تاريخ.(13/444)
19 الحجة في القراءات السبع – لابن خالويه (370هـ) ، تحقيق:د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة،بيروت،ط 6، 1417هـ.
20 ديوان رؤبة بن العجاج، تحقيق: وليم بن الورد، طبع في ليبسك 1903م.
ديوان أبي طالب = غاية المطالب.
21 ديوان أبي النجم العجلي، صنعه وشرحه: علاء الدين آغا، النادي الأدبي بالرياض 1401هـ.
22 السبعة في القراءات لأحمد بن موسى بن مجاهد (324هـ) ، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط3، دون تاريخ.
23 شرح التسهيل لابن مالك (672هـ) ، تحقيق: د. عبد الرحمن السيّد ود. محمد بدوي المختون، دار هجر، القاهرة، ط1 1410هـ.
24 شرح قطر الندى وبلّ الصدى لابن هشام الأنصاري (761هـ) ، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط11 1383هـ.
25 شرح الكافية الشافية لابن مالك (672هـ) ، تحقيق: د. عبد المنعم أحمد هريدي، مركز البحث العلمي بمكة، دار المأمون للتراث، دمشق 1402هـ.
26 شرح المفصّل لابن يعيش (643هـ) ، عالم الكتب، بيروت، دون تاريخ.
27 غاية المطالب في شرح ديوان أبي طالب لمحمد خليل الخطيب،مطبعة الشعراوي، طنطا، مصر 1370 1371هـ.
28 كتاب سيبويه لعمرو بن عثمان سيبويه (180هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون عالم الكتب، بيروت، ط3 1403هـ.
29 الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لجارالله الزمخشري (538هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت 1366هـ.
30 لسان العرب-لمحمدبن مكرّم بن منظور (711هـ) ،مطبعةبولاق، القاهرة 1308هـ.
31 المحتسب في تبيين وجوه شواذالقراءات والإيضاح عنها-لابن جني (392هـ) ،تحقيق: علي النجدي ناصف وآخرين، المجلس الأعلىللشؤون الإسلامية-القاهرة 1386هـ.
32 مختصر ابن خالويه (مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع) لابن خالويه (ت 370هـ) ، عني بنشره: ج. برا جستراسر، المطبعة الرحمانية بمصر 1934م.(13/445)
33 مشكل إعراب القرآن لمكي القيسي (437هـ) ، تحقيق: د. حاتم الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4 1408هـ.
34 معاني القرآن ليحيى بن زياد الفرّاء (207هـ) ، تحقيق: محمد علي النجار وآخرين، عالم الكتب، بيروت، ط3 1403هـ.
35 معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج (311هـ) ، تحقيق: د. عبد الجليل عبده شلبي، دار الحديث، القاهرة، ط1 1414هـ.
36 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، استانبول 1982م.
37 المقتضب لأبي العباس المبرّد (285هـ) ، تحقيق: د. محمد عبد الخالق عُضيمة، عالم الكتب، بيروت، إعادة لطبعة القاهرة 1399هـ.
38 النحو الوافي لعباس حسن، دار المعارف، القاهرة ط7 1981م.
39 النشر في القراءات العشر لابن الجزري (833هـ) ، أشرف على تصحيحه: علي محمد الضبّاع، دار الكتب العلمية، بيروت، دون تاريخ.
40 همع الهوامع لجلال الدين السيوطي (911هـ) ، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت 1394هـ.(13/446)
مسائل بلاغية ونقدية في شرح
السهيلي لسيرة ابن هشام
د. محمد رفعت أحمد زنجير
الأستاذ المساعد - جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا
كلية التربية والعلوم الأساسية/أبو ظبي
ملخص البحث
إن دراسة السيرة النبوية لأسباب بلاغية وأدبية أمر لا نكاد نجد له أثرا كبيرا في دراسات السابقين، وهذا الحكم لا يكاد يستثنى منه أحد، إلا أن يكون الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحسن الخثعمي، السهيلي، صاحب كتاب: (الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام) ، فإن كتابه قد احتوى نكاتا بلاغية، وقضايا أدبية، ونقدية، وهي جديرة بالتدوين، لأن السهيلي من علماء الأندلس، والمغاربة عموما لهم منهجهم ومذاقهم الأدبي والبلاغي الذي يختلف عن المشارقة إلى حد ما، وفي الكتاب مادة لغوية وأدبية وبلاغية لا يستهان بها، كما أن السهيلي صاحب حاسة فنية رفيعة، وهو يميل إلى تذوق النصوص وتحليلها خلال شرحه.
ولذلك قمت بجمع تلك المادة العلمية المتعلقة بالبلاغة والنقد لدراستها في هذا البحث، وجعلته مكونا من تمهيد وخمسة مباحث وخاتمة.
استعرضت في التمهيد حياة السهيلي ومنهجه في كتابه الروض الأنف، وعرضت في المباحث الثلاثة الأولى للمسائل المتعلقة بعلم المعاني والبيان والبديع، ثم تناولت في المبحث الرابع طرفا من حديثه عن البلاغة القرآنية وإعجاز القرآن، والبيان النبوي، وخصصت المبحث الخامس لذكر بعض القضايا النقدية التي عرض لها السهيلي، وخلصت في الخاتمة إلى أن السهيلي بذل جهدا في الجانب البلاغي في شرحه لسيرة ابن هشام، ولكنه ابتعد إلى حد كبير عن المصطلحات البلاغية المتشعبة، وهو يمتلك حس الناقد ومقوماته، وله اعتداد بشخصيته العلمية، وفي شرحه للسيرة ذخر علمي وأدبي وبلاغي، لذلك أرى أنه بحاجة إلى التحقيق العلمي وإخراجه من جديد.
* * *
مقدمة:(13/447)
تعتبر دراسة السيرة النبوية أمرا غاية في الأهمية، لأسباب دينية وتاريخية وإنسانية واجتماعية ونحو ذلك، بيد أن دراستها لأسباب بلاغية وأدبية أمر لا نكاد نجد له أثرا كبيرا في دراسات السابقين، وذلك يعود إلى أن السنة النبوية مدونة بكتب منهجية متخصصة، وقد اعتنى العلماء بشرح تلك الكتب، وتطرقوا في ثنايا شروحهم لأمور أدبية وبلاغية، وأما دراسة السيرة ذاتها، وما تحتويه من مسائل ونكات بلاغية فهو أمر عزف عنه معظم الأوائل الذين انصبت جل جهودهم على جمع السيرة وتدوينها وتهذيبها، لا غير.
وهذا الحكم لا يكاد يستثنى منه أحد، إلا أن يكون الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحسن الخثعمي، السهيلي، صاحب كتاب: (الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام) ، فإن كتابه قد احتوى على نكات بلاغية، وقضايا أدبية، ونقدية، وهي جديرة بالتدوين والاهتمام للأسباب التالية:
السبب الأول: أن السهيلي من علماء الأندلس، والمغاربة عموما لهم منهجهم ومذاقهم الأدبي والبلاغي الذي يختلف عن المشارقة إلى حد ما.
السبب الثاني: أن في الكتاب مادة لغوية وأدبية وبلاغية لا يستهان بها، وهي متنوعة وتشمل: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والشعر الجاهلي والإسلامي، والأمثال والقصص، واللغة والعروض والمآخذ على الشعراء وغير ذلك.
السبب الثالث: أن السهيلي صاحب حاسة فنية رفيعة، وهو يميل إلى تذوق النصوص وتحليلها خلال شرحه، وهذا ما نحتاجه للتحليل الأسلوبي والنقد الأدبي.(13/448)
ولذلك قمت بجمع تلك المادة العلمية المتعلقة بالبلاغة والنقد، ثم اخترت نماذج منها لدراستها في هذا البحث، وذلك لإبراز جهود السهيلي البلاغية والنقدية، فقد درج المؤرخون والباحثون على اعتباره ضمن علماء اللغة، علما بأن لمحاته البلاغية تجعله ضمن علماء البلاغة أيضا، ولعل هذه الدراسة تسهم في معرفة الخطوط العامة للتطور البلاغي بين المشرق والمغرب عبر تاريخنا العريق، ولعلنا نخلص من خلال تلك المعرفة إلى إدراك الصرح العلمي المعرفي لحضارتنا الإسلامية، وتكامل هذا الصرح عبر القرون الممتدة. ولنأخذ من هذا كله قبسا مضيئا لكي نستمر في مسيرة تطوير وبناء علومنا العربية والإسلامية في المستقبل المشرق بإذن الله.
وقد رأيت أن يكون هذا البحث مكونا من تمهيد وخمسة مباحث وخاتمة.
* * *
تمهيد:
سنتناول في هذا التمهيد حياة المؤلف، ومنهجه في كتابه.
أولا: حياة المؤلف
ليس بين أيدينا ترجمة مسهبة للسهيلي، حيث إن أغلب كتب التراجم قد ترجمت له بإيجاز، فهو أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد الخثعمي (1) السهيلي (2) ، حافظ، عالم باللغة والسير، ضرير، ولد في مالقة (3) سنة (581هـ) ، وعمي وعمره (17) سنة، ونبغ، فاتصل بصاحب مراكش، فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنف كتبه إلى أن توفي بها يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان سنة (581هـ) ، وهو صاحب الأبيات التي مطلعها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
من كتبه:
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام
تفسير سيرة يوسف
التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام
__________
(1) لهوامش والتعليقات
نسبة إلى خَثْعم بن أنمار، وهو أبو قبيلة من معد. انظر: القاموس المحيط، مادة (خثعم) .
(2) سبة إلى سهيل حصن بالأندلس وواد فيها أيضا، انظر: القاموس المحيط، مادة (سهل) .
(3) دينة كبيرة بالأندلس، انظر: القاموس المحيط، مادة (ملق) .(13/449)
الإيضاح والتبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين
نتائج الفكر
مسألة رؤية الله في المنام ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة السر في عور الدجال
وغيرها.
وقد أثنى عليه المؤرخون، قال عنه ابن خلكان: (وأشعاره كثيرة، وتصانيفه ممتعة) (1) .
ثانيا: المنهج العلمي للسهيلي
وضح السهيلي سبب تصنيفه كتاب: (الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام) ، ومنهجه فيه، فقال في خطبة كتابه: "وبعد: فإني قد انتحيت في هذا الإملاء بعد استخارة ذي الطول، والاستعانة بمن له القدرة والحول إلى إيضاح ما وقع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي سبق إلى تأليفها أبو بكر محمد بن إسحاق المطلبي، ولخصها عبد الملك بن هشام المعافري المصري النسابة النحوي، مما بلغني علمه، ويسر لي فهمه، من لفظ غريب، أو إعراب غامض، أو كلام مستغلق، أو نسب عويص، أو موضع فقه ينبغي التنبيه عليه، أو خبر ناقص يوجد السبيل إلى تتمته" (2) .
نلحظ من هذا المنهج عدم تنويهه بالبلاغة، بيد أنه خلال شرحه عول عليها كثيرا، واستدرك بواسطتها على النحاة بعض الأمور، مما يمكن اعتبار البلاغة إحدى مزايا شرحه، وإن لم يشر إليها صراحة في خطبة الكتاب.
المبحث الأول: مسائل علم المعاني
أولا: اختيار المفردات
__________
(1) نظر في ترجمته: وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق: الدكتور إحسان عباس، (3/371) . والبداية والنهاية لابن كثير، (12/318) . والأعلام للزركلي، (3/313) .
(2) لروض الأنف، (1/2-3) .(13/450)
اختيار المفردات الملائمة للمعاني التي يتطلبها السياق حول موضوع ما أمر في غاية الأهمية، وقد عبر عنه البلاغيون بفصاحة المفرد، وهي: "خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي" (1) ، ولكن ربما كانت الكلمة فصيحة، بيد أن هنالك ما يوائم المعنى أكثر منها، لذلك تقتضي البلاغة اختيار ما هو أكثر مواءمة، كما في إيثار صيغة: (لا تحزن (على (لا تخف) ، يقول السهيلي: "فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا ((التوبة: 40) ، ولم يقل لا تخف، لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه" (2)
ويوضح السهيلي الفارق الدقيق بين مفردتين لهما نفس المعنى، بيد أن إحداهما أكثر اختصاصا من الثانية، لذا يتطلب السياق استعمالها، كما هو بين كلمتي رسول ومرسل، يقول: "بين الرسول والمرسل معنى دقيق، ينتفع به في فهم قول الله عز وجل: (وأرسلناك للناس رسولا) (النساء: 79) فإنه لا يحسن في مثل هذا أن يقال: أرسلناك مرسلا، ولا نبأناك تنبيئا، كما لا يحسن: ضربناك مضروبا، ولكشف هذا المعنى وإيضاحه موضع غير هذا، واختصار القول فيه: أن ليس كل مرسل رسولا، فالرياح مرسلات، والحاصب مرسل، وكذلك كل عذاب أرسله الله، وإنما الرسول اسم المبلغ عن المرسِل" (3) .
ويشير إلى ضرورة التباعد بين الهمزتين في إذا جاءتا في كلمة واحدة لما في ذلك من التنافر، وذلك بتقديم حرف ما عن موقعه، كما جاء في قول زيد بن عمرو: (4)
وقولا له آأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
__________
(1) لإيضاح في علوم البلاغة، للقزويني، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص (72) .
(2) لروض الأنف، (2/232) .
(3) لروض الأنف، (1/122) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/259) .(13/451)
قال السهيلي: "وقوله: اطمأنت كما هيا، وزنه افلعلت، لأن الميم أصلها أن تكون بعد الألف، لأنه من تطامن أي: تطأطأ، وإنما قدموها لتباعد الهمزة التي هي عين الفعل من همزة الوصل، فتكون أخف عليهم في اللفظ، كما فعلوا في أشياء قلبوها في قول الخليل وسيبويه (1) فرارا من تقارب الهمزتين" (2) .
وعرض السهيلي إلى ذكر بعض مزايا البلاغة النبوية، من ذلك إشادته بدقة التعبير النبوي في الدعاء، وتخيره للفظ الحسن في مخاطبة الخالق عز وجل، فقال في تعقيبه على حديث الاستسقاء: "قوله عليه [الصلاة و] السلام: (اللهم حوالينا ولا علينا) (3) كقوله في حديث آخر: (اللهم منابت الشجر وبطون الأودية، وظهور الآكام) (4) ، فلم يقل: اللهم ارفعه عنا، هو من حسن الأدب في الدعاء، لأنها رحمة الله، ونعمته المطلوبة منه، فكيف يطلب منه رفع نعمته، وكشف رحمته؟ وإنما يسئل سبحانه كشف البلاء، والمزيد من النعماء، ففيه تعليم كيفية الاستسقاء، وقال: (اللهم منابت الشجر) ، ولم يقل: اصرفها إلى منابت الشجر، لأن الرب تعالى أعلم بوجه اللطف، وطريق المصلحة، كان ذلك بمطر أو بندى أو طل، أو كيف شاء، وكذلك بطون الأودية، والقدر الذي يحتاج من مائها" (5) .
ثانيا: الخبر والإنشاء
__________
(1) نظر: الكتاب لسبويه، تحقيق عبد السلام هارون، (3/551-552) .
(2) لروض الأنف، (1/260-261) .
(3) تفق عليه عن أنس، انظر: مشكاة المصابيح للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1656) .
(4) ذه رواية أخرى، وورد نحوها في الصحيحين، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1656) .
(5) لروض الأنف، (2/28) .(13/452)
أشار السهيلي للخبر في تفسير سورة المسد، فقال في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) (المسد: 1) : "فسرت أنه خبر من الله تعالى، وأن الكلام ليس على جهة الدعاء، كما قال تعالى: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) (التوبة: 30) أي إنهم أهل أن يقال لهم هذا، ف (تبت يدا أبي لهب) (المسد: 1) ، ليس من باب: (قاتلهم الله) ، ولكنه خبر محض بأن قد خسر أهله وماله، واليدان آلة الكسب، وأهله وماله مما كسب" (1) .
كما أشار السهيلي إلى تضمن الخبر معنى الأمر، فقال: "وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير) (2) ... وهو خبر يتضمن معنى الأمر أو الإغراء بالشيء، أو تركه" (3) ، ومعلوم أن الأمر هو من أقسام الإنشاء الطلبي.
وقد عرض السهيلي إلى موضوعات تتصل بالإنشاء منها:
1- الاستفهام
أشار السهيلي إلى الاستفهام الإنكاري الذي يفيد العموم في قوله تعالى: (كيف نكلم من كان في المهد صبيا)
(مريم:29) ، فقال: "اضطربوا في إعرابها، وتقديرها، لما كانت من بمعنى الذي، وجاء بكان على لفظ الماضي، وفهمها الزجاج فأشار إلى أن من فيها طرف من معنى الشرط، ولذلك جاءت كان بلفظ المضي بعده، فصار معنى الكلام: من يكن صبيا فكيف يكلم؟ لما أشارت إلى الصبي أن كلموه، ولو قالوا: كيف نكلم من هو في المهد الآن، لكان الإنكار والتعجب مخصوصا به، فلما قالوا كيف نكلم من كان صار الكلام أبلغ في الاحتجاج للعموم الداخل فيه" (4)
2- النداء
__________
(1) لروض الأنف، (2/109) .
(2) تفق عليه عن أنس، ولفظه: (رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير) انظر: مشكاة المصابيح، (3/4806) .
(3) لروض الأنف، (3/46) .
(4) لروض الأنف، (2/117-118) .(13/453)
تعرض السهيلي للنداء، مبينا السر في التعبير بلفظ (يا بني إسرائيل) في بعض المواضع من القرآن، وما في هذا التعبير من قيمة تربوية راشدة، تبعث على الإيمان، وتدعو إلى الهدى، وتركه في مواضع أخرى، حيث يقتضي الحال استعمال صيغة أخرى تظهر كرم المنعم وفضله، موضحا السبب في إيثار صيغة ما في موضع، وتركها في آخر، من بلاغة قرآنية تدل على إعجاز الكتاب الحكيم، فقال: " (بنو إسرائيل) : إسرائيل هم بنو يعقوب، وكان يسمى إسرائيل: أي سري الله، لكن لم يذكروا في القراءة إلا إذا أضيفوا إلى إسرائيل، ولم يسموا فيه: بنو يعقوب، ومتى ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب لم يسم إسرائيل، وذلك لحكمة فرقانية، وهو أن القوم لما خوطبوا بعبادة الله، وذكروا بدين أسلافهم موعظة لهم، وتنبيها من غفلتهم، سموا بالاسم الذي فيه تذكرة بالله، فإن إسرائيل اسم مضاف إلى الله تعالى في التأويل، ألا ترى كيف نبه على هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا إلى الإسلام قوما يقال لهم بنو عبد الله، فقال لهم: (يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم) (1) ، يحرضهم بذلك على ما يقتضيه اسمهم من العبودية لله، فكذلك قوله يا بني إسرائيل، إنما ورد في معرض التذكرة لهم بدين أبيهم، وعبوديته لله، فكان ذكرهم بهذا الاسم أليق بمقام التذكرة والتحريض من أن يقول لهم: يا بني يعقوب، ولما ذكر موهبته لإبراهيم وتبشيره بإسحاق، ثم يعقوب، كان لفظ يعقوب أولى بذلك المقام، لأنها موهبة بعقب أخرى، وبشرى عقب بها بشرى، وإن كان اسم يعقوب عبرانيا، ولكن لفظه موافق للعربي في العقب والتعقيب، فانظر مشاكلة الاسمين للمقامين، فإنه من باب النظر في إعجاز القرآن، وبلاغة ألفاظه، وتنزيل الكلام في منازله اللائقة به" (2)
ثالثا: وضع المثنى مكان المفرد
__________
(1) م أجده.
(2) لروض الأنف، (2/294) .(13/454)
من الجائز في النحو العربي وضع الجمع مكان المثنى أو المفرد (1) ، بيد أن السهيلي وجماعة من العلماء جوزوا وضع المثنى مكان المفرد أيضا، وبين السهيلي السر البلاغي في هذا التعبير، فقال: "وقال الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما
وإنما هو مربد البصرة، وقولهم: تسألني برامتين سلجما
وإنما هو رامة، وهذا كثير، وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة وبستان، فتسميها جنتين في فصيح الكلام، إشعارا بأن لها وجهين، وأنك إذا دخلتها، ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قرة، وصدرك مسرة، وفي التنزيل: (لقد كان لسبأ في مكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ((سبأ: 15) إلى قوله سبحانه: (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ((سبأ: 16) ، وفيه: (جعلنا لأحدهما جنتين ((الكهف: 32) الآية، وفي آخرها: (ودخل جنته ((الكهف: 35) فأفرد بعدما ثنى، وهي هي (2) ، وقد حمل بعض العلماء على هذا المعنى قوله سبحانه: (ولمن خاف مقام ربه جنتان ((الرحمن: 46) والقول في هذه الآية يتسع، والله المستعان" (3) .
رابعا: وصف الجمع بالمفرد:
__________
(1) نظر: شرح المفصل، لابن يعيش، (4/155) ، عالم الكتب، بيروت.
(2) ي تفسير الكشاف للزمخشري (2/721) : (فإن قلت لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه دخل ما هو جنته ماله جنة غيرها، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما) .
(3) لروض الأنف، (1/219) .(13/455)
من الجائز نحويا وصف الجمع بالمفرد في بعض الكلمات مثل: الرفيق والصديق والخليط التي يستوي فيها المفرد والجمع، (1) ، بيد أن هذا الأسلوب يأتي أحيانا لغرض بلاغي لا يتأتى حصوله بغيره، يقول السهيلي: "وقول عروة بن مسعود لقريش: (قد عرفتم أنكم والد) ، أي كل واحد منكم كالوالد، وقيل معناه: أنتم حي قد ولدني، لأنه كان لسبيعة بنت عبد شمس، وقد يجوز أن يقال في الجماعة: هم لي صديق وعدو، وفي التنزيل: (وحسن أولئك رفيقا ((النساء:69) ، فيفرد لأنه صفة لفريق وحزب، ويقبح أن تقول: قومك ضاحك أو باك، وإنما يحسن هذا إذا وصفت بصديق ورفيق وعدو، لأنها صفة تصلح للفريق والحزب، لأن العداوة والصداقة صفتان متضادتان، فإذا كان على أحدهما الفريق الواحد، كان الآخر على ضدها، وكانت قلوب أحد الفريقين في تلك الصفة على قلب رجل واحد في عرف العادة، فحسن الإفراد، وليس يلزم مثل هذا في القيام والقعود ونحوه، حتى يقال: هم قاعد أو قائم، كما يقال: هم صديق، لما قدمناه من الاتفاق والاختلاف" (2) .
__________
(1) نظر: تفسير الكشاف للزمخشري، (1/531) . وأدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ص (502-504) ، دار المطبوعات العربية، بيروت.
(2) لروض الأنف، (4/34) .(13/456)
ويستطرد السهيلي إلى ذكر بعض الآيات القرآنية التي جاء فيها وصف الجمع بالمفرد في موضع، واستعمال صيغة الجمع في موضع آخر، مبينا السر في هذا الأسلوب، فيقول: "وأما قوله تعالى: (يخرجكم طفلا ((غافر: 67) بلفظ الإفراد، وقال في موضع آخر: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ((النور:59) فالأحسن في حكم البلاغة أن يعبر عن الأطفال الرضع بالطفل في الواحد والجميع، لأنهم مع حدثان الولادة كالجنس الذي يقع على القليل والكثير بلفظ واحد (1) ، ألا ترى أن بدء الخلق من طين، ثم مني، والمني جنس لا يتميز بعضه من بعض، فلذلك لا يجمع، وكذلك الطين، ثم يكون الخلق علقا، وهو الدم، فيكون ذلك جنسا، ثم يخرجهم الله طفلا، أي جنسا تاليا للعلق، والمني لا يكاد يتميز بعضهم من بعض إلا عند آبائهم، فإذا كبروا وخالطوا الناس، وعرف الناس صورهم وبعضهم من بعض، فصاروا كالرجال والفتيان قيل فيهم حينئذ: أطفال، كما يقال: رجال وفتيان، ولا يعترض على هذا الأصل بالأجنة، أنهم مغيبون في البطون، فلم يكونوا كالجنس الظاهر للعيون، كالماء والطين والعلق، وإنما جمع جنين على أجنة، وحسن ذلك فيه، لأنه تبع للبطن الذي هو فيه". (2)
__________
(1) ي تفسير الكشاف للزمخشري، (3/177) : (طفلا: والمعنى كل واحد منكم، أو اقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس) .
(2) لروض الأنف، (4/34-35) .(13/457)
ولا ينسى السهيلي في تحليله للآيات القرآنية، بأن يستشهد بكلام العرب الأقحاح، الذين هم معدن البلاغة، وموئل الفصاحة، لكي يؤكد صحة ما ذهب إليه من تحليل لوصف الجمع بالمفرد في إحدى الآيات القرآنية، وعزوف البلاغة القرآنية عن ذلك في موضع آخر، فيقول: "ويقوى هذا الغرض الذي صمدنا إليه في الطفل قول رجل من بني مجاعة لعمر بن عبد العزيز، وقد سأله: هل بقي من كهول بني مجاعة أحد؟ قال نعم، وشكير كثير (1) ، فانظر كيف قال: الكهول وجمع، وقال في الصغار: شكير كما تقول حشيش، ونبات، فتفرد لأنه جنس واحد، والطفل في معنى الشكير ماداموا رضعا، حتى يتميزوا بالأسماء والصور عند الناس، فهذا حكم البلاغة، ومساق الفصاحة فافهمه" (2) .
خامسا: التناوب بين الأدوات
أشار السهيلي إلى أن أساليب التعبير العربية تقتضي التناوب بالأدوات أحيانا، شريطة وجود قرينة تدل على ذلك، فقال في تفسير سورة الكافرون: "فإن قيل: كيف قال (ولا أنتم عابدون ما أعبد ((الكافرون: 3، 5) ولم يقل من أعبد؟، وقد قال أهل العربية إن ما تقع على ما لا يعقل، فكيف عبر بها عن الباري تعالى؟ فالجواب أنا قد ذكرنا فيما قبل أن ما قد تقع على من يعقل بقرينة، فهذا أوان ذكرها، وتلك القرينة الإبهام والمبالغة في التعظيم والتفخيم، وهي في معنى الإبهام لأن من جلت عظمته، حتى خرجت عن الحصر، وعجزت الأفهام عن كنه ذاته، وجب أن يقال فيه ما هو كقول العرب: سبحان ما سبح الرعد بحمده" (3) .
سادسا: وضع المضارع مكان الماضي
__________
(1) لشكير: صغار الإبل. انظر: القاموس المحيط، مادة شكر.
(2) لروض الأنف، (4/34) .
(3) لروض الأنف، (2/117) .(13/458)
تقتضي البلاغة أحيانا وضع صيغة المضارع مكان الماضي، وذلك إذا صحب المضارع من الأدوات ما يحوله إلى الماضي، ك: (ما) التي فيها معنى الشرط، يقول السهيلي في تفسير سورة الكافرون: "وبقيت نكتة بديعة يتعين التنبيه عليها، وهو قوله تعالى: (ولا أنا عابد ما عبدتم ((الكافرون: 4) بلفظ الماضي، (ولا أنتم عابدون ما أعبد) (الكافرون: 3، 5) بلفظ المضارع في الآيتين جميعا، إذا أخبر عن نفسه قال: ما أعبد، ولم يقل: ما عبدت، والنكتة في ذلك أن (ما) لما فيها من الإبهام، وإن كانت خبرية تعطي معنى الشرط، فكأنه قال: مهما عبدتم شيئا، فإني لا أعبده، والشرط يحول المستقبل إلى لفظ الماضي، تقول: إذا قام زيد غدا فعلت كذا، وإذا خرج زيد غدا خرجت" (1) .
سابعا: التقديم والتأخير
__________
(1) لروض الأنف، (2/117) .(13/459)
التقديم والتأخير أحد المباحث البلاغية المهمة، وقد عرض له السهيلي في مواضع متعددة، منها عند قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى ((آل عمران: 36) حيث بين أن الترتيب بحسب الأفضل في نظر الله للعبد، فقال: "فإن قيل: كان القياس في الكلام أن يقال: وليس الأنثى كالذكر، لأنها دونه، فما باله بدأ بالذكر؟ والجواب أن الأنثى إنما هي دون الذكر في نظر العبد لنفسه، لأنه يهوى ذكران البنين، وهم مع الأموال زينة الحياة الدنيا، وأقرب إلى فتنة العبد، ونظر الرب للعبد خير من نظره لنفسه، فليس الذكر كالأنثى على هذا، بل الأنثى أفضل في الموهبة (1) ، ألا تراه يقول سبحانه (يهب لمن يشاء إناثا ((الشورى: 49) فبدأ بذكرهن قبل الذكور (2) ، وفي الحديث: (ابدؤوا بالإناث) (3) ، يعني في الرحمة وإدخال السرور على البنين، وفي الحديث أيضا: (من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين) (4) فترتب الكلام في التنزيل على الأفضل في نظر الله للعبد، والله أعلم بما أراد" (5) .
__________
(1) نظر: تفسير الكشاف للزمخشري (1/356) .
(2) نظر رأي الزمخشري في هذا السياق في تفسير الكشاف، (4/232) .
(3) م أجده بهذا اللفظ، ولكن ورد أحاديث قريبة من معناه، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1389، 1393) الحديث رقم: (4979) ، و (5002) .
(4) واه مسلم ولفظه: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا) وضم أصابعه، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1384) .
(5) لروض الأنف، (3/13) .(13/460)
وأشار إلى التقديم والتأخير في قوله تعالى: (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ((آل عمران: 161) ، مبينا ما في ترتيب الكلام من إعجاز، فقال: "نكتة في قوله: (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ((آل عمران: 161) بدأ بالأبناء والنساء قبل الأنفس، والجواب أن أهل التفسير قالوا أنفسنا وأنفسكم، أي ليدع بعضنا بعضا، وهذا نحو قوله (فسلموا على أنفسكم ((النور: 61) في أحد القولين، أي يسلم بعضكم على بعض، فبدأ بذكر الأولاد الذين هم فلذ الأكباد، ثم بالنساء اللاتي جعل بيننا ويبنهم مودة ورحمة، ثم من وراءهم من دعاء بعضهم بعضا (1) ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه، وانتظم الكلام على الأسلوب المعتاد في إعجاز القرآن" (2) . وهذا الترتيب من الأدنى إلى الأعلى، والبلاغيون يطلقون عليه مصطلح الترقي (3) .
وأشار السهيلي إلى تقديم الفاعل، وهو مضاف إلى ضمير المفعول، وما في هذا التقديم من مأخذ عند علماء النحو بسبب خلل النظم في الجملة، وذلك في قول حسان يمدح مطعما: (4)
وبكى عظيم المشعرين كليهما ... على الناس معروفا له ما تكلما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
قال السهيلي: "وهذا عند النحويين من أقبح الضرورة (5) ، لأنه قدم الفاعل، وهو مضاف إلى ضمير المفعول، فصار في الضرورة مثل قوله: (6)
* جزى ربه عني عدي بن حاتم * " (7)
__________
(1) نظر: تفسير الكشاف للزمخشري، (1/369-370) .
(2) لروض الأنف، (3/14) .
(3) نظر: شروح التلخيص (عروس الأفراح) للسبكي، (4/473) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (2/125) .
(5) نظر: شرح ابن عقيل بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (1/496) . ولفظه: (ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا..)
(6) لبيت لأبي الأسود الدؤلي يهجو عدي بن حاتم الطائي، انظر: شرح ابن عقيل، (1/496-497) .
(7) لروض الأنف، (2/129) .(13/461)
ولكن السهيلي مع إقراره بالقاعدة النحوية، فهو لم يسلم للنحاة عيبهم على بيت حسان، لأن هذا من وضع الظاهر موضع المضمر في مقام التعظيم (1) ، يقول مستدركا على النحاة: "غير أنه في هذا البيت أشبه قليلا، لتقدم ذكر مطعم، فكأنه قال: أبقى مجد هذا المذكور المتقدم ذكره مطعما، ووضع الظاهر موضع المضمر، كما لو قلت: إن زيدا ضربت جاريته زيدا، أي ضربت جاريته إياه، ولا بأس بمثل هذا، ولا سيما إذا قصدت قصد التعظيم وتفخيم ذكر الممدوح، كما قال الشاعر:
وما لي أن أكون أعيب يحيى ... ... ويحيى طاهر الأثواب بر" (2)
ويلتمس السهيلي مسوغا آخر لصنيع حسان، مجوزا أن يكون مطعما منصوبا على البدل، للمفعول الثاني المحذوف للفعل أبقى، يقول: "ويجوز نصبه عندي على البدل من قوله: وبكى عظيم المشعرين، ويكون المفعول به من قوله: أبقى مجده محذوفا، فكأنه قال: أبقاه مجده أبدا، والمفعول لا قبح في حذفه، إذا دل عليه الكلام كما في هذا البيت" (3) .
وعرض السهيلي إلى تقديم المفعول على فعل الأمر، وما في هذا التقديم من فائدة، فقال في تفسير سورة المدثر: "وقوله بعد هذا (وربك فكبر ((المدثر: 3) أي ربك كبر لا غيره، لا يكبر عليك شيء من أمر الخلق، وفي تقديم المفعول على فعل الأمر إخلاص، ومثله قوله: (إياك نعبد) أي لا نعبد غيرك، ولم يقل نعبدك ونستعينك، وفي الحديث: إذا قال العبد: (إياك نعبد، وإياك نستعين ((الفاتحة: 5) ، يقول الله تعالى: (أخلص لي عبدي العبادة، واستعانني عليها، فهذه بيني وبين عبدي) (4) " (5) . والبلاغيون يعتبرون الصيغ السابقة في الآيات من باب القصر، ولم يشر السهيلي إلى اصطلاحهم وإن كان قد فسر الآيات بما يوافق مفهوم القصر.
ثامنا: قيود الجملة
__________
(1) نظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (155) .
(2) لروض الأنف، (2/130) .
(3) لمصدر السابق، (2/130) .
(4) لحديث في مسلم بلفظ آخر،: انظر: مشكاة المصابيح، (1/262) .
(5) لروض الأنف، (2/49) .(13/462)
عرض السهيلي إلى بعض القيود التي تعتري الجملة، مثل الاستثناء في قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ((الفتح: 27) ، قال مبينا فائدة هذا الاستثناء: "ويسأل عن قوله: (إن شاء الله آمنين ((الفتح: 27) ، ما فائدة هذا الاستثناء؟ وهو خبر واجب؟، وفي الجواب أقوال:
أحدها أنه راجع إلى قوله: (آمنين) ، لا إلى نفس الدخول، وهذا ضعيف لأن الوعد بالأمان قد اندرج في الوعد بالدخول.
الثاني أنه وعد على الجملة والاستثناء راجع التفصيل، إذ لا يدري كل إنسان منهم هل يعيش إلى ذلك أم لا، فرجع الشك إلى هذا المعنى، لا إلى الأمر الموعود به، وقد قيل إنما هو تعليم للعباد أن يقولوا مثل هذه الكلمة ويستعملونها في كل فعل مستقبل، أعني: إن شاء الله" (1) .
كما عرض السهيلي إلى بعض أحكام الحال، والتنكير الذي يعتريها بسبب التشبيه في بعض التراكيب، فقال تعقيبا على قول ابن لقيم العبسي يوم خيبر: (2)
فرت يهود يوم ذلك في الوغا ... ... تحت العجاج غمائم الأبصار
"وهو بيت مشكل غير أن في بعض النسخ وهي قليلة عن ابن هشام، أنه قال: فرت: فتحت، من قولك: فررت الدابة إذا فتحت فاها، وغمائم الأبصار هي مفعول فرت، وهي جفون أعينهم، هذا قول، وقد يصح أن يكون فرت من الفرار، وغمائم الأبصار من صفة العجاج، وهو الغبار، ونصبه على الحال من العجاج، وإن كان لفظه لفظ المعرفة عند من ليس بشاذ في النحو، ولا ماهر في العربية، وأما عند أهل التحقيق فهو نكرة، لأنه لم يرد الغمائم حقيقة، وإنما أراد مثل الغمائم، فهو مثل قول امرئ القيس:
* بمنجرد قيد الأوابد هيكل *
فقيد هنا نكرة، لأنه أراد مثل القيد، ولذلك نعت به منجردا، أو جعله في معنى مقيد، وكذلك قول عبدة بن الطيب:
*تحية من غادرته غرض الندى *
فنصب غرضا على الحال" (3) .
__________
(1) لروض الأنف، (4/38) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/45) .
(3) لروض الأنف، (4/61) .(13/463)
ويستطرد السهيلي إلى ذكر بعض النظائر لما سبق ذكره من أحكام الحال، فيعرض إلى بعض آيات من القرآن وأمثال العرب وكلامها، فيقول: "وأصح الأقوال في قوله سبحانه: (زهرة الحياة الدنيا ((طه: 131) أنه حال من المضمر المخفوض، لأنه أراد بالتشبيه بالزهرة من النبات، ومن هذا النحو قولهم: جاء القوم الجمَّاء الغَفير، انتصب الحال، وفيه الألف واللام، وهو من باب ما قدمناه من التشبيه، وذلك أن الجماء هي بيضة الحديد (1) تعرف بالجماء والصلعاء، فإذا جعل معها المغفر، فهي غفير، فإذا قلت جاءوا الجماء الغفير، فإنما أردت العموم والإحاطة بجميعهم، أي جاؤوا جيئة تشملهم وتستوعبهم، كما تحيط البيضة الغفير بالرأس، فلما قصدوا معنى التشبيه دخل الكلام الكثير كما تقدم، وكذلك قولهم: تفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا (2) ، أي مثل أيدي سبا، فحسنت فيه الحال لذلك، والذي قلناه في معنى الجفاء والغفير رواه أبو حاتم عن أبي عبيدة، وكان علامة بكلام العرب" (3) .
ويبين ما فات سيبويه هنا حين ذهب إلى شذوذ كلمة الجماء لأنها معرفة، فيقول: "ولم يقع سيبويه على هذا الغرض في معنى الجماء، فجعلها كلمة شاذة عن القياس، واعتقد فيها التعريف، وقرنها بباب وحده (4) ، وفي باب وحده أسرار قد أمليناها في غير هذا الكتاب، ومسألة وحده تختص بباب وحده" (5)
__________
(1) نظر: القاموس المحيط، مادة (غفر) .
(2) نظر: القاموس المحيط، مادة (سبأ) .
(3) لروض الأنف، (4/61-62) .
(4) نظر: الكتاب لسبويه، تحقيق عبد السلام هارون، (1/377-378) .
(5) لروض الأنف، (4/61) .(13/464)
ويستطرد السهيلي إلى تبيان كيفية تنكير الحال بسبب التشبيه، يقول: "وهذا الذي ذكرناه من التنكير بسبب التشبيه، إنما يكون إذا شبهت الأول باسم مضاف، وكان التشبيه بصفة متعدية إلى المضاف إليه، كقوله: قيد الأوابد، أي: مقيد الأوابد، ولو قلت مررت امرأة القمر على التشبيه لم يجز، لأن الصفة التي وقع بها التشبيه غير متعدية إلى القمر، فهذا شرط في هذه المسألة، ومما يحسن فيه التنكير وهو مضاف إلى معرفة: اتفاق اللفظين، كقوله: له صوت صوت الحمار وزئير زئير الأسد، فإن قلت: فما بال الجماء الغفير، جاز فيها الحال، وليست بمضافة؟ قلنا: لم تقل العرب: جاء القوم البيضة، فيكون مثل ما قدمنا من قولك: مررت بهذا القمر، وإنما قالوا الجماء الغفير بالصفة الجامعة بينها، وبين ما هي حال منه، وتلك الصفة: الجم، وهو الاستواء، والغفر، وهي التغطية، فمعنى الكلام: جاؤوا جيئة مستوية لهم، موعبة لجمعهم، فقوي معنى التشبيه بهذا الوصف، فدخل التنكير لذلك، وحسن النصب على الحال، وهي حال من المجيء" (1) .
وأشار السهيلي مرة أخرى إلى أحكام الحال، مكررا بعض ما سبق، وعارضا للخلاف بين الخليل وسيبويه في مسألة تنكير الحال ووصفها، ومؤيدا لمذهب الخليل في هذه القضية، فقال تعقيبا على قول عباس بن مرداس: (2)
فإن يهدوا إلى الإسلام يلقوا ... ... أنوف الناس ماسمر السمير
"أنوف الناس: انتصب على الحال، لأنه نكرة لم يعرف بالإضافة، لأنه لم يرد الأنوف بأعيانها، ولكن أشرافا، وهذا كقوله:
* بمنجرد قيد الأوابد *
__________
(1) لروض الأنف، (4/61) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/128) .(13/465)
لأنه جعله كالقيد، ومثل هذا ما ذكرناه من قبل في نصب: (غمائم الأبصار) وليس هذا من باب ما منعه سيبويه حين قال معترضا على الخليل: لو قلت مررت بقصير الطويل، تريد مثل الطويل لم يجز، والذي أراده الخليل هو ما ذكرناه في غير موضع من استعارة الكلمة على جهة التشبيه، نحو قيد الأوابد، وأنوف الناس، تريد أشرافهم، فمثال هذا يكون وصفا للنكرة، وحالا من المعرفة، وقد ألحق بهذا الباب: له صوت صوت الحمار، على الصفة، وضعفه سيبويه في الحال، قال: وهو في الصفة أقبح، وإنما ألحقه الخليل بما ينكر، وهو مضاف إلى معرفة من أجل تكرر اللفظ فيه، فحسن لذلك" (1) .
تاسعا: القصر بواسطة ضمير الفصل
أطلق السهيلي على القصر مصطلح الاختصاص، وهو مصطلح كان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد استخدمه قبله (2) ، وبين فائدته بالأسلوب منوها بما ذكره من قبله الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فقال عند قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر ((الكوثر: 3) : "ولم يقل إن شانئك أبتر، يتضمن اختصاصه بهذا الوصف، لأن هو في مثل هذا الموضع تعطي معنى الاختصاص، مثل أن يقول قائل: إن زيدا فاسق، فلا يكون مخصوصا بهذا الوصف دون غيره، فإذا قلت إن زيدا هو الفاسق، فمعناه هو الفاسق الذي زعمت، فدل على أن بالحضرة من يزعم غير ذلك، وهكذا قال الجرجاني (3) وغيره في تفسير هذه الآية أن هو تعطي الاختصاص" (4) .
عاشرا: الإيجاز
يكون الإيجاز في البلاغة على قسمين: إيجاز قصر، وهو ما ليس بحذف، ومعناه كثير يزيد على لفظه، وإيجاز بالحذف، ويكون المحذوف إما جزء من الجملة، أو جملة أو أكثر من جملة (5) .
__________
(1) لروض الأنف، (4/142-143) .
(2) نظر: كتاب دلائل الإعجاز، للجرجاني، بتحقيق محمود شاكر، ص (328) .
(3) نظر: كتاب دلائل الإعجاز، ص (178) .
(4) لروض الأنف، (2/145) .
(5) نظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (287، 291) .(13/466)
وقد عرض السهيلي لأضرب من الإيجاز، مبتدئا بحذف الحروف التي يورث حذفها سهولة في نطق الكلمة أو الجملة، وبين جواز حذف بعض الحروف، مثل لام الجر واللام الأخرى مع ألف الوصل في كلمة (لله) ، فقال عند ذكر قول رجل من حمير: (1)
* لاه من رأى مثل حسان قتيلا في سالف الأحقاب *: "وقوله: لاه من رأى مثل حسان: أراد لله، وحذف لام الجر واللام الأخرى مع ألف الوصل، وهذا حذف كثير، ولكنه جاز في هذا الاسم خاصة لكثرة دوره على الألسنة، مثل قول الفراء: (لهنك من برق علي كريم) أراد والله إنك. وقال بعضهم: أراد لأنك، وأبدل الهمزة هاء، وهذا بعيد، لأن اللام لا تجمع مع إن، إلا أن تؤخر اللام إلى الخبر، لأنهما حرفان مؤكدان، وليس انقلاب الهمزة هاء بمزيل العلة المانعة من اجتماعهما" (2) .
وعرض السهيلي إلى حذف لام القسم، فقال عند قول أبي الصلت بن ربيعة الثقفي، وتروى أيضا لأمية ابن أبي الصلت: (3)
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك عمري قد أسرعت قلقالا
قال السهيلي: (4) "وقوله عمري: أراد لعمري، وقد قال الطائي:
عمري لقد نصح الزمان وإنه ... ... لمن العجائب ناصح لا يشفق "
وبين السهيلي الحذف في كلمة أيش، وأصل هذه الكلمة، فقال: "تقول فلان أيش هو وابن أيش، ومعناه أي شيء؟! أي: شيء عظيم، فكأنه أراد من آل قحطان، ومن المهاجرين الذين يقال فيهم مثل هذا، كما تقول: هم وما هم؟ وزيد وما زيد؟ وأي شيء زيد، وأيش في معنى أي شيء، كما يقال ويْلُُمِّه، في معنى ويل أمه على الحذف لكثرة الاستعمال" (5) .
وأشار السهيلي إلى حذف المنادى مع بقاء حرف النداء، وذلك عند قول زيد بن عمرو: (6)
فقلت له يااذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
__________
(1) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/43) .
(2) لروض الأنف، (1/43) .
(3) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/85) .
(4) لروض الأنف، (1/85) .
(5) لمصدر السابق، (1/241) .
(6) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/259) .(13/467)
قال: "ألا يا اذهب على حذف المنادى، كأنه قال: ألا يا هذا اذهب، كما قرئ: (ألا يا اسجدوا ((النمل: 25) ، يريد: يا قوم اسجدوا (1) . وكما قال غيلان: (2)
* ألا يا اسلمي يا دار ميٍٍّ على البلى *" (3) .
وبين فائدة حذف المفعول به لما فيه من الإبهام، وذلك في قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر ((الحجر: 94) ، فقال: "والمعنى: اصدع بالذي تؤمر به، ولكنه لما عدي الفعل إلى الهاء حسن حذفها، وكان الحذف ههنا أحسن من ذكرها، لأن ما فيها من الإبهام أكثر مما تقتضيه الذي، وقولهم: (ما) مع الفعل بتأويل المصدر، راجع إلى معنى الذي إذا تأملته، وذلك أن (الذي) تصلح في كل موضع تصلح فيه (ما) ، التي يسمونها المصدرية، نحو قول الشاعر: (4)
عسى الأيام أن يرجع ... ن (يوما) كالذي كانوا
أي كما كانوا، فقول الله إذا: (فاصدع بما تؤمر) إما أن يكون معناه: بالذي تؤمر به من التبليغ ونحوه، وإما أن يكون معناه: اصدع بالأمر الذي تؤمره، كما تقول: عجبت من الضرب الذي تضربه، فتكون ما ههنا عبارة عن الأمر الذي هو أمر الله تعالى، ولا يكون للباء فيه دخول، ولا تقدير، وعلى الوجه الأول: تكون ما مع صلتها عبارة عما هو فعل للنبي صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنها مع صلتها عبارة عن الأمر الذي هو قول الله ووحيه، بدليل حذف الهاء الراجعة إلى: ما، وإن كانت بمعنى الذي في الوجهين جميعا، إلا أنك إذا أردت معنى الأمر، لم تحذف إلا الهاء وحدها، وإذا أردت معنى المأمور به، حذفت باء وهاء، فحذف واحد أيسر من حذفين، مع أن صدعه وبيانه إذا علقته بأمر الله ووحيه كان حقيقة، وإذا علقته بالفعل الذي أمر به كان مجازا، وإذا صرحت بلفظ الذي لم يكن حذفها بذلك الحسن" (5)
__________
(1) نظر: تفسير الكشاف للزمخشري، (3/361-362) .
(2) نظر: شرح ابن عقيل، (1/266) .
(3) لروض الأنف، (1/260) .
(4) لبيت ل: الفند الزماني، انظر:: شرح ابن عقيل (1/614) . وفيه (قوما) .
(5) لروض الأنف، (2/5-6) .(13/468)
ويستطرد السهيلي إلى ذكر آيات من القرآن حذف فيها المفعول به، مبينا فائدة الحذف لما فيه من الإبهام، ومنوها بإضافاته النحوية، فيقول: "وتأمله في القرآن تجده، كذلك نحو قوله تعالى: (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ((البقرة: 33) ، (ويعلم ما تسرون وما تعلنون ((التغابن: 4) ، (لما خلقت بيدي) (ص: 75) ، و (لا أعبد ما تعبدون ((الكافرون: 2) ، ولم يقل: خلقته، وحذف الهاء في ذلك كله، وقال في الذي: (الذين آتيناهم الكتاب ((البقرة: 121) ، (الذي جعلناه للناس سواء ((الحج: 25) وما أشبه ذلك، وإنما كان الحذف مع ما أحسن لما قدمناه من إبهامها، فالذي فيها من الإبهام قربها من (ما) التي هي شرط لفظا ومعنى، ألا ترى أن (ما) إذا كانت شرطا تقول فيها: ما تصنع أصنع مثله، ولا تقول ما تصنعه، لأن الفعل قد عمل فيها، فلما ضارعتها هذه التي هي موصولة، وهي بمعنى الذي، أجريت في حذف الهاء مجراها في أكثر الكلام، وهذه التفرقة في عود الضمير على (ما) ، وعلى (الذي) يشهد لها التنزيل، والقياس الذي ذكرناه من الإبهام، ومع هذا لم نر أحدا نبه على هذه التفرقة، ولا أشار إليها، وقارئ القرآن محتاج إلى هذه التفرقة" (1) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/6) .(13/469)
ويشير السهيلي إلى ما يفيده حذف ضمير المفعول من إيجاز، منبها في الوقت ذاته إلى أن الحذف يحسن مع بعض الأدوات دون بعضها الآخر، وفي حال تعدي الفعل إلى مفعولين يكون ذكر الضمير أفضل من حذفه لدفع التوهم من أن الفعل واقع على مفعول واحد، يقول: "وقد يحسن حذف الضمير العائد على الذي، لأنه أوجز، ولكنه ليس كحسنه مع من وما، ففي التنزيل: (والنور الذي أنزلنا ((التغابن: 8) فإن كان الفعل متعديا إلى اثنين، كان إبراز الضمير أحسن من حذفه، لئلا يتوهم أن الفعل واقع على المفعول الواحد، وأنه مقتصر عليه، كقوله تعالى: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء ((الحج: 25) (الذين آتيناهم الكتاب ((البقرة: 121) " (1) .
وأشار السهيلي إلى كثرة حذف جواب إذا في القرآن الكريم، فقال عند تفسير سورة النصر: "إنما قال: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ((النصر: 3) ، فهذا أمر لنبيه عليه [الصلاة و] السلام بالاستعداد للقاء ربه تعالى، والتوبة إليه، ومعناها الرجوع عما كان بسبيله مما أرسل به من إظهار الدين، إذ قد فرغ من ذلك، وتم مراده فيه، فصار جواب إذا من قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ((النصر: 1-2) محذوفا، وكثيرا ما يجيء في القرآن الجواب محذوفا، والتقدير: إذا جاء نصر الله والفتح، فقد انقضى الأمر، ودنا الأجل، وحان اللقاء، (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (" (2) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/6) .
(2) لروض الأنف، (4/202) .(13/470)
كما عرض السهيلي إلى باب حذف الجملة الواقعة بعد خلت وظننت، فقال: "وذكر في حديث عمر، وقوله للرجل: أكنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله! يا أمير المؤمنين لقد خلت فيَّ، واستقبلتني بأمر ما أراك استقبلت به أحدا منذ وليت، وذكر الحديث، وقوله: خلت فيَّ، هو من باب حذف الجملة الواقعة بعد خلت وظننت، كقولهم في المثل: (من يسمع يَخل) (1) ، ولا يجوز حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر، لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا حذفت الجملة كلها جاز، لأن حكمهما حكم المفعول، والمفعول قد يجوز حذفه، ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد، ففي قولهم من يسمع يخل، دليل يدل على المفعول، وهو يسمع، وفي قوله: خلت فيّ دليل أيضا، وهو قوله فيَّ، كأنه قال: خلت الشر في، أو نحو هذا" (2) .
وأشار إلى حذف الجملة في الكلام، فقال عند قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى، عبدا إذا صلى ((العلق: 9-10) ، مشيرا إلى ما في كل من: (أرأيت (، و (لنسفعا (من حذف: " قال محمد ابن يزيد: في الكلام حذف، تقديره (أرأيت الذي ينهى، عبدا إذا صلى) ، أمصيب هو أم مخطئ، وكذلك في قوله: (أرأيت إن كان على الهدى ((العلق: 11) كأنه قال: أليس من ينهاه بضال؟ وقوله: (لنسفعا بالناصية ((العلق: 15) أي لنأخذن بها إلى النار" (3) .
__________
(1) نظر: مجمع الأمثال للميداني، (2/300) .
(2) لروض الأنف، (1/243) .
(3) لروض الأنف، (2/51) .(13/471)
وأشار السهيلي أيضا إلى كثرة الحذف وفائدته في بعض صيغ التعبير التي تفيد التعجب، فقال: "ما رأيت عطرا كاليوم: معناه عند سيبويه ما رأيت كعطر أراه اليوم عطرا، قال العرب: لم أر كاليوم رجلا، أي كرجل أراه اليوم رجلا، فحذف ما دخلت عليه الكاف، وحذف الفعل، وهو أرى، وفاعله ومفعوله، وهذا حذف كثير، لا سيما وقد يقال: ما رأيت كاليوم، ولا تذكر بعده شيئا إذا تعجبت، فدل على أنهم لم يحذفوا هذا الحذف الكثير، ولكنهم أوقعوا التعجب على اليوم، لأن الأيام تأتي بالأعاجيب، والعرب تذمها وتمدحها في نظمها ونثرها" (1) .
__________
(1) لمصدر السابق، (3/146) .(13/472)
كما ذكر بعض الأحاديث من جوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تندرج ضمن إيجاز القصر لما فيها من قصر العبارة وسعة المعنى، حيث قال السهيلي: "وفي غزوة أوطاس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن حمي الوطيس) (1) ، وذلك حين استمرت الحرب، وهي من الكلم التي لم يسبق إليها صلى الله عليه وسلم، فمنها هذه: ومنها: (مات حتف أنفه) (2) ، قالها في فضل من مات في سبيل الله، في حديث رواه عنه عبد الله بن عتيك، قال ابن عتيك: وما سمعت هذه الكلمة – يعني حتف أنفه – من أحد العرب قبله صلى الله عليه وسلم، ومنها: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) (3) ، قالها لأبي عزة الجمحي يوم أحد، وقد مضى حديثه، ومنها: (لا ينتطح فيها عنزان) (4) ، وسيأتي سببهما. ومنها قوله عليه [الصلاة و] السلام: (يا خيل الله اركبي) (5) ، قالها يوم حنين أيضا في حديث أخرجه مسلم" (6) .
__________
(1) ي مسلم انه قالها يوم حنين، ولفظه: (هذا حين حمي الوطيس) انظر: مشكاة المصابيح، (3/1646) .
(2) واه البيهقي عن عبد الله بن عتيك، انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للشامي، تحقيق د. مصطفى عبد الواحد، ص (133) . ومجمع الأمثال، للميداني، (2/266) وهو فيه بلا نسبة.
(3) تفق عليه عن أبي هريرة، وفيه (جحر واحد) ، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1404) .
(4) لحديث بلا عزو في: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ص (134) . وهو أيضا في مجمع الأمثال للميداني، (2/225) بلا عزو.
(5) واه أبو داود، انظر: باب النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي، والحديث فيه عن سمرة بن جندب، وفيه: (أما بعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله إذا فزعنا…) . انظر: سنن أبي داود (3/55) .
(6) لروض الأنف، (4/138) .(13/473)
ورأى أن النبي عليه الصلاة والسلام نسيج وحده في البلاغة، وهو أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء، مستدركا بذلك على الجاحظ الذي صحف كلمة نقلها عن يونس بن حبيب بشأن فصاحة عثمان البتي، فنسبها الجاحظ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يقول السهيلي: "وقال الجاحظ في كتاب البيان عن يونس بن حبيب: (لم يبلغنا من روائع الكلم ما بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم) (1) ، وغلط في هذا الحديث، ونسب إلى التصحيف، وإنما قال القائل: ما بلغنا عن البتي، يريد عثمان البتي، فصحفه الجاحظ (2) ، قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء، حتى يقال ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره، كلامه أجل من ذلك وأعلى، صلوات الله عليه وسلامه" (3) .
المبحث الثاني: مسائل علم البيان
أولا: التشبيه
عرض السهيلي بعض أمور التشبيه، من ذلك كلمة مثل، فهي عنده ترادف كلمة تشبيه، وتأتي بمعنى المثل (الاستعارة التمثيلية) ، حيث قال عند قوله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار كرشي وعيبتي) (4) : "فضرب العيبة مثلا لموضع السر، وما يعتد به من ودهم، والكرش وعاء يصنع من كرش البعير، يجعل فيه ما يطبخ من اللحم، يقال: ما وجدت لهذه البضعة فاكرش، أي إن الكرش قد امتلأ، فلم يسعها فمه، ويضرب أيضا هذا مثلا، كما قال الحجاج: ما وجدت إلى دم فلان فاكرش" (5) .
كما تعرض للكاف من أدوات التشبيه، وبين أنها قد تقحم لتأكيد التشبيه، وربما كان إقحامها معيبا كما في قول الراجز: (6)
* فصيروا مثل كعصف مأكول *
__________
(1) لبيان والتبيين، بتحقيق عبد السلام هارون، (2/18) .
(2) نظر الاستدراكات على البيان والتبيين، بتحقيق عبد السلام هارون، (4/394) .
(3) ض الأنف، (4/138-139) .
(4) واه البخاري، ولفظه: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي) . انظر: مشكاة المصابيح، (3/1752) .
(5) لروض الأنف، (4/36) .
(6) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/75)(13/474)
قال السهيلي: "إن الكاف تكون حرف جر، وتكون اسما بمعنى مثل، ويدلك على أنها حرف: وقوعها صلة للذي، لأنك تقول: رأيت الذي كزيد، ولو قلت: الذي مثل زيد، لم يحسن، وبذلك تكون اسما … وإذا دخلت على مثل، كقوله تعالى: (ليس كمثله شيء ((الشورى:11) فهي إذا حرف، إذ لا يستقيم أن يقال: مثل مثله، وكذلك هي حرف في بيت رؤبة، (مثل كعصف) لكنها مقحمة لتأكيد التشبيه، كما أقحموا اللام من قوله: (يا بؤس للحرب) ، ولا يجوز أن يقحم حرف من حروف الجر سوى اللام، والكاف، أما اللام فلأنها تعطي بنفسها معنى الإضافة، فلم تغير معناها، وكذلك الكاف تعطي معنى التشبيه، فأقحمت لتأكيد معنى المماثلة، غير أن دخول مثل عليها كما في بيت رؤبة قبيح، ودخولها على مثل كما في القرآن أحسن شيء، لأنها حرف جر، تعمل في الاسم، والاسم لا يعمل فيها، فلا يتقدم عليها، إلا أن يقتحمها كما أقحمت اللام" (1) .
