الأول: مخرج الفاء؛ والثاني: مخرج الباء، والميم؛ وجعل مخرجيهما وفق مذهب الجمهور.
أما الثالث فجعله مخرج الواو، وهو من بين الشفتين – أيضاً – غير أنّها تهوي حتى تنقطع إلى مخرج الألف. والصحيح مذهب سيبويه والجمهور (1) .
الوقفة الثالثة: ماذهب إليه سيبويه والجمهور من أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، إِنّما هو على سبيل التقريب، وإلحاقِ مااشتد تقاربُه بمقارِبِه، وجعْلِه معه من مخرجٍ واحدٍ، وإلاّ فالتحقيق أنّ لكلِّ حرفٍ مخرجاً على حِدَةٍ يخصّه، يخالف مخرج الحرف الآخر، وإلاّ لكان إيّاه، قال ابن الحاجب: (والتحقيق أنّ كلّ حرف له مخرجٌ يخالف الآخر، وإلاّ لكان إيّاه) (2) .
وفي هذا المعنى يقول العلامة إبراهيم بن عبد الرزاق: (3)
والحصر تقريبٌ، وبالحقيقهْ
لكلِّ حرفٍ بُقْعةٌ دقيقهْ
إذْ قال جمهور الورَى مانصُّهْ
لكلِّ حرفٍ مخرجٌ يُخصّهْ.
لمطلب الثاني: الخلاف بينهما في ترتيب مخارج الحروف.
ذكرت في المطلب السابق أنّ مخارج الحروف عند الخليل سبعة عشر مخرجاً، وعند سيبويه والجمهور ستة عشر مخرجاً؛ لأنّهم أسقطوا مخرج الجوف.
وقد اختلف سيبويه والخليل – أيضاً – في ترتيب مخارج الحروف، فرتبها الخليل وفق مايلي:
بدأ بمخارج حروف الحلق الثلاثة، وحروفها: العين، والحاء؛ والهاء؛ والخاء، والغين.
ثمّ أتبعها بمخرجيّ أقصى اللسان، فما فوقه من الحنك الأعلى: القاف، وهو المخرج الرابع.
ومن أسفله قليلاً: الكاف، وهو المخرج الخامس.
ثم من وسط اللسان والحنك الأعلى للحروف الشجْرية: الجيم، والشين، وهو المخرج السادس.
ثم من إحدى حافتيه وما يحاذيها من الأضراس: الضاد، وهو المخرج السابع.
ثم أردفه بمخرج الحروف الأسلية أو الصفيرية: الصاد، والسين، والزاي، وهو الثامن.
ثم مخرج الحروف النطعيّة: الطاء، والدال، والتاء، وهو التاسع.
__________
(1) ينظر شرح الهداية 1/77.
(2) ينظر الإيضاح في شرح المفصل 2/480.
(3) ينظر هداية القاري 1/64.(11/389)
ثم مخرج الحروف اللثويّة: الظاء، والذال، والثاء، وهو العاشر.
ثم مخارج الحروف الذلقيّة: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وحروفها وفق ترتيبه لها مايلي: الراء؛ ثم اللام؛ ثم النون.
ثم أردفها بمخرجيّ الحروف الشفويّة: الفاء، ومخرجه من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، وهو المخرج الرابع عشر.
ثم من بين الشفتين مخرج: الباء، والميم، وهو الخامس عشر.
ثم مخرج الحروف الجوفية أو الهوائية: الواو، والألف، والياء، وهو السادس عشر.
ثم مخرج الخيشوم: وهو للغنّة، وهو السابع عشر (1) .
وخلاصة مذهب الخليل في ترتيب حروف العربية الأصول وفق مخارجها، هو: (ع، ح* هـ*خ، غ*ق*ك*ج، ش*ض*ص، س،ز*ط، د،ت*ظ، ذ،ث*ر*ل*ن*ف*ب، م*و، ا،ي*الهمزة) (2) .
وأمّا مذهب سيبويه في ترتيب مخارج الحروف، فقد وافق شيخه الخليل بن أحمد في بداية المخارج، وفي نهايتها، وخالفه في الترتيب فيما بين ذلك، وفي أوّل وثاني مخارج الحلق.
أمّا الموافقة فكانت من المخرج الثالث للحلق، وهو أدنى الحلق مما يلي الفم، وحتى المخرج السابع، وهو مخرج الضاد.
ثمّ وافقه في المخارج الثلاثة الأخيرة، وهما مخرجا الحروف الشفويّة؛ ومخرج الخيشوم للغنّة.
وأمّا المخارج التي خالف فيها سيبويه الخليل، فهي:
أولاً: بدأ سيبويه بأوّل مخرج للحلق من أقصاه، وحروفه: ء، هـ، ا.
ثم أردفه بالمخرج الثاني لوسط الحلق، وحروفه: ع، ح.
وهو مخالفٌ لما بدأ به الخليل، إذْ بدأ بالحروف: ع، ح،هـ.
ثانياً: ذهب سيبويه إلى أنّ مخارج الحروف الذلقيّة تأتي بعد مخرج الضاد، وقبل مخرج الحروف النطعية، وترتيبها حسب مخارجها، هو مخرج اللام؛ ثم مخرج النون؛ ثم مخرج الراء.
__________
(1) ينظر العين 1/57، 58، ومقدمة تهذيب اللغة 63، 64، وكشف المشكل 2/278.
(2) ينظر العين 1/48، ومقدمة تهذيب اللغة 57، وكشف المشكل 2/277.(11/390)
وهذا مخالفٌ لمذهب الخليل، إذْ جعل بعد مخرج الضاد، مخرج الحروف الأسليّة، ثم النطعيّة، ثم اللّثويّة، ثم بعدها مخارج الحروف الذلقيّة، ورتبها كما يلي: مخرج الراء، ثم مخرج اللام، ثم مخرج النون.
ثالثاً: ذهب سيبويه إلى أنّ ترتيب مخارج طرف اللسان الثلاثة، تأتي بعد مخارج الحروف الذلقيّة، وأنّ ترتيبها حسب مخارجها، هو: مخرج الحروف النطعية، ثمّ مخرج الحروف الأسليّة أو الصفيريّة، ثم مخرج الحروف اللثويّة.
وهذا مخالفٌ لمذهب الخليل، إذْ جعلها بعد مخرج الضاد، ورتّبها خلاف ترتيب سيبويه، وقد وضّحت ذلك في ثانياً (1) .
والرّاجح في ترتيب مخارج الحروف هو قول سيبويه، وهو مذهب جمهور القُرّاء والنّحويين، وبه قال ابن الجزريّ (2) .
المطلب الثالث: الخلاف بينهما في ترتيب حروف بعض المخارج أو زيادتها.
اعلم أنّ الاختلاف بين سيبويه والخليل لم يقتصر على الخلاف في عدد مخارج الحروف، أو في ترتيب المخارج، بل تعداه إلى الخلاف بينهما في الترتيب الداخلي لحروف بعض المخارج، أو زيادتها، وإليك بيان ذلك:
أولاً: اختلفا في ترتيب حروف أدنى الحلق مما يلي الفم، فذهب الخليل إلى أنّ ترتيبها: (خ، غ) ، وذهب سيبويه إلى أنّ ترتيبها: (غ، خ) .
ثانياً: اختلفا في حروف وسط اللسان ووسط الحنك الأعلى، فذهب الخليل إلى أنّها: (ج، ش) ، وذهب سيبويه إلى أنّها: (ج، ش،ي) ، وهي ماتُسمّى بالحروف الشجْريّة.
ثالثاً: اختلفا في ترتيب الحروف التي تخرج مابين طرف اللسان وفُويق الثنايا السُّفلى، وهي ماتُسمّى بالحروف الأسليّة، أو الصفيريّة، فذهب الخليل إلى أنّ ترتيبها: (ص، س، ز) ، وذهب سيبويه إلى أن ترتيبها: (ز، س،ص) ، وفي سرده لحروف العربية وفق مخارجها رتبها هكذا: (ص، ز، س) ، وكلا الترتيبين مخالفٌ لترتيب الخليل.
__________
(1) ينظر العين 1/57، 58، والكتاب 4/433، 434.
(2) ينظر مصادر هامش "127"، وانظر النشر 1/198.(11/391)
رابعاً: اختلفا في الحروف التي تخرج من بين الشفتين، فذهب الخليل إلى أنّها: (ب، م) ، وذهب سيبويه إلى أنّها: (ب، م،و) (1) .
هذا وقد بيّنت في المطلب السابق ترتيب الخليل لحروف العربية الأصول وفق مخارجها، وأمّا ترتيبها على مذهب سيبويه وفق المخارج – أيضاً – فهو:
(ء، ا،هـ*ع، ح*غ، خ*ق*ك*ج، ش،ي*ض*ل*ن*ر*ط، د،ت*ز، س،ص*ظ، ذ،ث*ف*ب، م،و) (2) .
والصّواب هو ماذهب إليه سيبويه، وهو مذهب أصحابه من جمهور القُرّاء والنّحويين (3) .
قال ابن جنيّ بعد ترتيبه للحروف وفق منهج سيبويه: (فهذا هو ترتيب الحروف على مذاقها وتصعُّدها، وهو الصحيح، [فأمّا] ترتيبها في كتاب العين ففيه خَطَلٌ، واضطرابٌ، ومخالفةٌ لما قدمناه آنفاً ممّا رتبه سيبويه، وتلاه أصحابه عليه، وهو الصّواب الذي يشهد التأمّل له بصحته) (4)
__________
(1) ينظر العين 1/57، 58، والكتاب 4/433، ومقدمة تهذيب اللغة 63.
(2) ينظر الكتاب 4/433، وانظر سر الصناعة 1/45.
(3) ينظر مصادر هامش "127".
(4) ينظر سر الصناعة 1/45، 46.
المصادر والمراجع
إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للبنّا، تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، ط1، 1407هـ، عالم الكتب، بيروت.
أخبار النّحويين البصريين للسيرافي، تحقيق د. محمد إبراهيم البنّا، ط1، 1405هـ، دار الاعتصام، القاهرة.
أدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محمد الدّالي، ط1، 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلس، تحقيق ودراسة رجب عثمان محمد، ط1، 1418هـ، مكتب الخانجي، القاهرة.
الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الدانيّ، تحقيق محمد بمجقان الجزائري، ط1، 1420هـ، دار المغني، الرياض.
أسرار العربية لأبي البركات الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، 1377هـ، مطبعة الترقي، دمشق.
إشارة التعيين في تراجم النّحاة واللغويين لعبد الباقي اليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، ط1، 1406هـ، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض.
الإصباح في شرح الاقتراح، تأليف د. محمود فجال، ط1، 1409هـ، دار القلم، دمشق.
إصلاح المنطق لابن السكيت، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، ط4، دار المعارف، القاهرة.
الأصول في النّحو لابن السراج، تحقيق عبد الحسين الفتلي، ط1، 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم لابن خالوية، 1985م، دار ومكتبة الهلال، بيروت.
الاقتراح في علم أصول النّحو للسيوطي، تحقيق وتعليق د. أحمد محمد قاسم، القاهرة.
الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، ط1، 1403هـ، دار الفكر، دمشق.
ألفية ابن مالك في النّحو والصرف، 1410هـ، مكتبة طيبة للنشر والتوزيع، المدينة المنورة.
أمالي ابن الشجري لهبة الله بن علي الشجريّ، تحقيق ودراسة د. محمود محمد الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة.
إملاء مامنّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن لأبي البقاء العكبري، ط1، 1399هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
إنباه الرواة على أنباه النّحاة للوزير القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1406هـ، دار الفكر، القاهرة.
الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات ابن الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 1407هـ، المكتبة العصرية، بيروت.
أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط6، 1966م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، تحقيق د. موسى العليلي، مطبعة العاني، بغداد.
بغية الآمال في معرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال لأبي جعفر اللبليّ، تحقيق د. سليمان العايد، 1411هـ، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
بغية الوعاة في طبقات اللُّغويّين والنحاة للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت.
البلغة في تاريخ أئمة اللغة للفيروز آباديّ، تحقيق محمد المصري، 1972م، دمشق.
تاريخ الأدب العربي، تأليف د. عمر فروخ، ط1، 1983م، دار العلم للملايين، بيروت.
التبصرة في القراءات لمكي القيسي، تحقيق د. محيي الدين رمضان، ط1، 1405هـ، معهد المخطوطات العربية، الكويت.
التبصرة والتذكرة لأبي محمد الصيمري، تحقيق د. فتحي أحمد مصطفى علي الدين، ط1، 1402هـ، دار الفكر، دمشق.
التبيان في شرح مورد الظمآن لابن آجطا، (مخطوط) معهد اللغات الشرقية بفرنسا، رسالة ماجستير مسجلة بالجامعة الإسلامية، كلية القرآن.
التبيين عن مذاهب النّحويين البصريين والكوفيين لأبي البقاء العكبري، تحقيق ودراسة د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، ط1، 1406هـ، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
التذكرة في القراءات لابن غلبون، تحقيق د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم، ط2، 1411هـ، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة.
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك، حققه محمد كامل بركات، 1387هـ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.
التصريح على التوضيح لخالد الأزهري، دار الفكر، دمشق.
تصريف الأفعال ومقدمة الصرف، تأليف الشيخ عبد الحميد عنتر، ط2، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
التعليقة على كتاب سيبويه لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. عوض القوزي، ط1، 1412هـ، جامعة الملك سعود، الرياض.
التكملة لأبي عليّ الفارسي، تحقيق ودراسة د. كاظم بحر المرجان، 1401هـ، مطابع مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل.
التمهيد في علم التجويد لابن الجزري، تحقيق غانم قدوري حمد، ط1، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك للمرادي، تحقيق د. عبد الرحمن علي سليمان، ط1، 1396هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، عني بتصحيحه أوتوبرتزل، مكتبة الجعفري التبريزي، طهران.
جامع البيان في القراءات السبع المشهورة لأبي عمرو الداني، (مخطوط) محفوظ بدار الكتب الوطنية بالقاهرة برقم 7266، قراءات م/3.
الجُمل في النّحو للزجاجي، تحقيق علي توفيق الحمد، ط3، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
حاشية ابن جماعة على الجاربردي "مجموعة الشافية"، ط3، 1404هـ، عالم الكتب، بيروت.
حاشية الصّبّان على شرح الأشموني للصّبان، مطبعة الحلبي، القاهرة.
حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع للشاطبيّ، ضبطه وصححه وراجعه محمد تميم الزعبي، ط2، 1410هـ، دار المطبوعات الحديثة، المدينة المنورة.
الخصائص لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، ط3، 1403هـ، عالم الكتب، بيروت.
السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، ط2، دار المعارف، القاهرة.
سر صناعة الإعراب لابن جني، دراسة وتحقيق د. حسن هنداوي، ط1، 1405هـ، دار القلم، دمشق.
سير أعلام النبلاء للذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط6، 1409هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
السيرافيّ النّحويّ في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، دراسة وتحقيق د. عبد المنعم فائز، ط1، 1403هـ، دار الفكر، دمشق.
الشافية في علم التصريف لابن الحاجب، تحقيق حسن أحمد العثمان، ط1، 1415هـ، المكتبة المكية، مكة المكرمة.
شذا العرف، تأليف أحمد الحملاوي، المكتبة العلمية، بيروت.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط20، 1400هـ، دار التراث، القاهرة.
شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، تحقيق د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.
شرح الألفية للمكوديّ، ط3، 1374هـ، مطبعة الحلبي، مصر.
شرح ألفية ابن مالك للأشموني، مطبعة الحلبي، القاهرة.
شرح التسهيل لابن مالك تحقيق عبد الرحمن السيد، ومحمد بدوي المختون، ط1، 1410هـ، هجر للطباعة والنشر.
شرح جُمل الزجاجي لابن عصفور، تحقيق صاحب أبو جناح.
شرح الشافية للجاربرديّ (مجموعة الشافية) ، ط3، 1404هـ، عالم الكتب، بيروت.
شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاستراباذي، تحقيق محمد نور الحسن وآخرين، 1402هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
شرح الشافية لركن الدين الاستراباذي، دراسة وتحقيق د. عبد الله محمد العتيبي، رسالة ماجستير، 1413هـ - 1414هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
شرح الكافية الشافية لابن مالك الأندلسي، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث.
شرح المفصل لابن يعيش النّحوي، عالم الكتب، بيروت.
شرح المقدمة الجزولية الكبير لأبي علي الشلوبين، تحقيق د. تركي بن سهو العتيبي، ط1، 1413هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
شرح الملوكي في التصريف لابن يعيش، تحقيق د. فخر الدين قباوه، ط1، 1393هـ، حلب.
شرح الهداية لأبي العباس المهدوي، تحقيق د. حازم سعيد حيدر، ط1، 1416هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
شفاء العليل في إيضاح التسهيل لأبي عبد الله السلسيلي، تحقيق د. الشريف عبد الله البركاتي، ط1، 1406هـ، دار الندوة، بيروت.
الصاحبي في فقه اللغة لأبي حسين ابن فارس، تحقيق السيد أحمد صقر، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.
الصحاح للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط3، 1404هـ، دار العلم للملايين، بيروت.
طبقات النّحويين واللغويين لأبي بكر الزُّبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعارف، القاهرة.
العين للفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، ط1، 1408هـ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
غاية النهاية في طبقات القُرّاء لابن الجزري، ط3، 1402هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
الفهرست لابن النديم، اعتنى بها وعلّق عليها الشيخ إبراهيم رمضان، ط2، 1417هـ، دار المعرفة، بيروت.
القواعد والتطبيقات في الإبدال والإعلال تأليف الشيخ عبد السميع شبانه، ط5، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
القول الفصل تأليف عبد الحميد عنتر، ط2، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
الكتاب لسيبويه، طبعة بولاق، ط1، 1316هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة.
الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، 1403هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكيّ القيسيّ، تحقيق د. محيي الدين رمضان، ط2، 1404هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
كشف المشكل في النّحو لعلي بن سليمان الحيدرة اليمني، تحقيق د. هادي عطية مطر، ط1، 1404هـ، مطبعة الإرشاد، بغداد.
اللُّباب في علل البناء والإعراب لأبي البقاء العكبري، تحقيق غازي مختار طليمات، ط1، 1995م، دار الفكر، دمشق.
لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت.
مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، المجلد 12، العدد 19، 1420هـ، مطابع جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
مجمل اللغة لأبي الحسين ابن فارس، دراسة وتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1404هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
مخارج الحروف وصفاتها لابن الطحان، تحقيق د. محمد يعقوب تركستاني، ط2، 1412هـ.
مراتب النّحويين لأبي الطيب اللغوي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت.
المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي، شَرْح وضَبْط مجموعة من العلماء، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق محمد كامل بركات، 1400هـ، دار الفكر، دمشق.
المعارف لابن قتيبة، تحقيق د. ثروت عكاشة، ط2، دار المعارف، القاهرة.
معجم الأدباء لياقوت الحمويّ، ط3، 1400هـ، دار الفكر، بيروت.
المغني في تصريف الأفعال تأليف محمد عبد الخالق عضيمة، ط3، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
المفصل لأبي قاسم الزمخشريّ، ط2، دار الجيل، بيروت.
المقتضب لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، ط2، 1399هـ، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة.
مقدمة تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، ط1، 1405هـ، دار البصائر، دمشق.
المقدمة الجزولية في النّحو لأبي موسى الجزولي، تحقيق د. شعبان عبد الوهاب، مطبعة أم القرى، القاهرة.
المقرب لابن عصفور، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، ط1، 1391هـ، مطبعة العاني، بغداد.
الممتع في التصريف لابن عصفور، تحقق د. فخر الدين قباوه، ط1، 1407هـ، دار المعرفة، بيروت.
منجد الطالبين في الإبدال والإعلال والإدغام والتقاء الساكنين تأليف أحمد إبراهيم عمارة، ط4، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
المنصف على التصريف لابن جنيّ، تحقيق إبراهيم مصطفى، وعبد الله أمين، ط1، 1373هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
الموضح في وجوه القراءات وعللها لابن أبي مريم، تحقيق ودراسة د. عمر حمدان الكبيسي، ط1، 1414هـ، الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، جدة.
النّحو الوافي تأليف عباس حسن، ط8، دار المعارف، القاهرة.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري، تحقيق د. إبراهيم السامرائي، ط3، 1405هـ، مكتبة المنار، الأردن.
نشأة النّحو وتاريخ أشهر النّحاة لمحمد الطنطاويّ، تعليق عبد العظيم الشناويّ، ومحمد عبد الرحمن الكرديّ، ط2.
النشر في القراءات العشر لابن الجزري، تصحيح ومراجعة علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت.
النكت في تفسير كتاب سيبويه للأعلم الشنتمريّ، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1407هـ، الكويت.
هداية القاري إلى تجويد كلام الباري لعبد الفتاح المرصفي، ط2، مكتبة طيبة، المدينة.
همع الهوامع شرح جمع الجوامع للسيوطي، عُني بتصحيحه محمد بدر الدين النعساني، ط1، 1327، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
الوافي تأليف أحمد إبراهيم عمارة، ط4، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.(11/392)
الخاتمة
أَحْمدُ الله حمد الشاكرين، وأصلّي وأسلّم على سيّدنا محمد سيّد الأولين والآخرين، وبعد:
فهذه خلاصةٌ موجزةٌ أُورد فيها خلاصة البحث وأهم نتائجه، فأقول:
أولاً: (الكتاب) لسيبويه أعظم كتاب أُلّف في فنّه، اشتمل على علميّ النّحو والصرف، وأحاط بجميع أجزائهما، ولم يشِذّ عنه من أصول فنّه إلاّ مالا خَطر له، سمّاه النّاس "قرآن النّحو"، ولقّبوه بالبحر استعظاماً له، واستصعاباً لما فيه.
جَمَع فيه سيبويه ماتفرّق من أقوال من تقدمه من العلماء، فكان كما قيل: لم يسبقه أحدٌ إلى مثله، ولا لحقه أحدٌ من بعده.
ثانياً: عقد سيبويه أبواب (الكتاب) بلفظه ولفظ الخليل، وكان كثيراً ما يحكي عنه بقوله: "وسألته" أو: "قال".
فكان (الكتاب) سجلاًّ حافلاً لآراء الخليل في النّحو والصرف؛ وافقه سيبويه في معظم ماحكاه، أو سأله عنه، وخالفه في بعضٍ منها، إلاّ أنّ الخلاف بينهما فرعٌ، والاتفاق هو الأصل في معظم المسائل.
ثالثاً: اختلف الخليل مع سيبويه في النّسب إلى (ظَبْيةٍ، ودُمْيةٍ، وفِتْيةٍ) ، فسيبويه ينسب إليها بدون تغييرٍ، والخليل يجيز الوجهين: ماذهب إليه سيبويه، ويجيز مذهب يُونُس وهو إبدال الياء واواً، وهو مذهب الجمهور.
رابعاً: أجاز سيبويه في النّسب إلى "رَايةٍ" ثلاثة أوجهٍ، وأجاز الخليل فيها قلب الياء همزة، وهو الأجود، وعليه الجمهور.
خامساً: اختلف الخليل مع أبي عمروٍ وسيبويه في الهمزتين المتحركتين إذا اجتمعتا في كلمتين، فالخليل يرى تحقيق الأولى وحذف الثانية، أما أبو عمروٍ فيرى عكس الخليل، وذهب سيبويه إلى جواز الوجهين، ورجّح المبرد مذهب الخليل.
سادساً: ذهب الخليل إلى أنّ النّبر دون الهمز، وذهب سيبويه إلى أنّهما مترادفان أي: كلاهما بمعنى واحدٍ، وهو الراجح، وهو قول الجمهور.
سابعاً: اختلف سيبويه مع الخليل في "خطايا" ونحوها، فذهب الخليل إلى القول بالقلب المكانيّ فيها؛ لأنّ تركه يؤدي إلى اجتماع همزتين.(11/393)
وذهب سيبويه – وهو قول الجمهور – إلى عدم ارتكاب القلب الذي هو خلاف الأصل.
ثامناً: اختلف سيبويه مع الخليل في اسم الفاعل من الفعل الثلاثي الأجوف المهموز اللام، فذهب سيبويه إلى الحذف وعدم القلب، وذهب الخليل إلى تقديم اللام على العين.
تاسعاً: اختلف الخليل وسيبويه في جمع اسم الفاعل، نحو "جائية" على "فواعل"، فذهب الخليل إلى القلب المكانيّ فيها، والراجح وهو مذهب سيبويه عدم القلب.
عاشراً: ذهب الخليل إلى أنّ القلب المكانيّ قياسيٌّ في ثلاث صورٍ، وخالفه سيبويه ومن تابعه؛ كما أن الكوفيين توسّعوا في القلب، وردَّ البصريون عليهم؛ كما أنّ ابن دُرستويه أنكر القلب المكانيّ وجعله لغة أخرى ولم يوافقه العلماء على ذلك؛ كما أنّ ابن فارس نفى وجود القلب في القرآن الكريم، وأثبته غيره.
حادي عشر: ذهب سيبويه، وأيّده جماعة من النّحويين واللُّغويين إلى أنّه لايوجد تداخُلٌ في اللّغات، وماورد من الأفعال يخالف القياس فهو شاذٌّ.
أما الخليل ومن تبعه – وهو الصّواب – فيرون ماجاء على خلاف القياس، إنّما هو لغاتٌ تداخلت فتركّبت.
ثاني عشر: اختلف سيبويه والخليل في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه، فذهب سيبويه إلى أنّها في النصب بدلٌ من التنوين وفي غيره بدلٌ من لام الكلمة، وهو المشهور عنه، أما الخليل فيرى أنّها الألف المنقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث وهو الراجح؛ لأنّه قول جمهور العلماء.
ثالث عشر: ذهب يُونُس وسيبويه إلى أنّه يوقف بحذف الياء على المنادى المنقوص غير المنوّن، وذهب الخليل إلى أنّه يوقف عليه بإثبات الياء، وهو اختيار جماعة من النّحويين؛ لأنّه أقيس وأجود.
رابع عشر: اختلف الخليل ويونس وسيبويه في الحرف الزائد في مضعف العين، نحو "قطّع"، ومضعف اللام، نحو "جلبب"، فذهب الخليل إلى أنّه الأول، وذهب يونس وسيبويه إلى أنّه الثاني، قال سيبويه وكلا: القولين صوابٌ ومذهبٌ.(11/394)
خامس عشر: ذهب الخليل إلى أنّ مخارج الحروف سبعة عشر مخرجاً وذلك بإثبات مخرج الحروف الجوفية، وذهب سيبويه – وهو الراجح – إلى أنّها ستة عشر مخرجاً، وذلك بإسقاط مخرج الحروف الجوفية، وتوزيعها على مخارجها.
سادس عشر: اختلف الخليل وسيبويه في ترتيب مخارج الحروف، والرّاجح هو مذهب سيبويه، وبه قال الجمهور من القُرّاء والنّحويين.
سابع عشر: اختلف سيبويه مع الخليل في الترتيب الداخلي لحروف بعض المخارج، والصّواب ماذهب إليه سيبويه، وهو مذهب جمهور القُرّاء والنّحويين.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين(11/395)
قضايا لن في النحو العربي
د/إبراهيم بن سليمان البعيمي
الجامعة الإسلامية / كلية اللغة العربيه
ملخص البحث
البحث يتناول بالدرس المسائل النحوية المتعلقة ب (لن) من حيث القول ببساطتها أو تركبها، وكذلك القول بأصالة نونها أو إبدالها من الألف، ودرس البحث أحكام لن من حيث معاقبلة لن ل (لم) في الجزم، وإفادة لن الدعاء، والفصل بين لن ومعمولها، وتلقي القسم بها، ثم درس البحث معاني لن في إفادتها التوكيد أو التأييد، ومدة زمن النفي بلن.
وكان يشيع عند بعض النحاة أن الزمخشري هو أول من قال بأن لن تفيد توكيد النفي، بناء على ما يفهم من عبارات ابن هشام في كتبه النحوية التي يقول فيها (لن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا يقتضي تأييداً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه) ، والباحث أوضح أن أول من قال بإفادة لن توكيد النفي هو الخليل بن أحمد في العين.
وكذلك شاع عند طلبة العلم أن الزمخشري هو أول من قال بتأييد النفي بلن، بناء على عبارة ابن مالك في شرح الكافية، والباحث أبان أن المعتزلة قبل الزمخشري بزمن طويل بقولون بتأييد النفي بلن ونقل نصوصاً من كتبهم.
نتائج البحث:
درس الباحث كثيراً من الشواهد النحوية، ورجح في بعضها رواية غير النحاة المبنية على سلامة المعنى.
أشار إلى أن الخليل هو أول من قال بتأكيد النفي بلن.
أوضح أن المعتزلة في القرن الرابع الهجري كانوا يقولون بتأييد النفي بلن.