ويبين السهيلي السر في بعض أساليب التشبيهات الدقيقة الغامضة، كما في قول عبد الله ابن قيس الرقيات في قصة الفيل: (2)
واستهلت عليهم الطير بالجن ... دل حتى كأنه مرجوم
يقول: "وقوله: (حتى كأنه مرجوم) وهو قد رجم، فكيف شبهه بالمرجوم وهو مرجوم بالحجارة؟ وهل يجوز أن يقال في مقتول: كأنه مقتول؟ فنقول: لما ذكر استهلال الطير، وجعلها كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر ليس برجم، وإنما الرجم بالأكف ونحوها، شبهه بالمرجوم الذي يرجمه الآدميون، أو من يعقل ويتعمد الرجم من عدو أو نحوه، فعند ذلك يكون المقتول بالحجارة مرجوما على الحقيقة، ولما لم يكن جيش الحبشة كذلك، وإنما أمطروا بحجارة، فمن ثم قال: كأنه مرجوم" (3) .
ويبرز السهيلي وجه الشبه والغرض من التشبيه لدى بعض الشعراء، كما في قول شاعر من العرب: (4)
لقد أنكحت أسماء رأس بُقيرة ... ... من الأدْم أهداها امرؤ من بني غنم
__________
(1) لروض الأنف، (1/75) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/81) .
(3) لروض الأنف، (1/81) .
(4) لمصدر السابق، (1/106) .(13/475)
رأى قدعا في عينها إذ يسوقها ... إلى غبْغب العزى فوسع في القسم (1)
يقول: "معنى هذا البيت: الذم، وتشبيه هذا المهجو برأس بقرة قد قربت أن يذهب بصرها، فلا تصلح إلا للذبح والقسم" (2) .
وربما شرح السهيلي التشبيه شرحا لغويا بلا تحليل، كما في قول تميم بن أبي مقبل: (3)
فيه من الأخرج المِرباع قرقرة ... هدر الدّيافِيِّ وسط الهجمة البُخرُ
قال: "يصف في هذا البيت حمار وحش يقول: فيه من الأخرج، وهو: الظليم الذي فيه بياض وسواد، أي فيه منه قرقرة، أي صوت، وهدر مثل هدر الديافي، أي: الفحل المنسوب إلى دياف، بلد بالشام، والهجمة من الإبل: دون المائة" (4) .
وقد تكرر هذا الصنيع من السهيلي في مواضع متعددة منها عند قول الجعدي: (5)
كأن الغبار الذي غادرت ... ... ضحيا دواخن من تنضب
حيث قال السهيلي: "شبه الغبار بدخان التنضب لبياضه" (6) .
وكذلك عند قول عباس بن مرداس:
*والأجربان: بنو عبس وذبيان*
حيث قال: "سماهما بالأجربين، تشبيها بالأجرب الذي لا يقرب" (7) .
وأيضا عند قول مطرود بن كعب الخزاعي: (8)
يبكين شخصا طويل الباع ذا فَجَر ... آبي الهضيمة فراج الجليلات
حيث قال: "وقوله طويل الباع ذا فجر: الفجر: الجود، شبه بانفجار الماء" (9) .
وهو هنا يطلق على الاستعارة مصطلح التشبيه، لأن التشبيه أساس الاستعارة وعليه تقوم كما ذكر الشيخ عبد القاهر حيث قال: "والتشبيه كالأصل في الاستعارة، وهي شبيهة بالفرع له، أو صورة مقتضبة من صوره" (10) .
__________
(1) لقدع: ضعف البصر من إدمان النظر، الغبغب: المنحر ومراق الدم.
(2) لروض الأنف، (1/107) .
(3) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/113) .
(4) لروض الأنف، (1/113) .
(5) لمصدر السابق، (2/227) .
(6) لمصدر السابق، (2/227) .
(7) لمصدر السابق، (4/140) .
(8) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/164) .
(9) لروض الأنف، (1/165) .
(10) سرار البلاغة، تحقيق هـ. ريتر، ص (28) .(13/476)
وتكرر منه إطلاق مصطلح التشبيه على الاستعارة التصريحية، كما في تفسيره لقوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ((الزخرف: 40) ، قال: "أي إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب، لا أنت، وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة، إذا شاء، لا نبيه ولا أحد" (1) .
ويقول السهيلي أيضا في موضع آخر: "قوله عليه [الصلاة و] السلام: (أين لكع؟) يعني الحسن أو الحسين ممازحا لهما، فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا، فكيف يقول أين لكع وقد سماه سيدا في حديث آخر؟ فالجواب أنه أراد التشبيه باللكع الذي هو الفلو أو المهر، لأنه طفل، كما أن الفلو والمهر كذلك، وإذا قصد بالكلام قصد التشبيه لم يكن كذبا، ونحو قوله عليه [الصلاة و] السلام: (لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع) (2) واللكع في اللغة: وسخ الغرلة (3) ، وهو أيضا الفلو الصغير" (4) . وهذه استعارة تصريحية أطلق عليها مصطلح التشبيه.
__________
(1) لروض الأنف، (3/62) .
(2) واه الترمذي والبيهقي عن حذيفة، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1474) .
(3) لغُرْلَة: القُلْفَة، والأغرل: الأقلف. انظر: القاموس المحيط، مادة (غرل) .
(4) لروض الأنف، (3/177) .(13/477)
ويصحح السهيلي ماوقع في بعض الروايات من تصحيف، ربما غير معنى التشبيه، ويختار ما هو مناسب للمعنى، يقول: "وذكر ابن إسحاق أيضا أنهم أفضوا إلى قواعد البيت، وإذا هي خضر كالأسنمة، وليست هذه رواية السيرة، إنما الصحيح في الكتاب: كالأسنة، وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق، والله أعلم، فإنه لا يوجد في غير هذا الكتاب بهذا اللفظ لا عند الواقدي ولا غيره، وقد ذكر البخاري في بنيان الكعبة هذا الخبر، فقال فيه عن يزيد بن رومان: (فنظرت إليها، فإذا هي كأسنمة الإبل) (1) ، وتشبيهها بالأسنة لا يشبه إلا في الزرقة، وتشبيهها بأسنمة الإبل أولى، لعظمها، ولما تقدم في حديث بنيان الملائكة لها قبل هذا" (2) .
ثانيا: المجاز
يساوي السهيلي بين كلمة مجاز واتساع، ويشير إلى كثرة استعمال العرب للمجاز والاتساع فيقول: في التفريق بين لفظ الروح والنفس: "اضطربت المذاهب…ومجازات العرف واتساعاتها في الكلام كثيرة" (3)
والاستعارة عنده من المجاز، ولذلك يطلق عليها مصطلح المجاز، يقول: "وقوله: * حذوناها من الصوان سبتا *
أي حذوناها نعالا من حديد، جعله سبتا لها مجازا". (4)
ويتعرض السهيلي لحجية المجاز في اللغة عند قوله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر ((الأحزاب: 10) ، يقول: "والقلب لا ينتقل من موضعه، ولو انتقل إلى الحنجرة لمات صاحبه، والله سبحانه لا يقول إلا الحق، ففي هذا دليل على أن التكلم بالمجاز على جهة المبالغة، فهو حق إذا فهم المخاطب عنك" (5)
__________
(1) حيح البخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، (2/574) الحديث رقم (1509) . ولفظه: (وقد رأيت أساس إبراهيم، حجارة كأسنمة الإبل) .
(2) لروض الأنف، (1/229) .
(3) لمصدر السابق، (2/62) .
(4) لمصدر السابق، (4/79) .
(5) لروض الأنف، (3/285) .(13/478)
ويضيف السهيلي مثالا آخر للمجاز، "وهذا كقوله تعالى: (يريد أن ينقض فأقامه) (الكهف: 77) أي مثله كمثل من يريد أن يفعل الفعل ويهم به، فهو من مجاز التشبيه، وكذلك هؤلاء مثلهم فيما بلغهم من الخوف والوهن وضيق الصدر كمثل المنخلع قلبه من موضعه، وقيل هو على حذف المضاف، وتقديره: بلغ وجيف القلوب الحناجر" (1) ، وهذا المثال من الاستعارة المكنية التبعية، وأطلق عليه مجاز التشبيه لأن التشبيه أساس الاستعارة كما سبق، والتشبيه عند ابن الأثير نوع من المجاز (2)
وينكر المجاز في آية أخرى مشابهة، لأنها وصف لأهوال القيامة، والقيامة لها أحوالها الخاصة بها على كل حال، يقول: "وأما قوله: (إذ القلوب لدى الحناجر ((غافر: 18) فلا معنى لحمله على المجاز، لأنه في صفة هول القيامة، والأمر فيه أشد مما تقدم، وقد قال في أخرى: (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ((إبراهيم: 43) أي قد فارق القلب الفؤاد، وبقي فارغا هواء" (3) . وهذه إضافة تحتسب له هنا، صحيح أن القرآن جاء على لسان العرب، ولكن هنالك أمورا تناولها في عالم الغيب لها سماتها الخاصة بها، فلا ينبغي أن تخضع لمنطق اللغة دائما، لأن اللغة محكومة في دلالالتها الحسية والبيئية عند من نطقوا بها، وما وراء الغيب يتجاوز معطيات هذه الدلالات، ولذلك قال ابن عباس: "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء" (4)
المجاز العقلي:
... لم يشر السهيلي إلى المجاز العقلي صراحة، ولكنه عرض تحليل بعض علاقاته، كالمفعولية حيث قال: "وقوله:
فراضية المعيشة طلقتها
أي المعيشة المرضية، وبناها على فاعلة، لأن أهلها راضون (5) ، لأنها في معنى صالحة" (6)
__________
(1) لروض الأنف، (3/285) .
(2) نظر: كتاب الطراز للعلوي، (1/265) .
(3) لروض الأنف، (3/285) .
(4) ختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (1/44) .
(5) نظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (98) .
(6) لروض الأنف، (4/79) .(13/479)
.. وعرض تحليل العلاقة المفعولية مرة أخرى، والعلاقة الفاعلية، فقال: "وفيه أن قريشا خرجت ومعها العوذ المطافيل، العوذ: جمع عائذ، وهي الناقة التي معها ولدها، يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل، ليتزودوا ألبانها ولا يرجعوا، حتى يناجزوا محمدا وأصحابه في زعمهم، وإنما قيل للناقة عائذ، وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها، لأنها عاطف عليه، كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها، لأنها في معنى نامية وزاكية، وكذلك (عيشة راضية ((القارعة: 7) لأنها في معنى صالحة، ومن نحو هذا قوله تعالى: (والهدي معكوفا ((الفتح: 25) وإن كان عاكفا، لأنه محبوس في المعنى، فتحول وزنه في اللفظ إلى وزن ما هو في معناه، كما قالوا في المرأة: تهراق الدماء، وقياسه تهريق الدماء، ولكنه في معنى تستحاض، فحول إلى وزن ما لم يسم فاعله، وبقيت الدماء منصوبة على المفعول كما كانت" (1) .
وعرض نموذجا آخر لعلاقة الفاعلية، نافيا أن يكون فيه مجاز كما ذكر المفسرون، فقال: "وذكر قوله الله سبحانه خبرا عنهم: (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ((الإسراء: 45) قال بعضهم: مستور بمعنى ساتر (2) ، كما قال: (وكان وعده مأتيا ((مريم: 61) أي آتيا (3) ، والصحيح أن مستورا هما على بابه، لأنه حجاب على القلب، فهو لا يرى" (4) .
المجاز المرسل
لم يذكر السهيلي الاصطلاح البلاغي، ولكنه عرض تحليل بعض علاقاته، مثل تسمية الشيء باسم حامله (5) ، قال: "وقوله: نهوض الروايا: هي الإبل تحمل الماء، واحدتها راوية، والأسقية أيضا يقال لها روايا" (6) .
__________
(1) لروض الأنف، (4/33) .
(2) نظر: تفسير الكشاف للزمخشري، (2/670) . ومختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (2/380) .
(3) نظر: تفسير الكشاف، (3/27) . ومختصر تفسير ابن كثير، (2/459) .
(4) لروض الأنف، (2/76) .
(5) نظر: كتاب التبيان للطيبي، بتحقيق د. هادي عطية الهلالي، ص (225) .
(6) لروض الأنف، (2/26) .(13/480)
.. وعرض ما يسمى بالعلاقة المحلية وهي أن يذكر المحل ويراد الحال (1) ، فقال: "والنادي والندى والمنتدى بمعنى واحد، وهو مجلس القوم الذي يتنادون إليه، وقال أهل التفسير فيه أقوالا متقاربة، قال بعضهم: فليدع حيه، وقال بعضهم: عشيرته، وقال بعضهم: مجلسه" (2) .
وأشار إلى التعبير بالجزء عن الكل (3) ، وذلك عند قول مطرود بن كعب الخزاعي: (4)
ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت بين غزات
قال السهيلي: "قوله: (وميت بين غزات) هي غزة، ولكنهم يجعلون لكل ناحية أو لكل ربض من البلدة اسم البلدة، يقولون غزات في غزة، ويقولون في بغدان: بغادين، كما قال بعض المحدثين:
شربنا في بغادين ... ... على تلك الميادين
ولهذا نظائر ستمر في الكتاب إن شاء الله، ومن هذا الباب حكمهم للبعض بحكم الكل، كما سموه باسمه، نحو قولهم: شرقت صدر القناة من الدم، وذهبت بعض أصابعه، وتواضعت سور المدينة، وقد تركبت على هذا الأصل مسألة من الفقه: قال الفقهاء أو أكثرهم: من حلف ألا يأكل هذا الرغيف، فأكل بعضه، فقد حنث، فقد حكموا للبعض بحكم الكل، وأطلقوا عليه اسمه". (5)
الاستعارة
تقوم الاستعارة على التشبيه، وقد أشار السهيلي إلى ذلك عندما عرض لقول خالد بن حِق الشيباني يذكر قتل كسرى على يد ابنه شيرويه: (6)
تمخضت المنون له بيوم ... ... أنى ولكل حاملة تمام (7)
حيث علق عليه بقوله: "وإن كان أراد بالمنون المنية: فبعيد أن يقال: تمخضت المنون له بهذا اليوم الذي مات فيه، فإن موته منيته، فكيف تتمخض المنية بالمنية، إلا أن يريد أسبابها، وما مُني له، أي قُدر من وقتها، فتصح الاستعارة حينئذ، ويستقيم التشبيه" (8) .
__________
(1) نظر: كتاب التبيان، ص (225) .
(2) لروض الأنف، (2/51) .
(3) نظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (399) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/162) .
(5) لروض الأنف، (1/163) .
(6) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/88) .
(7) نى: حان.
(8) لروض الأنف، (1/89) .(13/481)
فهو هنا يوضح أن الاستعارة قائمة على التشبيه، وهذه استعارة تبعية مكنية، حيث شبه المنون بالمرأة التي يأتيها المخاض، والسهيلي لم يحلل الاستعارة كعادته، وإنما يكتفي بذكر المصطلح غالبا.
وربما اكتفى السهيلي بذكر مصطلح التشبيه دون الاستعارة أحيانا، كما في قوله: "قيل لمن روى علما أو شعرا: راوية، تشبيها بالمزادة أو الدابة التي يحمل عليها الماء، وليس من باب علامة ونسابة" (1) . وهذه استعارة تصريحية كما هو معلوم، وقد اكتفى بذكر مصطلح التشبيه عندها.
وقد أشار السهيلي إلى مصطلح الاستعارة مرات عديدة على الإجمال من دون ذكر تقسيمات الاستعارة المعروفة في كتب البلاغة، من ذلك قوله عند ذكر شعر معبد الخزاعي وفيه: ((2)
* إذا تغطمطت البطحاء بالخيل *
قال معقبا عليه: "لفظ مستعار من الغطمة، وهو غليان القدر". (3)
وقال في شرح قول كعب بن مالك: (4)
* إنا بنو الحرب نمريها وننتجها *
:"مستعار من مريت الناقة، إذا استدررت لبنها، ونتجتها إذا استخرجت منها ولدا" (5)
وفي تعليقه على ما أنشد ثعلب: (6)
*قمنا فآنسنا الحمول والحدج*
قال: "وفي العين: الحدج: حسك القطب مادام رطبا (7) ، فيكون الحدج في البيت مستعارا من هذا، أي لها حسك" (8)
وفي تعليقه على قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم) (الكهف: 11) قال: "أي أنمانهم، وإنما قيل في النائم ضرب على أذنه، لأن النائم ينتبه من جهة السمع، والضرب هنا مستعار من ضرب القفل على الباب" (9) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/145) .
(2) لمصدر السابق، (3/180) .
(3) لمصدر السابق، (3/180) .
(4) لمصدر السابق، (3/218) .
(5) لمصدر السابق، (3/218) .
(6) لمصدر السابق، (2/128) .
(7) ي القاموس المحيط، مادة (حدج) : (الحَدَج: الحنظل، وحمل البطيخ مادام رطبا، وحسك القطب الرطب) .
(8) لروض الأنف، (2/129) .
(9) لروض الأنف، (2/54-55) .(13/482)
وربما علل السهيلي أسباب اللجوء إلى الاستعارة وفائدتها كما في تعقيبه على قول أبي الصلت بن ربيعة الثقفي، وتروى أيضا لأمية بن أبي الصلت: (1)
يرمون عن شُدف كأنها غبط ... ... بزمخر يُعجل المرميَ إعجالا (2)
قال: "الشدَف: الشخص، ويجمع على شُدُف، ولم يرد ههنا إلا القسي، وليس شدُف جمعا لشدَف، وإنما هو جمع شدوف، وهو النشيط المرح، يقال: شدف فهو شدف ثم تقول شدوف، كما تقول: مروح، وقد يستعار المرح والنشاط للقسي لحسن تأتيها وجودة رميها وإصابتها" (3) .
وقد يستطرد السهيلي في موضع واحد إلى ذكر بعض الاستعارات المماثلة في الكلمة الواحدة، فيذكر أكثر من استعارة وقعت في كلام البلغاء، إذا دعت المناسبة إلى ذلك، ويضم النظير إلى نظيره، وهذا ما صنعه عند ذكر قول زيد بن عمرو: (4)
دُعموص أبواب الملو ... ... ك وجائب للخرق بابه
حيث قال عقبه: "وقوله: دعموص أبواب الملوك: يريد ولاجا في أبواب الملوك، وأصل الدعموص: سمكة صغيرة كحية الماء، فاستعاره هنا، وكذلك جاء في حديث أبي هريرة يرفعه: (صغاركم دعاميص الجنة) (5) وكما استعارت عائشة العصفور حين نظرت إلى طفل صغير قد مات، فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا) (6) أخرجه مسلم" (7) .
__________
(1) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/84) .
(2) لزمخر: القسي أو النبل، والغبط: الهوادج.
(3) لروض الأنف، (1/85) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/260-261) .
(5) واه مسلم وأحمد بلفظ: [صغارهم] ، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1754) .
(6) فظ الحديث: (أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) . انظر: مشكاة المصابيح، (1/31) .
(7) لروض الأنف، (1/261) .(13/483)
وربما استدرك السهيلي على ابن هشام إغفاله للتحليل البياني للقرآن الكريم، كما ورد عند قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) (الحجر: 94) قال ابن هشام: "فاصدع فرق بين الحق والباطل" (1) . وعقب السهيلي بقوله: "وشرح ابن هشام معنى قوله: اصدع شرحا صحيحا، وتتمته أنه صدع على جهة البيان، وتشبيه لظلمة الشك والجهل بظلمة الليل، والقرآن نور، فصدع به تلك الظلمة، ومنه سمي الفجر صديعا، لأنه يصدع ظلمة الليل، وقال الشماخ:
ترى السرحان مفترشا يديه ... ... كأن بياض لبته صديع
على هذا تأوله أكثر أهل المعاني" (2) .
والصدع هنا استعارة من صدع الزجاجة (3) ، ولم يصرح بها السهيلي، واكتفى بقوله: "وتشبيه لظلمة الشك والجهل بظلمة الليل، والقرآن نور" وهو ما يفيد معنى الاستعارة، لأن أصل الاستعارة هو التشبيه.
ويحقق السهيلي في احتمالات الرواية للأشعار، مبينا الفروق البيانية بينها، كما فعل عند قول أبي طالب في مدح قومه: (4)
ونحمي حماها كل يوم كريهة ... ... ونضرب عن أحجارها من يرومها
قال السهيلي: "ونضرب عن أحجارها من يرومها: أي ندفع عن حصونها ومعاقلها، وإن كانت الرواية أجحارها بتقديم الجيم فهو جمع جحر، والجحر هنا مستعار، وإنما يريد عن بيوتها ومساكنها" (5)
ويصحح السهيلي اشتقاق بعض الكلمات، ويرد بعضها إلى الاستعارة كما في كلمة الملاحة، يقول: "وأما معنى الملاحة، فذهب قوم إلى أنها من الملحة، وهي البياض، تقول العرب: عنب ملاحي، والصحيح في معنى المليح، أنه مستعار من قولهم: طعام مليح: إذ كان فيه من الملح بقدر ما يصلحه" (6) .
الاستعارة التمثلية
__________
(1) لسيرة النبوية لابن هشام، (2/3) .
(2) لروض الأنف، (2/6) .
(3) نظر: تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي، ص (138) ، وتفسير الكشاف للزمخشري، (2/590) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (2/10) .
(5) لروض الأنف، (2/11) .
(6) لمصدر السابق، (4/18) .(13/484)
لم يعرض لها السهيلي باسمها، وإنما ذكر كثيرا من الأمثلة التي تندرج تحت الاستعارة التمثيلية (1) ، من ذلك ما ذكره عند قول حسان: (2)
ولا تك كالشاة التي كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
قال: "تقوله العرب في مثل قديم فيمن أثار على نفسه شرا كالباحث عن المدية، وأنشد أبو عثمان ابن بحر: (3)
وكان يجير الناس من سيف مالك ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها
وكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراب تثيرها" (4)
وكذلك سرد كثير من الأمثال، مثل يسار الكواعب وقصته (5) ، حيث يقال: "لاقى الذي لاقى يسار الكواعب"، وكذلك ذكر التمثيل بالنعامة، فقال: "والعرب تقول: أشرد من نعامة، وأنفر من نعامة" (6) ، ونحو ذلك من الأمثال الشائعة في اللغة.
ثالثا: الكناية
أشار السهيلي إلى الكناية عن الموصوف عند ذكر قول البراء بن معرور للنبي عليه الصلاة والسلام: (نبايعك على أن نمنعك مما نمنع منه أزرنا، أراد نساءنا) ، وقال: "والعرب تكني عن المرأة بالإزار، وتكني أيضا بالإزار عن النفس، وتجعل الثوب عبارة عن لابسه كما قال:
رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا
أي بأبدان خفاف، فقوله: مما نمنع أزرنا يحتمل الوجهين جميعا" (7) .
وفي السياق ذاته ينقل السهيلي قولا آخر وقع فيه لفظ الإزار كناية عن الأهل عند أبي علي الفارسي، بينما ذهب ابن قتيبة إلى أنه كناية عن النفس، ويرجح السهيلي ما ذهب إليه ابن قتيبة، معتمدا على التحليل النحوي للسياق، وعلى البيت الذي يلي الشاهد المذكور، يقول: "وقد قال الفارسي في قول الرجل الذي كتب إلى عمر من الغزو يذكره بأهله:
__________
(1) ندرج الأمثال تحت الاستعارة التمثيلية، انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (442) .
(2) لروض الأنف، (2/205) .
(3) نظر: البيان والتبيين للجاحظ، (3/259) .
(4) لروض الأنف، (2/205) .
(5) لمصدر السابق، (3/69) .
(6) لمصدر السابق، (3/132) .
(7) لمصدر السابق، (2/202) .(13/485)
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال: الإزار: كناية عن الأهل، وهو في موضع نصب بالإغراء، أي: احفظ إزاري، وقال ابن قتيبة: الإزار في هذا البيت كناية عن نفسه، ومعناه: فدى لك نفسي، وهذا القول هو المرضي في العربية، والذي قاله الفارسي بعيد عن الصواب، لأن أضمر المبتدأ، وأضمر الفعل الناصب للإزار، ولا دليل عليه لبعده عنه، وبعد البيت ما يدل على صحة القول المختار، وهو:
قلائصنا هداك الله مهلا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
فنصب قلائصنا بالإضمار الذي جعله الفارسي ناصبا للإزار" (1) .
وتحدث عن التعريض وهو من أقسام الكناية عند علماء البلاغة (2) ، مبينا سبب استعماله في الكلام، وذلك في حديثه عن قول النبي عليه الصلاة والسلام عند دفن ابنته رقية رضي الله عنها: (أيكم لم يقارف الليلة أهله؟) (3) ، قال السهيلي: "سكت عثمان، ولم يقل أنا، لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهم بالمصيبة، وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقا له، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره، وهذا بين في معنى الحديث، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي، فلم يقل له شيئا، لأنه فعل فعلا حلالا، غير أن المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم" (4) .
المبحث الثالث: مسائل علم البديع
عرض السهيلي بعض مسائل البديع، ومنها:
أولا: الطباق
__________
(1) لمصدر السابق، (2/202) .
(2) نظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (466) .
(3) واه البخاري، ولفظه: (هل فيكم من أحد لم يقارف أهله الليلة) انظر: مشكاة المصابيح، (1/537) .
(4) لروض الأنف، (3/128) .(13/486)
عرض له السهيلي عند قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر ((الكوثر: 1-3) ، فقال مبينا لفائدة الطباق: "قوبل تعييره للنبي صلى الله عليه وسلم بالبتر بما هو ضده من الكوثر، فإن الكثرة تضاد معنى القلة، ولو قال في جواب اللعين: إنا أعطيناك الحوض الذي من صفته كذا وكذا، لم يكن ردا عليه ولا مشاكلا لجوابه، ولكن جاء باسم يتضمن الخير الكثير، والعدد الجم الغفير المضاد لمعنى البتر، وأن ذلك في الدنيا والآخرة بسبب الحوض المورود الذي أعطاه، فلا يختص لفظ الكوثر بالحوض، بل يجمع هذا المعنى كله، ويشتمل عليه، ولذلك كانت آنيته كعدد النجوم، ويقال هذه الصفة في الدنيا: علماء الأمة من أصحابه ومن بعدهم" (1) . ويلاحظ هنا استخدم تعبير قوبل الذي يدل على التضاد، دون أن يذكر مصطلح الطباق.
ثانيا: الاستخدام
أشار السهيلي إلى معنى الاشتراك عند قول حسان: (2)
ديار من بني الحسحاس قفر ... ... تعفيها الروامس والسماء
فقال موضحا إن السماء لفظ مشترك: "وقوله الروامس والسماء يعني الرياح والمطر، والسماء لفظ مشترك يقع على المطر، وعلى السماء التي هي السقف، ولم يعلم ذلك من هذا البيت ونحوه، ولا من قوله: (3)
إذا سقط السماء بأرض قوم ... ... رعيناه وإن كانوا غضابا
لأنه يحتمل أن يريد مطر السماء، فحذف المضاف، ولكن إنما عرفناه من قولهم في جمعه: سمى، وهم يقولون في جمع السماء: سماوات وأسمية، فعلمنا أنه اسم مشترك" (4) . فقد أشار السهيلي هنا إلى مضمون الاستخدام الذي يقوم على الاشتراك، دون أن يفصل في ذلك، ودون استخدام المصطلح البلاغي، وشاهد الاستخدام في البيت الثاني الذي ساقه.
ثالثا: المشاكلة
__________
(1) لروض الأنف، (2/145) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/106) .
(3) لبيت لجرير وهو من شواهد الاستخدام في كتاب الإيضاح في علوم البلاغة، ص (502) .
(4) لروض الأنف، (4/116-117) .(13/487)
عرضها السهيلي كثيرا، وهو مرة يطلق عليها مصطلح المجاز، يقول: "وفي التنزيل خبرا عن نوح: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ((هود: 38) ولم يقل نستهزئ بكم كما تستهزئون، لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء، إنما هو من فعل الجاهلين، كما قدمنا من قول موسى عليه السلام، فالنبي يسخر، أي: يعجب من كفر من يسخر به، ومن سخر عقولهم، فإن قلت: فقد قال الله تعالى: (الله يستهزئ بهم ((البقرة: 15) ، قلنا العرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل، كما قال الله تعالى: (نسوا الله فنسيهم ((التوبة: 67) فذلك مجاز حسن… ويحسن في حكم البلاغة وضع واحدة مكان أخرى" (1) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/147) .(13/488)
وفي موضع آخر يطلق مصطلح المشاكلة كما فعل عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب) (1) ، حيث فسر هذا الحديث بناء على المشاكلة تفسيرا بديعا يطابق فيه بين الجزاء في الآخرة المترتب على العمل الصالح في الدنيا، حيث يكون الجزاء من جنس العمل، يقول: "لذكر البيت ههنا بهذا اللفظ ولقوله: ببيت، ولم يقل: بقصر، معنى لائق بصورة الحال، وذلك أنها كانت ربة بيت إسلام، لم يكن على ظهر الأرض بيت إسلام إلا بيتها حين آمنت، وأيضا: فإنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزويجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبتها فيه، وجزاء الفعل يذكر بلفظ الفعل، وإن كان أشرف منه (2) ، لما جاء: (من كسا مسلما على عُري كساه الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق) (3) ومن هذا الباب قوله عليه [الصلاة و] السلام: (من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة) (4) لم يرد مثله في كونه مسجدا، ولا في صفته، ولكن قابل البنيان بالبنيان، كما بنى يبنى له، كما قابل الكسوة بالكسوة، والسقيا بالسقيا، فهاهنا وقعت المماثلة لا في ذات المبنيِّ أو المكسو، وإذا ثبت هذا، فمن هاهنا اقتضت الفصاحة أن يعبر عما بشرت به بلفظ البيت، وإن كان فيه ما لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر، ومن تسمية
__________
(1) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/277) . والحديث في الصحيحين، انظر: انظر: مشكاة المصابيح، (3/1743) .
(2) ذه الصورة الثانية من صور المشاكلة، حيث لا يشترط تقدم لفظ المشاكلة دائما وتكراره مرتين إذا وجدت قرينة حالية تدل عليه. انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص (495) .
(3) لحديث في سنن أبي داود (2/314) . وأخرجه الترمذي وأحمد أيضا.
(4) حيح، وورد بألفاظ مختلفة، وقد رواه أحمد والبيهقي والترمذي وابن ماجة، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، (6/96) . ونحوه في شرح السنة، انظر: مشكاة المصابيح، (2/1011) .(13/489)
الجزاء على الفعل بالفعل في عكس ما ذكرناه قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم ((التوبة:167) ، (ومكروا ومكر الله ((آل عمران: 54) " (1) .
ويضيف السهيلي موضحا للمشاكلة في بقية ألفاظ الحديث النبوي، فيقول: "أما قوله (لا صخب فيه ولا نصب) ، فإنه أيضا من باب ما كنا بسبيله، لأنه عليه [الصلاة و] السلام دعاها إلى الإيمان فأجابته عفوا، لم تحوجه إلى أن يصخب كما يصخب البعل إذا تعصت عليه حليلته، ولا أن ينصب، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل مكروه، وأراحته بمالها من كل كد ونصب، فوصف منزلها الذي بشرت به بالصفة المقابلة لفعالها وصورته" (2) .
ويبين السهيلي سبب استخدام كلمة قصب في وصف بيت خديجة بالجنة دون غيرها من الوصاف، كاللؤلؤ مثلا، وذلك مراعاة للمشاكلة في نيلها قصب السبق إلى الإيمان، فيقول: "وأما قوله (من قصب) ، ولم يقل من لؤلؤ، وإن كان المعنى واحدا، ولكن في اختصاصه هذا اللفظ من المشاكلة المذكورة والمقابلة بلفظ الجزاء للفظ العمل، أنها رضي الله عنها كانت قد أحرزت قصب السبق إلى الإيمان دون غيرها من الرجال والنسوان، والعرب تسمي السابق محرزا للقصب، قال الشاعر:
مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت ... أمية حتى أحرزوا القصبات
فاقتضت البلاغة أن يعبر بالعبارة المشاكلة لعملها في جميع ألفاظ الحديث، فتأمله" (3) .
ويلاحظ هنا أن السهيلي استخدم مصطلح المشاكلة، وبرع في بيان تأثيرها في الكلام.
رابعا: المبالغة
عرض لها السهيلي، وبين أنها ليست من قبيل الكذب، بل هي للتعظيم والتهويل، وذلك عند ذكر قول كعب بن مالك يرثي جعفرا: (4)
فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل
__________
(1) لروض الأنف، (1/278-279) .
(2) لمصدر السابق، (1/279) .
(3) لروض الأنف، (1/279) .
(4) لمصدر السابق، (4/83) .(13/490)
فقال: "قوله حق، لأنه كان عنى بالقمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله قمرا ثم جعله شمسا، فقد كان تغير بالحزن لفقد جعفر، وإن كان أراد القمر نفسه، فمعنى الكلام ومغزاه حق أيضا، لأن المفهوم منه تعظيم الحزن والمصاب، وإذا فهم مغزى الشاعر في كلامه، والمبالغ في الشيء فليس بكذب، ألا ترى إلى قوله عليه [الصلاة و] السلام: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) (1) ، وكذلك قالوا في مثل قول الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
قال: إنما أراد فعلنا فعلة شنيعة عظيمة، فضرب المثل بهتك حجاب الشمس، وفهم مقصده، فلم يكن كذبا، وإنما الكذب أن يقول فعلنا، وهم لم يفعلوا، وقتلنا وهم لم يقتلوا" (2) .
خامسا: الاقتباس
أشار إليه السهيلي وهو يذكر قول عبد الله بن الزبعرى في قصة الفيل: (3)
تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا ينال حريمها
لم تخلق الشعرى غداة حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها
__________
(1) لحديث في سنن أبي داود، (2/712-713) . ورواه النسائي والدارمي والطبراني أيضا.
(2) لروض الأنف، (4/83) .
(3) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/77) .(13/491)
فقال: "إن كان ابن الزبعرى قال هذا في الإسلام، فهو منتزع من قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس) (1) ، ومن قوله في حديث آخر: (إن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض) (2) ، والتربة خلقت قبل خلق الكواكب (3) ، وإن كان ابن الزبعرى قال هذا في الجاهلية، فإنما أخذه والله أعلم من الكتاب الذي وجدوه في الحجر بالخط المسند حين بنوا الكعبة، وفيه: (أنا الله رب مكة خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض) (4) الحديث" (5) .
... وعرض له مرة أخرى عند ذكر قول أحمد بن جحش لأبي سفيان: (6)
دار ابن عمك بعتها ... ... تقضي بها عنك الغرامة
اذهب بها اذهب بها ... ... طوقتها طوق الحمامة
فقال منوها بالاقتباس، ومشيدا بما في البيت من استعارة: " ... وقوله لأبي سفيان: (طوقتها طوق الحمامة) منتزع من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) (7) وقال: (طوق الحمامة) لأن طوقها لا يفارقها، ولا تلقيه عن نفسها أبدا، كما يفعل من لبس طوقا من الآدميين، ففي هذا البيت من السماتة وحلاوة الإشارة وملاحة الاستعارة ما لا مزيد عليه" (8) .
__________
(1) ن حديث متفق عليه عن أبي شريح العدوي، انظر: مشكاة المصابيح، (2/832-833) .
(2) ن حديث متفق عليه عن ابن عباس، انظر: مشكاة المصابيح، (2/830) .
(3) شير إلى حديث رواه مسلم عن أبي هريرة، وفيه: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد…) انظر نص الحديث في مشكاة المصابيح، (3/1597) .
(4) لخبر في البداية والنهاية لابن كثير، (2/302) . ولم يعلق عليه.
(5) لروض الأنف، (1/79) .
(6) لمصدر السابق، (2/249) .
(7) لحديث في مسند أحمد ولفظه: (أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه إلى يوم القيامة حتى يقضي الناس) . انظر: مشكاة المصابيح، (2/892) .
(8) لروض الأنف، (2/249) .(13/492)
ومعلوم أن طوق الحمامة هنا تشبيه بليغ وليس استعارة، مما يعني تسامح السهيلي في استعمال المصطلحات البلاغية، ولا يكون التشبيه البليغ مجازا إلا على مذهب ابن الأثير كما سبق ذكر ذلك.
المبحث الرابع: البلاغة القرآنية وإعجاز القرآن الكريم
من الطبيعي أن يعرض السهيلي لبعض القضايا الجمالية التي تتعلق بالنظم القرآني طالما أنه يتناول السيرة النبوية وما نزل من القرآن في أحداثها، من ذلك ما ذكره في حديثه عن سورة الكهف، وما في مطلعها من براعة الاستهلال الذي يقتضي الابتداء بالحمد بهذه السورة، يقول: "وذكر افتتاح الرب سبحانه بحمد نفسه، وذكر نبوة نبيه، حمده لنفسه تعالى خبر باطنه الأمر والتعليم لعبده كيف يحمده، إذ لولا ذلك لاقتضت الحال الوقوف عن تسميته، والعبارات عن جلاله، لقصور كل عبارة عما هنالك من الجلال، وأوصاف الكمال، ولما كان الحمد واجبا على العبد، قدم في هذه الآية ليقترن في اللفظ بالحمد الذي هو واجب عليه، وليستشعر العبد وجوب وجوب الحمد عليه" (1) .
وإذا كان السياق هنا يقتضي البدء بالحمد، ففي سورة الفرقان يقتضي البدء بذكر الفرقان أن يفتتح السورة بتبارك، وهنا يظهر إعجاز القرآن وبراعة أسلوبه، حيث يلتئم فيه اللفظ مع المعنى في وحدة بديعة، ونظام باهر، يقول السهيلي: "وفي سورة الفرقان قال: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ((الفرقان: 1) وبدأ بذكر الفرقان الذي هو الكتاب المبارك، قال الله سبحانه: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك ((الأنعام: 92) فلما افتتح السورة بتبارك الذي، بدأ بذكر الفرقان، وهو الكتاب المبارك، ثم قال: (على عبده (، فانظر إلى تقديم ذكر عبده على الكتاب، وتقديم ذكر الكتاب عليه في سورة الفرقان، وما في ذلك من تشاكل اللفظ والتئام الكلام، تر الإعجاز باهرا، والحكمة باهرة، والبرهان واضحا" (2) .
__________
(1) لمصدر السابق، (2/53-54) .
(2) لروض الأنف، (2/53-54) .(13/493)
ويعرض السهيلي إلى ما في أسلوب القرآن الكريم من الأدب والملاطفة مع النبي عليه الصلاة والسلام، حيث لم يخاطبه باسمه الصريح في سورة المدثر، وإنما خاطبه باسم مشتق من الحالة التي هو فيها تأنيسا له عليه الصلاة والسلام، واتباعا لسنن العرب في كلامها، يقول السهيلي: "سبب تلقيبه بالمدثر: وذكر ابن إسحاق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دثروني دثروني) (1) ، فأنزل الله تعالى: (يا أيها المدثر، قم فأنذر ((المدثر: 1-2) قال بعض أهل العلم: في تسميته المدثر في هذا المقام ملاطفة وتأنيس، ومن عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو فيها، كقوله عليه [الصلاة و] السلام: (قم يا نومان) (2) ، وقوله لعلي بن أبي طالب وقد ترب جبينه: (قم أبا تراب) (3) ، فلو ناداه سبحانه وهو في تلك الحال من الكرب باسمه، أو بالأمر المجرد من هذه الملاطفة لهاله ذلك، ولكن لما بدئ: بيا أيها المدثر أنس، وعلم أن ربه راض عنه، ألا تراه كيف قال عندما لقي من أهل الطائف من شدة البلاء والكرب ما لقي: (رب إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) (4) إلى آخر الدعاء، فكان مطلوبه رضاء ربه، وبه كانت تهون عليه الشدائد" (5) .
__________
(1) لحديث متفق عليه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1628) .
(2) واه مسلم عن حذيفة، انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق خليل مأمون شيحا، باب غزوة الأحزاب، (12/357) .
(3) نظر: المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، (6/202-203) الحديث رقم (6001) . وقد رواه سهل بن سعد، وفي خاتمته: (قال سهل: فوالله إن كان لأحب أسمائه إليه) ، وانظر أيضا: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص (155) .
(4) لخبر في البداية والنهاية لابن كثير، (3/136) . ولم يعلق عليه.
(5) لروض الأنف، (2/48) .(13/494)
ويعرض السهيلي إلى فائدة الإطناب في مثل قوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ((الكهف: 18) ، فيقول مجيبا على تساؤل مفترض: "فما في ذكر الكلب وبسط ذراعيه من الفائدة؟ وما فيه من معنى اللطف بهم؟ فالجواب ما قدمناه من أن الله سبحانه لم يترك من بيان حالهم شيئا، حتى ذكر حال كلبهم، مع أن تأملهم متعذر على من اطلع عليهم من أجل الرعب، فكيف من لم يرهم ولا سمع بهم، لولا الوحي الذي جاءه من الله سبحانه بالبيان الواضح الشافي، والبرهان الكافي" (1) .
ويدفع فكرة الترادف بين لفظ السنة والعام، مبينا أن بينهما فرقا، يقول: "والسنة والعام وإن اتسعت العرب فيهما، واستعملت كل واحد منهما مكان الآخر اتساعا، ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقا" (2) .
وقد دفعه إلى هذا التفريق قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ((الكهف: 25) ، فأراد أن يبين الحكمة في قوله (وازدادوا تسعا (فقال: "وحساب العجم إنما هو بالسنين الشمسية، بها يؤرخون، وأصحاب الكهف من أمة أعجمية، والنصارى يعرفون حديثهم، ويؤرخون به، فجاء اللفظ في القرآن بذكر السنين الموافقة لحسابهم، وتمم الفائدة بقوله: (وازدادوا تسعا) ليوافق حساب العرب، فإن حسابهم بالشهور القمرية" (3) .
وفي سبيل تأكيد الفرق بين لفظي السنة والعام ذهب السهيلي إلى أن السنة قد يعبر بها عن الشدة والأزمة كما في قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ((الأعراف: 130) والعام أقل من السنة، ولذلك قال تعالى: (وبلغ أربعين
سنة ((الأحقاف: 15) ، يقول: "فإنما ذكر السنين وهي أطول من الأعوام لأنه مخبر عن اكتهال الإنسان، وتمام قوته واستوائه، فلفظ السنين أولى بهذا الموطن، لأنها أكمل من الأعوام" (4) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/55) .
(2) لمصدر السابق، (2/57) .
(3) لروض الأنف، (2/58) .
(4) لروض الأنف، (2/58) .(13/495)
وهكذا نجد أن السهيلي مغرى بإثبات النكات البيانية في كتاب الله، وإرشاد العقول إليها، فلا لفظ في كتاب الله إلا وله فائدة لا يؤديها سواه، ولا إطناب إلا لفائدة، وهذا هو سبيل معرفة إعجاز القرآن، يقول: "إن العلم بتنزيل الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح لك بابا من العلم بإعجاز القرآن، وابن هذا الأصل تعرف المعنى في قوله تعالى: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ((المعارج: 4) وقوله تعالى: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ((الحج: 47) وأنه كلام ورد في معرض التكثير والتفخيم، لطول ذلك اليوم، والسنة أطول من العام كما تقدم، فلفظها أليق في هذا المقام" (1) .
ويشير السهيلي إلى احتراز الآيات القرآنية عن نسبة ما لا يليق بكمال الله عز وجل، يقول في تعقيبه على إحدى الآيات: "قال: (ليذهب عنكم الرجس ((الأحزاب: 33) ولم يقل يذهب به، وكذلك قال: (ويذهب عنكم رجز الشيطان ((الأنفال: 11) تعليما لعباده حسن الأدب معه، حتى لا يضاف إلى القدوس سبحانه لفظا ومعنى شيء من الأرجاس، وإن كانت خلقا له وملكا، فلا يقال هي بيده على الخصوص، تحسينا للعبارة وتنزيها له، وفي مثل النور والسمع والبصر يحسن أن يقال هي بيده، فحسن على هذا أن يقال: ذهب به (2) " (3) .
__________
(1) لروض الأنف، (2/59) .
(2) ريد قول الله تعالى في سورة البقرة، الآية (17) : {ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} .
(3) لروض الأنف، (2/148) .(13/496)
ويطابق السهيلي بين ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ، دافعا لأي تعارض فيما بينهما، فمثلا ورد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كره اسم يثرب، وسماها طيبة والمدينة (1) ، بيد أن هذا الاسم ورد في القرآن، مما دفع السهيلي لافتراض التساؤل التالي: "فإن قلت: كيف كره اسما ذكرها الله في القرآن به، وهو المقتدي بكتاب الله، وأهل أن لا يعدل عن تسمية الله؟ قلنا إن الله سبحانه إنما ذكرها بهذا الاسم حاكيا عن المنافقين إذ قالت طائفة منهم: (يا أهل يثرب لا مقام لكم ((الأحزاب: 13) فنبهه بما حكى عنهم أنهم قد رغبوا عن اسم سماها الله به ورسوله، وأبوا إلا ما كانوا عليه في جاهليتهم، والله سبحانه قد سماها المدينة، فقال غير حاك عن أحد: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ((التوبة: 120) " (2) .
والخلاصة في هذا الموضوع أنه يرى تلاؤم اللفظ والمعنى في الكتاب والسنة، وهذا هو سر البلاغة وتمامها، يقول: "وقد تنزلت الألفاظ منازلها في الحديث والقرآن، وذلك معنى الفصاحة وسر البلاغة" (3) .
__________
(1) نظر: مشكاة المصابيح، (2/837) ، الحديث رقم: (2737 و 2738) .
(2) لروض الأنف، (2/251) .
(3) لمصدر السابق، (2/64) .(13/497)
وهو بهذا الرأي يوافق منهج الشيخ عبد القاهر الجرجاني الذي يرى العلاقة التلازمية بين اللفظ والمعنى، أو ما عبر عنه بنظرية النظم، وهي "أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله" (1) ، ولا بد للنظم البليغ من أن ترتب الألفاظ في النص وفقا للمعاني التي في النفس، المنتظمة فيها على قضية العقل (2) ، فإذا تم التلاؤم بين اللفظ والمعنى تبعا لترتيبها في النفس، ووفقا لقواعد النحو العربي، فتلك هي مقاييس البلاغة الإنسانية، والقرآن جاء بأحسن ترتيب وأقوم معنى، وأفضل لفظ، وتلك رتبة في البلاغة ليست بمقدور بشر، وذلك هو الإعجاز.
__________
(1) تاب دلائل الإعجاز، للجرجاني، بتحقيق محمود شاكر، ص (81) .
(2) نظر: أسرار البلاغة، بتحقيق هـ. ريتر، ص (4) .(13/498)
ويشير السهيلي إلى ترابط النظم القرآني، معتمدا على نص من الحديث النبوي الذي يتكامل مع الآيات القرآنية في تحديد إطار الصورة التي تحدد مهمته عليه الصلاة والسلام، فيقول: "فإن قيل كيف ينتظم (يا أيها المدثر ((المدثر: 1) مع قوله (قم فأنذر ((المدثر: 2) ، وما الرابط بين المعنيين حتى يلتئما في قانون البلاغة؟ ويتشاكلا في حكم الفصاحة؟ قلنا من صفته عليه [الصلاة و] السلام ما وصف به نفسه حين قال: (أنا النذير العريان) (1) وهو مثل معروف عند العرب، يقال لمن أنذر بقرب العدو وبالغ في الإنذار: هو النذير العريان، وذلك أن النذير جاد يجرد ثوبه، ويشير به، إذا خاف أن يسبق العدو صوته، وقد قيل إن أصل المثل لرجل من خثعم، سلبه العدو ثوبه، وقطعوا يده، فانطلق إلى قومه نذيرا على تلك الحال، فقوله عليه [الصلاة و] السلام: (أنا النذير العريان) أي مثلي مثل ذلك، والتدثر بالثياب مضاد للتعري، فكان في قوله: (يا أيها المدثر (مع قوله: (قم فأنذر (والنذير الجاد يسمى العريان، تشاكل بين، والتئام بديع، وسماقة في المعنى، وجزالة في اللفظ" (2) .
وينوه أخيرا بالإعجاز الذي في كتاب الله، والذي مرده إلى نظم القرآن الكريم، وما فيه من سمو الكلام وجمال الاستعارة، فيقول: "وعرفوا من سماقة الكلام، وملاحة الاستعارة أنه معجز، فلم يتعاطوا له معارضة، ولا توهموا فيه مناقضة" (3) .
المبحث الخامس: قضايا نقدية عامة
عرض السهيلي لموضوعات نقدية كثيرة في كتابه، من ذلك:
أولا: الموازنة بين الشعراء
الموازنة بين الشعراء، ومعرفة مدى تقدم الواحد منهم على غيره، أو تقصيره دونه، أمر يعتبر من صميم عمل الناقد الأدبي، وقد مارس السهيلي في كتابه هذا اللون من النقد، فقد وازن بين قول حسان: (4)
__________
(1) ن حديث متفق عليه عن أبي موسى، انظر: مشكاة المصابيح، (1/53) .
(2) لروض الأنف، (2/48) .
(3) لمصدر السابق، (2/179) .
(4) لمصدر السابق، (4/82) .(13/499)
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... ... علي ومنهم أحمد المتخير
وبين قول أبي نواس في نفس المعنى، فقال: "البهاليل: جمع بهلول، وهو الوضيء الوجه مع الطول، وقوله: [منهم أحمد المتخير] : فدعا به بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم، وليس بعيب، لأنها ليست بإضافة تعريف، وإنما هو تشريف لهم حيث كان منهم، وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس:
كيف لا يدنيك من أمل ... ... من رسول الله من نفره
لأنه ذكر واحدا، وأضاف إليه، فصار بمنزلة ما عيب على الأعشى:
شتان ما يومي على كورها ... ... ويوم حيان أخي جابر
وكان حيان أسن من جابر، وأشرف، فغضب على الأعشى، حيث عرفه بجابر، واعتذر إليه من أجل الروي، فلم يقبل عذره، ووجدت في رسالة المهلهل بن يموت بن المزرع، قال: قال علي بن الأصفر (1) : وكان من رواة أبي نواس، قال: لما عمل أبو نواس:
* أيها المنتاب عن عفره *
أنشدنيها، فلما بلغ قوله:
كيف لا يدنيك من أمل ... ... من رسول الله من نفره
وقع لي أنه كلام مستهجن في غير موضعه، إذ كان حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه، ولا يضاف إلى أحد، فقلت له: أعرفت عيب هذا البيت؟ فقال: ما يعيبه إلا جاهل بكلام العرب، وإنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هذا الممدوح منه، أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر دين الإسلام:
ومازال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا تنال ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير" (2)
__________
(1) لخبر في الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، ص (345) ، وفيه: (أبو علي بن الأصفر) .
(2) لروض الأنف، (4/82) .(13/500)
فهنا نجد السهيلي يقدم حسانا على أبي نواس، ويلتمس له العذر بإضافة أحمد المتخير إلى آل هاشم، وذكر أنها إضافة تشريف، بخلاف أبي نواس الذي عيب بما عيب به الأعشى من قبله، ولكنه مع هذا ينقل في الآخر وجهة نظر أبي نواس فيما عيب عليه من قبل راويته ذاته، ورده على الراوية من خلال استشهاده بشعر حسان، وهذا يدل على منتهى الأمانة العلمية عند السهيلي، وتقديره لآراء الشعراء ضمن عملية النقد الأدبي.
وفي عرضه لسورة المسد، فرق السهيلي بين لفظ الجيد والعنق، لأن الأول للحلى، والثاني للأغلال، قال: "وقوله (في جيدها) (المسد: 5) ولم يقل في عنقها، والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الغل، أو الصفع، كما قال تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) (يس: 8) ، ويذكر الجيد إذا ذكر إذا ذكر الحلى أو الحسن، فإنما حسن هاهنا ذكر الجيد في حكم البلاغة، لأنها امرأة، والنساء تحلى أجيادهن، وأم جميل لا حلى لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها، فلما أقيم لها ذلك مقام الحلى ذكر الجيد معه، فتأمله فإنه معنى لطيف، ألا ترى إلى قول الأعشى:
* يوم تبدى لنا قتيلة عن جيد *
ولم يقل عن عنق، وقول الآخر:
* وأحسن من عقد المليحة جيدها *
ولم يقل عنقها، ولو قاله لكان غثا من الكلام، فإنما يحسن ذكر الجيد حيث قلنا، وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (آل عمران: 21) أي لا بشرى لهم إلا ذلك، وقول الشاعر:
* تحية بينهم ضرب وجيع *
أي: لا تحية لهم، كذلك قوله: قوله (في جيدها حبل من مسد) (المسد: 5) أي ليس ثم جيد يحلى، وإنما هو حبل المسد" (1) .
وهذا الكلام كان بمثابة تمهيد لعقد موازنات بين الشعراء في هذه القضية، تبدأ من الأعشى وتنتهي بالمولدين وما أضافوه في هذا المعنى، يقول السهيلي: "وأنشد شاهدا على الجيد قول الأعشى:
يوم تبدى لنا قتيلة عن جيد أسيل تزيينه الأطواق
__________
(1) لروض الأنف، (2/113) .(14/1)
وقوله: تزيينه أي تزيده حسنا، وهذا من القصد في الكلام، وقد أبى المولدون إلا الغلو في هذا المعنى، وأن يغلبوه، فقال في الحماسة حسين بن مطير: (1)
مبللة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
قال خالد القسري لعمر بن عبد العزيز: من تكن الخلافة زينته، فأنت زينتها، ومن تكن شرفته، فأنت شرفتها، وأنت كما قال مالك بن أسماء:
وتزيدين أطيب الطيب طيبا ... ... إن تمسيه أين مثلك أينا
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر: إن صاحبكم أعطى مقولا ولم يعط معقولا (2) " (3) .
ويعلل السهيلي سبب استهجان عمر بن عبد العزيز لكلام خالد القسري: فيقول: "وإنما لم يحسن هذا من خالد، لما قصد به التملق، وإلا فقد صدر مثل هذا المعنى عن الصديق، فحسن لما عضده من التحقيق والتحري للحق، والبعد عن الملق والخلابة، وذلك حين عهد إلى عمر بالخلافة، ودفع إليه عهده مختوما، وهو لا يعرف ما فيه، فلما عرف ما فيه رجع إليه حزينا كهيئة الثكلى، يقول: حملتني عبئا لا أضطلع به، وأوردتني موردا لا أدري: كيف الصدر عنه، فقال له الصديق: ما آثرتك بها، ولكني آثرتها بك، وما قصدت مساءتك، ولكن رجوت إدخال السرور على المؤمنين بك (4) " (5) .
ويتابع السهيلي مؤكدا أن الحطيئة سبك معنى كلام الصديق في نظمه، مستطردا إلى ذكر ما حصل من نقل لهذا المعنى إلى النسيب، وإلى الغلو فيه عند المتاخرين، فيقول: "ومن ههنا أخذ الحطيئة قوله:
ما آثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بها الأثر
__________
(1) نظر: شرح ديوان الحماسة المنسوب للمعري، تحقيق د. حسين محمد نقشة، (2/676) وورد في الشطر الأول من البيت الأول: [مخصرة الأطراف] . والبيتان في الموشح للمرزباني أيضا، ص (281-282) .
(2) لخبر في البيان والتبيين للجاحظ، (1/195) .
(3) لروض الأنف، (2/113-114) .
(4) ذا الخبر ذكره السهيلي، وبحثت عنه في مظان أخرى من كتب التاريخ ولم أجده فيها.
(5) لروض الأنف، (2/114) .(14/2)
وقد سبك هذا المعنى في النسيب عبد الله بن عباس الرومي، فقال:
وأحسن من عقد المليحة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرد
ومما هو دون الغلو وفوق التقصير، قول الرضي:
حليه جيده لا ما يقلده ... ... وكحله ما بعينيه من الكحل
ونحو منه ما أنشده الثعالبي:
وما الحلى إلا حيلة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفرا ... فحسبك لم يحتج إلى أن يزورا
وسمعت القاضي أبا بكر محمد بن العربي يقول: حج أبو الفضل الجوهري الزاهد ذات مرة، فلما أشرف على الكعبة ورأى ما عليها من الديباج تمثل:
ما علق الحلى على صدرها ... إلا لما يخشى من العين
تقول والدر على نحرها ... من علق الشين على الزين" (1)
وهذه الأمثلة التي ساقها السهيلي والموازنات التي أقامها بين الشعراء في قضية الجيد والعنق تدل على طول باعه في النقد، وعلى امتلاكه لذوق مرهف، بالإضافة إلى معرفة واسعة بتراث العرب الشعري، بيد أن ذهابه إلى أن المولدين هم الذين غلوا في المعنى الذي ساقه للأعشى من تزيين الأطواق للجيد، فعكسوا الأمر، وجعلوا الجيد يزين العقود، فهذا حكم فيه نظر، وذلك أن أصل هذا المعنى كله كما ذكر المرزباني هو قول امرئ القيس: (2)
ألم ترياني كلما جئت زائرا ... ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
والمولدون تبع لامرئ القيس في هذه المبالغة، بيد أنهم طوروا المعنى، ونقلوه من الطيب إلى الحلى، والخلافة، والنسيب، والكعبة، وغير ذلك.
ثانيا: الموقف من شعر المولدين:
ويعرض السهيلي لقول مطرود بن كعب الخزاعي: (3)
يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات ... يبكينه حسرا مثل البليات
__________
(1) لمصدر السابق، (2/114) .
(2) لموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمرزباني، تحقيق: علي محمد البجاوي، ص (204، 282) .
(3) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/164) .(14/3)
ويقول فيه: "وفيه الشعث الشجيات، فشدد ياء الشجي، وإن كان أهل اللغة قد قالوا: ياء الشجي مخففة، وياء الخلي مشددة (1) ، وقد اعترض ابن قتيبة على أبي تمام الطائي في قوله:
أيا ويح الشجيِّ من الخليِّ ... وويح الدمع من إحدى بَليّ
واحتج بقول يعقوب في ذلك، فقال له الطائي: ومن أفصح عندك: ابن الجرمُقانية يعقوب، أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول:
ويل الشجيِّ من الخليِّ فإنه ... ... وَصِب الفؤاد بشجوه مغموم
قال المؤلف: وبيت مطرود أقوى في الحجة من بيت أبي الأسود الدؤلي، لأنه جاهلي محكَّك، وأبو الأسود أو من صنع النحو، فشعره قريب من التوليد" (2) .
هنا يظهر أن أبا تمام متأثر بأبي الأسود الدؤلي، ولكن بقي السهيلي يرى في الشعر الجاهلي المثل الأسمى للشعر العربي، واستشهد به بما يؤيد وجهة نظر أبي تمام الطائي في تشديد ياء الشجي والخلي.
ثالثا: السرقات الشعرية
شغلت السرقات الشعرية النقاد القدامى والمحدثين، وهي من أهم موضوعات النقد الأدبي، وتبرز قدرة الشاعر وأصالته (3) ، وقد عرض لها السهيلي، من ذلك ما ذكره عند قول أنس بن زنيم الديلي يعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (4)
تعلم رسول الله أنك مدركي ... ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
قال: "ومعناه من أحسن المعاني، ينظر إلى قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في جبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
__________
(1) ن أمثال العرب: (ما يلقى الشجي من الخلي) بالتشديد على الياءين كما ورد في مجمع الأمثال للميداني، (2/273) .
(2) لروض الأنف، (1/164-165) .
(3) نظر: النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور، ص (57) .
(4) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/107) .(14/4)
فالقسيم الأول كالبيت الأول من قول النابغة، والقسيم الثاني كالبيت الثاني، لكنه أطبع منه وأوجز، وقول النابغة: كالليل، فيه من حسن التشبيه ما ليس في قول الديلي (1) ، إلا أنه يسمج مثل هذا التشبيه في النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نور وهدى، فلا يشبه بالليل، وإنما حسن في قول النابغة أن يقول كالليل، ولم يقل كالصبح، لأن الليل ترهب غوائله، ويحذر من إدراكه ما لا يحذر من النهار" (2) ، هنا يظهر تفريق السهيلي بين ما يجوز في حق الملوك من الوصف، ولا يجوز بحق الأنبياء، وكأنه يشير هنا إلى ضرورة مراعاة مقتضى الحال، فما يصلح ويحسن بممدوح ما، قد لا يحسن بغيره، وهذا من القواعد المنهجية للبلاغة العربية، وهو ما ينبغي للشاعر أن يتنبه إليه في الأخذ من غيره.
ويضيف السهيلي موضحا أخذ بعض شعراء الأندلس لمعنى أنس بن زنيم، فيقول: "وقد أخذ بعض الأندلسيين في هذا المعنى، فقال في هربه من ابن عباد:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... تشد بأقصاها عليّ الأناملا
فأين مفر المرء عنك بنفسه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا" (3)
ويبين السهيلي مصدر التشبيه في قول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي… فيقول: "وهذا كله معنى منتزع من القدماء، روى الطبري: أن منو شهر بن إيرج ... قال حين عقد التاج على رأسه في خطبة له طويلة: أيها الناس: إن الخلق للخالق، وإن الشكر للمنعم، وإن التسليم للقادر، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبا أو مطلوبا، ولا أقوى من طالب طلبته في يده، ولا أعجز من مطلوب هو في يد طالبه" (4) .
وذكر السهيلي قول الطائي: (5)
ظبي تقنصته لما نصبت له ... ... من آخر الليل أشراكا من الحلم
ثم انثنى وبنا من ذكره سقم ... ... باق وإن كان معسولا من السقم
__________
(1) نظر: أسرار البلاغة، للجرجاني، بتحقيق هـ. ريتر، ص (232-233) .
(2) لروض الأنف، (4/119) .
(3) لمصدر السابق، (4/119) .
(4) لمصدر السابق، (4/119) .
(5) لمصدر السابق، (4/117) .(14/5)
وعلق عليه ممتدحا له ومبينا أنه قد يكون مسترقا، يقول: "وقد أحسن في قوله: من آخر الليل، تنبيها على أنه سهر ليله كله، إلا ساعة جاء الخيال من آخره، فكأنه مسترق من قول حسان:
* وخيال إذا تقوم النجوم * " (1)
يلاحظ أن السهيلي لا يجزم بالسرقة، وإنما استخدم لفظ كأن، وهذا منتهى الدقة العلمية في إصدار الأحكام النقدية، والتي هي قائمة على الاستقراء والاستنباط، فهي مجرد اجتهاد لا أكثر، وهو أمر كان القاضي الجرجاني قد نبه إليه من قبل، حيث بين أن ما ذكره من سرقات المتنبي إنما كان استنادا إلى الظن لا اليقين (2) .
رابعا: الموقف من الشعر
__________
(1) لمصدر السابق، (4/117) .
(2) لوساطة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، ص (160) .(14/6)
يرى السهيلي أن الشعر كالنثر في الإباحة، وأن المذموم منه هو ما هجي به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد تحدث عن كراهة رواية أشعار الكفرة، فقال: "لكني لا أعرض لشيء من أشعار الكفرة التي نالوا فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شعر من أسلم وتاب، كضرار وابن الزبعرى، وقد كره كثير من أهل العلم فعل ابن إسحاق في إدخاله الشعر الذي نيل فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من اعتذر عنه، قال: حكاية الكفر ليس بكفر، والشعر كلام، فلا فرق بين أن يروى كلام الكفرة ومحاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وردهم عليه منثورا، وبين أن يروى منظوما، وقد حكى ربنا سبحانه في كتابه العزيز مقالات الأمم لأنبيائها، وما طعنوا به عليهم، فما ذكر من هذا على جهة الحكاية نظما أو نثرا، فإنما يقصد به الاعتبار بما مضى، وتذكر نعمة الله على الهدى، والإنقاذ من العمى، وقد قال عليه [الصلاة و] السلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خيرا له من أن يمتلئ شعرا) (1) ، وتأولته عائشة رضي الله عنها في الأشعار التي هجي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكرت قول من حمله على العموم في جميع الشعر، وإذا قلنا بما روي عن عائشة في ذلك، فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، وأما رواية اليسير منه على جهة الحكاية، أو الاستشهاد على اللغة، فلم يدخل في النهي، وقد رد أبو عبيد على من تأول الحديث في الشعر الذي هجي به الإسلام، وقال: رواية نصف بيت من ذلك الشعر حرام، فكيف يخص امتلاء الجوف منه بالذم؟ وعائشة أعلم، فإن البيت والبيتين والأبيات من تلك الأشعار على جهة الحكاية بمنزلة الكلام المنثور الذي ذموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فرق، وقول عائشة الذي قدمناه ذكره ابن وهب في جامعه، وعلى القول بالإباحة، فإن النفس تقذر تلك الأشعار، وتبغضها وقائليها في الله، فالإعراض عنها خير
__________
(1) واه مسلم، وفيه: (جوف رجل) . انظر: مشكاة المصابيح، (3/1355) .(14/7)
من الخوض فيها والتتبع لمعانيها" (1)
وهذا الموقف من السهيلي يدل على رؤية نقدية واعية لدور الشعر والنثر في حياة الناس الأدبية، فلا يكره الشعر مطلقا، ولا النثر كذلك، وإنما يكره إذا كان ترويجا للحملة الجاهلية ضد الدعوة الإسلامية، ومع هذا فهو لم يقل بحرمته، لأن ناقل الكفر ليس بكافر.
وعرض السهيلي بعد ذلك إلى الموقف من الرجز، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (2)
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقال في التعقيب عليه: "وهو كلام موزون، وقد تقدم الكلام في مثل هذا، وأنه ليس بشعر حتى يقصد به الشعر" (3) .
وفي موضع آخر عرض للرجز مرة أخرى، وبين استجازة قوله من النبي عليه الصلاة والسلام بلا قصد، لأن الرجز ليس بشعر كما سبق إذا لم يقصد به الشعر، يقول: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين رآهم: (الله أكبر، خربت خيبر) (4) فيه إباحة التفاؤل، وقوة لمن استجاز الرجز" (5) .
خامسا: الصدق في الشعر
يقف السهيلي مع الصدق في الشعر، وكان قد عرض لقضية الصدق في الشعر في قضية تتصل بالقوافي، ثم عرج من خلالها إلى قضية تتصل بالفواصل القرآنية، وذلك عند ذكر قول لبيد بين يدي النعمان بن المنذر: (6)
* نحن بني أم البنين الأربعة *
__________
(1) لروض الأنف، (3/27) .
(2) لمصدر السابق، (4/141) . والحديث في صحيح مسلم، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1649-1650) .
(3) لروض الأنف، (4/141) .
(4) ن حديث متفق عليه عن أنس، انظر: مشكاة المصابيح، (2/1151) .
(5) لروض الأنف، (4/58) .
(6) لروض الأنف، (3/238) .(14/8)
وقال في التعقيب عليه: " ... إنما قال: الأربعة، وهم خمسة، لأن أباه ربيعة قد كان مات قبل ذلك، لا كما قال بعض الناس: وهو قول يعزى إلى الفراء أنه قال إنما قال أربعة، ولم يقل خمسة من أجل القوافي، فيقال له: لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر، فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن، وأعجب من هذا أنه استشهد به على تأويل فاسد، تأوله في قوله سبحانه: (ولمن خاف مقام ربه جنتان ((الرحمن: 46) ، وقال: أراد جنة واحدة، وجاء بلفظ التثنية لتتفق رءوس الآي، أو كلاما هذا معناه (1) ، فصمي صمام!، ما أشنع هذا الكلام!، وأبعده عن العلم!، وفهم القرآن!، وأقل هيبة قائله أن يتبوأ مقعده من النار، فحذار منه حذار، ومما يدلك أنهم كانوا أربعة، حين قال لبيد هذه المقالة، أن في الخبر ذكر يتم لبيد وصغر سنه، وأن أعمامه الأربعة استصغروه أن يدخلوه معهم على النعمان حين همهم ما قاولهم به الربيع بن زياد، فسمعهم لبيد يتحدثون بذلك، ويهتمون له، فسألهم أن يدخلوه معهم على النعمان، وزعم أنه سيفحمه، فتهاونوا بقوله، حتى أخبروه بأشياء مذكورة في الخبر، فبان بهذا كله أنهم كانوا أربعة، ولو سكت الجاهل لقل الخلاف والحمد له" (2) .وهو بهذا الموقف يتفق مع الشيخ عبد القاهر الجرجاني (3) ، الذي أكد أنه يقف مع قضية الصدق الذي ينصره العقل، حيث قال: "وما كان العقل ناصره، والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، والمنيع مناكبه" (4) .
سادسا: استدراكه على النحويين
__________
(1) ص كلام الفراء كما ورد في معاني القرآن (3/118) كالتالي: "ذكر المفسرون أنهما بستانان من بساتين الجنة، وقد يكون في العربية جنة تثنيها العرب في أشعارها… وذلك أن الشعر له قواف يقيمها الزيادة والنقصان، فيحتمل ما لا يحتمله الكلام".
(2) لروض الأنف، (3/238-239) .
(3) نظر: أسرار البلاغة، بتحقيق هـ. ريتر، ص (241-245) .
(4) لمصدر السابق، ص (251) .(14/9)
كثيرا ما يسوي النحويون بين الصيغ الصحيحة في الكلام، ولكن تبقى بعض الصيغ مقبولة أكثر من بعضها الآخر من الناحية البلاغية، وهو أمر لم يلق إليه النحويون بالا، مما حدا بالسهيلي أن ينبه إلى ذلك، وأن يلتفت إلى الفروق الدقيقة في التعبير بين صيغتي المصدرين: مفعل وفعل من حيث هما مفردتان، ومن حيث استخدامهما في التركيب بالجملة، ويبين أن معرفة دقائق استخدام الصيغ النحوية في التعبير الأدبي هو المدخل إلى إعجاز القرآن، وذلك حين قال تعقيبا على قول حسان: (1)
* تبلت فؤادك في المنام خريدة *
__________
(1) لروض الأنف، (3/128) .(14/10)
"يجوز أن يكون المراد بالمنام النوم، وموضع النوم ووقت النوم…ولا فرق عند النحويين بين مفعل في هذا الباب وفعل، نحو: مضرب وضرب، ومنام ونوم، وكذلك هما في التعدية سواء، نحو: ضرب زيد عمرا، ومضرب زيد عمرا، وأما في حكم البلاغة والعلم بجوهر الكلام، فلا سواء، فإن المصدر إذا حددته قلت: ضربة ونومة، ولا يقال: مضربة ولا منامة، فهذا فرق، وفرق آخر: تقول: ما أنت إلا نوم، وإلا سير، إذا قصدت التوكيد، ولا يجوز ما أنت إلا منام وإلا مسير، ومن جهة النظر أن الميم لم تزد إلا لمعنى زائد، كالزوائد الأربع في المضارع، وعلى ما قالوه تكون زائدة لغير معنى. فإن قلت: فما ذاك المعنى الذي تعطيه الميم؟ قلنا: الحدث يتضمن زمانا ومكانا وحالا، فالمذهب عبارة عن الزمان الذي فيه الذهاب، وعن المكان أيضا، فهو يعطي معنى الحدث وشيئا زائدا عليه، وكذلك إذا أردت الحدث مقرونا بالحالة والهيئة التي يقع عليها، قال الله سبحانه: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار ((الروم: 23) فأحال على التفكر في هذه الحالة المستمرة على البشر، ثم قال في آية أخرى: (لا تأخذه سنة ولا نوم ((البقرة: 255) ، ولم يقل منام لخلو هذا الموطن من تلك الحالة، وتعريه من ذلك المعنى الزائد في الآية الأخرى، ومن لم يعرف جوهر الكلام لم يعرف إعجاز القرآن" (1) .
وفي استدراك آخر على النحاة يرى السهيلي أن كلمة الحجيج اسم للجمع وليست جمعا لحاج، لأنها على صيغة فعيل، ولو كان مفردها حاج لجاز تصغيره بالقياس على غيره مثل كلمة عبد التي هي مفرد عبيد، ويبين من خلال الكتاب العزيز صدق دعواه، ذكر ذلك تعقيبا على قول علي بن أبي طالب: "سمعت من يحدث عن عبد المطلب أن قيل له حين أمر بحفر زمزم (2) :
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر ... يسقي حجيج الله في كل مَبَر
... ... ليس يخاف منه شيء ما عمر".
__________
(1) لروض الأنف، (3/128-129) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (1/168) .(14/11)
حيث قال: "الحجيج جمع حاج، وفي الجموع على وزن فعيل كثير كالعبيد، والبقير، والمعيز، والأبيل، وأحسبه اسما للجمع، لأنه لو كان جمعا له واحد من لفظه، لجرى على قياس واحد كسائر الجموع، وهذا يختلف واحده، فحجيج واحده حاج، وعبيد واحده عبد، وبقير واحده بقرة، ومعيز واحده ماعز، إلى غير ذلك، فجائز أن يقال إنه اسم للجمع، غير أنه موضوع للكثرة، ولذلك لا يصغر على لفظه، كما تصغر أسماء الجموع، فلا يقال في العبيد: عُبيد، ولا في النخيل: نخيل، بل يرد إلى واحده، كما ترد الجموع في التصغير، فيقال: نُخيلات وعُبيدون، وإذا قلت: نخيل أو عبيد، فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس، قال الله سبحانه: (وزرع ونخيل ((الرعد: 4) ، وقال: (وما ربك بظلام للعبيد ((فصلت: 46) ، وحين ذكر المخاطبين منهم قال: العباد، وكذلك حين ذكر المثمر من النخيل: (والنخل باسقات ((ق: 10) ، وقال: (أعجاز نخل منقعر ((القمر: 20) ، فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام، وأما في مذهب أهل اللغة، فلم يفرقوا هذا التفريق، ولا نبهوا على هذا الغرض الدقيق" (1) .
سابعا: اللفتات الجمالية:
يشير السهيلي خلال شرحه للسيرة إلى كثيرة من اللفتات الجمالية في البيان العربي، ويستطرد إلى ذكر النظائر الأسلوبية للتعابير الجمالية، ويدعو إلى تأملها، والاستمتاع بها، مما يسهم في تربية الحاسة الفنية عند الباحث والدارس على حد سواء، من ذلك ما ذكره عند قول عباس بن مرداس: (2)
ما بال عينك فيها عائر سهر ... مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر
قال السهيلي في التعقيب عليه: "الحماطة من ورق الشجر: ما فيه خشونة وحروشة… والعائر: كالشيء يتنخس في العين كأنه يعورها، وجعله سهرا وإنما السهر الرجل، لأنه لم يفتر عنه، فكأنه قد سهر، ولم ينم، كما قال الآخر في وصف برق:
__________
(1) لروض الأنف، (1/171) .
(2) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/133)(14/12)
حتى شئاها كليل موهنا عمل ... باتت طرابا وبات الليل لم ينم
شئاها: شاقها، يقال: شاء وشاءة بمعنى واحد، أي: شاقه، وأنشد:
* ولقد عهدت تشاء بالأظعان *
فتأمله فإنه من بديع المعاني" (1) .
ولا ريب أن في البيت الأول استعارة، حيث استعار لفظ العائر للألم الذي يؤذي العين على سبيل المبالغة، وأسند إليه السهر على طريقة المجاز العقلي، وإنما السهر صاحب العين، ثم أتبع الشاعر الشطر الأول من البيت بذكر تشبيه في الشطر الثاني يؤكد المعنى الذي ساقه في الشطر الأول، والبيت كله بما فيه من الصور الحسية تجسيد لمعاناة الشاعر قالها على سبيل التجريد، ونحو هذه المعاناة ما ورد في معاناة شاعر آخر نسب السهر والشوق إلى البرق، وإذا كان البرق مشتاقا فكيف بالإنسان الذي يرقبه؟، إنها جماليات البيان العربي، وعبقرية اللغة العربية التي يجيد فيها الشعراء التعبير عما في نفوسهم بمختلف الأساليب البليغة، والإشارة إلى ما في أساليبهم من مكنون الجمال هو لمح من العبقرية أيضا عند الناقد العربي، لذلك اكتفى السهيلي بدعوة قارئه إلى التأمل بالجمال الخالد في البديع من المعاني، بعد أن ملكه مفتاح الجمال، بدون تفصيل وتطويل، معتمدا على فطنة القارئ ولمح العبقرية في قراءة الجمال عند من يملك حسا أدبيا مرهفا من أبناء العرب.
ثامنا: التضمين
وهو من عيوب القوافي عند علماء العروض والنقاد (2) ، حيث تتعلق قافية البيت بالذي يليه، فلا يمكن الفصل بينهما، وقد ذكر السهيلي مصطلح التضمين، عقب قول حسان يبكي جعغر بن أبي طالب رضي الله عنه: (3)
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... ... خير البرية كلها وأجلها
رزءا وأكرمها جميعا محتدا ... ... وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل ... ... كذبا وأنداها يدا وأقلها
__________
(1) لروض الأنف، (4/146) .
(2) نظر: سر الفصاحة، لابن سنان الخفاجي، ص (187) .
(3) لسيرة النبوية لابن هشام، (4/76) .(14/13)
فقال: "وذكر أبيات حسان وفي بعضها تضمين، نحو قوله: وأذلها، ثم قال في أول بيت آخر: للحق، وكذلك قال في بيت آخر: وأقلها، وقال في الذي بعده: فحشا، وهذا يسمى التضمين، وذكر قدامة في كتاب نقد الشعر أنه عيب عند الشعراء (1) ، ولعمري إن فيه مقالا، لأن آخر البيت يوقف عليه، فيوهم الذم، في مثل قوله: وأذلها، وكذلك: وأقلها، وقد غلب الزبرقان على المخبل السعدي، واسمه كعب بكلمة قالها المخبل أشعر منه، ولكنه لما قال يهجوه:
وأبوك بدر كان ينتهز الخصى ... وأبي الجواد ربيعة بن قتال
وصل الكلام بقوله: وأبي، وأدركه بهرأ وسعلة، فقال له الزبرقان: فلا بأس إذا، فضحك من المخبل وغلب عليه الزبرقان، وإذا كان هذا معيبا في وسط البيت، فأحرى أن يعاب في آخره، إذا كان يوهم الذم ولا يندفع ذلك الوهم إلا بالبيت الثاني، فليس هذا من التحصين على المعاني، والتوقي للاعتراض" (2)
__________
(1) طلق قدامة على التضمين، مصطلح المبتور، وهو عنده: (أن يطول المعنى عن أن يحتمل العروض تمامه في بيت واحد، فيقطعه بالقافية ويتمه في البيت الثاني) . وقد تحدث عنه في الحديث عن عيوب ائتلاف المعنى والوزن معا، انظر: نقد الشعر، بتحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ص (209) .
(2) لروض الأنف، (4/83-84) .
المصادر والمراجع
أدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المطبوعات العربية، بيروت.
أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/1983م.
الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السادسة، 1984م.
الإيضاح في علوم البلاغة، للقزويني، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403هـ/1985م.
البداية والنهاية لابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الثانية، 1411هـ/1990م.
البيان والتبيين، بتحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الرابعة، 1395هـ/1975م.
تاريخ الخلفاء، للسيوطي، دار الفكر، بيروت.
تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي، تحقيق د. علي محمود مقلد، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1986م.
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الحمن بن أبي الحسن الخثعمي، السهيلي، قدم له وعلق عليه: طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/1989م.
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للشامي، تحقيق د. مصطفى عبد الواحد، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1394هـ/1974م.
سر الفصاحة، لابن سنان الخفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ/1982م.
سنن أبي داود، إعداد عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد، دار الحديث، حمص، الطبعة الأولى، 1389هـ/1969م.
السيرة النبوية لابن هشام، قدم له وعلق عليه: طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/1989م.
صحيح البخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، مؤسسة علوم القرآن، عجمان، الطبعة الثالثة، 1407هـ/1987م.
صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثثة، 1417هـ/1996م.
شرح ابن عقيل بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي.
شرح ديوان الحماسة المنسوب للمعري، تحقيق د. حسين محمد نقشة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1411هـ/1991م.
شرح المفصل، لابن يعيش، عالم الكتب، بيروت.
شروح التلخيص (عروس الأفراح) للسبكي، مكتبة السرور، بيروت، (مصورة عن طبعة الحلبي) .
فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الفكر.
القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ/1987م.
الكتاب، لسبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1977م.
كتاب التبيان في المعاني والبديع والبيان، للطيبي، بتحقيق د. هادي عطية الهلالي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى،
1407هـ/1987م.
كتاب دلائل الإعجاز، للجرجاني، بتحقيق محمود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة.
كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، للعلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ/
1982م.
الكشاف للزمخشري، رتبه مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406هـ/1986م.
مجمع الأمثال للميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة، 1402هـ/1981م.
معاني القرآن، للفراء، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/1983م.
المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، 1405هـ/1985م.
الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة.
نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى،
1399هـ/1979م.
النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة.
الوساطة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.(14/14)
كما عرض السهيلي إلى بحور الشعر كثيرا في شرحه، وأبدى رأيه في صنيع الشعراء وهفواتهم العروضية أحيانا.
الخاتمة:
استعرضت في هذا البحث حياة السهيلي ومنهجه في كتابه الروض الأنف، وعرضت للقضايا البلاغية المتعلقة بعلم المعاني والبيان والبديع، ثم تناولت طرفا من حديثه عن البلاغة القرآنية وإعجاز القرآن، وكذلك من حديثه عن البيان النبوي، وختمت البحث بذكر بعض القضايا النقدية التي عرض لها السهيلي، وأخلص من هذا البحث إلى تقرير الآتي:
أولا: إن السهيلي بذلا جهدا لا بأس به في الجانب البلاغي في شرحه لسيرة ابن هشام. ولكنه ابتعد إلى حد كبير عن المصطلحات البلاغية المتشعبة، فهو يكتفي مثلا بذكر مصطلح التشبيه أو الاستعارة دون ذكر التشعيبات الكثيرة لهذه المصطلحات.
ثانيا: يمتلك السهيلي حس الناقد ومقوماته، وله اعتداد بشخصيته، فهو يرد أحيانا على النحاة بمنهجية علمية، وأسلوب ينم عن معرفة واسعة فيما يخوض فيه، ويتخذ لنفسه الرأي الصحيح.
ثالثا: في كتاب السهيلي ذخر علمي وأدبي وبلاغي للراغبين بهذه العلوم، لذلك أرى أنه بحاجة إلى التحقيق العلمي وإخراجه من جديد بما يليق مع صاحب السيرة عليه الصلاة والسلام، ولا سيما أن مراكز التحقيق والنشر للتراث العربي والإسلامي منتشرة بحمد لله في عالمنا العربي، والطبعة القديمة للروض الأنف كانت ملائمة لعصرها، وينبغي إعادة إصدار هذا الكتاب وفق منهجية تحقيق التراث العلمي، لينتفع منه الباحثون والطلاب على حد سواء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(14/15)
الفَلْسَفة الجَمَاليّةُ
عند حمزة شحاتة
الدكتور صالح سعيد الزهراني
الأستاذ المشارك بقسم البلاغة والنقد
كلية اللغة العربية – جامعة أم القرى
ملخص البحث
تعني هذه الدراسة ببيان أنَّ الفلسفة الجمالية هي رؤية جمالية للفن تنبثق من تصور فلسفي خاص للإنسان والكون والحياة، وبهذا تتجاوز الإدراك والتفكير الجمالي إلى إقامة منظومة خاصة.
وعرضت لماهية هذه الفلسفة وآلياتها، وممجالاتها عند أحد أهم رواد الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية وهو " حمزة شحاته " كما تجلت في شعره ورؤاه النقدية والفكرية، ورسائله، ومحاضراته الشهيرة: الرجولة عماد الخلق الفاضل، وكشفت عن ثراء المضامين التي تنطوي عليها، مع إشارة موجزة إلى أبرز الخصائص الأسلوبية التي تبرز في أدب حمزة على اختلاف أجناسه.
* * *
مقدمة:
1/1 - يمثّل “ حمزة شحاتة ” قمة فكرية كان يقول عنها عزيز ضياء: إنها عرفت ولم تكتشف (1) . وعدم اكتشاف خبايا هذه القمة مع شموخها مردّه “ إلى غرابة الجوهر ونفاسته ”. فحمزة شحاتة غرائبي في كل شيء، غرائبيٌ وجوهري في حياته، وفي فقهه للواقع، وإدراكه لكنه الحياة والأشياء والكائنات، وبحثه عن الجوهر النادر في الأفكار والأشياء، وفي شعريته الخلاّقة، وفلسفته العميقة، فقد اجتمع له من الخصائص مالم يجتمع لغيره من روّادنا، وصُنّاع شهودنا الثقافي، من عبقرية الفنان، وعظمة الفيلسوف، ونقاء الإنسان، وشرف المثقف العضوي.
__________
(1) حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف، عزيز ضياء، الرياض: المكتبة الصغيرة، الطبعة الأولى، 1397 هـ / 1977 م، ص 5.(14/16)
وحمزة شحاتة لم ينل ما يستحقه من البحث الجادّ الذي يضعه في مكانه اللائق به في سياقنا الثقافي، مع وجود دراسات رائدة وجادة عن شعره ونثره، كدراسة عزيز ضياء “ حمزة شحاتة قمّة عرفت ولم تكتشف ” ودراسة عبد الله عبد الجبّار التي قدّم بها كتاب حمزة شحاتة “ حمار حمزة شحاتة ” الذي نشره عبد الحميد مشخص، ودراسة الدكتور عبد الله الغذامي المميّزة “ الخطيئة والتكفير.. ”، وكتاب عبد الفتاح أبو مدين “حمزة شحاتة ظلمة عصره”، ودراسته الموسومة ب“ حمزة شحاتة المفكر والأديب” التي نشرت ضمن بحوث المؤتمر الثاني للأدباء السعوديين المنعقد بجامعة أم القرى عام 1419 هـ. إلاّ أن هذه الدراسات لم تستوعب “ المنجز الثقافي ” لحمزة شحاتة؛ لأنها لم تكن ترمي إلى ذلك، وإنما كانت تعمد إلى البحث في جزئيات من ذلك المنجز، ولعلّ الله يقيظ له باحثاً من أولي العزم يستطيع نشر أعماله نشراً دقيقاً يجنّبها التصحيف والتحريف، ويبعثها من دوائر النسيان، ويقدّم لنا صورة متكاملة عن الرجل مفكراً ومبدعاً وإنساناً.(14/17)
1/2 - أما هذه الدراسة فهي معنّية بالفلسفة الجماليّة عند حمزة شحاتة، ماهيّتها، وآلياتها، ومجالاتها، وهي فلسفة خفية تنمّ عن عقل فاحص، ومنطق متماسك، وبيان رفيع. ولم تحظ هذه الفلسفة باستقراءٍ دقيق يكشف عنها، ويضعها في سياقها الملائم لها، لاسيّما وأنها مبثوثة في أدب حمزة وشعره، الأمر الذي يجعل من لمّ شتاتها، وتحديد مجالاتها، وآلياتها مسألة في غاية الأهميّة، وستتوسل هذه الدراسة بالمنهج الا نطباعي الذي يميل إلى التحليل والاستنباط، وقد عمدت إلى جمع نصوص حمزة شحاتة، وتصنيفها بغض النظر عن جنسها الأدبي؛ لأن الهدف الوقوف على مضامين هذه الفلسفة، أما الخصوصيّة الفنية، فإنَّ تتبعها لا يمكن الوفاء به في مثل هذه الدراسة، نظراً لتعدّد الأجناس التي كان يكتب بها حمزة شحاتة، ولكل جنس أدبي خصوصيّته الفنية، ومع كل هذا حاولت أن أقدم في نهاية الدراسة أبرز خصائص الأسلوب الشحاتي كما يتجلى في أدبه على شيءٍ من الإجمال، وهو ما أنوي القيام به في دراسة خاصة بمشيئة الله.(14/18)
1/2 - “ والجماليّة ” تنحصر عند كثير من علماء الجمال في البحث في “ ظواهر الفن ” (1) ولا تتجاوز ذلك إلى ما سواه من نشاطات الإنسان، ولكنها عند آخرين لا تقف عند حدود الفن، وإنما تتخطاه إلى كل شيء جميل ((فالجمالية بالتالي، لا تستهدف الفن فحسب، بل تتعداه إلى الطبيعة، وبصورة عامة، إلى جميع كيفيات الجمال)) (2) . فالجمال كما يكون في الفن يكون في مصدر الفن الإنسان والطبيعة، والجمال معناه: الحسن والبهاء فهو ((يقع على الصور والمعاني، ومنه الحديث: إن الله جميل يحب الجمال، أي حسن الأفعال كامل الأوصاف)) (3) .
والإدراك الجمالي لا يرقى إلى درجة “ الفلسفة الجماليّة ” إلاّ عندما يتهيأ للمفكر رؤية جمالية للفن تتأسس على رؤية فلسفية شاملة للكون والإنسان والحياة ((إن الجمالية هي النظرة الفلسفية إلى الفن وقضايا الإبداع عامة. وأما ما دونها من نظرات أو تأملات في الفن فليست تدخل في نطاق الجماليّة بالمعنى العلمي للكلمة، وإن تكن مراحل أولى لازمة في تكون الجماليّة وتطورها نحو التكامل الفلسفي وارتباطها بشمولية الفلسفة ومنهجيتها)) (4) .
__________
(1) مباديء في نظرية الشعر والجمال، أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، حائل: النادي الأدبي بمنطقة حائل، ط1، 1418 هـ، ص 53.
(2) علم الجمال، دني هويسمان، ترجمة: ظافر الحسن، بيروت: منشورات عويدات، ط4، 1983 م، ص 196.
(3) لسان العرب، ابن منظور الإفريقي، القاهرة: دار المعارف “ مادة جمل ”.
(4) مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، الدكتور ميشال عاصي، بيروت: دار العلم للملايين، ط1، 1974 م، ص 17.(14/19)
والإدراك الجمالي عند حمزة شحاتة يرقى إلى درجة “ الفلسفة الجمالية ” لاستناده على رؤية فلسفية شاملة للعالم بكل مكونّاته، فرؤيته الجماليّة رؤية متماسكة ترتبط فيها النتائج بالأسباب ارتباطاً دقيقاً.ولم يقف حمزة في تأملاته عند “ الجمال الأدبي ” وإنما تخطاه إلى “ الجمال الكوني ” الأمر الذي يؤكد أن له فلسفة جمالية يفسر من خلالها الكون والكتابة، وسيتم استجلاء هذه الفلسفة من خلال الحديث عن المحاور الآتية:
- مفهوم الجمال.
- الفلسفة الجمالية الآليات والخصائص.
- مجالات الفلسفة الجمالية.
أ - جماليات البيان.
ب - جماليات الإنسان.
ج - جماليات المكان.
د - جماليات الحيوان.
هـ - جماليات الحياة.
1/4- كانت محاضرة حمزة شحاتة “ الرجولة عماد الخلق الفاضل ” التي ألقاها في جمعية الإسعاف بمكة المكرمة عام 1359 هـ حدثاً ثقافياً هزّ الواقع الثقافي هزّاً عنيفاً، لما اشتملت عليه تلك المحاضرة من رؤى نافذة، وأفكار عميقة وجريئة، حفلت بالحوار الجاد الذي أثمر ستّ مقالات في “ الجمال والنقد” نشرت بجريدة “ صوت الحجاز ” عام 1359 هـ. تشكل مع ما نجده في شعره ومقالاته ورؤاه الفلسفية التي جمعها عبد الحميد مشخص ورسائله إلى ابنته شيرين “ فلسفة جمالية ” نحاول أن نكشف عن ماهيتها وآلياتها ومجالاتها في هذه الدراسة.
ماهيّة الجمال:
تعددّت تعريفات الجمال عند الفلاسفة حتى ضاع معها الجمال، فلا يزداد القارئ إمعاناً فيها إلاّ ازداد بالجمال جهلاً؛ لأن الجمال يستعصي على الحصر والتحديد فهو إحساس داخلي ينبثق من داخل النفس الإنسانية، أكثر من كونه هيئة محسوسة.(14/20)
قد يكون للجمال مواصفات شكليّة، لكنَّها تختلف من متلقٍ إلى آخر باختلاف الثقافة والخبرة، ولهذا لا يكاد يجمع الناس على مفهوم محدّد للجمال، لأن الأذواق مختلفة، ولهذا في البدء يتساءل حمزة شحاتة عن ماهية الجمال فيقول: ((والجمال في ذاته ما هو؟ أهو تجاوب القسمات، واتساق الملامح، واكتمال الانسجام، أم هو معان مكنونة تعبّر عنها ظواهره البادية؟ .
إن الجمال جمالٌ بما تولّد النفوس من معانيه، ونقيس من مشابهه ونتخيّل من دلائله وإشاراته، لا بما يلقاها به من حدود وزخرف، وإنما هو جمال بما يثير فيها من بهجة، ويطلق من أصداء، ويحبو من حريّة وخصب فهل تبقى معانيه حيّة، وتأثيره دائماً على تغيّر القسمات والملامح وخصب وانطفاء لمعتها البهيجة؟)) (1) .
فالجمال ليس في “ صور الأشياء ” وإنمّا في “ الشعور بصور الأشياء ” ولهذا يختلف “ الموقف الجمالي ” لدى المتأملين باختلاف شعورهم، وتلوّن أحاسيسهم ((فالمعاني تُنسب إلى مظاهر الوجود من قبيل التغليب، وإلا فهي في حقيقتها معاني أنفسنا، وصور أفكارنا ومشاعرنا، وتأثيراتنا، وهب أنني رجلٌ “ أكمه الذوق ” فما تكون معاني هذه الصور في نفسي؟
أو هب أنني فلاّح يقضي حياته بين حقوله وعلى ضفاف جداولها المنسابة فتكون معانيها في نفسي، ودخائل فكري هذا الجمال المعبّر الأخاذ الذي يحسه الشاعر ويساجله، ويناغيه العاشق وينافثه، ويحدثه الفيلسوف، ويستنطقه؟؟ أم أنها تكون عندي رمز الكد وضرورة الإنتاج والنصب للعيش وضروراته القاهرة)) (2) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة، حمزة شحاتة، الرياض: دار المريخ، ط1، 1397 هـ / 1977 م، ص 86.
(2) المرجع نفسه ص 67، 68.(14/21)
إنّ ((الجدول المترقرق، والحقل المهتز، والنسمة الطليقة، والجبل القائم، والكوكب المتألّق، والبدر المشرق، والليل الساجي)) مظاهر جمالية لكن جمالها ليس في ذاتها، وإنّما فيما تولّده النفوس من معاني تلك المظاهر. ولذلك النفس العقيم التي لا تنجب معاني جمالية، لا تدرك الجمال، ولا تعرف كنهه، إما لعجز في حسها الجمالي، وإما لما يقيمه الإلف بينها وبين الأشياء من حجب كالذي وجدناه عند الفلاح الذي ألف مظاهر الطبيعة من حوله، ففقد القدرة على توليد معاني الجمال.
هذه النفوس التوّاقة ((دائمة البحث عن الجديد، ولهذا لا تقف في إدراكها الجمالي عند حد، ولا ترضى بقيم جمالية ثابتة، فهي متجددّة في تأملها، كتجدد الحياة التي لا تتوقف، من هنا تفقد الأشياء الجميلة قيمتها عند هذه النفوس حين تكتشف أسرارها ونمنماتها الخفيّة، ويترامى بها الولع الجمالي إلى البحث عن أسرار جديدة تفضي بها إلى آفاق لا حدّ لها وهذا ما عبّر عنه شحاتة في محاضرته الشهيرة فقال: ((وإدمان النظرة إلى صورة جميلة، يفقدها شيئاً من تأثيرها القوي كلمّا تجدّد إليها النظر المشغوف، وارتوى منها الحس المفهوم، حتى تفقد مقدرتها على التأثير والأداء.
وإنك لتعجب بالمنظر يفتنك، ويلقاك بألف معنى، أول ما تلقاه فما تزال نفسك دائبة في تحليل معانيه وإذابتها، حتى تنتهي بها إلى الإصفاء والإفلاس)) (1) .
__________
(1) الرجولة عماد الخلق الفاضل، حمزة شحاتة، جدة: تهامة، ط1، 1401 هـ / 1981 م ص 25.(14/22)
هذه المقولة “ الناسفة ” أثارت جدلاً في الوسط الثقافي وقت ظهورها وكان الأستاذ عبد الله عريف أوَّل من اختلف معها - فيما أعلم - فكتب مقالاً مطوّلاً في جريدة “ صوت الحجاز ” بعنوان “ ضريبة الإعجاب ” ذهب فيه إلى أن الإصفاء والإفلاس قد يصحّ في منطق الفكر - بطريق ما - في أجزاء بسيطة من واقع الحياة، لكنه لا يصح في واقع الحياة بصورها، وواقع النفس بمشاعرها وأحاسيسها (1) .
“ الإصفاء والإفلاس ” يكون ((عندما تفقد الصورة الجميلة جمالها. فقداناً ذاتياً يسلبها جمالها، لا فقداناً شعورياً يحسه الناظر إلى تلك الصورة. وأحسب أن أساس هذه النظرة التي قعّد - بتشديد العين - لها الأستاذ هذه القاعدة، إنما هي الصورة الجميلة في الإنسان، وما فقد الجمال الإنساني - في الإنسان الواحد - تأثيره، إلا لأنه لم يعد جمالاً يملأ النفس، ويروي الحس المنهدم، فقد أصيب بالفقدان الذاتي السالب، ولو ضمن لنفسه الاستدامة لظل أثره قوياً فعّالاً)) (2) .
“ فالجمال الإنساني ” هو الذي يفقد تأثيره عندما ترتوي منه النفس، أما “ الجمال الكوني ” و “ الجمال الفكري ” و “ الجمال اللغوي ” فإن إدمان تأملها لا يفضي بها إلى “ الإصفاء والإفلاس ”.
فرقعة السماء، والحقول، وحكم الشعر ودلالات الجمال، والحب والإيمان لاتزال النفوس متعلقة بها رغم إدمان النظر فيها حتى استحالت حقيقة علمية في كهوف اللاشعور (3) .
إنّ إدمان النظر في الجمال عند - عبد الله عريف - يقلّل من أثره لكنه لا يدفع به إلى الإصفاء، والإفلاس كما ذهب شحاتة (4) .
__________
(1) جريدة صوت الحجاز 2 صفر 1359 هـ الموافق 11 مارس 1940 م، ص 3.
(2) المرجع نفسه ص 3.
(3) نفسه ص 3.
(4) نفسه ص 3.(14/23)
حمزة شحاتة يشترط في الأثر الجمالي “ الجدّة ” و“ التجدّد ” والإفضاء بأسرار لم تعرف من قبل، وعبد الله عريف يذهب إلى أن الصورة الجميلة ليس شرطاً أن تكون جديدة جدة مطلقة لتحدث تأثيراً، ((بل لابد لفهمها والإعجاب بها من معلومات قديمة ثابتة، وبذلك يتمّ تداعي الجمال والإعجاب أمام الصورة الجميلة)) (1) .
ويقدم عبد الله عريف تجربة تدل على صحة الدعوى التي يدعيها فيقول: ((كتاب جميل نشرته أمام ثلاثة من عمال المطبعة لأرى أثر هذه الصورة الجميلة “ الكتاب ” في نفوسهم، فأسرع عامل الصف يحدثني عن إتقان صف الحروف وجمالها، ولم يعجب بتجليده أو طبعه، أو على الأقل لم يحدثني عنهما، ومثله فعل عاملا التجليد والطبع فحدثني كلّ منهما عن معرفته أو معلوماته القديمة ... )) (2) .
فالعمال الثلاثة أعجبوا بما يمتلكون عنه رصيداً ثقافياً سابقاً.
ويعود حمزة شحاتة بوحي من هذه المقالة التي كتبها عبد الله عريف ليشرح موقفه الجمالي، ويكشف عيوب الواقع الثقافي، ويرسم شقاء المفكر الواعي وغربته في واقع ثقافي تيبست مفاصله، واستبدت به الشيخوخة، حين يفتح المفكر والمبدع قلبه بين يدي من يتوّسم فيه القدرة على المشاركة الوجدانية، فإذا بلغ الغاية من حديثه، وجد البون شاسعاً، والرؤى ينكر بعضُها بعضاً.
__________
(1) نفسه ص 3.
(2) نفسه ص 3.(14/24)
الحياة في منظور حمزة شحاتة - تحتاج إلى كشف دائم لنقف على حقيقتها، من هنا فهو لا يطمئن إلى وعيه بها، ولا يرضى من الآخرين الثقة في أفهامهم الهينة لحقيقتها، والإحساس بجمالها وقيمتها وإن كان أكثر الناس هذا سبيلهم في فقه الحياة ((وأكثر الناس مطمئنون إلى حياتهم وإلى مذاهبهم الهينة في فهمها، وتفسير قوانينها، والإحساس بالجمال والقبح فيها وحريصون على أن تبقى لهم الفرحة، وتدوم المتعة بها كأنما هم في جلسة المتفرج الهاديء، أو المفكر السائم، المنصرف عما في الحياة من جد ولهو، بما في نفسه من طمأنينة وارتياح، أو فتور وملل. فما يسر من كانت هذه حاله أن يقتحم عليه خلوته الناعسة الكليلة، أديب تسبقه الطبول إيذاناً بإشهار الحرب على الجمال وتجريده ورج جوانبه)) (1) .
ولهذا كان “ الشك في العقيدة الجمالية ” و “ إقلاق النظر العام ” استراتيجية فكرية يحرص على تبنيها حمزة شحاتة في كل ما يكتب مخالفاً أعراف “ ثقافة الديكور ” و “ أدب التلميع ” ((وشأن الأديب في العرف أن يضاعف محاسن الحياة، ويزيد الشعور بمسرّاتها، لا أن يمسخ صورها الجميلة ويهدمها، ولكن هل يسع كل أديب أن يكون هذا مذهبه؟ فذاك حيث ألقى الناس كلما لقيتهم بجديد هو لغة الهدم، والبعثرة، والإقلاق في نفوسهم ومعتقداتهم الفكرية، ولغة البناء في منطقِ فكري واعتقادِه)) (2) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 76.
(2) المرجع نفسه ص 76.(14/25)
الحياة في - فلسفة حمزة شحاتة الجمالية - متجدّدة، وبهذا يستحيل أن يكون فهمها ثابتاً، وجمالية الحياة في تجدّدها ومقاومتها للثبات. والجمال الذي ينتسب إلى الحياة ويعبر عنها، يجب أن يكون قادراً على الانفتاح والتجدد وخصوبة الدلالة، ومتى فقد هذه الخصيصة فقد وجوده، والعباقرة وأصحاب الرؤى النافذة، يتمثلون برؤية استشرافية تتخطى الواقع إلى الممكن، ولهذا يفقد الجمال - بعد إطالة تأمله، والتغلغل في أعماقه - القدرة على التأثير وهو ما أنكره عبد الله عريف في مقالته “ ضريبة الإعجاب ” وأفاض في دفعه بالأدلة والبراهين.
وحمزة شحاتة إذن لا ينكر جمالية “ الصورة المتأملة ” ولا يسلبها حسنها، وإنما يريد أن يكشف عن بعض الأذواق الجمالية)) التي لا تقع تحت سلطة الجمال، ولا تقنع بثبات الدلالة الجماليّة، وهي “ أذواق خاصة ” لها قوة النار واستشراؤها التي يذوب فيها الجمال كما يذوب الذهب في لهب النار المتوهجة.
ويذهب إلى أن براهين صديقه عبد الله عريف لا تثبت في موازين النظر الفاحص؛ لأن “ الاستصفاء والتذوق ” غير“ الفكر والنظر ”.
فالسماء مظهر وجودي ثابت، على خلاف “ الصورة الجمالية الحيّة ” التي يشكل ((الزّمن جزءاً من حقيقتها، وطبيعة الشعور بها، وإلحاح الشوق إلى استصفاء معانيها، والزمن لو كان ربيعاً كله، ما كان للربيع معنى جدته وسحره وروائه الأخّاذ لذلك كانت تعاقب الصور وتجددها شرطاً لازماً لضمان تأثير الجمال، وتأثير معانيه، ولذلك كان الزمن جزءاً من حقيقة الجمال، أو كان أهم أجزائها)) (1) .
ولهذا دوام النظر إلى السماء لا يدل على فهمها والإحاطة بمعاني بعض مظاهرها المجهولة.
__________
(1) نفسه ص 68.(14/26)
“ الاستصفاء والتذوق ” قدرة على توليد المعاني والصور، فهو فطنة بحقيقة الجمال، وقوّة في تفكيكها وإذابة دلالاتها. هذه القدرة لا يبقى معها جمال لا يداخله السأم. أو لا تصرف عنه صوارف الفهم والاكتفاء، ويؤيد حمزة هذا الوعي الجمالي بفكرة مضادة تكشف جانباً من جوانب الإبهام في القضية فالمصائب أعمق أثراً في النفوس من الجمال، ومع هذا تفقد تأثيرها بالاعتياد والإلف والسلوى (1) .
وهذه “ الحقيقة الجمالية ” نجدها لدى عشاق الشعر وهواة الفنون كما ألفيناها لدى عشاق الجمال، والباحثين عن غرائبه، فصور الشعر، وروائعه انتهى الاستصفاء والتذوق بها إلى أن تكون بمثابة الحقائق المألوفة والكلام المعاد (2) .
إن الشيء الجميل يصدمنا لأوّل مرّة ((بحشد من معانيه الفاتنة، ليست هي أداءه عن نفسه، ولكن أداءنا عنه، وعن موقعه من نفوسنا وأفكارنا فما نفتأ ندور بهذه المعاني مطابقة وقياساً ومداً وجزراً وإطلاقاً وتقييداً حتى نشعر بنشوة امتلاكه واحتوائه، فإذا الاكتفاء أو التجدد المنتهي إلى انقضاء التأثير فيستحيل شعورنا بالصورة الفاتنة إلى ما يشبه شعور العاشق بعد إفاقته من غيوبته واستغراقه)) (3) .
إن “ حقيقة الصورة الجميلة ” تظل قائمة، ولكن ثراء الدلالة، وخصوبة الأثر الجمالي هي التي تفنى عند أصحاب الرؤى الفياضة، والأفكار النافذة التي لا ترضى من الجمال بالظاهر، وإنما تبحث عن غرائبه، ودقائق معانيه لتفضي إلى قيمته الحقيقيّة، فالماء يظل ماءً بعد أن يروي العاطش منه. ولكن الذي يفنى هي تلك الخطرات النفسية، والتصورات الذهنية التي نجدها عند من بلغ به الظمأ مبلغه فإذا ما ارتوى تلاشت تلك الخطرات، وظل الماء على حقيقته (4)
__________
(1) نفسه ص 69.
(2) نفسه ص 70.
(3) نفسه ص 70.
(4) نفسه ص 71.(14/27)
وحِكَم الشعر التي ساقها عبد الله عريف للمتنبي وشوقي وزهير تأكيداً لصحة موقفه الجمالي، وكشفاً لخلل موقف حمزة شحاتة من الجمال، لا يجد حمزة في صياغتها جمالاً يُغري بإدمان النظر، ولا في معانيها إلا الصحة في الحكم ويتساءل عن “ معنى الجمال ” في تلك الأبيات هل هو دقة الحقيقة الفلسفية وصدقها أو جمال الصياغة، أو قوة التأليف، أو شيء يدرك ولا يوصف (1) .
إن حقائق المتنبي وحكمه ثابتة فروعتها تكمن في ثباتها، وصحتها ومسايرتها لواقع الحياة.
والمتنبي هو الذي يقول:
لو فكرّ العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه
فالعاشق يتصور منتهى جمال معشوقه، ويدرك نهايته، لكن ذلك الإدراك لا يصرفه عن عشقه، بل ربما كان سبباً في شدة ولعه، وانقياده فالحكمة الصادقة لا تنال من سلطة الجمال، ولا تنتصر على منطق العشق، وإن كانت تلك السلطة سريعة التحول، قصيرة الأجل (2) .
وأما كلمات الحب والعدالة والحريّة، وسحر هذه الكلمات للعقول وتجافيها للإصفاء والإفلاس بحسب رأي عبد الله عريف. فإن حمزة لا يعدها جزءاً من الجمال الذي قال فيه كلمته تلك (3) . فهو يتحدث عن الصورة الجميلة تتأملها النفس فتتخطى عالمها ((فإن لم يكن ما قلته حقاً نرى موضعه المكين الواضح في النفس والحياة، فليكن الزمن لحظة جامدة تقف فيها دورة الفلك المغذ عن السير، ولتكن الصورة الجميلة بعد رسماً جامداً لا يعدو حدود إطاره القاهرة، حتى يأمن من مزاج صديقي الناقد، الفجيعة في حقيقة شعوره بالجمال والنفس)) (4) .
ومثل هذا يمكن قوله عن عمال الصف، والطبع والتجليد. فالإتقان ودقة الصف والتناسب غير الجمال الذي ينفخ فيه الفنان خياله، ويضفي عليه شيئاً من روحه.
__________
(1) نفسه ص 72.
(2) نفسه ص 73.
(3) نفسه ص 73.
(4) نفسه ص 74.(14/28)
هذا الموقف الجمالي، الذي كشف جزءاً منه عبد الله عريف بمداخلته تلك قائم على التأمل العميق، والانغماس تحت قشور الأشياء للوصول إلى لبابها، وهذا التأمل، لا يعرف عمقه إلاّ النخبة من أهل الفكر الذين يدركون نفائس الأفكار، ويقدّرون الجهد المبذول في الغوص إليها، أما أوساط الناس وعامتهم فلا شأن لحمزة بهم، لأننا حين نكتب لهم فإننا نئد الجمال، ونطفي جذوته. إن الحياة لا تكون متحفاً للصور الجميلة والأحجار المنحوتة والخشب المنجور إلا عند أصحاب العقول المنطفئة، والأحاسيس البليدة الذين ((يخافون من الفجيعة ويفرقون من مفازع الحرية وانطلاق ومفاجآت الزمن الراكض)) (1) .
ولهذا كان دور الأديب التنوير، والارتقاء بالوعي، أمّا حين يكون وعيه بمستوى وعي أوساط الناس، فإن هذه هي “ البطالة الفكرية ” التي لا تصنع شيئاً سوى الثرثرة وتسويد الصحف (2) .
يقول في قصيدة تأملات:
آثرت أن أظمأ وعفت مواردي
واعتضت عن نومي انتباهة ساهدِ
وصرفت نفسي عن عُلالات الهوى
لمّا أجلت بهنّ رأي الناقد
ونذرت نفسي للجهاد فهالها
ألا تشدّ على اللغوب بعاضد
فإذا مراد النفس أبعد غاية
مما يُعين عليه جُهد الجاهد
وإذا الحياة بغير مجدٍ قصةٌ
زكّى القنوط بها فواتُ الشاهدِ (3)
__________
(1) السابق ص 78.
(2) نفسه ص 78.
(3) ديوان حمزة شحاتة، جدة، دار الأصفهاني، ط1، 1408 هـ / 1988 م، ص 159(14/29)
ويذهب عبد الله عريف إلى تسخير بعض آراء حمزة ليؤيد بها موقفه الجمالي من باب “ رميت بسهمه فأصبت مقنعه ”، وذلك من خلال تفكيك قصيدة حمزة الشهيرة “ لم أهواك؟ ” حيث يذهب عريف إلى أن ((فكرة القصيدة تقوم على أساس المبدأ التركيزي الذي يقيس به الأستاذ حقائق الأشياء وقيمها الذاتية، لتبدو أمامه الحقائق واضحة جليّة، لا يريشها الخيال، ولا تكسوها الزوائد الفكرية فما هو هذا المبدأ؟ هو مبدأ “ التعرية والتجريد ” الذي عرف به الأستاذ في كل ما تناوله ويتناوله من صور الحياة وحقائقها. ففي هذه القصيدة يقوم الأستاذ بعملية تجريديّة، يسلب بها سراوة الجمال في الإنسان الجميل، حتى لكأنك تنظر إلى دواعي الجمال، وبواعث الفتنة، تتبخر بفعل قوة تعتملها نفس الشاعر المجرّدة واستشراؤها، وتحيله كل فعالية الهيام واللوعة إلى حطام من المعاني الفاترة السخيفة؛ لأن كل معنى تحيكه النفوس الشاعرة، فتضفي به على صاحبها جمالاً وفتنة، وهو بلاشك في الطبيعة الصامتة أجمل، وأضمن لتلك المعاني المضفاة، والتي قد تكون زوراً وتلفيقاً صورها خيال الشاعر وأوهامه)) (1) .
ومما قاله فيها:
لِمَ أهواك؟ أيها المنعم النف
س شجوناً وحيرة وشقاءَ
ألحسن؟ فالحسن في البدر والز
هرة أندى وقعاً وأضفى رواءَ
إلى أن قال:
والمعاني بوحيها ومدى الوح
ي عميقٌ فيما يضمُّ الوجُودُ
فتراها في قطعة الأرض والصخ
رة، شعراً، لم يبله الترديدُ (2)
“ ومبدأ التعرية والتجريد ” الذي أشار إليه عريف بهذه المقالة، كان فكرة راسخة في ذهنه عن الموقف الجمالي لشحاتة ففي قصيدة بعنوان “ إليه ” نظمها عبد الله عريف، وبعث بها إلى صديقه حمزة شحاتة نجده يقول فيها:
وليس سبيل العيش إدمان نظرةٍ
وتجريد أفكار، وتحديد مقياس
__________
(1) جريدة صوت الحجاز 2 صفر 1359 هـ، الموافق 11 مارس 1940 م، ص 3.
(2) المرجع السابق ص 3، وانظر ديوان حمزة شحاتة ص 26.(14/30)
وهذا المبدأ لا ينكره حمزة فهو أول من كشف عنه في محاضرته الشهيرة “ الرجولة عماد الخلق الفاضل ” حيث قال: ((والتجريد مبدأ قديم لي، أو هو مرضي الذي لا أشفى منه، عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة، ومن قرأوا نظراتي القديمة في الخير والشر، في الفضائل والرذائل، وفي الحب، وفي الشعر)) (1) .
لكن قصيدة “ لم أهواك؟ ” ليست قائمة على هذا المبدأ - كما ظن عبد الله عريف - وهو تجريد الجمال من معانيه، بل إنّ جوهرها تقديس الجمال، فيما وراء الظاهر، والبحث عن معاني الحب السامية، واستنطاق أسرارها الخبيئة (2) .
فالقصيدة رؤية عاشق ذي فكر مولع بالبحث في العلل والعلاقات، وكشف خبايا الأشياء والأفكار، فالجمال في نظر هذا العاشق ((معنى وراء السمات والشكول معنى لا تحدّه النظرة، ولا تقيده الفكرة، إنما هو جمال مطلق شائع لا تكون الحياة بما فيها إلا لفظاً هو معناه وسر الحركة والسكون والنور والظلمة فيه، فلا تكون دنيا عاشقة إذا غاب إلا دنيا “ سؤوم جم الكروب طليح ”، ((فإذا لاح أشرقت وتلقته بوجهٍ طلق المحيا صبيح)) (3) .
__________
(1) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 22.
(2) حمار حمزة شحاتة ص 84.
(3) المرجع نفسه ص 84، 85.(14/31)
إذن الفرق بين “ حمزة شحاتة ” و “ عبد الله عريف ” في “ الموقف الجمالي ” أن الأول ينظر إلى الجمال نظرة الفيلسوف حين لا يكتفي بالوقوف على الظاهر، وإنما يعمد إلى تحليل عناصر الشيء الجميل وتفكيكها وإعادتها إلى أصولها، والآخر يمسّ الجمال مساً رقيقاً، يبعث في نفسه روحانية، وإلهاماً وخيالاً يحلق به في مدارج الكون. وهذا ما أدركه الأستاذ محمد عمر توفيق عندما ذهب إلى التوفيق بين هاتين الرؤيتين في مقالته التي نشرها بعنوان “ التجريد وما وراءه ” فقال: ((من هنا نزعم أنه ليس من تضاد بين النظرتين إلا بقدر ما هنالك من تخالف بين النفسين، وتغاير في الأهواء، وكل ما يفرق بينهما أن هذه نظرة شاعر وتلك نظرة شاعر فيلسوف، إذ الفلسفة قوامها التجريد والتعرية)) (1) .
ويمكن أن أضيف إلى هذا الفرق الذي كشف عنه الأستاذ محمد عمر توفيق فرقاً آخر بين نمطين من التفكير، تفكير مبدع خلاّق لا يجد الجمال والمتعة إلا في البحث الدائب، والنظر المتجدد، وتفكير يميل إلى السكون ولا يحبذ المغامرة. والتفكير الابتكاري الأول نجده عند العباقرة وصناع الحياة في حين نجد الآخر عند كثير من الناس الذين يقفون على الظاهر، ولا يتجاوزون ذلك إلى أفق تنتقص معه قيمة الشيء، ويتضاءل تأثيره، لأنها لم تستنفذ طاقته الجمالية، فبقي فيه إشعاع يومض، وجاذبية تشد النفوس، وأولئك بلاشك هم الأقدر على الكشف عن أسرار الجمال، والتلذذ بالمعاناة في ذلك الكشف ((وقد نرى إنساناً يسحره البدر؛ لأنه المضيء الساطع. فإذا شبّهه بمن يحب، كانت الصلة عنده بينهما اللالاء والاستدارة. وإنساناً يرى في البدر حياله فتنة الحي الرائعة، ومشابهه وسهومه وخيالاته، وجدته وسأمه وخفوته، وله عواطفه ونوادره الظريفة إقبالاً وإدباراً ونشاطاً وفتوراً.
__________
(1) جريدة صوت الحجاز الأحد 24 محرم 1359 هـ، الموافق 4 مارس 1940 م، ص 4(14/32)
أفلا يكون من له هذه المقدرة على توليد الصور والمعاني أفطن لحقيقة الجمال الواسعة، وأقدر على التهامها وتذوقها وعلى تركيزها وإذابتها؟)) (1) .