تمهيد:(11/396)
الحمد لله رب العالمين الذي شرّف اللغة العربية بالقرآن فأنزل بها أفضل كتبه، وأرسل من أبنائها أشرف رسله، وجعل على المسلمين تعلُّمَها فرضاً كفائياً، وأصلي وأسلم على نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد ولد آدم قاطبة، وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، حملوا الأمانة وأدوا الرسالة ونصحوا الأمة اللهم ارض عنهم أجمعين، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه واعصمنا اللهم من مضلات الفتن 0
أما بعد: فأن في اللغة العربية مسائلَ دقيقة تحتاج إلى إيضاح وتتبع لقضاياها وتبيان لوجه الحق فيها حتى يظهر جلياً للعيان، دون التباس أو غموض في تلك القضايا، وهي كثيرة مبثوثة في بطون أمَّات الكتب، ومن هذه المسائل الدقيقة: قضايا ((لن)) في مبناها ومعناها؛ إذ يشيع الخلاف فيها بين الزمخشري ومعارضيه، في إفادتها تأكيد النفي كما صرّح به الزمخشري في كتبه كالكشاف والمفصل وفي بعض نسخ الأنموذج، أو في إفادتها تأبيد النفي كما نسب إليه في الأنموذج، وقد كان شيخي الأستاذ الدكتور أحمد عبد اللاه هاشم كتب رسالة سمّاها (قضية لن بين الزمخشري والنحويين) نشرها في مصر عام 1399هـ في دار التوفيقية، ردَّ فيها على من اتَّهم الزمخشري بالقول بتأبيد النفي بلن، واستدل على ما ذهب إليه بأدلة ذكرها في تلك الرسالة مُفادها أن الزمخشري لم يقل بتأبيد النفي بلن، وإنما هو شيء تصحَّف على بعض نسَّاخ الأنموذج إذ تلتبس كتابة (تأبيد) ب (تأكيد) في المخطوطات القديمة، فالكلمتان بينهما جناس لاحق، ولا سيما إذا ظُنَّ أن شرطة الكاف فتحة على الباء، فحمل القومُ قولَه على الأسوأ بسبب معتقده الاعتزالي في قضية رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، ولمواقفه المتشددة في مسائل الاعتزال وتشدده في الانتصار لهذه الفرقة الضالة ووسمه أهل السنة والجماعة بالحُمُرِ المُوْكَفَةِ في قوله (1)
__________
(1) ينظر الكشاف: 2/116، وسيأتي في الرسالة مزيد إيضاح لموقف الزمخشري، ومواقف خصومه منه 0(11/397)
:
لجماعة سمَّوا هواهم سُنَّةً وجماعةٌ حُمْرٌ لعمري مُوكَفَهْ
قد شبَّهوه بخلقه وتخوَّفوا شنع الورى فتستروا بالبَلْكَفَهْ
ومراده بالبلكفة هو قول أهل السنة والجماعة (صفات الله نؤمن بها ونمرُّها كما جاءت بلا كيف) ، وكان يدعو إلى مذهبه الاعتزالي فيقول لمن يأخذله الأذن عند أبواب من يزورهم قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب 0
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ونسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وترينا الباطل باطلا وتوفقنا لاجتنابه، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كما نسألك أن ترزقنا رؤيتك يوم القيام لا نضام في ذلك كما نرى البدر ليلة تمامه0(11/398)
ولكن ظهرت بعد رسالة (قضايا لن) كتب في النحو واللغة والتفسير وهي مهمة جداً، يتغيّر بسببها كثير من الأحكام التي أصدرها الدكتور أحمد هاشم فلهذا رأيت أن أعيد النظر والكتابة في هذه القضية على حسب ما استجد فيها، وأحببت أن يكون الموضوع مستوفياً جميع قضاياها في المبنى والمعنى، متضمناً كلَّ مسائلها، شاملاً ما قيل فيها من النزاع والخلاف، محتوياً جميع مسائلها ومشاكلها في ذاتها وفي معناها وألا ينحصر البحث في قضيّتي التأكيد والتأبيد، ولست أدعي أن القارئ سيرى في هذا البحث مالم يره أحد من قبل، أو أنني جئت بشيء غير مسبوق ولكنني أقول: استطعت في هذا البحث تصحيح نسبة القول بتأكيد النفي بلن للخليل بن أحمد -رحمه الله -وليس للزمخشري كما هو متداول في كتب حروف المعاني، وكتب كثير من النحاة منهم ابن هشام الذي دأب في كتبه على مخالفة الزمخشري في قضية توكيد النفي بلن، وكتب ابن هشام تدرّس في الجامعات السعودية، كما توصَّلت إلى أن القول بتأبيد النفي بلن كان معروفاً قبل ميلاد الزمخشري بزمن بعيد، وذكرت أن الزمخشري ما هو إلا حاكٍ لأقوال من تقدمه سواء في ذلك تأكيد النفي بلن أو تأبيده، كما رجّحت نسبة القول بتأبيد النفي بلن للزمخشري -خلافاً لشيخي الدكتور أحمد هاشم-، كما جمعت في مكان واحد ما تشتت في بطون أمَّات الكتب النحوية، ولممت شمل الأسرة الواحدة التي كانت متفرقة من قبل في كتب النحو وكتب حروف المعاني وكتب التفسير وكتب المعاجم، وحسبي الجمع والترتيب والتنسيق، وجعلت البحث في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: دراسة مبنى لن
وفق المباحث التالية
المبحث الأول: لن بسيطة أومركبة
وانتظم المطالب التالية:
المطلب الأول: رأي الخليل بن أحمد
المطلب الثاني: رأي المعارضين له،
المطلب الثالث: رأي المنتصرين له
المبحث الثاني: نون لن أصيلة أومبدلة
الفصل الثاني: أحكام لن
المبحث الأول معاقبة لن ل (لم) في الجزم 0(11/399)
المبحث الثاني: إفادة لن الدعاء
المبحث الثالث: الفصل بين لن ومعمولها 0
المبحث الرابع: تلقي القسم بلن
والفصل الثالث: معانى لن
واحتوى المباحث التالية
المبحث الأول: تأكيد النفي بلن:
وشمل المطالب التالية:
المطلب الأول: رأي الزمخشري 0
المطلب الثاني: رأي المخالفين له 0
المطلب الثالث: رأي المؤيدين له
المبحث الثاني: لن الزمخشرية
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: القول بتأبيد النفي بلن
المطلب الثاني رأي الزمخشري
المطلب الثالث: رأي المعارضين له
المبحث الثالث: لن عند أصحاب المعاني
وأسأل الله لي ولأخواني المسلمين الثبات على الحق وحسن الختام، والعصمة من الضلال بعد الهدي، والتوفيق والسداد في الدارين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 0
الفصل الأول: مبنى لن
المبحث الأول: لن بسيطة أو مركبة 0
واشتمل على المطالب التالية
المطلب الأول: رأي الخليل
روي عن الخليل بن أحمد في لن روايتان الأولى (1) ليست مشهورة عنه وهي: موافقة الجمهور في القول ببساطة لن 0
__________
(1) ... ينظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/160، وشرح السيرافي: 1/81، وتهذيب اللغة: 15/332، وتفسير أبي السعود الحنفي:1/117 0(11/400)
والرواية الأخرى (1) عن الخليل هي المشهورة عنه عند النحاة، ووافقه عليها الكسائي (2) ، والخازنجي (3) وهي القول بتركب لن من حرفين (لا) النافية، و (أن) المصدرية، ثم حذفت الهمزة من (أن) إمّا تخفيفاً، أو اعتباطاً فالتقى ساكنان: الألف، والنون؛ فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فآلت إلى (لن) ويرى الرضي (4) أنها جاءت على الأصل في قول الشاعر:
__________
(1) ينظر رأي الخليل في العين: 8/350، والكتاب 3/5، والمقتضب: 2/8، والأصول:2/147، ومعاني القرآن للزجاج: 1/161، والمسائل الحلبيات: 45، معاني الحروف للرماني: 100، والصاحبي: 256 0
(2) ينظر رأي الكسائي في معاني القرآن للزجاج:1/161، وشرح التسهيل لابن مالك:4/15، والجنى الداني: 271، ومغني اللبيب: 374 0
(3) هو أحمد بن محمد البُشْتي أبوحامد إمام في اللغة والأدب له كتاب التكملة، وهو معجم أكمل به ما فات صاحب العين، توفي سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة من الهجرة 0
تنظر ترجمته في: إنباه الرواة: 1/142 وفي هامشه مزيدٌ من المراجع التي ترجمت له، وينظر رأيه في التصريح 4/288 0
(4) ... شرح الكافية: 4/38 0(11/401)
يُرَجِّي المرءُ ما لا أنْ يُلاقي وتَعْرضُ دون أدناه الخطوبُ (1)
إذ المراد ما لن يلاقي
ورُدَّ عليه بأن البيت مروي ب (ما إنْ لا يلاقي) بتقديم (إن) وكسر همزتها على لا وبه يزول الشاهد
وذهب الشَّلَوْبينُ (2) إلى أن الحامل للخليل على القول بالتركيب إنما هو إرادة تقليل الأصول العاملة في الأفعال ما أمكن لتكون عوامل نصب المضارع عنده أداةً واحدة فقط هي (أن) إذ يرى الخليل أن (لن) مركبة من (لا أن) و (إذن) مركبة من (إذ أن) و (كي) ليست ناصبة بنفسها بل المضارع بعدها منصوب بأن مضمرة فلم يبق إلا (أن) وحدها تنصب المضارع 0
واجتمع للمضارع في (لن) ما افترق في لا أن النفي والنصب؛ إذ إنّ (لا) نافية غير ناصبة للمضارع، و (أن) ناصبة غير نافية
__________
(1) ... البيت من الوافر وهو منسوب، لجابر بن رألان الطائي في نوادر أبي زيد: 264 ضمن ثلاثة أبيات كما نسب لإياس بن الأرت في الخزانة 8/445، والرواية المثبتة من شرح الكافية للرضي 4/39، ووافقه عليها صاحب التصريح:4/289، ورواية أبي زيد (ما إن لا يلاقي) بتقديم إن وكسر همزتها على لا النافية، وبها يزول الشاهد، وقال الأخفش في شرح نوادر أبي زيد: ((قال أبو الحسن:قوله يرجي العبد ما إن لا يلاقي غلط، والصواب ما أن لا يلاقي، وأن زائدة 000 ورواية أبي حاتم ما لا أن يلاقي رواية صحيحة؛ لأن لا في النفي بمنزلة ما وإن كانت إن ليست تكاد تزاد بعد لا)) فالرواية عنده بفتح همزة (أن) ، وجاء في الخزانة 8/ 442: ((ورواية أبي حاتم: ما لا إن يلاقي صحيحة)) 0بكسر همزة (إن) ، وخطَّأ البغداديُّ رواية الرضي 0
(2) البيت في كشاف الزمخشري 3/ 525، والجنى الداني 210، ومغني اللبيب:38
() ... ينظر شرح المقدمة الجزولية 473 0(11/402)
قال سيبويه عن (لن) : ((فأما الخليل فزعم أنها لا أن، ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: وَيْلِمِّه يريدون وي لأمه، وكما قالوا يومئذٍ وجعلت بمنزلة حرف واحد كما جعلوا هلاَّ بمنزلة حرف واحد فإنما هي هل ولا، وأما غيره فزعم أنه ليس في لن زيادة، وليست من كلمتين، ولكنها بمنزلة شيء على حرفين ليست فيه زيادة، وأنها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم في أنه ليس واحد من الحرفين زائداً، ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أمَّا زيداً فلن أضرب؛ لأن هذا اسم والفعل صلة فكأنة قال: أمَّا زيداً فلا الضرب له)) (1)
المطلب الثاني: رأي المعا رضين له
اُعتُرِض على الخليل باعتراضات عدة؛ فاعتَرَض سيبويه عليه بأنه يجوز أن يتقدم عليها معمول فعلها نحو:أما زيداً فلن أضرب، فلو كانت مركبة من لا وأن لما جاز أن يتقدم معمول فعلها عليها لأن (أن) لها الصدارة، وما كان له الصدارة فلا يتقدم عليه شيء من معمولات جملته، وتقدُّمُ معمول فعل لن عليها دليل على عدم تركبها 0
كما اُعْتُرِضَ (2) عليه بأن نحو لن يقوم زيد كلام تام، لا يحتاج إلى تقدير، ولو كانت مركبة من لا وأن لكان الكلام ناقصاً لأن المصدر المنسبك حينئذٍ من أن المصدرية والفعل يعرب مبتدأ يحتاج إلى خبر مقدّر، وجملة لن يقوم زيد كلام تام ليس محتاجاً إلى تقدير، وهذا دليل على بساطة لن 0
كما اُعتُرض (3) عليه بأن (لاأن) لم يُسمَع من العرب في نظم أو نثر، فلو كان أصلها (لا أن) لسمع ذلك منهم في المنظوم أو المنثور، ويمكن الإجابة عن الشاهد السابق: بأن الرواية الراجحة فيه هي (ما إن لا يلاقي) بتقديم (إن) وكسر همزتها على (لا) النافية 0
__________
(1) الكتاب: 3/5 0
(2) ينظر هذا الاعتراض في نُكت الأعلم: 692
(3) ينظر شرح السيرافي: 1/ 82(11/403)
كما اُعْتُرض (1) على الخليل بأن الأصل في الكلمات البساطة، والتركُّب فرع عنها، ولا يعدل عن هذا الأصل إلابثَبَتٍ قاطع 0
كما اُعْتُرض (2) عليه بأن لفظ (لنْ) ليس موافقاً للفظ (لاأن) ولا معناها كمعناها
المطلب الثالث: رأي المنتصرين له
انتصر المازنيُّ (3) للخليل في الاعتراض الأول بأن الحروف إذا رُكِّبت حصل لها من الاختصاص ما لم يكن لها قبلُ ألا ترى أن الحرف (لو) حرف امتناع لامتناع فإذا تركَّب مع (لا) صار حرف امتناع لوجود
وأجاب المبرد (4) عن الاعتراض الثاني بأن الخبر محذوف ملتزم الحذف تقديره: (لا أن تقوم حاصل) أي لا القيام حاصل 0
ولكن يَرُدُّ هذا التوجيه أمران:
أ- أن العطف على فاعل مدخول لن جائز دونما تكرار (لا) نحو: لن يقوم زيد وعمرو ولو كانت (لن) أصلها (لاأن) ومنفيها كما يقولون مؤول بالمفرد لوجب تكرار الجملة الاسمية المنفية ب (لا، أن) كما في قوله تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ((5) وقوله تعالى (ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ((6)
وقول الشاعر:
فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها ولا الضيفُ عنها إنْ أناخ محوّلُ (7)
__________
(1) ينظر هذا الاعتراض في علل النحو للوراق: 193، والجنى الداني: 271 0
(2) ينظر نُكت الأعلم: 692 0
(3) ينظر رأيه في المقتصد للجرجاني: 1050
(4) ينظر الارتشاف: 1643، والجنى الداني: 271، والمغني: 374
(5) يس: 40
(6) الكافرون:3 4 0
(7) البيت من الطويل وهو للنمر بن تولب في ديوانه المجموع: 373، وجمهرة أشعار العرب: 534، وفي منتهى الطلب: 1/ 275، وهو من شواهد ابن هشام في المغني 325 0
والضمير في لها يعود لإبل الشاعر، وتلحى تذمّ، ورواية منتهى الطلب ولا الضيف فيها، وبها أخذ جامع ديوانه، يقول: إن إبله لا تذمها جاراته لأنهن لا يمنعن عنها، ولا يتحول ضيفهم إلى سواهم لانتفاعه بألبانها، والنحاة يستشهدون بالبيت في توكيد المضارع بعد لا النافية والجملة بعدها خبرية لا إنشائية 0(11/404)
وقول الآخر:
سُئلت فلم تبخل ولم تعط طائلاً فسيَّان لا ذمٌّ عليك ولا حمدُ (1)
وقول الشاعر:
إذا الجودُ لم يُرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمدُ مكسوباً ولا المالُ باقيا (2)
ب- لو كانت لن مع مدخولها في تأويل مفرد كما قيل لظهر الخبر في شعر العرب أو نثرهم ولو في بيت نادر أو قول محكي، فلما لم يسمع من العرب مثل هذا دلَّ على أن لن مع مدخولها كلام تام لا يحتاج إلى تأويل، وهذا يؤكد عدم التركيب من لا النافية وأن المصدرية 0
وأجيب (3) عن الاعتراض الثالث بأن المحذوف عند العرب قسمان: قسم يجوز استعمال الأصل فيه كما في قول العرب أيُّ شيء؟ ويلٌ لأمه، كما يجوز استعمال الفرع أيضاً نحو: أيْشٍ؟ ويلمِّه، وقسم متروكٌ استعمالُ الأصل فيه كانتصاب المضارع بعد فاء السببية إذ لم يسمع من العرب إظهار أن بعدها 0
المبحث الثاني: نون لن أصيلة أو مبدلة:
روى ابنُ كَيْسانَ عن الفراء (4) أن لن ولم أصلهما لا فأبدلت الألف نوناً في لن وميماً في لم قال السيرافي: ((وزعم الفراء أن لن ولم أصلهما واحد، وأن الميم والنون مبدلتان من الألف في لا، وهذا ادعاء شيء لا نعلم فيه دليلاً، فيقال للمحتج عنه، ما الدليل على ما قلت؟ فلا يجد سبيلاً إلى ذلك)) (5)
__________
(1) البيت من الطويل وهوللحطيئة في ديوانه: 268، والشعر والشعراء: 324، والأغاني: 2/140، والتذكرة الحمدونية:8/306
(2) البيت من الطويل وهو للمتنبي في ديوانه:4/ 531، ضمن إحدى كافورياته، وفيه تعريض مُرٌّ بسيف الدولة، والمتنبي لا يستشهد بشعره ولكن يتمثل به 0
(3) شرح السيرافي: 1/82
(4) ينظر رأيه في شرح السيرافي: 1/ 83، وشرح المفصل لابن يعيش: 7/16، وشرح التسهيل: 4/15، والارتشاف: 4/1643 0
(5) شرح السيرافي: 1/83 0(11/405)
وقال ابن يعيش: ((وكان الفراء يذهب إلى أن الأصل في (لن) و (لم) لا، وإنما أُبدل من ألف لا النون في لن والميم في لم؛ ولا أدري كيف اطَّلع على ذلك؛ إذ ذلك شيء لا يطلع عليه إلا بنص من الواضع)) (1)
وقال في موضع آخر عن لن: ((وكان الفراء يذهب إلى أنها لا والنون فيها بدل من الألف وهو خلاف الظاهر، ونوع من علم الغيب)) (2)
واعترض (3) على الفراء بأن إبدال الألف نوناً خلاف الأصل، وحمْلٌ على ما لا نظير له في العربية إذ الأصل إبدال النون ألفاً كإبدال نون التوكيد الخفيفة ألفاً حال الوقف عليها كما في قوله تعالى: (القيا في جنهم كلّ كفّار عنيد ((4) ،قيل الخطاب لمالك -عليه السلام - خازن النار وهو واحد، وقيل الخطاب للسائق والشهيد وعليه فلا شاهد في الآية وكقول الشاعر:
وذا النُّصُب المنصوب لا تنسكنّه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وصلِّ على حين العشيّات والضحى ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا (5)
إذ الأصل: فاعبدن، واحمدن بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفاً مراعاة للقوافي المطلقة، وقول الآخر
يحسبه الجاهل ما لم يعلما شيخاً على كرسيه معمما (6)
أي ما لم يعلمن، ومثله قول الآخر:
__________
(1) شرح المفصل: 7/16 0
(2) المرجع السابق: 8/112 0
(3) تنظر الاعتراضات على الفراء في رصف المباني:272، ومغني اللبيب:373، ومصابيح المغاني: 422، والمنصف من الكلام على مغني ابن هشام للشمني2/68، والتصريح:4/287، وهمع الهوامع: 4/94 0
(4) ق: 24 0
(5) البيتان من الطويل وهما للأعشى ميمون بن قيس في ديوانه: 187 0
(6) بيتان من مشطور الرجز مضطربا النسبة إذ نسبا لأبي حيان الفقعسي، ولمساور ابن هند العبسي وللعجاج السعدي وللدبيري، ولعبدٍ من بني عبس، ولأبي حبابة اللص، وهما في وصف الثُّمال أي رغوة اللبن الذي تعلوه 0
ينظر في ذلك: الكتاب: 3/516، ونوادر أبي زيد:164، والأصول لابن السراج:2/172(11/406)
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى (1)
أي لم تصبرن، وأمثال هذا كثير جداً في العربية 0
وكذلك اعترض عليه بأن إبدال النون ألفاً إنما هو في حال الوقف، فإذا وصل الكلام صحّت النون، ولن لا يوقف عليها بل لا بدّ من وصلها بما بعدها ولا يجوز قطعها مما يبطل القياس 0
وكذلك اعترض عليه بأن مذهبه خلاف قواعد التصريف ومفارق لسنن العربية في الانتقال من الثقيل إلى الخفيف إذ النون مقطع، والألف صوت، والصوت أخف من المقطع، فلا ينتقل من الخفيف إلى الثقيل، ومذهبه يؤدي إلى هذا
واعترض عليه أيضاً بأن الحرف لا حرف مهمل، ولن حرف عامل فكيف يحمل الحرف العامل على حرف مهمل
الفصل الثاني: أحكام لن
المبحث الأول: معاقبة لن ل (لم) في الجزم:
ذهبت طائفة من العلماء إلى أن لن عاقبت لم في الجزم، وأن ذلك لغة لبعض العرب، فيما رواه أبو عبيدة (2) -وهو من النوادر- وساقوا على ذلك طائفة من الشواهد منها قول الشاعر:
__________
(1) البيت مطلع قصيدة عضدية من الكامل وهوللمتنبي في ديوانه: 2/ 160، وقد نوقش المتنبي في موضع الشاهد فقال سلوا الشارح يعني ابن جني: ينظر الصبح المنبي عن حيثية المتنبي: 147 0
(2) ينظر قوله في إعراب القرآن للنحاس:1/200، والمخصص: 14/45، والارتشاف: 1643 0(11/407)
أيادي سبا يا عزَّ ما كنت بعدكم فلن يَحْلَ للعينين بعدكِ منظر (1)
ومنها قول الشاعر:
هذا الثناء فإن تسمع به حسناً فلن أعرِّضْ أبيت اللعن بالصفد (2)
وقول أعرابي في مدح الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما:
لن يخب الآن مِنْ رجائك مِنْ حرَّك من دون بابك الحلقه (3)
__________
(1) البيت من الطويل وهو لكثير عزة في ديوانه: 328، والرواية فيه فلم يَحْلَ، وهي المتفقة مع رواية الفراء في المنقوص والممدود: 36، وأبي علي القالي في المقصور والممدود: 274، والزمخشري في المستقصى: 2/90، وعليها فلا شاهد في البيت، والرواية المثبتة من المغني: 375، وروي منزل بدل منظر في ديوانه:254، واللسان والتاج (سبأ) 0والفعل يحلى من باب فرح، يقال حَلِيَ بقلبي وبعيني يَحْلَى وحَلا الشيءُ في فمي يَحْلُو من باب نصر ويقال في الوصف من الفعلين هو حُلْوٌ ينظر المحكم:4/3 0
(2) البيت من البسيط للنابغة الذبياني في ديوانه: 27، والرواية فيه فلم أعرِّض، وفي تفسير الطبري: 13/255، وشرح القصائد التسع المشهورات للنحاس: 2/765، وشرح القصائد العشر للتبريزي 465: (فما عَرَضْتُ) ، وأشارالأخيران إلى رواية الديوان (فلم أعرِّض) ، وعليها فلا شاهد في البيت، والرواية المثبتة في تفسير القرطبي:1/163، والفريد في إعراب القرآن المجيد: 1/249، والدر المصون:1/204، ومصابيح المغاني في حروف المعاني: 424 0
والصفد: بفتحتين: اسم مصدر من أَصْفَدْتُ الرجل أُصْفِدُهُ إصفاداً، وهو العطاء جزاءً، قال الأصمعي: ((لا يكون الصَّفَد ابتداء إنما هو بمنزلة المكافأة)) شرح القصائد التسع للنحاس:766 0
(3) بيت من المنسرح في مدح الحسين بن عليٍّ رضي الله تعالى عنهما، وهو في مغني اللبيب: 375، وهمع الهوامع:4/97، والأشموني: 3/278 0
وللبيت قصة مذكورة في شرح شواهد المغني: 688، وشرح أبيات المغني: 5/161 0(11/408)
ومنها ما رواه الإمام القرطبي في تفسيره (1) ، وابن مالك (2) ، من قول الملَك في النوم لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ((لن ترع لن ترع)) (3) بجزم المضارع بلن قال ابن مالك: ((وفي لن ترع لن ترع إشكال ظاهر؛ لأن لن يجب انتصاب الفعل بها، وقد وليها في هذا الكلام بصورة المجزوم 000 ويجوز أن يكون السكون سكون جزم على لغة من يجزم بلن، وهي لغة حكاها الكسائي)) (4)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن:1/163 0
(2) شواهد التوضيح والتصحيح: 158 0
(3) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع بروايتين الأولى: (لم ترع) في كتاب التهجد باب فضل قيام الليل والثانية (لن تراع) في كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 0
وقال ابن حجر في الفتح:3/10: ((وفي رواية الكشميهني في التعبير:لن تراع وهي رواية الجمهور بإثبات الألف، ووقع في رواية القابسي: لن ترع بحذف الألف قال ابن التين وهي لغة قليلة -أي الجزم بلن- حتى قال القزاز: لا أعلم له شاهداً))
وذكر العيني في عمدة القاري: 6/174 رواية الكشميهني ولم يشر إلى رواية القابسي
وعلّق محمد فؤاد عبد الباقي على رواية ابن مالك بقوله: (فمن أين جاءت رواية لن ترع)
فقول محمد فؤاد عبد الباقي: ((من أين جاءت رواية لن ترع)) أقول: هي من رواية القابسي كما أشار إليها ابن حجر-رحمه الله - ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وابن مالك -رحمه الله- إمام في الحفظ وآية في باب الشواهد 0
(4) شواهد التوضيح والتصحيح: 160 0(11/409)
وبتمحيص هذه الشواهد التي ساقوها دليلاً على ما ذهبوا إليه نجد أن بيت كثيِّر مرويٌّ في جلّ المصادر ب (لم يَحْلَ) وهي رواية أحسن في المعنى؛ لأنه يشكو لعزة حاله فيما مضى بعد فراقها إياه وأنه كان مشتتاً كأيادي سبا، ولم يَحْلَ له منظر منذ ذلك الفراق، وهذا المعنى عذب في عرف المتصافين، دالٌّ على ثبات الود، و (لم يحلَ) هي المتسقة مع هذا المعنى لإحالتها زمن المضارع للمضي، أما رواية (لن يحلَ) فهي غير متسقة مع المعنى؛ لأن فيها إقراراً بأنه قد حلي له فيما مضى منظر، وكأنها تعاتبه على ذلك، وهو يأسف على ما بدر منه، ويؤكد لها أنه فيما بعدُ لن يَحْلَى له بعدها منظر إنْ هي سامحته0
وكذلك بيت النابغة (لن أُعَرِّضْ) مرويٌّ في المصادر القديمة ب (فلم أُعرِّضْ) ،أو (فما عَرَضْتُ) ، ورواية (لم أعرّض) وكذلك (فما عرَّضت) أقوى في المعنى من رواية (فلن أعرِّض) لأن الرجل ينفي عن نفسه تهمةً رُمِيَ بها عند النعمان في شأن المتجرّدة، وينكر تلك التهمة من أساسها، ورواية (لن أعرِّضْ) فيها إقرار منه بما رُمي به، ومعاهدةٌ بعدم العود مستقبلاً، وفرق شاسع بين نافٍ ما اتهم به، ومقرٍّ معترف معتذر معاهد بعدم العود 0
أما بيت الأعرابي في مدح الحسين رضي الله عنهما فقال عنه البغدادي: ((البيت أنشده أبو الحسين بن الطراوة، وأقول: كيف يصح اجتماع لن مع الآن، ولا يصح ذكر الآن إلا مع لم، فإن قلت اجعل الخيبة المقيَّدة بالآن منفية بالمستقبل قلت: الخيبة المنفية إنما هي المقيدة بالآن 000 قال البَطَلْيَوْسي: وجزم الأعرابي بلن، وذكر اللِّحياني أن ذلك لغة لبعض العرب يجزمون بالنواصب، وينصبون بالجوازم)) (1)
والرواية المشهورة لحديث ابن عمر هي (لم ترع لم ترع) ، ولكن رواية (لن ترع لن ترع) أحسن من حيث المعنى فقط؛ لأن فيها بشارةً لابن عمر رضي الله عنهما بأنه لن يراع في قادم الأيام 0
__________
(1) شرح أبيات المغني: 5/161 0(11/410)
وعلى هذا فالجزم بلن لغةٌ لبعض العرب كما ذكر اللِّحياني (1) ، ولكنها لغة ضعيفة، لا ترقى لأن تتخذ قاعدة، وشواهدها لم تسلم من الاعتراض عليها كما رأينا 0
كما لا يمكن من خلال الشواهد التي سيقت عزوها لقبيلة بعينها، لأن الشاهد الأول لخزاعي، والثاني لغطفاني، والثالث لأعرابي دون تخصيص، والرابع لقرشي 0
قال السهيلي عن لن: ((كان ينبغي أن تكون جازمة؛ لأنها حرف نفي مختص بالأفعال، فوجب أن يكون إعرابه الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنىكما تقدم في باب الإعراب)) (2)
المبحث الثاني: إفادة لن الدعاء:
لايُعرف خلاف بين النحاة في جواز الدعاء ب (لا) النافية على المخاطب، أوعلىالغائب، أما الدعاء على النفس فقد منعه طائفة من النحاة منهم أبو حيان (3) ، وأجازه ابن عصفور، وابن هشام واستدلَّ الأخير بقول الشاعر:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل تُ لكم خالداً خلود الجبال
بضمير المتكلم في (زلتُ) وبضمير المخاطب في (لكم) وستأتي مناقشة هذا البيت
أما الدعاء ب (لن) فمحل نزاع عند النحاة؛ إذ نقل ابن السراج عن قوم تجويزه فقال ((وقال قوم يجوز الدعاء بلن مثل قوله (فلن أكون ظهيراً للمجرمين ((4) وقال الشاعر:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل تَ لهم خالداً خلود الجبال (5)
والدعاء بلن غير معروف، إنما الأصل ما ذكرنا أن تجيء على لفظ الأمر والنهي، ولكنه قد يقصد بها الدعاء إذا دلّت الحال على ذلك)) (6)
وفسَّر من أجاز الدعاء بلن في الآية الكريمة بأن المعنى: (رب لا تجعلني أكون ظهيراً للمجرمين)
__________
(1) ينظر سفر السعادة: 565
(2) نتائج الفكر: 130 0
(3) ينظر رأيه في شرح أبيات المغني: 5/156 0
(4) القصص: 17 0
(5) البيت من الخفيف للأعشى وهوآخر بيت ضمن قصيدته التي يمدح فيها الأسود ابن المنذر اللخمي ومطلعها:
ما بكاء الكبير بالأطلال وسؤالي فهل ترد سؤالي
وهو في ديوانه 296 0
(6) الأصول: 2/171 0(11/411)
ووافقه على ذلك ابن عصفور (1) ، وابن هشام في المغني (2) ، وخالفه في التوضيح (3) وشرح القطر (4) ، وشرح اللمحة البدرية (5)
ومنعه أبو حيان (6) واحتجَّ بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب
ورد عليه ابن هشام (7) فزعم جواز إسناد فعل الدعاء إلى المتكلم، محتجاً بأن الشاعر عطف جملة (لازلتُ) وهي جملة إنشائية علىجملة لن تزالوا ولو كانت الأولى خبرية لما صح عطف الإنشائية عليها، وعنده إن جملة (لازلتُ لكم) بتاء المتكلم وكاف المخطاب، وهذه هي رواية بعض النحاة، ورواية الديوان (لا زلتَ لهم) بفتح التاء وضمير الغيبة، أي (لازلتَ) أيها الممدوح خالداً لهم خلود الجبال قال البغدادي: ((وقوله لن يزالوا إلى آخره بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع مَن ذَكر ممن قَتلوا وأَسروا وسَبوا ونَهبوا من الأعداء وممن غَزا معه وقَتل وغَنِمَ من الأولياء، وقوله ولازلتَ بالخطاب للمدوح، ولهم بضمير الغيبة، فظهر مما ذكر أن البيت قد روي في كتب النحو على خلاف الرواية الصحيحة)) (8)
وإليك هذا الشاهد الذي ورد فيه الدعاء على النفس اصطدته من كتب المعاجم 0
لا ذعرتُ السوَام في فلق الصب ح مغيراً ولا دُعيتُ يزيدا (9)
ويجوز أن يكون منه أيضاً قول النابغة:
ما قلتُ من سيِّء مما رميت به إذن فلا رفعت سوطي إليَّ يدي (10)
__________
(1) ينظر رأيه في الارتشاف: 1466 0
(2) مغني اللبيب: 373 0
(3) التصريح: 4/136 0
(4) شرح القطر:113 0
(5) شرح اللمحة:2/338 0
(6) ينظر رأيه في شرح أبيات المغني: 5/156 0
(7) ينظر مغني اللبيب: 375
(8) شرح أبيات المغني: 5/157 0
(9) البيت من الخفيف دون عزو في المحكم: 9/87، واللسان (زيد)
والسوامّ: هي الإبل الراعية يقال: إبل سائمة وسوام، وهي التي تترك في المرعى حيث شاءت، وذَعَرَها بمعنى أدخل فيها الذُّعْر والخوف وذلك بطردها والإغارة عليها 0
(10) البيت من البسيط في ديوانه: 25 0
وهو من اعتذاريات النابغة للنعمان بن المنذر مما رُمِيَ به في شأن المتجردة(11/412)
ويحتمله قول الآخر:
لا درَّ درِّي إن أطعمت نازلكم قِرْفَ الحَتِيِّ وعندي البُرُّ مكنوز (1)
المبحث الثالث: الفصل بين لن ومعمولها
الأصل في الإعمال للأفعال؛ فلهذا تعمل متقدمة، ومتأخرة، ومذكورة ومحذوفة، ومتصلة بمعمولاتها، ومفصولة عنها 0
أما الحروف فهي عوامل ضعيفة لاتعمل في متقدم أبداً، ولا يفصل بينها وبين ومعمولاتها بأجنبي في سعة الكلام، فإن فصل بينها وبين معمولاتها بأجنبي أهملت ك (إذن) الداخلة على المضارع نحو إذن زيد يكرمُك بإهمال إذن بسبب الفصل بالأجنبي0
ولن حرف ينصب المضارع بنفسه، ولا يعمل في متقدم أبداً إذ لا يقال يقومَ لن زيد، ولا يفصل بينه وبين معموله فلا يقال: لن زيدٌ يقومَ ولكن العرب يتوسعون في الظرف والجار والمجرور والقسم فيفصلون بهن بين الحرف ومعموله مع بقاء الإعمال سمع من العرب قولهم:
فلا تلحني فيها فإن بحبها أخاك مصاب القلب جَمٌّ بلابلُهْ (2)
إذ فصل بين إن واسمها وخبرها بالجار والمجرور الذي هو معمول الخبر، والأصل: فإن أخاك مصاب بحبها، كما سمع من العرب قولهم:
إذن والله نرميَهم بحرب تشيب الطفل من قبل المشيب (3)
__________
(1) البيت من البسيط للمتنخل الهذلي في أشعار الهذليين:1263، ولأبي ذؤيب في الحيوان: 5/285، وهو من شواهد سيبويه:2/89 0
والحَتِيّ: المُقْل وهو ثمر شجر الدَّوْم، وقِرْفُه: قشره، وكان العرب يجعلون من قشر المُقْلِ سويقاً، والشاعر هنا يذكر نزوله بقوم فلم يقروه، فقال البيت مفتخراً بالجود والكرم وأنه لن يبخل على أضيافه ولن يقدم لهم رديء الطعام والبر عنده موجود 0
(2) البيت من الطويل وهو من شواهد سيبويه غير المعزوة في الكتاب: 2/133، ولم ينسبه من أتى بعده، وأهمله د/رمضان عبد التواب في بحثه بحوث ومقالات في اللغة / أسطورة الأبيات الخمسين في كتب سيبويه،
(3) البيت من الوافر وهو لحسان بن ثابت في ملحق ديوانه: 371 0(11/413)
ففصل بين إذن ومعمولها بالقسم، وأعملها فنصبت نرميهم
وسمع من العرب في ضرورة الشعر قولهم:
لن ما رأيتُ أبا يزيد مقاتلاً أدعَ القتال وأشهدَ الهيجاء (1)
إذ المعنى لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً، ف (ما) مصدرية ظرفية تسبك مع ما بعدها بمصدر أي لن أدع القتال مدة رؤيتي أبا يزيد مقاتلاً قال ابن جني: ((وقد شُبِّه الجازم بالجارّ ففصل بينهما كما فصل بين الجارّ والمجرور؛ وأنشدنا لذي الرمة:
فأضحت مغانيها قفاراً رسومها كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهلِ (2)
وجاء هذا في ناصب الفعل 0أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول الشاعر:
لمَّا رأيت أبا يزيد مقاتلا أدعَ القتال 000
أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً، كما أراد الأول: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش، وكأنه شبّه لن بأنَّ فكما جاز الفصل بين أنّ واسمها بالظرف في نحو قولك:بلغني أنّ في الدار زيداً، كذلك شبَّه لن مع الضرورة بها ففصل بينها وبين منصوبها بالظرف الذي هو:ما رأيت أبا يزيد أي مدة رؤيتي)) (3)
وقال ابن عصفور فيما يخص ضرورة الفصل بين المتلازمين: ((ومنه الفصل بين الحروف التي لا يليها إلا الفعل في سعة الكلام وبين الفعل نحو قول الشاعر:
لن - ما رأيت أبا يزيد مقاتلا- أدعَ القتال وأشهدَ الهيجاء
يريد لن أدع القتال وأشهد الهيجاء ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً ففصل بين لن والفعل المتصل بها)) (4)
أما تقديم معمول فعلها عليها فجائز في السعة قال الشاعر:
__________
(1) البيت من الكامل دون عزو وهو في الخصائص:2/411، والمقرب: 1/262، ومغني اللبيب: 373 0
والفعل أدع: منصوب بلن أي لن أدع القتال، وأشهد منصوب بأن مضمرة جوازاً بعد واو العطف والمصدر معطوف على القتال والمعنى لن أدع القتال وشهود الهيحاء 0
(2) البيت من الطويل وهو في ديوانه: 1465 0، ورواية الديوان: مبانيها، بلادها
(3) الخصائص: 2/410 0
(4) الضرائر: 201 0(11/414)
مه عاذلي فهائماً لن أبرحا بمثل أو أحسن من شمس الضحى (1)
إذ قدم خبر أبرح على لن مع منفيها 0
وكان مما احتج به سيبويه على الخليل بعدم تركب لن من لا وأن قوله أما زيداً فلن أضرب، فقدم معمول فعلها عليها في السعة 0
المبحث الرابع: تلقي القسم بلن
العرب توقع المضارع المنفي في جواب القسم (2) ، والمشهور عندهم نفيه ب (لا) ،أو (إنْ) أو (ما) فمثال تلقي القسم ب (لا) النافية قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ((3)
وقول الشاعر:
لئن عاد لي عبدُ العزيز بمثلها وأمكنني منها إذن لا أقيلُها (4)
ومثال النفي ب (ما) قول الشاعر:
__________
(1) بيت من الرجز، أو هما بيتان من مشطوره، دون عزو في شواهد التوضيح: 103، والأشموني: 1/234، وحاشية الخضري: 2/110 0
ومه اسم فعل أمر مبني على السكون بمعنى اكفف، وعاذل منادى منصوب والياء مضاف إليه، والفاء استئنافية، هائماً خبر أبرح مقدم، وبمثل جارومجرور والمضاف إليه محذوف دل عليه اللاحق كما في نحو قطع الله يد ورجل من قالها، والجار والمجرور متعلق بأحسن
(2) ينظر في هذا المبحث:شرح الجمل لابن عصفور: 1/526، وشرح التسهيل لابن مالك: 3/206، وشرح الكافية للرضي: 4/312، والارتشاف: 4/ 1779 0
(3) النساء:65 0
(4) البيت من الطويل لكثيّر عزة في ديوانه: 305، وهو يدور في جل كتب النحو في باب إعراب الفعل في إلغاء إذن لتوسطها بين القسم وجوابه 0
ومن خبر هذا البيت أن كثيِّراً مدح عبد العزيز بن مروان بقصيدة أعجبته فقال له احتكم يا أبا صخر -وكان كثيِّرٌ محمَّقاً- فقال اجعلني مكان ابن رُمَّانة -كاتب سر عبد العزيز-، فغضب عليه عبد العزيز وطرده فندم كثيّر وقال قصيدة يعتذر فيها لعبد العزيز منها الشاهد 0
تنظر القصة في: البيان والتبيين: 2/241، والعقد الفريد: 3/8، والخزانة: 8/477 0(11/415)
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع (1)
ومثال النفي بإن قولك: والله إن يعلم بهذا إلا زيد، ولم أقف له على شاهد، ولكنّ النحاة يجيزونه (2)
ويجوز حذف النافي مع الفعل المضارع إن كان أحد هذه الحروف (لا أو ما أو إن) ؛ لأنهن مهملات أصالة كما في قوله تعالى: (تالله تفتأ تذكر يوسف ((3) أي لا تفتأ 0
وذهبت طائفة كبيرة من النحاة إلى عدم جواز تلقي القسم ب (لن ولم) من أدوات النفي؛ وعلل الرضي ذلك بأن العامل الحرفي لا يحذف مع بقاء عمله، وإن أبطلوا العمل لم يتعيّن النافي المحذوف (4)
وقد سمع من العرب تلقي جواب القسم بلن قال الشاعر:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد في التراب دفيناً (5)
كما سمع منهم تلقي الجواب بلم حكى الأصمعي أنه قيل لأعرابي:ألك بنون؟ قال: (نعم وخالِقِهِمْ لم تَقُمْ عن مِثْلِهِمْ مُنْجِبَةٌ) (6) ومنه قول الأعشى:
لئن مُنيْتَ بنا عن غِبِّ معركة لم تلفنا من دماء القوم ننتفل (7)
__________
(1) البيت من الطويل للبيد بن ربيعة في ديوانه: 168 0
(2) ينظر: شرح الجمل لابن عصفور: 1/526، وشرح التسهيل لابن مالك: 3/206، وشرح الكافية للرضي: 4/312، والارتشاف: 4/ 1779 0
() النساء:65 0
(3) يوسف: 85 0
(4) ينظر شرح الكافية:4/312
(5) البيت مطلع قصيدة من الكامل منسوبة لأبي طالب عم النبي صلى لله عليه وسلم وهو في ديوانه المجموع: 91، والكشاف: 2/12، وشرح التسهيل لابن مالك:3/207، والجنى الداني: 270 0
(6) ينظر القول في شرح التسهيل لابن مالك:3/207،والارتشاف: 4/1779، والمساعد:2/314 0
(7) البيت من البسيط وهو للأعشى في ديوانه: 113 شرح محمد محمد حسين، و312 تحقيق د/ محمد أحمد قاسم، وفي كلتا النسختين (لم تلفنا) وبها يتحقق الشاهد 0
ورواية البيت في كتب النحو (لا تلفنا) إذ يستشهدون به على اجتماع القسم والشرط، وجعل الجواب للمتأخر منهما وهو الشرط 0
ومُنِي بكذا بالبناء للمفعول: ابتلي به، وغِبّ الشيء بكسر الغين وتشديد الباء عقبه، وانتفل من كذا تبرأ منه 0
ينظر: شرح ابن الناظم: 707، وشرح الكافية للرضي: 4/457، وشرح ابن عقيل4/45(11/416)
الفصل الثالث: معنى لن
المبحث الأول: تأكيد النفي بلن (1)
تمهيد
لن حرف نفي واستقبال ينصب المضارع بنفسه كما يقول الجمهور، وهو ينفي المضارع الذي دخلت عليه السين قال سيبويه: ((ولن أضرب نفي لقوله سأضرب، كما أن لاتضرب نفي لقوله اضربْ ولم أضربْ نفي لضربْتَ)) (2) ، وقال: ((ولم: وهي نفي لقوله فعل، ولن وهي نفي لقوله: سيفعل)) (3) وقال أيضاً: ((والسين التي في قولك سيفعل، وزعم الخليل أنها جوابُ لن يفعل)) (4)
وقد اختلف العلماء في مسألتين مهمتين حيال إفادة لن توكيد النفي أو تأبيده أو عدم دلالتها على شيء من ذلك البتة 0
وسنرجيء الحديث عن قضية تأبيد النفي بلن للمبحث التالي (لن الزمخشرية)
وفي هذا المبحث سنحاول لمَّ شتات مسألة توكيد النفي بلن وِفْقَ المطالب التالية 0
المطلب الأول: رأي الزمخشري
__________
(1) ينظر في هذا المبحث كتاب دراسات لأسلوب القرآن الكريم القسم الأول الجزء الثاني:631
(2) الكتاب 1/135-136 0
(3) المرجع السابق: 4/220 0
(4) المرجع السابق: 4/217 0(11/417)
يكرر الزمخشري في جلّ كتبه القول بتأكيد النفي بلن قال: ((ولن لتأكيد ما تعطيه لا من نفي المستقبل، تقول لا أبرح اليوم مكاني فإذا وكَّدت وشدَّدت قلت لن أبرح اليوم مكاني)) (1) ، وقال أيضاً: ((ولن نظيرة لا في نفي المستقبل ولكن على التأكيد)) (2) ، وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ((3) : ((فإن قلت ما حقيقة لن في باب النفي قلت لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أنَّ في لن توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك: لا أقيم غداً فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم)) (4) ، وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: (قال ربي أرني أنظرْ إليك قال لن تراني ((5) : ((فإن قلت ما معنى لن؟ قلت تأكيد النفي الذي تعطيه لا، وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً، فإذا أكَّدت نفيها قلت: لن أفعل غداً)) (6) ، وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ((7) : ((لن أخت لا في نفي المستقبل إلا أن لن تنفيه نفياً مؤكداً)) (8) ، وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبداً بما قدّمت أيدهم ((9) : ((ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل،إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا)) (10)
والنحاة الذين جاؤوا بعد الزمخشري انقسموا بين معارض له، ومؤيد في دعواه إفادة لن تأكيد النفي وسأدرس إن شاء الله في المطلبين التاليين هذين المذهبين 0
المطلب الثاني:رأي المعارضين له
__________
(1) المفصل: 307 0
(2) الأنموذج:102 0
(3) البقرة: 24 0
(4) الكشاف: 1/248
(5) الأعراف: 143 0
(6) الكشاف: 2/113 0
(7) الحج: 73 0
(8) الكشاف: 3/22 0
(9) الجمعة: 7 0
(10) الكشاف:4/103 0(11/418)
انبرى للرد على الزمخشري في قضيَّة توكيد النفي بلن طائفة ممن أتي بعده من النحاة منهم ابن عصفور، وأبو حيان، وابن هشام، والمرادي، وغيرهم من تلامذة ابن مالك شراح التسهيل ومن تلامذة أبي حيان0 قال ابن عصفور في رده على الزمخشري: ((ما ذهب إليه دعوى لا دليل عليها بل قد يكون النفي ب (لا) آكد من النفي ب (لن) ؛لأن المنفي ب (لا) قد يكون جواباً للقسم، والمنفي ب (لن) لا يكون جواباً له، ونفي الفعل إذا أقسم عليه آكد)) (1)
فابن عصفور بنى اعتراضه على الزمخشري بأن لا النافية تقع جواباً للقسم ولن لا تقع جواباً للقسم، ونفي الفعل المقسم عليه آكد من غير المقسم عليه 0
ولكن رُدَّ عليه بالشاهد السابق وهو:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفيناً
إذ وقعت لن فيه في جواباً للقسم 0
وقال أبو حيّان: ((ونقل ابن مالك (2) أن الزمخشري خصَّ النفي بالتأبيد، ونقل ابن عصفور عنه أنه زعم أن لن لتأكيد ما تعطيه لا من نفي المستقبل، وأن مذهب سيبويه والجمهور أن لن لنفي المستقبل من غير أن يشترطا أن يكون النفي بها آكد من نفي لا)) (3) ، فأبو حيّان إذن يذكر أن ابن عصفور نقل عن الزمخشري القول بتأكيد النفي بلن، ونقل عن ابن مالك أن الزمخشري يرى تأبيد النفي بلن، ثم اعترض عليه بأن مذهب سيبويه والجمهور أن لن لنفي المستقبل ولم يشترطوا أن يكون النفي بها آكد من النفي بلا 0
__________
(1) الجنى الداني: 270 0
ومثال وقوع لا في جواب القسم قوله تعالى في سورة الحشر 12 (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنَّ الأدبار ثم لا ينصرون (
(2) نقل ابن مالك ذلك في شرح الكافية الشافية: 3/1531 0
(3) ارتشاف الضرب:4/1643-1644 0(11/419)
وكرر هذا المعنى تلامذة أبي حيان كالمرادي (1) ، وابن عقيل (2) ، والسمين الحلبي (3)
ولهج ابن هشام في مخالفة الزمخشري فقال: ((ولا تفيد لن توكيد النفي خلافاً للزمخشري في كشافه ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه وكلاهما دعوى بلا دليل)) (4) ، وقال أيضاً: ((لن وهي لنفي سيفعل ولا تقتضي تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري)) (5) ، وقال أيضاً: ((ولن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا تقتضي تأبيداً خلافاً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه)) (6) ، وقال الأشموني: ((ولا تفيد تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري: الأول في أنموذجه والثاني في كشافه)) (7)
وشرح الشيخ خالد الأزهري (8) كلام ابن هشام دون أن يعترض عليه مما يدلُّ على موافقته له فيما قال 0
وسبق ابنَ هشام في مخالفة الزمخشري في توكيد النفي بلن ابنُ عصفور كما زعم أبو حيّان، والمرادي، ولم أجد في كتب ابن عصفور المطبوعة الآن التي اطلعت عليها (9) شيئاً من ذلك، ولعله في كتبه التي لمّا تطبع بعد 0
وفي الحق أن الزمخشري محظوظ في هذه القضية؛ إذ نَسَبَ له القوم ماليس له، وخالفوه فيما هو تابع فيه غيره، وزادوه شهرة من حيث أرادوا أن يغضُّوا منه؛ إذ أخذ اسمه يتردد في كتبهم، وكتب من جاء بعدهم من النحاة على أنه مؤصِّل مسألةٍ ومبتكرها، وما هو إلا تابع لسواه ليس غير 0
__________
(1) ينظر الجنى الداني: 270، وتوضيح المقاصد:4/173 0
(2) ينظر المساعد: 3/66 0
(3) ينظر الدر المصون: 1/203، 5/449 0
(4) مغني اللبيب: 374 0
(5) أوضح المسالك: 4/136 0
(6) شرح قطر الندى112 0
(7) شرح الأشموني: 3/278 0
(8) ينظر التصريح: 4/286 0
(9) رجعت إلى كتب ابن عصفور التالية: شرج جمل الزجاجي، والمقرَّب، ومُثُل المقرب، والضرائر، والممتع 0(11/420)
ولو تتبع المرء مسألة القول بتوكيد النفي بلن من أصلها لوجد الخليل بن أحمد هو ابنُ بجدتها وهو أول من قال بها، قال في العين: ((وأما لن فهي: لا أن وصلت في الكلام، ألا ترى أنها تشبه في المعنى لا، ولكنها أوكد تقول: لن يكرمَك زيد معناه: كأنه يطمع في إكرامه فنفيت عنه ووكدت النفي بلن فكانت أوكد من لا)) (1)
وقال الأزهري: ((الليث عن الخليل في لن أنه لا أن فوصلت لكثرتها في الكلام،ألا ترى أنها تشبه في المعنى لا ولكنها أوكد تقول: لن يكرمك زيد معناه:كأنه كان يطمع في إكرامه فنفيت ذاك ووكَّدت النفي بلن فكانت أوجب من لا)) (2)
فالخليل بن أحمد هو أول من قال بتأكيد النفي بلن وأبان بأنها تشبه لا في إفادة النفي ولكنها تتميَّز عن لا بأنها آكد من أختها لا في هذا الباب، وكرر هذا المعنى ثلاث مرات ((ولكنها أوكد)) ((فنفيت عنه ووكدت النفي)) ((فكانت أوكد من لا))
فكان الحق على متأخري النحاة أن يخالفوا الخليل في القول بتوكيد النفي بلن كما خالفوه في القول بتركيبها من لا وأن، وينسبوا الخلاف له وليس للزمخشري المتابع للخليل
__________
(1) العين:8/350 0
(2) تهذيب اللغة: 15/ 332 0(11/421)
وبما أن سيبويه لم يشر في كتابه إلى قضية توكيد النفي بلن من عدمه، فلذلك أظنُّ -والله أعلم- أن ابن عصفور وأبا حيان لم يعلما برأي الخليل فيها، وأظن أنهما لم يطّلعا على مادة (لن) في كتابي العين، وتهذيب اللغة، واطّلع عليها الزمخشري في أحدهما، أو في كليهما؛ فلذلك أفاد منها الزمخشري، ولم يفد منها الأندلسيون، ولعل مما يؤيد ما ذهبتُ إليه أن ابن سيده -الأندلسي -لم يشر إلى رأي الخليل في كتابيه المحكم (1) ، والمخصص (2) بل نقل في المحكم كلام ابن حني في سر صناعة الإعراب عن لن بنصّه (3) وهما من أهم الكتب المعاجم المتداولة في بلاد الأندلس
__________
(1) ينظر المحكم: 10/361 طبعة دار الكتب العلمية وهي طبعة للكتاب كاملة، وما ذكره ابن سيده في لن في المحكم منقول بالنص من سر صناعة الإعراب: 305 0
(2) ينظر المخصص: 14/ 45،55 0
(3) ينظر المحكم: 10/361 تحقيق عبد الحميد هنداوي دار الكتب العلمية، وينظر سر صناعة الإعراب: 305(11/422)
ثم إن أبا حيان لم يكن مصرّاً على مخالفة الزمخشري في قضية توكيد النفي بلن بل كان في البحر المحيط كثيراً ما يوافقه على ذلك قال: ((لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال فلن أخص؛ إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً؛ ولذلك وقع الخلاف في لا هل تختص بنفي المستقبل أم يجوز أن تنفي بها الحال، وظاهر كلام سيبويه رحمه الله هنا أنها لا تنفي الحال 000فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري أوّلاً من أن فيها توكيداً وتشديداً؛ لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له؛ ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً فلن أخص بالاستقبال، وأخصّ بالمضارع؛ ولأن (ولن تفعلوا (أخصر من ولا تفعلون؛ فلهذا كله ترجّح النفي بلن على النفي بلا)) (1) فهو هنا وافق الزمخشري صراحة ((فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري أوّلاً من أن فيها توكيداً وتشديداً)) وعللّ ذلك باختصاص لن بنفي ما هو مستقبل بالأداة، وباختصاصها بالمضارع بخلاف لا التي لايختص بها المضارع، وقد ينفى بها المضارع المراد به الحال أيضاً 0
وقال أيضاً ((وكان حرف النفي لن الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصر)) (2) ، وقال أيضاً: في قوله تعالى: (قال إنك لن تستطيع معي صبراً ((3) : ((ونفى الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد)) (4)
وقال أيضاً (( (لن تتبعونا (وأتى بصيغة لن وهي للمبالغة في النفي)) (5)
__________
(1) البحر المحيط: 1/174 طبعة مصطفى الباز 0
(2) البحر: 3/333 0
(3) الكهف: 67 0
(4) البحر المحيط: 7/205 0
(5) البحر المحيط: 9/489 0(11/423)
وكذلك الحال مع ابن هشام إذ أومأ إلى توكيد النفي بلن في المغني في أثناء حديثه عن السين قال: ((وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، ولم أر من فهم وجه ذلك، ووجه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتضٍ لتوكيده وتثبيت معناه، وقد أومأ إلى ذك في سورة البقرة فقال: (فسيكفيكهم الله ((1) ومعنى السين إن ذلك كائن لا محالة، وإنْ تأخر إلى حينٍ، وصرّح به في سورة براءة فقال في: (أولئك سيرحمهم الله ((2) السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة؛ فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد إذا قلت: سأنتقم منك)) (3)
وقال أيضاً: ((إن الزمخشري قال في (أولئك سيرحمهم الله (أن السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي مؤكدة للوعد، واعترضه بعض الفضلاء (4) بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل لا من السين، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله لا محالة لا إشعار للسين به، وأجيب بأن السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام تأخر لكونه بشارة تمحَّضت لإفادة الوقوع، وبتحقق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب)) (5)
__________
(1) الآية: 137 0
(2) الآية: 71 0
(3) مغني اللبيب: 185 0
(4) المراد به أبو حيّان في البحر المحيط: 5/460 قال: ((وقال الزمخشري السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوماً 000 وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع كما تجب عقوبة العاصي، وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط)) أ0هـ
(5) مغني اللبيب: 870(11/424)
فابن هشام يميل إلى رأي الزمخشري في أن السين الداخلة على المضارع تفيد توكيده، والسين إنما تدخل على المضارع وهو مثبت؛ وبما أن لن نقيضة السين، والسين تفيد التوكيد في حال الإثبات فلا بدَّ أن يكون نفي المؤكد مؤكداً أيضاً، ودفاع ابن هشام عن الزمخشري ضد أبي حيّان دليل على قناعته بقول الزمخشري في أن السين تؤ كد الفعل المضارع الذي اتصلت به في المحبوب والمكروه0
المطلب الثالث:رأي المؤيدين له:
وافق الزمخشري على القول بتأكيد النفي بلن طائفة عريضة من النحاة منهم ابن الخباز قال: ((وأما لن فمعناها: النفي المؤكّد تقول: لا أبرح مكاني فإذا بالغت قلت: لن أبرح، وفي التنزيل: (لن تراني (؛ لأنه لم يره)) (1) ، ومنهم المنتجب الهمداني قال: ((لن ولا أختان في نفي المستقبل غير أن لن موضوع للتوكيد والتشديد يقول القائل: لا أفعل كذا، فإن أنكر عليه قال لن أفعل)) (2) ، ومنهم الرضي إذ قال: ((قوله ولن معناها نفي المستقبل هي تنفي المستقبل نفياً مؤكداً وليس للدوام والتأبيد)) (3) ،ومنهم القواس الذي قال عن لن: ((النفي بها أبلغ من النفي بلا، وإن اشتركا في نفي المستقبل؛ لأنه إذا قيل: لا أكرمك،فإذا قصد التوكيد قيل: لن أكرمك)) (4) ، ومنهم الأسفراييني قال: ((لن ومعناها نفي المستقبل نحو: (لن أبرح الأض (وهي أوكد من لا)) (5) ، ومنهم الإربلي قال: ((هي للتأكيد؛لأنها آكد في النفي من لا لقوله تعالى في مجرد النفي (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ((6) وفي المبالغة والتأكيد (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ((7)) ) (8) ، ومنهم الموزعي: ((وزعم في المفصل والكشاف أنها تفيد تأكيد النفي، وبه قال ابن
__________
(1) الغرة المخفية: 160 0
(2) الفريد في إعراب القرلآن المجيد:1/249 0
(3) شرح الكافية: 4/38 0
(4) شرح ألفية ابن معط: 1/339 0
(5) لباب الإعراب: 447 0
(6) الكهف: 60 0
(7) يوسف: 80 0
(8) جواهر الأدب: 260 0(11/425)
الخباز، وما ادعاه من التأكيد حسن قريب، وربما أعطاه كلام سيبويه حيث قال: لا نفي لقولك يفعل، ولن نفي لقولك سيفعل)) (1) ، ومنهم الزركشي قال: ((وهي في نفي المستقبل آكد من لا وقوله تعالى (فلن أبرح الأرض (آكد من من قوله (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ()) (2) ، ومنهم السيوطي قال: ((ووافقه على إفادة التأكيد جماعة منهم ابن الخباز بل قال بعضهم إن منعه مكابرة؛ فلذا اخترته دون التأبيد)) (3) وقال أيضاً: ((وذكر الزمخشري في المفصل وغيره أن النفي بها آكد من النفي بلا)) (4) ، ومنهم أبوالسعود الحنفي الذي قال: ((كلمة لن لنفي المستقبل ك (لا) ، خلا، أن في لن زيادة تأكيد وتشديد)) (5)
ومنهم الصبان قال: ((وافقه على التأكيد كثيرون)) (6)
المبحث الثاني: لن الزمخشرية
كثيراً ما يسمع المرء عبارة (لن الزمخشرية) ، والمراد بها في اعتقاد قائلها -والله أعلم - النفي المستمر أو الدائم، وهنا سنحاول بحث هذه الفكرة من جميع جوانبها وفق المطالب التالية:
المطلب الأول: القول بتأبيد النفي بلن
في الحق أن مسألة تأبيد النفي بلن كانت متداولة عند المعتزلة قبل ميلاد الزمخشري بزمنٍ إذ وجدت أقوالاً عديدة لرؤسائهم يذهبون فيها إلى القول بتأبيد النفي بلن منهم الجبّان، والخطيب الإسكافي، والقاضي عبد الجبار، والشريف المرتضى، وهؤلاء عاشوا في القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، والذي يظهر لي أن الزمخشري تلقفها منهم، ولم يكن ابن بجدتها كما مفهوم عند كثير الناس 0
قال الجبَّان في تفسير قول الشاعر:
__________
(1) مصابيح المغاني: 426 0
(2) البرهان: 4/387
(3) همع الهوامع: 4/ 95
(4) الفرائد الجديدة: 2/471 0
(5) إرشاد العقل السليم:1/177 0
(6) حاشيته على الأشموني: 3/278 0(11/426)
ولن يراجعَ قلبي حبَّهم أبداً زَكِنْتُ من بغضهم مثلَ الذي زَكِنُوا (1)
((أي نحن متباغضون، يبغضوننا ونبغضهم، ويعادوننا ونعاديهم، وأكد أمر العداوة بأن وصفها بأنها لا تزول أبداً؛ لأن لن تفيد نفي الشيء في المستقبل أبداً)) (2)
فهو هنا يصرَّح بأن لن تنفي المستقبل أبداً، والجبَّان من أصحاب أبي علي الفارسي، وهو من ندماء الصاحب بن عباد وقرناء ابن جني، وأبي علي المرزوقي شارح الحماسة، ولم تعيِّنْ كتب التراجم سنة وفاته، وإنما تذكر أنه كان حياً عام 416هـ، قال الصاحب ابن عبّاد: ((فاز بالعلم من أصبهان ثلاثةٌ: حائكٌ وحلاَّجٌ وإسكافٌ)) (3) فالحائك أبو عليّ المرزوقي، والإسكاف هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب، والحلاّج هو أبو منصور بن ماشدة وهو الجبّان 0
والصاحب ابن عباد توفي عام 386هـ، وأبو منصور الجبان في ذلك التاريخ كان فائزاً بالعلم، وكان رأساً من المعدودين المشار إليهم وكان يوازن بالمرزوقي
وقال الخطيب الإسكافي - المتوفي سنة -420-في شرح قوله تعالى (ولن يتمنوه أبداً بما قدَّمت أيديهم (: ((ووجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه وأبلغه في معنى ما ينتفي شرطهم به، وكان ذلك بلفظ لن التي هي للقطع والبتات ثم أكَّد بقوله أبداً ليبطل تمني الموت الذي يبطل دعواهم بغاية ما يبطل به)) (4)
__________
(1) البيت من البسيط وهو لقنعب بن أم صاحب الفزاري في شرح أبيات إصلاح المنطق 443، وإسفار الفصيح: 1/352 وفي هامشه زيادة تخريج لمن يرغب في المزيد 0
وزَكِنَ كفرح بمعنى:علم
(2) شرح فصيح ثعلب لأبي منصور محمد بن علي الجبَّان الأصبهاني: 109 0
(3) معجم الأدباء: 5/34 0
(4) درة التزيل وغرة التأويل: 13 0(11/427)
وقال الشريف المرتضى في تأويل آية الأعراف: ((وقد استدلَّ بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه لايرى بالأبصار من حيث نفى الرؤية نقياً عاماً بقوله (لن تراني (ثم أكَّد ذلك بأن علَّق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر)) (1)
وقال أيضاً ((فأما قوله في قصة موسى عليه السلام: (إنك لن تستطيع معي صبراً (فظاهره يقتضي أنك لا تستطيع ذلك في المستقبل، ولا يدل على أنه غير مستطيع للصبر في الحال)) (2))
والزمخشري مولود عام: 467 هـ، وتوفي عام 538هـ أي أن الزمخشري ولد بعد وفاة هؤلاء بما يقارب نصف قرن 0
فعلى هذا يكون القول بتأبيد النفي بلن معروفاً عند أهل المشرق الإسلامي في القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس قبل أن يولد الزمخشري بما يزيد على نصف قرن من الزمان، وقد يكون الجبّان وأقرانه مسبوقين أيضاً بهذه الفكرة، ولا سيما أن طغيان الاعتزال كان قبل هذا الوقت أيام المأمون والمعتصم، ورؤساؤهم الكبار المعدودين فيهم عاشوا قبل زمن الجبّان والمرتضي 0
واستمر القول بهذه العبارة في زمن الزمخشري، وعند طلابه أيضاً؛ إذ نجد الطَّبَرْسِيَّ يقول بتأبيد النفي بلن وهو من أقران الزمخشري سناً وعلماً، قال في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ((3) : ((أي ولن تأتوا بسورة مثله أبداً؛ لأن لن تنفي على التأبيد في المستقبل)) (4)
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: (قال لن تراني ((5) : ((هذا جواب من الله تعالى، ومعناه لا تراني أبداً؛ لأن لن ينفي على وجه التأبيد كما قال (ولن يتمنّوه أبداً ((6) وقال (ولن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ((7)) ) (8)
__________
(1) الأمالى: 2/221 0
(2) المرجع السابق: 2/166 0
(3) البقرة:24
(4) مجمع البيان: 1/90 طبعة دار الفكر عام 1418 هـ
(5) الأعراف:143 0
(6) البقرة:95 0
(7) الحج: 73 0
(8) مجمع البيان: 4/271 0(11/428)
فالطبرسي يؤكد أن لن حرف ينفي المستقبل على وجه التأبيد، والطَّبَرْسِيُّ شيعي إمامي، كان في زمن الزمخشري إذ ولد عام 462 هـ في طَبَرْستان، وتوفي عام 548هـ على الأرجح، والزمخشري كما سبق ولد عام 467 هـ، وتوفي عام 538هـ، وألف الطبرسيُّ كتابه هذا قبل أن يطلَّع على الكشاف؛ إذ فرغ من تأليفه عام 536 هـ وكتابه مجمع البيان مستمدٌّ من كتاب البيان لمحمد بن الحسن بن علي الطوسي، ثم لمَّا اطلع الطَّبَرْسِيُّ على كشاف الزمخشري أعجبه أيَّما إعجاب فصنَّف كتاباً آخر أسماه: جامع الجوامع ليكون جامعاً بين فوائد البيان للطوسي والكشاف للزمخشري
ولو قال قائل: إن هذه المسألة - أعني القول بتأبيد النفي بلن - كانت منتشرةً عند الشيعة الإمامية، وعند المعتزلة في عصر الزمخشري لم يكن مجانباً للصواب 0
ويقول الخاروني الشوكاني وهو أحد تلامذة الزمخشري: ((لن وهي للنفي على التأبيد، ولردّ قول من يقول: سيقوم زيد، وسوف يقوم زيد، نحو لن يقوم زيد)) (1)
فهذا الخاروني تلميذ الزمخشري ينصُّ علىأن لن تفيد تأبيد النفي، وليس بمستغرب أن يكون تلقَّفها من شيخه الزمخشري في دروسه التي كان يلقيها على تلامذته، ولا سيما أن فكرة تأبيد النفي بلن كانت معروفة عند أهل المشرق الإسلامي كما رأينا قبل قليل وكانوا على علم وبصيرة سابقة بها 0
__________
(1) القواعد والفوائد في الإعراب تحقيق د/ عبد الله بن حمد الخثران: 105 0(11/429)
ويقول صدر الأفاضل - وهو أحد شرَّاح المفصل-: ((قال الشيخ ينبغي أن تعلم أن النفي بها لا يكون للتأبيد، لكنه يكون أشد وأبلغ منه في لا، واستدلَّ لذلك باستعمالهم إيَّاها مع التقييد واستشهد بقوله تعالى (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي ((1) ولك أن تقول: ما المانع من أن تكون للتأبيد، ويستعمل مع التقييد؟ ألا ترى أنك لو قرنتها بلفظة التأبيد لم يمنع من التقييد أيضاً مثاله قولك:لن أخرج أبداً حتى يأذن لي الأمير، وقال تعالى: (إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ((2) وهذا تقييد مع التأبيد)) (3)
فصدر الأفاضل ينقل نصّاً من الشيخ ولا أعلم من هذا الشيخ الذي أومأ إليه، أهو عبد القاهر الجرجاني الذي يقوم صدر الأفاضل في النص السابق بشرح كتابه الجمل في النحو، أم يريد شيخاً آخر غيره من علماء المشرق، فصدر الأفاضل ينافح عن فكرة تأبيد النفي بلن ويرد قول الشيخ المانع من تأبيد النفي بلن، ويجيز مجيء لن للتأبيد مع التقييد، ويجب ألا يغيب عن البال أن صدر الأفاضل أحد شرّاح المفصل
ونقل محقق التخمير عن حاشية كُتبتْ على إحدى نسخه الخطية ما يلي: ((جاء في هامش نسخة ب: (ح) ابن الدهان أبو الحسن عن الخليل في كتاب الأدوات أن لن كلمة تؤكد الجحد في المستقبل، فإذا قلت: لن أفعل فقد أكدت على نفسك أنك لا تفعله أبداً، وقال في تفسير لن إنه يخلِّص الفعل للمستقبل وينفيه، وذلك في قولك لن يذهب زيد أبداً إذا قال قائل: سيذهب زيد غداً)) (4)
من خلال النص السابق نلمح أن كلمة (أبداً) تكررت مرتين، الأولى منهما تُشْكِلُ؛ لأنها جاءت في سياق تفسير معنى لن من غير أن يكون المتكلم قد نصَّ على الأبد في كلامه، بخلاف كلمة (أبداً) الثانية إذ جاء ت منصوصاً عليها في المثال من المتكلِّم 0
__________
(1) يوسف:80
(2) المائدة 24 0
(3) ترشيح العلل في شرح الجمل: 177 0
(4) التخمير: 4/ 85 0(11/430)
ومن هنا فإن ما ذكره أبو الحسن عن الخليل في كتاب الأدوات مشكل أيضاً،إذ يجوز أن تكون هذه العبارة هي التي استقى منها القائلون بتأبيد النفي بلن مذهبهم وساروا عليه
ولا نعلم من أبو الحسن هذا؟ أهوأحد الأخافشة؟ أم هو الرماني؟ أم غيرهم، ثم يقال هل للخليل كتاب يقال له الأدوات؟ كلُّ ذلك لا نجد له إجابة الآن، وإنما نقول: إن القوم قبل الزمخشري كانوا على علمٍ ودراية بمقولة تأبيد النفي بلن 0
ويقول ابن يعيش: ((اعلم أن لن معناها النفي، وهي موضوعة لنفي المستقبل، وهي أبلغ في نفيه من لا؛ لأن لا تنفي يفعل إذا أريد به المستقبل، ولن تنفي فعلاً مستقبلاً قد دخل عليه السين أو سوف، وتقع جواباً لقول القائل سيقوم زيد، وسوف يقوم زيد، والسين وسوف تفيدان التنفيس في الزمان؛ فلذلك يقع نفيه على التأبيد وطول المدة نحو قوله تعالى (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ((1) ، وكذلك قول الشاعر:
ولن يراجع قلبي حبَّهم أبداً زَكِنْتُ من بغضهم مثل الذي زَكِنُوا (2)
فذكر الأبد بعد لن تأكيداً لما تعطيه لن من النفي الأبدي، ومنه قوله تعالى: (لن تراني ((3) ولم يلزم منه عدم الرؤية في الآخرة؛ لأن المراد:إنك لن تراني في الدنيا؛ لأن السؤال وقع في الدنيا، والنفي على حسب الإثبات)) (4)
ويقول السكاكي: ((ولن وهو لنفي سيفعل، وأنه لتأكيد النفي في الاستقبال، وقد أشير إلى أنه لنفي الأبد)) (5) ، فالسكاكي يقطع بالتأكيد، ويلّمح بالتأبيد؛ لأنه لم يعترض عليه، وكأنه يقول لامانع من أن يجتمع في لن التأكيد والتأبيد فيكون النفي أبداً مؤكداً0
__________
(1) البقرة: 95 0
(2) سبق تخريج البيت 0
(3) الأعراف: 143
(4) شرح المفصل: 8/111
(5) مفتاح العلوم: 108 0(11/431)
ويقول ابن عطية: ((وقوله عز وجل (لن تراني (نصٌّ من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا، ولن تنفي الفعل المستقبل، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده لقضينا أنه لا يراه أبداً ولا في الآخرة، لكن وَرَدَ من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الجنة يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته)) (1)
فابن عطية يرى أن البقاء على أصل الوضع اللغوي في لن يمنع رؤية المؤمنين ربهم مطلقاً؛ لأنها -كما فهم - للنفي المؤبد، ولكنه يقرر أن رؤية المؤمنين ربهم في الآخر ثابتة بسبب أمر خارج عن الوضع اللغوي ل (لن) وهو الحديث المتواتر 0
ويقول الفاكهي: ((محل الخلاف في أنها هل تقتضي التأبيد أم لا فيما إذا أُطلق النفي أو قُيِّد بالتأبيد، أما إذا قيّد بغيره نحو (فلن أكلم اليوم أنسياً (فلا خلاف بينهم في أنها لاتفيده، فقد ظهر أن من ردَّ على الزمخشري في قوله بتأبيد النفي بهذه الآية وشبهها مما قيّد فيه نفيها منفيها بغير التأبيد ليس على تحقيق المسألة)) (2)
ويقول يس العليمي: ((وانتصر الحفيد للزمخشري فقال: واعلم أن قول النحويين لن ليست لتأبيد النفي مع أنها لنفي سيفعل متناقض؛ وذلك لأن سيفعل مطلق، ونقيضه لن يفعل الدائمة، فلو لم تكن لتأبيد النفي لم يكن قولنا لن يفعل نقيضاً لقولهم سيفعل؛ لأنه على ما قالوه من عدم التأبيد يجوز أن يكون النفي على حالةٍ والإثبات على أخرى، فالحق أنها لتأبيد النفي كما ذكره الزمخشري لاسيما ومدلولات الألفاظ ليست راجعة إلى اعتقاد أحد)) (3) ثم ردّ يس العليمي على الحفيد بما يطول ذكره فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه في موضعه 0
__________
(1) المحرر الوجيز: 7/ 155 0
(2) شرح الفاكهي على قطر الندى: 1/143 0
(3) حاشية يس على شرح الفاكهي: 1/144 0(11/432)
ويقول الأسفندري - وهو أحد شرّاح المفصل-: ((قال رضي الله عنه: فصل ولن لتأكيد ما تعطيه لا إلى آخره (حم) قال صاحب الكتاب: لن ك (لا) في النفي إلا أن في لن معنى التأكيد وليس كما يزعم القوم أنها للتأبيد؛ إذ لو كانت كذلك لما جاز فيه التحديد كما في الآية التي تليت عليك)) (1)
والأسفندري يرمز ب (حم) لحاشيةٍ على المفصل منسوبةٍ للزمخشري نفسه، فلئن صحَّت نسبة الحاشية إليه فذلك إما براءةٌ مما نسب إليه، أو رجوع منه عما كان يعتقده0
وقدكتب الأستاذ الدكتور أحمد عبد اللاه هاشم بحثاً عنوانه (قضية لن بين الزمخشري والنحويين) في ستٍ وأربعين صحيفة من القطع المتوسط ونشره في دار التوفيقيةبمصر عام 1979م ذهب في بحثه إلى أن تحريفاً وقع في بعض نسخ الأنموذج للزمخشري إذ يرى أن كلمة تأكيد تحرفت إلى تأبيد في بعض النسخ، لاسيما أن رسم الكلمتين متقارب، فبينهما ما يسمّى الجناس اللاحق، ثم حمل عليه معارضوه، وساعدهم على ذلك سوء معتقد الرجل 0
وأقول: الذي يظهر لي -والله أعلم - أن الرجل قد كتبها في النسخ القديمة من أنموذجه (التأبيد) ولم يقع في بعض النسخ تحريف، كما ذهب إليه الدكتور أحمد هاشم، ثم طارت تلك النسخ مع تلامذتة في الآفاق، وعزاها إلية ابن مالك وغيره بناء على تلك النسخ، والمعروف عن الزمخشري أنه كان باقعة في الدهاء فخشي ألا يُنْظَرَ في كتابه إن أبقاها، فغيَّرها في النسخ اللاحقة إلى تأكيد، ولاسيما أنَّ له في مثل هذا العمل سابقةً، إذ يُرْوَى أنه افتتح كتابه الكشاف بقوله: ((الحمد لله الذي خلق القرآن)) (2) فقيل له: إنْ أبقيتها لم ينظر أحد في كتابك فغيّرها
المطلب الثاني رأي الزمخشري
__________
(1) شرح المفصل: 146/ أ (مخطوط)
(2) ينظر: وفيات الأعيان: 5/170، ومقدمة كتاب الكشاف: 1/3(11/433)
يُنسب إلى الزمخشري - كما ذكرنا في المبحث السابق- القولُ بتأبيد النفي بلن في إحدى نسخ الأنموذج قال الأربلي (1) : ((قال -أي الزمخشري في الأنموذج- ولن نظيرة لا في نفي المستقبل ولكن على التأكيد، أقول: إذا أردت نفي المستقبل مطلقاً قلت:لا أضرب مثلاً، وإذا أردت نفيه مع التأكيد قلت لن أضرب مثلاً، وفي بعض النسخ للتأبيد بدل قوله للتأكيد)) (2)
وقال الموستاري (3)
__________
(1) هو محمد بن عبد الغني الأربلي الرومي جمال الدين ويقال له أحياناً الأردبيلي، اُختُلِف في سنة وفاته اختلافاً شديداً، فقيل 647 هـ وعليه حاجي خليفة والزركلي ويُضْعِفُ هذا القولَ أنَّ الأربلي له حاشية على تفسير البيضاوي المتوفي سنة 691هـ، وقيل توفي سنة: 980 هـ وعليه البغداديُّ في هدية العارفين وعمر رضا كحالة، ويُضعِف هذا القول أن إحدى نُسخِ الأنموذج كُتبت سنة 865 هـ 0
وجمعاً بين القولين أرى أن الأربلي من علماء القرن الثامن الهجري أو التاسع، وعلى هذا فهو بعد ابن مالك وتلامذته بزمنٍ، وهو ما يجعل إفادته من كتبهم أمراً محتملاً، وفيها ما نُسب للزمخشري من القول بتأبيد النفي بلن، فنَسَبَ إلى الزمخشري مانسب ثقةً في نقلهم، دون أن يكون وقف عليها، كما يُحتمل أن يكون قد وقف بنفسه على بعض نسخ الأنموذج ورأى فيها ما قاله 0
تنظر ترجمته في: كشف الظنون: 185، وهدية العارفين: 2/275، والأعلام: 6/211، ومعجم المؤلفين: 10/178، وينظر مقدمة محقِّق كتاب شرح الأنموذج، ومن العجيب أنه دوَّن سنة وفاته 647هـ ثم دوّن في مصنفات الأربلي حاشيته على تفسير البيضاوي0
(2) شرح الأنموذج: 233 0
(3) هو مصطفى بن يوسف بن مراد الأيوبي الموستاري ولد عام 1061 وتوفي عام 1151 هـ له الفوائد العَبْدِيَّة في شرح أنموذج الزمخشري 0
ينظر ترجمته في سلك الدرر: 4/218، وهدية العارفين: 2/443، والأعلام: 7/247 0 ...(11/434)
وهو من شرّاح الأنموذج المتأخرين: ((تقول لا أبرح اليوم مكاني، فإذا وكَّدت وشددت قلت: لن أبرح اليوم مكاني قال تعالى: (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ((1) وقال: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ((2) ، وقد وقع في بعض النسخ التأبيد بدل التأكيد وهو مبني على مذهب أهل الاعتزال)) (3)
وقال ابن مالك: ((ثم أشرت إلى ضعف قول من رأى تأبيد النفي بلن وهو الزمخشري في أنموذجه)) (4) ، وقال ابنه بدر الدين: ((وذكر الزمخشري في أنموذجه أن لن لنفي التأبيد)) (5) هكذا جاء في شرح التسهيل بتقديم كلمة نفي على كلمة تأبيد مما جعل المعنى ينعكس.
وقال أبو حيّان: ((ونقل ابن مالك أن الزمخشري خصَّ النفي بالتأبيد)) (6)
وقال ابن هشام: (لن وهي لنفي سيفعل ولا تقضي تأبيداً ولا تأكيداً خلافاً للزمخشري)) (7) ، وقال أيضاً ((لن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا يقتضي تأبيداً، خلافاً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه)) (8) ،وقال أيضاً: ((ولا تقتضي تأبيداً ولا تأكيداً خلافاً للزمخشري)) (9)
والذي بين أيدنا من الأنموذج ليس فيه ذكر للتأبيد قال: ((ولن نظيرة لا في نفي المستقبل ولكن على التأكيد)) (10)
__________
(1) الكهف: 60 0
(2) يوسف: 80 0
(3) الفوائد العبدية:76 / ب (مخطوط)
(4) شرح الكافية الشافية: 3/1531
(5) شرح التسهيل: 4/14 0
(6) ارتشاف الضرب: 4/1643 0
(7) أوضح المسالك: 4/136 0
(8) شرح قطر الندى: 112 0
(9) شرح اللمحة البدرية: 2/338 0
(10) الأنموذج: 32 0(11/435)
ويرى الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة -رحمه الله- أن الزمخشري ذكر في كشافه تأكيد النفي بلن، كما ذكر تأبيده أيضاً، وألمح الشيخ عضيمة إلى أن أبا حيان في البحر المحيط قد وقع في مزالق الكشاف في بعض المواضع فتابع الزمخشري في ألفاظه الدالة على القول بتأكيد النفي بلن أوالدالة على القول بتأبيده، وهوما يخالف ما حذَّر منه في كتبه النحوية، قال الشيخ عضيمة: ((في الكشاف لن أخت لا إلا أن لن تنفيه نفياً مؤكداً وتأكيده هاهنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل منافٍ لأحوالهم كأنه قال محال أن يخلقوا)) (1) ثم نقل الشيخ عضيمة عبارة أبي حيان وهي: ((وهذا القول الذي قاله في لن هو المنقول عنه أن لن للنفي على التأبيد)) (2) ، ومن العبارات التي وردت في الكشاف وفَهِمَ منها الشيخ عضيمة تأبيد النفي بلن ما يلي (كأنه محال أن يخلقوا) ، وعبارة: (إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع) وعبارة (فلا يكون منهم اهتداء البتة كأنه محال منهم لشدة تصميمهم) وعبارة: (وإنما جيء بلن الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم لقلتهم وضعفهم، وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر) وعبارة: (نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس) وأمثال هذه العبارات 0
ومن العجب أن أبا حيان كثيراً ما كان يقع في مزالق الكشاف وينقل منه أمثال تلك العبارات السابقة الدالَّة على القول بتأبيد النفي بلن وقد تتبعه الشيخ عضيمة (3) رحمه الله تعالى
المطلب الثالث: رأي المعارضين
__________
(1) دراسات لأسلوب القرآن القسم الأول: 2/632 0
(2) ينظر المرجع السابق: 2/ 632 والبحر المحيط: 7/537 0
(3) ينظر دراسات لأسلوب القرآن القسم الأول: 2/ 635 0(11/436)
نسب ابن مالك وأبو حيّان وغيرهما للزمخشري (1)
__________
(1) كان الزمخشري رأساً في الاعتزال، مجاهراً به، داعياً إليه، قال ياقوتٌ في ترجمته: 19/126: ((كان إماماً في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل، متفنناً في علوم شتَّى، معتزلي المذهب متجاهراً بذلك))
وحكى ابنُ خلكان في وفيات الأعيان: 5/170: عن الزمخشري أنه كان معتزلياً متظاهراً به حتى نُقِلَ عنه أنه إذا قصد صاحباً له وأستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب، وذكر أنه أوّل ما صنف كتابه الكشاف جعل خطبته قوله: (الحمد لله الذي خلق القرآن) فقيل له:إنه متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس، ولا يرغب فيه أحد فغيره بقوله: (الحمد لله الذي جعل القرآن) وجعل عندهم بمعنى خلق قال ابن خلكان: ((ورأيت في كثير من النسخ: (الحمد لله الذي أنزل القرآن) وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنِّف)) ، وهو ما جعل المفسرين يحتاطون من أقواله حتى إن ابن المنيِّر استخرج اعتزاليات من الكشاف بالمناقيش، وكان سبباً في انحراف ابن مالك وأبي حيان عنه، وكانا يصفانه بالنحوي الصغير، وكتابه المفصل بالمحتقر، مع أن أبا حيّان استلَّ جواهر الكشاف في البحر المحيط، وإنك لتجد الصحائف المتعددة في البحر المحيط مأخوذة بنصها من الكشاف، وكثيراً ما يقع أبو حيّان في مزالق الزمخشري الاعتزالية، وأشرت فيما مضى إلى أن الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة -رحمه الله- قد أحصى عليه مواضع قال فيها أبو حيّان بألفاظ الزمخشري الموحية بتأبيد النفي بلن متابعة للزمخشري وهو الذي يحذِّر منه، وكان ابن مالك يقول عن الزمخشري:إنه نحوي صغير، روي الصفدي في الوافي بالوفيات: 3/363، عن ابن مالك قوله عن الشيخ جمال الدين بن الحاجب: ((إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل، وصاحب المفصل نحوه صُغيِّرات ثم قال الصفدي، وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري)) ونقل هذه العبارة عن الصفدي صاحب نفح الطيب: 2/225، والسيوطي بلفظ: ((وصاحب المفصل نحويٌّ صغير)) بغية الوعاة:1/134 0
ويقول السيوطي في الأشباه والنظائر: 5/27: ((قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في تذكرته:أجاز الزمخشري وصف كم الخبرية، وجعل من ذلك قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئيا (وقال: (أحسنُ أثاثاً (في موضع النصب صفة ل (كم) ذكر ذلك في الكشاف وقد نص الشَّلَوْبين في حواشي المفصل، وابن عصفور في شرح الجمل الكبير على أن كم الخبرية لا توصف، وقلت لشيخنا الأستاذ أبي حيان: قولهما معارِض الزمخشري فردّ ذلك عليّ وقال: أصحابنا يقولون:إن الزمخشري غير نحوي، ولا يلتفتون إليه، ولا إلى خلافه في النحو يعني المواضع التي خالف فيها، وانفرد بها، وكتابه المفصل عندهم محتقر لا يُشتغل به، ولا يُنظر إليه إلا على وجه النقص له والحط عليه، وأنشدني لبعض الأندلسيين:
ما يقول الزمخشري عند عمرو بن قنبر
والخليل بن أحمدٍ والفتى عبد الاكبر
لم يزدنا زيادة غيرتبديل الاسطر
وسوى اسمه الذي نصف مجموعه خري))
ينظر رأي الزمحشري في هذه المسألة الكشاف::- 2/521 -، وينظر رد أبي حيان في البحر 7/290 دون استنقاص لشخص الزمخشري كما ورد في تذكرة ابن مكتوم 0(11/437)
القول بتأبيد النفي بلن قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقولَه اردد وخلافَه اعضدا
وشرح هذا البيت فقال: ((ثم أشرت إلى ضعف قول من رأى تأبيد النفي بلن وهو الزمخشري في أنموذجه، وحامله على ذلك اعتقاده أن الله تعالى لا يرى، وهو اعتقاد باطل بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني ثبوت الرؤية جعلنا الله من أهلها، وأعاذنا من عدم الإيمان بها)) (1)
وقال أيضاً: ((وينصب المضارع بلن مستقبلاً بحدٍّ وغير حدٍّ خلافاً لمن خصَّها بالتأبيد)) (2)
وردَّ ابن الجوزي على من يرى تأبيد النفي ب (لن) دون أن يعين القائل قال: ((قوله (لن تراني (تعلق بهذا نفاة الرؤية، وقالوا لن لنفي الأبد، وذلك غلط؛ لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله (ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم ((3) ثم أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله (يا مالك ليقض علينا ربّك ((4) ؛ ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن تراني في الدنيا)) (5)
ويقول القواس: ((وأما لن فلنفي المستقبل، وقيل:إنها لتأبيد النفي، ويبطله قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً (لأنها لوكانت موضوعة للتأبيد لما احتيج إليه؛ ولأنها نزلت في حق اليهود، ونفي تمني الموت مختص بالدنيا؛ لأنهم يتمنونه في الآخرة بدليل قوله: (ليقض علينا ربك ()) (6)
ويقول أبو حيّان: ((ونقل ابن مالك أن الزمخشري خص النفي بالتأبيد)) (7)
__________
(1) لأبي حيان نفسه أبيات في البحر المحيط في سورة النمل:8/252 يحذر فيها من الزمخشري وكشافه مطلعها:
ولكنه فيه مجال لناقد وزلاَّت سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلاً ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
() شرح الكافية الشافية: 1531 0
(2) تسهيل الفوائد: 229 0
(3) البقرة: 95 0
(4) الزخرف: 77 0
(5) زاد المسير: 3/256 0
(6) شرح ألفية ابن معط:1/ 339 0
(7) الارتشاف: 4/1643 0(11/438)
ويقول ابن هشام: ((ولا تفيد لن توكيد النفي خلافاً للزمخشري في كشافه ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه وكلاهما دعوى بلا دليل)) (1) ، وقال أيضاً: ((لن وهي لنفي سيفعل ولا تقتضي تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري)) (2) ، وقال أيضاً: ((ولن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا تقتضي تأبيداً خلافاً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه)) (3)
ويقول المرادي: ((ولا يلزم أن يكون نفيها مؤبداً خلافاً للزمخشري)) (4) ، وقال أيضاً: ((فأما لن فحرف نفي ينصب المضارع، ويخلصه للاستقبال، ولا يلزم أن يكون مؤبداً خلافاً للزمخشري ذكر ذلك في أنموذجه)) (5)
ويقول ابن عقيل في شرح هذه العبارة ((وينصب المضارع بلن مستقبلاً بحد وبغير حد خلافاً لمن خصها بالتأبيد)) قال: ((وهو الزمخشري ذكر ذلك في الأنموذج)) (6)
وقال ابن الناظم: ((وذكر الزمخشري في أنموذجه أن لن لنفي التأبيد)) (7) ، هكذا بتقديم كلمة نفي على كلمة التأبيد، والمعنى ينعكس حينئذٍ تماماً، ولعل المراد تأبيد النفي كما ذكر ذلك والده، ووردت هذه العبارة أيضاً بتقديم كلمة نفي على كلمة تأبيد عند ابن كثير في تفسير قوله تعالى (لن تراني (قال: ((وقد أشكل حرف النفي ههنا على كثير من العلماء؛لأنها موضوعة لنفي التأبيد 000 وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا)) (8) ، بتكرار عبارة (نفي التأبيد) مرتين، وهذا أمر مشكل لو بقي على وضعه، ولكن يقال لعله خطأ طباعيٌّ أو سبق لسان من المصنف، أو تحريف من الناسخ 0
__________
(1) مغني اللبيب: 374 0
(2) أوضح المسالك: 4/136 0
(3) شرح قطر الندى112 0
(4) الجنى الداني: 270 0
(5) توضيح المقاصد والمسالك:4/173 0
(6) المساعد: 3/66 0
(7) شرح التسهيل: 4/14 0
(8) تفسير القرآن العظيم: 2/254 0(11/439)
وكأن ابن كثير في استشكاله هذا يرى تأبيد النفي بلن؛ لأنه علل وجه الاستشكال بأن لن (موضوعة لنفي التأبيد) أي لتأبيد النفي، إذ لو كان على حسب عبارته (نفي التأبيد) لم يكن هناك إشكال، فأهل السنة -ومنهم ابن كثير - يرون أنها لا تفيد تأبيداً 0