ولكل “ جمال ” رسالة يقوم بتبليغها، ولا يوجد رسالة بلغت من أرسلت إليه، ولم يعِ شيئاً منها، لكن العقول تتفاوت في قوة الإدراك، فهناك من يقف عند حدود الأشكال والهيئات، وهناك من يبحث في الأعماق، ويغوص إلى الجوهر، وهذا منطق حمزة وموقفه الجمالي الذي أفضى به إلى البحث الدائم عن دلالات فريدة، وأشكال جديدة؛ لأن الدلالات الجمالية متناهية في الشكل الواحد، ورسالة الجمال كرسالة الربيع الطلق، لا تلبث أن تزول. وهذا هو منطق الحياة فلا يوجد حقيقة من حقائق النفس الإنسانية، أو من حقائق الحياة الماثلة، أو المتخليّة، أو من صور الجمال لا تمتد إليها يد السآمة أو لا يتحوّل بها إدمان التذوق والاستصفاء في فكر العاشق أو الشاعر أو الأديب أو الفيلسوف أو الإنسان الحي)) (2) .
حمزة شحاتة كان تفكيره الجمالي أشبه ما يكون ببندول الساعة لا وجود له إلا مع الحركة، كانت القيم الجمالية عنده في تجدّد دائم، كلما فك مغاليق الجمال، دلف إلى مغاليق أخرى ((أنا ذو مزاج سؤوم، لا أدع الزمن يفجعني في طمأنينة شعوري بطرافة الأشياء، وأيَّة حقيقة من حقائق الفكر، أو متعة من متعات الحس، أو طوبى من طوبيات الخيال الخلاب، يبقى جمالها على الزمن الماضي، أو يفض الختام كل يوم عن جمالها ومعانيها جديدة أخاذة؟)) (3) .
وبهذا المزاج السؤوم، والنفس التواقة، كان حمزة شحاتة يشعر بوجوده، ويتحسس ذاته، ويصيب لذته الجمالية ((إنما يصيب الأديب لذته الفنية، والفيلسوف متعته الفكرية من علاج الجديد وابتكاره، وحتى إذا عرض له القديم المألوف سلك إليه غير سبيله المطروحة)) (4) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 69.
(2) المرجع نفسه ص 91.
(3) نفسه ص 61.
(4) نفسه ص 61.(14/33)
“ الجمال الظاهر ” كان جمالاً مسؤوماً؛ لأن جميع الناس يتفقون على حسنه، ويتشابهون في الاستمتاع به، لكن الفيلسوف والشاعر والعاشق المتيّم يكشفون عن معاني خفيّة “ وجمال باطن ” لا يدركه الناس ولا يشعرون به ((فالشاعر والفيلسوف والعاشق؟ لا يختلفون عن عامة الناس في هذا إلا بأنّ لهم حسّاً فوق حسّ الناس، وأمزجة أدق، وملكات أحفل إدراكاً وأخصب)) (1) .
لم يكن يرغب حمزة شحاتة في الوقوف عند الحديث عن تأثير الجمال على فكره ونفسه، كما يصنع الناس، وإنما تجاوز ذلك إلى البحث عن حقيقة الجمال في ذاته، فكان الجمال معنى في النفس لا وصفاً للشيء، ولهذا حين ينقضي تأثير ذلك المعنى في النفس، يتلقفه الزمن فيلفه في دوائر النسيان.
الموقف الجمالي العام كان في نظره يدّل على فساد في الطباع، وهزال في الأفكار، ومهمته أن يحارب ((فساد الطباع، وهزال الأفكار الضاوية)) وهذه الحرب لا تبدأ إلا بنبذ الركام، ومجافاة الإلف، والبحث عن الجديد، والنفاذ إلى ما وراء الظواهر من أسرار ومكونات.
إن الحياة تتجدّد، والجمال يتجدّد، ولابّد أن تتجدد طرائق التعبير، ومسالك الإدراك إلا في عرف النفوس الميتة ((وما نرانا بمستطيعين أن ننكر أن النفس المحدودة قد تكون أقدر على الاحتراز؛ لأنها نفس موصدة نائمة لدواعي ما تكون فيها فترات الصحو والانتباه إلا نادرة، فشعورها بما حولها من جمال شعور راكد بليد، ما ينتهي تذوقها لمعنى من معانيه إلا وقد بدأت نومتها الثقيلة وركودها العميق.
وبهذا المقياس تكون الحياة في عين الحيوان السارح هي الحياة ما يتغير فيها شيء عن معناه، ولا ينحرف عن سبيله، فيما تحسه أو تدركه، أو ترتاح إليه! وهكذا في عين المجنون، وهكذا هي في حياة الإنسان الآبد)) (2) .
__________
(1) نفسه ص 66.
(2) نفسه ص 89.(14/34)
الإنسان يكون إنساناً والفنان يصبح فناناً بمقدار ارتفاع درجة حرارة إحساسه بالبون الشاسع بين الواقع والممكن، وسعيه الدائب إلى تجسيد الفجوة، وبناء القناطر، وهكذا كان حمزة شحاتة إنساناً وفناناً.
الفلسفة الجمالية الآليّات والخصائص
آليَّات الفلسفة الجماليَّة:
يختلف الإدراك الجمالي بين علماء الجمال اختلافاً كبيراً يمثله بعضهم بخزّافٍ يعمل أمام فئتين من علماء الجمال، بعضهم أخذ يمحضه النصح، وبعضهم الآخر ظل يتأمل في صنيعه، وبقي الخزّاف لا يصغي إلى أحد، ظل يفكر بجرّته (1) .
والخلاف بين الموقفين خلاف في منهج النظر إلى الجمال، ولكنه في الغاية يؤول إلى نتيجة واحدة هي محاولة إيجاد رؤية جديدة ((رؤية حدسية عميقة، تعتمد على وجدان المشاهد، كما تتوافق مع مشاعر المتذوق منذ الوهلة الأولى، وتقوم على مراعاة الفروق الفردّية بين جمهرة من المتذوقين، إنها رؤية يظهر من خلالها الجمال باعتباره مخلوقاً حياً في ذاته له تجسده وتشخصه، وكيانه المبدع)) (2) .
وفي هذا السياق سنعرض للآليات التي توسلّ بها حمزة شحاتة فشكَّل فلسفته الجماليّة للفنّ وللعالم من حوله، وقد تمثلّت في أمرين اثنين هما: التجريد والحدس، كما ستعرض كخصائص “ الجميل ” كما كشفت عنها هذه الفلسفة.
وحمزة شحاتة في فلسفته الجمالية يجمع بين صرامة العالم، وخيال الفنان، صرامة العالم في اتخاذه “ التجريد ” مبدأ عاماً في الحياة، يضع تحت مجهره الأشخاص والأشياء والأفكار، وخيال الفنان حين يغوص في أعماق الأشياء ليكشف عن جوهرها المخبوء.
التجريد:
__________
(1) علم الجمال هويسمان ص 199.
(2) المرجع السابق ص(14/35)
تحليل ذهني عرفه (دوغالد استورات) بأنَّه: ((تقسيمٌ ما نصيبه من معان مركبة بغية تبسيط الموضوع الذي نتناوله بالبحث)) (1) . فهذا التحليل يعمد إلى صفة أو جزئية ويقوم بتحليلها، وردها إلى مصادرها، وتحليل قيمتها، ومعايرها، للوصول إلى المعاني الكليّة. يقول حمزة شحاتة: ((التجريد مبدأ قديم لي، أو هو مرضي الذي لا أشفى منه، عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة، ومن قرأوا نظراتي القديمة في الخير والشر، في الفضائل والرذائل، وفي الحب، وفي الشعر)) (2) .
التجريد تعرية وكشف يركز على الجزئيات ليصل إلى الكليات، ويستصفي المعاني الكامنة، التي عندما يُوقف على حقيقتها، يتكشف الوعي القاصر عن إدراك الحقائق، وتتهدّم المسلمات.
فحين تناول حمزة فكرة القوّة في محاضرته “ الرجولة.. ” لم يقف عند حدود الفكرة الجزئية، وإنما جعلها البداية في النظر والتحليل ثم انطلق بعد ذلك إلى كشف علاقاتها للوصول إلى المعنى الكلي ((وأنا أريد التجريد والتعرية كباحث لا كمحاضر، فإني لو قصرت كلامي على الرجولة، أو على الخلق الفاضل، خشيت أن يتحوّل حديثي إلى موعظة لا تعدو أن تكون تمدّحاً حماسياً بالفضائل، دون تحليلها، وردها إلى مصادرها وتحديد قيمها، ومعاييرها، وأثرها في صميم الحياة، وعلاقتها بالنفوس)) (3) .
التجريد وإن بدا بحثاً في الجزئيات، فإنه انطلاق إلى عوالم رحبة، فالتفتيت الذرّي يكشف أدق المكونات، ويترامى في الكشف إلى آفاق قصيّة تصبح معها الذرة الصغيرة جرماً هائلاً مليئاً بالشهب والنيازك.
__________
(1) المعجم الفلسفي، الدكتور جميل صليبا، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط1، 1971 م 1 / 247.
(2) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 22.
(3) المرجع نفسه ص 22.(14/36)
((لهذا ستكون نظرتنا إلى الفضائل - على أن أساسها التجريد القاسي - نظرة من يريد أن ينطلق بها من حدودها الضيقة المتصلبة، إلى حدود رحيبة من الشك والوسواس، خاضعاً لسعة إدراكه لأطرافها، وخفاياها ورموزها، وعلاقاتها بأشباهها، وهو لا يفعل بها هذا ليضعفها، بل ليبلغ بها أبعد حدود القوة والاحتمال)) (1) .
والتجريد وضوح وتعرية، يطمح من خلاله المفكر إلى كشف جوهر الأفكار والأشياء والأشخاص، ليتحقق الوعي في أسمى صوره، فتكون المواقف من الأفكار والأشياء والأشخاص مؤسسة على إدراك عميق بالحقيقة ((إنما أريد الوضوح والتعرية، وإنما أريد أن نعرف جميعاً حقيقة الفضائل والرذائل، وقرابتها من العقل المبصر، وحقيقة الإيمان بها، ونصيب هذا الإيمان من الصحة والقوة، كما نعرف حقيقة كائن حي نشأ وترعرع واكتمل، وانساق بعوامل الحياة حوله. عسانا إن آمنا بالفضيلة بعد أن نؤمن بشيء نعرف معناه، ونعرف مواضع الضعف والقوة فيه)) (2) .
التجريد بهذا المسلك يهز النفوس، ويوقظ الإرادة، حين يشكك في المعرفة، ويتخذ من الشك منهجاً في الوصول إلى المعرفة، ولهذا لا يتقبله الناس لأن الناس لا يتقبلون التشكيك في معتقداتهم الفكرية فهو ((فرض ينازل حقيقة تحجر بها الاصطلاح، ووهم ينازل اعتقاداً، وشك تعارض به معرفة.
ومازالت النفوس أضعف استعداداً لقبول المفاجآت التي تحاول أن تنتزع من معتقداتها ومشاعرها، شيئاً له قيمته وقداسته، وله صلابته العنيدة)) (3) .
الحدس:
__________
(1) نفسه ص 24.
(2) نفسه ص 37.
(3) نفسه ص 23.(14/37)
أما خيال الفنان في إدراك الجمال، فيتمثل في الحدس، واستكناه الجوهر، والبحث عن الغرائبي والمدهش، وهذه الرؤية النافذة لا تتأتى إلا لمن يملك حسّاً جمالياً عميقاً، نلمس هذا في حديثه عن جماليات الأدب، وجماليات المكان، وجماليات الإنسان، حيث كانت آراء متفردة، لم تكن لتتحقق، لولا خياله الخلاّق، ونظراته المحلقة.
الصرامة والحدس أهم وسائل الإقناع عند حمزة فالعقل والحجة الدامغة لا تكفي لزراعة القيم الجماليّة، كما أن الخيال المتدفق لا يصنع وحده وعياً جمالياً. فالإنسان عقل ووجدان، والخطاب الجمالي يجب أن يتأسس على هذين البعدين معاً (1) .
هذان هما المفتاح لبناء وعي خلاّق، فمتى التمسنا الولوج إلى عالم الإنسان بغير هذا المفتاح، ضللنا الطريق، وفقدنا الأداة، وتعثرت الجهود.
حمزة شحاتة جعل من التعرية والتجريد مذهباً في حياته لأنه لم يرد أن يكون زعيم القبيلة، وإنما أراد أن يكون قديسها و ((الفرق بين زعيم القبيلة وقديسها أن الأخير مطالب دائماً بالتزام الحقيقة والتجرد)) (2) .
التجريد نظرة حيادّية فاحصة، لا تكون إلاّ لمن يستعلي بذاته وفكره على القيود المكبلة، والقوالب الجاهزة، وهؤلاء هم المفكرون ((لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها، وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة..)) (3) .
“ والصرامة والحدس ” جعلتا من حمزة شحاتة فيلسوفاً ومتذوقاً وناقداً في آن واحد - بمعزل عن أنه كان مبدعاً للجمال - فهو فيلسوف حين يتأمل، ويفكّر، ويحلّل، ومتذوق عندما يستمتع بما ينطوي عليه الجمال من سحر وإبداع، وناقد إذ يبحث عن القيمة ويتحدث في التقويم.
__________
(1) نفسه ص 64.
(2) رفات عقل ص 96.
(3) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 22.(14/38)
والإدراك الجمالي لدى حمزة إدراك متوازن، فمع أن موقفه أولاً “ موقف جمالي ” يتأمل ويحلّل ويتذوق ويحكم، فإن الموقف عنده يترامى إلى آفاق أخرى، تجعل من الجمال “ قيمة نفعية ” تزرع الفضيلة، وتثري العقل والوجدان، فالجميل ليس جميلاً لذاته فقط، وإنما هو جميل بما يحدثه من أثر، وهذا الموقف يقترب من موقف الناقد الإنجليزي ريتشاردز الذي يجعل من الخبرة الجماليّة قوّة منسقّة بين مجموع الدوافع المختلفة لدى الإنسان، مما يتولّد عنها شيء من اللذة والتوازن (1)
خصائص الجميل:
والجميل عند حمزة هو الذي تنفعل به النفس، فهو “ شعوري ذاتي ” وإن كان الموضوع باعثاً، وبهذا لا يكون الجميل ما تناسق وتآلف إذا لم يثر الشعور الجميل الذي نحسّ به، فالجميل “ إحساس داخلي ” وليس “ مادة متناسقة ” ولهذا لا يكون الشيء جميلاً عند من فسد ذوقه الجمالي، أو طمس الإلف محاسن الجمال في نفسه.
والجميل يظل جميلاً ما كان قادراً على البذل وإنجاب الدلالات والقيم، فالزمن جزء من حقيقته، أما حين تستصفي النفوس معانيه، فإنه ينفصل عن الزمن ويصبح قطعة أو فكرة بالية غير قادرة على التجدد والإثارة، وهذا هو الموت وتوقف الحركة.
__________
(1) القيم الجماليّة، الدكتورة راوية عباس عمارة، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1987 م، ص 193.(14/39)
والجميل كمال بلا نقص، فصفة الكمال نجد حمزة شحاتة في كل تأملاته في الأدب والكون، وفضائل النفس، والمكان حريصاً عليها وإن كانت هذه الصفة لا تكاد تتحقّق، ولكن قيمتها تكمن في أنها أمل ممطول ((فما يزال الكمال نشيد الحياة الممطولة، ووهمها الذي تنساق أبداً في طلابه. ومادامت مراحل الحياة تمتد ولا تنتهي. وقوافل الأحياء تسير ما يثقل خطاها الزمن الجاهد. ومادام التغيّر الدائم دأب الحياة وسبيل فيها، فهل تقول: إن شيئاً كمل، قبل أن يوفى على غاية ما ويبلغ تمامه؟)) (1) .
“ البحث عن الكمال ” كان مطلباً جمالياً عند حمزة كما كان غاية حياة عند حمزة شحاتة، يقول عنه صديقه عزيز ضياء ((إن خصيصة حمزة شحاتة التي تبدو خليقة من خلائق العبقرية النادرة، هي القدرة على إتقان ما يولع بإتقانه، بحيث لم يكن يرضى قط إلا بأقصى مراتب التفوق فيما يعنّ له أن يُعنى بمعرفته ودرسه)) (2) .
وقد ذهب الدكتور الغذامي إلى أن عقدة “ الناقص ” تستحوذ على فكر حمزة وسلوكه، وتقلق روحه، فتحركها لطلب الكمال، ولكنها لا تصل إليه، ولا تسلم من ارتكاب الخطيئة، وهذا سبب شقاء النفوس العظيمة التي ترى النقص، وتفلسف الكمال، وفي غفلة من وازع الكمال تقع في الخطأ (3) .
__________
(1) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 21، ص 22.
(2) حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف ص 85.
(3) الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر، الدكتور عبد الله الغذامي، جدة: النادي الأدبي الثقافي بجدة، ط1، 1405 هـ / 1985 م، ص 202، ص 203.(14/40)
فالعلاقة بين التفكير الجمالي عند حمزة وخبرته بالحياة علاقة وطيدة، بل إننا لا نكاد نفهم أبعاد التفكير الجمالي عند حمزة شحاتة بمعزل عن معرفة حياة هذا المفكر، وما صادفه في رحلته من المتاعب والمشكلات، التي أذكت لديه روح القوّة، وعشق الجمال في سموّه، وقدرته على التأثير في سلوك الأفراد والمجتمعات (1) .
مجالات الفلسفة الجماليات
1 - جماليات البيان:
أ - الأدب:
يشكل البحث في جماليات الأدب محوراً مهماً من محاور فلسفة الجمال عند حمزة شحاتة، كشف من خلاله عن مادة الأدب، وأجناسه، وموضوعاته، وعرض لماهية الشعر وبواعثه وأغراضه كما يتصوّرها من منظوره الجمالي.
مادة الأدب:
ينطلق حمزة شحاتة في فلسفته من وعي دقيق بجماليات اللغة الأدبيّة يربط فيه الأدب بالفنون التشكيلية وفن المعمار، فإذا كان ((الحجر مادة البناء الأول)) (2) ، فإن ((الكلام هو وسيلة التعبير عن أغراضنا، وأداة تشكيلها، وتصويرها - فهو بهذا - مادة البناء الأولى في مطالب النفس، والفكر)) (3) .
هذه المادة “ الحجر ” يمكن أن تكون ملاذاً للإنسان حين يشكل منها منزله الذي يأوي إليه، ويحتمي به، وهنا تكون القيمة بسيطة، والغاية محدودة، وحين يترقى الوعي، ويتجاوز الإنسان المطالب الضرورية إلى الكماليات يتحوّل الحجر إلى غاية أسمى حيث يصنع به الإنسان ((منزلاً متكامل الصورة في النفع، والتناسق، والوثاق على نحو أوسع، استيعاباً للمطالب المتطوّرة)) (4) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 194 وما بعدها.
(2) رفات عقل ص 24.
(3) نفسه ص 24.
(4) نفسه ص 24.(14/41)
وقد يتخطى الحجر هذه القيمة الجمالية إلى منزلة أسمى حين يكون مادة في يد الفنان “ النحات ” الذي يشكّل منه نحتاً فنيّاً يتخطى به المنفعة وجمال الشكل إلى جمال المعنى ((النحات يصنع منه التماثيل، والزخارف، وفاتن الأشكال، لا يضع فيها دقة الصناعة، وجمالها، والنفع.. بل المعنى والفكرة، ورمز الفن وتعبيره، وأثرها في الخيال. فصناعة النحت أتاحت للحجر تعبيراً أرقى من تعبيره في المأوى الحاجيّ، وفي المنزل الكامل)) (1) .
والكلام بوصفه مادة البناء الأولى، وأداة التعبير عن الأفكار والمشاعر يترقّى في سلم الجمال بترقي الخطاب الذي تشكل من تلك المادة، المتحدث العادي يصنع به “ صور أغراضه ومراميه وشعوره ” (2) ، فتكون الغاية من توظيف هذه المادة التواصل مع الآخرين وهي أدنى غايات الكلام وأقلّها جمالاً، ((ويصنع به الخطيب والكاتب وسيلة التأثير والاستفزاز، والاستهواء وترسيخ الغرض، وتوكيد الطلب، وعرض الفكرة، والدّعوة إليها)) (3) . وهنا يدخل الكلام عالم الأدب فتكون الغاية الإثارة والإمتاع، وليس التفاهم والتواصل؛ لأن الخطيب والكاتب لا يهدفان إلى توصيل الفكرة، بقدر ما يهدفان إلى التأثير بها، واستمالة القلوب إليها ((ويصنع به الشاعر كل ذلك أو بعضه في صور أعمق فنيّة، وأوضح مثالية، وأفصح جمالاً، وأروع فتنة)) (4) . وهذه الفتنة هي الغواية والسحر الحلال الذي يمثل أرقى صور الجمال حيث يكون الكلام متبوعاً لا تابعاً، لما ينطوي عليه من قيم الجمال، وسحر البيان الذي يخيّل للإنسان مالا يتخيّل فيخلب لبّه، ويسحره، ويطهّره من أدرانه.
__________
(1) نفسه ص 24.
(2) نفسه ص 24.
(3) نفسه ص 24.
(4) نفسه ص 24.(14/42)
وهذا الترقي الجمالي في وظيفة “ الحجر ” والكلام يجب أن يكون معلوماً للمتأمل في الجمال، فالمنفعة والمتعة أمران مختلفان في الحكم الجمالي ((والناس لا يطلبون في المأوى الحاجي مالا يحققّه إلا المنزل المتكامل، ولا في المنزل المتكامل - من حيث توسع أغراض الصناعة والارتفاق - ما يطلبونه في صناعة النحت التي تستهدف التعبير الفني عن الفكرة فهم أيضاً لا يلتمسون في الخطيب ما يلتمسونه عند الكاتب، ولا عند الكاتب ما يلتمسونه عند الشاعر.
فالشاعر إذن صاحب صناعة فنية، مثالية، رفيعة تتصرّف بمادة البناء الأولى في أبنيتها، وصورها تصرّفاً أوسع مدى من تصرّف المتحدث، والخطيب والكاتب)) (1) .
لكن جمالية الأدب أو أدبيته التي تجعل منه كلاماً له خصوصيته في التشكيل والرؤيا، وتضمن له التأثير والإمتاع والإغواء لا تعني عند حمزة شحاتة ألاّ يكون للأدب رسالة فالجمال والوظيفة لا يتنافران. ((الأدب في خدمة المجتمع لا يكون ولن يكون أدباً متجرّداً من جمال الفن وفن الجمال. إن الإنسان هدف الوجود، وغايته ومغزاه، والإنسان وعلاقاته بالطبيعة مجتمعين أو متفرقين هدف الأديب والفنان)) (2) .
__________
(1) نفسه ص 25.
(2) رفات عقل ص 22.(14/43)
فالأدب لا يُعَدّ أدباً حين يتشبث بالمقوّم الجمالي ويستوفيه، ولا يكون أدباً بسمو وظائفه، ونقاء مضامينه، فهناك يكون شكلاً جمالياً خالياً من الروح، وهنا يكون مضامين باردة، ووظائف عارية لا يسترها الفن بشفافيته الساحرة، وإنما الأدب هو جمالٌ في الشكل وجمالٌ في المضمون، وتناسب بين الجمال الجسدي والجمال الروحي وهذه “ الوسطيّة الجمالية ” ذخيرة من ذخائر تراثنا العربي الذي يتأسس فيه الوعي الجمالي على تصور كوني خالد للوجود لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولهذا يجعل الأدب ضرباً من “ الجهاد ” يقول: ((أيها الأديب الذي يظنّ أنّ ما وهبه الله من إدراك ويقظة، حقّه لاحق الأمة عليه، ولا أمانتها عنده، الأدب نصيبك من الجهاد فاصدع به وتصبّب عرقاً للأمة التي ما بلغت بك الرشد على ضعفها، حتى تصبّبتْ عرقاً، كن لنفسك قليلاً، ولها كثيراً واستح)) (1) .
الموضوع الأدبي:
وهذا “ الجهاد الثقافي ” الذي يشكل الأديب إحدى ترساناته يجعل الموضوع الأدبي مُلْكاً مشاعاً للأديب ولغيره من الناس، لكنّ عبقريّة الأديب تكمن في قدرته على إضفاء مسحة من الجمال الأدبي، على موضوعه والارتقاء به إلى الأدب في خصوصيته، ولهذا لا فرق عنده بين محام وأديب وصحافي إلا بالإجادة والإتقان ((ولست مؤمناً بالفكرة القائلة إن للأدب مواضيع محدودة إذا تجاوزها الكاتب إلى غيرها خلعت عنه سمة الأديب، واعتبر أن بعض مذكرات المحامين ومرافعاتهم من أرفع النماذج الأدبيّة وليست المحاماة أقرب إلى الأدب لأي سبب من الصحافة)) (2) .
__________
(1) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 102.
(2) المرجع نفسه ص 19.(14/44)
والأدب الجميل لابد له من خصوصيّة تميزه عما سواه، وتدلّ عليه لكن أدبنا السعودي – بمنظور حمزة شحاتة في زمنه - ليس له أي خصوصية ((أو حتى شخصية بينة المعالم)) . والسبب في ذلك ولعنا بالاقتباس، وتعرّضنا لسيل متدفق من الهجرة لا يساعد على تشكيل خصوصيّة في الأدب، فنحن - عنده - في “ دور التكوين ” وهو دور سيطول كما يقول (1) .
ولكنّ الواقع الأدبي المعاصر تجاوز هذا الدور واستطاع أدباؤنا أن يشكلّوا خصوصيّة للأدب السعودي تربطه بقدسيّة المكان، وعظمة الإنسان مع استمرار سيل الحراك الاجتماعي، وتنامي حركة المثاقفة مع آداب العالم وثقافاته المتعدّدة.
“ ودور التكوين ” الذي يتحدث عنه حمزة شحاتة كان صوتنا الأدبيُّ فيه خافتاً مع وجود أدباء وشعراء كبار لا يقلّون إبداعاً عن معاصريهم من أدباء وشعراء العالم العربي والسبب في ذلك لا يكاد يخرج عن غياب “ الخصوصيّة ” التي أشار إليها وهي ما يسميه “ بالخبطة ” التي لم تتح لأحد مبدعينا، و “ الخبطة ” الأدبيّة تكمن في “ عنصر الإثارة ”، ((إن فقدان عنصر الإثارة والعنف، والانطلاق إلى الأجواء العليا، أو التردّي في الأغوار السحيقة هي السبب في عجز آثار شعرائنا الجياد عن الحركة والتطويف)) (2) .
فغياب هذا العنصر الجمالي “ الإثارة ” هو الذي جعل أدبنا يقف في صف واحد مع أدب الأقطار العربيّة الأخرى، ومع صحة دعوى حمزة هذه، فإنّ هناك لعبة ثقافية لم تزل تتجدّد في ثقافتنا العربيّة وهي لعبة “ المركز والأطراف ” فهناك بلدان ثقافية عربيّة تحتكر “ المركز ”، وتنظر إلى أدب وثقافة الأوطان الأخرى نظرة منحازة إلى الذات، الأمر الذي يطمس الخصوصيّة،
إن لم نقل يلغي الوجود الثقافي برمّته كما يحدث مع “ المثقف الخليجي ” المعاصر، وهناك “ مجاعة أدبية ” تضرب بأطنابها على إعلامنا الداخلي، حيث لم يقم بدوره المأمول تجاه خدمة أدب بلادنا.
جماليات التلقي:
__________
(1) نفسه ص 16.
(2) نفسه ص 23.(14/45)
وحين يعرض حمزة شحاتة “ لجماليات التلقي ” يصوّر الواقع الثقافي تصويراً مؤلماً فتنقلب فيه نظرية الاتصال رأساً على عقب يصبح فيه الطالب مطلوباً، والمطلوب طالباً ((من الحقائق المحزنة أنّ حاجة الكاتب إلى قرّاء أكثر من حاجة القرّاء إلى كاتب، ولا يبدو أنّ هناك أملاً في أن يتغير وضع هذه العلاقة في بلادنا)) (1) .
هذه المعادلة المقلوبة تثير إشكالية متجددة هي العلاقة بين الكاتب والجمهور، الكاتب الذي يطمح إلى الارتقاء بوعي المتلقي، والمتلقي الذي يستعبده الإلف، وتقيّده الأعراف، وحمزة شحاتة لا يتوقف عند هذه الإشكاليّة فيتخطاها إلى البحث في “ سيكلوجيّة الجمهور ” وسيكلوجية الكاتب ((الجماهير من الوجهة النفسيّة والعاطفية والعقلية أيضاً كالأطفال في حُبّ عناصر الإثارة والتغيير، والانفعال بمظاهر البطولة والانتصار، وارتقابها بحماس، وفي فقدان القدرة على تمييز المعقول، واللامعقول، والممكن والمتعذر)) (2) .
هناك أفق توقع لدى الجماهير ترسخ في الذهن، أملته ثقافة العادة، هذا الأفق مبنيٌّ على “ وعي طفولي ” مولع بالإثارة والتغيير أيّاً كان، ولهذا تغيب فيه صفة “ الغربلة ” و “ التمييز ”، ويختلط الجيد بالرديء والمعقول باللاّمعقول. فحمزة شحاتة يبحث عن “ متلقٍ حاذق ” يعي شرائط الجمال، ويتعاطاه من جهته، فيتأثر به، ويضفي عليه دلالات جديدة. والجمال الأدبي بحاجة إلى هذا المتلقي الذي يتعاطف مع النص، ويستغرق فيه، ليكتشف خصوصيّته، ويمنحه حضوره؛ لأن المتلقي الحاذق يحيي النَّص ويغنيه عندما يضفي عليه دلالات ربّما لو سئل المبدع عنها لم يجد جواباً، وقد عنيت المناهج النقدّية بهذه القضيّة حتى نشأ في النقد الحديث اتجاه نقدي يعرف “ بجماليّة التلقي ” يبحث في النَّص من جهة متلقيه الذي يعدّ بمثابة الركيزة الأساسيّة في هذا المنهج.
الغموض:
__________
(1) نفسه ص 76.
(2) نفسه ص 77.(14/46)
أمّا “ الكاتب ” مع قرائه فهو أحد اثنين إمّا أن يكون مفهوماً، وإما أن يكون غامضاً فحين يكون مفهوماً وواضحاً بدرجة تحرك العواطف، وتثير الحماس، يحتاج إلى طريقة خاصة كطريقة العرَّاف في استحضار العفاريت والأرواح الشريرة، لأنها الطريقة المناسبة لغريزة الجماعة المولعة بالاستسلام للأوهام (1) .
وحين يكون غامضاً ومداوراً فهذه “ خطيئته ” في نظر الجماهير ((لأنهم يجهلون أن القلم شيء، والهراوة شيءٌ آخر)) (2) ، على أن الدوران كثيراً ما يكون نتيجة “ أزمة تعبير ” أدركها حمزة شحاتة وهو أحد صناع الأدب ((إنيّ، ككاتب قديم، لا أجد في أكثر الأحيان الكلمات التي تعبر تعبيراً مباشراً، أو جليّاً عمّا أريد الإفضاء به الكلمات التي تحمل التأثير وتنقله.. هذا ما نسمّيه بأزمة التعبير)) (3) .
ويكون سبب الغموض في بعض الأحيان عند الكاتب الهارب من سلطة الوضوح “ استراتيجية كتابيّة ” يهدف الكاتب من خلالها إلى أن ((يعطينا جرعة أكبر من التنبيه، والالتفات، واليقظة، وحدّة الشعور بأغراضه)) (4) .
أي أن الغموض إنما كان مطلباً للوضوح بمعناه “ الجمالي ” حين يكون الكلام فصيحاً في التعبير عن المشاعر والأفكار، وهذا أمر استوقف البلاغيين والنقاد العرب في فلسفتهم الجمالية للغموض حيث جعلوه مع الوضوح وجهين لعملة واحدة، لا يوجد أحدهما بمعزل عن الآخر.
الكاتب إذن يعيش مشكلة في كلا الحالتين عندما يكون أكثر أو أقلّ ذكاءً من قرّائه، فهو في “ أزمة تعبير ” خانقة، إما نتيجة لعبقريته ورؤيته الاستشرافية، أو بسبب انسياقه وراء “ عقلية القطيع ” التي أدمنت الاسترخاء الذهني، والكسل العقلي، والوقوف عند ظواهر الجمال.
رسالة الأدب:
__________
(1) نفسه ص 76.
(2) نفسه ص 77.
(3) نفسه ص 77.
(4) رفات عقل ص 77.(14/47)
حمزة شحاتة انطلاقاً من وعي برسالة الأدب والأديب معاً في تنوير هذه العقليّة، والارتقاء بوعيها الجمالي، يرفض “ التهريج والاجتذاب ”؛ لأن العلاقة بين الكاتب وقرائه ((ليست علاقة الحبيب بحبيبه، ولا هي علاقة الخادم بسيده)) (1) ، ولهذا يضحّي بالعلاقة في سبيل الفنّ، أو لنقل يقدّم “ أدبية الأدب ” على “ غاية الأدب ” لفئة متبلّدة الحسّ.
إن حرص الكاتب على العلاقة الحميمة بجمهوره قد تؤدي إلى ابتذال جماليات القول في سبيل استرضاء الجماهير؛ وهذا كفرٌ بجماليات القول، وبرسالته ((فإن كنّا لا نكتب إلاّ لأوساط الناس فقد وأدنا خير عناصر الجمال، وأقوى وأحفل معاني الفكر والنفس، ولم يكن أثر جهدنا المبذول أكثر من متعة يزجى بها الفراغ، ويتاح اللهو للنفوس الراكدة والعقول المهمومة)) (2) .
ولهذا كان حمزة شحاتة أحد المشتغلين “ بإقلاق النوم العام ”، الذين استنّوا في الكتابة سبيلاً خاصاً جوهره “ الإقلاق النفسي ” للناس في معتقداتهم الفكريّة والجماليّة، فاتخذ من لغة الهدم سبيلاً للبناء مخالفاً بذلك الأعراف الأدبيّة الشائعة ((وشأن الأديب في العرف أن يضاعف محاسن الحياة، ويزيد الشعور بمسرّاتها، لا أن يمسخ صورها الجميلة، ويهدمها، ولكن هل يسع كل أديب أن يكون هذا مذهبه، فذاك حيث ألقى الناس كما لقيتهم بجديد هو لغة الهدم والبعثرة والإقلاق في نفوسهم ومعتقداتهم الفكرية، ولغة البناء في منطق فكره واعتقاده)) (3) .
ب - الشعر:
ماهيّة الشعر:
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 81.
(2) المرجع نفسه ص 77.
(3) نفسه ص 79.(14/48)
والشعر هو أرقى فنون القول، وأعلى مراتب الكلام، إنه ((كلام وصناعة وفن)) . لكنه ليس أيّ كلام وأيّ صناعة وأيّ فن إنه في جميع هذه الصور ((الترف الحافل بمعاني القدرة المعبّرة، وذخائرها النفيسة في أبهى الحلل والأثواب حتى بساطته - وهي من أسمى صفاته وغاياته - إنما تكون ترف البساطة الفنيّة بالمذخورات، لا فقرها العاري أو المتكلف)) (1)
وتعريف حمزة للشعر أو وصفه له لا يفي بشرائط الشعريّة مع دقة حمزة شحاتة في عباراته، وتأملاته؛ لأن الشعر كائن يستعصي على الوصف، ومع هذا إذا وضعنا هذا الوصف في سياقه الثقافي والتاريخي الذي قيل فيه بدا أكثر وعياً بالشرائط الفنية للشعر من حيث هو “ تشكيل جمالي لغوي ” لاسيما في زمن المدّ الرمانتيكي الذي أغرق الشعر في دوّامة المشاعر والانفعالات الذاتية. والملاحظ أنَّ جميع الساخطين على تعريفات الشعر - بسبب من قصورها عن إدراك حقيقة الشعر - لم يستطيعوا أن يقدّموا البديل المناسب؛ لأن جمالية الشعر تظل مرتبطة بغموضه واستعصائه على التحديد.
الأسلوب:
والشعر لغة، لأن اللغة هي مادته التي يتشكّل منها، ومعضلة الإبداع تبدأ من صراع الشاعر مع اللغة فهو يستخدم اللغة التي استخدمها شعراء العربيّة قبله، بقوانينها الصوتية والصرفية والنحوية والدلاليّة. فلا يستطيع أن يبني له لغة خاصة في قوانينها ونظامها اللغوي ومع هذا فالإبداع لا يتحقق إلا ببناء لغة داخل هذه اللغة كما فعل شعراء العربيّة الكبار (2) .
والأسلوب ((قوام الشعر كما هو قوام الغناء، أو كما هو قوام كل فاتن وجميل وقويّ ومؤثر في جملة ما يتوقف حصول تأثيره على اجتذاب الرغبة فيه، وإثارة الإعجاب به، وتحريك الميل إليه)) (3) .
__________
(1) رفات عقل ص 25، ص 26.
(2) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 30.
(3) رفات عقل ص 29.(14/49)
ومفهوم الأسلوب عند حمزة شحاتة يعني “ منهج الفن الجميل ” في التعبير والتأثير، إنَّه ((فنّ القدرة على استخدام المظاهر، وتطويعها للتعبير عمّا ترمز إليه تعبيراً تنهض به الفتنة، ويستقيم التأثير.
إن فن الحركة، وفنّ توزيع الألوان، أو الأنوار، والتصرّف في تسليطها، وتقدير نسب سقوطها على الأمكنة والأشخاص والمناظر والحالات، وفن تزويق الملابس بالتقصير، والتطويل، والتضييق، والإرخاء، والشدّ، واللّف، والضم والمواءمة أو المفارقة بين خطوط اتجاهاتها بالمعارضة والانحراف. إن كل ذلك أسلوب يصنع صوراً من الجمال أخاذة السحر والفتنة، تكبّر الصغير، وتجلو الغامض أو تكسب بالغموض المتوخى أسباباً مثيرة للافتتان.. أو تواري القبح، أو تصوغ بالمغالطة عن الحقيقة صواباً فنيّاً، يهزّ أو يحرّك الإقبال)) (1) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 30 وفيه بالغموض المتوخى، ولعلّها الموحي.(14/50)
هذا المنهج في الشعر ((هو شارة الحسن، وشياته في مثال الجمال - و صنعة الشعر الأولى، ومزيته، وأساسه، وقوامه)) (1) . فهو أشبه ما يكون “ بالخلقة الجميلة ”، وهنا تترأى الموازنة بين النص الشعري “ والجسد ” (2) ((إن الأسلوب قوام الشعر ومظهر غاياته ومقاصده وهو في هذا كالجمال تتهيأ له الوسامة والقسامة وحلاوة الشارة على قانون مقاييسها الجسدّية، ولا تتهيأ له الحركة والنبض والروح وتأثير انطلاق معانيه، فيكون جمالاً أسلوبيّاً تجتمع له أسباب القدرة ومظاهرها، ولا تتمّ له بها الغلبة والسيطرة على المشاعر والنفوس، ولكنه يظل جمالاً سليماً في القاعدة والتعريف، جمالاً يحرّك الإعجاب والميل إلى التأمل إن لم يحرك الرغبة ويبعث الصبوة ويثير الهوى، فهو بهذا خيرٌ من دلائل الحركة الباطنة، والنبض والمعنى، والتعبير الملحوظ في جسم متنافر التركيب، أو شاذ المقاييس أو مطموس معالم الوسامة)) (3) .
__________
(1) نفسه ص 29.
(2) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، الدكتور إحسان عباس، بيروت: دار الثقافة، ط4، 1404 هـ / 1984 م، ص 257 في حديثه عن الحاتمي صاحب المقولة الشهيرة في تشبيه النص بالجسد.
(3) رفات عقل ص 29.(14/51)
“ الجمال الأسلوبي ” في الشعر ((كالجمال الأنثوي)) في المرأة، يتفاوت في الدرجة، ويختلف في التأثير، لكن الجمال التام في الأسلوب، وفي الجسد لا يتحقق إلا بالانسجام التام، والتوافق الكامل، فيكون البناء اللغوي والرؤيا متلازمين في بنية محكمة، جيّدة السبك، متينة البناء، بالغة الروعة، ويكون الجسد مثالاً في تناسقه، واعتدال أعضائه، وتوافق زيّه وحليته، وحركته، وإلا كان الجمال ناقصاً، لانعدام التوازن بين مكوّناته. وربما كان جماله أدعى لاسترذاله لما فيه من تفاوت النسب، واختلال المقاييس، تصوّر مثلاً ((جمالاً توازنت فيه معنويات الروح المعبّرة المنطلقة، على مقاييس الجسد، وحسن شارته، ولكنّه فقد جمال الاتساق في التصرف، وبراعة الحركة في المشي والالتفات والإيماء والاستجابة أو فقد لبوس النشاط في استخدام المفاتن أو استخدام ما تدور عليه من انسجام الزينة والملبس! أفلا يكون بهذه العنجهية جمالاً يستثير العطف والرحمة والإشفاق أو ربما استثار السخرية، لما طرأ على جملة أسلوبه من النقص والاضطراب والمفارقة بسبب فقدان هذه العوامل التي هي أسلوب، أو تكميل له)) (1) .
فلا يكون الجمال تاماً في “ المرأة ” حتى يجتمع “ جمال المظهر ” و “ جمال المخبر ” أو “ جمال الجسد ” و “ جمال الروح ” من جهة وجمال التصرّف من جهة أخرى، وهكذا النص الجميل لابد أن يتوافر فيه جمال الشكل والمضمون مع جماليات أخرى تتأسس على الوعي بالسياق الحضاري والثقافي وأحوال المخاطبين.
أغراض الشعر:
__________
(1) المرجع نفسه ص 30.(14/52)
وموضوع الشعر وأغراضه “ الجمال والتأثير وإبداع الصور.. ” والشاعر “ صانع جمال ” وبهذا الفهم الدقيق يتخطى حمزة شحاتة مقولات الأغراض الشعرية المألوفة من مديح وغزل وفخر، لأن هذه الأغراض تفقد الفن جمالياته، وتحصر الشعر في دوائر مغلقة فضلاً عن أنها لا تقف على حقيقة الشعر من حيث هو رؤيا استشرافيّة وتشكيل جمالي خاص.
بواعث الشعر:
أما بواعث الشعر فهي بواعث الحياة والكلام هو أداة التعبير عن هذه البواعث ووسيلة الاستجابة لها فعلاً أو كفّاً، فرحاً أو حُزناً. وبراعة الشاعر في تطويع هذه الأداة للتعبير عن تلك البواعث هو محك الشاعرية وميزان الحكم (1) .
والشعر شبيهٌ بالغناء في الباعث، وفي غايات التأثير، من وجد باعث الشعر أنشد، ومن أحسّ بباعث الغناء غنّى، ويمكن للإنسان أن ينشد أو يغنّي لنفسه لكنّه حين ينشد أو يغني للناس فعليه أن يُطرب بالشعر أو بالغناء وإلاّ فقد مهابته، واستحق الذمّ والاستهجان؛ لأنه تعاطى مالا يحسن، وتكلّف مالا يطيق ولهذا لم يكتم حمزة شحاتة استهجانه لشعر من رفع عقيرته بالشعر من شعراء الحجاز وهو لا يحسن الشعر، حين كتب مقدّمة كتاب شعراء الحجاز لعبد السلام الساسي فقال: ((ومنهم مستحق الرثاء، ومنهم مستوجب التعزير، حتى يعلن التوبة من رفع عقيرته بمثل هذا الهراء …)) (2) .
__________
(1) نفسه ص 26.
(2) مقدمة شعراء الحجاز في العصر الحديث ص 14، ورفات عقل ص 26.(14/53)
هكذا يعود حمزة شحاتة بالشعر إلى أصوله الأولى حين كان حداءً للعيس، ونغماً على حركات الأيدي والأجساد ودلاء الماء، فالغناء مضمار الشعر. والمتأمل في شعر حمزة شحاتة يدرك ولعه بالغناء، حتى إن الإيقاع ليشكل في شعره طاقة شعرّية حافلة بالقيم الجماليّة الخلاّقة (1) . والغنائية التي يهدف إليها حمزة شحاتة لا تعني الانغلاق على الذات، فقد كان منفتحاً بشعره على العالم، متأملاً لكثير من أشيائه وكائناته تأملاً يكشف عن شاعرية مميزة يتجاوز فيها الفكر والوجدان تجاوزاً لا يتحقق إلا لكبار الشعراء فلا يكون الشعر مشاعر خاوية من الرؤية العميقة، ولا يتجلّى فلسفة عقلية ليس فيها من رواء الشعر شيء.
وإنما يقصد “ جماليات الإيقاع ” وحضور الموسيقا في النص الشعري حضوراً خاصاً يجعل من النص الشعري إبداعاً في النغم الحاني كما هو إبداع في الرؤيا والتشكيل اللغوي.
ولهذه الغنائية الحانية التي تنبعث من أعماق النفس ثم تعود إليها كان الشعر أحد عناصر الحياة إذ ((ليس من الممكن فقط أن يعيش الناس بلا شعر بل من المستحب..)) (2) .
ولأن للشعر هذه القوّة السحرّية كان الشاعر مناضلاً بأغانيه يعيش في قلق دائم، وعذاب لا ينقطع، رغبة منه في تغيير الواقع ((السرّ في بلبلة الشاعر وعذابه، أنه يحاول تحويل الحلم إلى واقع، ثم تحويل الواقع إلى حلم)) (3) .
وهذا الجهاد أداته “ الجمال ” فالشاعر يناضل بالجمال وللجمال متكئاً على رؤية صافية، وإدراك دقيق لما هو قائم ولما هو ممكن.
__________
(1) الخطيئة والتكفير ص 290 وما بعدها.
(2) رفات عقل ص 45.
(3) المرجع نفسه ص 45.(14/54)
الشاعر يجاهد بجماليات القول لبناء قيم الحق والخير والجمال في حياة دائبة الحركة، كثيرة التغيّر في المشاعر والأفكار والقيم، ولهذا كان لابد له أن يتجدّد مع الحياة، فيخاطب الحياة بمنطقها والعصر بشفرته، والناس بلغتهم، فالشكل التقليدي للقصيدة العربيّة ومستويات المبنى والمعنى في النص الشعري القديم يجب أن يخضع لمنطق الحياة فيتجدّد، لأن قيم الحياة تبدّلت، ولابد أن تتبدل قيم التعبير ((لقد تغيّر كل شيء في حياتنا، حتى أحكام العقل، واتسع صدر الحياة لهذا التغيير، فلماذا يقف الشعر بقوالبه الجامدة، وحدوده المتصلّبة، لا يتغيّر مع طاقات الجيل الجديد، ومع مقاصده وأغراضه؟! ، وبدأت التجربة بين زحف ونهوض ... وأشهد أنها انطلاقة، إن دامت لها قوّة الدفع، خرجت بالشعر العربي إلى أوسع آفاقه وأجزلها عطاءً)) (1) .
هذا حدس الفنان ورؤيته الاستشرافيّة، أدرك أن الوقوف في وجه التجديد - وهو من أكثر شعرائنا إحكاماً لشعره وعناية به - وقوف ضد حركة الحياة. وتحققت الانطلاقة، وفتح الشعر الحديث سياقاً جديداً في الشعر العربي ستكون له شفرته الخاصة، وهو ما تنبأ به شاعر كبير في منزلة حمزة شحاتة.
ومع أن حمزة شحاتة يجعل الشعر مقوّم حياة، فإنه يرى أن الشعر الجميل الذي “ يرفع درجة الانفعال ” لم يعد الاشتغال به أمراً ذا جدوى، لأن ((تيّار الحضارة الآن مليءٌ بأسباب الانفعال، والإنسان في حاجة إلى ما يريح توتّره ويُرضي أعصابه، إن أية امرأة واعية تهزأ بأن تصنع فيها شعراً.. والشعر بلاشك، سذاجة إنسانية، لم يعد الاشتغال به معقولاً في عصر العلم، وما حققه من غرائب وملهيات، تغني عن كل شعر، وكل شاعر)) (2) .
__________
(1) نفسه ص 17.
(2) نفسه ص 16.(14/55)
وهذا هو الذي تعلنه شيئية الإنسان في العصر الحديث، وغرابة العلم، التي سلبت الشعر أعز ما يملك، لقد كانت غرابته أحد عناصر جمالياته، فماذا يقول الشعر في عصر الأعاجيب والغرائب، وكشوفات الفضاء والجينوم البشري والشبكة العنكبوتية، وكيمياء الفيمتو، والنينو توكنولوجيا. جماليات الإنسان الجمال أو الحسن يكون في الشكل والهيئة بتناسب الأعضاء كما يقول أبو البقاء الكفوي (1) .
ويذهب صاحب الكليات إلى أن الجمال ((أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر، وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن فهو للمستحسن من جهة البصيرة)) (2) .
وجمال الأعضاء المتناسبة عنده ((كمال الحسن في الشعر، والصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم، والحلاوة في العينين، والظرف في اللسان، والرشاقة في القدّ، واللباقة في الشمائل)) (3) .
فهناك جمالان “ جمال بصر” و “ جمال بصيرة ” كما يعبر الكفوي ((جمال خارجي)) يرى بالعين، و ((جمال داخلي)) يرى بالبصيرة النافذة، ولاشك أن الجمال الداخلي أعظم من الجمال الخارجي يقول أبو حامد الغزالي: ((وهيهات فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشدّ إدراكاً من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار)) (4) .
وإدراك الجميل واستحسانه مبني على التناغم بين النفس والعالم الخارجي أو الداخلي للأشياء والكائنات الذي يولّد اتحاداً بين الذات المدركة والموضوع الجميل.
__________
(1) الكلّيات معجم في المصطلحات والفروق اللُّغوية، أبو البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، دمشق، ط2، 1982 م، 2، 256.
(2) المصدر نفسه 2 / 256.
(3) نفسه 2 / 256.
(4) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي 4 / 297 نقلاً عن العقل في التراث الجمالي عند العرب د. علي شلق، بيروت دار المدى، ط1، 1985 م، ص 190.(14/56)
يقول التوحيدي: ((إن من شأن النفس إذا رأت صورة حسنة متناسبة الأعضاء في الهيئات والمقادير، والألوان، وسائر الأحوال مقبولة عندها موافقة لما أعطتها الطبيعة، اشتاقت إلى الاتحاد بها، فنزعتها من المادة، واستبثتها في ذاتها وصارت إياها كما تفعل في المعقولات)) (1) .
وأبو حيان يربط بين الخَلْق والخُلُق ((الخُلُق الحسن مشتق من الخلْق، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلْق كذلك لا قدرة على تحويل الخُلُق، لكنه الحضُّ على إصلاح الخُلٌق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة، ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغَسُول لا ليستفيد بياضاً، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهاً بالبياض)) (2) .
فالجماليّة تكون في الطبيعة، وفي الفن، والحُسْن يتحقق في الإنسان وفي المكان، وهذا بخلاف ما ذهب إليه فلاسفة الجمال في العصر الحديث حين قصروا الجمالية على الفن (فكانت) مثلاً يقول: ((تكون الطبيعة جميلة عندما يكون لها مظهر الفن، ولا يسمى الفن جميلاً إلا إذا كنا نعيه كفن، وكان مع ذلك يتردّى بمظهر الطبيعة)) (3) .
ويقول هيجل: ((لا يبدو الجمال في الطبيعة إلا انعكاساً للجمال في الذهن)) (4) .
__________
(1) الهوامل والشوامل لأبي حيان التوحيدي ومسكويه، نشره أحمد أمين والسيد صقر القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1370 هـ / 1951 م، ص 142.
(2) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، صححه وضبطه وشرح غريبه: أحمد أمين وأحمد الزين، نسخة مصورة عن طبعة لجنة التأليف والنشر بالقاهرة، بيروت: دار مكتبة الحياة بدون تاريخ 1 / 148، 149.
(3) علم الجمال لدني هويسمان ص 197.
(4) المرجع نفسه ص 197.(14/57)
فالجمال للفن فقط كما عبر “ كانت ” وما في الطبيعة من جمال إنما هو نتيجة للجمال الذهني كما ذكر “ هيجل ” وهذا فهم منحاز للفن وللعقل، وإلاّ فإن الطبيعة هي منبع الجمال، وقد يؤثر فينا الفن أكثر ممّا تؤثر فينا الطبيعة، ولكن لا يمكن تجريد الطبيعة من جمالها. كما أننا لا يمكن أن نجعل الجمالية من حيث هي علم خاصة بفلسفة الفن فالجمالية يمكن أن تكون فلسفة لكل جميل، وهذا ما قاله ادغاردو بروين ((إن الجمالية بمعناها الدقيق، تكمن في المعرفة المنشودة لمجرّد اللذة التي يتيحها لنا حدوث المعرفة بانصبابها على جميع الأشياء القابلة للانكشاف وعلى جميع الذوات القادرة على المعرفة الخالية عن الغرض، وعلى التلذذ بهذه المعرفة)) (1) .
الجمال الإنساني في شقه الباطني أو “ جمال البصيرة ” كما عرفنا، منشؤه السلوك القويم، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة في العلاقات الإنسانية. وهانحن نقف أمام هذا الجمال كما تصوره حمزة شحاتة، وكشف عن صورته في النفس الإنسانية، وفي المجتمع الإنساني وسيكون من خلال حديثه عن:
أ - الأنا.
ب - الآخر.
أ – الأنا:
صورة الأنا التي رسمها حمزة شحاتة لنفسه مليئة بالغموض، يختلط فيها الواقع بالأسطورة، فهو لا يكاد يعي نفسه ((عندما سألتني “ البلاد ” من أنت؟ ذهلت.. لأنني لم أجد في حياتي كلها، ما يعينني على أن أعرف من أنا؟! نعم وبمزيد من المرارة، والخجل، والحيرة، والضياع.. من أنا؟!)) (2) .
__________
(1) نفسه ص 196.
(2) رفات عقل ص 75.(14/58)
هذه الأنا “ المجهولة ”، غارقة في التأمل حتى في ذاتها. حياة مليئة بالتحوّلات، كرّ وفرّ، سيرٌ ووقوف، ((وحيث يتاح لي أن أتأمل ذاتي، أرى أنني أداة تملى عليها مقدرات حركتها وسكونها. لم أشعر قط، بتحرير إرادتي، وحين بدا للآخرين أنني اكتملت بحكم السن، واتساع أفق التجربة وجدت أن ما يسمى الإرادة فينا، ليس إلا حاصل ظروف، وعوامل ينسحق فيها ما هو ذاتي وداخلي، تحت وطأة ما هو خارجي، فإذا قلت الآن، بصدق إنني أجهل من أنا، أو ما أنا، فلأني لم أستقبل قط، ما أستطيع أن أسمّيه حياتي..)) (1) .
ذات مطحونة كانت مشغولة بتحرير الإرادة، وما أن قطعت شوطاً في مضمار الحياة حتى تبين لها أن الإرادة انسحاق للذات تحت وطأة الآخر، وهذا منتهى الضياع استعداداً لمعركة لم تحدث، وعملٌ لصياغة كيان لن يوجد ((إني كنت كالجندي الذي قضى أيامه، ولياليه في الاستعداد لمعركة، لم يقدر له أن يخوضها، أو كالمتعلم الذي قضى شطر عمره للتخصص في مجال معيّن، وقضى الشطر الثاني عاملاً غير ثابت، في كل مجال غير مجال تخصصه هذا هو أنا..)) (2) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 12.
(2) المرجع نفسه ص 12.(14/59)
كان حمزة رجلاً طِوالاً كما ذكر صديقه عزير ضياء ((فارع القامة، وثيق البنيان عالي الجبهة)) (1) ، وكان فيه جفوة كما يقول، ولهذا يشبّه نفسه بهول الليل، تلك الشخصيّة الأسطورية في الحكايات الشعبية في بلادنا ((بيني وبين هول الليل مُشابه. فأنا طويلٌ مثله، وفي طباعي جفوة ووعورة تصرف الناس عن الاطمئنان إلى عشرتي، فأنا وحيد مظلم النفس، انطوي منها على ما يشبه القبر العميق المهدّم، وفيّ ميلٌ إلى الصمت الطويل ولو أخذت لكنت أبكم ... وأنا حزين منقبض الصدر أحس دائماً بأنني غريبٌ في الحياة، أو عابر سبيل، أو متفرّج حيل بينه وبين ما يدور تحت أنفه من الحوادث، ويستفزني المزاح والمرح أحياناً فأسخر بالحياة، وأستجيب لبواعث السرور لحظات، وهذه اللحظات نادرة في حياتي الآنيّة ... وهكذا هول الليل ... وهول الليل لا ينزل إلى أذى الصغار إنما يعمد إلى الأقوياء فيخيفهم وهو كثير الإعجاب بمن لا يخافونه.. وبمن يسايرونه وينظرون إليه نظراتهم إلى شيء معقول)) (2)
لا تقولي: أهواك، إن حياتي
واقعٌ قاتم الظلال مخوف
كان لي في الهوى ربيعٌ وولى
وتلاشت أصداؤه والطيوف
فأنا اليوم بين أطلال يأسي
طللٌ للرياح فيه عزيف
طللٌ موحش أفاح به الحزن وأرسى
هذا الضباب الكثيف
استقرت به رغائب روحي
جُثثاً مُثلت بهن الصُّروف (3)
لقد كان حمزة كثير التأمل والصمت وتمنى لو كان أبكم، لأن الواقع الذي يعيش فيه لا يمكن للغة أن تحيط به، ولكنه إذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، فقد عرف عنه أنَّه كان يتحدث ويحاور لساعات طوال لا يملّ من الجدل والمقارعة، وهذا ما يعرفه هو عن نفسه (4) ، ويعرفه عنه أصدقاؤه حيث يذكر عبد الله عبد الجبار إنه ليظل يناقش عشرين ساعة بلا كلل أو ملل (5) .
__________
(1) حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف ص 12.
(2) حمار حمزة شحاتة ص 23.
(3) الديوان ص 50، ص 51.
(4) المرجع نفسه ص 78.
(5) نفسه ص 18.(14/60)
وحين نقف على نتاج حمزة الفكري والأدبي ندرك أنه نسيج وحده، في بلاغته وذكائه، ومع هذا يرى أن قلّة ذكائه هي مشكلته الكبرى فالذكاء ينقصه حين يكون الذكاء سلاحاً ماضياً في معركة الحياة، ولهذا كان يعتقد - كما يقول - بقدرته على التكيّف مع الحياة التي لا تلبي حريته ولا ترضي عقله، والذكاء في هذه الفلسفة الساخرة عند حمزة يعني “ التنازلات ” والكفر بالقيم والمباديء حين تتصادم مع المصالح، وهو ما يرفضه حمزة، ويضحي بحياته من أجله ولهذا فهو بحاجة إلى الضمير أكثر من حاجته إلى هذا الذكاء وكأنهما أمران لا يجتمعان ((حاجة الإنسان إلى الضمير تنتهي عندما يحصل على مقدار كاف من الذكاء)) (1) وقد يكون الذكاء مرادفاً للمجون وهتك الأعراض والبوائق ((إذا كان جارك ذكياً، وجب أن تكون دائماً على حذر)) (2) . وقد يكون موقف حمزة شحاتة من هذه الصفة مصادماً لكثير من المفاهيم، ولكنها الحقيقة، فالقيم في حركة دائبة، فالذكاء في عصرنا صار مرادفاً للنفاق الاجتماعي، والانتهازية، وتلوين المواقف، كما صارت الطيبة مرادفة للغباء والضعف، والدروشة.
والصراع النفسي والقلق سمة في أدب حمزة وفي فكره وفي حياته، فهو في شبابه باحث عن المثاليات، وفي شيخوخته حالم بما فات. وحين يتوغل في ذاته، ويكشف لنا أعماقه يقول: ((أحسّ في قرارة نفسي، أني منطو على قطعة مجدبة جافة من الأرض، لا يرف فيها دليل من دلائل الحياة ولا تلح بمعنى من معانيها، وقد تضيق سبلها أحياناً حتى أشعر بانطباقها على جانبيّ ... )) (3) .
__________
(1) رفات عقل ص 44.
(2) المرجع نفسه ص 81.
(3) حمار حمزة شحاتة ص 50.(14/61)
فهو يعيش ممزقاً بين عالمين عالم “ اليوتوبيا ” الذي يرسمه لنفسه، وعالم الواقع الذي يعيش فيه. في ليله أحلام وأفكار وأمانٍ وهموم، وفي الصباح حركة مجنونة، وواقع مشاهد يجر الحالم إلى أغلاله وقيوده، كأن هناك ناطوراً يحرسه بالليل من أن تطوف الأحلام برأسه - ومع هذا فهو يحلم ليهرب من واقعه، وحين تشرق الشمس يبدأ الواقع في المداهمة بجنوده وقيوده (1) .
رأسٌ مليء بالهم والكدر والسهر المضني، ونفس كالمقبرة مليئة بقبور الذكريات، وسجين في سجن مظلم مهدّم تجرّه روح قديمة (2) .
هذه المعاناة هي معاناة الكبار، وأحاسيس الفاتحين في معركة الحياة، لأن الحياة لديهم عطاءٌ وبذل وانتماء، وليست غدوّاً ورواحاً. وحين نتأمل سير العظماء نجد “ المكابدة ” والسهر، والتمزّق الداخلي زاداً يوميّاً لهم، غارقون في البحث عن حقائق الأشياء، مولعون بالمعرفة، لا يقتلهم في حياتهم شيء كما تقتلهم الجموع المنطفئة، والأحاسيس الميتة، والتدافع المحموم إلى توافه الحياة ونقائصها. ولهذا كان حمزة يُحسّ بواجب وطني كبير عليه تجاه وطنه، مع أنه لم يكن عالة على أحد، وإنما كان مواطناً باذلاً، مقاوماً لعوامل الضعف فهذا هو مبرر وجوده كما يقول (3) . وكان شاعراً وأديباً ومفكراً من طراز خاص، حين يذكر الشعر والأدب والفكر السعودي يظل حمزة في مقدمة مبدعيها ومع هذا كله يشعر أنه لم يقم بواجباته تجاه وطنه لا بوصفه مواطناً، ولا بوصفه مبدعاً (4) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 51.
(2) نفسه ص 51.
(3) رفات عقل ص 15.
(4) المرجع نفسه ص 15.(14/62)
وهو في مزاجه الفني متجدّدٌ لا يقر به قرار ((وأنا ذو مزاج سؤوم، لا أدع الزمن يفجعني في طمأنينة شعوري بطرافة الأشياء، وأيّة حقيقة من حقائق الفكر، أو متعة من متعات الحس، أو طوبى من طوبيات الخيال الخلاّب يبقى لها جمالها على الزمن الماضي، أو يفض الختام كل يوم عن جمالها ومعانيه جديدة أخاذة؟)) (1) .
هذا المزاج السؤوم ليس نقيصه، وإنما هو نتاج روح متجدّدة، وعقلية مولعة بالكشف والتمحيص والاهتمام، لا يغنيها جمال عن جمال، تترقى في مطالبها إلى أعلى درجات الكمال وإن كان الكمال لا يدرك، هذه النفس التوّاقة تحتاج إلى فنّ متدفق، يتجدّد في صوره وأشكاله وجمالياته في كل حين، ليظل حيّاً، وممتعاً، وقادراً على التأثير في هذه النفس الفيّاضة.
ولهذا كان حمزة يرى أن أدبه لا ينتمي إلى أيّة مدرسة أدبيّة؛ لأن كل أثر أدبي عنده يعكس لوناً جميلاً خاصاً به يمكن أن يتصل بمدرسة ما، فهو “ مدارس في رجل ” وهذه هي العبقرّية، ((إن الانتماء الموسع اعتباري من الطراز اللامنتمي)) (2)
ولم يكن حمزة شحاتة يتعاطى الأدب بوصفه وسيلة، وإنما كان يتعاطاه “ تنفيساً ” عن شعوره “ بمرارة العيش وحرارة القلب ” وما لبثت الممارسة أن استحالت إلى عادة (3) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 60، ص 61.
(2) رفات عقل ص 13.
(3) المرجع السابق ص 14.(14/63)
هذه هي “ الأنا الشحاتية ” كما صورها صاحبها، “ ذات محيّرة ” يتواءم فيها الغموض والوضوح، والواقع والأسطورة، واليقين والشك، وجماليات هذه الأنا لها نسقها الخاص، فإذا ما تجاوزنا جماليات الإبداع التعبيري الواصف لتلك الأنا، أدركنا أن “ جماليات هذه الأنا ” تكمن في نفيها لذاتها، فلم يغتبط صاحبها، وإنما كان يضعها على محك دقيق، وهذا أمرٌ قل أن يدركه كثير من الناس ((فالأفراد في كل المجتمعات غارقون في استسلام مفعم بالرضا والغبطة في الجانب الاعتقادي والعقلي والمعرفي، وهذه الغبطة هي العائق عن اكتشاف الفرد لذاته لأنه لم يدرك أنه يعيش استلاباً كاملاً، فهو يتوهم أنّه تام التفرد.. لذلك يندر في الناس من يخترق هذا العائق لأنه أصلاً لا يعلم بوجوده فلا يحاول اكتشافه فضلاً عن اختراقه)) (1) .
لقد اكتشف حمزة شحاتة حقيقة نفسه، واخترق حجبها الكثيفة، فكان جمال هذه النفس - الذي يكمن في عبقرية اهتمامها وولعها بالمعرفة، وحبها للجديد، وسعة إدراكها، وإيمانها بنقصها، وتنكرها لعطاءاتها - بحثاً عن نفس أفضل، وعطاءٍ أكثر جمالاً، إنها ((النفس الفاضلة، في المدينة الفاضلة التي أتعب العظماء أنفسهم في البحث عنها، مع إدراكهم لثمن هذا البحث الشاق:
وما أنا إلا ثائرٌ، فُلَّ سيفه
وأسلمه الحامي، فأثخنه الطعن
لقد عاد بي جُهْدُ السُّرى نحو غاية
حرامٌ على طُلاّبها العيش والأمن (2)
ب - الآخر:
__________
(1) بنية التخلف، إبراهيم البليهي، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، كتاب الرياض، ط1، 1415 هـ / 1995 م ص 191.
(2) الديوان ص 175.(14/64)
حمزة شحاتة “ عقلية تأملية ” لا يحب الوقوف عند الأشياء والأفكار وقوفاً عابراً، وإنما يحب أن يتأمل ويركبّ ويحللّ، ويغربل الأفكار، كما يغربل الناس. اتخذ من المراجعة الدؤوبة، والفحص الدوري للآخر منهجاً في الحياة فقام بفحص ذاته وتجريدها، وقدم لنا في “ النقد الذاتي ” فكراً نيّراً يدل على عظمة المفكر، في التحليل وفي مواجهة الذات ((ذلك الحقل المملوء بالصخور والشوك والعناء والمجهول)) (1) .
الآخر خضع للفحص تحت منظار هذا المفكر الكبير، وعبّر عنه بلغة أدبية بديعة التصوير والتصوّر. والآخر عنده.
1 - الفرد:
يغلب على نظرة حمزة شحاتة للآخر الفرد التنافي والنبذ والازدراء لا لشخصه، وإنما حين يكون ميت الهمة، سيء الخلق، ضامر الوعي، ولهذا يأتي الآخر مبهماً فيكون اسماً للجنس، يضم تحته أنماطاً كثيرة مشاكلة له في الخصائص، فالنذل هو المخلص لطبيعته، العابد لغرائزه ومصالحه الخاصة ((ليس في الناس من هو أكثر إخلاصاً لطبيعته من النذل)) (2) النذل إذن هو الأناني الذي لا تعني الحياة عنده إلا “ الحقوق ” فقط، أمّا الواجبات فلا يعترف بها، والنذل ضعيف النفس، فهو منافق يدعي الذكاء؛ لضعف نفسه، ودناءة طبعه ((ما أروع النذل عندما يلعب دور الرجل النبيل المهذب أمام ضحايا نذالته على الأخص عندما يظنّهم لا يعرفون)) (3) .
__________
(1) في النقد الذاتي ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، خالص جلبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3، 1405 هـ / 1985 م، ص 365.
(2) رفات عقل ص 65.
(3) المرجع نفسه ص 64.(14/65)
إن الإنسان يمكن أن يكون رجلاً صالحاً، أو قدّيساً - كما يرى حمزة - ويمكن أن يكون شيطاناً، والفرق بين الصورتين، درجة من الوعي تسمو بالإنسان إلى درجة الملائكة، أو تسقط به إلى عالم الشياطين والوحوش ((إن الإنسان ليس وحشاً خالصاً، كما أنه ليس على بعد ثابت من الوحش، أحياناً يدنو إليه أكثر)) (1) . والظروف تلعب دوراً مهماً عند حمزة شحاتة في التغيير السيكلوجي، فالإنسان ابن بيئته، ليس هناك إنسان صالح، وإنسان شريرٌ إلا بوسط اجتماعي يتحرك فيه، ويربيه على قيمه ((حتى الوحوش تحمل ذخيرة من الوداعة واللين أمام بعض الظروف)) (2) .
هذا الإنسان الغاوي يبلغ به حمزة شحاتة درجة من السخرية حين يجعل من حق الشياطين أن تفتش عن سبب غوايتها لديه ((ربما كان من حق الشياطين أن تعتبر الإنسان مسؤولاً عن غوايتها ... قالت جنيّةٌ لزوجها أنت إنسان في شكل شيطان)) (3) .
__________
(1) نفسه ص 89.
(2) نفسه ص 89.
(3) نفسه ص 65.(14/66)
لكن هذه الصورة تتبدل قليلاً حين يرسم صورة لصديقه الشاعر أحمد قنديل يختلط فيها الإعجاب بالسخرية، فأحمد قنديل شاعر له لسان ((ما يعجزه أن يحك به قفاه لو شاء)) (1) ، هاديءٌ يقضي في صفّه الدراسي أعواماً لا تندّ من فمه كلمة اعتراض، ((كاذبٌ ممعن في الكذب وما إخاله إلا كذبة تدفعها الحياة في شكل آدمي ليسهل تسرّبها إلى النفوس والأذهان، يكذب بعضه على بعضه، وظاهره على باطنه، فهو في مجموعه مثال للتنافر)) (2) ، وهو شاعر وكاتب من طراز نادر ذو فلسفة في إنكار الذات لو عرفت بين الناس لخلت البلاد من ثمانية أعشار الرذائل التي يولدها الغرور والجهل بالذات، بلديٌّ أصيل، وبلديته هي التي جنت عليه، وغمطته حقه (3) ، وفيه ((ميل إلى الابتكار والتجديد إلا فيما يتصل بمطالب جسده وعيشه فإنه رجعي إلى أطراف أذنيه ... وما فتيء قنديل بحاجة إلى ثورة إصلاحية تتناوله من جميع نواحيه الظاهرة، وتقوم بها مصلحة تنظيم مستعدة، وما نرى للبلدية عذراً في إغفال هذا الواجب، فسوف يجيء يومٌ يكون فيه الأستاذ قنديل جزءاً من تاريخ البلد، وجزءاً من تاريخ نشاطه الأدبي)) (4) .
وتنجلي الصورة عن أجمل مظاهرها في“ شخصيات ثلاث ” رجل وامرأتان، هم معالي الشيخ عبد الله السليمان الحمدان أول وزير مالية في المملكة، وشيرين حمزة شحاتة ابنة حمزة الكُبرى، ونفيسة، أو غادة بولاق.
صورة الشيخ عبد الله الحمدان “ صورة رجل عظيم ” يسوقها حمزة شحاتة مثالاً للعبقريّة ولكن ليتحدث عن سلوكها؛ لأن في ((نفس العظيم وسبيله في الحياة سراً خفياً من العبقرية الموهوبة يعجز عن إدراكه التحليل)) (5) .
قيمة هذه الصورة الجميلة تكمن في “ وعيها الشمولي ” وقدرتها على “ التجديد والابتكار ” في ذلك كله، مع اتفاق تام بين “ المخبر والمظهر ”.
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 39.
(2) المرجع نفسه ص 40.
(3) نفسه ص 39.
(4) نفسه ص 42.
(5) نفسه ص 54.(14/67)
فهو عبقريٌّ في كل عمل يلجه، ((فهو في حفول نفسه بمعاني العبقرية الفياضة أكثر من رجل، وأكبر من عظيم، وما بالك برجل يأبى إلا أن يكون في كل أعماله معنى من الابتكار والعمل الجبار؟ ومعنى من الأمل المنظم، ومعنى من الطموح الزاخر؟)) (1) .
كل هذا الإبداع يتجلى في ((وجه هاديء رصين الملامح، تترقرق فيه قوّة الأمل، وقوّة الإرادة، وقوّة الإيمان، وتجول مجالها في حواشيه الوادعة معان جذابة من اللطف، والكرم، واللين واتساع مدى الشعور، ومعان ناطقة تعبر عما يزدحم وراءها من ألوان العواطف والخوالج، والإحساس الدقيق لكل ما هو جميل وعظيم، وسويّ وفتان وقويّ)) (2) .
اجتمعت الأضداد في هذه الصورة الجميلة. الظاهر هدوء كهدوء الفجر الحالم، والباطن كونٌ يعج بالحركة، وشعلة تتوقد، وتفكير لا تقف دونه الحواجز، واللسان سحر وفتنة تقتاد أعصى القلوب (3) .
وعبقرية الرجل دليل عبقرية “ عاهل العرب الأكبر ” الملك عبد العزيز الذي أحسن الاختيار ((ولأن من حسنات عاهل العرب الأكبر عبد العزيز الأول، ما نراه اليوم من آثار بارزة في نهضة الشعب الكريم، وإصلاح سبيله في الحياة، فإن من أكبر الحسنات ولاشك أن يكون هذا الوزير الخطير، يداً عاملة لجلالته)) (4) .
وقد كان من آثار عبقرية الحمدان التجديّدية، إقامة رصيف لبناء الجمارك، وإعداد مخازن محكمة للبضائع ارتقت بفنيات التخزين.
ويربط حمزة التجديد في هذا المعمار بالوظيفة التي يؤديها، والأفكار التي يتأسس عليها فالفكرة قائمة ((على ترقية التاجر وتبديد شعوره بالغبن والإرهاق، وعلى التقريب الفكري بينه وبين أنظمة الحكومة ومقرراتها، ونصيب الفلسفة الإنسانية في هذا واضح بيّن)) (5) .
__________
(1) نفسه ص 54.
(2) نفسه ص 55.
(3) نفسه ص 55.
(4) نفسه ص 54، ص 55.
(5) نفسه ص 56.(14/68)
الحمدان عبقرية إدارية تخطّت مفاهيم “ الإدارة الجامدة، إلى الإدارة بالأهداف ”، فكان وجوده دفعاً لعجلة التنمية، وتحقيقاً عملياً للمواطنة الحقة. لم يكن الحمدان مشغولاً بذاته، وإنما كان مهموماً بإنجازاته، وكانت إنجازاته دائماً مرتبطة بالخيريّة والنفع العام، وهذا هو الإيمان بقيمة التكليف وأهميته في صنع الشهود الحضاري للأمة، وهذا ما أدركه الحمدان وآمن به، وحقق به ما حقق من تميز ومكانة اجتماعية.
وبهذا يكشف حمزة شحاتة عن أنَّ البناء الحضاري أساسه الإنسان، فما حدث للجزيرة لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله، ثم حنكة القائد “صقر الجزيرة ”، الذي لمَّ الشتات، وأقام كيان الوحدة، وأسس لحركة التنمية، وقاد معركة البناء بالعقول المبدعة.
وأما المرأة الأولى التي كان يرى فيها حمزة “ الأمل الممكن ” فهي ابنته شيرين التي تتجلى في رسائل والدها إليها، مثابرة، ذكية، مليئة بالطموح ومع كل هذا يظل يتعهدها برعايته ونصحه وتوجيهه، لتكون مثالاً للإنسان الصالح، المتطلع لغدٍ أفضل لا يعبأ بالعوائق، ولا يلين أمام الملمات (1) .
وأما الأخرى، فهي نفيسة الفتاة المصرية الجميلة التي كتب فيها قصيدة نشرت في الديوان باسم نفيسة، ونشرت مفردة بعنوان “ غادة بولاق ” وقد أضفى عليها أسمى صفات الجمال، فكانت نفيسة نموذجاً “ للجمال الأعلى ” في المرأة كما يتصوره حمزة شحاتة، وقد امتلأت القصيدة بالتساؤلات التي بعثتها فتنة الجمال، فوقف الشاعر يتملى هذا الكيان الأسطوري وقفة المتسائل الذاهل:
يا منحة النيل ما أحلى روائعه
هل أنت من سحره أم قد تبنّاك
وهل ترعرعتِ طفلاً في معابده
أم كاهن في ربى سيناء ربّاك
أم كنت لؤلؤة في يمه سُحرت
فصاغك اليم مخلوقاً وأنشاك
أم أنت حورية ضاقت بموطنها
فهاجرته صنيع المضنك الشاكي
فضمّك الليل في رفقٍ فهمت به
__________
(1) إلى ابنتي شيرين، حمزة شحاتة، جدة، تهامة، ط1، 1400 هـ / 1980 م.(14/69)
حبا، ووثقت نجواه بنجواك
أم أنت أسطورة قامت بفكرته
تحوّلت غادة لما تمناكِ
أم أنت من كرم ياخوسٍ معتقةٍ
قد انتفضت حياة حين صفاكِ
بل أنت من كل هذا جوهر عجبٌ
قضى فقدرك الباري فسوّاك (1)
2 - الأسرة:
الأسرة هي “ قاعدة الحياة البشرية ” (2) ، ولهذا فلابد أن تؤسس هذه القاعدة على أرض صلبة، حتى لا يتهاوى البناء ويتصدّع، واستراتيجية التأسيس تقوم على معايير ثابتة في اختيار العنصر الآخر الذي يشارك في بناء هذا الكيان، تضمن - بمشيئة الله - التناغم والانسجام وتكفل قوة البنية، وتطاول البناء. وحمزة شحاتة أقام كيانه الأسري “ ثلاث مرّات ” ولكن الكيان يتصدع، مرة تلو أخرى، وليس مهمتنا هنا “ الحفر الأركيولوجي ” عن أسرة حمزة شحاتة كيف قامت؟ ولماذا دب الخلاف بين الزوجين في كلّ مرة؟ المهمة هنا تقتضي الكشف عن فلسفة حمزة الجماليّة في وصف هذه القاعدة، وتأمل ذلك البناء، كما عاشه وكما أبدعه فنّاً جميلاً.
الشراكة التي عقدها حمزة شحاتة لبناء كيان أسرته كانت نتيجتها الندامة (( ... أما المتزوجون فندامتهم على الزوجيّة فقط)) (3) هذا الندم نتيجة فشل حمزة في مهمته، وهو فشل لا يجد له تفسيراً إلا سوء الطالع ((لقد تزوجت ثلاث نساء على التعاقب، وأنا الآن أعزب، وولد لي من إحداهن أربع بنات باطراد، وبنت من الأخرى، وبقيت وحدي المسئول عن خمس بنات محرومات من الأمومة.
أليس في حاجة إلى تفسير؟! إنّ حسن الطالع أو سوءه هو التفسير)) (4) .
__________
(1) الديوان ص 56.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت، دار الشروق، ط7، 1398 هـ / 1978 م 1 / 574.
(3) رفات عقل ص 37.
(4) المرجع نفسه ص 81.(14/70)
هذه الزيجات الثلاث كانت إشكالات مميتة ((الزواج الأول غلطة، والثاني حماقة، أما الثالث فإنه انتحار)) (1) ، وهذا الإشكال الذي وقع فيه حمزة ثلاث مرّات لا حل له إلا الموت أو الطلاق (2) ولأن حمزة لم يمت اختار الطلاق حلاً لذلك الإشكال المتكرر.
إن الرجل أو المرأة عندما يتزوج أحدهما، فإنه يستجيب لنداء الفطرة، ويبحث عن السعادة والعفاف، لكن الزواج استحال عند حمزة إلى نكدٍ وعذاب دائم تظلّ جدران السجن أرحم من العشق والزواج ((حتى السجن أرحم من فتاة عشقتها، ثم حوّلتها حماقتك إلى زوجة)) (3) .
لقد ضحى حمزة شحاتة بكل أمجاده في سبيل القيام بدور الأم في تربية بناتها عندما ذهبت لتتزوج، فلو قالت لبناتها: إنه شيطان لصدقت لسوء ما فعل، ولكنها ضريبة تلك الشراكة، حيث أمضى عمره “ مربية لخمس بنات ” (4) .
الزواج لا يكون ناجحاً إلاّ بالتكافؤ الفكري على الأقلّ، وهذا المفكر يطلب طرازاً خاصاً من النساء يشاركه في أفكاره التي هي أقرب ما تكون إلى المثالية ولهذا لم ينجح، كان يطمح حمزة شحاتة إلى أن يجعل من بيته مختبراً لبناء الأفكار فلم تنم الأفكار؛ لأنها لم تجد قراراً مكيناً تتلاقح فيه مع أفكار مخصبة ((إن الزوجة الكاملة لا تقل قيمة عن اكتشاف علمي عظيم، فإذا جاء يوم تغدو فيه الحياة سخية بالاكتشافات العلمية العظمى، فإنه لن يأتي اليوم الذي تغدو فيه سخيّة بالزوجات الكاملات؛ لأن هذه سعادة لا يستحقها نقصنا البشري فيما يظهر)) (5) .
من هنا كان الزواج “ همّاً وغمّاً ” ((الزوجة والأولاد غمٌّ في الليل، وهمٌّ في النهار)) (6) .
__________
(1) نفسه ص 95.
(2) نفسه ص 81.
(3) نفسه ص 51.
(4) إلى ابنتي شيرين، المقدمة ص 16.
(5) رفات عقل ص 83.
(6) المرجع نفسه ص 51.(14/71)
هذا الهم والغمّ سببه القصور الفكري والوجداني، أو “ صغر الكبار ” الذي يؤول بالسفينة إلى “ الغرق ” ((عندما يصغر الكبار فليس للأسرة أن تنتظر سوى الغرق)) (1) و ((صورة الكبير تصغر كلما قلّ نفعه للآخرين)) (2) .
لقد احتفظ حمزة بحب أسرته ووضع ((ذاته وإمكانياته تحت تصرف الجميع لا يستثني أحداً إلا نفسه)) (3) ، ومع هذا فلم يستطع أن يحقق رغباتها فكانت النهاية و ((عندما يعجز رب الأسرة عن تحقيق رغباتها يكون موته أفضل)) (4) .
لقد أنهار البناء ولم يبق إلا ضريبة “ المغامرة الخاسرة ” “ البنات الخمس ” اللاتي حاول حمزة أن يكون لهن الأب المثال، وظل يصارع المتاعب حتى سقط إعياءً، ولم آيبق سوى الأماني بتحقيق النصيب من العلم والمعرفة (5) .
هذه أحلام المفكر، أن يعدّ الأبناء للحياة، لا أن يُعِد الحياة للأبناء لقد كانت إشكالية حمزة الكبرى هي نبوغه، وإشراق عقله في محيط لا يشاركه وجدانياً هذا التدفق ((والعقول التي تتوازن كفاءاتها في غير أجوائها هي خير العقول وأقواها وأتمها نضوجاً)) (6) .
ولأنه كان يرى العالم حوله بمنظار أسود لما لقيه في أكنافه من ويلات، كان همّ تربية بناته عذاباً أبدياً ((لا تصدق أن هناك شيئاً أسوأ من أن تكون أباً لبضع بنات إلا إذا كنت لا تسمع ولا ترى ولا تشعر أو إذا كنت سوائياً تستوي عندك الأشياء مهما تناقضت وتباينت)) (7) .
__________
(1) نفسه ص 78.
(2) نفسه ص 79.
(3) نفسه ص 79.
(4) نفسه ص 78.
(5) نفسه ص 23.
(6) حمار حمزة شحاتة ص 53.
(7) رفات عقل ص 94.(14/72)
لقد عانى من المرأة كثيراً، وابتلي بخمس فتيات أراد أن يصنع منهن “ المرأة النموذج ” التي يتمناها، وهنا تأتي مشكلة التربية وانعدام التفاهم بين عقليتين مختلفتين أبناء يريدون الانطلاق، وآباء يخشون من انطلاقهم عليه وينتصر المنطلقون دائماً؛ لأن الحركة أقوى من السكون، وهذه أكثر صور الشقاء شيوعاً كما يعبر حمزة شحاتة (1) .
وبناءً على هذا يحذرنا المفكر الكبير: افهم أبناءك كما يريدون هم، لا كما تريد أنت، ((فبهذا يمكن أن تتذوق حلاوة حبهم واحترامهم، وإلا فليخطفك الشيطان ليلقي بك في أقرب مزبلة)) (2) .
هكذا كانت حياة حمزة مع أسرته، كان الزواج يمثل قيداً لا يطاق فنفذ الصبر، وفارق زوجته الأولى، وبحث عن شَرَكٍ آخر فوقع فيه، فنفذ صبره مرة ثانية وثالثة ((الطلاق دليل نفاذ الصبر، أما الزواج مرة أخرى، فبرهان على عمى البصيرة)) (3) .
لقد سئل العقاد عن سبب عدم إقدامه على الزواجه، فقال: خيّرت بين أن أكون زوجاً أو أكون رجلاً فاخترت أن أكون رجلاً، وحمزة شحاتة اختار أن يكون مفكرّاً حرّاً طليقاً لا يحدّه مدى ((الحب والمال والزواج أقدم أسباب التعاسة في العالم)) (4) . اقترن بالمرأة فلم يعش سعيداً، وإنما عاش فيلسوفاً.
كان يرى حمزة شحاتة في الزواج قدراً محتوماً لا مجال للاختيار فيه ((ليس الزواج عملية اختيار إنه قدر)) (5) ، وهذا القدر المحتوم الذي يُقحم الرجل في هذا العالم هو الذي يجعل منه فراشة طائشة تدور حول النار حتى تحترق (6) ، يُعمي القدر بصيرته فيجّره إلى سوء العاقبة جاهلاً بمصيره الذي ينتظره ((أرحم تفسير لمن يتزوج أنه يجهل الخطر)) (7) و ((أشجع كثيراً ممن يقتل نفسه الرجل الذي يتزوج)) (8) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 97.
(2) نفسه ص 98.
(3) نفسه ص 99.
(4) نفسه ص 58.
(5) نفسه ص 73.
(6) نفسه ص 73.
(7) نفسه ص 63.
(8) نفسه ص 63.(14/73)
والمرأة في “ جمالياتها ” العامة كائن بشري فيه ما يسر ومالا يسر ((في كل امرأة تسرك، امرأة أخرى تسوءك)) (1) ، وهذا يعني في ظاهره التوازن بين الجمال والقبح، ككلّ البشر، والمرأة خلقت من ضلع أعوج، ولهذا كان الهدي النبوي للعلاقة الزوجية عظيماً للاستعلاء على هذا التنابذ النفسي عند الشريك في الحياة الزوجية، فقد قال رسول الله (: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)) (2) .
ما أن يبدأ شهر العسل أو “ فترة تخفيف آثار الصدمة ” كما يسميه حمزة شحاتة (3) ، حتى يبدأ الجمال يتكشف عن صورة غير مقبولة، فالمظهر أصباغ ومساحيق صار جمال المرأة معها مجالاً للشك، وفقدت بسببه المرأة سحر الأنوثة ((الذين جمّلوا المرأة بالوسائل الصناعيّة لم يفقدوها سحر الأنوثة فقط، بل جعلوا منها صدمة لعواطف الرجل وخياله)) (4) ، وانكشف عالمها فلم يبق فيها - بعد سفورها - ما يثير فضولاً، ويغري بمتعة الاكتشاف (5) .
__________
(1) نفسه ص 55.
(2) صحيح مسلم، الإمام أبو الحسين مسلم النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية 1400 هـ / 1980 م، كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء 2 / 1091.
(3) رفات عقل ص 38.
(4) المرجع نفسه ص 55.
(5) نفسه ص 55.(14/74)
وأما المَخْبَر “ فعَالم ”من الشك والخداع والخشع، والرذائل. وتطغى على صورة المرأة “ الخيانة ” فهي تغمض عينيها لتستحضر صورة رجل آخر (1) ، و ((تبيت في هدوء مع صديقك الذي يمدّك بكل أخبارها)) (2) و ((لا تعرف للشرف والعفة معنى عندما تحب)) (3) وتحب لتتزوج وتتزوج لتحب، ولهذا يجعل من دقة الفطنة دعوة البدو المشهورة ((جعل الله ولدك من ظهرك)) (4) فهي ((دعوة تدل على دقة الفطنة لحرج مركز الرجل تجاه زوجته إذا قدر له أن يتلقى أبناءها باعتبارهم أبناءه)) (5) .
وهكذا تتحول السعادة إلى شقاء “ واللباس ” إلى عُري، والسكن والمودة والرحمة إلى معركة دامية غير متكافئة ((المعركة الأبديّة بين الرجل والمرأة غير متكافئة ينتصر فيها الرجل باستمرار، ولكنه الضحيّة دائماً)) (6) .
وينتهي الأمر بالطلاق وهو الذي يكون فيه الرجل الضحيّة ((سمعت أحدهما يقول: إنها تحبني وتخلص لي، ما في ذلك ريب ولكنها لا تقدم غذاءً لفكري وإحساسي بالحياة، فالعيش معها كزوجة لا يكون إلاّ محدوداً كعيش البهائم والحب وحده لا يستطيع أن ينهض بأعباء الدوام لعشرتنا.
وقال الآخر: هناك من تلهب فكرك وإحساسك، ولكنها تهب قلبها غيرك، فهي صالحة لأن تكون صديقة أو حبيبة كل شيء إلا الزوجة المخلصة الأمينة فهل يكفيك هذا لدوام العشرة؟!
وزفر الأوَّل زفرة كانت صك اعترافه بحيرته وقال: ألا ليت الزواج لم يكن ضرورّياً)) (7) .
3 - المجتمع:
المجتمع ليس كتلة بشرية وإنما هو نسيج علاقات وفي هذا يقول مالك بن نبي ((المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني، يتم طبقاً لنظام معين وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناءً على ما تقدّم على عناصر ثلاثة:
1 - حركة يتسم بها المجموع الإنساني.
__________
(1) نفسه ص 42.
(2) نفسه ص 57.
(3) نفسه ص 61.
(4) المرجع السابق ص 62.
(5) نفسه ص 68.
(6) نفسه ص 59.
(7) نفسه ص 82، ص 83.(14/75)
2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة.
3 - تحديد لاتجاهها)) (1) .
وبتناغم هذه العناصر الثلاثة “ الحركة ” و “ المنتج ” و “ المنهج ” يصنع المجتمع شهوده الحضاري، وبتنافرها ونشاز نغمها يظل راسفاً في قيود التخلف والتبعيّة.
والمجتمع بوصفه “ شبكة علاقات ” كان أحد محاور البحث والتأمل في الفلسفة الجمالية عند حمزة شحاتة، حيث أعلن “ حرباً أهلية ” على “ عوامل القبح ” في المجتمع، وكان مناضلاً جعل من مقاومة الانحطاط رسالته الأولى، وكانت قيمته بوصفه أحد عقد هذه الشبكة أن يكون منتجاً وفعّالاً، وليس عالة عليه ((إن حياة المجتمع كالحرب تماماً لا عبرة فيها بما يسقط، ولكن بما يظلّ قائماً، ومع ذلك فإن كل شيء سيخبو وينطوي، إنني منذ ولجت باب العيش، وحتى هذه اللحظة، لم أكن عالة على المجتمع، ألا يكفي هذا، فوق أنّه مبرر لوجودي، أن يجعلني مواطناً أقاوم عوامل الانحطاط)) (2) .
وحين يتأمل الصحافة السعودّية بين الماضي والحاضر يجدها صورة للمجتمع، حين تحوّل من مجتمع عشائري إلى مجتمع موحد على يدي الملك عبد العزيز طيب الله ثراه حيث ((تكامل عمران المدن، وامتدادها، وتكدس منتجات الحضارة وشيوعها، وتكاثر وسائل النقل، والمواصلات، وبروز معالم الحياة، وامتلاء المشاعر بها، والتعلق، والتململ، والصراع، تعبير عن توهج الرغبة في التخلص من آثار الشعور بالتخلف والإقبال الملتهب على أي منفذ من منافذ الحياة ... )) (3)
لقد شهد حمزة شحاتة دخول المجتمع السعودي مرحلة الانطلاق الحضاري على يدي موحد الجزيرة، وأعجب بتلك القفزة الحضارية التي انتقل فيها المجتمع من “ قبائل متناحرة ” إلى “ دولة وحدة ”.
__________
(1) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي – الجزء الأول شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، طرابلس، دار الإنشاء، طربلس، دار الإنشاء، ط2، 1974 م ص 15.
(2) رفات عقل ص 15.
(3) المرجع نفسه ص 20.(14/76)
وأبدى إعجابه بنماذج “ اجتماعيّة ” مضيئة، لها حضورها الفاعل في البناء الاجتماعي كصديقه أحمد قنديل، ومعالي الشيخ عبد الله الحمدان أول وزير للماليّة، لكنه لم يغفل عن ممارسات بعض “ القوارض الاجتماعية ” (1) بحسب تعبير مالك بن نبي التي تسعى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي، والعبث بشباكه، وذلك من خلال ممارسات تغلب فيها الذات على المجموع، ويصبح الحق أولى من الواجب إن لم ينعدم الواجب ويختفي.
إن الشهود الحضاري للمجتمع لا يكمن في تكديس منجزات الآخرين وإنما يكمن في الفعل الحضاري، والاندماج في شبكة المجتمع والعمل بروح الفريق (2) .
لقد رأى كثيراً من القيم تنتحر تحت أهواء الذات ونوازعها، فالهجرة الدينية المتتابعة إلى المجتمع السعودي، وشيوع التواكل، والانطفاء الحضاري، وانعدام التجديد، وغلبة الرتابة قوارض اجتماعية ينبغي تتبعها والقضاء عليها حتى لا تخترم ذلك النسيج، وتمزق وحدته. ويُعدّ كتابه “ رفات عقل ”، ومحاضرته الشهيرة “الرجولة عماد الخلق الفاضل” بحثاً دقيقاً في هذه المسألة.
4 - الأمة:
((المعنى الاصطلاحي المتكامل للأمة يتضمّن عناصر أربعة: الأوَّل: العنصر البشري، والثاني: العنصر الفكري، والثالث: العنصر الاجتماعي، والرابع: العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضاريّة نافعة للإنسانية، وتعيش طبقاً لمباديء هذه الرسالة، وتظل تحمل صفة الأمة مادامت تحمل هذه الصفات، أمّا حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم الأمة ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي الكامل للأمة)) (3) .
__________
(1) مخطط الانحدار وإعادة البناء، الدكتور خالص جلبي، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، كتاب الرياض، 1417 هـ ص 99، ص 121.
(2) بنية التخلف ص 86.
(3) الأمة المسلمة مفهومها، مقوماتها، إخراجها، ماجد عرسان الكيلاني، بيروت: العصر الحديث 1412 هـ / 1992 م، ص 20.(14/77)
والأمة الإسلاميّة تعاني نكوصاً في جميع مجالات الحياة وتفتقد لتكامل هذه العناصر الأربعة ولذا فهي تحتاج إلى وقفة جادة وشاملة لإعادة إخراجها، واسترداد دورها في الشهود الحضاري. وحمزة شحاتة كان أحد أدبائنا ومفكرينا الذين استوقفهم حال الأمة “شهود حضاريٌّ ” في الماضي و “ إفلاس حضاري ” في الحاضر.
إن التنافر الذي يدب في التجانس التركيبي للحياة هو الذي يدفعها إلى الأمام، لكنه لا يفعل ذلك في أمتنا بوصفها جسماً اجتماعيّاً حيّاً (1) .
ولهذا فالمآل هو الهلاك ((ينبغي أن لا نشك في مستقبلنا الاجتماعي كأمة كلما ارتفع ميزان الحضارة والتقدم الصناعي في الأمم البعيدة، لا معدى عن أن نرتدّ بدواً تضرب في هذه الصحاري المقفرة لتشارك الحيوانات حياتها)) (2) .
وعلى هوان هذه الأمة ونكوصها الحضاري أنها ((كالمعدة القوية، تهضم كل شيء بسهولة)) (3) تهضم ما تحتاج إليه ومالا تحتاج إليه، وهذا الهضم المتكرر، يعلم الاستهلاك لا الإنتاج، ويقتل ولا ينفع، “ والمعدة بيت الداء ”، وهذا يعني أن “ الإنتقاء ” مبدأ حياة، وخيار وجود، ودليل وعي.
هذه العلة تجعل سمة كل ((من يحلم بإصلاح هذه الأمة، أن يكون مفرطاً في التشاؤم إلا إن كان لا يعبأ بالخذلان)) (4)
لقد أصبحت الأمة “ حيواناً بليداً ” حين فقدت شهودها الحضاري، ولا يعاب الأدباء - ومنهم حمزة شحاتة - في أنهم لم يستطيعوا ((تحريك هذا الحيوان البليد الذي تدعوه أمه؛ لأن هذا لم يكن ميسوراً لكرّة الزمن نفسه في ثلاثة عشر قرناً)) (5) .
__________
(1) رفات عقل ص 47.
(2) المرجع نفسه ص 47.
(3) نفسه ص 49.
(4) نفسه ص 48.
(5) نفسه ص 46.(14/78)
لقد فقدت الأمة “ رشدها ” بعد معركة صفين (1) ، عندما بدأت أخلاق الأمة في الانهيار، وبدأت تطفو على الساحة أخلاقيات جديدة، وسلوكيات مغايرة لقيم الهدي الإلهي، ولهذا فنهضة الأمة لا تكون إلا بنهضة أخلاقيّة يعرف فيها الفرد والمجتمع الحقوق والواجبات، ويستشعر فيها كل فرد المسئولية، والأمة ((لا يمكن أن تنجح إلا بأخلاقها وتقاليدها النابعين من تاريخها وخصوصاً في هذا العصر)) (2) .
هذه الأخلاق نتيجة تربية سليمة ترفع درجة الوعي لدى أبناء الأمة فتنتفي الازدواجية المميتة بين الفكرة والواقع، حين يصبح الواقع ميداناً لممارسة الأفكار واستنباتها وتطويرها، وفي ضوء هذا التناغم تنشأ سلوكيات سوّية تكشف عن ثقافة راسخة، لم تفرض برأس البندقية، وإنما تنبثقُ من نفوس مؤمنة بأصالة الموقف الذي تتبناه، والأصل الذي تنتمي إليه.
وهنا تتفاوت الأمم، ويتباين السبق الحضاري بتباين أساليب التربية ((لا تحيا أمة إلا بالتربية الصالحة، وما نراه من الفروق بين الأمم الناهضة إنما مرده تفاوت أساليبها في التربية.
وقد تماثل أمة أمة في قوتها الظاهرة، ولكن الغلبة تكون دائماً لأقواهما خُلقاً. وتفوق السياسة الانجليزية ليس مرده القوة الحربيّة، ولا امتياز الذكاء والإدراك، ولا قوة النفوذ، وامتداد السلطة وارتفاع ميزان الثروة؛ لأن هذه النتائج ضمنتها قوة الخُلُق في الفرد الانجليزي.
ولقد كانت فرنسا وما تزال أقوى ذهنية، وأحدّ شعوراً، ولكن اتجاه المزاج الإفرنسي، كنتيجة لأسلوب التربية الغالب في فرنسا جعل الفرنسي، دون الانجليزي في متانة الخلق، وصدق الاتجاه، وقوة العزيمة، وضبط النفس.
__________
(1) شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين، بيروت: دار الفكر، ص 19.
(2) رفات عقل ص 70.(14/79)
والإجماع عام على أن أيّة نهضة لا تقوم على قوّة خلقيّة في أمّة، إنما تكون نهضة مقضياً عليها بالانهيار والتحيّر..)) (1)
والرجولة عماد الخلق الفاضل، فالرجولة هي السلاح، وهي قوّة الدفع ساعة الضعف ((ها نحن نرى أمة نكرة بين الأمم يعجزها النهضان، ويصرفها لهوها بالفضائل، عن انتهاج سبيل القوة والارتقاء، وسبيل الحياة والسمو، فأين القوّة والجمال والحق تأخذ بيدها؟
أين الرجولة تأخذ بيدها وتقيل عثرتها؟
الرجولة التي كانت رمز القوة الفعالة في الإنسان القديم!
ورمز سجاياه ومحاسنه في أولى وثباته إلى التطور!
ورمز الحياء والرحمة والعدالة في فجر مدنيته المنبثق!
ورمز المبدأ للعربي يوم نهض بأعباء رسالته التاريخية)) (2) .
و“ الفضائل ” عندما يضعها حمزة شحاتة تحت مجهر التشريح، ويقوم بتجريدها، وفق فلسفته الخاصة، يقدّم لنا رؤية جديدة يتخطى بها حدود النظر الضيّق إلى آفاقٍ رحبة لا ليضعف هذه الفضائل، وإنما ليبلغ بها أبعد آماد القوة والاحتمال (3) .
وهذه مجازفة استدعتها الأمانة مع ما لهذه المجازفة من عواقب وخيمة؛ لأن رج المعتقدات والأعراف الثابتة، يقابلها الناس بردود فعل عنيفة لا تكاد تقاوم، ولكن الحياة لا تستقيم إلا بهذه المغامرات من الطامحين لصناعة الحياة الذين يكشفون خبايا الوجود والفكر (4) .
وحمزة شحاتة يربط بين الأطوار الاجتماعية والفضائل، فالفضائل تتلبس معاني ومفاهيم خاصة في كل طور اجتماعي، ولهذا لا سبيل لتفكيك هذه المفاهيم إلا في سياقها الاجتماعي.
فالفضائل: ((صفات وأعمال تؤمن الجماعة الغالبة اصطلاحاً بفائدتها وضرورتها، أو بأنها خير..)) (5) .
__________
(1) الر جولة عماد الخلق الفاضل ص 106.
(2) المرجع نفسه ص 120.
(3) نفسه ص 24.
(4) نفسه ص 24.
(5) نفسه ص 33.(14/80)
فالنفع أساس الفضائل جميعاً، لكنّ هذه المنفعة تختلف باختلاف العقول والعصور، وهذا الاختلاف في تصور بعض الحقائق وإدراكها من عصر إلى عصر وعقل إلى آخر لا ينفي الحقيقة الأصلية (1) . وهذا أمر لا يدركه كثير من الناس ((فإذا قال مفكر اليوم: إن الفضائل أوهام عقلية أو نفسية، غايتها إيجاد مثل عليا للجموع تستمد منه روح العزاء والعزيمة والأمل، لم يكن معنى هذا إنكار صحة تعاريفها أو صحة الأحكام التي أعطيت عنها..)) (2) .
وحين يعرض لأطوار الفضيلة يذهب إلى أنها مرت بثلاث مراحل: كانت في الطور الأول ضرورة فرضتها طبيعة الحياة في عصر الإنسان البدائي. فصارت معتقدات شعورية شعرت بها الجماعة فاستجابت لأحكامها، وتحولت في طورها الثالث إلى أخلاق وملكات لا شعورية وخصائص نفسية وفكرية من خلال المحاكاة (3) .
وإذا كانت الرذائل “ أنانية عارية ” فإن الفضائل “ أنانية مهذّبة ” (4) ؛ لأنها ألفاظ القوي واستراتيجيته لاستغلال الضعيف وقهره (5) ، أما الحياة فلا تعرف إلا الأقوياء (6) قديماً كان الجسد مصدر القوة، فجاء النفوذ والثروة وحلا محل القوة الجسدية (7) وكل هذا يتم تحت مسمى “ الفضيلة ” فكم من المجازر البشرية التي انقادت لها الجماعات البشرية مأخوذة بأوهام الحق والعدالة والدفاع عن الفضائل المستباحة (8) .
__________
(1) نفسه ص 31.
(2) نفسه ص 31
(3) نفسه ص 51 - 56.
(4) نفسه ص 64.
(5) نفسه ص 66، ص 67.
(6) نفسه ص 68.
(7) نفسه ص 64.
(8) المرجع السابق ص 68.(14/81)
ففضيلة “ الكرم ” مثلاً كانت دليلاً على القوة، فصارت دليلاً على النفوذ (1) . وهذه الفضيلة لم تنشأ كاملة السمات، وإنما تدرجت من الضرورة إلى أن صارت ملكة لا شعورية، كان الكرم في الأصل دلالة افتخار على اتساع نفوذ القوي فأصبح صفة لازمة لمن تحلهم قوتهم ونفوذهم محل الأبطال والقادة، فالكريم كثير الأعوان، عميق الأثر، رفيع المنزلة ولهذا يمجده الناس مع أن العفيف أكثر قهراً لشهوات النفس (2) .
والبخل رذيلة بلاشك تدل على ضيق النفس، وفتور الفكر الطامح ولكنه يدل من جهة أخرى على فهم عميق لطبيعة الحياة، وحقيقة الناس، وطبائعهم المطوية (3) .
فإذا كان الكرم خيالاً جميلاً، فإن البخل حكمة وفلسفة عميقة.
فالكرم “ أنانية مهذبة ” لأن الكريم يعطي ليأخذ، يكرم ليستعبد النفوس ويسترق الألسنة، ويستمتع بلذة الثناء، وبهرج الاستعلاء (4) .
وهذه حقيقة، يؤكدها واقع الحياة المعاصرة، وجدل الفكر الشعري الذي يتجلى بين الشاعر الباحث عن “ الخيال الجميل ” والثناء السائر، وزوجته الحكيمة التي تتحدث بلغة الحياة، ورؤية الإنسان الخائف، ولا ينفيها ترغيب الإسلام في الكرم والحث عليه كقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (5) .
__________
(1) نفسه ص 70.
(2) نفسه ص 70.
(3) نفسه ص 71.
(4) نفسه ص 71.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب الحث على إكرام الجار والضيف 1 / 70.(14/82)
فالإسلام يسمو بهذه الفضيلة كغيرها من الفضائل فلا يجعل الميزان فيها للأخذ والعطاء، وحسابات الربح والخسارة، والمصالح الضيّقة، ولهذا يسميها حمزة شحاتة “ محاسن ومعايب ” (1) ، ((أما الفضائل التي نراها خليقة بهذه التسمية، فهي التي نزل بها القرآن ودعا إليها. تلك فضائل لا يكون للمتصف بها، والمؤمن بقوانينها، نظر إلى مصلحة أو سمعة، وإن كان شيء من ذلك فالمثوبة عند الله والزلفى إليه. فالكرم فيها إحسان إلى مستحقه، ينزل منزلة الحق المفروض له. وخروج من سلطان المادة وحدودها في سبيل الله)) (2) .
والانحراف بهذه الفضائل ضرورة اقتضاها سير الحياة وقوانينها (3) .
وذلك ((أن النظرة العامة إلى الفضائل أصبحت نظرة خيالية لا نظرة إيمان وتحتيم. وإنها لم تعد سلاحاً يضمن الحماية لمتقلّده)) (4) .
والعودة بهذه الفضائل إلى ما كانت عليه هو سبب النجاة، والأمل في الشهود الحضاري، وسبيل القوة والظفر (5) .
هذه الرؤية الفلسفية العميقة للفضائل وربطها بتطور الحياة الاجتماعية عند حمزة شحاتة كما تجلت في محاضرته “ الرجولة عماد الخلق الفاضل ” ذهب الأستاذ الكبير محمد حسن زيدان إلى أنها مستمدة من كتاب علم الاجتماع لنقولا حدّاد (6) ولكن عزيز ضياء يرى فرقاً بين استنساخ المعرفة و “ ابتكارها ”، فقد يكون حمزة شحاتة وقف على ما قاله “ نقولا حداد ” وأفاد منه، ولكن الإفادة شيءٌ، والتقليد شيءٌ آخر، وحمزة شحاتة في كل ما يكتب كان من أبرز خصائصه ((التعشق الملهوف للاستقلال الفكري والحرص الممضّ على الابتداع، والترفع عن الاتباع..)) (7) .
__________
(1) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 78.
(2) المرجع نفسه ص 79.
(3) نفسه ص 81.
(4) نفسه ص 81.
(5) نفسه ص 85.
(6) حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف ص 47.
(7) المرجع نفسه ص 47، ص 48.(14/83)
وقد جهدت في البحث عن كتاب “ نقولا حدّاد ” فلم أجده، لكن الذي أراه هو أن حمزة شحاتة لديه قدرة مدهشة على الإبداع والإضافة في محاضرته هذه، وفيما عرض له من قضايا فكريّة وأدبيّة، الأمر الذي يعزز روح النبوغ لديه.
واعتقد أن حمزة شحاتة أفضل من قدّم رؤى خصبة من روادنا الكبار فيما يسمى “ بالنقد الثقافي ” الذي يبحث في الدلالة المضمرة للخطاب الجمالي، ويكشف بعض عيوبه المنسربة تحت قشرته الظاهرة (1) .
جماليات المكان
علاقة الإنسان بالمكان علاقة قديمة تمتد بالإنسان إلى أبيه الأوَّل آدم عليه السلام الذي كان خلقه قبضة من الطين ونفخة من الرُّوح، فمن الأرض تشكّل أبوه بقضاء الخلاّق العليم، وصارت الأرض له بيتاً كبيراً يحنو عليه وأُمّاً تعذق بما سخر الله فيها من طاقات الحنوّ والخصوبة.
وبدأ الإنسان يشكل مكانه الخاص به، وفي إطار من الإحساس بالمدنية بدأت دوائر المكان تتسع من البيت الصغير “ المنزل ” إلى البيت الكبير “ الوطن ” إلى المنزل الأكبر “ الأمة ” ثم “ العالم ” الذي أصبح بيتاً للجميع، لا حياة إلا فيه، ولا بقاء إلا بالحفاظ على نظافته ونقائه.
والمكان في رؤية الإنسان يكتسب خصوصيته وقيمته وجماليته من خلال علاقة الكائن به، وألفته له، وليس من خلال وجوده الموضوعي ((إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لامبالياً، ذا أبعاد هندسيّة وحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيّز. إننا ننجذب نحوه؛ لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية)) (2) .
__________
(1) انظر بتوسع النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربيّة الدكتور عبد الله الغذّامي، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000 م.
(2) جماليات المكان، غاستون باشيلار، ترجمة: غالب هلسا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، 1407 هـ / 1987 م، ص 31.(14/84)
والمكان في الفلسفة الجماليّة عند حمزة شحاتة له حضوره الخاص، تأملاً وتآلفاً أو تنافراً، بمقتضى رؤية خاصة تشكل للمكان وجوداً جديداً، وتضفي عليه ألواناً وظلالاً “ شحاتّية ” تنقله من وجوده “ الموضوعي ” إلى وجود “ جمالي ” جديد لا نجده إلا في هذه الفلسفة الجماليّة.
وحين نستقرئ آثار حمزة شحاتة نجد عدداً من الأماكن استوقفت حمزة وصبغها بروحه ومشاعره فنقلها إلى عالمه الخاص ومنها:
1 - البيت.
2 - المدرسة.
3 - المدينة.
4 - الوطن.
1 - البيت:
((البيت هو ركننا في العالم، إنه كما قيل مراراً، كوننا الأوَّل، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى، وإذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت جميلاً)) (1) .
في هذا الكون الصغير تتآلف الأشياء، وتجتمع الأسرة، وتكتب الأحلام، ولهذا يظل البيت عالقاً في الأذهان لما ينطوي عليه من ذكريات جميلة، ولما حفظ لنا بوصفه مكاناً من مواقف لا تُنسى.
في البيت تتشكل عقلية الطفل، وتتحدد شخصيته، وحمزة شحاتة يرى أن البيت لدينا يمارس سلطة قمع على الطفل، فالطفل لا يشعر بوجوده إلا بالحركة والشغب وإلا أصبح قطعة أثاث جامدة لا روح فيها، فينشأ شعور الحريّة مع الطفل فيقابل بزواجر القانون “ استح ” (2) . هذا القانون الذي يحاول أن يجعل الطفل في غده إنساناً ((متسقاً، مؤدباً، هادئاً، فلا يلتهم الطعام، ولا يصرخ من الألم)) (3) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 36.
(2) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 87.
(3) المرجع نفسه ص 90.(14/85)
و“ المجلس ” في البيت عندنا يمثل المدرسة الأولى، لكننا نمارس فيه إرهاباً تربوياً على الطفل، فالطفل إذا ما دخل المجلس، وأحدث حركة، أو حاول المشاركة في الحديث قيل له: “ استح ” ليكتشف في رحلة الحياة بعد ذلك أن الحياء الذي رُبيّ عليه “ عقدته العصبية الخطرة ” ((يرى خطيباً يخطب ويتلعثم. يقول في نفسه هو: لا يحسن الخطابة. يسمع الناس يقولون: يستحي! يدخل إلى مجلس غاصّ فيرتعد، يعرق، يبتسم الناس، ويسألونه لماذا تستحي؟ يسمعهم يقولون: فلان يستحي كالنساء. يرى الذين لا يستحون يتصدرون المجالس، والذين يتوقحون يسيطرون عليها ولو سيطرة ظاهرة، ويضحك الناس لهم تشجيعاً)) (1) .
والبيت في كثير من رؤى حمزة شحاتة كون مليء بالمتاعب ((في البيوت التي انهدمت كما في البيوت القائمة، نفس الأسرار والمتاعب والكوارث.. والفرق في الظهور والخفاء مع اختلاف يسير في الكم والكيف إذا روعيت الدقة)) (2)
السعادة عند حمزة شحاتة لا تحب البيوت إذ ((لو كانت السعادة تحب البيوت لما امتلأت المقاهي والملاهي بروّادها)) (3) .
هكذا يفقد البيت حميميته ويفقد معه حمزة وجوده فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مقتتاً كما يقول باشيلار (4) .
وحين يكتب حمزة شحاتة رسائله إلى ابنته تظل هذه الصورة النمطية للبيت حيّة في كلماته، فالبيت هو المكان الذي تتسلّل إليه التفاهات (5) . ولكنه في مواطن كثيرة يحث ابنته على التفاؤل والبحث عن السعادة مع زوجها في طريقهما الطويل، وكأنه بهذا الإلحاح الدائم عليهما في رسائله يقدّم صورة جديدة للبيت على الأقل كما ينبغي أن يكون.
__________
(1) نفسه ص 90.
(2) رفات عقل ص 39.
(3) المرجع نفسه ص 64.
(4) جماليات المكان ص 38.
(5) إلى ابنتي شيرين ص 136.(14/86)
إن البيت حلم لا ينقطع، يولد به الإنسان، ويحمل عنه الذكريات، ويظل حلمه عن البيت القديم، وما أن يستقر به القرار حتى يلوح في خياله “ بيت التراب ” القبر الذي يظل شغله الشاغل حتى يوارى بالتراب.
والبيت ليس بجدرانه وغرفه وألوانه، وإنما بمشاعر صاحبه، وأحاسيس قاطنيه، ولهذا تتولد العلاقة بين البيت والإنسان من خلال تلك الأحاسيس، فيكون ملاذاً للتفاهات، والتفتت كما عند حمزة شحاتة، أو يكون نبعاً للمشاعر الفياضة يقول باشيلار: ((إن عمل ربة البيت في تنظيم قطع الأثاث في الحجرة، والانتقال من هذه الحجرة إلى تلك ينسج علاقات توجد ماضياً قديماً جداً مع عهد جديد، إن ربّة البيت توقظ قطع الأثاث من نومها)) (1) .
وهذه الصورة الكابية للبيت عند حمزة شحاتة نتيجة لعلاقة خاصة به، فالبيت كان العالم الذي جرّب البحث فيه حمزة عن السعادة فلم يجدها من خلال ثلاث زيجات انتهت كلها بالفشل. كان ((الزواج الأول غلطة، والثاني حماقة، أما الثالث فإنه انتحار)) (2) .
2 - المدرسة:
المدرسة هي القابلة الثانية بعد “ البيت ”، تترسخ فيها قيم البيت، أو تنشأ فيها إشكالية الازدواج بين المفاهيم والممارسات.
المدرسة تُعلم الفضائل من صدق، وعفّة، ورحمة، وصبر، وحلم، وتضرب النماذج على ذلك كله في كتب الدين والتاريخ والأخلاق، لكن هذا التعليم النظري يصطدم بالواقع، فالطفل يرى أستاذه يكذب، ويخاف، ويرى أباه وأمه يكذبان، ولا ينجو من عقاب الجميع إلا باصطناع الأكاذيب، وهنا تتكشف الحياة عن ازدواجية بين مُثُل البيت والمدرسة وواقع الممارسة فيهما، يرى من يقول شيئاً، ويفعل ضدّه، ومن يخاف القانون، ولا يخشى تأنيب الضمير فتنشأ عقدة عصبية أخرى (3) .
__________
(1) جماليات المكان ص 83.
(2) رفات عقل ص 95.
(3) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 89، ص 90.(14/87)
ولهذا تفشل المدرسة في بناء الرجال الفضلاء، وإن علمتهم الأخلاق (1) . والسبب “ الجهل بعلم التربية ” ((الدراسة عندنا لا تزال قائمة على حشو الذهن بالمعلومات والقواعد، وعلى إرهاق الطفل، وكبت نزعاته النفسية والوجدانية، وها نحن نرى آثار هذه العيوب في “ انمحاء آثار الشخصية ” من جميع من تخرجهم المدارس، وفي كلال أذهانهم، وأعصابهم، وفتور حيويتهم الفكرية. فلا نكاد نجد أثراً لنشاط الفتوّة في نفوس أبنائنا.. فالغلام عندنا مطبوع بطابع الكهل، والشاب مطبوع بطابع الشيخ الهرم)) (2) .
المدرسة بهذه الصورة القاتمة نتيجة للفراغ بين الكائن والمكان، وانعدام التفاعل وفتور العلاقة بين المعلم والمدرسة، فاختيار المربي الفاضل مسألة في غاية الخطورة، ((وإذا كانت طبيعة حياتنا قد أفقدتنا الأب والأم الرشيدين فلا أقلّ من أن تعوّضنا التربية المدرسية أساتذة يقودوننا بحكمة وخبرة ليعدّلوا ما فينا من اعوجاج)) (3) .