وحاول الزركشي الجمع بين الأقوال المتعارضة في مسألة إفادتها التأبيد من عدمه، إذ يرى أن التأبيد لا يدلُّ على الدوام فقال: ((وأما التأبيد فلا يدل على الدوام تقول: زيد يصوم أبداً، ويصلي أبداً، وبهذا يبطل تعلق المعتزلة بأن لن تدل على امتناع الرؤية، ولو نفى بلا لكان لهم فيه متعلق)) (1) ، وقال أيضاً: ((وليس معناها النفي على التأبيد خلافاً لصاحب الأنموذج بل النفي مستمر في المستقبل إلا أن يطرأ ما يزيله)) (2)
من خلال النصوص السابقة يمكننا القول إن النحاة قد انقسموا في مسألة تأبيد النفي بلن إلى مذهبين:
أحدهما: وعليه ابن مالك وأبو حيان أن لن لا تقتضي تأبيد النفي إطلاقاً سواء أقيِّد منفيها بالأبد أم لم يقيد 0
والثاني: أن لن تفيد تأبيد النفي بذاتها، ولكنهم خصُّوا الأبد في الدنيا فقط دون الآخرة، ومنهم ابن عطية، وابن يعيش، والزركشي وحفيد ابن هشام وغيرهم
المبحث الثالث: لن عند أصحاب المعاني:
__________
(1) البرهان: 4/388 0
(2) المرجع السابق: 4/387 0(11/440)
ذهبت طائفة من أصحاب المعاني إلى أن (لن) تنفي الزمن القريب فقط، ولا يمتدُّ زمن منفيها؛ وعللوا ذلك بأن لها نصيباً من حروفها؛ إذ الحرف الأخير فيها نون؛ وهو مقطع أي: حرف صامت فكان لها نصيب منه، أما أختها في النفي (لا) فهي تنفي الزمن القريب والبعيد على السواء؛ وذلك لأن الحرف الأخير منها ألف؛ وهو حرف صائت يمتد به النفس عند النطق، فكان لها منه نصيب أيضاً قال السهيلي عن لن: ((ومن خواصها أنها تنفي ما قرب لا يمتدّ معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في حرف (لا) إذا قلت:لا يقوم زيد أبداً 000 فحرف (لا) لام بعدها ألف يمتد بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفس، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها، ولن بعكس ذلك فتأمّله فإنه معنى لطيف، وغرض شريف)) (1) ، وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية: ((قلت لشيخنا أبي العباس ابن تيمية قدّس الله روحه: قال ابن جني مكثت برهة إذا ورد عليّ لفظ آخذ معناه من نفس حرفه وصفاته وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أكتشفه كما ظننته أو قريباً منه فقال رحمه الله: وهذا كثيراً ما يقع لي، وتأمل حرف (لا) كيف تجدها لاماً بعدها ألف يمتدّ بها الصوت مالم يقطعه ضيق النفس فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها، و (لن) بعكس ذلك فتأمله فإنه معنى بديع)) (2) 0، وإلى هذا المعنى ذهب عبد الواحد الزَّمْلَكاني (3)
__________
(1) نتائج الفكر: 130 0
(2) بدائع الفوائد: 1/95 0
(3) ينظر البحر المحيط: 1/174، والمساعد: 3/67، وهمع الهوامع: 4/95، والأشباه والنظائر: 5/19 0
وعبد الواحد الزَّمْلَكاني هو: أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف كمال الدين بن خطيب زَمْلَكى كان عالماً متميِّزاً في علوم عدة، ولي القضاء بصرخد، ودرّس ببعلبك، له معرفة تامة بالمعاني والبيان توفي بدمشق سنة إحدى وخمسين وستمائة 0
تنظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي:8/ 316، وبغية الوعاة: 2/119 0(11/441)
في كتابه التبيان في علم البيان (1) ، والزركشي (2)
وذهبت طائفة عريضة من النحاة إلى أن (لن) و (لا) أختان في نفي المستقبل القريب والبعيد على حد سواء، ولا فرق بينهما في امتداد زمن النفي، وليس لأحدهما فضل على الآخر في ذلك، وأن ما ذكره السهيلي ومن تابعه من التفريق بينهما في زمن النفي، وأن لكل واحد من الحرفين نصيب من حروفه ما هو إلا من خيالات البيانيين قال ابن عصفور: ((وهذا الذي ذهب إليه باطل، بل كل منهما يستعمل حيث يمتد النفي، وحيث لا يمتد، فمن الأول في لن (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ((3) (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ((4) ، وفي لا: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى ((5) ، ومن الثاني: (فلن أكلم اليوم إنسياً ((6) وفي لا: (أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام ()) (7) (8)
وقال أبو حيان: ((ودعوى بعض أهل البيان أن لن لنفي ما قرب، ولا يمتد نفي الفعل فيها كما يمتد في النطق بلا من باب الخيالات التي لأهل البيان)) (9)
كما ذهب البيانيون أيضاً إلى أن العرب تنفي المظنون ب (لن) وتنفي المشكوك ب (لا) ، قال ذلك ابن الزملكاني (10) ، ولكي نقف على الفرق الدقيق بين الشك والظن لا بدّ من التعريف بهما وتلمس الفوارق الدقيقة بينهما
__________
(1) التبيان في علم البيان:84 0
وقال السيوطي عن التبيان: ((وحين وصل كتاب التبيان هذا إلى المغرب نقضه ابن رُشيْد من المقيمين بتونس نقضاً في كل قواعده، ونقضه أيضاً الكاتب أبو المطرّف بن عميرة وكان من البلاغة والتحقيق بالعلوم اللسانية والعقلية بحيث لا يدانية أحد من أهل عصره)) الأشباه والنظائر: 5/21 0
(2) ينظر البرهان: 4/387 0
(3) الجاثية:19 0
(4) البقرة: 24 0
(5) طه: 118 0
(6) مريم: 26 0
(7) آل عمران: 41 0
(8) الأشباه والنظائر: 5/20، وينظر البحر المحيط: 1/174، المساعد لابن عقيل: 3/66 0
(9) ارتشاف الضرب: 4/1644 0
(10) ينظر رأيه في الإتقان: 2/235 0(11/442)
فالشك هو: اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما؛ وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتن عنده في النقيضين، أو لعدم الأمارة فيهما، والشك ضرب من الجهل وأخص منه؛ لأن الجهل قد يكون عدم العلم بالنقيضين رأساً فكل شكٍّ جهل ولا عكس، وإن كان طرف الوقوع وعدمه على السوية فهو الشك 0
وإن كان أحد الطرفين راجحاً والآخر مرجوحاً، فالمرجوح وَهَماً، والراجح إن قارن إمكان الوقوع سمي ظناً، وإن لم يطابق سمي جهلاً مركباً 0
والظن: هو: الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك 0
وقيل الظن: أحد طرفي الشك بصفة الرجحان 0 (1)
__________
(1) كليات أبي البقاء: 3/62، وينظرالفروق لأبي هلال العسكري: 79، ومفردات الراغب: (شكك) 265، والمصباح المنير: (شكك) 122،والتعريفات للجرجاني: 128 والتوقيف على مهمات التعاريف: 436،وكشاف اصطلاحات الفنون: 2/530
المصادر والمراجع
*- الإتقان في علوم القرآن جلال الدين السيوطي / تح محمد أبو الفضل إبراهيم /المكتبة العصرية بيروت 1407هـ 0
*-ارتشاف الضرب من لسان العرب لأثير الدين أبي حيان /تح رجب عثمان محمد/ الخانجي / القاهرة 1418هـ 0
*-إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الحموي /نسخة مصورة عن طبعة دار المأمون 0
*- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود الحنفي / تح عبد القادر عطا / مكتبة الرياض لا ط 0
*- الأزهية في علم الحروف لعلي بن محمد الهروي / تح عبد المعين الملوحي/ مجمع اللغة بدمشق: 1401 هـ 0
*- إسفار الفصيح لأبي سهل محمد الهروي/ تح د أحمد قشاش / المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة 1420هـ0
*- أسماء المغتالين لمحمد بن حبيب -ضمن نوادر المخطوطات - تح عبد السلام هارون / مصطفى الحلبي1393هـ0
*-الأشباه والنظائر للسيوطي / تح د0 عبد العال سالم مكرم / مؤسسة الرسالة بيروت:1406هـ
*-الأشموني = منهج السالك إلى ألفية ابن مالك 0
*-الأصول في النحو لابن السراج / تح عبد الحسين الفتلي / مؤسسة الرسالة / بيروت: 1405 هـ
*-إعراب القراءات الشواذ لأبي البقاء العكبري / تح محمد عزوز/ عالم الكتب بيروت: 1996م
*-إعراب القرآن للنحاس / تح زهير غازي زاهد / عالم الكتب / بيروت: 1405هـ0
*- الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني / تح عبد الستار فراج / الدار التونسية للنشر ط:1983م0
*-الأمالي الشجرية لأبي السعادات بن الشجري / تح د محمود الطناحي/مكتبة الخانجي القاهرة: 1413 هـ0
*-أمالي المرتضي (غرر الفوائد ودرر القلائد) / تح محمد أبو الفضل إبراهيم /دار الفكر العربي 0
*-إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي / تح محمد أبو الفضل إبراهيم/مؤسسة الكتب الثقافية بيروت: 1406هـ 0
*- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات بن الأنباري / تح محمد محيي الدين عبد الحميد / دار الفكر بيروت 0
*- الأنموذج في النحو للزمخشري / اعتنى به سامي بن حمد المنصور / لاط / لات0
*-أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام / تح محمد محيي الدين عبد الحميد / المكتبة العصرية بيروت 0
*- الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب / تح موسى العليلي / مطبعة العاني بغداد 0
*- البحر المحيط لأثير الدين أبي حيان / المكتبة التجارية مكة المكرمة 1412هـ 0
*- بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية / مكتبة ابن تيمية بالقاهرة 0
*- البرهان في علوم القرآن للزركشي / تح محمد أبو الفضل إبراهيم / دار المعرفة بيروت 0
*- بغية الوعاة للسيوطي / تح محمد أبو الفضل إبراهيم / المكتبة العصرية بيروت 0
*- تاج العروس للزبيدي/تح علي شيري دار الفكر بيروت1414هـ0
*- التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري / تح علي البجاوي / عيسى الحلبي 1976م0
*- التبيان في علم البيان لعبد الواحد الزملكاني / تح د0 أحمد مطلوب ود0 خدبجة الحديثي / مطبعة العاني 1383هـ 0
*-التخميرشرح المفصل في صنعة الإعراب لصدر الأفاضل الخوارزمي / تح د عبد الرحمن العثيمين:دار الغرب بيروت: 1990م 0
*-ترشيح العلل في شرح الجمل لصدرالأفاضل الجوارزمي/تح عادل محسن العميري/جامعة أم القرى:1419هـ0
*- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك / تح محمد كامل بركات / دار الكتاب العربي 1387هـ 0
*- التصريح بمضمون التوضيح للشيخ خالد الأزهري/تح د: عبد الفتاح بحيري/مؤسسة الزهراء 1413 هـ0
*- تعليق الفرائد وتسهيل الفوائد لبدر الدين الدماميني / تح د 0 محمد المفدى / مطابع الفرزدق بالرياض 1403هـ 0
*- تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل القرآن 0
*- تفسير القرآن العظيم لابن كثير / دار المعرفة بيروت لبنان 0
*- تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن 0
*-تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني /دار النهضة الحديثة
*-تهذيب اللغة للأزهري/تح محمد علي النجار وزملائه/المؤسسة العامة للتأليف والنشر القاهرة: 1964م 0
*-توضيح المقاصد والمسالك للمرادي/تح د0 عبد الرحمن سليمان /مكتبة الكليات الأزهرية الطبعة الثانية.
*- جامع البيان للطبري / دار الفكر بيروت: 1405هـ0
*- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي /دار الكتب العلمية بيروت:1409 هـ0
*-جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي / تح علي البجاوي / دار نهضة مصر ط الأولى 0
*- جمهرة اللغة لابن دريد /تح رمزي البعلبكي/ دار العلم للملايين:1987 م 0
*- الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي / تح د0 فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل / دار الآفاق بيروت: 1403هـ 0
*- جواهر الأدب في معرفة كلام العرب لعلاء الدين الأربلي / تح د أميل بديع يعقوب / دار النفائس بيروت:1412هـ 0
*- حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لمحمد الخضري / دار إحياء الكتب العلمية بالقاهرة 0
*- حاشية الصبان على الأشموني لمحمد على الصبان / عيسى البابى الحلبي 0
*-حاشية يس العليمي على شرح الفاكهي لقطر الندي/ مصطفى الحلبي 1390 هـ0
*- الحيوان للجاحظ / تح عبد السلام هارون / مصطفي البابي الحلبي 1356هـ0
*- خزانة الأدب لبعد القادر البغدادي / تح عبد السلام هارون / الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1979م 0
*- الخصائص لأبي الفتح بن جني / تح محمد على النجار / دار الكتب المصرية: 1371هـ 0
*-دراسات لأسلوب القرآن محمد عبد الخالق عضيمة / مطبعة السعادة:1392هـ0
*-درة التنزيل وغرة التأويل لمحمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي/دار الكتن العلمية0
*-الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي / تح د0 أحمد الخراط / دار القلم دمشق: 1406هـ 0
*- ديوان أبي طالب / جمعه د محمد التونجي / دار الكتاب العربي:1414هـ 0
*-ديوان الأعشى الكبير /شرح وتعليق د محمد محمد حسين / مؤسسة الارسالة: 1403هـ 0
*-ديوان الأعشى الكبير/تح محمد أحمد قاسم /المكتب الإسلامي - بيروت:1415 هـ0
*- ديوان امرئ القيس / تح حقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / دار المعارف:1964م0
*- ديوان حسان بن ثابت / رواية الأثرم، ومحمد بن حبيب / تح د0 سيد حنفي حسنين / الهيئة المصرية العامة للكتاب:1974م 0
*- ديوان الحطيئة / برواية وشرح ابن السكيت / تح د0 نعمان محمد أمين طه / مكتبة الخانجي بالقاهرة: 1407هـ 0
*- ديوان كثير عزة جمع الدكتور إحسان عباس / دار الثقافة بيروت:1971م 0
*-ديوان الكميت بن معروف الأسدي/ضمن شعراء مقلون / صنعة د حاتم الضامن / عالم الكتب:1407 هـ0
*- ديوان لبيد بن ربيعة العامري / تح إحسان عباس /إصدار وزارة الإعلام بالكويت:1984م
*- ديوان المتنبي شرح أبي البقاء العكبري / تح مصطفى السقا وزملائه /مطبعة مصطفى الحلبي: 1391هـ 0
*- ديوان النابغة الذبياني شرح الأعلم / تح محمد أبو الفضل إبراهيم / دار المعارف بالقاهرة:1977م 0
*- ديوان النمر بن تولب / ضمن شعراء إسلاميون / صنعة نوري القيسى/ عالم الكتب بيروت:1405 هـ 0
*- رصف المباني في شرح حروف المعاني لآحمد بن عبد النور المالقي / تح أحمد الخراط / دار القلم بيروت: 1405هـ 0
*- زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي / المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة: 1407 هـ 0
*- سر صناعة الإعراب لأبي الفتح بن جني / تح د0 حسن هنداوي/دار القلم دمشق: 1405هـ 0
*- سفر السعادة وسفير الإفادة علم الدين السخاوي / تح د محمد الدالي/ مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق: 1403هـ 0
*-سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي/ دار البشائر:1408 هـ 0
*-السنن الكبرى للبيهقي / نسخة مصورة عن الطبعة الأولى 1344هـ حيدر أباد الهند 0
*-شرح ابن عقيل / تح حقيق محمد محيي الدين عبد الحميد / الطبعة الخامسة عشرة 1386هـ 0
*- شرح ابن الناظم / تح عبد الحميد السيد/دار الجيل بيروت 0
*- شرح أبيات مغني اللبيب لعبد القادر البغدادي / تح عبد العزيز رباح وأحمد الدقاق / دار المأمون دمشق 1393هـ 0
*- شرح أشعار الهذلييين لأبي سعيد السكري / تح عبد الستار فراج / مكتبة العروبة بالقاهرة 0
*- شرح ألفية ابن معط لعبد العزيز القواس / تح د0 علي الشوملي / مكتبة الخانجي بالقاهرة 1405هـ 0
*- شرح الأنموذج في النحو / للأربلي / تح د شاذلي فرهود /دار العلوم بالرياض 1411هـ
*-شرح الأنموذج في النحو للموستاري=الفوائد العبدية 0
*- شرح التسهيل لابن مالك / تح د0عبد الرحمن السيد , ود 0 محمد بدوي مختون / هجر بالقاهرة 1410هـ 0
*- شرح جمل الزجاجي لابن عصفور / تح د0 صاحب أبو جناح / وزارة الأوقاف العراقية 1980م 0
*- شرح شذور الذهب لابن هشام / تح محمد محيي الدين عبد الحميد / توزيع دار الأنصار القاهرة 1398 0
*-شرح شواهد المغني للسيوطي/ دار مكتبة الحياة بيروت 1386هـ0
*- شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لابن مالك / تح عدنان الدوري / مطبعة العاني بغداد 1397هـ 0
*-شرح فصيح ثعلب للجبّان الأصبهاني / تح عبد الجبار حعفر القزاز / المكتبة العلمية لاهور باكستان 0
*- شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي / تح د 0 فخر الدين قباوة / دار الآفاق الجديدة بيروت 1400هـ 0
*-شرح قطر الندى لابن هشام / تح محمد محيي الدين عبد الحميد / المكتبة العصرية 1414هـ
*- شرح الكافية لرضي الدين الأستراباذي / تح د يوسف حسن عمر منشورات جامعة قار يونس ليبيا 1398 0
*- شرح الكافية الشافية لابن مالك / تح د0 عبد المنعم هريدي / جامعة أم القري مكة المكرمة 1402هـ 0
*- شرح كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافي الجزء الأول والثاني/تح د0 رمضان عبد التواب/الهيئة المصرية العامة للكتاب 6891/ 1990م 0
*- شرح اللمجة البدرية لابن هشام الأنصاري / تح د صلاح راوي/ دار مرجان القاهرة 1984
*- شرح المقدمة الجزولية / للشلوبين / د تركي بن سهو العتيبي / مكتبة الرشد بالرياض 1413هـ
*- شرح المفصل في صنعة الإعراب الموسوم بالتخمير لصدر الأفاضل / تح د0 عبد الرحمن العثيمين / دار الغرب الإسلامي 1990م 0
*- شرح المفصل لابن يعيش / المطبعة المنيرية بالقاهرة 1928م
*- الشعر والشعراء لابن قتيبة / تح أحمد شاكر / دار المعارف بالقاهرة
*-شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح لابن مالك / تحقيق فؤاد عبد الباقي /طار الكتب العلمية بيروت
*- الصاحبي لأحمد بن فارس / تح أحمد صقر/ عيسى البابي الحلبي 1977م 0
*- الصبح المنبي عن حيثية المتنبي للبديعي / تح مصطفى السقا وزملائه / دار المعارف 1977م
*- الصحاح للجوهري / تح أحمد عبد الغفور عطار / نسخة مصورة عن الطبعة الأولى 0
*- صحيح البخاري ت د0 مصطفى ديب البغا / دار ابن كثير الطبعة الرابعة 1410هـ 0
*- صحيح مسلم / فؤاد عبد الباقي / المكتبة الإسلامية استانبول 0
*- الصفوة الصفية في شرح الدرة الألفية للنيلي / تح د محسن سالم العميري / جامعة أم القرى 1420هـ
*- ضرائر الشعر لابن عصفور / تح السيد إبراهيم محمد / دار الأندلس 1402هـ0
*- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي / تح عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناحي / دار إحياء الكتب العربية 0
*- العقد الفريد لابن عبد ربه / تح أحمد أمين وزملائه / لجنة التأليف والنشر 1384هـ 0
*- علل النحو لأبي الحسن الوراق / تح د محمود الدرويش / مكتبة الرشد 1420هـ
*-عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني / مصطفى البابي الحلبي ط الأولى: 1392 هـ
*- العين للخليل بن أحمد / تح مهدي الخزومي , وإبراهيم السامرائي/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت 1408هـ 0
*- عيون الأخبار لابن قتيبة/ نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 0
*- الغرة المخفية لابن الخباز / تح حامد محمد العبدلي / دار الأنبار بغداد 0
*- فتح الباري لابن حجر العسقلاني / المكتبة السلفية الطبعة الثالثة 1407هـ 0
*- الفرائد الجديدة للسيوطي / تح عبد الكريم المدرس / وزارة الأوقاف العراقية
*- الفريد في إعراب القرآن المجيد للمنتجب الهمذاني / تح د0 محمد النمر، وفؤاد مخيمر / دار الثقافة الدوحة 1411هـ 0
*- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري / تح حسام الدين القدسي / دار الكتب العلمية بيروت
*- الفوائد العبدية للموستاري/شرح الأنموذج في النحو / نسخة خطية برقم 100/415 مكتبة عارف حكمت
*- القواعد والفوائد في الإعراب لركن الدين الخاروني الشوكاني /تح د عبد الله حمد الخثران / دار المعرفة الأسكندرية 1413
*- قضية لن بين الزمخشري والنحويين / للدكتور أحمد عبد اللاه هاشم / دار التوقيفية 1399
*-الكامل لأبي العباس المبرد / تح محمد الدالي/مؤسسة الرسالة 1406هـ 0
*- الكتاب لسيبوية / تح عبد السلام هارون / الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م 0
*-الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل / لجار الله الزمخشري/مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1392 هـ0
*-كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / لحاجي خليفة / مكتبة المثنى بغداد 0
*- اللباب في علل البناء والإعراب/لأبي البقاء العكبري/تح غازي طليمات وعبد الإله نبهان/مطبوعات جمعة الماجد بدبي / الطبعة الأولى:1416هـ0
*-لسان العرب لابن منظور / دار الفكر بيروت 1410هـ 0
*-ما ينصرف وما لاينصرف لأبي إسحاق الزجاج / تح هدى قراعة / لجنة إحياء التراث الإسلامي بالقاهرة 1391هـ 0
*- مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى / تح محمد فؤاد سزكين / مكتبة الخانجي 1988م 0
*- مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي / ضبط إبراهيم شمس الدين / دار الكتب العلمية بيروت 1418هـ0
*- مجيب الندى إلى شرح قطر الندى لأحمد الفاكهي / مصطفى الحلبى 1390 هـ 0
*- المحتسب لابن جني / تح علي النجدي ناصف وزملائه / لجنة إحياء التراث الإسلامي بالقاهرة 1386هـ 0
*- المحرر الوجيز لابن عطية / تح المجلس العلمي بفاس / وزارة الأوقاف المغربية 1395هـ 0
*- المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده / تح د عبد الحميد هنداوي / دار الكتب العلمية 1421هـ
*-المخصص لابن سيده / دار الفكر بيروت0
*- المزهر للسيوطي / تح محمد أحمد جاد المولى وزملائه / دار التراث بالقاهرة الطبعة الثالثة 0
*- المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسي / تح د0 حسن هنداوي / دار القلم دمشق 1407هـ0
*- المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل/تح د0 محمد كامل بركات/جامعة أم القرى 1400هـ
*- المستقصى في أمثال العرب للزمخشري / دار الكتب العلمية بيروت 1397هـ 0
*-مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب / تح د حاتم الضامن /مؤسسة الرسالة 1407هـ0
*- مصابيح المغاني في حروف المعاني للموزعي/ تح د عايض العمري /دار المنار 1414هـ0
*- المصباح المنير للفيومي / مكتبة لبنان 1987 م 0
*- معاني الحروف للرماني / تح د0 عبد الفتاح شلبي / دار الشروق جدة 1404هـ 0
*-معاني القرآن للأخفش / تح د0 فائز فارس / دار البشير 1401هـ0
*- معاني القرآن وإعرابه للزجاج / تح د0 عبد الجليل عبده شلبي /عالم الكتب 1408هـ 0
*- معاني القرآن للفراء / عالم الكتب بيروت 0
*- معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب 0
*- معجم شواهد العربية لعبد السلام هارون / مكتبة الخانجي 1392هـ0
*-معجم شواهد النحو الشعرية للدكتور حنا حداد / دار العلوم 1404هـ 0
*- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة / مكتبة المثنى بيروت 0
*- مغني اللبيب لابن هشام ت مازن المبارك ورفاقه / دار الفكر 1979م0
*-المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني / تح محمد سيد كيلاني/مصطفى الحلبي0
*-المفصل للزمخشري / دار الجيل الطبعة الثانية 0
*- مفتاح العلوم للسكاكي / تح نعيم زرزور / دار الكتب العلمية بيروت 1403هـ 0
*- المقتبس في شرح المفصل للأسفندري / نسخة خطية برقم 1948 و 1948مكتبة جار الله تركيا
*- المقتصد في شرح الإيضاح للجرجاني / تح كاظم المرجان / وزارة الثقافة العراقية 1982م
*- المقتضب لأبي العباس المبرد / تح محمد عبد الخالق عضيمة / وزارة الأوقاف المصرية 1399هـ
*- المقرب لابن عصفور / تح أحمد الجبوري وعبد الله الجبوري/ مطبعة العاني بغداد 1391هـ
*-المقصور والممدودلأبي عليّ القالي/تح د أحمد عبد هريدي/مكتبة الخانجي 1419هـ
*- منتهى الطلب من أشعار العرب لابن ميمون / تح د محمد نبيل طريفي /دار صادر 1999
*- المنقوص والممدود للفراء / تح عبد العزيز الميمني / دار المعارف 1977 0
*- منهج السالك لأبي حيّان / رسالة دكتوراه في الولايات المتحدة نسخة مصورة 0
*- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك لعلي بن محمد الأشموني / عيسى البابي الحلبى 0
*- نتائج الفكر للسهيلي / تح د محمد البنا / دار الرياض 1404هـ 0
*- نفح الطيب لأحمد المقرئ التلمساني / تح د0 إحسان عباس / دار صادر 0
*- النكت في تفسير كتاب سيبويه / للأعلم الشنتمري / تح زهير عبد المحسن سلطان / معهد المخطوطات بالكويت 1407هـ 0
*- النوادر لأبي زيد الأنصاري/تح د0 محمد عبد القادر أحمد/دار الشروق 1401هـ
*- نوادر المخطوطات / جمعها عبد السلام هارون / مصطفى الحلبي /1393 0
*- همع الهوامع للسيوطي / تح عبد العال سالم / دار البحوث العلمية 1394هـ 0
*- الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي / المعهد الألماني للأبحاث 1411هـ 0
*- وفيات الأعيان لابن خلكان / تح د0 إحسان عباس / دار صادر 1972م 0
*-هدية العارفين وأسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل البغدادي / مكتبة المثنى بغداد(11/443)
ومن المعلوم عند البيانيين أن أضرب الخبر ثلاثة: ابتدائي، وطلبي، وإنكاري، وأن النفي أسلوب خبري 0
وبعد الوقوف على هذه الفوارق بين الظن والشك، أستطيع القول إن ابن الزملكاني -وهو المهتم بعلم البيان - أراد تطبيق هذه القواعد على (لن ولا) فلحظ ما في لن من تأكيد النفي المناسب إلقاؤه على المتردد في تلقيه؛ إذ هي أشدُّ في النفي من لا وأوقع في نفس السامع فناسب جعلها للمظنون؛ لأن السامع كان يترجح في اعتقاده ثبات ما نفته لن؛ فجاءت لتؤكد نفي ما كان معتقِداً ثباته 0
وأما ((لا)) فليس فيها شيء من التأكيد فناسب جعلها للشك الذي هو اعتدال النقيضين في نفس السامع وتساويهما عنده 0
الحواشي والتعليقات(11/444)
أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي
وأثره النحوي
الدكتور شريف عبد الكريم النجار
أستاذ النحو والصرف المساعد في كلية المعلمين بالإحساء
ملخص البحث
يَتناولُ هذا البحث واحداً مِنْ الشَّخْصيّاتِ النَّحويّة الأندلسيّةِ التي كَانَ لها دورٌ بارزٌ في الحَياةِ العِلميّةِ في الأندلس في مُنتَصفِ القرنِ الخامسِ وأوائلِ القرن السادسِ الهجري، فَقد ساعدت هذه الشخصيّةُ على إثراءِ التراثِ النحوي في الأندلس،وذلك من خلال الصراعِ النحويّ الذي شهدته الأندلس،وكان بين اتجاهين: اتجاه يُنْقص من قيمة الفارسي وكتبِه، ويتزعّم هذا الاتّجاه ابنُ الطراوَةِ النحوي، وآخر يُقَدّرُ الفارسي وكتبه، وهو مَنْ عنى به هذا البحث،وهو أبُو الحَسَن بن الباذِش الغرناطي، وكلُّ اتجاهٍ منْهُما أيضاً يزعم أنّ ما فهمَه من عبارة سيبويه هو الصحيح.
لم يَصِلنا مِنْ كتب أبي الحَسَن بن الباذِش سِوى قِطْعَةٍ صغيرةٍ من شَرْحِه على الجُمَلِ، نَقَلَها أبو حَيَّانَ الأنْدلسيّ في تَذْكِرةِ النُّحاةِ، كَما أنَّ هُناكَ مَجموعةً كبيرَةً مِنْ الآراءِ لابن الباذِشِ منثورة في كتب النحو، وقد اقتَصَرَ البَحْثُ على دراسَةِ آراءِ ابنِ الباذِشِ واخْتِياراتِه وتوجيهاتِه النحويّة،ولابن الباذِشِ آراءٌ واخْتِياراتٌ كثيرة في الصرفِ والقراءاتِ مَبْثوثةٌ في كتاب ولدِه أبي جعفر (الإقناع) .
تَنَاوَلَ الباحِثُ في البدايةِ الحياة العِلمِيَّة في عصر ابن الباذِش،ثُمَّ عَرَضَ لحياةِ ابن الباذِش، فتَحَدَّث عن نشأتِه وشيوخِه وتلاميذِه وكتبه،وتناول بعد ذلكَ آراءَه واخْتِياراتِه وتوجيهاتِه النحوية، وتَحَدَّثَ عن خِلافِهِ مع ابن الطَّراوَة،وختم البحثَ بالحديث عن أبرز ما توصّل إليه البحث، ويتضمّن ذلك الحديث عن بعض ملامح نحوه.(11/445)
ورأى الباحثُ أنّ ابنَ الباذِشِ شخصيّةٌ نحويّةٌ لها آراؤها التي يتفرَّدُ بها، كمَا أنَّ لهذِه الشَّخصيَّةِ محاولاتٍ في فهم عبارة سيبويه،وقد يختلف في فهمه مع غيره من النحاة، كمَا أنَّ لهذه الشخصية اهتِمامٌ خاصّ بالعللِ النحويةِ التي يَرى أنّها تُساعِد على فهم القضية النخوية.
مُقدِّمة
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على إمامِ الخَلقِ وسيِّدِ المُرْسَلين وعَلى آله الذين اهْتَدوا بهَدْيِه، وسَلَكُوا نَهْجَه وسُنَّتَه وصَحْبِه الذين اتَّبَعُوه ونَصَروه، وانتَشَروا في الأرْضِ داعين لِدِينِه، وبعد:
فقد أَخَذَت العلومُ في الأنْدلسِ تَزْدَهِرُ في عصرٍ تَمزَّقَ فيه الأندلسُ، وتَفرّقَ أهلُه شِيَعاً، وانقسمَت أرضُه إلى مَمالكَ وطوائِفَ عِدّةٍ، وكانَ هذا في القرنين الخامسِ والسادسِ،ففي القرنِ الخامسِ وُجدَ مُلوكُ الطوائِفِ، وفي نهايةِ القرنِ الخامسِ وبِدايَةِ القرنِ السادسِ وُجِد المرابطون،فهي فترةُ انْتِقالٍ وتَحَوُّلٍ سِياسيٍّ لمْ تَخلُ مِنْ الاضطرابِ والفَوضى السياسيةِ وعدمِ الاستِقرارِ.
وكانَ أهْلُ الأندلسِ قبلَ هذينِ القرنَيْن قد اهتمّوا بعلومِ أهلِ المَشرقِ، فارْتَحَلوا طلباً لها، وجَلبُوا مَا وَضَعَه علماءُ المشرقِ مَعَهُم، فتَدَارَسُوه ودَرَّسوه لأبنائهم،وكَانَ مِنْ ضِمْنِ هذه العلومِ علمُ النَّحوِ والصَّرْفِ والقراءاتِ والتفسيرِ والفقهِ وأصولِه والحديثِ وعلومِه. ...(11/446)
وأخَذَتْ علومُ اللغةِ النَّصيبَ الكَبيرَ مِنْ هذه العلومِ، وكانَ مِنْ أهمِّ الكتبِ النَّحْويَّةِ التي أحْضَروها مَعَهم وتَدَارَسُوها كتابُ سيبويه وإيضاحُ الفارسيِّ وجُمَلُ الزَّجَّاجِيِّ والكافِي للنَّحَّاسِ، فاهْتَمَّ علماءُ الأندلسِ بهذِه الكتبِ وغيرِها، فشَرَحُوها وتَوَسَّعوا في شَرْحِها حَتّى إنّ كتابَ الجُمَلِ شُرِحَ في الأندلسِ أكثرَ ممّا شُرِحَ في الأندلسِ،وممّنْ شَرَحه ابنُ عُصفور، فعُرِفَ له أكثرَ مِنْ شَرْحٍ عَلى كتابِ الجُمَلِ.
وكانَ مِنْ أبْرزِ عُلماءِ هذه الفَتْرَةِ عَالِمان كانَ لَهُما الدَّوْرُ الكَبيرُ في ازْدِهارِ الحَياةِ العِلميَّةِ،هما أبُو الحُسين بنُ الطّراوةِ وأبو الحسن بن الباذِشِ الغرناطي، فعلى هذين العَلَمَين أَخَذَ كَثيرٌ مِنْ علماءِ الأندلسِ مَعَارِفَهُم، وكَانا في تَنَافُسٍ ونِدّيّةٍ عِلميَّةٍ دائمةٍ.
وقد اختارَ الباحِثُ شَخصيَّةَ ابنَ الباذِشِ الغَرْناطيّ لِتَكونَ مَوْضوعَ هذا البحثِ مَدفوعاً بعِدّةِ أمورٍ: مِنْها أهميَّةُ هذه الشخصيَّةِ،فهي أَبْرَزُ شَخْصيَّةٍ نَحْويَّةٍ في تلكَ الفترةِ، ومِنْها أنَّ هذه الشخصيَّةَ لمْ تَنَل اهتِمَامَ الباحِثين، فلم يكتبوا عنها، والسَّبَبُ في ذلك أنَّه ليسَ لهذِه الشَّخْصيَّةِ كُتُبٌ موجودةٌ، مَخطوطةٌ كانت أو مَطبوعةٌ، فآراؤه واختياراتُه مَبثوثةٌ في بُطونِ الكتبِ، ومِنْ هذِه الدَّوافعِ مُحاولةُ إبرازِ الفِكرِ النَّحْويِّ لِهذِه الشَّخْصِيَّةِ.(11/447)
وارْتَأَى الباحثُ تَقسيمَ هذا البحثِ إلى مُقدِّمَةٍ وثلاثةِ فُصولٍ وخَاتمةٍ، أمّا الفصلُ الأوَّلُ فحَمَلَ عنوانَ"عَصْر ابنِ الباذِش وحياتِهِ "،تَحدّثتُ فيه أولاً عن الفترةِ التي عاشَ فيها ابنُ الباذِش مِنْ ناحِيَةٍ سياسيَّةٍ وعِلميَّةٍ،ثمّ انتقلتُ إلى الحديثِ عَنْ حياةِ ابنِ الباذِش،وقد تَحَدثتُ في هذا المَوضِعِ عن اسْمِه وكنيتِه ومولدِه ولقبِه وأخلاقِه وعلمِه وشيوخِه وتلاميذِه وآثارِه وشعرِه ووفاتِه،ومِنْ الصُّعوباتِ التي واجَهَتني في هذا الفَصْلِ وُجودُ شخصياتٍ غيرِ معروفةٍ،فلمْ أعثرْ على ترجَمَةٍ لها، وأُحبُّ أنْ أُشيرَ هنا إلى أنّ هذا بحثٌ صَغيرٌ وليسَ كِتاباً، ولذلك تَعرّضتُ لشيوخ ابنِ الباذِشِ وتلاميذِه باختصار.
وأمّا الفصلُ الثاني فهو بعنوان: " آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه النحويَّةُ "، وقد ضَمَّنْتُ هذا الفصلَ ما جَمَعْتُه مِنْ أمّهاتِ الكتبِ، وجَعَلْتُ هذا الفصلَ أربَعَة أقسام، الأوّلَ: آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه في مَسائلَ نحويةٍ عِدّةٍ، والثاني: رأيُه في العاملِ النحويِّ في عِدَّةِ مَسائلَ نحويةٍ،والثالثَ: رأيُه في العلّةِ النحويةِ في بعضِ المَسائلِ، والرابعَ: توجيهاتُه لبعض الآياتِ القرآنيةِ.
وأمّا الفصلُ الثالثُ فقد حَمَلَ عنوانَ: " خِلافُه مَعْ ابنِ الطَّراوَةِ "، وهذا هو أصغرُ فصولِ هذا البحثِ،والسببُ في ذلك أنّنا لا نَملكُ تلك الكتبَ التي وَضَعها هذان العالمان أثناءَ تنافُسِهما،فقلّةُ المَعلوماتِ هي السببُ في صِغَرِ هذا الفصلِ.
وخَتَمتُ هذا البحثَ بالحديثِ عنْ نتائجِ هذا البحثِ،وقد تَضمّنَتْ هذه الخاتمةُ الحديثَ عنْ منهجِ ابنِ الباذِش النحويّ الذي حاولتُ اسْتِخْلاصَه من المَسائِل النحويةِ التي دَرَسْتُها، ويُضافُ إلى المَنْهَجِ اسْتِخْلاصُ النتائجِ في جَميعِ البحثِ.(11/448)
وأرجو أنْ تكونَ هذه المُحاولةُ قد أعطتْ هذا العالِمَ شيئاً مِنْ حَقّه علينا، ولا أدّعي أني قد أعطيتُ هذا العالِمَ كامِلَ حَقِّه، فهو يَحْتاجُ إلى دراسةٍ أكثرَ اتِّساعاً،وخِتاماً هذا جَهْدي قدّمتُ فيه ما أقْدَرَني اللهُ على تقديمِه،كما يَفتَحُ الباحثُ صَدْرَه لأيِّ نقدٍ مفيدٍ،وأرجو أنْ يَفيدَ الباحثون مِنْ هذا البحثِ كما أفادَ الباحثُ مِنْ غيرِه، كمَا أرجو أن يغفرَ لي ربُّ العالمين ما في هذا البحث مِنْ نَقْصٍ وزَلَلٍ. والحمد لله ربّ العالمين
الفصل الأول: عصر ابن الباذِشِ وحياته
أوّلاً:الحياة السياسية والعلمية في الأندلس في عصر ابن الباذِش
وُجِدَ في الأندلسِ في الفترةِ ما بين (444528هـ) نَمَطان من أَنماطِ الحكمِ، الأولُ ما يُعرَفُ بدولِ ملوكِ الطوائفِ، والثاني دولةُ المُرابطين، أمّا دولُ الطوائفِ فهي ممالكُ صغيرةٌ كانَ بعضُ الملوكِ قد شادها، وهي رمزٌ للفرقةِ والتناحرِ، ومن هذه المَمالك دولةُ بني جَهْوَر في قرطبةَ (422463هـ) ودولةُ بني زِيْرِي بن مَنَاد في غرناطةَ (403483هـ) ودولةُ بني عَبَّاد في اشبيليةَ (414484 هـ) ودولةُ بني الأفْطَسِ في بطليوسَ (413488هـ) .(11/449)
وبقيت هذه الدولُ في نزاعٍ وفرقةٍ فيما بينها، فكلُّ دولةٍ منها تُحاولُ السيطرةَ على الأخرى، وكانت هذه الدولُ تستعينُ بالنَّصارى في هذه المُنازعاتِ، وبلغت هذه الدولُ من الضعفِ والهوانِ أنْ صارت تُؤدّي الجزيةَ للنَّصارى، واستغلَّ النصارى هذا الضعفَ، فَبَدَأوا بمُناوَشَةِ المسلمين،وبقي الأمرُ على هذه الحالِ حتى سقطت طُلَيْطِلَةُ بأيدي النصارى سنة 478هـ،فتنبَّهَ بعضُ المسلمين لهذا الخَطَرِ الداهمِ فَأرسَلوا إلى أمير المسلمين يوسفَ بن تاشفينَ، فدخلَ الأندلسَ سنة 479هـ، وبدأ المُرابِطونَ عهدَهم في محاولةِ السيطرةِ على الأندلسِ،واستمروا في حروب طاحنةٍ مع ملوكِ الطوائفِ من جهةٍ ومع النصارى من جهةٍ أخرى،ولم يستقرَّ الأمرُ لهم في الأندلسِ إلاّ في سنة 500هـ حيث تمّ الاستيلاءُ على معظمِ دولِ ملوكِ الطوائفِ (1) .
هكذا كان الجوُّ السياسيُّ في الأندلسِ في القرنِ الخامسِ الهجري، فهو كما يلاحظ جوُّ تمزّقٍ وفُرقةٍ، فلم تشهد هذه الدولةُ الإسلاميةُ الاستقرارَ في الحياةِ السياسيةِ والعسكريةِ إلا في سنواتٍ قليلةٍ في عهد المرابطين 0
__________
(1) ... راجع تاريخ الأندلس في هذه الفترة في دول الطوائف لمُحَمَّد عبد الله عنان وكتاب عصر المرابطين والموحدين لمُحَمَّد عبد الله عنان(11/450)
والظاهرُ أنّ هذا الاضطرابَ السياسيَّ والعسكريَّ لم يكن تأثيرُه على الحياةِ العلميةِ كبيراً فقد استمرَّ التكوينُ الحضاريُّ لهذه الدولة،وشهدت الأندلسُ ازدهاراً علمياً وفكرياً لم يكن لها من قبلُ، فبقي العلماءُ عاكفين على الدرسِ والتحصيلِ في شتّى الفنون، وذلك يرجعُ إلى الرعايةِ التي حظيَ بها العلماءُ من حكامِ الأندلسِ، فقد كان ملوكُ الطوائفِ حَريصين على استقطابِ العلماءِ وتكريمهم، والظاهر أنهم كانوا يرون في العلماءِ عوناً لهم في نِزاعاتِهم، ولا يُنْسى أنّ بعضَ هؤلاء الملوكِ كان من المعروفين في العلوم والآداب كالمعتمدِ بن عبَّاد والمظفّرِ بن الأفطس.
وشهد الأندلسُ نشاطاً علمياً في شتّى العلوم،فبرزت مجموعات كثيرة من العلماء، ففي العلوم الشرعية أذكر منهم: أبا مُحَمَّد بن حَزم الأندلسي الظاهري (1) (ت 456هـ) ،وأبا جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن الباذِش (2) (540 هـ) صاحبَ الإقناع في القراءاتِ السبع، وابنَ عطية الأندلسي (3) (ت 542هـ) صاحبَ المحرِّرِ الوجيزِ في التفسير،وأبا بكر بن العربي (4) (ت 543هـ) والقاضي أبا الفضلِ عياض بن موسى (5) (ت 544هـ) ، وغيرهم كثير.
وبرزَ في الشعرِ والأدبِ جملةٌ من الأدباءِ، أبرزُهم ملكُ دولةِ بني عبَّاد المُعْتَمدُ بن
__________
(1) انظر ترجمته في الصلة 2/415
(2) انظر ترجمته في الإحاطة 1/194 والبلغة 60 والمعجم لابن الأبار 29وبغية الوعاة 1/238
(3) انظر ترجمته في الإحاطة 3/539
(4) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 20/197
(5) انظر ترجمته في المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي لابن الأبار 306(11/451)
عبَّاد (1) ، وابن زَيدونَ (2) ،وابنُ خَفاجَةَ (3) ، وابنُ حَمديسَ (4) ، كما ظهرَ مجموعةٌ من العلماءِ في الطب، أشهرُهم ابنُ زُهْر الإشبيلي (5) ،وكان هناك نشاطٌ في علومِ الرياضياتِ والفلكِ والتاريخِ وغيرها من العلوم.
واهتم العلماءُ في هذا العصر بالنحو واللغة،ومن مظاهرِ هذا الاهتمامِ نشاطُ حركةِ التأليفِ في هذين الموضوعين، وكثرة العلماء فيهما، ومن أبرز العلماء الذين كان لهم جهدٌ ملحوظٌ في النحو واللغة:
1 ابنُ سيدَه اللغوي علي بن إسماعيل (ت 458هـ) صاحبُ المخصَّص والمحكم وشرح إصلاح المنطق (6) .
2 الأعلمُ الشَّنْتَمَري، أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى (ت476هـ) ،له تلاميذ كثر، منهم ابن أبي العافِيَة،وابن الطراوة،وغيرهما،وله من الكتب تحصيلُ عينِ الذهبِ والنكت في تفسير كتاب سِيْبَوَيْه وشرح ديوان الشعراء الستة،وغيرها (7) .
3 مُحَمَّد بن أبي العافِيَة اللخمي (ت509هـ) الإمامُ بجامع إشبيليةَ،أخذ عن الأعلمِ الشَّنتمري، وكان من أهل المَعْرِفَة والأدب، أخذ الناس عنه ذلك (8) .
4 أبو مروان عبد الملك بن سراج (ت 489هـ) (9) .
5 أبو بكر مُحَمَّد بن هشام المَصحَفي (ت481هـ) (10) .
__________
(1) انظر ترجمته في الإحاطة2/108
(2) انظر ترجمته في جذوة المقتبس 130
(3) انظر وفيات الأعيان 1/56
(4) انظر وفيات الأعيان 3/212
(5) انظر الحياة العلمية في الأندلس في عصر الموحدين 332
(6) انظر ترجمته في البلغة148
(7) انظر ترجمته في إنباه الرواة4/59 والبلغة246 وبغية الوعاة2/356
(8) انظر ترجمته في إنباه الرواة 3/73 والصلة 2/513
(9) انظر ترجمته في شيوخ ابن الباذِش من هذا البحث
(10) انظر ترجمته في شيوخ ابن الباذِش من هذا البحث(11/452)
6 عبد الله بن مُحَمَّد بن السيد البطليوسي (ت 521هـ) من كبار علماء الأندلس في اللغة والنحو والفلسفة والفقه، له الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، والحلل في أبيات الجمل وشرح الموطأ وغيرها من الكتب (1) .
7 ابن الأبرش خلف بن يوسف (ت 532هـ) كان إماما في العربية واللغة، له حظ وافر من الفرائض (2) .
8 ابن الأخضر، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن مهدي النحوي الإشبيلي (ت 514هـ) (3) .
9 ابن الطراوة أبو الحسين سليمان بن مُحَمَّد (ت528هـ) أخذ النحو عن الأعلم وابنِ سراج، قيل: كان أعلمُ أهلِ عصرِه بالأدبِ والعربيةِ،له الإفصاح والمقدمات على كتاب سِيْبَوَيْه والترشيح،وغيرها من الكتب (4) .
ثانياً: حياته
اسمه وكنيته ولقبه ومولده
__________
(1) انظر ترجمته في البلغة 126 وبغية الوعاة2/55
(2) انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/557
(3) انظر ترجمته في إنباه الرواة 2/288وبغية الوعاة 2/174
(4) انظر ترجمته في البلغة108 وبغية الوعاة 1/602 وانظر كتاب ابن الطراوة النحوي -د. عيّاد عيد الثبيتي، وكتاب أبو الحسين ابن الطراوة وأثره في النحو-د. مُحَمَّد إبراهيم البنا(11/453)
هو (1) أبُو الحَسَن عليُّ بنُ أحمدَ بن خَلف بن مُحَمَّد الأنصاري الأندلسي الغرناطي المالكي النحوي،وزاد ابن فَرْحُون لقبَ (الباذِش) في اسمِه،فقالَ: عليٌّ بنُ أحمدَ بن خلف بن مُحَمَّد الباذِش الأنصاري (2) ،ويبدو لي أنّ هذا هو الصوابُ في اسمِه، فقد عُرفت أسرةُ أبي الحسن في غرناطةَ ببني الباذِشِ (3) ، فالباذِشُ ليس لقباً لأبي الحسن وحدَه وإنما هو لقبٌ لجميع أسرته.
عُرِفَ أبو الحسن بهذا اللقب، وكذلك عُرِفَ به ولدُه أبو جعفر وحفيدُه أبو مُحَمَّد، وكان بعضُ الشيوخ يقول: (البَيْذِش) بكسر الذال، وقيل: معناها بالعربية: (الرجلان) (4) .
وُلِد أبو الحسن سنةَ أربع وأربعين وأربعمائة بغرناطةَ في أسرةٍ أصلُها من (جيان) (5) في الأندلس، وقد عُرفت بالتديِّن والعفافِ والورعِ،وهي أسرةٌ محبةٌ للعلمِ مجتهدةٌ في تحصيله، قال في الإحاطة عن أبي جعفرالرُّعَيْني (6) : "هو مِنْ بَيْتِ تَصاونٍ وعَفَافٍ ودين والتزامٍ بالسُّنة كَانوا في غَرناطَة في الأشْعارِ وتَجْويدِ القرآنِ والامْتِيازِ بحَمْلِه وعُكوفِهم عليه نُظراءُ بني عظيمة بإشبيليةَ وبني الباذِش بغرناطة ".
أخلاقه وعلمه
__________
(1) ترجمته في بغية الملتمس للضبي 419 والصلة لابن بشكوال 2/425 والديباج المذهب لابن فَرْحُون 205206 وإنباه الرواة2/227والبحر المحيط1/290 والمعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي لابن الأبار 286288 والإحاطة 4/1000وبغية الوعاة 2/142وشجرة النور الزكية 1/131 وهدية العارفين 1/696 وكشف الظنون 2/1793
(2) انظر الديباج المذهب 205
(3) انظر الإحاطة1/193
(4) انظر المعجم لابن الأبار 286
(5) انظر بغية الملتمس 419 والمعجم لابن الأبار 286
(6) الإحاطة 1/193(11/454)
عُرفَ أبو الحَسَن بالتزامِه بالدين مع ورعٍ صادقٍ وزهدٍ في الدنيا خالصٍ طيلةَ حياته (1) ، وكان إمامَ الفريضةِ بجامع غرناطة (2) ،كما عُرفَ بالتَّواضُعِ، فقد كانَ مُحِبّاً للعلم مجتهداً في طلبه،فيَجْلسُ مُسْتمِعاً أو قارئاً على العلماءِ مَعْ تَلامِذَتِه، يقولُ ابنُ عياض وهو أحَدُ تلامذته (3) : " كانَ مَعْ تَصَدّرِه وتَقَدّمِه لا يَقطَعُ الطلبَ والسَّماعَ والرِّحْلةَ،سَمِعَ مَعَنا عَلى الشيوخِ، وكانَ يَقرَأ على المُقرِئينَ ما فَاتَه مِنْ رِوايةٍ ".
وقيلَ في عِلمِه (4) : " وكَانَ من أهْلِ المَعْرِفَةِ بالآدابِ واللغاتِ والتَّقدّمِ في علمِ القراءاتِ والضَّبْطِ للرواياتِ، وكانَ حَسَنَ الخَطِّ جَيِّدَ التَّقْييدِ، وله مُشاركةٌ في الحديثِ ومَعرفةٌ بأسْماءِ رجالِهِ ونَقَلَتِه،وكان مِنْ أهلِ الروايَةِ والإتقانِ والدّرايةِ "، فقد جَمَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش علمَ القرآنِ والحديثِ واللغةِ والشعرِ والنحوِ،فكان من أهل المَعْرِفَة في علومٍ عدّة.
__________
(1) انظر بغية الملتمس 419
(2) انظر الديباج المذهب 1/205
(3) المعجم لابن الأبار287
(4) الصلة لابن بشكوال 2/425(11/455)
ويشهدُ على علمِه في القراءاتِ كتابُ ولدِه أبي جعفر حيثُ يحسُّ القارىءُ لكتابِ الإقناعِ في القراءاتِ السبعِ أنَّ أبا الحَسَن مؤلِّفٌ مُشاركٌ في هذا الكتابِ، فقد ذكره ولدُه أكثرَ من خمسين مرّة ناقلاً عنه مستنيراً برأيه، وكانَ ولدُه أبو جعفر مُعجباً به وبعلمِه ونفاذِ رَأيِه حتى إنه قال فيه (1) : " وحقّ على من أوتي بسطةً في اللسان، وبُوِّىء ذروةَ الإحسان، وأخذ عن النقابِ الماهرِ والشهابِ الزاهر، أستاذِ الأستاذين، وجهبذِ الجهابذة الناقدين أبي الحَسَن علي بن أحمد رضي الله عنه، بقية الأعلام، وذخيرة الأيام "،وقال أيضا (2) : " وطالعت أبي أيّده الله في مشكله وعويصه،فلما سَرّه وأرضاه وأقرّه وارتَضاه، وتقلّده وانْتَضاه، كشفت عنه قناعاً مغدَقاً،وأطلعته نوراً يجلو سُدَفاً، ودرّاً فارق من الكتمان صدفاً استناداً إلى عارضتِه الشديدةِ المكينة، وموادّه العتيدةِ المنيعةِ، لأنّه يَغْرفُ من بُحور، ويسعى بين يديه أوضحُ برهان وأسطعُ نورٍ، فدونَك منه فائدةً تُشَدّ الرحالُ فيما دونَها، ويَلقاها الرجال ولا يعدونها ".
__________
(1) الإقناع في القراءات السبع 50
(2) الإقناع في القراءات السبع 51(11/456)
ويَشهدُ على علمِه في الحَديثِ ورجالِه وعلومِ القرآنِ والأدبِ مَا ذَكَرَه ابنُ الأبارِ مِنْ مسموعاتِ ابنِ الباذِش في علومٍ عدّة،فيُدرِكُ القارىءُ لهذِه المسموعاتِ مَدى مَعْرِفَةِ ابنِ الباذِش في هذِه العلومِ، قالَ ابنُ الأبارِ (1) : " ومِنْ جُمْلةِ مَسْمُوعاتِه الغَريبان للهَرَويّ والناسخُ والمَنسوخُ لهبةِ اللهِ، ومسندُ البزّارِ، والشَّمائِلُ للترمذي، والمُؤتلِفُ والمُخْتلِفُ للدارقطني ولعبد الغني، ومُشتبَهُ النسبةِ له، ورِياضَة المُتعَلمين لأبي نعيم، وأدبُ الصحبَةِ للسلمي،وحديثُ يونس بن عبد الأعلى،وحديثُ الزعفراني، وعَوالي الزَّيْنبي، وعَوالي ابنِ خيرون،وعدة مجالس من أمالي أبي الفوارس، وأمالي ابن بشران وكثير من الأجزاء سوى ما لم أقف عليه من الدواوين ".
أمّا علمُه في النحو فهو العلمُ الذي عُرفَ به، وانفردَ به دونَ غيرِه مِنْ العلومِ التي شارَكَ فيها، قيلَ عنه (2) : " كان من أحفظِ الناسِ لكتابِ سِيْبَوَيْه وأرفقِهم به "، وكَانَ يَعتَدُّ بنَفْسِه في هذا العِلمِ، قال أبو بكر بن الرّمَاليّة (3) : "سمعتُ أبا الحَسَن بن الباذِش يقولُ:نُحاةُ الأندلس ثلاثةٌ:أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي العافيةِ وأبو مَروانَ بنُ سِراج أو ابنُه أبو الحُسَين شكّ أبو بكر وكانَ يسْكُتُ عَنْ الثالثِ فيَرَونَه يريدُ نفسَه "،كما يشهدُ على تَفرّده بهذا العلم دونَ غيره مُصَنَّفاتُه التي سأُشيرُ إليها، فلم يُذكر عنه أنّ له جُهداً في عِلمِ الحَديثِ أو غَيرِه مِنْ العلومِ.
شيوخه
__________
(1) المعجم لابن الأبار 286
(2) بغية الملتمس 419
(3) المعجم لابن الأبار 287(11/457)
ذَكَر ابنُ الأبار أنّ لأبي الحَسَن بنِ الباذِش برنامجاً حافلاً في تسميةِ شيوخِه وما أَخَذَ عنهم (1) ، كما ذكر ابنُ خير أنَّ لأبي جعفر بن الباذِش كتاباً جَمَعَ فيه شيوخَ والدِه (2) ،ويَدلُّ هذا عَلى كَثرةِ الشيوخِ الذين اتصلَ بهم أبو الحَسَن بن الباذِش، وهذا يناسب العصر الذي عاش فيه ابن الباذِش، فهو عصرٌ زاخرٌ بالعُلماءِ الذين قدّموا للبشرية حضارةً راقيةً، وللأسَفِ لم يصلنا شيء من هذا البرنامج الذي ذَكَره ابنُ الأبارِ أو مِنْ مُؤلّفِ وَلدِه،وسأعرض في هذا الموضع بإيجاز لشيوخ ابن الباذِش:
1 أبو بكر مُحَمَّد بنُ هِشَام بن مُحَمَّد القَيْسي المَصْحَفيّ (ت481هـ) مِنْ كبارِ عُلماءِ قرطبةَ،أَخَذَ عن ابنِ القوطية وصَاعِد بن الحَسن وغيرهما، وتتلمَذ على يديه أبو الحُسَين ابنُ الطَّرَاوَةِ وغَيرُه، ومَرْوِيّاتُه تدلُّ على اهتِمامِه باللغةِ والنحوِ والأدبِ (3) .
2 أبو مَروانَ عبدُ الملك بنُ سِراج بن عبد الله (ت489هـ) (4) عَدّه أبو الحَسن بن الباذِش من نُحاةِ الأندلس الذين يُعْتدُّ بهم (5) ،كان مهتما بكتابِ سِيْبَوَيْه فيُروى أنَّه عَكَفَ على كتابِ سِيْبَوَيْه ثمانية عشر عاما لا يَعْرِفُ سواه،أخذ عن مَكيّ بن أبي طالب وابنِ الإفْلِيْلِيّ.
3 أبو عَليّ الحُسينُ بن مُحَمَّد بن أحمد الغساني (ت 498هـ) رئيسُ المحدثين بقرطبة،وأَخَذَ عنه ابن الباذِش علوم الحديث ذكر ابنُ بشكوال أن ابن الباذِش قد أكثرَ من الأخذِ عنه (6) .
__________
(1) انظر المعجم لابن الأبار 286
(2) انظر فهرسة ابن خير 437
(3) انظر ترجمته في الصلة لابن بشكوال 2/556
(4) انظر ترجمته في أنباه الرواة 2/207 وبغية الوعاة 2/110
(5) انظر المعجم لابن الأبار 287
(6) انظر ترجمته في المعجم لابن الأبار79 والصلة 2/ 425(11/458)
4 أبو عَليّ الحُسَين بن مُحَمَّد بن سَكْرة الصَّدَفيّ (ت514) كان حافظاً لمصنفات الحديث وأسانيدها ورواتها، له التعليقة الكبرى في الخلاف والمعجم (1) .