هذا الفراغ الوجداني جعل مدارسنا ((معامل تفريخ كل غايتها أن تدفع عدداً من حملة الشهادات، لا يعرفون فناً تجريبياً، ولا علماً عمليّاً، ولا صناعات يدوية، تفتح في الحياة ميادين نشاط جديدة، غير ميدان الوظيفة، والمكتب، والديوان)) (4) .
وجعل الحياة فيها ضرباً من “ ضروب النعاس الثقيل ” (5) .
وجمالية المكان إنما تتحقق بعلاقة جديدة بين كائنات المكان، حيث تصبح تربية البيت حرّية فاضلة، لا زواجر فضة، وتربية المدرسة عملاً وإدراكاً وممارسة لا آليات فكريّة، وقواعد مكرورة (6) .
هذه العلاقة الجديدة هي التي حشدت لها إنجلترا أعظم رجالها من ساسة وأدباء وفلاسفة وعلماء وفنانين فكان القرار في عشرين مجلداً ضخماً (7) .
__________
(1) المرجع نفسه ص 92.
(2) نفسه ص 110 - 111.
(3) نفسه ص 111.
(4) نفسه ص 111.
(5) حمار حمزة شحاتة ص 41.
(6) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 92.
(7) المرجع نفسه ص 111.(14/88)
والنتيجة شهود حضاري للإنسان، وجمالية في المكان، واتساق واعتدال وتوازن في كل شيء (1) .
3 - المدينة:
المدينة في الوعي الثقافي المعاصر في الغرب والشرق ذات صورة قاتمة، فهي أحد نتائج العلم الحديث بكل مساوئه ومحاسنه، إذ شهدت المدن الحديثة في العالم ويلات الحروب، واصطدمت بلهيبها المحرق، وغاصت في دخان المصانع، ونفاياتها، وقام التصميم العمراني فيها على “ الوحدة ” أكثر من الاندماج الذي كان موجوداً في القرية بامتدادها الأفقي، وأفنيتها المفتوحة، وبيوتها المتلاحمة، فانكمشت العلاقات الإنسانية، وتقطعت أواصر القربى. ولهذا حين نفتش عن صورة المدينة في الوعي الشعري - مثلاً - وهو بطبيعته وعي مرهف - نجدها تعجّ بالاغتراب، والجدران العالية والبهرج الخادع، والإيقاع اللاّهث، والخوف، وأوكار البغايا، وشريعة الغاب (2) .
وهذه هي صورة المدينة عند حمزة شحاتة ((منطق الغابة هو واقع المدينة بزيادة طفيفة هي القانون)) (3) .
منطق الغابة هو الذي سوّغ لبعض أقارب حمزة الاستيلاء على أمواله في ((صفقتين ماديتين فادحتين في حياته)) (4) ، حيث وضع ما يدخر من المال في يد أحد أقاربه ليقوم باستثماره فغدر به، وما إن استرد أنفاسه حتى وقع في قبضة أحد أصدقائه. هذا المنطق هو الذي أوقعه في حبائل الاقتران بالمرأة ثلاث مرّات تنتهي جميعها بالطلاق (5) .
__________
(1) نفسه ص 91.
(2) انظر على سبيل المثال المدينة في الشعر العربي الحديث، الدكتور: مختار علي أبو غالي، الكويت: عالم المعرفة 1415 هـ / 1995 م، ص 14 وما بعدها.
(3) رفات عقل ص 45.
(4) الخطيئة والتكفير ص 210.
(5) المرجع نفسه ص 208 - 211.(14/89)
المدينة في رؤيته بلا مدينة ولهذا لا تستحق الحب ((إن الحب في بلد مايزال نصيبه من المدينة ضئيلاً - كالقاهرة مثلاً - أشبه بلعبة الثلاث ورقات لا يؤخذ بها إلا الساذج العزير، ترى ما الأمر في لندن وباريس ونيويورك؟!)) (1) .
وهي كائن جامد لا يتغيّر - والجمود في عرف الفنان هو الموت - فالمدينة بهذه الصفة ((عاجزة عن استفزاز مشاعرك الفنية وتغذيتها)) (2) .
لم يجد حمزة في المدينة قلباً رحيماً، ولا زوجاً حانية، ولا صديقاً مخلصاً، ولا حركة تستفز المشاعر، فانكفأ على ذاته باحثاً عن مدينة فاضلة في أعماقه البعيدة.
وحين نستقريءُ صورة المدينة في شعره نجد حنيناً إلى المدينة، كما في قصيدة “ وُج ” التي يذكر فيها ماضيه الجميل في رحاب ذلك الوادي، ويجعل العيش بعيداً عنه ضرباً من الكذب والفجاجة:
كذب العيش بعد يومك يا وُجُّ
مريراً، والعمرُ بعدك فجا (3)
ولا يكاد يردُ حديثه عن المكان إلا في سياق الإحساس بالغربة، والضيق والقيود، والعقوق والنقائص كما في قصيدته جدة التي دفن العقل بين شاطئيها في أول بين عندما قال:
النُّهى بين شاطئين غريق
والهوى فيك حالم لا يُفيق (4)
وقصيدته “ أبيس ” التي قالها في مصر، وتذكر فيها مكة المكرمة مسقط رأسه، فتجلت أحاسيسه مثقلة بالتحديّ للأعداء الذين طال صمته عن سفاهاتهم:
يا حنايا أم القرى فيك قرّت
مهج ما انطوت على شحناء
بيد أن الأذى، وعدوانه السا
در، قد أججا لهيب العداء
فليكن وزره على رأس جاني
سه هجيراً يلوب في رمضاء
قد بلغنا بالصمت آخر حدّيه لياذاً بشيمة الكرماء (5)
4- الوطن:
__________
(1) رفات عقل ص 88.
(2) حمار حمزة شحاتة ص 53.
(3) الديوان ص 32.
(4) المرجع نفسه ص 67.
(5) نفسه ص 198.(14/90)
الوطن في الإبداع له حضوره الخاص، وتشكلاته الجماليّة المتعددة، بتعدد رؤى المبدعين، وخبراتهم الجماليّة، ومواقفهم الشعورية. يظل الوطن محتفظاً بقيمته، فهو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بالانتماء، ويلتذ فيه بالبذل والعطاء، واختلاف الصور أيّاً كانت ألوانها وظلالها، وخلفياتها، تشكل في النهاية موقفاً وجدانياً من الوطن لا خلاف حوله، وهو أن الوطن مدار العشق، وقصيدة الشعر التي لم تكتب أيّاً كان ذلك الوطن فميسون بنت حميد بن بجدل تلك البدوية التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان ونقلها إلى حاضرة الشام، رفضت هذا العالم الجديد لعدم إحساسها بالانتماء إليه، فحنت إلى وطنها القديم وطلبت من معاوية أن يعيدها إلى أحضانه قائلة:
للبس عباءةٍ وتقّر عيني
أحبّ إليّ من لبس الشُّفوف
وبيت تخفق الأرياح فيه
أحبّ إليّ من قصر منيفِ (1)
وحين نتتبع صورة الوطن عند حمزة شحاتة في فلسفته نجدها إلى الحياد أقرب منها إلى التآلف أو العداء، فالوطن عنده ((عبارة عن مصلحة، أو ضرورة وفي بعض الأحيان تعليم يُفرض كي يُنشيء الشعور بها)) (2) .
ولا خلاف في أنّ الوطن مصلحة، وضرورة، فالإنسان مدنيٌّ بطبعه، والوطن هو المكان الذي تنشأ في ظلاله المدنية وتقوى، ويشعر الإنسان بوجوده، ومكانته، فالوطن الذي يحقق شهوداً حضارياً، يمنح أبناءه مكانة لا تتحقق لأبناء بلد يغطّ في غياهب الجهل والانطفاء الحضاري.
__________
(1) انظر أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، عمر رضا كحالة، بيروت، مؤسسة الرسالة، بدون تاريخ 6 / 136.
(2) رفات عقل ص 70.(14/91)
وانتماء الإنسان إلى الوطن عند حمزة “ ضريبة ” يجب أن يدفع الإنسان ثمنها، ولا مجال للتنصل من تبعاتها؛ لأن الوطن لا يستبدل به غيره ((ولا معدى من الصبر، والإذعان، في وسعك أن تترك منزلاً لا يرضيك إلى غيره، ولكن المسألة بالنسبة لوطنك ومجتمعك مختلفة، أيها المواطن الحرّ الصالح)) (1) .
والمواطن الصالح لكي يكون صالحاً، وفعّالاً في بناء وطنه، لابّد أن يشعر بقيمته بوصفه إنساناً، فإذا كان للوطن حقوق على المواطن، فإن على الوطن واجبات ينبغي أن يقوم بها، حتى لا تموت المواطنة في نفوس الأبناء و ((كيف لا تنعدم الوطنية، وتموت الدوافع الشريفة في وطن، القوت الضروري هو شغل أهله الشاغل. إن الفاقة تقتل أشرف الدواعي في النفس)) (2) .
ويرسم حمزة شحاتة صورة كابية للزقاق، وللمحاكم، لا تخرج عمّا وجدناه في البيت والمدرسة والمدينة. وهذه السوداوية القاتمة لا تكاد تستثني شيئاً من هذا العالم، فالحياة على الأرض عقوبة كبرى ((إن أية عقوبة لا تبلغ شدة النفي إلى الأرض)) (3) .
ولهذا تآزرت أفكاره ورؤاه الشعرية على النفور من هذا المنفى، وكيف يرضى المدان بزنزانته والعصفور بقفصه. يقول في قصيدته التي تختصر معاناته مع هذا العالم:
رحلةٌ تثمر اللغوب وخيط
من حرير يقتادُنا للشقاءِ
وشجون لا تنتهي وصراعٌ
يسحق الصبر دائم الغلواء
الحجى فيه حائرٌ في ظلام
والأماني موؤدة الأصداءِ
والخيالات في دُجاه شمو
عٌ ثرة الدّمع ذابلاتُ الضياء
والأسى فيه للجراح يغنيّ
عبرتيه محولك الأرجاء
ينشد الفجر وهو ناءٍ غريب
ضائع مثله شهيد الدعاءِ
ألهذا تشقى النفوس بما تهوى
وتكبو الغايات بالعُقلاءِ؟
ويهيم الخيال في ظلمة الحيرة
يسري على بصيص الرّجاء
وتفيض القلوب منطوياتٍ
بجراح الأسى على البُرحاء
يا بريق السراب أسرفت في الجور
__________
(1) المرجع السابق ص 40.
(2) نفسه ص 47.
(3) إلى ابنتي شيرين ص 111.(14/92)
وأثخنت في قلوب الظماء (1)
الأرض بكل ما فيها من “ أماكن ” ليس بينها وبين حمزة شحاتة ألفة، فهي “ أماكن ” معادية، وقد جعل الدكتور الغذامي الأرض محوراً من محاور النموذج الدلالي لأدب حمزة شحاتة الذي يقوم على ثنائية الخطيئة والتكفير (2) .
“ فالمكان ” هو الجحيم، وقبح المكان وجحيمه ليس شيئاً لازماً له، ولكنه نتيجة علاقة مختلة، أو لنقل علاقة غير جميلة أذهبت بهاء المكان، وأفسدت جمالياته، هذه العلاقة غير المتكافئة بين “ مكان جميل ” و “ إنسان غير جميل ” فرضت هذه النتيجة التي رأينا انعكاساتها على أدب حمزة وفكره وحياته، فقد كان أحد قرابين هذا التنافر البغيض. يرى الكسيس كاريل أن الانفعالات التي تنتاب الإنسان متباينة حيث السعادة والتعاسة، والفرح والحزن، ومرد ذلك الرغبة في تحقيق الأحلام والتطلعات فتتخذ الحياة مظهراً مختلفاً تبعاً لحالته النفسية الأمر الذي يشيع الحب والبغض في منطقه (3) .
__________
(1) الديوان ص 187 من قصيدة طويلة عنوانها “ أبيس ”.
(2) الخطيئة والتكفير ص 148.
(3) الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل، تعريب شفيق أسعد فريد، بيروت، مكتبة المعارف، 1419 هـ / 1998 م ص 150.(14/93)
إن عبقرية حمزة شحاتة تكمن في “ لغة الهدم ” كما يقول، فقد عمد إلى أماكن جميلة، كالوطن، والمدينة، والبيت، والمدرسة، فجعل من الجميل “ قبيحاً ” ونحن بلاشك نختلف معه في هذه الرؤية السوداوية القاتمة، ولكن الفن إنما يكون فناً بقدرته على التأثير، حيث يقلب الفنان معادلات الأشياء، ويشكك في الإلف - في أمور يمكن أن نقبل فيها الشك بالطبع وليس في مسلمات دينية ثابتة - ليرينا الأشياء من زاوية أخرى قد نختلف معها ونمقتها، لكننا نؤكد عبقريته وتفرّده، وإذا كان الفنان يمكن أن يجعل من القبيح جميلاً كما ذهب تين وغيره من فلاسفة الجمال، فإنه يمكن أن يجعل من الجميل قبيحاً، والاتفاق والاختلاف مع الفنان في مواقفه شيء، وتقدير فنّه شيء آخر، مع إيماننا بأصالة الفن أولاً، وحقنا في الاختلاف معه بعد تقدير الإبداع فيه (1) .
المكان في الفلسفة الجماليّة عند حمزة شحاتة ذو “ معطى سلبي ” في الغالب الأعم، إلا في صورة الوطن حيث يتوازى معطيان “ إيجابي وسلبي ” يتفوّق أحدهما على الآخر بسبب من “ العلاقة التبادلية ” بين الوطن والمواطن، فالوطن والمواطنة حقوق وواجبات، متى أحس المواطن بوجوده وانتمائه وحصل على حقوقه كاملة كانت المواطنة الحقة، وحين تختل هذه المعادلة تذبل العلاقة، وتظهر الصورة الكابية والمعطى السلبي للمكان، فلا يجد المواطن لدلالة الوطن معنى في نفسه.
أما الأماكن الأخرى “ المدينة - البيت - المدرسة ” فكلها ذات معطيات سلبيّة. المدينة شريعة غاب، تموت فيها العلاقات الإنسانية، وتتخشب المشاعر، وتتوقف الإثارة.
و“ البيت ” مدار للقمع والتفاهات، والمدرسة عالمٌ مليء بالأكاذيب، وملاذ للنعاس الثقيل، ومعامل لتفريخ الأذهان الصدئة، والأفكار البليدة.
__________
(1) مبادي في نظرية الشعر والجمال ص 11.(14/94)
والذي لاشك فيه “ أن معاناة ” حمزة مع الزوجة، والأصدقاء، أضف إلى ذلك “ فرط الحساسيّة ” و “ النبوغ ” كانت مجتمعة خلف تلوين المكان بهذه الألوان الكابية، وصبغه بتلك المعطيات السلبيّة. وكل هذا بحثاً عن “ مكان أجمل ” وإنسان أكثر جمالاً، يظل يبحث عنه الفنان فلا يجده، لأن الفن بحث في المستحيل وحديث عن الممكن.
جماليات الحيوان
الكون بنية محكمة، غاية في الجمال، جمال في الطبيعة، وجمال في الإنسان، وجمال في الحيوان، وجمال في الأفكار، وجمالٌ في علاقات الأشياء، وعلاقات الأفكار.
والحيوان مفردة جميلة في هذه البنية المحكمة الجميلة، ((حيث التركيب المدهش، والألوان المثيرة، والوظائف البديعة، والغرائز المحكمة، والحركة التي تأخذ ألف إيقاع وإيقاع)) (1) ، ولهذا قال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمالٌ حين تريحون وحين تسرحون ((2) .
يقول محمد قطب: ((إن توجيه نظر الإنسان إلى الجمال في الأنعام ذات “ المنافع ” المتعددة، له دلالته فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في التصور الإسلامي، فهو مخلوق واسع الأفق، متعدّد الجوانب، ومن جوانبه الحسيّ الذي يرى منافع الأشياء، والمعنوي الذي يدرك من هذه الأشياء ما فيها من جمال، وهو مطالب ألا تستغرق حسه المنافع، وألا يقضي حياته بجانب واحد من نفسه، ويهمل بقية الجوانب، فكما أن الحياة فيها منافع وجمال، فكذلك نفسه فيها القدرة على استيعاب المنفعة، والقدرة على التفتح للجمال..)) (3)
__________
(1) المدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1408 هـ / 1988 م، ص 13.
(2) النحل آية 5 - 6.
(3) منهج الفن الإسلاميّ، محمد قطب، بيروت: دار الشروق، ط5، 1401 هـ / 1981 م، ص 29.(14/95)
والحيوان عند حمزة شحاتة ((جزء من الطبيعة التي نرتاح إليها، ونحبها، ونربي كثيراً من ملكاتنا الفكرية، ومشاعرنا النفسية على حسابها، وفي الحيوانات بعد أكثر جوداً علينا من الطبيعة، وآمن مفتتناً ونحن بها أكثر امتزاجاً)) (1) .
الحمار:
وحمزة شحاتة وهو يتأمل بفكره النافذ مكونات هذه البنية استوقفه “ الحمار ” فقدم لنا - في ثلاث مقالات نشرت بجريدة صوت الحجاز عام 1355 هـ ثم جمعها الأستاذ عبد الحميد مشخص بعد ذلك مع عدد من المقالات الأخرى في كتاب سمّاه “ حمار حمزة شحاتة ” - رؤية جمالية متميزة عن الحمار، وكان سابقاً بها لتوفيق الحكيم صاحب “ حمار الحكيم ” و “ حماري قال لي ” (2) .
والحمار رمزٌ للحسّ البليد، والصوت المنكر، في القرآن الكريم وفي تراثنا العربي، لكن حمزة شحاتة يقدمه لنا في صورة نابضة بالأحاسيس المرهفة، والمشاعر المتدفقة، والأفكار الخلاّقة، وقد عمد الأديب الرائد عبد الله عبد الجبار إلى استقراء هذه المقالات الثلاث، في دراسة لا تخلو من المتعة والرؤى الفذة التي تدل على فكر نقدي بارع.
وتلك المقالات - كما ذكر الأستاذ عبد الله عبد الجبار - يمكن تقسيمها إلى قسمين:
1 - مرافعة عامة عن الحمير ضد ابن آدم المستبد.
2 - وصف خاص لحمار المؤلف في نزهة قصيرة (3) .
وحين نتناول “ الجانب الجمالي ” في تلك المرافعة نجد أن الحمار يبدو طيباً، نشيطاً، قويّ الاحتمال، لكن الإنسان أساء فهمه، وظلمه، ودنس سمعته فكان أحد ضحايا الظلم البشري (4) .
الحمار له جاذبيّة خاصة لا يمكن تفسيرها بتناسب أعضائه، ولطف حجمه وفراهته، ولا بشيء خفي وراء شياته الظاهرة، وهو ذو أناقة ووجاهة يفتقدها بعض بني آدم، وله ابتسامة لا يدرك سحرها إلا من عناه من أمر الحمير ما عنى حمزة (5) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة، ص 32.
(2) المرجع نفسه المقدّمة ص 5.
(3) نفسه المقدمة ص 6.
(4) نفسه ص 29.
(5) نفسه ص 28.(14/96)
وهو جم التواضع، يتنكر لذاته، شبيه بالإنسان في كماله البشري من حيث الأخلاق والمزاج النفسي، ولا يمكن أن تجتمع فيه هذه الفضائل الثابتة، مع رذائل ألصقها به بنو آدم.
وفيه خفّة، وفي حركاته حلاوة، وفي نظراته معانٍ تفيض بالعذوبة. “ ديموقراطيٌّ ” منصرفٌ عن الخيلاء، مطيع لراكبه الذي يصادر إرادته، ويجهده ويفسد تقاليده وآدابه (1) .
أما صوته فهو منكرٌ بمقاييس “ النعومة والاعتدال ” إذا جعلناها كل مقومات الصوت الحسن، أما حين نحكم في صوته “ الذوق الجديد ” الذي يُعنى بالقدرة الفنية على التنويع والتأليف، وإحكام النسب وتحريرها ويعد النعومة أنوثة لا تليق بفن إنساني يقود العواطف والأفكار كالغناء سلكناه في طليعة الموسيقيين الموهوبين (2) .
وهو في غنائه ذو ذوق رفيع، فلا يغني إلاّ إذا كان المجال مهيئاً له، بخلاف الإنسان الذي يقوده خياله المريض للغناء في كل وقت (3) .
وبمقتضى “ النهج الجديد ” في نقد الأصوات يصبح نهيق الحمار أو غناؤه كما يعبر حمزة شعراً يأمن فيه صاحبه من اللحن وتشويه الألفاظ، ومسخ المعاني، وتترامى “ شعرية الصوت ” إلى “ شاعرية الإدراك ” فالحمار من أكثر الحيوانات ولعاً بالطبيعة وشعوراً بمفاتنها، وهذا دليل شاعريته (4) .
ونحن حين نتأمل صورة الحمار في الفكر الشعري نجدها لا ترد إلاّ في سياق الطبيعة الحافلة بمعاني الخصب والحياة، حتى إذا صوّح النبت واشتد الحرّ عليه ساق أتنه، واتجه إلى موارد المياه بحثاً عن شربة ماء يطفىء بها عطشه (5) .
__________
(1) نفسه ص 29.
(2) نفسه ص 30.
(3) نفسه ص 30.
(4) نفسه ص 31.
(5) الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري - دراسة في أصولها وتطورها، الدكتور: علي البطل، بيروت: دار الأندلس، ط1، 1980 م، ص 138 وما بعدها.(14/97)
وإذا كانت هذه الصورة التي رسمها حمزة للحمار تبدو في غاية الجمال في الظاهر والباطن، وفي العواطف والإدراك فإن صورة “ حماره ” تبدو أكثر جمالاً، فحماره “ نمط خاص ” بين الحمير ((لو كان إنساناً لكان مكانه بين من تشتغل الدنيا بذكرهم من العظماء والفنانين ظاهراً مرموقاً)) (1) .
يأنس لصاحبه، فيتلقاه بابتسامة فاتنة، وما أن يبدأ حمزة يداعب أذني حماره، كما يداعب الأب ابنه، يأخذ صدر الحمار في العلو والانخفاض، وإطلاق الشهقات الحارة تأثراً بتلك العواطف الجيّاشة (2) .
وحين امتطى حمزة الحمار أحس بنزوعه إلى الاستقلال، ومهارته في المشي ووجاهة تصرفاته، ودقة تقديراته لمسالك الطريق، حيث كانت حمير القوم تتجه يميناً، ويأبى هو إلاّ أن يخالفها فيختصر ربع الطريق بعمق خبرته مع حداثة سنه (3)
وينشأ بين حمزة وحماره “ توافق سيكلوجي ” و “ حدس ” يقرأ به كل واحدٍ أفكار صاحبه، فإذا كان حمزة مُحباً للطبيعة، عاشقاً لمكوناتها الجمالية عشقاً خاصاً، فإن حماره يملك هذا الحس الجمالي المتفرد، ولهذا حين صاح بعض رفاق حمزة في الرحلة قائلاً وصلنا، ثم ترجل عن حماره، رفض حمار حمزة الوقوف، وأوغل بين الجبال حتى انفرجت تلك الراسيات عن صخور يتفجر منها الماء، وتجللها الأعشاب، ويعطرها الشذى الفواح، وتكسوها السكينة بأردية من السحر والجمال (4) .
وظل حمزة يراقب الحمير، فرأى الحمير البدوية منصرفة عن جمال الطبيعة؛ بسببٍ من الألفة الطويلة التي أطفأت جذوة الإحساس بالجمال، أما حماره فكان ((متنبهاً لدقائق واديه الفتان، وكانت تدور في رأسه خواطر وتتجلى في نظراته النشوى معان لعلها من خير الشعر وأروعه، لو كان إلى تصويرها من سبيل)) (5) .
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 31.
(2) المرجع نفسه ص 32.
(3) نفسه ص 33.
(4) نفسه ص 36.
(5) نفسه ص 36.(14/98)
هذه الصفات الإنسانية التي يسقطها حمزة على حماره، تنزع إلى الكمال والتفرد في الظاهر والباطن، وهي لا تكشف عن شيء بمقدار ما تؤكد عبقرية هذا المفكر، وخصوصيته في الإدراك، وقد ذهب عبد الله عبد الجبار إلى الربط بين شخصية الحمار وشخصية حمزة شحاتة في كثير من التصرفات ((والذين أتيح لهم أن يخالطوا حمزة شحاتة - من كثب - خليق بهم أن يلاحظوا تلك المشابهة بين شخصيته وشخصية حماره)) (1) .
فإذا كان حمزة مولعاً بالتميّز، وكسر المألوف، ومحباً للانطواء، وشاعراً مرهف الحس، ومفكراً يشن حرباً أهلية ضد الزيف والجمود فإننا نجد حماره ((يميل إلى التفرد والانطواء ومخالفة التيار العام تماماً مثل صاحبه حينما يتقوقع في حدود ذاته، وينطوي على نفسه وكتبه ويتأمل في الكون والحياة ويشرح المجتمع الذي يعيش فيه، ويعري الإنسانية من أرديتها الزائفة حتى تغدو بشريّة سافلة خيرٌ منها ألف مرّة تلك الحيوانية التي لا يحكمها إلا قانون الغاب)) (2) .
لقد كان حمزة مولعاً بهدم قواعد الإلف وجمالياته، وبناء قواعد وجماليات جديدة تكشف عن خصوصية في التأمل، وتفرد في الإدراك، فالحمار الذي استقر في الوعي الجمالي رمزاً للقبح، والبلادة، يصبح عند حمزة “ كنزاً ” من كنوز الجمال، طمره الإنسان بجهله، وقضى عليه بحكمه الجائر، وهنا تكمن عبقرية الفيلسوف، وبلاغة الأديب، حيث تنهض الحقيقة الجمالية عنده على أنقاض حقيقة أخرى.
جماليات الحياة
الحياة - في كل ما سبق - “ قيمة جمالية ”، وهذه القيمة نتاج بنية مادية أحكمها الخالق عز وجل، وبنية أخلاقية روحيّة أنزلت من أجلها الكتب السماويّة، وأرسل الرسل، ووضعت القوانين، وشرّعت القيم.
__________
(1) نفسه المقدمة ص 13.
(2) نفسه المقدمة ص 97.(14/99)
وإذا كانت جماليات الكون ظاهرة لا تخفى، فإن جماليات “ النفوس ” و “ القيم ” ممّا لا يكاد يبين؛ لما يحصل فيها من تلونات، ويطغى عليها من تحريفات وتطورات، قد تخرج الشيء عن أصله.
“ والحياة ” دار ابتلاء، يكون للجمال الخادع فيها - كما يعبر القرآن الكريم “ في مواضع عدّة ” أكبر الأثر في التردي والسقوط. من هنا يأتي “ جمال الجوهر ” الذي يتجلى في تحقيق الاستخلاف، وإعمار الأرض، وحراسة القيم النبيلة، وهذا “ الرصيد الجمالي ” هو الذي تعاني من مديونيته وعجزه أمم، ودول، وأفراد.
والدين، أساس هذا الرصيد، والفن والفكر أكبر مصادر دعمه وتعزيزه.
وحين نقف على الفلسفة الجمالية “ للحياة ” عند حمزة شحاتة نجدها مجالاً خصباً لكشف جانب آخر من جوانب وعيه الشمولي، وحسه الحيّ. فالحياة عنده كلمة تشع بالدلالات المتعددة وربما المتضاربة نتيجة ارتباطها بسياقات وحمولات ومواقف متباينة، كان فيها حمزة محباً تارة وكارهاً تارة أخرى، وكان في الحالين مفكراً كبيراً، وفناناً مبدعاً.
فالحياة ((هي مجموعة ما تحتويه حياة الإنسان من الصغائر، والتفاهات في شكل متاعب ومسرات)) (1) وهي ((كميادين الحروب، لا اهتمام فيها بمن يسقط، وإنما بمن يبقى قبل انتهاء المعركة..)) (2) . وهي ((عبارة عن عملية احتراق، حتى في حالة السكون)) (3) .
وهي بذل وعطاء وتضحية ((أن تبذل كل جهدك، وكل وقتك للعمل هذه هي الحياة)) (4) .
وهذا البذل ليس للمصالح الشخصية، واستبقاء الحياة الخاصة، وإنما لبناء مجتمع فاضل يمارس حياة كريمة ((أي عمل رائع في أن تناضل لاستبقاء حياتك؟!
العمل الرائع أن تناضل لاستبقاء حياة الآخرين؛ عندما يفرضهم ضعفهم عليك)) (5) .
__________
(1) رفات عقل ص 97.
(2) المرجع نفسه ص 64.
(3) نفسه ص 74.
(4) نفسه ص 46.
(5) نفسه ص 50.(14/100)
هذا النضال هو الذي يجعل للحياة قيمة، فالأنانية، والأَثَرة لا تصنع حياة إنسانية؛ لأن البحث عن الحقوق وإغفال الواجبات، وتقديم الذات على المجموع، هدم لمعنى الحياة الذي لا يتحقق إلا بالتناغم والتشاكل والانسجام، وحين تكون الحياة حياة لا يكون لها ثمن ((لكل شيء في العالم ثمنه إلا الحياة والفكر والحريّة)) (1) .
والحياة رغبة وتطلعات، ولهذا كانت الرغبة أقوى أسباب الحياة (2) . وحين تموت الرغبة في الحياة، وتتلاشى التطلعات لا يبقى للحياة معنى ((إن كل شيء يتحطم، إذا لم يبق في حياتنا ما نتطلع إليه)) (3) .
والرغبات والتطلعات في الحياة كثيرة، ومختلفة باختلاف الوعي الجمالي، فالذي يروقه البهرج الخادع، واللذات الزائلة ينساق وراء السراب حتى لا يجد في النهاية إلا الخسران المبين. والذي يفتش عن الجمال الحقيقي، ويبحث عن الجوهر تعلو عنده القيم، فتتوازن مطالب الروح مع رغائب الجسد، والحقوق والواجبات ((إذا وسعك أن تضع في ميزان عملك لآخرتك مقدار ما تضع في ميزان عملك لدنياك فقد نجوت)) (4) . ولهذا لا يتوقى شرك الجمال
الكاذب، ولا يحقق المعادلة إلا قلة من الناس، يتأسس وعيهم الجمالي على فطنة بحقائق الأشياء والأفكار ((ما غالبت الدنيا إنساناً إلا غلبته، إلاّ من أشاح عنها وزهد فيها، وذلك هو الانتصار)) (5) .
وبسبب اختلاف الرغائب، وتباين المواقف تتحول الحياة إلى ساحة نزال ((تغير معنى الكفاف في البلاد المتقدمة، فلم يعد من حق الإنسان أن يعيش، بل أن يحيا، ويدخر، ويقتني، ويستمتع بكل منتجات الحضارة على نحوٍ مُرضٍ. فطبيعي إذن أن يتسع نطاق الصراع بين الأفراد والجماعات، وأن تتغير معاني المباديء والمثل العليا، والقيم الأخلاقية، فهذا منطق المعركة، والحاجة البشرية)) (6) .
__________
(1) نفسه ص 49.
(2) نفسه ص 49.
(3) نفسه ص 74.
(4) نفسه ص 52.
(5) نفسه ص 52.
(6) نفسه ص 67.(14/101)
والبطل والضحية هو الإنسان، ((من بداية الحياة حتى نهايتها، كانت هناك حرب واحدة، متصلة هي الإنسان، وكل المعارك والأحداث في تاريخها آثار صور مصغرة لها، وباختصار، الحرب المدمرة والباقية هي الإنسان)) (1) .
إن للحياة منطقها الخاص الذي يعيه العقلاء وأولو الألباب، وللعقلاء منطقهم الخاص الذي تعيه الحياة، فالزينة الزائفة لا تستوقف ذا اللّب، وإن كان هذا هو الخيط الذي يمسك به العشاق. ولهذا فالعقلاء لا يحبون الحياة حين تكون زيفاً، والحياة كذلك لا تحب العقلاء ((الحياة كالمرأة كلتاهما تحب الذكي، وتكره العاقل)) (2) .
الحياة في منطق العقلاء شبكة من الصغائر والتفاهات ((ما أكثر صغائر الحياة، وما أكثر التفاهات فيها؛ لأنها نسيج الحياة)) (3) .
ولكن “ جمال الحياة ” مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود هذه التفاهات والصغائر؛ لأنها أوهام تبعث السعادة في النفوس، حين تظل متعلقة بها، وباحثة عنها، وحاثة الخطى إليها، وإن اكتشفت في نهاية الأمر أنها صغائر وتفاهات ((كم هو شريف أن تخلو الحياة من الأوهام، والنفاق، والكذب، ولكن لم تصبح قبيحة، مريرة، إذا غدت هكذا؟!
إننا نقضي على سعادتنا عندما نطرد آخر الأوهام من نفوسنا)) (4) .
هذه هي الحياة بكل تناقضاتها، علينا أن نفقه حقيقتها، فالحديث عن “ المثاليات ” في الحياة، والبحث عن “ اليوتوبيا ”، وحياة بلا منغصات أو صغائر أمر مستحيل، فعلينا أن نؤمن بهذه الحقيقة، وأن نتوازن داخلياً للسير في طريق مليء بالأشواك؛ لأن صدمة هذه الحقيقة أخف من صدمة الإيمان بوجود حياة مثالية لا وجود لها ((الحياة في إجمالها ليست اختياراً، ولكنها شيء فرض علينا فلابد من استقبال متطلباته على أي نحو، وإذن فعلينا أن نحتفظ بكل قوانا وحواسنا وأعصابنا في حالة توازن واستعداد للسير مع السائرين.
__________
(1) نفسه ص 54.
(2) نفسه ص 43.
(3) نفسه ص 90.
(4) نفسه ص 86.(14/102)
في مسألة الحياة قبولها وتقبلها لا يستطيع الإنسان أن يهرب ليعيش وحده، إنه حيث يعيش منفرداً، سيقابل الحياة وتناقضاتها وصراعها ومرارتها، وسيجد من البداية وفي النهاية أن وجوده بين الناس ومعهم أكثر من ضروري، وأن أي تعقيد في الحياة وسوء انعكاساته على النفس والمشاعر أهون من تعقيد حياة يختارها ويحسبها خالية من المؤثرات والضنك)) (1) .
الحياة مليئة بالمحاسن والمساويء، وفيها الجمال وفيها القبح، هذه حقيقتها. والعقلاء من يدركون هذه الحقيقة، ويدعون إلى اكتشافها وهذه هي غاية المفكرين والأدباء التي ((يجب أن تكون دعوة إلى اكتشاف مسرات الحياة ومحاسنها؛ لأن النظرة السلبية إلى الحياة دليل الفتور وضيق مدى الخيال)) (2) .
إن المتشائمين من واقع الحياة ليسوا ثائرين على الحياة، ولا كارهين لمباهجها ((إنما هي ثورة الراغب المستزيد، لا ثورة الكاره المجتوي)) (3) .
وفي هذا المعنى يقول:
آمالنا ملء النفوس فهل ترى
صفرت من الآمال نفسُ الزاهد؟
وأرى الزهادة في مظاهرها تقي
من تحته لهب الطِّماح الخامد (4)
والحياة قوامها التجدّد، فليس للحياة “ جمال ” إذا كانت إيقاعاً رتيباً، لا جديد فيه، ((فالحياة-كما قلنا-حياة بالتغيير الدائم، والتجدد المستمر، والتطور هو معنى الجمال وسره فيها، والسعادة في رأينا هي المسرّة المتجددة)) (5) .
فمعنى الحياة في ذاتها هو ((الزمن والحركة والتغيّر والتحوّل، وإلا كانت متحفاً جامداً لا فرق بين الصور القاتمة فيه، والصخور النائمة فيه)) (6) .
__________
(1) إلى ابنتي شيرين ص 190، ص 191.
(2) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 112.
(3) حمار حمزة شحاتة ص 76.
(4) الديوان ص 159.
(5) المرجع السابق ص 66.
(6) نفسه ص 87.(14/103)
والزمن الذي هو معنى الحياة لا يكمن في الدقائق والساعات والأيام والشهور والدهور وإنما يكمن في الشعور بها ((والزمن ليس إلا إحساسنا بالحركة والتحوّل ولو وقف كل شيء في أعيننا لا يريم مكانه لما كان الجمال، ولا كان الشعور بالسعادة)) (1) .
والشعور الفياض بحركة الحياة وتحولها، هو الذي يدفع الإنسان للحركة الدائمة لفهم هذه التحوّلات، والاستعداد لها، ولهذا يختلف الأفراد، والأمم في قوة هذا الشعور، فالذي تكون الطاقة الشعورية لديه طاقة مشبوبة يكون مهيأ لإدراك طبيعة الحياة، وما عدا هذا تدوسه عجلة الحياة، ويتخطاه الركب. والكثير من الناس يظل معلقاً بالقديم؛ لأن للجديد مشقاته، وأيسر الحلول معاداة الجديد، ولكن يظل الثمن باهضاً لهذا العداء الأحمق ((إن الشعوب التي تتوقف عن السير مع تيار الحياة والتغيير، تضطر بعد إلى أن تعدو لاهثة، وبجنون، لكي تعوّض ما فاتها من الوقت، وفي هذا العدو الاضطراري مزالق الخطأ، وكبواته)) (2) .
صنمية القديم، وعبودية الإرث. صنيع العقول الميتة، والأفكار المجدبة، أما العقول الحيّة، والأفكار المخصبة فهي التي تنفر من التقليد، وتكره الاجترار، وتأبى العبوديّة.
والجديد ينتزع المعتقدات، ويهزّ النفوس، ولهذا لا يتقبله كثير من الناس، لأنه يشكك في معارفهم، وهذا ما نجده مع دعوات الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه عليه، ومع كل دعوة جديدة ((ومازالت النفوس أضعف استعداداً لقبول المفاجآت التي تحاول أن تنتزع من معتقداتها ومشاعرها، شيئاً له قيمته وقداسته، وله صلابته العنيدة.
وشأن الجديد في هذه السبيل، أن يكون رمز الإقلاق والبعثرة، وما يهون على النفوس والأفكار، أن تنزل عن قوانينها الأدبية، وتقاليدها وعقائدها، إلا مكرهة..)) (3) .
__________
(1) نفسه ص 67.
(2) رفات عقل ص 41.
(3) الرجولة عماد الخلق الفاضل ص 23.(14/104)
الحياة حركة دائبة، وتطلع متوثب، ولا سبيل لفهم الحياة، والاستمتاع بها، وتحقيق الوجود الإنساني فيها، إلا بالسعي في أكنافها، والتأمل في حركتها، والتوازن مع إيقاعها الذي لا يهدأ، توازناً دقيقاً لا تكون الحركة فيه تهوراً وإيقاعاً ناشزاً، ولا يكون الوقوف نوماً عميقاً، وموتاً أبدياً.
بهذا المقياس الدقيق تكون الحياة حياة حقيقية، ويكون الإنسان “ عملاً صالحاً ”، وعاشقاً للجمال في جوهره، والله جميل يحب الجمال.
وحمزة شحاتة كان يحدثنا عن الحياة في حقيقتها، لا عن حياته الخاصة، وعن شقاية العقل الحيّ، وجهاده لاستيعاب هذه الحقيقة، والتوازن معها، حتى أصبح رأس المفكّر هو مشكلته ((ذلك العبء الثقيل، هو رأسي الذي أنوء بحمله منذ تفطنت للحياة، وغُرست بتجاربها القاسية، ولو أن لي في موضعه من عاتقي رأس حيوان أعجم لما أخطأت العزاء في محنة فمن لي بذاك)) (1) .
يقول عن إشكالية العقل النابض:
أسىً، وأرى الجُهّال قد مُلئوا بشرا
أرى عقلاء القوم فاضت صدورهم
وناشدته عهد الجهادِ، فما أورى
قدحت زنادَ العزم في راجح النُّهى
إلى غاية تستعجل الواثب البكرا
فأيقنت أن العقل أبطأ مركب
فما نورت ليلاً، ولا أظلمت فجرا (2)
وما العقل إلا يومة طال جُهدها
إنها شكاية ابن مقبل، الذي أدرك هذه الحقيقة واصطلى بنارها فقال:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم (3)
يقول حمزة شحاتة:
وهي دنيا الشذوذ يرتفع الجاهل فيها ويستذل الحصيف (4)
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 52.
(2) الديوان ص 162.
(3) ديوان ابن مقبل، عني بتحقيقه: عزة حسن، دمشق، مديرية إحياء التراث القديم، 1381 هـ / 1962 م، ص 273.
(4) الديوان ص 40.(14/105)
ومع هذا فالمفكر العظيم لا يجد المتعة، ولا يكتشف الجمال إلاّ في هذا النصب القاتل ((ليس أحبّ إلي من النصب في سبيل تعديل الموازين ومعاناة الحقائق واحتمال مشقة الهدم والبناء في نفسي وفكري، فإن كانت الحياة حياة باستمرار حركتها، وتجدد دواعيها، وتعدد صورها، فالنفس ما تكون النفس العميقة إلا بما يجيش بها من أسباب التغيير والتحول والتقدم
والتقهقر)) (1) .
وجميع مجالات الفلسفة الجماليّة التي عرض لها حمزة شحاتة، تنوّع الحديث عنها بتنوع الجنس الأدبي الذي جسدّها شعراً ونثراً، فالفلسفة الجماليّة خلاصة أدب متنوع، فيه القصيدة، والمحاضرة، والمقالة، والرسالة، ولكل جنس أدبيّ خصائصه الفنية التي يستقل بها عما سواه، ممّا يجعل الحديث عن تلك الخصائص فوق طاقة هذه الدراسة، لثراء أدب حمزة شحاتة، ودقة صنعته، وتنوّع أسلوبه، وخصوبة معجمه اللغوي، وصوره الفنية، ولهذا نقول على وجه الإجمال إنّ أبرز خصائص الفن عنده تتمثّل فيما يأتي:
1 - صفاء اللغة، فلغته واضحة الدلالة، سهلة البناء، وجمله تميل إلى القصر وكثرة المعطوفات، الأمر الذي يبعدها عن الإبهام والتعقيد، وعباراته منتقاةٌ بعناية، حيث تتجلى فيها دقة العالم، وحس الفنان، يعضد ذلك ثقافة وحسّ رفيع يمكنه من تطويع لغته لحمل تجاربه وأفكاره. ووضوح اللغة هنا هو وضوح الفن الذي يشف ولا يكشف، ولذلك فلغته على سهولتها، عميقة الغور، ثرية المضمون، واسعة الدلالة.
2 - بروز عنصر المفارقة حيث تتجلى الأضداد بصورة جليّة؛ لأن حمزة شحاتة مولع بالبحث عن حقائق الأشياء، وهدم كثير من الأعراف والأفكار، ليقيم على أنقاضها قيماً جديدة، فكانت اللغة مساوقة لهذا النظر العميق.
__________
(1) حمار حمزة شحاتة ص 60.(14/106)
3 - التكرار فهناك قضايا ذات حضور خاص عند حمزة شحاتة، كالشعور بعدم الانتماء للمجتمع، وخيانة المرأة، وضمور الوعي الإنساني. وهذا التكرار أدى به إلى تكرار مفردات بعينها، وأساليب ذات جرس موسيقي بارز كالمطابقة، ورد العجز على الصدر، والسخرية ويتجلّى هذا في “ رفات عقل ”.
4 - شيوع أسلوب الاستفهام في شعره ورسائله، وحكمه، ومقالاته، ولعلّ ذلك يعود إلى شكّه في كثير من المسلّمات والأعراف الاجتماعيّة، وخبرته بأحوال الناس، مما يتيح له تصورات كثيرة، ومعاني متعددة، يصبح الاستفهام معها هو الجواب الوحيد.
هكذا تجلّت “ الفلسفة الجماليّة ” عند حمزة شحاتة، فلسفة شاملة تقف على أدق خصائص الفن الجميل، وتتأسس على رؤية شاملة لقضايا الإنسان والعالم، وجوهر هذه الفلسفة الانغماس تحت قشور الأشياء والأفكار إلى الأعماق، لاستجلاء المكنون، والمضنون به على كثير من الخلق، الذين لا يجتهدون في الكشف عن غوامض المعرفة، ولا يتلذذون بالانغماس فيها، ولا يتحرقون لاستجلاء أسرارها الخبيئة.
لقد كان حمزة شحاتة، رجلاً نبيلاً، وإنساناً شريفاً، قبل أن يكون فيلسوفاً، ومبدعاً، فإنسانية الإنسان كانت المحرك الأول لنشاطه الفكري والإبداعي، وكثيراً ما نجد المثقف يتلون بحسب المواقف والغايات، يلبس في كل يوم قناعاً جديداً، لكن حمزة شحاتة ظلّ مصابراً وباحثاً عن واقع أفضل، وغد أجمل، تمتليء فيه الأرض بشراً، وتنشرح النفوس بسرور لا ينقطع. ويستعيد الإنسان جوهره المفقود، وقدّم كل ما يملك من أجل إيمانه العميق بهذا المبدأ العظيم.
رُبما يكون قد خسر أشياء كثيرة، خسر الراحة، والاستقرار الأسري، والأصدقاء غير الصادقين، ولكنه كسب الأهمّ من هذا كُلّه، كسب راحة الضمير، وأمانة الكلمة، ولحظة التاريخ، وإكبار الأجيال الجديدة التي وجدت في عطائه الشعري والفلسفي نموذجاً للمثقف الأمين على شرف الكلمة، ومباديء الإنسانية.(14/107)
إنَّ صبري بما يؤود ضليعٌ
وفؤادي بما أريغ كفيل
وورائي من الهوى والمودّا
ت شكولٌ مضت، ودوني شكول
إنما نعشق الجمال لمعنا
هـ، وحسن السمات ضيفٌ عجولُ (1)
__________
(1) الديوان ص 63.
المصادر والمراجع
1 - أعلام النساء في عالمي العربي والإسلام، عمر رضا كحالة، بيروت، مؤسسة الرسالة، بدون تاريخ.
2 - إلى ابنتي شيرين، حمزة شحاتة، جدة، تهامة، ط 1، 1400 هـ / 1980 م.
3 - الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، صححه وضبطه، وشرح غريبه: أحمد أمين وأحمد الزين، نسخة مصورة عن طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، بيروت: دار مكتبة الحياة، بدوت تاريخ.
4 - الأمة المسلمة، مفهومها، مقوماتها، إخراجها، ماجد عرسان الكيلاني، بيروت، العصر الحديث، 1412 هـ / 1992 م.
5 - الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل، تعريب: شفيق أسعد فريد، بيروت، مكتبة المعارف، 1419 هـ / 1998 م.
6 - بنية التخلّف، إبراهيم البليهي، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، كتاب الرياض، ط 1، 1415 هـ / 1995 م.
7 - تاريخ النقد الأدبي عند العرب - نقد الشعر من الجاهلية حتى نهاية القرن الثامن الهجري - الدكتور إحسان عباس، بيروت: دار الثقافة، ط 4، 1404 هـ / 1984 م.
8 - جماليات المكان، غاستون باشيلار، ترجمة: غالب هلسا، بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، ط 3، 1407 هـ / 1987 م.
9 - حمار حمزة شحاتة، قام بجمعه عبد الحميد مشخص، الرياض، دار المريخ، ط 1، 1397 هـ / 1977 م.
10 - حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف، عزيز ضياء، الرياض، المكتبة الصغيرة، ط 1، 1397 هـ / 1977 م.
11 - الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية نموذج إنساني معاصر، الدكتور: عبد الله الغذامي، جدة: النادي الأدبي الثقافي بجدة، ط 1، 1405 هـ / 1985م.
12 - ديوان ابن مقبل، عني بتحقيقه: عزة حسن، دمشق، مديرية إحياء التراث القديم، 1381 هـ / 1962 م.
13 - ديوان حمزة شحاتة، جدة: دار الأصفهاني، ط 1، 1408 هـ / 1988 م.
14 - الرجولة عماد الخلق الفاضل، حمزة شحاتة، جدة: تهامة، ط 1، 1401 هـ / 1988 م.
15 - رفات عقل، حمزة شحاتة، قام بجمعه وتنسيقه: عبد الحميد مشخص، جدة: تهامة، الطبعة الأولى، 1400 هـ / 1980 م.
16 - شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة: عمر مسقاوي، وعبد الصبور شاهين، بيروت دار الفكر.
17 - شعراء الحجاز في العصر الحديث، عبد السلام الساسي، راجعه وصححه: علي العبادي الطائف، مطبوعات النادي الأدبي بالطائف، ط 2، 1402 هـ.
18 - صحيح مسلم، الإمام أبو الحسين مسلم النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1400هـ / 1980 م.
19 - صوت الحجاز 2 صفر 1359 هـ، الموافق 11 مارس 1940 م.
صوت الحجاز 24 محرم 1359 هـ، الموافق 4 مارس 1940 م.
20 - الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري، دراسة في أصولها وتطورها، علي البطل، بيروت: دار الأندلس، ط 1، 1980 م.
21 – العقل في التراث الجمالي عند العرب، علي شلق، بيروت: دار المدى، ط 1، 1985 م.
22 - علم الجمال، دني هويسمان، ترجمة: ظافر الحسن، بيروت: منشورات عويدات، ط 4 1983 م.
23 - في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت: دار الشروق، ط 7، 1398 هـ / 1978 م
24 - في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، خالص جلبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ / 1985 م.
25 - القيم الجمالية، الدكتورة راوية عباس عمارة، الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1987 م.
26 - الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، دمشق، ط 2، 1982 م.
27 - لسان العرب، ابن منظور الإفريقي، القاهرة: دار المعارف، بدون تاريخ.
28 - مباديء في نظرية الشعر والجمال، أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، حائل: النادي الأدبي بمنطقة حائل، ط 1، 1418 هـ
29 - مخطط الانحدار وإعادة البناء، الدكتور خالص جلبي، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، كتاب الرياض، 1417 هـ.
30 - المدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1408 هـ / 1988 م.
31 - المدينة في الشعر العربي الحديث، الدكتور: مختار أبو غالي، الكويت: عالم المعرفة، 1415 هـ / 1995 م.
32 - المعجم الفلسفي، الدكتور جميل صليبا، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط 1، 1971 م
33 - مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، الدكتور: ميشال عاصي، بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1974 م.
34 - منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، بيروت: دار الشروق، ط 5، 1401 هـ / 1981 م.
35 - ميلاد مجتمع - الجزء الأول شبكة العلاقات الاجتماعية - مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، طرابلس، دار الإنشاء، ط 2، 1974 م.
36 - النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربيّة، الدكتور عبد الله الغذامي، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2000 م.
37 - الهوامل والشوامل، أبو حيان التوحيدي، ومسكويه، نشره: أحمد أمين، والسيد صقر، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،1370 هـ / 1951م(14/108)
الهوامش والتعليقات(14/109)
أحكام لا سِيَّما وما يتعلَّق بها
تأليف
أحمد بن أحمد بن محمَّد السُّجَاعِيّ - ت: 1197 هـ
دراسة وتحقيق
الدكتور حسان بن عبد الله الغنيمان
الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية
بكلية المعلمين بالرياض
ملخص البحث
يقع الاسم المفرد بعد «لا سِيَّما» كثيرا، وهو إما أن يكون نكرة أو معرفة، فإذا كان نكرة جاز فيه ثلاثة أوجه من الإعراب، وإذا كان معرفة جاز فيه وجهان هما: الجر، والرفع. وتقع الجملة الاسمية والفعلية بعد «لا سِيَّما» ، وكذلك الظرف، وهذا قليل.لا يجوز حذف «لا» من «لا سِيَّما» ؛ لأن حذفها يُغيِّر المعنى المراد من استخدام «لا سِيَّما» .
استعمل بعض العرب «لا سِيَّما» مخففة الياء، فينطقونها بياء مفتوحة من غير تشديد فيقولون: (لا سِيَما) .
«لا سِيَّما» لا يصحُّ استخدامها أداةَ استثناءٍ؛ لأن حكم ما بعدها داخل في حكم ما قبلها من غير مساواة، فهي بعكس أدوات الاستثناء؛ إذ ما بعدها خارج عن حكم ما قبلها.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فلقد امتنَّ الله (علينا حينما أرسل إلينا أفضل رسله، وخير خلقه، محمد (، فأنزل عليه كتابه الكريم، بلسانٍ عربيٍّ مبين، وتعهَّده (بالحفظ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولقد كان من آثار حفظ الكتاب العزيز أن قيَّض (له مَنْ حفظه ومَنْ تعلَّمه وعلَّمه، وكان من هؤلاء الذين تعلَّموا كتاب الله وعلَّموه علماءُ العربية، فلقد تسابقوا على تعلُّم لغة القرآن وتعليمها والتأليف فيها؛ لأنَّ حفظها حفظٌ لكتاب الله (.(14/110)
ولقد ابتدر علماء العربية الأوائل وبخاصة النحاة إلى تقييد أصول المسائل النحوية في مؤلفاتهم، وبثِّ كثيرٍ من الفروع في ثناياها، ثم تعاقب النحاة على تعليم النحو والتأليف فيه، فأخرجوا مؤلفات ظهرت فيها الدقة في التبويب، والعناية بذكر الفروع منسابَةً تحت أصولها، وكان من مسائل النحو الفرعية «لا سِيَّما» وأحكامها، فقد ذكرها كثير من النحاة في باب الاستثناء؛ لأنَّها تدل على إخراج ما بعدها من مساواة ما قبلها، وأدوات الاستثناء تدل على إخراج ما بعدها عن حكم ما قبلها، ولم يُفرد النحاة المتقدمون لها مؤلَّفا خاصا أو بابا مستقلا في كتاب نحوي، أمَّا النحاة المتأخرون فقد أفردها بعضهم بمؤلَّف خاص، وبعضهم أفرد الحديث عنها في مبحث مستقل داخل كتاب نحوي، وكان ممن أفردها بمؤلَّف خاص العلامة أحمد بن أحمد بن محمد السُّجاعي، المتوفى سنة 1197 هـ، فلقد نظم أبياتا في أحكامها، ثم شرح هذه الأبيات، وهي هذه الرسالة التي أقدمها محقَّقَةً للقراء، يسبقها دراسة لمؤلِّفها ودراسة لها، راجيا من الله أن تكون نافعة ومفيدة لأبناء العربية.
ولقد اجتهدت في دراسة شخصية المؤلف، وحاولت قدر الإمكان إلقاء الضوء على كثير من جوانب حياته المختلفة، على الرغم من قلة المراجع التي تحدثت عنه وعن حياته، كما أَنَّني لم أدَّخر جهدا في التحقيق، فقد اهتممت بالمخطوطة من جهة الكتابة والتوثيق والتخريج وخدمة النص.(14/111)
وقد حرصت في الدراسة والتحقيق على توثيق المعلومات التي أذكرها من مصادرها؛ لذلك سلكت عند ذكر مصنفات المؤلِّف أن أذكر عدد نسخها المخطوطة وأماكن وجودها؛ لأَنَّ هذا كان الوسيلة المتاحة للتوثيق أمامي؛ لعدم ذكر غالب مؤلَّفاته في الكتب التي ترجمت له، وقد استنزف مني هذا جهدا كبيرا، ثم بعد انتهائي من كتابة البحث وقفت على كتاب (الخطط التوفيقيَّة) ، ووجدت فيه ترجمةً للسُّجاعي مضمنة رسالة لأحد تلاميذه ذكر فيها مؤلفات شيخه، فقمت بتوثيق مؤلفاته منها، إلا أَنَّني رأيت أن أُبْقِيَ على ذكر الإحالة إلى مكان وجود هذه المؤلفات المخطوطة؛ لأَنَّ في ذلك زيادة في التوثيق وخدمة للقارئ؛ إذ سيكفيه هذا مشقة البحث عنها عند إرادته الاطلاع عليها، وسيُيَسِّر له الحصول على نسخها المخطوطة عند عزمه على تحقيقها، أما مؤلفات السُّجاعي المطبوعة فلم ألتزم بذكر أماكن وجود نسخها المخطوطة؛ لعدم جدوى ذلك.
ومما أود التنبيه إليه هنا أَنَّني أغفلت في مسرد المصادر والمراجع ذكر فهارس المكتبات التي وثَّقت منها مؤلفات السُّجاعي؛ رغبة مني في عدم إطالة هذا البحث؛ لأَنَّ أغلب هذه الفهارس إن لم يكن كلها لم يُطبع إلا مرة واحدة، فلن يحصل لبس عند الإحالة إليها، ولأَنَّ الفهارس التي رجعت إليها كثيرة جدا، فأحيانا فهرس المكتبة الواحدة يستلزم ذكره في مسرد المراجع مرات متعددة؛ نظرا لاختلاف زمن طبع كل مجلد، كفهارس المكتبة الأزهرية، أو اختلاف جامع الفهرس، كفهارس المكتبة الظاهرية، وهذا راجعٌ إلى اختلاف فنِّ كل مجلد.(14/112)
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر إلى كلِّ من قدَّم لي يد العون، وأعانني على إخراج هذه الرسالة على الوجه المأمول، وأخصُّ بالشكر شيخي وأستاذي الأستاذ الدكتور عبد العظيم فتحي خليل، الذي زوَّدني بصورةٍ من نسخة هذه الرسالة الموجودة في دار الكتب المصرية، كما أخص بالشكر أيضا المسئولين في قسم المخطوطات في مركز الملك فيصل، الذين يسَّرُوا لي معرفة أماكن وجود مؤلفات السُّجاعي، فللجميع مني الشكر والتقدير ومن الله المثوبة والعطاء، والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، والحمد له أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
***
التعريف بمؤلف الرسالة:
هو أحمد بن أحمد بن محمد بن محمد البدراوي الأزهري الشافعي السُّجَاعِيّ، نسبة إلى «السُّجَاعِيَّة» : قرية من مديرية الغربية بمركز المحلة الكبرى بمصر.
ولد بمصر ونشأ بها في أسرة علمية، فلقد كان أبوه من شيوخ الأزهر؛ ولذا طلب العلم منذ صغره، ساعده على هذا الحركة العلمية النَّشِطَة التي كانت تمر بها مصر في عصره، والمتمثلة في تأسيس المدارس في مختلف أرجاء البلاد، فضلا عن المساجد التي كانت منتشرة في كل مكان آخذة بنشر النور وبث وسائل المعرفة، فتنوعت الثقافة في دور العلم هذه (1) .
فكانت هذه العوامل جديرة بجعل أحمد السُّجاعي حريصا على طلب العلم، فقد ابتدر إلى ذلك، فقرأ العلم على والده وعلى كثير من مشايخ عصره، كالعلامة حسن بن علي المدابغي (1170 هـ) ، والشيخ حسن بن إبراهيم الجبرتي (1188 هـ) الذي لازمه فأخذ عنه علم الحكمة الهندية وغيره من العلوم، ومحمد مرتضي الزبيدي (1205 هـ) .