5 أبو الحُسَين سِراجٌ بنُ عبدِ المَلِك بنُ سِراجٍ بنُ عبدِ الله بنُ سَراجٍ (ت 508هـ) قالَ فيه أحَدُ العلماءِ: كانَ أبو الحُسَين مِنْ أكمَلِ أَهْلِ عَصْرِه مروءةً وصيانَةً وأوسَعَهم مالاً وجَاهاً وأكْثرَهم مهابَةً يَجْتِمعُ إليه للسَّمَاعِ في الأربعين والخمسين من رُؤساءِ الملثمين ومهرةِ الكُتَّابِ كأبي عبدِ الله بنِ أبي الخِصَالِ وأبي بكر بنِ عبدِ العزيز وجلة أستاذيّ النحو كأبي القاسم بن الأبْرَشِ وأبي الحَسَن بن الباذِش، وكُلُّهُم إليه مفتقرون لِوُقوفِه على مواد النحو من أشعار العرب وحكاياتها ولغاتها وأخبارها (2) .
6 أبو القاسم نعم الخلف بن مُحَمَّد بن يحيى الأنصاري (3) .لم أستطع العثور على ترجمة له.
7 أبو جعفر بن رزق (4) .لم أستطع العثور على ترجمةٍ له.
تلاميذه
أَخَذَ العِلمَ عن ابنِ الباذِش كثيرٌ من التلاميذ،ولم يَأخُذوا عنه علمَ النَّحو دونَ غيرِه مِنْ العلومِ التي يُتْقنُها، فمِنْهم مَنْ أَخَذَ عنه علمَ القراءاتِ، وبعضُهم أَخَذَ عنه في علوم الحديث،وأذكر ها هنا أسماء تلاميذه فقط مختصراً:
1 ابن الأبْرَش خلف بن يوسف (ت532هـ) (5) .
2 مُحَمَّد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني (ت538هـ) (6) .
3 ولده أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري المعروف بابن
الباذِش (ت540هـ) صاحب الإقناع في القراءات (7) .
__________
(1) انظر ترجمة المحقق له في مقدمة كتاب المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي لابن الأبار
(2) انظر المعجم لابن الأبار 318
(3) انظر الإحاطة 4/100 والديباج المذهب 205وبغية الوعاة2/142
(4) انظر الصلة 2/425
(5) انظر بغية الوعاة1/557
(6) انظر ترجمته في الإحاطة2/521
(7) انظر ترجمته في الإحاطة 1/ 194 والبلغة 60(11/459)
4 أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الخِصال (ت540هـ) (1) .
5 مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن أبي خَيْثَمة الجبائي (ت540هـ) (2) .
6 عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عطية (ت 541هـ) صاحب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3) .
7 أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال (ت 578هـ) (4) .
8 القاضي عياض بن موسى بن عياض اليَحْصبي (ت544هـ) (5) .
9 علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفِزاري (ت557هـ) (6) .
10 القاضي أبو الإصبغ عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي (7) ،لم أعثر على سنة وفاته.
11 أبو داوود المقرىء (8) ،لم أعثر على سنة وفاته.
12 القاضي أبو عبد الله بن عبد الرحيم الأنصاري (9) ،لم أعثر على سنة وفاته.
13 مُحَمَّد بن سابق الصِّقِلّي (10) ،لم أعثر على سنة وفاته.
14 القاضي أبو خالد عبد الله بن أبي زَمَنين (11) ،لم أعثر على سنة وفاته.
15 أبو عبد الله النميري،وهو صهر أبي الحسن (12) ، لم أعثر على سنة وفاته.
16 أبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف اللَّخمي المعروف بابن الدبَّاغ (13) ،لم أعثر على سنة وفاته.
17 علي بن موسى بن حَمَّاد، نقل تعليق ابن الباذِش على كتاب الجمل (14) ،لم أعثر على سنة وفاته.
__________
(1) انظر ترجمته في المعجم لابن الأبار 149
(2) انظر ترجمته في الإحاطة 2/315
(3) انظر البلغة 129والمعجم لابن الأبار 269والإحاطة3/539
(4) انظر ترجمته في المعجم لابن الأبار 85
(5) انظر ترجمته في المعجم لابن الأبار 306 والإحاطة 4/ 222
(6) انظر ترجمته في الإحاطة4/ 177
(7) انظر الصلة 2/425
(8) انظر الصلة2/425
(9) انظر الديباج المذهب 206 وشجرة النور الزكية 131
(10) انظر الصلة 2/425
(11) انظر الديباج المذهب 206
(12) انظر المعجم لابن الأبار287
(13) انظر المعجم لابن الأبار 287
(14) انظر تذكرة النُّحَاة 551(11/460)
18 مُحَمَّد بن عُرَيب بن عبد الرحمن بن عُرَيب العبسي (1) ،لم أعثر على سنة وفاته.
آثاره
اتَّسَم عصرُ أبي الحسن بكثرةِ الشروحِ والتعليقاتِ على كتبِ أهل المشرق، فاهتموا كثيراً بكتابِ سِيْبَوَيْه وبمؤلَّفاتِ أبي علي الفَارِسِيّ وابن جِنِّي وبجمل الزجاجي،ولم يخرج ابنُ الباذِش عن هذا النهجِ، وقد نَسَبَ المترجمون له مجموعةً من الكتب، وللأسفِ لم يصلنا أيُّ كتابٍ منها، وهذه الكتب هي:
1 شرح كتاب سِيْبَوَيْه (2) .
2 شرح الأصول لابن السراج (3) .
3 شرح المُقْتَضَبِ من كلام العرب (4) ،وهو كتاب لابن جِنِّي في اسم المَفْعُول من معتلِّ العين،وذكر ابن فَرْحُون أن له كلاماً على المقتضب (5) ، فيُحتمَلُ أن يكون تعليقة على كتاب المُبَرّد.
4 شرح الجمل للزجاجي (6) ،وقد وَصَلَنا بعضُ الصفحاتِ من هذا الكتاب، نَقَلَها أبو حيَّانَ الأندلسي في تذكرته (7) .
5 شرح الإيضاح لأبي علي الفَارِسِيّ (8) ، ولابن الباذِش أبياتٌ في إعجابِه بالإيضاحِ ومؤلِّفِه.
6 شرح الكافي لأبي جعفر النحاس (9) ، وذكر ابن فَرْحُون أن ابن الباذِش خَطَّأ النحّاسَ في نحو مئةِ موضع (10) .
7 برنامج شيوخ ابن الباذِش (11) .
شعره
__________
(1) انظر ترجمته في المعجم لابن الأبار 187
(2) انظر الديباج المذهب 206 وبغية الوعاة 2/142وشجرة النور الزكية131 وهدية العارفين 1/696
(3) انظر الديباح المذهب 206 وبغية الوعاة 2/142وشجرة النور الزكية131 وهدية العارفين 1/696
(4) انظر كشف الظنون 1793 وهدية العارفين 1/696
(5) انظر الديباج المذهب 206 وبغية الوعاة 2/142
(6) انظر الديباج المذهب 206وبغية الوعاة 2/142 وهدية العارفين1/696
(7) انظر تذكرة النُّحَاة 551
(8) انظر الديباج المذهب 206 وهدية العارفين 1/696
(9) انظر الديباج المذهب 206وبغية الوعاة2/142 وهدية العارفين 1/696
(10) انظر الديباج المذهب 206
(11) انظر المعجم لابن الأبار 286(11/461)
لم يصلنا من شعر أبي الحسن بن الباذِش إلاّ أبياتٌ قليلة يمدح فيها أبا علي الفَارِسِيّ ويبدي إعجابه بكتابه الإيضاح العضدي، قال (1) :
أضِعِ الكَرى لِتَحَفُّظِ الإيضاحَ وصِلِ الغُدُوَّ لِفهمِه بِرَواحِ (2)
هو بُغْيَةُ المُتَعَلِّمين ومن بَغى حَمْلَ الكتابِ يَلِجْه بالمفتاحِ
لأبي علي في الكتابِ إمامَةٌ شَهِدَ الرواةُ لَها بفَوزِ قِداحِ
يَقضي على أسراره بنَوافِذٍ مِنْ علمِه بَهَرَت قُوى الأمْداحِ (3)
فيُخاطِبُ المُتَعَلمينَ بلفظِه ويحلُّ مُشْكِلَه بوَمْضَةِ واحِ
مَضَت العصورُ وكلُّ نَحْوٍ ظلمةٌ وأتى فكان النحْوُ ضوءَ صباحِ
أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا بحروفه في الصُحُفِ والألواحِ
وإذا همو سَمِعوا النصيحة أنْجَحوا إن النَّصيحة غِبُّها لنجاحِ (4)
كما ذكر له المترجمون بيتين من الشعر في الزهد، قال (5) :
أصبحتَ تَقعُدُ بالهَوى وتقومُ وبه تَقْرِظُ معشراً وتذيمُ (6)
تَعْنيكَ نفسُك فاشْتَغِل بصَلاحِها أنّى يُعيِّر بالسَّقامِ سقيمُ (7)
وفاته
__________
(1) انظر الأبيات في إنباه الرواة 2/227
(2) الكرى: النعاس، الرواح: الرجوع
(3) بهرت: ظهرت بقوّة، قوى الأمداح: قوى الشعراء المادحين
(4) غبها: قليلها
(5) انظرها في بغية الملتمس 419 والإحاطة4/101وبغية الوعاة 2/142
(6) تذيم: تبيع
(7) في الإحاطة 4/101 (إنني بغير السقام سقيم) وهذا خطأ(11/462)
أجمعَ المُتَرجِمون لأبي الحسن بن الباذِش على أنَّ وفاتَه كانت ليلةَ الاثنين الثالثة عشرة من المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة هجرية، وعمره أربعٌ وثمانون سنةً، قال ابن الأبار يصِفُ يومَ وفاتِه (1) : " وصَلَّى عليه ابنُه أبو جعفر عصرَ ذلك اليوم بالمسجد الجامع وشَهدَه جَمْعٌ عظيمٌ، وما وَصَلَ إلى قبره إلاّ مع الأصيل لازدحام الناس عليه حتى كَسَروا النعشَ،وانصرفوا من دفنه بين العشاءين، وجمع به الخاص والعام، قال ابنه: فلم أرَ يوماً أكثرَ باكياً منه " 0
وقال أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السعدي في رثاء عالمنا أبي الحسن بن الباذِش (2) :
أبا حَسَنٍ ظَعَنْتَ وكُلُّ حيّ سيَظعَنُ بالبعادِ أو الحِمامِ
بعثت إلى خَليلِكَ من أساه بما بعث الهديل إلى الحَمامِ
فإن عَجِلتْ ركابك فاستقلّت ... إماماً والفَضيلةُ للأمامِ
فإنا سوف نلحق كيف سارت ... على تَعَبٍ هنالك أو جُمامِ
الفصل الثاني: آراؤه واختياراته وتوجيهاته النحوية
آراؤه واختياراته وتوجيهاته النحوية
نَقَلَ لنا أبوحيَّانَ الأندلسي في تذكرتِه مقطوعاتٍ عدّة من كتبٍ نَحْويةٍ مُهمّةٍ لايكادُ يوجدُ من هذه الكتب إلا القليلُ، ومن ضمن هذه المقطوعاتِ جزءٌ ليسَ باليَسيرِ من شرح أبي الحسن بن الباذِش على كتاب الجمل للزجاجي (3) ،والذي رواه لنا أحدُ تلامِذَتِه وهو علي بن موسى بن حَمّاد،ويمكن من خلال هذا الجزء من الكتاب وما نَقَلَه النُّحَاة في كتبهم من آراء لابن الباذِش التعرف على ملامح نحوه، وسأحاول في هذا البحث تناول هذه الملامح عسى أن أوفي هذا العالم حقّه.
أوّلاً:آراء واختيارات وتوجيهات نحوية متفرقة
الفرق بين الإعراب وعلاماته
__________
(1) المعجم لابن الأبار 287
(2) انظر المعجم لابن الأبار 291
(3) انظر تذكرة النُّحَاة 552(11/463)
يَرى ابنُ الباذِش أنّ الإعرابَ وعلاماتِه تغييران لآخِرِ المعربِ بالعامِلِ (1) ، والفرقُ بينَهما كما يرى ابن الباذِش أنّ زوالَ الإعرابِ عن الكلمةِ بالوقفِ أو غيره لا يُغَيّرُ من بناءِ الكلمةِ ومَعْناها، أمّا زَوالُ العلامةِ فيَتَرَتّبُ عليه انتقالُ الكلمةِ من بناء إلى آخرَ وتغييرُ المَعْنى، ويمثّل ابن الباذِش على ذلك بالتثنيةِ والجَمْعِ والأسماء الستة، فالملاحظ أنّ بناءَ (رجل) يختلفُ عن بناءِ (رجلان) ، وكذلك (أخوك) و (أخ) و (زيدون) و (زيد) ، فكُلّ بناءٍ من هذه الأبنية يختلفُ عن الآخرِ، كما أنّ المَعْنى في البناءِ الأوّل يختلفُ عن المعنى في البناء الثاني، ويرى ابن الباذِش أنّ اختلافَ المَبْنى والمَعْنى مَرَدُّه إلى زَوالِ علامةِ الإعرابِ عن البناءِ الأوّل.
تفسير معنى المضارعة
يَذهبُ ابن الباذِش إلى أنّ صَلاحَ المُضارِعِ لِزَمَانِ الحالِ والاستقبالِ هو المَعْنى الذي ضارَعَ به اسمَ الفاعلِ، فالفِعْل المُضارعُ يَدلُّ على جزءٍ مما يدلُّ عليه اسمَ الفاعلِ الذي يصلحُ للأزمنة كلها، ويرى ابنُ الباذِش أنّ هذا هو رأيُ سِيْبَوَيْه (2) .
ويَرى أنّ الفِعْل يُضارعُ اسمَ الفاعل وغيرَه من الأسماء، ويَستند في هذا إلى أنّ بعضَ حُروفِ المَعاني تدخلُ على المُضارع فتُخَصّصُه وتَرْفَعُ الصلاحَ عنه،كما تدخل هذه الحروف على الأسماء الصالحة لذلك، ومثال ذلك أنّك إذا قلت: (يقوم) فهو صالحٌ للحال والاستقبال، فإذا قلت: (سوف يقوم) فقد خصَّصْت الفِعْل للاستقبال فتَقْصرُ الفِعْل على شيءٍ محدّدٍ (3) .
__________
(1) انظر تذكرة النُّحَاة 552
(2) انظر تذكرة النُّحَاة 552553
(3) انظر تذكرة النُّحَاة 552553(11/464)
أمّا عبارةُ سِيْبَوَيْه فالمفهومُ الظاهرُ منها أنّ اجتماعَ الفِعْل والفاعلِ في المَعْنى هو السببُ في حُصولِ معنى المُضارعَةِ، يقول (1) : " وإنّما ضارعت أسماء الفاعلين أنّك تقول: (إنّ عبد الله ليفعل) فيوافق قولك: (لفاعل) حتّى كأنّك قلت: (إنّ زيداً لفاعل) فيما تريد من المعنى "، ويقول: " إلا أنّها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى "،فالمقصودُ من هذا أنّ مُضارعةَ الفِعْل لاسم الفاعِل إنّما كانت لاتّفاقهما في المعنى حتّى إنّ كلَّ كلمةٍ منهما يمكن أن تسدَّ مسدّ الأخرى، ولم تكن المضارَعةُ لمُجَرَّد اتفاقهما في وقوعهما خبراً،أو في دخول اللام عليهما.
حدّ الفِعْل الماضي والمستقبل
عَرَّفَ الزَّجّاجيُّ الفِعْل الماضي بقوله (2) :" ما حَسُنَ فيه أمسُ " وعَرَّفَ المستقبلَ بقوله (3) :"ما حَسُن فيه غد "، ويَرى ابنُ الباذِش أنّ هذا الحدَّ غيرُ سديدٍ مستنداً إلى لفظِ سِيْبَوَيْه، فَحَدُّ الزَّجّاجي يوجبُ أن يكونَ قولُكَ: (قامَ زيدٌ غداً) و (يقومُ زيدٌ أمس) قبيحاً (4) ،والصحيحُ أنّه مُحالٌ كما هو رأيُ سِيْبَوَيْه، يقول سِيْبَوَيْه (5) :"وأمّا المُحالُ فأن تنقضَ أوَّلَ كلامِك بآخِرِه فتقول: (أتَيتُك غداً) و (سآتيك أمس) ".
وهذا الاعتراضُ اعتراضٌ لفظيٌّ على استعمالِ الزَّجّاجي لكلمةِ (حَسُن) ، والصَّحيحُ أنّه يُفْتَرَضُ استعمالُ كلمةِ (استقام) ،فالمُحال ضدّه المُستقيم، والتحقيق في حدّ الفِعْل الماضي عند ابن الباذِش (6) : (ما استَقامَ فيه أمس) والمستقبل: (ما استَقامَ فيه غد) .
ويرى ابنُ الباذِش أنّ الكلامَ قد يكون مُستقيماً حَسَناً كقولك: (قد قامَ زيدٌ) ،وقد يكون مستقيماً غيرَ حَسَن نحو: (قد زيدٌ قامَ) (7) .
الفِعْل الدائم نقد للزجّاجي
__________
(1) سِيْبَوَيْه 1/14
(2) الجمل 7
(3) الجمل 7
(4) انظر التذكرة 553
(5) سِيْبَوَيْه1/25
(6) التذكرة 553
(7) انظر التذكرة 553(11/465)
ذكَرَ الزَّجّاجي في جُمَلِه أنّ فعلَ الحالِ يُسَمّى الدائمَ (1) ،ويَبْدو أنّه أخَذ هذه التسميةَ من الكوفيين، إلاّ أنّ الكوفيين يُطْلِقون (الدائم) على اسمِ الفاعلِ دون الفِعْل المُضارعِ لكونه يَصْلُحُ للأزمنَةِ الثلاثةِ، ويرى ابنُ الباذِش أنّ إطلاقَ الزجّاجي مُصْطلحَ (الدائم) على الفِعْل فاسِدٌ، قال (2) : "فأتى به أبو القاسم على أنّه الفِعْل البتةَ فأفسده ".
انتصاب (غير) في الاستثناء
شَبَّهَ ابنُ الباذِش انْتِصابَ (غَيْر) إذا كانَتْ بمَعْنى الاسْتِثْناءِ بانْتِصابِ الظَّرْفِ المُبْهَمِ،وناصِبُه هو الفِعْلُ، فكَما يَصِلُ الفِعْلُ إلى الظَّرْفِ المُبْهَمِ بنَفْسِه فكَذلِك (غَيْر) يَصِلُ إِلَيْها الفِعْلُ بنَفْسِه دونَ واسِطةٍ، وهو مُشَبَّهٌ بظَرْفِ المَكانِ في نَحْوِ قولك: (وَقَفوا أَمامَكَ) و (خَلفَكَ) ، فالظَّرْفُ هاهنا مُنْتَصِبٌ بالفِعْلِ دونَ واسِطَةٍ، ونُسِبَ هذا الرأيُ للسِّيرافِيِّ (3) .
ورَأى ابنُ عُصْفور والمَغارِبَةُ أنَّ (غَيْرَ) تُنْصَبُ كَمَا يُنْصَبُ الاسْمُ بَعْدَ (إلاّ) في الاسْتِثناءِ، والمُشابَهَةُ بَيْنَهما أَنَّ (غَيْر) جاءَتْ فَضْلةً بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ كما أَنَّ المُسْتَثْنى فَضْلةٌ جاءَ بَعْدَ تَمامِ الكَلامِ (4) .
__________
(1) انظر الجمل 7
(2) التذكرة 554
(3) انظر هذا الرأي في شرح الجمل لابن عصفور2/253،والتذييل والتكميل 3/لوحة 18، 45، وارتشاف الضرب 2/322، ومغني اللبيب1/159،والأشموني 2/157،والهمع 3/278،وشرح التصريح1/15.
(4) انظر شرح الجمل لابن عصفور 2/253،ومغني اللبيب 1/159،والأشموني 2/157،والهمع 3/278.(11/466)
واخْتارَ ابنُ مالِك نَصْبَ (غَيْر) عَلى الحالِ (1) ، وأجَازَ أَصْحابُ هذا الرأيِ تأويلَ (غَيْر) بمُشْتَقٍّ، فقيلَ في قولك: (قَامَ القَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ) : قَامَ القومُ مُغَايِرينَ لِزَيدٍ، ولم يُنْكرْ هؤلاء مَعْنى الاسْتِثناءِ المَوْجُودِ فيها، فقالوا: هي مَنْصُوبةٌ عَلى الحالِ وفيها مَعْنى الاسْتثناءِ (2) ، ونُسِبَ هذا الرأيُ لسِيْبَوَيْه (3) ، وهو مَنْسُوبٌ عِندَ أكْثرِ النُّحَاةِ إلى الفَارِسِيِّ، قالوا: ذَكَرَه في التَّذْكِرةِ (4) ، ولم أجِدْ هذا الرأيَ في كُتُبِ الفَارِسِيِّ التي تَيَسَّرَ لي الاطلاعُ عليها.
وأرى أنّ الرأيَ الذي ذَهَبَ إليه ابنُ مالِك لا يَقْبَلُه المَنْطِقُ اللُّغَوي، إذ كيف يمْكِنُ للاسمِ أنْ يَحْملَ دَلالتين في وَقتٍ واحِدٍ، ف (غَيْر) عِنْدَه مَنْصُوبةٌ على الحالِ وتَحْمِلُ معنى الاسْتثناء،كَما أَنَّ تأويلَهُم للجُمْلةِ لا يُساعدُ على فَهمِ المَعْنى،وأرى أَنَّ تَوجيهَ ابنِ الباذِشِ هو الصَّوابُ، وأمّا رأيُ ابنُ عُصْفور والمَغاربة فرَأي صحيح لو ذَهَب إلى رأيِ الجُمْهورِ في نصب المُسْتثنى، ولكنَّه يرى أنَّه مَنْصوبٌ عن تَمامِ الكلامِ،وكذلك (غَيْر) .
إضافة (بينا) إلى الجملة
__________
(1) انظر شرح التسهيل 2/312.
(2) انظر حاشية الصبان 2/157، وشرح التصريح 1/361.
(3) انظر شرح التصريح 1/361.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/322،ومغني اللبيب 1/159، والهمع 3/278،وشرح التصريح 1/361.(11/467)
تابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش أبا عليٍّ الفَارِسِيِّ وابنَ جِنِّي في مَسْأَلَةِ إِضَافَةِ (بَيْنا) إلى الجُمْلَةِ، وهم يَرَونَ أَنَّ (بَيْنا) في حَقيقَتِها مُضافَةٌ إلى زَمَانٍ مُضَافٍ إلى الجُمْلَةِ، وأَضَافُوهَا إلى ظَرْفِ الزَّمَانِ دُونَ ظَرْفِ المَكَانِ لِغَلبَةِ إِضَافَةِ الأزْمِنَةِ إلى الجُمَلِ دونَ الأمْكِنَةِ،ويَكُونُ تَقْديرُ قَوْلِكَ: (بَيْنا زَيْدٌ قائِمٌ إذْ أَقْبَلَ عَمْروٌ) : بَيْنا أوقاتِ زَيْدٌ قائِمٌ أَقْبَلَ عَمْرو (1) .
وهذا يُؤَكِّدُ أنَّ الزَّمَانَ الذي رَآهُ ابنُ جِنِّي وغَيْرُه مِنْ العُلَماءِ في (إذ) الفُجَائِيَّةِ هو في الحَقيقَةِ مَفْهُومٌ مِنْ (بَيْنا) ، فلا شكَّ أَنَّ (بَيْنَ) تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ والمَكَانِ، لكنّ (بَيْنا) و (بَيْنَما) تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ -غالبا- لِكَوْنِهِما تُضَافَان إلى الأزْمِنَةِ.
تَعَلُّقُ لامِ المُسْتَغاثِ لَه
اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في لامَيْ الاسْتِغَاثَةِ في نَحْوِ قولِ الشاعِرِ:
تَكَنَّفَني الوُشَاةُ فَأزْعَجُونِي فَيَا لَلَّه لِلوَاشِي المُطَاعِ (2)
ففي لامِ المُسْتَغَاثِ بِهِ أَقْوَالٌ،مِنْها أنَّها زَائِدَةٌ ولا تَتَعَلَّقُ بِشَيءٍ، ومِنْها أَنَّها تَتَعَلَّقُ بفِعْلِ النِّداءِ، ومِنْها أَنَّها تَتَعَلَّقُ بِحَرْفِ النِّداءِ (3) .
__________
(1) انظر المسألة في ارتشاف الضرب 2 /236،والهمع 3/ 202.
(2) البيت لقيس بن ذريح العامري في شرح الجمل لابن خروف 746، وانظر البيت في الكتاب 2/ 216، والجمل 166، وابن السِّيْرَافِيّ 1/531،وشرح الجمل لابن عصفور 2/112،وابن يعيش 1/131.
(3) انظر الخلاف في شرح الرضي 1/352، والصفوة الصفية 2/218،وارتشاف الضرب 3/140.(11/468)
أَمَّا لامُ المُسْتَغَاثِ لَهُ ففي تَعَلُّقِها عِدَّةُ أَقْوَالٍ، فمِنْهُم مَنْ عَلَّقَها بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، ومِنْهُم مَنْ عَلَّقَها باسْمٍ،وقد ذَهَبَ جُمْهورُ النُّحَاةِ إلى أَنَّ هذه اللامَ مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلٍ مَعْ اخْتِلافِهِم في هذا الفِعْلِ، فالفَارِسِيُّ يَرى أَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلٍ فيه مَعْنى الدُّعاءِ، فعَنْ ابنِ جِنِّي أنَّه قالَ (1) : " سَأَلَ أبو عليٍّ فقالَ: اّللامُ الثانِيَةُ مِنْ قَوْلِه:
………………………. فيَا لَلنَّاسِ لِلوَاشِي المُطَاعِ
بأَيِّ شَيءٍ تَتَعَلَّقُ؟ فقلتُ: لا يَجوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بالَّلامِ الأولى؛ لأنَّ الأولى مُتَعَلِّقةٌ ب (يا) ، ولا ضَمِيرَ فيها، فيَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِها شَيءٌ،فقالَ: تَتَعَلَّقُ بمَعْنى الدُّعَاءِ؛ لأنَّ: (يَا لَزَيدٍ) في مَعْنى: يا زَيْدُ، أيْ:أدْعُو،فَكَأَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ ب (أَدْعُو) الذي دَلَّ عَلَيْه (يَا لَلنَّاسِ) ".
ومِنْ النُّحَاةِ مَنْ ذَكَرَ أنَّها تَتَعَلَّقُ بفِعْلِ النِّداءِ (2) ،ومِنْهم مَنْ قَدَّرَ (أَدْعُو) غَيرَ الفِعْلِ الأوَّلِ المَفْهُومِ مِنْ النِّداءِ فكَأَنَّه قالَ: أَدْعُوك لِزَيدٍ (3) ، ومِنْهُم مَنْ اشْتَقَّ فِعْلاً مِنْ الاسْتِغاثةِ،ورَأى أَنَّ الَّلامَ الثانِيَةَ تَتَعَلَّقُ بفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُه (اسْتَغَثتُ) (4) ،وذَهَبَ الرَّضيُّ إلى أَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بمَا تَعَلّقَتْ به الَّلامُ الأولى (5) ، واللامُ الأولى مُخْتَلَفٌ في تَعَلُّقِها، فالرّضيُّ لمْ يُحَدِّدْ مَا تَعَلَّقَتْ به الَّلامُ الأولى.
__________
(1) الإيضاح العضدي 251 (هامش) .
(2) انظر ارتشاف الضرب 3/ 140.
(3) انظر ارتشاف الضرب 3/140، وشرح اللمحة البدرية 2/143.
(4) انظر الصفوة الصفية2/218.
(5) انظر شرح الرضي1/353.(11/469)
هذه آراءُ مُعْظمِ النُّحَاةِ في هذِه المَسْألَةِ، فأَكْثَرُهُم يَذْهَبُ إلى تَقْديرِ الفِعْلِ، ولمْ أَرَ أَحَداً مِنْ النُّحَاةِ يُقَدِّرُ اسْماً في هذا المَوْضِعِ سِوى أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش الغَرْناطيّ، فقد تَفَرَّدَ في هذا الرَّأيِ، وذَهَبَ إلى أَنَّ لامَ المُسْتَغاثِ لَه مُتَعَلِّقةٌ باسْمٍ مَحْذوفٍ في مَوْضِعِ الحالِ، والتَّقْديرُ عِنْدَه: يا لَلّهِ مَدْعوّاً لِلواشي (1) .
وأَرَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إليه ابْنُ الباذِش الغَرْناطيُّ في تَقْديرِه لا يختَلِفُ كثيراً عَنْ الجُمْلَةِ الفِعْليَّةِ التي قَدَّرَها الجُمْهورُ، فلا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْديرَينِ مِنْ جِهَةِ المَعْنى، لكنّ تَقْديرَ الجُمْهورِ يَجْعَلُك تَتَعامَلُ مَع جُمْلَتَين، وتَقْديرُ ابنِ الباذِش تَتَعامَلُ فيه مَع جُمْلةٍ واحِدَةٍ،ولِذلِكَ أَرى أَنَّ رَأيَ ابنِ الباذِش أَقْرَبُ إلى الذِّهْنِ مِنْ رَأيِ الجُمْهورِ.
مَسألة في التنازع
مِنْ شَرْطِ التَّنَازُعِ عِندَ ابنِ مَالِك ألاّ يَكُونَ المُتَنَازَعُ فيه سَبَبِيّاً مَرْفُوعَاً، فليسَ مِنْ التَّنازُعِ قَوْلُكَ: (زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ مُسْرِعٌ أَخُوه) ، قالَ (2) : " لأنّكَ لو قَصَدْتَ فيه التَّنازُعَ أَسْنَدْتَ أَحَدَ العَامِلَيْن إلى السَّبَبَيَّ،وهو الأخُ، وأَسْنَدْتَ الآخَرَ إلى ضَمِيرِه، فيَلزَمُ عدمُ ارْتِباطِه بالمُبْتدأ؛ لأنّه لمْ يَرْفَعْ ضَمِيرَه ولا مَا التَبَسَ بِضَمِيرِه"، وهذا حَاصِلٌ أَيْضاً في قَوْلِ كُثَيّر (3) :
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فوَفَّى غَرِيْمَه وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّىً غَرِيمُها
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب 3/140،والمغني 1/220.