__________
(1) ينظر الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 21.(14/113)
وقد بلغ أحمد السُّجاعي مكانةً عالية في العلم، وكان ذلك في حياة والده، فتصدَّرَ للتدريس في مواضعه، واستمر في هذا أيضا بعد موت والده سنة 1190 هـ، وصار من أعيان العلماء، وشارك في معظم العلوم، وتميَّز بالعلوم الغريبة، وكان فقيها حافظا مُلِمًّا باللغة، وله تآليف عديدة بارعة في كثيرٍ من الفنون تشهد بعلو مكانته وسَبْقِهِ في العلم. ولم تزوِّدنا المراجع التي ترجمت له بتفصيلات كثيرة عن حياته أو أسماء تلاميذه، إلا أَنَّني تيسر لي الوقوف على اسم أحدهم، وهو الشيخ علي بن الشيخ سعد بن سعد البيسوسي السطوحي الشافعي الذي كتب رسالة ذكر فيها مؤلفات شيخه أحمد السُّجاعي.
وبعد حياة مليئة بالعطاء توفي عَلَمنا أحمد بن أحمد السُّجاعي في القاهرة ليلة الاثنين السادس عشر من صفر سنة 1197 هـ، وصُلِّي عليه في الأزهر، ودُفن عند أبيه بالقرافة الكبرى بتربة المجاورين.
مؤلفاته:
كان أحمد السُّجاعي من العلماء المُبَرِّزين في كثيرٍ من فنون العلم، وله مؤلفات كثيرة تدل على ذلك، ولم يذكر مَنْ ترجم له وبخاصة الجبرتي الذي عليه المعوَّل في ترجمته إلا الشيء القليل من هذه المؤلفات، إلا أَنَّ أحد تلاميذ السُّجاعي، وهو الشيخ علي بن الشيخ سعد بن سعد البيسوسي السطوحي الشافعي كتب رسالة ترجم فيها للسُّجاعي وذكر مؤلفاته، وقد أوردها علي باشا مبارك في كتابه (الخطط التوفيقية) في أثناء ترجمته للسُّجاعي.
وأغلب مؤلفات السُّجاعي شروحٌ، وحواشٍ، ورسائلُ، ومتونٌ متنوعةٌ بين منثورٍ ومنظومٍ. وإليك هذه المؤلفات بحسب تصنيفها علميا:
علوم القرآن:
فتح رب البَرِيَّات بتفسير وخواص الآيات السبع المُنجِيَات (1) .
رسالةٌ في الرسم العثماني (2) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/114)
منظومة في معنى الورود (1) في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ((2) .
شرح المنظومة السابقة (3) .
الحديث:
شرح مختصر البخاري لابن أبي جمرة (695 هـ) ، المسمَّى: (جمع النهاية في بدء الخير والغاية) ، سمَّاه: (النور الساري على متن مختصر البخاري) (4) ، له نسخ خطية متعددة: منها خمس نسخ في المكتبة الأزهرية (5) ، وواحدة في كل من: مكتبة رامبور بالهند (6) ، والمكتبة الوطنية بتونس (7) ، وجامعة الملك عبد العزيز (8) ، ومكتبة مكة المكرمة (9) ، ودار الكتب المصرية (10) ، والخزانة التيمورية (11) ، ومكتبة الكونجرس.
حاشية على الجامع الصغير للسيوطي (12) .
شرح حديث (في كل أرضٍ نبيٌّ كنبيِّكم) (13) ، له نسخة خطية في خزانة تطوان بالمغرب (14) ، وأخرى في المكتبة الخديوية (15) .
شرح حديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (16) ، له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (17) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) سورة مريم، من الآية 71.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(5) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 1/479 و 636.
(6) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/446.
(7) ينظر فهرس مخطوطات دار الكتب الوطنية بتونس 5/8.
(8) ينظر فهرس مخطوطات جامعة الملك عبد العزيز 2/41.
(9) ينظر فهرس مخطوطات مكتبة مكة المكرمة ص 66.
(10) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/66.
(11) ينظر فهرس الخزانة التيمورية 2/152.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(14) ينظر فهرس مخطوطات خزانة تطوان 2/128.
(15) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 1/344.
(16) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(17) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 1/529.(14/115)
شرح حديث (العينان وكاء السَّهِ، فَمَنْ نامَ فَلْيَتَوَضَّأْ) (1) ، له نسخة خطية في الخزانة التيمورية (2) .
العقيدة:
الدرة الفريدة بشرح العقيدة المسماة ب (الحفيدة) ، وهو شرح لكتاب العقيدة للسنوسي (895 هـ) (3) ، له نسختان خطيتان في الأزهرية (4) ، ونسخة خطية في مركز الملك فيصل (5) ، وأخرى في مكتبة مكة المكرمة (6) .
نَظْمٌ في بيان الرسل التي في القرآن وترتيبهم (7) .
فتح المنَّان ببيان الرسل التي في القرآن (8) ، وهو شَرْحٌ للنظم السابق (9) ، له نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية (10) ، وأخرى في الخديوية (11) ، وأخرى في الأزهرية (12) ، ونسختان في التيمورية (13) . وقد طبع هذا الشرح (14) .
رسالةٌ في استخراج عدة الأنبياء والرسل من اسم نَبِيِّه محمد ((15) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(2) ينظر فهرس الخزانة التيمورية 2/297.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(4) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/191.
(5) ينظر فهرس مخطوطات مركز الملك فيصل، العدد 8 ص 43.
(6) ينظر فهرس مخطوطات مكتبة مكة المكرمة ص 93.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 2/174.
(8) ينظر هدية العارفين 1/180.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 2/174.
(10) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/56، و 5/282.
(11) ينظر فهرس المكتبة الخديوية الجزء 7 القسم 1 ص 60.
(12) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 5/505.
(13) ينظر فهرس الخزانة التيمورية 1/220، وقد ذُكرت المنظومة في أول إحدى النسختين.
(14) طبع الكتاب في مصر سنة 1309 مع كتاب (مفحمات الأقران في مبهمات القرآن) للسيوطي. ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1084 و 1007.
(15) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/116)
المقالة المُشَاعة بشرح نظم أشراط الساعة، للعلامة إبراهيم ابن محمد الإخنائي (777 هـ) (1) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (2) .
القول الأزهر فيما يتعلق بأرض المحشر (3) ، له نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (4) .
تقييدٌ لطيفٌ لبيان أسماء الله الحسنى، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (5) .
شرح التقييد السابق (6) ، سمَّاه: (القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) (7) .
منظومةٌ في أسماء الله الحسنى (8) ضمَّنها أنواع البديع وسمَّاها: (المقصد الرفيع في نظم أسماء الله البديع) ، منها نسخة خطية في دار الكتب المصرية، محفوظة ضمن مجموعة منظوماتٍ للسُّجاعي (9) .
شرح المنظومة السابقة، سمَّاه: (المقصد الأسنى في شرح منظومة أسماء الله الحسنى) (10) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (11) .
منظومةٌٌ في أصول المُكَفِّرات (12) .
مقدمةٌ في شرح أصولٍ تسعةٍ ناشئةٍ عن اعتقادِ بعضِهَا كُفرٌ مُجمَعٌ عليه أو بدعةٌ مختلفٌ في كفر صاحبها، وهو شرح للمنظومة السابقة (13) ، له نسخة خطية محفوظة في جامعة الملك سعود ضمن مجموع (14) .
__________
(1) ينظر إيضاح المكنون 2/534، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/362.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(4) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/298.
(5) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/280.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(7) ينظر هدية العارفين 1/180.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 3/278.
(10) ينظر عجائب الآثار 3/263، والخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(11) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/362.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(14) ينظر فهرس مخطوطات جامعة الملك سعود 5/202.(14/117)
رسالةٌ في إثبات كرامات الأولياء، سَمَّاها: (السهم القوي في نحر كل غبي وغوي) (1) ، له ست نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (2) ، وقد طبع الكتاب (3) .
رسالةٌ في الرَّدِّ على الشيخ عمر الطحلاوي في تكفيره لشمس الدين الحفناوي (4) .
منظومةٌ في التوحيد (5) .
شرحُ المنظومةِ السابقة، وهو الشرح الكبير عليها (6) ، له نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (7) .
الشرح الصغير للمنظومة السابقة، سمَّاه: (فتح المجيد شرح فريدة التوحيد) (8) .
عقيدة التوحيد.
فتح الحميد بشرح عقيدة التوحيد، وهو شرحٌ للكتاب السابق، له نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (9)
الجوهر المنيف في خواص اسمه تعالى "اللطيف" (10) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (11) .
منظومةٌٌ في الخلاف في اسم الله الأعظم، اشتملت على ثلاثين قولا (12) .
شرح المنظومة السابقة (13) .
رسالةٌ ملخصةٌ من (شمس المعارف الكبرى) للإمام أحمد بن علي البوني (622 هـ) (14) .
الفقه:
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/208 و 710.
(3) طبع الكتاب في بولاق عام 1318 هـ مع كتاب (شفاء السِّقَام في زيارة خير الأنام) لتقي الدين السبكي. ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1004 و 1007.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(7) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/238.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(9) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/288.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180، وهو في الخطط التوفيقية باسم: المنهج الحنيف في خواص.... .
(11) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 1/232.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/118)
مناسك الحج (1) .
منظومةٌ في شروط الإمام والمأموم (2) .
فتح اللطيف القيوم بما يتعلق بصلاة الإمام والمأموم (3) ، وهو شرح كبير للمنظومة السابقة.
شرحٌ صغيرٌ للمنظومة السابقة (4) .
الفوائد المزهِرَة بشرح الدرة المُنتضِرَة (5) ، وهو شرح على منظومة الدرة المنتضِرَة في المَعْفُوِّ من النجاسات، لشهاب الدين أحمد الشُّرُنْبُلالي الشافعي، له نسختان خطيتان في جامعة الملك سعود (6) ونسختان في مكتبة مكة المكرمة (7) ، ونسخة في المكتبة الأزهرية (8) ، وأخرى في دار الكتب المصرية (9) .
حاشيةٌ على شرح الخطيب الشربيني (977 هـ) على مختصر أبي شجاع (593هـ) في الفقه الشافعي (10) .
شرحٌ لطيفٌ على خطبة الخطيب الشربيني (977 هـ) في شرحه لمختصر أبي شجاع (593هـ) في الفقه الشافعي (11) .
أزهارُ رياضِ رضا التحقيقِ والتدقيق، وهو تعليق على آخِرِ شرح الخطيب الشربيني (977 هـ) على مختصر أبي شجاع (593 هـ) في الفقه الشافعي (12) ، له نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (13) ، وأخرى في دار الكتب المصرية (14) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(3) ينظر هدية العارفين 1/180.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(6) ينظر فهرس مخطوطات جامعة الملك سعود 6/168.
(7) ينظر فهرس مخطوطات مكتبة مكة المكرمة ص 216.
(8) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 2/592.
(9) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/195.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(13) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 2/425.
(14) ينظر فهرست الكتب العربية المحفوظة بالكتبخانة المصرية 3/210.(14/119)
شرح الستين مسألة، وهو شرح للمقدمة المنظومة المعروفة ب (الستين مسألة) للشيخ أحمد بن محمد الزاهد (819 هـ) (1) ، له نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (2) .
منظومةٌ في الخُلْع وأحكامه (3) .
تقييدٌ على المنظومة السابقة سمَّاه: (القول النفيس فيما يتعلق بالخُلْع على مذهب الإمام الشافعي ابن إدريس) (4) ، له نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية (5) ، ونسختان أخريان في المكتبة الخديوية (6) .
منظومةٌ في أحكام الاستحاضة (7) .
شرحُ منظومةِ أحكام الاستحاضة السابقة (8) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (9) .
منظومةٌ في شروط تكبيرة الإحرام (10) .
شرحٌ لمنظومة شروط تكبيرة الإحرام السابقة (11) .
منظومةٌ تتعلق بالعقود التي تكون من شخصين أو من شخصٍ واحدٍ مع بيان الجائز واللازم منهما (12) .
رسالةٌ في الرد على من قال بطهارة الفسيخ (13) .
رسالةٌ في آداب الحمَّام (14) .
منظومةٌ في دخول المسلم في مُلْكِ الكافر (15) .
شرح المنظومة السابقة (16) .
الفرائض:
منظومةٌ في إِرْثِ ذوي الأرحام (17) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(2) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 2/546.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(5) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/534، و 7/53.
(6) فهرس المكتبة الخديوية 3/262، و 4/87.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(9) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/85.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(15) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(16) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(17) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.(14/120)
شرحٌ المنظومة السابقة سمَّاه: (تحفة الأنام في توريث ذوي الأرحام) (1) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (2) ، وأخرى في المكتبة الخديوية (3) .
منظومةٌ في معنى الكَلالَة (4) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (5) .
فتح القادر المُعِيد بما يتعلَّق بقسمة التَّرِكَةِ على العبيد (6) ، وهي حاشية على رسالة الشيخ الدَّرْدِير (1201 هـ) في مخرج القيراط (7) .
النفحات الرَّبَّانِيَّة على الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة، وهو حاشية على (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة شرح الرَّحَبِيَّة) للعلامة الشِّنْشَوْرِيّ (999 هـ) (8) له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (9) .
الأدعية والأذكار:
فتح القدير بشرح حزب قطب النَّوَوِيّ الشهير (10) ، له نسختان خطيتان في مركز الملك فيصل (11) ، ونسخة في مكتبة مكة المكرمة (12) ، ونسخة في المكتبة الأزهرية (13) ، ونسخة خطية أخرى في المكتبة الملكية في برلين (14) ، ونسخة في مكتبة جاريت في برنستون بأمريكا (15) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وإيضاح المكنون 1/242، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/554.
(3) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 3/303.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(6) ينظر هدية العارفين 1/180.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(9) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 2/721.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(11) وهما محفوظتان فيه تحت الرقمين: 1305 و 10485.
(12) ينظر فهرس مخطوطات مكتبة مكة المكرمة ص 297.
(13) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/380.
(14) ينظر فهرس المكتبة الملكية في برلين 3/412.
(15) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 1/397.(14/121)
فتح الغفَّار بمختصر الأذكار للنووي (1) .
بدء الوسائل في حل ألفاظ الدلائل (2) ، وهو حاشية على (دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار) لأبي عبد الله الجزولي (870 هـ) ،له خمس نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (3) ونسختان في دار الكتب المصرية (4) ، وأخرى في مكتبة بطرسبرج في لينينغراد بروسيا (5) .
حاشية على (الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين) لابن الجزري (833هـ) (6) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (7) .
نظمُ الجوهرةِ السَّنِيَّة في الْحِكَم العَلِيَّة (8) ، وهي رسالة في الْمَحَالِّ التي تُطلب فيها الصلاة على النبي (، ألَّفها منصور بن محمد الأريحاوي (9) ، المتوفى بعد سنة 1016 هـ.
فتح ذي الصفات العَلِيَّة بشرح الجوهرة السنية (10) .
رسالةٌ في أذكار المساء والصباح (11) .
رسالةٌ في أدعية أوَّل السنة وآخرها ويوم عرفة ويوم عاشوراء (12) .
المواعظ والإرشاد:
الفوائد الْجَلِيَّة لمن أراد الخلاص من كل بَلِيَّة، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (13) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر عجائب الآثار 3/263، والخطط التوفيقية 12/10، وإيضاح المكنون 1/167، وهدية العارفين 1/180.
(3) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/339.
(4) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/265 و 271.
(5) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/446.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وقد طُبع كتاب ابن الجزري (الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين) . ينظر معجم المطبوعات العربية 1/63.
(7) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 1/247.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(9) ينظر هدية العارفين 1/180.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وهدية العارفين 1/180.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(13) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 1/339.(14/122)
رسالةٌ ملخصةٌ من (مدخل الشرع الشريف) لابن الحاج المالكي (737 هـ) (1) .
قصيدةٌ في التوبة والاستعاذة من الذنوب، لها نسخة خطية في دار الكتب المصرية محفوظة ضمن مجموعة منظوماتٍ للسُّجاعي (2) .
رسالةٌ ملخصةٌ من كتاب (الفوائد والصلة والعوائد) للشيخ أحمد بن أحمد الشرجي (893 هـ) (3) .
التصوف:
الفوائد اللطيفة في شرح ألفاظ الوظيفة (4) ، وهو شرحٌ على وظيفة السيد أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البُرْنُسِيّ المعروف بزَرُّوق (899 هـ) ، له ثلاث نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (5) ونسختان في دار الكتب المصرية (6) ، ونسخة في المكتبة الظاهرية (7) .
شرحُ وِرْدِ قطب الإمام الشافعي (8) .
فتح القوي بشرح صلاة القطب البدوي، وهو شرحٌ على صلاة السيد أحمد البَدَوِيّ (675 هـ) (9) ، له ثلاث نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (10) .
شرح حزب السيد أحمد البَدَوِيّ (675 هـ) (11) .
الفتوحات العلية بشرح الصلاة المشيشيَّة، وهو شرحٌ كبيرٌ على صلاة القطب عبد السلام بن مشيش (622 هـ) (12) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (13) .
شرحٌ صغيرٌ على صلاة القطب عبد السلام بن مشيش (14) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 3/278.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(5) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/383.
(6) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/194.
(7) ينظر فهرس المخطوطات بدار الكتب الظاهرية (تصوف) 2/418.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/381.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(13) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/175.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/123)
شرحُ الحزبِ الصغير للقطب إبراهيم بن أبي المجد الدُّسُوقي (676 هـ) (1) .
السيرة:
حاشيةٌ على مختصر شيخه حسن بن علي المدابغي (1170 هـ) على (بهجة السامعين والناظرين بمولد سيِّد الأوَّلين والآخرين) للغَيْطِي (981 هـ) (2) ، له ثماني نسخ في المكتبة الأزهرية (3) ، ونسختان في دار الكتب المصرية (4) ، ونسخة في المكتبة الخديوية (5) ، ونسخة في دار مخطوطات البحرين (6)
حاشيةٌ على (شرح الشمائل للترمذي) للعلامة المناوي (1031 هـ) (7) .
شرحُ الخصائصِ والمعجزات النبوية للسيوطي (911 هـ) (8) .
منظومةٌ في أسماء النبي ((9) .
شرح المنظومة السابقة سمَّاه: (فتح الرحيم الغفار بشرح أسماء حبيبه المختار) (10) ، له نسخة في مكتبة وقف آل هاشم في المدينة المنورة، ومنها مصورة فلمية في الجامعة الإسلامية (11) .
ثلاثُ قصائد في مدح النبي ((12) ، لها نسخة في دار الكتب المصرية محفوظة ضمن مجموعة منظوماتٍ للسُّجاعي (13) .
قصيدةٌ في الاستغاثة برسول الله (، منها نسخة في دار الكتب المصرية محفوظة ضمن مجموعة منظوماتٍ للسُّجاعي (14) .
فضائل آل البيت:
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(3) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 5/415 و 550.
(4) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 1/239، وفهرس الكتب العربية الموجودة بالدار 5/157.
(5) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 1/405.
(6) ينظر فهرس مخطوطات البحرين 2/115.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(11) ينظر فهرس كتب السيرة النبوية والصحابة بالجامعة الإسلامية ص 220.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(13) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 3/278.
(14) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 3/278.(14/124)
أبياتٌ ثلاثةٌ في أولاد النبي ((1) .
شرحُ الأبياتِ الثلاثة السابقة سمَّاه: (الروض النضير فيما يتعلق بآل بيت البشير النذير) (2) ، له أربع نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (3) ، ونسختان في دار الكتب المصرية (4) ، ونسخة في المكتبة الخديوية (5) .
تحفة ذوي الألباب فيما يتعلق بالآل والأصحاب (6) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (7) .
التاريخ:
منظومةٌ في أسماء مكة المكرمة وضبطها وتحقيق معانيها (8) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (9) ، له نسخة خطية محفوظة في المكتبة الأزهرية (10) .
اللغة:
منظومةٌ في معاني لفظ "العين" (11) ، تَتَبَّعَ (القاموسَ المحيط) واستخرج لِلَفْظ "العين" ستة وعشرين معنى جمعها في هذه المنظومة المكوَّنة من ثلاثة وعشرين بيتا، لها أربع نسخ خطية في دار الكتب المصرية (12) ، ونسخة في مكتبة كلية الدراسات الشرقية في بطرسبرغ بروسيا (13) .
منظومةٌ في الأعضاء التي يجوز فيها التذكير والتأنيث (14) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/10.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/10، وإيضاح المكنون 1/591، وهدية العارفين 1/180.
(3) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 5/457.
(4) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 5/206.
(5) ينظر فهرس المكتبة الخديوية الجزء 7 القسم 1 ص 204، والجزء 7 القسم 2 ص 457.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 1/248، وهدية العارفين 1/180.
(7) ينظر فهرس دار الكتب المصرية (الملحق) 1/39.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 5/474.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(12) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/42، و 3/278 و 289.
(13) ينظر المنتقى من مخطوطات جامعة بطرسبرغ ص 266.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/125)
فتحُ المَنَّان بشرح ما يُذَكَّر ويُؤَنَّث من أعضاء الإنسان (1) ، وهو شرح للمنظومة السابقة.
شرحُ قصيدةِ ابن جابر (780 هـ) فيما يُقرأ بالضاد والظاء (2)
شرحُ قصيدةٍ فيما يُقرأ بالواو والياء (3) .
منظومةٌ في صفات حروف المعجم (4) .
رسالةٌ في البئر (5) .
رسالةٌ في الفرق بين الثَّوْر والتَّوْر والطَّوْر (6) .
النحو:
حاشيةٌ على شرح قطر الندى لابن هشام (7) ، طبعت أكثر من مرة (8) .
حاشيةٌ على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، سمَّاها: (فتح الجليل على شرح ابن عقيل) (9) ، طبعت عدة مرات (10) .
شرح الأزهرية في علم العربية (11) .
منظومةٌ في أحكام «لا سِيَّما» .
أحكام «لا سِيَّما» وما يتعلق بها، وهي رسالة شَرَحَ فيها المنظومة السابقة، وهي موضوع هذا البحث، وسيأتي الحديث عن نسبتهما (12) .
منظومةٌ في إعراب فواتح السور القرآنية (13) .
الدُّرَر في إعراب أوائل السور (14) ، وهو شرحٌ للمنظومة السابقة، له ثلاث نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (15) ، ونسخة في الخزانة التيمورية (16) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(8) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1006، وفهرست الكتب النحوية المطبوعة ص 80.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 2/160، وهدية العارفين 1/180.
(10) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1007، وفهرست الكتب النحوية المطبوعة ص 85.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(12) ينظر ص 1377.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(15) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 1/176، و 4/196.
(16) ينظر فهرس الخزانة التيمورية 1/201.(14/126)
إعرابُ (أرأيت) (1) ، له نسخة خطية في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية (2) .
منظومةُ البيان في الإخبار بظرف الزمان والمكان (3) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (4) ، له نسخة خطية محفوظة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (5) .
فتحُ المالك فيما يتعلق بقول الناس: (وهو كذلك) (6) ، بَيَّن فيه مرجع الضمير والإشارة في هذا القول، له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (7) ، ونسخة في المكتبة البلدية بالإسكندرية (8) ، وأخرى في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (9) ، وأخرى في مكتبة كلية الدراسات الشرقية في جامعة بطرسبرغ بروسيا (10) ، وأخرى في مكتبة الكونجرس الأمريكي.
منظومةٌ في الأسماء والأفعال والحروف (11) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (12) .
رسالةٌ في إعراب قول الإمام الشافعي: (قَلَّ مَنْ جَنَّ إلا وأَنْزَل) (13) .
رسالةٌ في تصريف (أشياء) (14) .
منظومةٌ في اعتراض الشرط على الشرط (15) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 18.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(5) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 190.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(7) ينظر فهرس المكتبة الأزهرية 4/286.
(8) ينظر فهرس المكتبة البلدية بالإسكندرية (علم التصريف) ص 11، والكتاب محفوظ ضمن مجموع، وهو الثالث فيه.
(9) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 209.
(10) ينظر المنتقى من مخطوطات جامعة بطرسبرغ ص 251.
(11) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(12) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(15) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/127)
شرح المنظومة السابقة (1) .
الصرف:
شرح لامية الأفعال لابن مالك (2) .
فتح الرءوف الرحمان بشرح ما جاء على مفعل ونحوه من المصدر واسم الزمان والمكان، وهي شرحٌ لأبياتٍ نظمها العلامة الفارضي (981 هـ) في ذلك (3) ، له نسخة خطية في مركز الملك فيصل (4) ، وأخرى في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية (5) ، وثالثة في دار الكتب الوطنية التونسية (6) ، ورابعة في دار الكتب المصرية (7) .
البلاغة:
منظومةٌ في أنواع المجاز (8) ، طُبعت (9) .
الإحراز في أنواع المجاز (10) ، وهو شرحٌ للمنظومة السابقة، له اثنتا عشرة نسخة خطية في المكتبة الأزهرية (11) ، وخمس نسخ في دار الكتب المصرية (12) ، ونسختان في المكتبة الخديوية (13) ، ونسختان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (14) ونسخة في المكتبة الملكية في برلين (15) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر فهرس مخطوطات مركز الملك فيصل، العدد 8 ص 86.
(5) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 358.
(6) ينظر فهرس دار الكتب الوطنية بتونس 3/112.
(7) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/165.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1007.
(10) ينظر إيضاح المكنون 1/32، وهدية العارفين 1/180.
(11) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 4/339.
(12) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/175.
(13) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 4/122.
(14) ينظر فهرس مخطوطات الأدب والنقد والبلاغة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 267.
(15) ينظر فهرس المكتبة الملكية في برلين 6/421.(14/128)
منظومةٌ في علاقات المجاز المرسل (1) ، سمَّاها (علاقات المجاز) ، لها نسخة خطية في دار الكتب المصرية (2) .
الإعواز في بيان علاقات المجاز، وهو شرحٌ للمنظومة السابقة (3) له نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية (4) ، ونسخة في المكتبة الأزهرية (5) ، وأخرى في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (6) .
نَظْمُ رسالةِ السمرقندي (556 هـ) في الاستعارة، وقد طبع هذا النظم (7) .
رسالةٌ في جواز الاقتباس من القرآن أو الحديث (8) .
شرحُ شواهدِ التلخيص (9) .
العروض:
فتح الوكيل الكافي بشرح متن الكافي (10) ، وهو شرحٌ لكتاب (الكافي في علمي العروض والقوافي) لأحمد بن عبَّاد القِنَائِيّ المعروف بالخَوَّاص (858 هـ) ، له ست نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (11) ، وثلاث نسخ في دار الكتب المصرية (12) ، ونسخة في المكتبة البلدية بالإسكندرية (13) ، ونسخة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (14) ، وأخرى في مكتبة خدا بخش بالهند (15) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/137.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/176.
(5) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 4/342.
(6) ينظر فهرس مخطوطات الأدب والنقد والبلاغة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 270.
(7) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1007.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(11) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 4/469.
(12) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/238 و 241.
(13) ينظر فهرس المكتبة البلدية بالإسكندرية (عروض) ص 3.
(14) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 209.
(15) ينظر ملحق تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/22.(14/129)
منظومةٌ مختصرةٌ في علمي العروض والقوافي، له نسختان في المكتبة الأزهرية (1) ، ونسختان أخريان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (2) ، ونسخة في المكتبة البلدية بالإسكندرية (3) ، وأخرى في الظاهرية (4) .
منظومةٌ في مهملات البحور الستة المستخرجة من الدوائر الثلاث: دائرة المختلف، ودائرة المؤتلف، ودائرة المجتلب (5) ، شرحها الشيخ حسن بن السيد علي المقري الشافعي البدري (1214 هـ) ، ومن هذا الشرح نسخة خطية في دار الكتب المصرية (6) .
منظومةٌ في أسماء البحور سمَّاها: (قلائد النحور في نظم البحور) (7) .
لمعانُ ضياءِ النُّحور بشرح أسماء البحور، وهو شرحٌ للمنظومة السابقة، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (8) .
الأدب:
بلوغ الأَرَب بشرح قصيدةٍ من كلام العرب (9) ، وهو شرحٌ لقصيدة السموأل اللاميَّة، طبع الكتاب سنة 1324 هـ مع شروحٍ لغيره لقصائد أخرى (10) .
__________
(1) ينظر فهرس الكتب الموجودة في المكتبة الأزهرية 4/477.
(2) ينظر فهرست مخطوطات النحو والصرف واللغة والعروض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 472.
(3) ينظر فهرس المكتبة البلدية بالإسكندرية (عروض) ص 3
(4) ينظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (علوم اللغة العربية: اللغة، والبلاغة، والعروض، والصرف) ص 435.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(6) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/239.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(8) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2/242.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 1/194، وهدية العارفين 1/180.
(10) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1006.(14/130)
مختصرُ شرحِ معلقة امرئ القيس (1) ، سمَّاه: (فتح الملك الجليل بشرح قصيدة امرئ القيس الضِّلِّيل) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (2) ، وأخرى في المكتبة البلدية بالإسكندرية (3) ، وثالثة في مكتبة جاريت في برنستون بأمريكا (4) .
الفوائد اللطيفة في تخريج قولهم: (أبو قردان) على الطريقة المُنِيفَة (5) ، وهو شرحٌ على القول المشتهر على الألسنة: (أبو قرْدَان زَرَعَ فَدَّان) ، ضمَّنَهُ فوائد أدبية مستحبة وَنُكاتا مستجادة، له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (6) ، وأخرى في المكتبة الخديوية (7) .
علم الآداب:
منظومةٌ في علم الآداب (8) ، له نسخة خطية في المكتبة الخديوية (9) .
فتح المَلِك الوَهَّاب بشرح منظومة علم الآداب (10) ، وهو شرحٌ للمنظومة السابقة، له أربع نسخ خطية في المكتبة الأزهرية (11) ، ونسخة في مركز الملك فيصل (12) .
رسالةٌ في آداب السفر (13) .
منظومةٌٌ في حكم صحبة النساء والمُرْدَان (14) .
الحساب:
منظومةٌ في الكسور.
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرس دار الكتب المصرية 7/119.
(3) ينظر فهرس المكتبة البلدية بالإسكندرية (أدب) ص 157.
(4) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/324.
(5) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 2/209، وهدية العارفين 1/180.
(6) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 5/203، و 6/264.
(7) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 4/290.
(8) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(9) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 7/254.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(11) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/473.
(12) ينظر فهرس المخطوطات في مركز الملك فيصل، العدد 2 ص 209.
(13) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/131)
شرحُ المنظومةِ السابقة، له نسخة خطية محفوظة في المكتبة الأزهرية (1) .
منظومةٌ في الوفق المثلث الخالي الوسط (2) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (3) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (4) ، وأخرى في الخديوية، وتوجد المنظومة المشروحة في آخر هذه النسخة (5) .
نظمُ أصولِ الأوفاق (6) ، نَظَمَ أصول الوفق الثمانية في اثني عشر بيتا.
فتح الملك الرزَّاق بشرح نظم أصول الأوفاق (7) ، وهو شرح للمنظومة السابقة، له نسختان خطيتان في المكتبة الخديوية (8) .
شرحُ القصيدةِ المسمَّاة ب (الدر والتّرْيَاق في علوم الأوفاق) (9) .
الفلك:
هداية أولي البصائر والأبصار إلى معرفة أجزاء الليل والنهار (10) ، وهو شرحٌ لمنظومة الشيخ أحمد عيَّاد في الميقات، له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (11) ، ونسخة خطية في كلٍّ من مركز الملك فيصل (12) ، والمكتبة البلدية بالإسكندرية (13) ، والمكتبة الخديوية (14) ، ودار الكتب المصرية (15) .
__________
(1) ينظر فهرس الكتب الموجودة في المكتبة الأزهرية 6/148.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/39.
(5) ينظر فهرس المكتبة الخديوية الجزء 7 القسم 1 ص 238.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(8) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 5/348.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وإيضاح المكنون 2/719، وهدية العارفين 1/180.
(11) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/321.
(12) وهي محفوظة فيه تحت رقم: 10520.
(13) ينظر فهرس المكتبة البلدية بالإسكندرية (العلوم الرياضية، علم الهيئة والفلك) ص 63.
(14) ينظر فهرس المكتبة الخديوية 5/291، و 7/325.
(15) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 3/186.(14/132)
فتح العليم القادر بشرح لقط الجواهر، وهو شرحٌ على (لقط الجواهر في تحديد الخطوط والدوائر) لسبط المارديني (912 هـ) في الميقات (1) ، له نسخة خطية في المكتبة الخديوية (2) ، وأخرى في الخزانة الحسينية في الرباط بالمغرب (3) ، وثالثة في جامعة برنستون (4) ، ورابعة في مكتبة جاريت في برنستون (5) .
المنظومة الكبرى في ضبط منازل القمر (6) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (7) ، له نسخة خطية في الخزانة العامة بالرباط (8) .
منظومةٌ في خمسة أبيات في أسماء منازل القمر (9) .
شرحُ المنظومةِ السابقة (10) ، له نسخة خطية محفوظة في المكتبة الأزهرية (11) .
المنطق والفلسفة:
فتح الوَهَّاب المُوَفِّق بشرح نظم أشكال المنطِق، وهي رسالة في المنطق شرح فيها الأبيات الثلاثة للشيخ أحمد الملوي (1181 هـ) في ضروب أشكال المنطق الأربعة، له نسختان خطيتان في المكتبة الأزهرية (12) ، ونسخة خطية في مركز الملك فيصل (13) .
منظومةٌ في أنواع المنافيات (14) .
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرس المكتبة الخديوية الجزء 7 القسم 1 ص 268.
(3) ينظر فهرس الخزانة الحسينية في الرباط بالمغرب 3/402.
(4) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/216.
(5) ينظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/216.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(7) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(8) ينظر فهرس المخطوطات العربية في الخزانة العامة بالرباط (القسم الثاني) 2/303.
(9) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(10) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(11) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 6/309.
(12) ينظر فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية 3/432.
(13) وهي محفوظة فيه تحت رقم: 2155.
(14) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/133)
شرحُ المنظومةِ السابقة (1) ، له نسخة خطية في دار الكتب المصرية (2) .
نظمُ المقولاتِ العشر في الحكمة (3) .
الجواهر المنتظمات في عقود المقولات (4) ، وهو شرحٌ للنظم السابق، وقد طبع الكتاب (5) .
شرحٌ على بيتين في المقولات (6) ، وهو مطبوع (7) .
ومن هذا الاستعراض الذي لا أحسبه أتى على جميع مؤلفات هذا العالم نلمس كثرة مؤلفاته؛ إذ بلغت مائة وأربعة وخمسين مصنفا، وقد شملت معظم العلوم، وتنوعت ما بين كتابٍ مستقل، ورسالةٍ، وحاشيةٍ على كتاب، وشرحٍ لكتاب، ومنظومةٍ، وشرحٍ لمنظومة، وهذا ينبئ عن مكانة هذا العَلَم العلمِيَّة ورسوخ قدمه في العلم.
منهج المؤلف في الرسالة:
شَرَحَ المؤلِّفُ في هذه الرسالة أبياتَ منظومتِهِ التي تحدَّث فيها عن «لا سِيَّما» وأحكامها، وهذه المنظومة تبلغ أبياتها سبعة، وهي من بحر الرجز التام، وقد نظمها المؤلفُ بعباراتٍ سهلة وواضحة، وبما أَنَّ الناظم مطالب دائما بسلامة نظمه وإقامة قوافيه، مما يستلزم أن تكون عبارات نظمه موجزة، فلا تَفِي بجميع التفصيلات المتعلقة بما يتحدث عنه، فيستدعي ذلك تفصيلها نثرا وإيضاح ما اشتملت عليه، وهذا ما صَنَعَهُ المؤلِّف حينما شرح منظومته في هذه الرسالة.
__________
(1) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(2) ينظر فهرست المخطوطات التي اقتنتها الدار 2/80.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(4) ينظر الخطط التوفيقية 12/11، وهدية العارفين 1/180.
(5) ينظر معجم المطبوعات العربية 1/1006.
(6) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(7) طبع بهامش مجموع ثلاث رسائل لزيني دحلان. ينظر معجم المطبوعات العربية 1/992 و 1007.(14/134)
ولم يذكر المؤلف في مقدمة هذه الرسالة منهجه الذي سيسير عليه، إلا أَنَّه واضح الصورة؛ نظرا لصغر حجم الرسالة، فلقد حمد الله أوَّلاً، ثم أتبعه بالصلاة والسلام على رسول الله، ثم ابتدأ بالمقصود فأخذ في شرح ما تضمنه البيتان الأوَّلان من حكم الاسم النكرة الواقع بعد «لا سِيَّما» قبل أن يذكرهما، ثم أعقب ذلك بذكرهما، بعد ذلك شَرَحَ ما تضمَّنه البيت الثالث مازجًا كلامه في الشرح بأبيات المنظومة، وسار على هذه الطريقة في بقية أبيات المنظومة، وقد استدعى هذا منه أن جعل جزءا من بيتين في جملة واحدة، فقد قال عند شرحه البيت الثالث (1) : (( (وَعِنْدَ رَفْعٍ)) بالتنوين ((مُبْتَدًا قَدِّرْ)) ، أي: قَدِّرْ مبتدأً عند رفعٍ، ((وَفِي رَفْعٍ وَجَرٍّ أَعْرِبَنْ)) بنون التوكيد الخفيفة، ((سِيَّ تَفِي، وَانْصِبْ مُمَيِّزًا)) أي، انصبْ حالَ كونك مُمَيِّزًا) ، والبيتان هما:
وَعِنْدَ رَفْعٍ مُبْتَدًا قَدِّرْ وَفِي رَفْعٍ وَجَرٍّ أَعْرِبَنْ «سِيَّ» تَفِي
وَانْصِبْ مُمَيِّزًا وَقُلْ: (لاَ سِيَّما يَوْم) بِأَحْوَالٍ ثَلاَثٍ فَاعْلَمَا
وقد اهتم المؤلِّفُ في الشرح بضبط كلمات المنظومة (2) ، كما هو واضح من النَّصِّ السابق، ومن قوله عند شرحه البيت الرابع: (وإلى هذا أشرتُ بقولي: (وَقُلْ: ((لاَ سِيَّما يَوْم)) بِأَحْوَالٍ) بالتنوين (ثَلاَثٍ) بدلٌ مما قبله (فَاعْلَمَا)) ، ومن قوله أيضا عند شرحه البيت الأخير: (وقد ختمت الأبيات بالصلاة على أشرف المخلوقات ... ) ، ثم قال: (والبَهَاء: بفتح الباء معناه: الْحُسْن) .
كما اهتم بتوضيح ما تضمَّنته أبياتُ المنظومة من أحكامٍ، ولذلك حرص على نقل كلام العلماء في الأحكام التي يتحدث عنها، فقد نقل عن سبعةٍ من العلماء، منهم ابن مالك والرضي والمرادي.
__________
(1) ينظر ص 1384.
(2) ينظر ص 1384 و 1387.(14/135)
أيضا كان المؤلف يهتم بذكر تعليلاتٍ للأحكام التي يسوقها من أجل أن يَرْسَخَ الحكمُ في ذهن القارئ، وذلك نحو تعليله لحذف المبتدأ إذا كان ما بعد «لا سِيَّما» مرفوعا على الخبرية بأَنَّ «لا سِيَّما» نُزِّلَت منزلة «إلا» الاستثنائية، فناسب ألاَّ يُصرَّحَ بعدها بجملة (1) .
ونحو تعليله لإعمال «لا» النافية للجنس في «سيّ» المضافة لمعرفة بأَنَّ «سِيَّ» متوغِّلة في الإبهام ك «غَيْر» و «مِثْل» و «شِبْه» فلا تُعرِّفها الإضافة (2) .
ومثل تعليله بأَنَّ رفع المعرفة بعد «لا سِيَّما» ضعيف، وذلك لحذف العائد المرفوع مع عدم الطول، وإطلاقَ «ما» على من يعقل في نحو: ... ولا سِيَّما زيدٌ (3) .
ومثل تعليله لعدم حذف «لا» من «لا سِيَّما» بأَنَّ حذف الحرف خارج عن القياس (4) ، وغير ذلك من الأمثلة التي سيلحظها القارئ.
ونظرا لحرص المؤلف على تقرير الحكم الذي يتحدث عنه في ذهن القارئ لجأ إلى طريقة السؤال والجواب، فنجده استعمل لفظة «لا يُقال» في السؤال ولفظة «لأنَّا نقول» في الجواب، ومثال ذلك أنه ذكر أن «ما» موصولة، و «سِيّ» مضافة إليها، وفتحتها فتحة إعراب؛ لأنها اسم «لا» النافية للجنس، فقال (5) : (لا يقال: ((إن شرط «لا» عملها في النكرات، و «سي» قد عُرِّفت بالإضافة فلا عَمَلَ ل «لا» فيها)) ؛ لأَنَّا نقول: مَنَعَ من ذلك توغُّلُها في الإبهام ك «غَيْر» و «مِثْل» و «شِبْه» فلا تُعرِّفها الإضافة) .
وهذه طريقة تعليمية أجاد المؤلفُ في اتِّباعها؛ كي يُنبِّه القارئ إلى أهمية الفكرة التي يتحدث عنها ويُثير ذهنه من أجل أن تَثبت لديه، وهي تدل على حرص المؤلف على إفادة قارئ الرسالة، وإتقانه طريقة التعليم.
__________
(1) ينظر ص 1383.
(2) ينظر ص 1383.
(3) ينظر ص 1385.
(4) ينظر ص 1386.
(5) ينظر ص 1383.(14/136)
ويلاحظ على المؤلف في شرحه للمنظومة أَنَّه لم يتكلَّم عن جميع ما يتعلق ب «لا سِيَّما» من أحكامٍ؛ إذ أغفل الحديث عن بعض الأحكام، وإليك بيانها مع دراستها:
- إعراب الواو الداخلة على «لا سِيَّما» في مثل: ((أَكْرَمْتُ الأصدقاءَ ولا سِيَّما محمد)) ، وكذلك محل جملة «لا سِيَّما» من الإعراب. وبيان هذه المسألة كالتالي:
أن الواو هنا واو الحال، والجملة في محل نصب حال من الاسم الواقع قبل «لا سِيَّما» ، والمعنى: أَكْرَمْتُ الأصدقاءَ والحال أنه لا مثلَ محمد موجود فيهم، أي: لا مثله في الإكرام (1) .
وذهب الرضي (2) إلى أن الواو اعتراضية؛ بناء على إجازة الاعتراض في آخر الكلام، والجملة لا محل لها من الإعراب، فهي مع ما بعدها بتقدير جملة مستقلة (3) .
ويجوز فيها وجه آخر (4) ، وهو أن تكون الواو عاطفة بالاتفاق في مثل: (حضر الضيوف ولا سيما خالد) ، وعاطفة في مثل: (أكْرِمِ الأصدقاءَ ولا سيما محمد) عند مَنْ يُجيز عطف الخبر على الإنشاء (5) .
__________
(1) ينظر الارتشاف 3/1553، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1045، والفوائد العجيبة ص 46.
(2) ينظر شرح الرضي 2/792.
(3) ينظر شرح الرضي 2/792، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1044.
(4) ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1046.
(5) ينظر حكم عطف الخبر على الإنشاء في المغني ص 627، وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح 3/26.(14/137)
وعلى هذا فالجملة تابعة لما قبلها محلا وعدمه، فهي في محل رفع في مثل: (غايةُ ما تكلَّمتُ به الحقُّ أحقُّ بالاتباع ولا سيَّما الواضح) ؛ لأن الجملة قبلها خبر عن «غاية» ، وفي محل نصب في مثل: (قلتُ لزيد: احْترِمِ الكبيرَ ولا سيَّما القريب) ؛ لأن الجملة قبلها في محل نصب مقول القول، وفي محل جر في مثل: (نطقت بِسَادَ العلماءُ ولا سيَّما العاملون) ، وهي لا محل لها من الإعراب في مثل: (أكْرِمِ الأصدقاءَ ولا سِيَّما الحاضر) ؛ لأن الجملة قبلها ابتدائية (1) .
- بيان محل الجملة الواقعة بعد «لا سِيَّما» إذا كان الاسم بعدها مرفوعا كما في نحو: ((نجح الطلاب ولا سِيَّما زيدٌ)) ، وتفصيل هذه المسألة كما يلي:
أن الاسم المرفوع خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو زيد) ، والجملة لها وجهان من الإعراب بحسب تقدير نوع «ما» : أولهما: أن الجملة صلة للموصول لا محل لها من الإعراب، وهذا عند الجمهور القائلين بأن «ما» موصولة.
والوجه الثاني: أن تكون الجملة في محل جر صفة ل «ما» ؛ لأنَّ «ما» مجرورة بإضافة «سِيّ» إليها، وهذا عند ابنُ خروف الذي يجيز أن تكون «ما» موصوفة إضافة إلى إجازته الوجه السابق (2) .
- بيان معنى ووزنها، وتفصيل هذه المسألة كالتالي:
أن «سيّ» ك «مِثْل» وزنا ومعنى، تقول: أنتما سِيَّان، أي: مِثْلان، وأنتم أَسْوَاء، أي: أمثال، وأصلها «سِوْي» أُعِلَّت كإعلال «طَيّ» و «لَيّ» (3) .
__________
(1) ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1046.
(2) ينظر شرح التسهيل 2/319، والارتشاف 3/1550، والمساعد 1/597، وهمع الهوامع 3/292، والفوائد العجيبة ص 45، وبراعة التأليف ص 85.
(3) ينظر شرح المفصل 2/85، وشرح الرضي للكافية 2/793، والارتشاف 3/1552، والمغني ص 186، وهمع الهوامع 3/294، وبراعة التأليف ص 83.(14/138)
- اللغات الواردة في «لا سِيَّما» ، إلا أَنَّه لم يغفلها كلها، فقد ذكر بعضها، وهي لغة تخفيف يائها (1) ، وبيان ما أغفله كما يلي (2) :
جواز إبدال سينها تاء، فقالوا: (لا تِيَّما) (3) ، كما قالوا في «النَّاس» : (النَّات) (4) ، وبهذه اللغة قرئ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاتِ ((5) .
... جواز إبدال لام «لا» نونا، فقالوا: (نا سِيَّما) ، كما قالوا: (قام زيد نا بل عمرو) ، أي: لا بل عمرو (6) .
- حكم عمل الكلمات التي تشارك «لا سِيَّما» في معناها، مثل: «لا سواء ما» ، و: «لا مثل ما» ، وتفصيل هذا كما يلي:
__________
(1) ينظر ص 1386.
(2) ينظر الارتشاف 3/1552، وهمع الهوامع 3/295.
(3) هذه لغة لقضاعة. ينظر كتاب الإبدال لأبي الطيب اللغوي 1/118.
(4) ومن شواهده قول علباء بن أرقم اليشكري:
يا قَبَّحَ الله بني السِّعْلاةِ عَمْرِو بنِ يَرْبُوعٍ شرارِ النَّاتِ
غيرِ أعِفَّاءَ ولا أكياتِ
يريد: الناس، وأكياس. ينظر النوادر لأبي زيد ص 344، وكتاب الإبدال لابن السكيت ص 104، وشرح شواهد شرح الشافية ص 469.
(5) سورة الناس، الآية الأولى. وهذه قراءة حكاها أبو عمرو بن العلاء، ونسبها لقضاعة. ينظر شواذ القرآن لابن خالويه ص 184.
(6) ينظر كتاب الإبدال لأبي الطيب اللغوي 2/401.(14/139)
أنه ورد في اللغة كلمات تشارك «لا سِيَّما» في معناها (1) ، وهي: «لا سواء ما» ، و: «لا مثل ما» ، و: «ولا تَرَ مَا» ، و: «ولو تَرَ مَا» ، فإذا قلت: (أكْرِمِ الضيوفَ لا سواء ما محمد) جاز في «محمد» وفي غيره من الأسماء الواقعة بعد «لا سواء ما» ، و: «لا مثل ما» الجر والرفع، فإذا جُرَّ الاسم الذي بعد «ما» فهي زائدة، وما قبلها مضافٌ لما بعدها، وإذا ارتفع ما بعدها فهي موصولة، والاسم المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، كما هو الحال في «سِيَّما» والاسم الواقع بعدها.
أما الأسماء الواقعة بعد «ولا تَرَ مَا» و «ولو تَرَ مَا» فلا يجوز فيها إلا الرفع؛ لأن «تَرَ» فعل فلا يمكن أن تكون «مَا» الواقعة بعدها زائدة فينجَرُّ تاليها بالإضافة؛ لأن الفعل لا يُضاف، فتعيَّنَ أن تكون «مَا» موصولة، وهي مفعول «تَرَ» ، والاسم الذي بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة الموصول.
و «لا» الواقعة قبل «تَرَ ما» في قولك: (قام القوم ولا تَرَ ما زيدٌ) يجوز أن تكون ناهية و «تَرَ» مجزوم بها، والمعنى: قام القوم ولا تُبْصِرْ أيها المخاطبُ الشخصَ الذي هو زيد فإنه في القيام أولى به منهم.
ويجوز أن تكون نافية وحُذِفَتْ ألفُ «تَرَى» شذوذا أو للتركيب كما حُذِفَتْ في «لا أَدْرِ» و «لم أُبَلْ» (2) ، وكذا حذفُ ألف الفعل بعد «لو» في «وَلَوْ تَرَ مَا» ، وجواب «لو» في مثل: «قام القوم ولو تَرَ ما زيدٌ» محذوف تقديره: قام القوم ولو تُبْصِرُ الشخصَ الذي هو زيد لرأيتَهُ أولى منهم بالقيام.
فمن هنا نلحظ أَنَّ السُّجاعي في شرحه للنظم اقتصر غالبا على ما ورد فيه من أحكامٍ مع توسُّعِهِ في ذلك.
شواهد الرسالة:
__________
(1) تنظر هذه المسألة في شرح التسهيل 2/320، والارتشاف 3/1553، والمساعد 1/598، وهمع الهوامع 3/295.
(2) ينظر الكتاب 1/25، والمقتضب 3/167 و 169.(14/140)
استنبط النحاة قواعد النحو وأحكامه باستقرائهم كلام العرب، ولهذا كان السماعُ أوَّلَ الأدلة النحوية التي اعتمدها النحاة لإثبات قواعد النحو وأحكامه، والمؤلف في هذه الرسالة جعل كغيره من النحاة السماعَ الدليلَ الأول لإثبات الأحكام النحوية.
والسماع يشمل الكلام المنقول عن فصحاء العرب نثرَهُ وشعرَهُ، وأوثق هذا الكلام وأعلاه فصاحة هو كلام الله (في كتابه الكريم، وقد استدل به المؤلف على إثبات حكمين من الأحكام التي ذكرها؛ إذ استدل بقوله تعالى: (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ((1) على جواز زيادة «ما» بين المضاف والمضاف إليه، مثلُهَا مثل زيادتها بين «سِيّ» والاسم المجرور بعدها المضافة إليه.
واستدل أيضا بقوله تعالى: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ((2) على وقوع التمييز بعد «مِثْل» ، ولهذا يُعرب الاسم المنصوب بعد «سِيّ» تمييزا؛ لأن «سِيّ» معناها: مِثْل.
ويَدخل في دليل السماع الذي تُثْبَتُ به الأحكام والقواعد النحوية الشعرُ المروي عَمَّنْ عاش في عصر الاحتجاج، وقد استشهد به المؤلف في هذه الرسالة؛ إذ استشهد على جواز جر ورفع ونصب النكرة الواقعة بعد «لا سِيَّما» برواية «يوم» بالأوجه الثلاثة في بيت امرئ القيس (3) :
أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ وَلا سِيَّما يَوْم بِدَارَةِ جُلْجُلِ
واستشهد على جواز تخفيف «سِيَّما» بقول الشاعر (4) :
فِهْ بالْعُقُودِ وبالأَيْمانِ لا سِيَما عَقْدٌ وفاءٌ بِهِ مِنْ أعظمِ القُرَبِ
ولم يكن المؤلِّفُ مهتمًّا بنسبة الشواهد الشعريَّة إلى قائليها، فقد ذكر شاهدين ولم يَنسبْهُما.
__________
(1) سورة القصص، من الآية 28.
(2) سورة الكهف، من الآية 109.
(3) ينظر ديوان امرئ القيس ص 10.
(4) هذا بيت من البسيط، لم أقف على قائله. ينظر شرح التسهيل 2/319.(14/141)
كذلك كان المؤلِّفُ لا يهتمُّ بإيراد البيت كاملا، فيكتفي بذكر جزء البيت الذي فيه الشاهد ويُغفل الباقي، فقد استشهد ببيتين ذكر الجزء الذي فيه الشاهد في واحد منهما، وهو بيت امرئ القيس السابق، وذكر البيت الثاني كاملا، وأحسب أن الذي دعاه لذلك هو ترابط أجزائه، وعدم استقامة شيء من معناه إلا بذكره كاملا.
ومن الأدلة النحوية القياس، وقد استدلَّ به المؤلف في هذه الرسالة، إذ استدل به على جواز حذفِ مبتدأِ خبرِ الاسمِ المرفوع بعد «لا سِيَّما» من غير شذوذ (1) ، وذلك بقياس «لا سِيَّما» على «إلا» الاستثنائية بجامع خروج ما بعدهما عما قبلهما وإن لم يتساويا في هذا الخروج؛ لأن ما بعد «إلا» يخرج عن حكم ما قبلها، وما بعد «لا سِيَّما» يخرج عن مساواة ما قبلها؛ ولهذا القياس اشتركت «لا سِيَّما» مع «إلا» الاستثنائية في حكم واحد، وهو عدم وقوع الجملة بعدها، ولذلك كان حذف المبتدأ هنا كما ذهب إليه المؤلف غير شاذ (2) .
واستدل المؤلِّفُ أيضا بالقياس حينما ذكر أن «لا» لا يجوز حذفها من «سِيَّما» ، وذلك قياسا على عدم جواز حذف الحرف؛ لأَنَّ حذف الحرف خارج عن القياس؛ لأَنَّ الحروف وُضعت للاختصار، والمُختصَر لا يجوز اختصاره؛ لأَنَّ الاختصار إجحافٌ به (3) .
مصادر المؤلف في الرسالة:
__________
(1) ينظر ص 1383.
(2) تبع المؤلف في هذه المسألة قولَ بعض العلماء، وهو قول ضعيف؛ لأن الجامع بين «لا سِيَّما» و «إلا» ضعيف. ينظر الحديث عن هذه المسألة في الهامش ذي الرقم 362 و 418.
(3) ينظر ص 1386.(14/142)
حينما كتب المؤلِّفُ هذه الرسالة اطَّلع على آراء مَنْ سبقه وكتبهم وأفاد منها، وفي أثناء تحقيقي لهذه الرسالة وقفت على عدد من المصادر التي اعتمد عليها المؤلِّفُ، وهذه المصادر يمكن تقسيمها إلى قسمين: مصادر مباشرة، ومصادر غير مباشرة، فمصادره المباشرة هي التي اعتمد عليها من غير واسطة، وقد صرَّح المؤلِّفُ بذكر أكثرها وأغفل ذكر بعضها، وقد سلك في مصادره التي صرَّح بها أن يذكر اسم العالم وينقل عنه من غير أن يذكر كتابه الذي أفاد منه، وهذا في الغالب، وأحيانا يذكر العالم ويُعيِّنَ كتابه الذي أفاد منه، وسأُوَضِّح ذلك عند ذكر مصادره، فمصادره المباشرة التي ذكرها تشمل ما يلي:
- شرح الألفية لشمس الدين الفارضي (981 هـ) ، إذ صرَّح باسم المؤلف وكتابه، ونقل منه الأوجه الجائزة في إعراب الاسم النكرة الواقع بعد «لا سِيَّما» .
- حاشية نجم الدين محمد بن سالم الحِفْنِيِّ (1181 هـ) على كتاب (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة في شرح المنظومة الرحبيَّة) لجمال الدين عبد الله الشِّنْشَوْرِيِّ (999 هـ) ، وقد صرَّح باسم المؤلف والكتاب، ونقل منه حكم وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» .
- شرح التسهيل لابن مالك (672 هـ) ، نقل عنه أنواع الجمل الجائز وقوعها بعد «لا سِيَّما» إذا أُعربت «ما» موصولة، وصرِّح باسم مؤلفه دون الكتاب، وفيما نقله منه تصرُّفٌ ليس باليسير، مما يثير احتمال اعتماده عليه بواسطة.
أما مصادر المؤلِّف التي أفاد منها مباشرة من غير أن يُصرِّح بذكرها فقد وقفت على مصدر واحد، وهو كتاب (التصريح بمضمون التوضيح) للشيخ خالد الأزهري (905 هـ) ، فقد نقل عنه حكم حذف مبتدأ الخبر المذكور بعد «لا سِيَّما» ، ولم يُصرِّح المؤلف بذلك، إلا أن تطابق النَّصَّيْنِ مع عدم تصرُّف المؤلف بالتغيير لما يستدعيه النقل أثبت إفادة المؤلف منه.(14/143)
وأفاد المؤلِّف من مصادر أخرى لكن بصورة غير مباشرة؛ إذ نقل منها بواسطة، وكان المؤلِّف في هذه المصادر كحاله في المصادر المباشرة، إذ يكتفي أحيانا بذكر اسم العالم، وأحيانا يُصرِّح باسم العالم وكتابه، ومصادر المؤلِّف غير المباشرة هي ما يلي:
- كتاب التسهيل لابن مالك (672 هـ) ، فقد صرَّح المؤلِّف باسمه ونقل عنه حكم وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» بواسطة المرادي، ونقل عن المرادي بواسطة حاشية نجم الدين الحِفْنِيِّ على كتاب (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة) ، وقد صرَّح المؤلِّف بذلك، ونتيجة للإفادة غير المباشرة من كتاب (التسهيل) فقد وقع المؤلِّف في سهو؛ إذ نقل منه نصًّا مع أنه لم يرد هذا النصُّ ولا ما يقاربه فيه.
- العلامة الرضي (688 هـ تقريبا) صرَّح باسمه فقط ذاكرا رأيه في حكم وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» ، واعتمد في هذا على حاشية نجم الدين الحِفْنِيِّ على كتاب (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة) ، وقد صرَّح المؤلِّف بذلك.
- بهاء الدين بن عقيل (769 هـ) صرَّح المؤلف باسمه حينما أورد حكم حذف مبتدأ الخبر المذكور بعد «لا سِيَّما» وقال: (نبَّهَ عليه ابن عقيل) ، ولم يعتمد المؤلِّف في هذا على كتابٍ لابن عقيل، وإنما نقل نصَّ الكلام من كتاب (التصريح) للشيخ خالد الأزهري كما سبق ذكره.
- بدر الدين المرادي (749 هـ) نقل عنه نصًّا في حكم وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» من كتاب التسهيل لابن مالك، بواسطة حاشية نجم الدين الحِفْنِيِّ على كتاب (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة) ، وقد صرَّح المؤلِّف بذلك.
- جلال الدين السيوطي (911 هـ) ذكر المؤلِّفُ اسمه فقط وأورد رأيه في حكم وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» ، ناقلا هذا عن حاشية نجم الدين الحِفْنِيِّ على كتاب (الفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة) ، وقد صرَّح المؤلِّف بذلك.
نقد الرسالة:(14/144)
هذا الرسالة عمل بشري، ولا شك أن أعمال البشر تتعرض لما يتعرض له الطبع البشري من نقص وسهو ونسيان، ولذا لم تخلُ هذه الرسالة من ذلك، فقد وقفت في أثناء تحقيقي لهذه الرسالة على شيء يسير من الوهم وقع فيه المؤلف، إذ وجدته رحمه الله قد نَسَبَ في الشرح إضافةً إلى النظم إجازة وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» إلى الرضي وحده، مع أَنَّ الصحيح أَنَّه لا خلاف بين العلماء في إجازة وقوع الجملة بنوعيها وكذلك الظرف بعد «لا سِيَّما» ، فقد نصَّ ابن مالك في التسهيل (1) وهو الإمام المشهود له بالعلم والفضل والتحقيق على جواز وقوع الظرف والجملة الفعلية بعد «لا سِيَّما» ، وذكر في شرح التسهيل (2) شاهدا للظرف وللجملة بنوعيها، وتبعه في هذا شُرَّاح التسهيل كابن عقيل (3) ، والسلسيلي (4) ، والدماميني (5) ، وأيضا السُّيوطي (6) ، والبغدادي (7) .
وقد َنَقَلَ المؤلفُ في الشرح كلامَ ابن مالك المذكور في شرح التسهيل إلا أَنَّه سَهَا عنه ونَسَبَ إجازة هذا إلى الرضي فقط.
وذكر المرادي أن وقوع الجملة الاسمية بعد «لا سِيَّما» هو الغالب (8) ، وكذلك الدماميني (9) ، ونقل البغدادي (10) عن المرادي ذلك، وذكر المؤلف شاهد له، وهو قوله: فِهْ بالعُقُود.... البيت.
... وذكر أبو حيان جواز وقوع الجملة الشرطية بعد «لا سِيَّما» (11) ، وذكر له شاهدين: أحدهما من كلام العرب المنثور، والآخر من الشعر، وعنه نقل السيوطي من غير أن يُصرِّح بذلك (12) .
__________
(1) ينظر التسهيل ص 107.
(2) ينظر شرح التسهيل 2/319.
(3) ينظر المساعد 2/598.
(4) ينظر شفاء العليل 2/518.
(5) ينظر تعليق الفرائد 6/151.
(6) ينظر همع الهوامع 3/293.
(7) ينظر الخزانة 3/447.
(8) ينظر شرح التسهيل للمرادي ل 183 أ.
(9) ينظر تعليق الفرائد 6/151.
(10) ينظر الخزانة 3/447.
(11) ينظر الارتشاف 3/1551.
(12) ينظر همع الهوامع 3/294.(14/145)
أمَّا الذي انفرد بإجازته الرضي فهو ورود «لا سِيَّما» بمعنى «خصوصا» ، ومن ثُمَّ تفرُّدها بأحكام مخالفةٍ لأحكامها حينما كانت بالمعنى الذي نصَّ عليه العلماء (1) ، أي: كونها بمعنى «مِثْل» وكون الاسم المذكور بعدها منبَّهٌ على أولويته بالحكم، فهي إذا كانت بمعنى «خصوصا» أُعربت مفعولا مطلقا، وصحَّ وقوع الجملة بنوعيها بعدها مقترنة بالواو، وصحَّ مجيء الحال مفردة بعدها، ولم يذكر الرضي ولا مَنْ أخذ بقوله شاهدا من الكلام الفصيح على ما ذهبوا إليه (2) .
فمن هنا نعرف أَنَّه لا خلاف في جواز وقوع الجملة بنوعيها بعد «لا سِيَّما» وأَنَّ الرضي لم ينفرد بإجازة ذلك، بل هو جائز لدى العلماء؛ لوروده في كلام العرب. وعلى ما ذكرتُهُ نَصَّ العلماء الذين اطلعوا على كلام الرضي، كالمرادي؛ إذ قال في شرح التسهيل (3) : (وما يوجد في كلام المصنفين من قولهم: ((لا سِيَّما والأمرُ كذا)) تركيب غير عربي) . وقال الدماميني في شرح المغني (4) معلقا عليه: (والرضي قد أجازه فتأمله) . ونَصَّ على ما ذكرتُهُ في تعليق الفرائد (5) فقال: (قال الرضي ولا أعلم من أين أخذه: وقد يُحذف ما بعد «لا سِيَّما» على جعله بمعنى «خصوصا» فيكون....) الخ. ونص عليه أيضا الصبان (6) ، وكذلك الأمير (7) .
__________
(1) ينظر التسهيل ص 107، والمغني ص 186 و 187، وبراعة التأليف ص 85 و 90، وينظر الحاشية ذات الرقم 406.
(2) ينظر شرح الرضي 2/793، وهمع الهوامع 3/294، والخزانة 3/448، وبراعة التأليف ص 90 و 92.
(3) ينظر شرح التسهيل للمرادي ل 183 ب.
(4) ينظر شرح المغني 1/284.
(5) ينظر تعليق الفرائد 6/152.
(6) ينظر حاشية الصبان على الأشموني 2/168.
(7) ينظر شرح نظم السُّجاعي للأمير ص 1057.(14/146)
وبهذا نعلم أن المصنف عفا الله عنه لم يقف على تحقيق هذه المسألة بدقة، وهو ما أخذه عليه الأمير في شرح النظم؛ إذ قال (1) : (وبعد «سِيّ» وما لازمها، أعني: كلمة «ما» جملةً فأوقعا، أي: أجز وقوعها بعدها، وذلك إذا نُقلت «سِيَّما» وجُعلت مفعولا مطلقا، كما هو صريح كلام الرضي الآتي، وإن كان كلام المصنف لا يفيده) .
والأمير لم يقف أيضا على تحقيق المسألة بدقة؛ لأَنَّ الجملة التي انفرد الرضي بإجازة وقوعها بعد «لا سِيَّما» هي الجملة المقترنة بالواو، أما غيرها من الجمل فالجميع يجيزون وقوعها بعد «لا سِيَّما» .
وقد ذهب مجمع اللغة العربية في القاهرة إلى صحة ما انفرد الرضي بإجازته؛ احتجاجا بإجازة الرضي، وباستعمال الزمخشري له (2) .
قال كاتب هذه السطور عفا الله عنه: أرى من وجهة نظري أن الصَّوَاب لم يُحالف مجمع اللغة العربية في تصحيح هذا الأسلوب؛ لعدم وجود الشاهد المؤيد لهم، ولمخالفته لما ذهب إليه كثير من الأئمة، ولعدم إجازته إلا من عالم واحد، أمَّا استعمال مَنْ هو بعيد عن عصور الاحتجاج وإن كان عالما فلا يؤيده.
والمؤلف رحمه الله قد يكون معذورا في هذا النقد؛ لأنه تابع فيما ذَكَرَ لغيره؛ إذ هو ناقل له، وليس من إنشائه.
توثيق نسبة الرسالة إلى مؤلفها:
هذا الرسالة شرح لمنظومةٍ في أحكام «لا سِيَّما» ، والمنظومةُ وشرحُها كلاهما لأحمد بن أحمد السُّجاعي، والحديث عن نسبة الشرح لمؤلفه يقتضي أولا التعرض لنسبة المنظومة لصاحبها؛ للتلازم فيما بينهما، فأقول:
لقد أثبتت الدراسة المتأنِّيَةُ والبحث المستفيض أَنَّ أحمد بن أحمد السُّجاعي هو الذي ألَّفَ المنظومة، وذلك للأدلة التالية:
__________
(1) ينظر شرح نظم السُّجاعي للأمير ص 1056.
(2) ينظر كتاب الألفاظ والأساليب ص 88 و 92.(14/147)
1 أَنَّ تلميذ المؤلف علي بن الشيخ سعد البيسوسي الشافعي ألَّف رسالة ذكر فيها مؤلفات شيخه أحمد السُّجاعي (1) ، وذكر من ضمن هذه المؤلفات منظومته في أحكام «لا سِيَّما» (2) ، وهذا يُثبت يقينا أن السُّجاعي له منظومة في أحكام «لا سِيَّما» ، والدليلان اللاحقان يقطعان بأَنَّ الأبيات التي معنا هي الأبيات التي نظمها السُّجاعي ونسبها إليه تلميذه هذا.
2 أَنَّ المؤلف أحمد بن أحمد السُّجاعي قد نسبها إلى نفسه في حاشيته على شرح ابن عقيل، فلقد تحدث في هذه الحاشية عن بعض أحكام «لا سِيَّما» عند قول ابن عقيل في باب الموصول (3) : (وقد جوَّزوا في «لا سِيَّما زيد» إذا رُفع «زيد» أن تكون «ما» موصولة، و «زيد» خبر لمبتدأ محذوف) ثم قال (4) : وقد نظمت ذلك فقلت.... . ثم ذكر المنظومة.
وحاشيته هذه على شرح ابن عقيل ثابتة النسبة إليه، فقد نسبها لنفسه في مقدمتها، فقال بعد أن حَمِدَ الله وصلى وسلم على رسول الله (5) : (وبعد فيقول المرتجي شكر المساعي أحمد بن الشيخ أحمد السُّجاعي....) . وهذا دليلٌ واضحٌ على نسبة هذه الحاشية إليه، وبرهانٌ قاطعٌ بذلك، كما أَنَّ هذه الحاشية قد طُبعت منسوبة إلى مؤلفها أحمد السُّجاعي.
__________
(1) يوجد من هذه الرسالة نسخة خطية تحتفظ بها دار الكتب المصرية، وقد حاولت جاهدا الحصول عليها فلم أستطع، إلا أَنَّه تَيسَّر لي الاطلاع عليها بصفة غير مباشرة، إذ نقل علي باشا مبارك هذه الرسالة كاملة في كتابه الخطط التوفيقية 12/9.
(2) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.
(3) ينظر شرح الألفية لابن عقيل 1/166.
(4) ينظر حاشية السُّجاعي على شرح ابن عقيل 1/43.
(5) ينظر حاشية السُّجاعي على شرح ابن عقيل 1/2.(14/148)
3 أَنَّ العلامة الأمير الكبير المولود سنة 1154 هـ والمتوفى سنة 1232 هـ (1) وهو أحد العلماء المعاصرين للسُّجاعي قد أثبت نسبة هذه المنظومة إلى السُّجاعي، وذلك في شرحه لهذه المنظومة، فقد قال في مقدمة هذا الشرح (2) : (قد كنت رأيت أبياتا تتعلَّق بكلمة «ولا سِيَّما» وهي في غاية الحسن والإتقان، ناشئة عن تحقيق وتدقيق وإمعان، كيف وهي لِحَسَّان الزمان، وبهجة الإخوان، الشيخ أحمد بن الإمام الشيخ أحمد السُّجاعي) . وهذا يثبت بوضوحٍ نسبة هذه المنظومة للسُّجاعي.
وبهذه الأدلة يُعلم يقينا أنَّ الأبيات التي معنا هي منظومة أحمد السُّجاعيّ في أحكام «لا سِيَّما» .
وبعد تأكيد نسبة المنظومة للسُّجاعي نأتي إلى نسبة هذا الشرح إليه، فأقول: لم يصرح المؤلف بذكر اسمه في مقدمة الشرح، لكن الدلائل أثبتت نسبته إليه، وهذه الدلائل هي:
1 أَنَّ تلميذ المؤلف علي بن الشيخ سعد البيسوسي الشافعي ألَّف رسالة ذكر فيها مؤلفات شيخه أحمد السُّجاعي وأثبت فيها أَنَّ شيخه السُّجاعي قد شرح أبياته التي نظمها في أحكام «لا سِيَّما» (3) ، وهذا يقطع بأن السُّجاعي شرح منظومته، والأدلة التالية تؤكد بصفة ثابتة أَنَّ هذا الشرح الذي بين أيدينا هو شرح السُّجاعي، وهو الذي عناه تلميذه هذا، وهذه الأدلة هي:
2 التصريح بنسبة هذا الشرح إلى السُّجاعي في اللوحة الأولى من نسختي هذا الكتاب، فقد صُرِّح باسمه بعد ذكر اسم الكتاب، والنسختان متفقتان في المحتوى مختلفتان في الناسخ.
__________
(1) تنظر ترجمته في عجائب الآثار 7/420، وحلية البشر 3/1266، وهدية العارفين 2/358.
(2) ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1043.
(3) ينظر الخطط التوفيقية 12/11.(14/149)
3 أَنَّ المؤلف في هذا الشرح صرَّح بأَنَّه صاحب الأبيات المنظومة، فهو يقول عند شرحه للأبيات (1) : ( ... أشرت بقولي) ، أو يقول (2) : ( ... ثم قلت) ، والمنظومة ثابتة نسبتها للسُّجاعي، وبهذا يثبت أَنَّ هذا الشرح للسُّجاعي أيضا.
4 أَنَّ العلامة الأمير الكبير (1232 هـ) ، وهو أحد معاصري المؤلف قد شرح هذه المنظومة ونسب فيه هذا الشرح إلى مؤلفه أحمد السُّجاعي حينما نقل عنه في أكثر من موضع مصرِّحا بنسبة الشرح إليه (3) ، ومنها قوله (4) : (قال المصنف في شرحه ما نصه: قال ابن مالك: (وإذا كانت «ما» موصولة جاز وصلها بفعل أو ظرف، نحو: «أعجبني كلامُكَ لا سِيَّما تَعِظُ به» ، و «يعجبني التهجُّدُ لا سِيَّما عندَ زيدٍ» . انتهى) . وهذا النص موجود بلفظه في هذا الشرح (5) ، وفي هذا دلالة قاطعة على أَنَّ مؤلف هذا الشرح هو أحمد بن أحمد السُّجاعي.
اسم الرسالة:
لم يذكر المؤلف في مقدمة هذه الرسالة اسما لها، ولم أجد أحدا نَصَّ على اسمها، إلا أن التحقيق أَثبَتَ أن اسمها هو (أحكام لا سِيَّما وما يتعلَّق بها) ، وذلك لأن اللوحة الأولى من كلتا المخطوطتين اللتين اعتمدتُ عليهما في تحقيق هذه الرسالة قد أُثبِتَ فيهما اسم الرسالة السابق، وهو (أحكام لا سِيَّما وما يتعلَّق بها) ، فاتفاق النسختين على هذا الاسم مع اختلاف ناسخيهما، واتحاد القلم الذي كُتب به اسم الرسالة ومتنها في كل واحدة من النسختين، وكون أحد الناسخين تلميذا من تلاميذ المؤلف دليل قوي على الاسم الذي أثبتُّهُ، وأنه الاسم الذي اختاره المصنِّف لهذه الرسالة.
وصف مخطوطات الرسالة:
__________
(1) ينظر ص 1384 و 1385 و 1386.
(2) ينظر ص 1386.
(3) ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1052 و 1056.
(4) ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1052.
(5) ينظر ص 1385.(14/150)
لهذا الرسالة حسب علمي مخطوطتان: إحداهما في المكتبة الخديوية الملحقة بدار الكتب المصرية، وهي محفوظة فيها تحت رقم: (ن ع 3728) ، وتتكون هذه المخطوطة من أربع لوحات، وفي كل صفحة منها خمسة عشر سطرا، وهي مكتوبة بخط النسخ، وعليها تعليقات، وهي نسخة خالية من الطمس، وفيها شيءٌ قليل من السقط، وَذَكَرَ كاتبها محمود محمد المالكي بأَنَّه نسخها في السابع من جمادى الآخر من سنة 97، هكذا من غير تحديد، لكن يبدو أَنَّها السنة السابعة والتسعون بعد المائة والألف من الهجرة؛ لأَنَّ كاتب هذه النسخة من تلاميذ مؤلف الكتاب، فقد ذكر هذا على غلاف نسخة الكتاب؛ إذ كتب ما يلي: (هذا أحكام «لا سِيَّما» وما يتعلق بها لشيخنا الشيخ أحمد.... الخ) . لكن يبقى احتمالٌ، وهو أَنْ يكون الناسخ قد نقل هذه النسخة من نسخة أحد تلاميذ المؤلف إلا أَنَّ هذا احتمال بعيد؛ لما يلزم عليه من نسبة الغفلة عمَّا يكتب إلى الناسخ.
وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف "د".
أمَّا النسخة الثانية فهي محفوظة ضمن مجموعٍ في مكتبة آل هاشم في المدينة المنورة، ومنها مصوَّرةٌ فلميةٌ محفوظةٌ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم: (8543/3) ، وتقع هذه المخطوطة في ثلاث لوحات، وتحتوي كُلُّ صفحةٍ من صفحاتها على ثلاثةٍ وعشرين سطرا، وهي مكتوبة بخط النسخ، وكتابتها واضحة، وهي نسخة سليمة من الطمس، وتكاد تكون خالية من السقط، ولم يحدِّد كاتبها سنة نسْخِها، بل ذكر أَنَّه نسخها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من غير تحديد للسنة.
وقد رمزت لها بالحرف "ج"، وهذه النسخة هي التي ذكرت أرقام صفحاتها في المتن.
ولم أجعل إحداهما أصلا؛ لأَنَّ كلاًّ منهما ليست نسخة المؤلف ولا منقولة منها ولا مقروءة عليه؛ ولهذا اعتمدت الاختيار من النسختين والجمع بينهما.
عملي في التحقيق:(14/151)
لَمَّا كانت الغاية من تحقيق النصوص هو إخراجها صحيحة سليمة كما وضعها مؤلفوها فقد بذلت جهدا كبيرا في تحقيق هذه الرسالة، ملتزما بالأمانة العلمية والنهج العلمي في التحقيق، مراعيا في ذلك الأسس التالية:
1 احترمت نَصَّ الرسالة، فلم أتدخل فيه إلا بالقدر اليسير الذي لا يَمَسُّ جوهره، مثل كتابته وَفْقَ القواعد الإملائية المعروفة الآن.
2 عَزَوْتُ الآياتِ القرآنيةَ إلى سُوَرِهَا، مع ذكر رقم الآية، وَضَبَطْتُ بالشكل التَّامِّ جميع الآيات.
3 خَرَّجْتُ الشواهد الشعرية، وذلك ببيان بَحْر البيت، وإكماله في الهامش إن وَرَدَ ناقصا في الأصل، ونسِبته إلى قائله، مع توثيقه من ديوانه، وبيان معاني الكلمات الغامضة فيه، وذكر الشاهد في البيت، وإيراد بعض الكتب التي استشهدت به مراعيا في ذلك التسلسل التاريخي لوفاة مؤلفيها.
4 شَرَحْتُ الكلماتِ الغريبةَ الواردةَ في الكتاب، وَضَبَطْتُ ما يحتاج إلى ضَبْطٍ.
5 خَرَّجْتُ أقوالَ النحاةِ وآراءهم من كتبهم إن وُجِدتَ فيها، وإلا فَمِنْ كُتُبِ النحو المشهورة، وَنَسَبْتُ المذاهبَ النحوية إلى أصحابها مُوَثِّقًا ذلك من كتبهم.
6 خَرَّجْتُ المسائلَ النَّحْوِيَّةَ، وَأَشَرْتُ إلى مواطنها في أمهات كتب النحو، وَعَلَّقْت عليها، وأكملت ما لم يستكمله المؤلف من أقوالٍ فيها.
7 تَرْجَمْتُ للأعلام الذين ذُكِرُوا في متن الكتاب، واستثنيت من ذلك المشهورين، كابن مالك والرضي والمرادي ونحوهم؛ لأن هذه الرسالة مقدمة للمتخصصين، والمتخصصون لا يخفى عليهم كثير من جوانب حياة المشهورين من الأعلام.
أبيات المنظومة:(14/152)
ذكر المؤلف منظومته في الشرح متفرقة في الغالب؛ لأَنَّه سلك في الشرح فيما عدا البيتين الأوَّلَين مَزْجَ المنظومة مع الشرح، ونظرا لأَنَّ القارئ قد يحتاج إلى الوقوف على المنظومة منفردة رأيت أن أذكرها هنا، وبخاصة أَنَّني وجدت أبيات المنظومة مذكورة على غلاف نسخة المدينة المنورة، وإليك المنظومة:
وَمَا يَلِي «لا سِيَّما» إِنْ نُكِّرَا فَاجْرُرْ أَوِ ارْفَعْ ثُمَّ نَصْبَهُ اذْكُرَا
في الْجَرِّ «مَا» زِيْدَتْ وَفي رَفْعٍ أُلِفْ وَصْلٌ لَهَا قُلْ أَوْ تَنَكُّرٌ وُصِفْ
وَعِنْدَ رَفْعٍ مُبْتَدًا قَدِّرْ وَفِي رَفْعٍ وَجَرٍّ أَعْرِبَنْ سِيَّ تَفِي
وَانْصِبْ مُمَيِّزًا وَقُلْ: (لاَ سِيَّما يَوْم) بِأَحْوَالٍ ثَلاَثٍ فَاعْلَمَا
وَالنَّصْبُ إِنْ يُعَرَّفِ اسْمٌ فَامْنَعَا وَبَعْدَ «سِيٍّ» جُمْلَةً فَأَوْقِعَا
أَجَازَ ذَا الرَّضِيْ وَلا تُحْذَفُ «لا» مِنْ سِيَّما وَسِيَّ خَفِّفْ تَفْضُلا
وَامْنَعْ عَلَى الصَّحِيْحِ الِاسْتِثْنَا بِهَا ثُمَّ الصَّلاَةُ لِلنَّبِيِّ ذِي الْبَهَا(14/153)
الحمد لله الذي (1) رَفَعَ قَدْرَ حبيبه في الدارَين، وَنَصَبَهُ بخفض العِدَا لا سِيَّما يوم بدرٍ وحنين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الكرام، وعلى من تبعهم من السادة البررة الأعلام، صلاة وسلاما بهما ننتظم في سلكه الرفيع، ونأمن من كل هول بالدخول في حصنه المنيع، آمين، أمَّا بعد: فاعلم رزقنا الله التوفيق (2) ، وسلك بنا مَهَايِع (3) التحقيق أَنَّ الذي يلي لفظ «لا سِيَّما» له حالتان: التنكير، والتعريف. فإن كان نكرة جاز فيه ثلاثة أوجه: الجر، والرفع، والنصب. فالجر وهو أرجحها (4) بإضافة «سي» إليه، و «ما» زائدة بينهما (5)
__________
(1) في "ج" بعد البسملة: وبه نستعين، وهو ثقتي، الحمد لله الذي.... .
(2) في "ج": فاعلم رزقنا التوفيق.
(3) الْمَهَايِع: جمع مَهْيَع، وهو الطريق الواسع المنبسط. ينظر اللسان 8/379 "هيع ".
(4) وذلك لسلامته من التقدير ومن الضعف الوارد على حالة الرفع والنصب. ينظر شرح الرضي للكافية 2/791، والمغني ص 187، وشرح الأشموني 2/167، والفوائد العجيبة ص 45، وحاشية الدسوقي على المغني 1/152، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي في «لا سِيَّما» ص 1054، وينظر الحاشية ذات الرقم 361 والحاشية ذات الرقم 362 والحاشية ذات الرقم 367.
(5) زيادة «ما» بين المضافين مسموعة، كما في الآية التي سيذكرها المؤلف. ينظر المغني ص 412، والمساعد 1/597، وهمع الهوامع 3/292.
... ... ومما يدُلُّ على زيادتها في «لا سِيَّما» جواز حذفها كما ذَكَرَ سيبويه في الكتاب 2/171 فيقال: (لا سيَّ زيدٍ) ، إلا أَنَّ إثباتها أكثر. ووَهِمَ في هذا ابن هشام الخضراوي فنسب إلى سيبويه القول بأَنَّها زائدة لازمة لا يجوز حذفها. قال المرادي عنه في شرح التسهيل ل 183 أ: (وكأَنَّه طالع أول كلامه ولم يطالع آخره) . تنظر مسألة زيادة «ما» بعد «لا سِيَّما» في المسائل البغداديات ص 318، وارتشاف الضرب 3/1550، والمساعد 1/597، وهمع الهوامع 3/292.(14/154)
مثلها في (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ ((1) .
والرفعُ خبرٌ لمحذوف وجوبا (2) ، و «ما» موصولةٌ أو نكرة موصوفةٌ (3) ، أي: ولا مثل الذي....، أو: ... شيء هو كذا. وعلى الوجهين فتحةُ «سِيّ» إعرابٌ؛ لأَنَّ (4) اسم «لا» مضاف، وخبرها محذوف، أي: موجود (5) ، وحَذْفُ المبتدأ في هذا المحل (6)
__________
(1) سورة القصص، من الآية 28.
(2) وذلك لجريانه مجرى المثل. ينظر تعليق الفرائد 6/150، وحاشية الخضري 1/80، والكواكب الدرية 2/407. ولم أجد من نَصَّ على وجوب حذف المبتدأ في هذا الموضع إلا ابن عقيل في شرحه للألفية 1/166، والأهدل في الكواكب الدرية 2/407، وقال الدماميني في تعليق الفرائد 6/150: (ينبغي أن يكون الحذف واجبا؛ لأَنَّه كذلك سُمع، وهو ظاهر قوله [أي ابن مالك] وقول غيره) .
(3) يرى الجمهور أَنَّ الاسم إذا ارتفع بعد «لا سِيَّما» ف «ما» موصولة، ويرى ابن خروف جواز كونها نكرة موصوفة أيضا. ينظر الارتشاف 3/1550، والمساعد 1/597، وهمع الهوامع 3/292.
(4) في "ج": وعلى الوجهين ففتحة «سِيّ» إعرابٌ لأَنَّه.
(5) ينظر كتاب الكُنَّاش 1/201، وخبر «لا» النافية للجنس يكثر حذفه إذا عُلم، نحو قوله تعالى: {ولو ترى إذْ فَزِعوا فلا فوتَ} [سبأ من الآية 52] ، وقوله تعالى: {قالوا لا ضيرَ} [الشعراء من الآية 50] ، وهذا عند الحجازيين، أما بنو تميم والطائيون فيوجبون حذفه، وإذا جُهل وجب ذكره باتفاق، نحو قوله (: (لا أحدَ أغيرُ من الله) صحيح البخاري 4/1699. ينظر النكت في تفسير كتاب سيبويه 1/597، وشرح المفصل 1/105، وشرح التسهيل 2/56، والارتشاف 3/1298، وتعليق الفرائد 4/98، وهمع الهوامع 2/202.
(6) المبتدأ في هذا المحل هو الضمير المقدر، وهو عائد الاسم الموصول إن قدِّرت «ما» صلة، ورابط الصفة إن قدِّرت «ما» نكرة موصوفة. ينظر شرح الرضي 2/791، والمغني ص 187، والمساعد 1/597، والخزانة 3/445، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1049، والفوائد العجيبة ص 45، وبراعة التأليف ص 87.(14/155)
مقيسٌ غير شاذ (1) ؛ لأَنَّهم نزَّلوا «لا سِيَّما» منزلة «إلا» الاستثنائية، فناسب ألاَّ يُصرَّحَ بعدها بجملة (2)
__________
(1) تبع المصنف في هذا الكوفيين الذين يرون جواز حذف عائدِ الاسمِ الموصول المرفوعِ إذا كان مبتدأ مخبرا عنه بمفرد مطلقا، سواء كان الموصول «أيّا» أم غيرها. ينظر معاني القرآن للفراء 1/22 و 365.
... أمَّا البصريون فيرون أَنَّ عائدَ الاسمِ الموصول المرفوعَ لا يجوز حذفه إلا إذا استكمل الشرطين السابقين مع كون الصلة طويلة، ويستثنون من طول الصلة «أيّا» الموصولة، فيجيزون حذف عائدها المرفوع وإن لم تكن صلتها طويلة، نحو قولك: (صاحبْ أيُّهم أفضل) ، ويرون أَنَّ ما ورد من الحذف مع عدم الطول في صلة غير «أيّ» شاذ. ينظر الكتاب 2/107 و 108 و 404، والأصول 2/396، والمحتسب 1/64 و234.
... وينظر في هذه المسألة أمالي ابن الشجري 1/111، وإعراب القراءات الشواذ 1/140، وضرائر الشعر ص 172 وما بعدها، والتسهيل ص35، والتذييل والتكميل 3/85، وتخليص الشواهد ص 158، وشرح الأشموني 2/167، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1054.
(2) تنزيل «لا سِيَّما» منزلة «إلا» قول لبعض العلماء، وهو مردود عند الجمهور بعدم صحة وقوع «لا سِيَّما» موقع «إلا» ، ومردود أيضا بأَنَّها لو كانت مُنَزَّلة منزلة «إلا» لَمَا جاز دخول الواو عليها كما لم يجز دخولها على «إلا» وعلى سائر أدوات الاستثناء، فلا يصح إذن جعلها من أدوات الاستثناء؛ لأَنَّ ما بعد «إلا» مُخرَجٌ مما قبلها، وما بعد «لا سِيَّما» داخل فيما قبلها، ومُنَبَّه على أولويته بالحكم. كما أَنَّ ما ذكره المؤلف من عدم جواز وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» معارِض للسماع الوارد عن العرب، كما سيأتي فيما نقله المؤلف عن ابن مالك في ص 1385، والظاهر أَنَّ المؤلف قد غفل عنه.
... فحذف الضمير المبتدأ في هذا الموضع شاذ؛ لأَنَّ من شروط حذف العائد المرفوع في صلة غير «أي» كون الصلة طويلة، وهنا لا طول في الصلة. ينظر شرح التسهيل 2/318، وشرح الرضي للكافية 2/791، وكتاب الكُنَّاش 1/200، والدر المصون 1/225، والمغني ص 187، والمساعد 1/596، وتعليق الفرائد 6/147، والخزانة 3/445، وحاشية الدسوقي على المغني 1/152، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي في «لا سِيَّما» ص 1049 و 1054، وينظر ما سيأتي من حكم الاستثناء ب «لا سِيَّما» في ص 1386.(14/156)
فإن قيل: «لا سِيَّما زيدٌ الصالحُ» فلا استثناء (1) ؛ لطول الصلة بالنعت (2) كما نبَّه عليه ابن عقيل (3) .
__________
(1) أي: فلا استثناء من شرط طول الصلة كي يطَّرد حذف العائد المرفوع. ينظر التصريح 1/143، وحاشية الخضري 1/81. وما ذكره المؤلف من استثناء «لا سِيَّما» من شرط الطول لم يصرح به البصريون المتقدمون الذين يشترطون الطول لجواز الحذف، بل هم يرون أَنَّ الضعف وارد على إعراب «ما» موصولة في: «لا سِيَّما زيدٌ» ؛ بسبب حذف العائد المرفوع من غير طول. ينظر الكتاب 2/108، وقد فهم العلماء المتأخرون من جواز كون «ما» في «لا سِيَّما زيدٌ» موصولةً استثناءها من شرط الطول. ينظر الاستغناء في أحكام الاستثناء ص 111، وشرح التسهيل 2/319، والمغني ص 187، وشفاء العليل 2/518، والتصريح 1/143، وحاشية الدسوقي على المغني 1/152.
(2) من قوله: (وحَذْفُ المبتدأ في هذا المحل ... إلى قوله: (لطول الصلة بالنعت) منقول من التصريح 1/144، وقد وقع المصنف في سهو لم يتنبَّه له؛ وذلك أَنَّه الآن في معرض الحديث عن وقوع النكرة بعد «لا سِيَّما» ، ونلاحظ أَنَّه هنا مثَّل تبعا للشيخ خالد الأزهري بمعرفة، كما أَنَّه أيضا وقع في سَهْوٍ آخر لم يتنبه له أيضا، فقد نقل كلام الأزهري بحذافيره من غير تغيير ما يلزم تغييره، فإنه عند إيراده مثالا على وصف الاسم الواقع بعد «لا سِيَّما» نفى الاستثناء عنه مع أَنَّه لم يذكر شيئا مستثنى، أمَّا كلام الأزهري فنفيُ الاستثناء فيه مستقيم، وذلك أَنَّ الأزهري قال في 1/143: (ويستثنى من اشتراط الطول [أي: في جملة الصلة] لا سِيَّما زيد) ، ثم قال فيما بعد: (فإن قيل: «لا سِيَّما زيد الصالح» فلا استثناء) .
(3) ينظر شرحه للألفية 1/166، وكلام المؤلف منقول من التصريح 1/144، وهو مذكور بمعناه في حاشية الخضري على شرح ابن عقيل 1/81.(14/157)
لا يقال: (إن شرط «لا» عملها في النكرات، و «سِيّ» قد عُرِّفت بالإضافة فلا عَمَلَ ل «لا» فيها) ؛ لأَنَّا نقول: مَنَعَ من ذلك توغُّلها في الإبهام ك «غَيْر» و «مِثْل» و «شِبْه» فلا تُعرِّفها الإضافة (1) .
والنصب على [2 أ] التمييز (2) و «ما» كافَّة، وفتحة «سي» فتحة بناء (3)
__________
(1) ينظر الكتاب 2/286، والمسائل البغداديات ص 317، وشرح التسهيل 2/318، والاستغناء ص 123، والخزانة 3/445، وبراعة التأليف ص 88.
(2) رفعُ الاسم بعد «لا سِيَّما» أقل من جرِّه، ونصبُهُ أقل من رفعه، فالنصبُ ضعيف، وقد تكلَّف له العلماء وجوها، أحدها ما ذكره المؤلف، وبقيتها: أَنَّه تمييز ل «ما» ، و «ما» نكرة تامة مجرورة بإضافة «سيّ» إليها. وقيل: إنه منصوب بإضمار فعل و «ما» كافة. وقيل: منصوب على الاستثناء، ف «ما» كافة و «لا سِيَّما» مُنَزَّلة منزلة «إلاّ» في الاستثناء. وقيل: منصوب على إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: لا مِثْلَ لِزَيدٍ. وقيل: منصوب على أَنَّه مفعول ل «سيّ» لتأويلها باسم الفاعل (مساوٍ) و «ما» كافة عن الإضافة. ينظر الاستغناء ص 111 و 119 و 124، وشرح الرضي 2/791، وكتاب الكُنَّاش 1/201، والمغني ص 412، والمصباح المنير ص 114 "سي"، وهمع الهوامع 3/293، والخزانة 3/446، والفوائد العجيبة ص 45، وبراعة التأليف ص 86 و 90، والكواكب الدرية 2/407.
(3) «ما» هنا كافة ل «سي» عن الإضافة، وهذا قول الفارسي في التذكرة. ينظر شرح التسهيل 2/319، والاستغناء ص 112، والمغني ص 413، والخزانة 3/446. وَيَرِدُ على هذا الوجه اعتراض، وهو أَنَّه لو كان تمييزا ل «سيّ» لكان معمولا لها، فتكون شبيهة بالمضاف، فتكون فتحتها فتحةَ إعراب لا بناء، وبأَنَّ التمييز عينُ المُمَيَّز، وهنا غيره؛ لأَنَّه ليس نفس «سيّ» المنفي، فلو قلت: (أَكْرِمِ العلماءَ ولا سِيَّما شيخا لنا) ف «شيخا» غير «سيّ» المنفي. ينظر شرح الأمير على نظم السُّجاعي ص 1051، وبراعة التأليف ص 87.(14/158)
، وإلى ما تقدم أشرت بقولي:
وَمَا يَلِي «لا سِيَّما» إِنْ نُكِّرَا فَاجْرُرْ أَوِ ارْفَعْ ثُمَّ نَصْبَهُ اذْكُرَا
في الْجَرِّ «مَا» زِيْدَتْ وَفي رَفْعٍ أُلِفْ وَصْلٌ لَهَا قُلْ أَوْ تَنَكُّرٌ وُصِفْ
(وَعِنْدَ رَفْعٍ) بالتنوين (1) (مُبْتَدًا قَدِّرْ) (2) ، أي: قَدِّرْ مبتدأً عند رفعٍ (3) (وَفِي رَفْعٍ وَجَرٍّ أَعْرِبَنْ) بنون التوكيد الخفيفة (4) ، (سِيَّ تَفِي، وَانْصِبْ مُمَيِّزًا) أي: انصبْ حالَ كونك مُمَيِّزًا.
وقد عُلِمَ بناء «سِيّ» في هذا الأخير من التقييد بالإعراب في ذينك، وقد رُوِيَ قولُ الشاعر:
وَلا سِيَّما يَوْم بِدَارَةِ جُلْجُلِ (5)
بالأوجه الثلاثة، وإلى هذا أشرتُ بقولي: (وَقُلْ: ((لاَ سِيَّما يَوْم)) بِأَحْوَالٍ) بالتنوين (ثَلاَثٍ) (6) بدلٌ مما قبله (فَاعْلَمَا) .
__________
(1) قوله (بالتنوين) ساقط من "د".
(2) قوله: «مبتدًا» مفعول به مقدم للفعل «قَدِّرْ» ، وأصلة «مبتدأً» بالهمز، وقد حُذفت همزته لضرورة إقامة الوزن.
(3) قوله: (أي: قَدِّرْ مبتدأً عند رفعٍ) ساقط من "د".
(4) قوله: (بنون التوكيد الخفيفة) ساقط من "د".
(5) هذا عجز بيتٍ من الطويل، وصدره:
أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ
... وهو لامرئ القيس. ينظر ديوانه ص 10.
... دارة جُلْجُل: اسْمُ غَدِيرٍ في نجد. ينظر كتاب الدارات ص 40 وما بعدها.
... وهذا البيت من شواهد نظم الفرائد ص 185، وشرح المقدمة الجزولية الكبير 3/998، وشرح المفصل 2/86، وشرح الكافية الشافية 2/725، والاستغناء ص 113، وارتشاف الضرب 3/1550، والمغني ص 186.
(6) في "د": (ثلاثة) ، وبها ينكسر البيت.(14/159)
قال العلامة الفارضي (1) في شرح الألفية بعد أن ذكر البيت المستشهد به (2) : (فعلى رواية الجر تكون «سِيّ» بمعنى «مِثْل» ، وهو مضاف، و «يوم» مضاف إليه، و «ما» زائدة.
وعلى رواية الرفع تكون «ما» موصولة، و «يومٌ» خبرٌ لمحذوف، أو نكرةٌ موصوفة، والتقدير: لا مثلَ الذي هو يومٌ، أو: لا مثلَ شيءٍ هو يومٌ.
والنصب على التمييز كما يقع التمييز بعد «مِثْل» في نحو: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ((3) ، و «ما» كافة عن الإضافة، وفتحةُ «سِيّ» بناءٌ مثلُها في «لا رجلَ» على ما تقدم) .
__________
(1) هو الإمام شمس الدين محمد الفارضي القاهري الحنبلي، كان شاعرا عالما بالفرائض والنحو له مصنفات منها: شرح ألفية ابن مالك، والمنظومة الفارضية في المواريث، توفي سنة 981 هـ. تنظر أخباره في الكواكب السائرة 3/83، وشذرات الذهب 10/576، والسحب الوابلة 3/1106.
(2) ينظر شرح الألفية للفارضي ل 80 أ.
(3) سورة الكهف، من الآية 109.(14/160)
وذكر وجها آخر، وهو أَنَّ «ما» موصولة، و «بدارة جُلْجِل» صلة، و «يوما» ظرف، والعامل فيه ما في «بدارة» (1) من معنى الاستقرار (2) ، ثم قال (3) [2 ب] : (وفتحةُ «سِيّ» في الصور الثلاث فتحةُ إعرابٍ يعني به: حالة الجر، والرفع، والنصب على الظرفية؛ وذلك لأَنَّ «ما» إن كانت موصولة فهي معرفة، واسم «لا» التبرئة لا يكون معرفة، وإن كانت غير موصولة ف «سيّ» مضافة (4) لما بعدها إن كانت «ما» زائدة، أو مضافة ل «ما» إن كانت نكرة موصوفة، واسم «لا» المبني لا يكون مضافا) . انتهى (5) كلامه.
وقد علمت ردَّه بما تقدم من أَنَّها لا تتعرف بالإضافة (6) ، فتأمل (7) .
قال ابن مالك (8) : وإذا كانت (9) «ما» موصولة معها جاز وصلها بفعلٍ وبظرف، نحو: أعجبني كلامُكَ لا سِيَّما تَعِظُ به (10)
__________
(1) في "ج": والعامل فيه ما في «بدارة جُلْجِل» .
(2) لم ينفرد الفارضي بهذا القول، بل هو مسبوق فيه، فقد ذكره ابن مالك في شرح الكافية الشافية 2/725، وزاد أيضا وجها آخر، وهو أن تكون «ما» موصولة، و «يوما» صلتها منصوب على الظرفية، و «بدارة جلجل» صفة ل «يوما» أو متعلقا به لما فيه من معنى الاستقرار. وتنظر أوجه النصب في شرح التسهيل 2/319، والاستغناء ص 120 و 125، والارتشاف 3/1551.
(3) ينظر شرح الألفية للفارضي ل 80 أ.
(4) في "ج": ... غير موصولة فهي مضافة.
(5) في "د" رمز لكلمة (انتهى) في هذا الموضع والمواضع اللاحقة بالحرفين (أهـ) .
(6) ينظر ص 1383.
(7) في "د": ... بما تقدم من أَنَّ (ما) لا تَعرَّف بالإضافة، تأمل.
(8) ينظر شرح التسهيل 2/319، وفي النقل تصرف.
(9) في "د": وإن كانت.
(10) ومن شوهد هذا قول الشاعر:
فُقِ الناسَ في الحمد لا سِيَّما يُنِيْلُكَ من ذي الجلالِ الرِّضا
... ينظر شرح التسهيل 2/319، والمساعد 2/598، وشفاء العليل 2/519، وهمع الهوامع 3/293.(14/161)
، ويعجبني التهجُّدُ لا سِيَّما عندَ زيدٍ (1) . انتهى.
هذا إن كان ما بعدها نكرة، فإن كان معرفة (2) جاز الأولان، أعني: الجر والرفع، وإن ضُعِّفَ الرفع بأَنَّ فيه حَذْفَ العائد المرفوع مع عدم الطول (3) ، وإطلاقَ «ما» على من يعقل في نحو: ولا سِيَّما زيدٌ.
وامتنع الأخير، أعني: نصبه، أي: عند الجمهور، وإلا فقد نَقَلَ بعضهم جوازه (4) ، نحو (5) : أكرمِنَّ القوم (6) لا سِيَّما زيدًا، وإلى هذا أشرت بقولي: (وَالنَّصْبُ إِنْ يُعَرَّفِ اسْمٌ فَامْنَعَا) .
__________
(1) ومن شوهد هذا قول الشاعر:
يَسُرُّ الكريمَ الحمدُ لا سِيَّما لدى شهادةِ مَنْ في خيره يَتَقَلَّبُ
... ينظر شرح التسهيل 2/319، والمساعد 2/598، وشفاء العليل 2/518، وهمع الهوامع 3/293.
(2) في "د": ... زيد.أهـ. إذا كانت ما بعدها نكرة، فإن كانت معرفة.
(3) هذا التضعيف وارد أيضا على رفع النكرة بعدها. ينظر ما سبق في الحاشية ذات الرقم 361.
(4) ينظر المغني ص 187، وشرح المغني للدماميني 1/284.
(5) في "ج": وإلا فقد نَقَلَ بعضهم جواز نحو.
(6) في "ج": نحو: أكرمت القوم.... .(14/162)
وقد أشرت بقولي: (وَبَعْدَ «سِيٍّ» جُمْلَةً فَأَوْقِعَا، أَجَازَ ذَا الرَّضِيْ) إلى ما نقله العلامة الْحِفْنِيِّ (1) في حاشية الشِّنْشَوْرِيِّ (2) عن الْمُحَقِّقِ الرَّضِيِّ من جواز وقوع الجملة بعد «لا سِيَّما» ، ونَصُّهُ (3) : (وهل يقع بعدَهَا جملةٌ أو لا؟ قال في التسهيل نقلا عن [3 أ] المرادي: (وقولهم: (لا سِيَّما والأمرُ كذا (4)) تركيب غير عربي) (5)
__________
(1) هو الإمام أبو المكارم نجم الدين محمد بن سالم بن أحمد المصري الشافعي المشهور بالحِفْنِي نسبة إلى مكان مولده قرية حِفْنَة في المديرية الشرقية من مصر، اشتغل بالعلم على فضلاء الأزهر حتى فاق، فتولى التدريس فيه، ثم تولى مشيخته، كان محدثا فقيها فَرَضِيًّا نحويا صاحب بيان، له مؤلفات كثيرة منها: أنفس نفائس الدرر على شرح الهمزية لابن حجر، والثمرة البهيّة في أسماء الصحابة البدريّة، وحاشية على شرح الرحبية للشنشوري، وحاشية على شرح الأشموني لألفية ابن مالك. توفي في القاهرة سنة 1181 هـ. تنظر أخباره في سلك الدرر 4/49، وعجائب الآثار 2/257، وهدية العارفين 2/337.
(2) هو جمال الدين عبد الله بن بهاء الدين محمد بن عبد الله بن علي العجمي الشافعي الشِّنْشَوْرِيّ، نسبة إلى شِنْشَوْر من قرى المَنُوفيّة بمصر، تولى الخطابة في الجامع الأزهر، له مصنفات منها: خلاصة الفكر في شرح المختصر، أي: مختصر أهل الأثر، والفوائد الشِّنْشَوْرِيَّة في شرح المنظومة الرحبية، وبغية الراغب شرح مرشدة الطالب في الحساب لابن الهائم، توفي سنة 999 هـ. تنظر أخباره في هدية العارفين 1/473، والأعلام 4/128.
(3) لم أستطع الوقوف على حاشية الحِفْنِي على الفوائد الشِّنْشَوْرِيّة، وفي حاشية الحِفْنِي على شرح الأشموني ل 397 أما يقارب النصَّ المذكور هنا.
(4) في "د": لا سِيَّما ولا من كذا.
(5) الكلام المنقول عن المرادي لم يرد في التسهيل، والذي في التسهيل ص 107 إجازة وقوع الجملة الفعلية والظرف بعد «لا سِيَّما» عند إعراب «ما» اسما موصولا، وليس فيه التعرض لتخطئة شيء من الأساليب. وينظر قول المرادي في شرحه للتسهيل ل 183 ب، ونصُّه: (وما يوجد في كلام المصنفين من قولهم: (لا سِيَّما والأمرُ كذا) تركيبٌ غير عربي) . ولم ينفرد المرادي بإنكار هذا الأسلوب، بل سبقه إليه أبو حيان في الارتشاف 3/1552.(14/163)
، وعليه السيوطي (1) . وقد أجاز ذا (2) الرضي حيث قال (3) : (ويُحذف ما بعد «سِيَّما» (4) على جعله بمعنى «خصوصا» ، فيكون منصوبَ المحل على أَنَّه مفعول مطلق مع بقائه على نصبه الذي كان له في الأصل حين كان اسم «لا» التبرئة، فإذا قلت: ((أحب زيدا ولا سِيَّما راكبا)) ، فهو بمعنى: وخصوصا راكبا، ف «راكبا» حال (5) من مفعول الفعل المقدر، أي: وأخصه بزيادة المحبة خصوصا راكبا (6) ، وكذا في: ((أحبه ولا سِيَّما وهو راكب)) (7)) . انتهى، فقد حَكَمَ بِصِحَّةِ ما جعله المراديُّ تركيبا فاسدا (8)
__________
(1) ينظر الهمع 3/294.
(2) في "ج": وقد أجاز ذلك.
(3) ينظر شرح الرضي للكافية 2/793، وفي النقل تصرُّفٌ يسيرٌ بالحذف.
(4) في شرح الرضي 2/793: وقد يُحذف ما بعد «لا سِيَّما» .
(5) في "د": ولا سِيَّما راكبا، ف «راكبا» حال.
(6) فيكون التقدير: أحب زيدا وأخصه خصوصا بزيادة المحبة في حال كونه راكبا. ويجوز أن يكون «راكبا» حال من فاعل الفعل المقدر اللازم، ويكون التقدير: أحب زيدا ويختص اختصاصا بزيادة المحبة في حال كونه راكبا. ينظر شرح الرضي للكافية 2/793، وبراعة التأليف ص 91.
(7) فجملة «وهو راكب» في محل نصب حال إما من مفعول الفعلِ المقدر المتعدي، وإما حال من فاعل الفعل المقدر اللازم كما سبق في الحال المفرد. ينظر براعة التأليف ص 91.
(8) لم يقف المصنف رحمه الله على تحقيق هذه المسألة بدقة؛ إذ الصواب أنه لا خلاف بين العلماء في جواز وقوع الجملة بنوعيها بعد «لا سِيَّما» ، ولم ينفرد الرضي بإجازة هذا، بل هو جائز لدى العلماء؛ لوروده في كلام العرب، أما الذي انفرد بإجازته الرضي فهو استعمال «لا سِيَّما» بمعنى «خصوصا» ، ومن ثُمَّ تفرُّدها بأحكام مخالفةٍ لأحكامها حينما كانت بالمعنى الذي نص عليه العلماء، أي: كونها بمعنى «مِثْل» وكون الاسم المذكور بعدها منبَّهٌ على أولويته في الحكم، فهي إذا كانت بمعنى «خصوصا» أعربت مفعولا مطلقا، وصحَّ وقوع الجملة بنوعيها بعدها مقترنة بالواو، وصحَّ مجيء الحال مفردة بعدها. ينظر شرح التسهيل 2/319، وتعليق الفرائد 6/151، والمغني ص 186 و 187، وبراعة التأليف ص 85 و 90، وينظر ما كُتب في دراسة هذه الرسالة في مبحث نقدها.(14/164)
) . انتهى.
ثم قلت: (وَلا تُحْذَفُ «لا» مِنْ سِيَّما) يعني: أَنَّ لفظة «لا» لا تُحذف من «سِيَّما» وجوبا (1)
__________
(1) قال ثعلب فيما رواه عنه ابن فارس في الصاحبي ص 231: (من قاله أي: ولا سِيَّما بغير اللفظ الذي قاله امرؤ القيس فقد أخطأ) . يعني: أَنَّه يجب اتصال الواو و «لا» به كما في بيت امرئ القيس السابق. ينظر سفر السعادة 1/259، والمغني ص 186.
... وَنَصَّ أبو جعفر النحاس في شرح القصائد التسع المشهورات 1/110 على أَنَّ «سِيَّما» لا تُستعمل إلا مع الجحد، فقال: (ولا يجوز أن تقول: «جاءني القومُ سِيَّما زيدٍ» حتى تأتي ب «لا» ) .
... وقال أبو حيان في الارتشاف 3/1552: (وَحَذْفُ «لا» من «لا سِيَّما» إنما يوجد في كلام الأدباء الْمُوَلَّدِينَ، لا في كلام مَنْ يُحْتَجُّ بكلامه) . وتنظر هذه المسألة في شرح المفصل 2/86، وشرح التسهيل للمرادي ل 183 ب، وهمع الهوامع 3/294، وشرح الأشموني 2/168، وتاج العروس 10/188 "سوو".(14/165)
؛ لأَنَّ حذف الحرف خارج عن القياس (1) . وكذلك دخول الواو على «لا» ، وذكر بعضهم أَنَّها قد تُحذف (2) .
__________
(1) فلا يجوز حذف الحرف وبقاء عمله؛ لأَنَّ الحروف وُضعت للاختصار، والمُختصَر لا يجوز اختصاره؛ لأَنَّ الاختصار إجحافٌ به، ولأَنَّ «لا» تركبَّت مع «سِيَّما» وصارتا كالكلمة الواحدة، فتُساق لترجيح ما بعدها على ما قبلها، فيكون ما بعدها كالمُخرَج عن مساواة ما قبلها إلى التفضيل، فقولهم: (تُستحبُّ الصدقةُ في شهر رمضان ولا سِيَّما في العشر الأواخر) معناه: واستحبابها في العشر الأواخر آكد وأفضل، فهو مُفَضَّلٌ على ما قبله، إذا تقرَّر هذا فلو قيل «سِيَّما» بغير نفي اقتضى التسوية وبقي المعنى على التشبيه، فيكون التقدير: (تستحبُّ الصدقة في شهر رمضان مثل استحبابها في العشر الأواخر) ، ولا يخفى ما فيه من تغييرٍ للمعنى المراد؛ لذهاب التفضيل. ينظر المصباح المنير ص 114 "سي"، والأشباه والنظائر 1/79، وتاج العروس 10/188 "سوو".
(2) يحتمل أن يكون نائب الفاعل هنا ضميرا راجعا ل «لا» ، ويحتمل أن يكون ضميرا راجعا ل «الواو» وهو الأقرب، أما حذف «لا» فقد انفرد بإجازته القرافي في الاستغناء ص 120 والرضي في شرحه للكافية 2/793، وليس لهما شاهد. ينظر تعليق الفرائد 6/155، وحاشية الصبان 2/168، وذكر صاحب حماة في الكُنَّاش 1/201 والفيومي في المصباح المنير ص 114 "سي" أَنَّ «لا» يصحُّ حذفها من «لا سِيَّما» للعلم بها وهي مرادة، كقولك: (أكرَمَ الناسُ العلماءَ سِيَّما صديقُهُ) .
... أما حذف الواو فَمَنَعَهُ ثعلب، وأجازه غيره من العلماء مستدلين بشواهد منها الشاهد الذي سيذكره المصنف بعد قليل. ينظر الارتشاف 3/1552 و 1553، والمغني ص 186.(14/166)
وتُخفَّف «سِيَّما» (1) ، كما في قوله:
فِهْ بالْعُقُودِ وبالأَيْمانِ لا سِيَما عَقْدٌ وفاءٌ بِهِ مِنْ أعظمِ القُرَبِ (2)
__________
(1) حكى التخفيف الأخفش وغيره. ينظر شرح القصائد التسع المشهورات ص 110، وشرح القصائد السبع الطوال الجاهليات ص 33، والارتشاف 3/1552.
(2) هذا بيت من البسيط، لم أقف على قائله.
... فِهْ: فعل أمر من وَفَى يَفِي، وهاء السكت لا تُنطق إلا في الوقف فقط، وهي تُكتب في الوقف والوصل؛ اعتدادا بنطقها في الوقف، ولأَنَّ الكلمة لا تكون على حرف واحد. ينظر أدب الكاتب ص 251، وتعليق الفرائد 6/154، وشرح الدماميني للمغني 1/283.
... والمؤلف ساق البيت شاهدا على تخفيف الياء من «لا سِيَّما» ، وفيه شاهد آخر، وهو جواز حذف الواو من «لا سِيَّما» .
... وقد وقع في البيت تحريفٌ في نسخة "د" فورد كالتالي: عَقْدٌ أفاءٌ بِهِ ... .
... وهذا البيت من شواهد شرح التسهيل 2/319، والمغني ص 186، والمساعد 1/598، وشفاء العليل 2/519، وتعليق الفرائد 6/154، وهمع الهوامع 3/294، والأشباه والنظائر 1/88، وشرح الأشموني 2/168، وشرح أبيات المغني 3/219، وبراعة التأليف ص 85.(14/167)
وإلى جواز التخفيف أشرت بقولي: (وَسِيَّ خَفِّفْ تَفْضُلا) ، أي: خَفِّفْ لفظة (1) «سِيّ» إن أردت ذلك (2) .
__________
(1) في "ج": خَفِّفْ لفظ.
(2) «سِيّ» وزنها فِعْل، وأصلها «سِوْي» أُعِلَّت كإعلال طَيّ ولَيّ، فهي ك «مِثْل» وزنا ومعنى، واختلف العلماء في الحرف المحذوف منها عند تخفيفها، فذهب بعضهم إلى أَنَّه اللام، وذهب بعضهم إلى أَنَّه العين، واختار الأول ابن جني، وذهب إلى أَنَّ اللام أُلْقِيَتْ حركتها على العين بعد حذفها، واحتجَّ بأَنَّ هذا ما يقتضيه القياس، فالحذفُ إعلالٌ، والإعلالُ في اللام شائعٌ كثير بخلافه في العين. واختار الثاني أبو حيان واحتجَّ بأَنَّه وقوفٌ مع ظاهر اللفظ، وبأَنَّ العين ساكنة واللام متحركة، والمتحرك أقوى من الساكن، فكانت العين أولى بالحذف لضعفها، ولأَنَّه لو كانت الثانية هي المحذوفة لوجب ردُّ الأولى إلى أصلها وهو الواو؛ لزوال موجب قلبها.
... وفي إجابة أصحاب القول الأول عن هذا بأَنَّ العين لم ترجع إلى أصلها لعدم الاعتداد بالحذف العارض تكلُّف لا موجب له. ينظر الاستغناء ص 124، والارتشاف 3/1552، وتعليق الفرائد 6/147 و 155، وشرح الدماميني للمغني 1/282، وهمع الهوامع 3/295، والأشباه والنظائر 1/89، وبراعة التأليف ص 84.(14/168)
ثم قلت: (وَامْنَعْ عَلَى الصَّحِيْحِ الاسْتِثْنَا بِهَا) ، أي: الصحيح أَنَّ «لا سِيَّما» ليست من أدوات الاستثناء (1) ، بل هي مضادة له؛ لأَنَّ الذي بعدها داخلٌ فيما دخل فيه ما قبلها ومشهودٌ له بأَنَّه أحقُّ بذلك من غيره (2) . وقد وُجِّهَ قولُ من قال (3) بأَنَّها من أدوات الاستثناء بأَنَّ [3 ب] ما بعدها مُخرَجٌ مما قبلها (4) من حيث أولويته بالحكم المتقدم، فلَمَّا لم يستوِ مع ما قبلها في الرتبة جُعِلَ كأَنَّه مُخرَجٌ (5) . وقد تمَّ الكلام عليها.
__________
(1) ذهب الجمهور إلى أَنَّ «لا سِيَّما» ليست من أدوات الاستثناء، وذهب الكوفيون ومَنْ وافقهم كالأخفش، والزجاج، وأبي حاتم، وابن النحاس، والفارسي، وابن مضاء، والزمخشري، وابن يعيش إلى أَنَّها من أدوات الاستثناء. ينظر الإيضاح العضدي ص 228 والمفصل ص 68، وشرح المفصل 2/85، والارتشاف 3/1549، والمساعد 1/596، وتعليق الفرائد 6/147، وهمع الهوامع 3/291.
(2) هذا المعنى مفهوم بالبديهة من سياق الكلام، وأيضا لو كانت من أدوات الاستثناء لصحَّ وقوع «إلا» موقعها كما صحَّ في سائر أدوات الاستثناء، وأيضا لو كانت من أدوات الاستثناء لم يصحَّ دخول الواو عليها كما لم يصحَّ دخولها على «إلا» وعلى سائر أدوات الاستثناء. ينظر شرح التسهيل 2/318، والاستغناء ص 111، والمساعد 1/596، وهمع الهوامع 3/292.
(3) في "ج": وقد وَجَّهَ من قال.
(4) في "ج": مُخرَجٌ مما قبله.
(5) الجمهور يرون أَنَّ الجامع بين «لا سِيَّما» و «إلا» ضعيف؛ لأَنَّ خروج ما بعد «لا سِيَّما» من مساواة ما قبلها لا تخرجه عن الحكم المنسوب لما قبلها، فلا يوجب مساواتهما في الحكم. ينظر المغني ص 187، وشرح الأمير على نظم السُّجاعي في «لا سِيَّما» ص 1049 و 1052.(14/169)