(2) شرح التسهيل 2/166.
(3) البيت لكثير عزّة في ديوانه1/10،176،وشرح التسهيل 2/166، وشرح الكافية الشافية642،وأوضح المسالك 2/25،وشرح التصريح1/318،والدرر 2/146.(11/470)
وقد أَشَارَ ابنُ مَالك في شَرْحِ الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ إلى جَوازِ التَّنازُعِ عِندَ بَعْضِهِم (1) ،وهذا هو رَأيُ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش وابنِ طاهِر، واحْتَجَّ السُّيوطي لهذا الرَّأيِ بِقَوْلِه (2) : " تَعْليقُ المَنْعِ بِكَوْنِ المِعْمُولِ سَبَبِيّاً تَعْميمٌ فاسِدٌ؛لأنَّهم أَسْنَدوا المَنْعَ لِعَدَمِ الارْتِباطِ، وذلكَ ليسَ مَوْجُوداً في كُلِّ سَبَبِيّ على تقديرِ التَّنازُعِ فيهِ ".
وأَرَى أَنَّ الإضْمَارَ في مِثلِ هذه التَّراكِيبِ لا يُؤَيِّدُه المَعْنى، وكَانَ بالإمْكَانِ الاسْتِغْناءُ عنه،وذلكَ مَوْجُودٌ في تَخْرِيجِ ابنِ مَالِك،فهو يَرَى أَنَّ (مَمْطُول) و (مُعَنَّى) خَبَران، و (غَرِيمُها) مُبْتَدأ، فالمَعْنى: وعَزَّةُ غَرِيْمُها مَمْطُولٌ مُعَنّىً (3) ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وعَزَّةُ مَمْطُولٌ غَرِيمُها مُعَنّىً هو، والضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلى المُتَنازَعِ فيه كَمَا هو رَأي ابنِ الباذِش.
الاستفهام والتسوية
يَرَى ابنُ الباذِش أَنَّ الهَمْزَةَ في قَوْلِكَ: (عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِندَكَ أمْ عَمْروٌ) لَيْسَتْ للاسْتِفْهامِ، وكَذلكَ أَدَاةُ الاسْتِفْهامِ في قَوْلِه تَعالَى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( {الكهف 12} ،وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ مُنْطَلِقاً مِنْ المَعْنى، فوُجُودُ مَعْنى الاسْتِفْهامِ في مِثلِ هذا المَوْضِعِ يُؤَدِّي إلى تَنَاقُضٍ، فقد تَقَدَّمَ العِلمُ عَلى طَلَبِ الفَهْمِ، فيَسْتَحِيلُ أنْ يَسْتَفْهِمَ المُتَكَلِّمِ عَمَّا أَخْبَرَ أنَّه يَعْلَمُه.
__________
(1) انظر شرح الكافية الشافية 642.
(2) الأشباه والنظائر 7/257.
(3) انظر شرح التسهيل 2/166.(11/471)
وهو يَرَى أَنَّ المَعْنى الذي أَفَادَتْهُ الهَمْزَةُ في هذا التَّرْكِيبِ هو التَّسْوِيَةُ عِنْدَ المُخَاطَبِ؛ لأنّكَ لمْ تُبَيَّنْ لَهُ مَنْ المَقْصُودُ، وأَبْهَمْتَ عَلى المُخَاطِبِ،فنَقَلْتَ مَعْنى التَّسْوِيَةِ مِنْ نَفْسِكَ إلى المُخَاطَبِ، وهو يَرَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ أَخَصُّ مِنْ الاسْتِفْهامِ، فالاسْتِفْهامُ لا يَخْلو مِنْ التَّسْوِيَةِ، والتَّسْوِيَةُ تَخْلو مِنْ الاسْتِفهامِ.
وقد نَقَلَ أبو حيَّانَ في تَذْكِرَتِه نَصّاً لابنِ الباذِش في هذا المَعْنى، وهو (1) : " قال: (عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أمْ عَمْروٌ) و (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( {الكهف 12} ليسَ حَرْفُ الاسْتِفْهامِ هُنا لِمَعْنى الاسْتِفْهامِ؛ لأنَّه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَمَّا أَخْبرَ أَنَّه يَعْلَمُه، وإِنَّمَا مَعْناهُ التَّسْوِيَةُ عِنْدَ المُخَاطَبِ؛ لأنّكَ لمْ تُبَيِّنْ لَهُ مَنْ ثمَّ، وأَبْهَمْتَ عَلَيْه، فنَقَلتَ ب (عَلِمْت) مَعْنى التَّسْوِيَةِ مِنْ نَفْسِك إلى المُخَاطبِ؛ لأنّك حِينَ قُلْتَ: (أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أمْ عَمْروٌ) فهُما مُسْتَوِيَانِ عِنْدَك، وإنَّمَا تَطْلُبُ بالاسْتِفْهامِ العِلمَ بأَحَدِهِما، فالتَّسْوِيَةُ أَمْلَكُ مِنْ الاسْتِفْهامِ وأَخَصُّ؛ لأنّ الاسْتِفْهامَ لا يَخْلو مِنْ التَّسْوِيَةِ، والتَّسْوِيَةُ تَخْلو مِنْ الاسْتِفهامِ، ويُبَيِّنُ أَنَّ المُرَادَ بِه التَّسْوِيَةُ المُجَرَّدَةُ قولُه تَعَالَى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لمْ تُنْذِرْهُمْ ( {البقرة 6} و (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون ( {الأعراف193} انتهى كلامه ".
__________
(1) تذكرة النُّحَاة 722.(11/472)
ومَا أَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الشَّواهِدِ القُرآنيَّةِ التي سَاقَها لا يُفْهَمُ مِنْها إلا الخَبَرَ، وهذا الخَبَرُ هو معنى التسوية الذي يتكلّم عنه ابن الباذِش، فلا أُخَالِفُه في هذا، وأَخْتَلِفُ مَعَه في نَقْلِ مَعْنى الاسْتِفْهامِ إلى مَعْنى التَّسْوِيَةِ،فالذي أَراهَ أَنَّ الأصْلَ في الهَمْزَةِ الاسْتِفْهامُ،وخُرُوجُها إلى مَعْنى التَّسْوِيَةِ أَمْرٌ طارِىءٌ سَبَّبَه وُجُودُ النَّقيضِ، وهو (عَلِمْت) و (سَوَاء) وغَيْرُهما مِنْ الألْفاظِ التي تُناقِضُ مَعْنى الاسْتِفْهامِ،فلمْ نَكُنْ لِنَفْهَمَ مَعْنى التَّسْوِيَةِ دونَ وُجُودِ (عَلِمْت) ، فقولك: (أَزَيْدٌ عِندَكَ أمْ عَمْروٌ) ليست التَّسْوِيَةُ واضِحَةً فيه، فالمَعْنى هو الاسْتِفْهامُ،وهو مَا أَفَادَتْه الهَمْزَةُ و (أم) عِندَ مَنْ عَدَّها مِنْ حُرُوفِ الاسْتِفهامِ.
(سَمِعَ) يتعدّى إلى مفعول واحد
ذَهَبَ الفَارِسِيُّ في الإيضَاحِ إلى أنَّ (سَمِعَ) مِنْ الأفْعَالِ التي تَتَعدَّى إلى مَفْعُولَيْن، قالَ (1) : " إلاّ أَنَّ (سَمِعْتَ) يَتَعَدَّى إلى مَفْعُولَيْن، ولا بُدَّ مِنْ أنْ يَكُونَ الثاني مِمّا يُسْمَعُ كَقَوْلِكَ: سَمِعْتُ زَيداً يَقُولُ ذاك "، ونَسَبَ ابنُ مَالِك هذا الرَّأيَ للأخْفَشِ والفَارِسِيِّ، وأَخَذَ بِه (2) ، كَمَا أَخَذَ بِه العُكْبُري (3) وابنُ القَوَّاسِ (4) وابنُ الضَّائِعِ (5) ،واحْتَجُّوا بأنَّ هذا الفِعْلَ يَتَوَقَّفُ فَهْمُه عَلى سَمَاعِ سَامِعٍ، فقد دَخَلَ الفِعْلُ عَلى مَا لا يُسْمَعُ،فاحْتَاجَ عِنْدَها إلى مَعْنى المَسْمُوعِ (6) .
__________
(1) الإيضاح العضدي 197.
(2) انظر شرح التسهيل 2/84.
(3) انظر اللباب 1/268.
(4) انظر شرح ألفية ابن معط 1/489.
(5) انظر النكت الحسان 90.
(6) انظر شرح الجمل لابن عصفور 1/302،وشرح التسهيل 2/84،وشرح ألفية ابن معط 1/489.(11/473)
أَمَّا ابنُ الباذِش الغَرْناطي فهو يَرَى أَنَّ هذا الفِعْلَ مِنْ الأفْعَالِ التي تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ (1) ،واحْتَجَّ لِهذا الرَّأيِ بالقِياسِ عَلى سَائِرِ أَخَواتِها مِنْ أَفْعَالِ الحَوَاسِ، فهي جَمِيعاً تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ (2) ، واحْتَجَّ أَيْضاً بأَنَّه لَوْ كَانَ مِمّا يَنْصِبُ الاثنَيْن لَسُمِعَ الثاني غَيْرَ جُمْلَةٍ نَكِرِةً ومَعْرِفَةً، فكَوْنُهُم لمْ يُسْمَعْ عَنْهم ذلك دَلَّ عَلى أَنَّ الفِعْلَ المَسْمُوعَ في مَوْضِعِ الحَالِ، فالجُمْلَةُ في نَحْوِ قَوْلِكَ: (سَمِعْتُ زَيْداً يَتَكَلَّمُ) لَيْسَتْ مَفْعُولاً بِه، وإِنَّما في مَوْضِعِ الحَالِ (3) ، والمَسْمُوعُ في الحَقِيقَةِ هو الصَّوْتُ،وهو عَلى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُه:سَمِعْتُ صَوْتَ زَيْدٍ في حَالِ كَلامِه، فصَوْتُ زَيْدٍ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلاماً أو غَيْره، واحْتَجُّوا لِهذا بِقَولِه تَعَالى: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( {الشعراء72} فالمَعْنى: هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُم،عَلى حَذْفِ الدُّعَاءِ بدَليل (إذْ تَدْعُونَ) عَليه (4) ، وقَالوا في قَولِ الشاعِرِ:
سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثاً فَقُلْتُ لِصَيْدَحَ انْتَجِعِي بِلالا (5)
__________
(1) انظر رأيه في النكت الحسان 90.
(2) انظر شرح الجمل 1/303،والنكت الحسان 90.
(3) انظر النكت الحسان 90.
(4) انظر شرح الجمل 1/303،والنكت الحسان 90.
(5) البيت لذي الرمة في ديوانه 442،وانظر المقتضب 4/10، والجمل329، وشرح الجمل لابن عصفور1/303،وشرح التسهيل لابن مالك2/84،والملخص 264، وشرح الرضي 4/174، والإفصاح330، وترشيح العلل353.(11/474)
المَعْنى: سَمِعْتُ هذا الكَلامَ الذي هو: (النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثاً) ، وهذا عَلى الحِكَايَةِ (1) ،وهناكَ أدِلَّةٌ كَثيرةٌ تَدُلُّ عَلى هذا الرَّأيِ (2) .
وقد أَشَارَ إلى هذا الرَّأيِ الجُرْجَانيُّ (3) ،ونُسِبَ إلى الرُّمَّانيِّ (4) وابنِ السّيدِ (5) ،وأَخَذَ به ابنُ عُصْفور (6) ، وأَرَى أَنَّ أَدِلَّةَ ابنِ الباذِش تُقوّي رَأيَ مَنْ أَخَذَ بهذا المذهبِ،فهي أَدِلَّةٌ يَقْبَلُها المَعْنى،ويُسَانِدُها العَقْلُ،فالسَّمعُ حَاسَّةٌ، وهذا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ المَسْمُوعُ صَوْتاً لا جِسْماً فقولكَ: سَمِعْتُ زَيْداً،تُريدُ بِه: صوتَ زَيدٍ.
حذف مفاعيل (أعلم) اقتصاراً
تَحَدَّثَ النُّحَاةُ عَنْ نَوْعَيْن مِنْ الحَذْفِ هُما الاقْتِصارُ والاخْتِصارُ، والفَرْقُ بَيْنَهُما عِنْدَهُم أَنَّ حَذْفَ الاخْتِصَارِ يَكُونُ بِدَليلٍ،والاقْتِصارُ حَذْفٌ مِنْ غَيْرِ دَليلٍ، وفي حَذْفِ مَفَاعِيلِ (أَعْلَمَ) اقْتِصَاراً خِلافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ (7) ،وفيه رَأيان:
__________
(1) انظر شرح الجمل لابن عصفور 1/303.
(2) انظرها في شرح الجمل لابن عصفور 1/303،والنكت الحسان 90.
(3) انظر المقتصد 598.
(4) انظر شرح ألفية ابن معط 1/489.
(5) انظر النكت الحسان 90.
(6) انظر شرح الجمل 1/303.
(7) انظر هذه المسألة في شرح الجمل لابن عصفور 1/313، وشرح المقدمة المحسبة 364،والبسيط 450، وشرح المقدمة الجزولية 706،وابن يعيش 7/68،وشرح ألفية ابن معط520، وارتشاف الضرب 3/84، والهمع 2/250،وشرح التصريح 1/265.(11/475)
الأوَّلُ: مَنْعُ الحَذْفِ، وهو الرَّأيُ الذي أَخَذَ بِهِ أبو الحَسَن بنِ الباذِش (1) ، وقد تابَعَ فيه سِيْبَوَيْه، قالَ في الكِتابِ (2) : " ولا يَجُوزُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلى مَفْعُولٍ مِنْهُم واحِدٍ دونَ الثلاثةِ "، وأَخَذَ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ بِهذا الرَّأيِ، مِنْهُم المُبَرَّدُ (3) ،وابنُ بابْشاذَ (4) ،وابنُ عُصْفور (5) ، وابنُ طاهِرٍ (6) ، والسُّهيلي (7) ،قالَ في نَتَائِجِ الفِكْرِ (8) : " لأنّك لا تُريدُ بِقَوْلِكَ: (أَعْلَمْتُ زَيْداً) أيْ: جَعَلْتَهُ عَالِماً عَلى الإطلاقِ، هذا مُحَالٌ، إِنَّما تُريدُ: أَعْلَمْتُهُ بِهذا الحَدِيثِ، فلا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الحَدِيثِ الذي أَعْلَمْتَهُ به ".
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب 3/85،والهمع 2/250،وشرح التصريح 1/265.
(2) الكتاب1/41.
(3) انظر المقتضب 3/ 122.
(4) انظر شرح المقدمة المحسبة364.
(5) انظر شرح الجمل1/.313
(6) انظر الهمع 2/250،وشرح التصريح 1/265.
(7) انظر نتائج الفكر350.
(8) نتائج الفكر 350.(11/476)
الثاني: جَوَازُ الحَذْفِ، وفيهِ آراءٌ كَثِيرَةٌ، فَأَكْثَرُ النُّحَاةِ أَجَازَ حَذَفَ المَفْعُولِ الأوَّلِ بِشَرْطِ ذِكْرِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين، أو حَذْفَ المَفْعُولَيْن الآخِرَين بِشَرْطِ ذِكْرِ الأوَّلِ (1) ، فيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: (أَعْلَمْتُ زَيْداً) ،ولا تَذْكُرُ مَا أَعْلَمْتَه بِه، وتَقُولُ: (أَعْلَمْتُ عَمْراً قائِماً) ،ولا تَذْكُرُ المَفْعُولَ الأوَّلَ. ومِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى جَوازِ حَذْفِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين فَقَط فتقولُ: (أَعْلَمْتُ زَيْداً) ،ولا تَذْكُرُ مَا أَعْلَمْتَه بِه (2) . وارْتَضَى الشلوبين عَكْسَ هذا المَذْهَبِ، فقد أَجَازَ حَذْفَ المَفْعُولِ الأوَّلِ فَقَط، ومَنَعَ حَذْفِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين،فيَجُوزُ أَنْ تَقولَ: (أَعْلَمْتُ عَمْراً قائِماً) ،ولا تَذْكُرُ مَنْ أَعْلَمْتَه بهذا الخَبَرِ (3) . وذَهَبَ ابنُ مالِك في التَّسْهيلِ إلى جَوازِ حَذْفِ المَفَاعِيلِ الثلاثةِ اقْتِصاراً واخْتِصاراً (4) .
__________
(1) انظر هذا الرأي في البسيط 450، وارتشاف الضرب 3/84.
(2) انظر هذا الرأي في ارتشاف الضرب 3/84،وشرح ألفية ابن معط 520،والهمع 2/250.
(3) انظر شرح المقدّمة الجزولية706.
(4) انظر التسهيل74.(11/477)
هذه آراءُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ، والمُلاحَظُ فيها وُجُودُ التَّناقُضِ في الآراءِ الكَثيرَةِ التي أَجازت الحذَْفَ، فهناك سبعة آراء، وكلُّ رَأيٍ مِنْها يتَعارض مع الآخر،والذي أَراهُ أَنَّ العَرَبِيَّ لا يَرْتَضِي أَنْ يَكونَ كَلامُه مُبْهَماً، فإِذا حَذَفَ كانَ هُناكَ مَا يَدُلُّ عَلى الحَذْفِ لَفْظاً أو مَعْنىً،حَيْثُ يُدْرِكُ أَنَّ السَّامِعَ قد أَدْرَكَ مَا يَرْمِي إليه المُتَكَلَّمُ، أَمَّا أَنْ يَحْذِفَ دونَ تَرْكِ دَليلٍ عَلى المَحْذُوفِ فهذا ليسَ مِنْ سَمْت لُغَةِ العَرَبِيِّ، فالذي يَظْهَرُ لي هو مَنْعُ الحَذْفِ، وهذا مَا اخْتَارَه ابنُ الباذِش
إفراد كافِ الخِطابِ
تَلْحَقُ بِأَسْمَاءِ الإشَارَةِ في العَرَبِيِّةِ كافُ الخِطَابِ، وهو حَرْفٌ يُبَيِّنُ أَحْوالَ المُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعِ وتَذْكِيرٍ وتَأْنِيثٍ، فتَقولُ: (ذلكَ) (ذلكُمَا) (ذلكُمْ) (ذلكُنَّ) …الخ،وقد جَاءَ في العَرَبِيَّةِ خِطَابُ الجَمْعِ بِكَافِ الخِطَابِ للمُفْرَدِ،ومِنْ ذلكَ قولُه تَعَالى: (ذلِكَ يُوعَظُ بِه ( {البقرة 232} وفي آيةٍ أُخْرَى: (ذلِكُمْ يُوْعَظُ بِهِ ( {الطلاق 2} والخِطَابُ في الآيَتَيْن للجَمَاعَةِ.
وذَكَرَ أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش تَأْويلَيْن لإفْرادِ كافِ الخِطابِ عِندَ خِطابِ الجَمَاعَةِ (1) ، أَحَدَهُما أَنْ يَكُونَ الخِطابُ خَاصّاً بِوَاحِدٍ مِنْ الجَمَاعَةِ لجَلالَتِه، والمُرادُ الجَمِيعُ، والثاني تَقْديرُ اسْمٍ مِنْ الأسْمَاءِ (أَسْمَاءِ الجُمُوعِ) التي تَقَعُ عَلى الجَمَاعَةِ،والخِطَابُ فيه للكُلِّ، ويُقَدِّرُه ابنُ الباذِش بقَوْلِه: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ يا فَريقُ ويا جَمْعُ.
__________
(1) انظر الهمع 1/264.(11/478)
وقد أَشَارَ العُلمَاءُ إلى أَنَّ المُخَاطَبَ في الآيَةِ الأولى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولَ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أو كُلَّ سَامِعٍ، فَأُفْرِدَت الكَافُ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ الخِطَابُ للجَمَاعَةِ، وهذا هو الظَّاهِرُ عِنْدَهُم؛ لأنَّ الخِطَابَ في الآيَةِ كُلِّها للجَمَاعَةِ (1) ، ولذلِكَ احْتَاجَ الأمْرُ عِنْدَهُم إلى تَأويلٍ.
__________
(1) انظر التبيان في إعراب القرآن 1/184،والدر المصون 2/461.(11/479)
ومَا أَرَاهُ أنَّ اسْمَ الإشَارَةِ تَتَّصِلُ بِهِ كَافُ الخِطَابِ لِتُبَيِّنَ حَالَ المُشارِ إِلَيْهِ لا لِتُبَيِّنَ حالَ المُخَاطَبِ فَقَط، فأَنْتَ تَقُوْلُ: (ذلكَ رَجُلٌ) والمُخَاطَبُ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّساءِ،وتَقُولُ: (ذلكَ أَمُرٌ عَظيمٌ) والمُخَاطَبُ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ الكَافُ تُبَيِّنُ أَحْوالَ المُخَاطَبِ فقط لَقُلتَ في الأولى: (ذلكُنَّ رَجُلٌ) ، وفي الثانِيَةِ: (ذلكُمْ أَمْرٌ عَظيمٌ) ،وكُلُّ هذا جَائِزٌ،ولكنَّكَ تَقولُهُ لدَلالَةٍ مُعَيَّنَةٍ في لُغَةِ العَرَبِ، ولا أَرَى أَمْرَ هاتَيْن الآيَتَيْن يَخْتَلِفُ عَنْ قَوْلِه تَعَالى: (ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِر اللهِ ( {الحج 32} ، وقوله تعالى: (هذا فَلْيَذُوْقُوْهُ حَمِيْمٌ وغَسَّاق ( {ص 57} ، فلا يُوجَدُ مُشَارٌ إليه ظَاهِرٌ في هاتَيْن الآيَتَيْن؛ ولِذلكَ ذَهَبَ النُّحَاةُ هُنا إلى التَّأْوِيلِ بِأَنْ قالوا: خَبَرٌ لمُبْتَدأ مَحْذُوفٍ،أو مُبْتَدأ وخَبَرُه مَحْذوفٌ، وقَدَّرُوا المَحْذُوفَ ب (الأمر) ،فالأغْلَبُ عِنْدي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ في الآيَتَيْن -مَوْضِعِ الخِلافِ-:ذلكَ الأمْرُ يُوعَظُ بِه، وذلكُمْ الأمْرُ يُوعَظُ بِه،فكَافُ الخِطَابِ لا تَتَعَلقُ بحالِ المُخَاطَبِ، وإِنَّما ببَيانِ حَالِ المُشَارِ إليه، أَمَّا السَّبَبُ في الإفْرَادِ في الأولى والجَمْعِ في الثانِيَةِ فهو يَعُودُ إلى قِيمَةٍ بَلاغِيَّةٍ، فإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعْظِيمِ المُشارِ إِليهِ في مَوْضِع دونَ الآخَرِ، وهو مَا أَشَارَ إليه ابنُ الباذِشِ في تأويلِهِ الأوّل،وأَرَاه صَواباً، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ اسْمِ الإشَارَةِ في هذِه الآياتِ للرَّبْطِ،والمَقصُودُ بِهِ رَبْطُ الَّلاحِقِ بالسَّابِقِ في ذِهْنِ السَّامِعِ،ولا أَرَى حَاجَةً إلى التَّأويلِ في هذا المَوْضِعِ؛ لأنَّ المَعْنى(11/480)
مُسْتَغْنٍ عَنْ أيِّ لَفْظٍ جَدِيدٍ.
بدل الاشتمال
تابَعَ أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش المُبَرِّدَ في مَعْنى بَدَلِ الاشْتِمَالِ (1) ، فالمُبرِّدُ يَرى أَنَّ المَقْصُودَ في بَدَلِ الاشتِمَالِ هو الثانِي،والاشتِمَالُ عِنْدَه إسْنَادُ الخَبَرِ إلى الأوَّل عَلى إِرَادَةِ غَيْرِه مِمَّا يَتَعَلّقُ بِه، قالَ في المُقْتَضَبِ (2) : " والضَّرْبُ الثالثُ أَنْ يَكُونَ المَعْنى مُحِيطاً بِغَيْرِ الأوَّلِ الذي سَبَقَ له الذِّكْرُ لالتِبَاسِه بِمَا بَعْدَه، فَتُبْدِلُ مِنْه الثانِي المَقْصُودُ في الحَقِيقَةِ ".
وفي هذا الرَّأْيِ لا يَشْتَمِلُ البَدَلُ عَلى المُبْدَلِ مِنْه أو العكس، وإِنَّما الاشتِمَالُ للخَبَرِ المُسْنَدِ إلى الأوَّلِ، فإذا قُلْتَ: (سُلِبَ زَيْدٌ ثوبُهُ) أو (أَعْجَبَني زَيْدٌ عِلْمُه) فالمَسْلُوبُ هو الثوبُ لا زَيْدٌ، والمُعْجِبُ هو العِلْمُ لا زَيْدٌ، وبِناءً عَلى هذا يَكُونُ إِسْنَادُ المَعْنى إلى الأوِّلِ مَجَازاً وإلى الثانِي حَقيقَةً (3) .
وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ السِّيْرَافِيُّ والرُّمَّانِيُّ وابنُ مَلْكون وغَيْرُهُم مِنْ النُّحَاةِ (4) ، ورَدَّه ابنُ مَالِك (5) ،وابنُ أبي الرَّبيعِ، قالَ في البَسيطِ (6) : " ويَنْكَسِرُ هذا عَلَيْهِم ببَدَلِ البَعْضِ مِنْ الكُلِّ؛ لأنَّ بَدَلَ البَعْضِ مِنْ الكُلِّ عُلَّقَ فيه الفِعْلُ وهو في المَعْنى طالِب بالثانِي ".
__________
(1) انظر رأي ابن الباذش في ارتشاف الضرب 2/624.
(2) المقتضب 4/297.
(3) انظر تفصيل هذا الرأي في شرح التسهيل 3/338، وشرح المقدمة الجزولية690،والبسيط391،وارتشاف الضرب 2/624، وشرح ألفية ابن معط809،والهمع 5/214.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/624،والهمع 5 /214.
(5) انظر شرح التسهيل3/338.
(6) البسيط 391.(11/481)
وفي هذه المَسْأَلَةِ آراءٌ أُخْرى، مِنْها أَنَّ المُبْدَلَ مِنْه مُشْتَمِلٌ عَلى البَدَلِ، والمَقْصُودُ بهذا الرَّأيِ أَنَّه يَجُوزُ لك الاكْتِفاءُ بالأوَّلِ لكَوْنِه مُتَضَمِّناً للثانِي، فيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ) وأنتَ تُريدُ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ ثَوْبُه) (1) .
ومِنْ هذه الآراءِ أَنَّ البَدَلَ مُشْتَمِلٌ عَلى المُبْدَلِ مِنْه،فالثوبُ في قَوْلِكَ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ ثوبُهُ) مُشْتَمِلٌ عَلى عَبْدِاللهِ (2) .
وذَهَبَ الجُرجانِيُّ إلى أَنَّه لا خُصُوصِيّةَ لاشْتِمالِ أَحَدِهِما عَلى الآخَرِ (3) .
وذَهَبَ الزَّجَّاجُ إلى تَسْمِيَةِ هذا النَّوْعِ مِنْ البَدَلِ بِبَدَلِ المَصْدَرِ (4) .
__________
(1) انظر هذا الرأي في شرح الجمل 1/282،وشرح التسهيل 3/338،واللباب 1/431، والبسيط 392،وارتشاف الضرب 2/624،والهمع 5/213،وشرح التصريح 2/157.
(2) انظر هذا الرأي في شرح الجمل لابن عصفور 1/281،والبسيط 392، وارتشاف الضرب 2/624.
(3) انظر المقتصد935.
(4) انظر شرح الجمل لابن عصفور 1/281،ونتائج الفكر 307.(11/482)
وأَرى أَنَّ هذا الخِلافَ ليسَ بِذي فَائِدَةٍ كَبيرَةٍ، فالنُّحَاةُ لمْ يَخْتَلفوا في إعْرابِ البَدَلِ، وإنّما الخِلافُ في تَحْديدِ المَقْصُود ببَدَلِ الاشْتِمَالِ،فهو خِلافٌ في حَدِّ المصْطَلَحِ،وأرَى أنَّ هذا التَّحْديدِ يَدْخُلُ في الجَانِبِ الفَلْسَفِيِّ للنَّحْو، وأَرَى أنّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ: كُلُّ مُبْدَلٍ يَشْتَمِلُ عَلى البَدَلِ ولكنْ ليسَ كُلُّ بَدَلٍ يَشْتَمِلُ عَلى المُبْدَلِ مِنه، ومِثالُ ذلكَ أنَّكَ إذا قلتَ: (أَعْجَبَتْني الزَّهْرَةُ رَائِحَتُها) تَسْتَطِيعُ القَوْلَ إِنَّ الزَّهْرَةَ تَشْتَمِلُ عَلى الرَّائِحَةِ،ولكنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقولَ إنَّ الرَّائِحَةَ تَشْتَمِلُ عَلى الزَّهْرَةِ،فبينَهُما مَا يُشْبِه العُمُومَ والخُصُوصَ، فالعامُّ يَشْمَلُ الخاصَّ ولكِنَّ الخَاصَّ لا يَشْمَلُ جَميعَ العامِّ،كَمَا أَنَّك إذا قلت: (سُرِقَ زَيْدٌ ثوبُه) جَازَ لكَ أنْ تَقولَ إنَّ البَدَلَ يَشْتَمِلُ على المُبْدَلِ مِنْه، وجازَ العَكْسُ، وهذا الذي أَرَاهُ هو الذي دَفَعَ النُّحَاةُ إلى القوْلِ بأكثر من رأي.
إعراب المخصوص بالمدح
نُسِبَ لسِيْبَوَيْه في إِعْرابِ المَخْصُوصِ بالمَدْحِ قَوْلان:(11/483)
الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ خَبَراً لمُبْتَدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُه (هو) (1) ،وتَقْدِيرُ الجُمْلَةِ: نِعْمَ الرَّجُلُ هو زَيْدٌ، والمُبْتَدَأ هاهُنا مَحْذُوفٌ وُجُوباً، وقد أَخَذَ بِهذا الرَّأْيِ جُمْهُورُ النُّحَاةِ، مِنْهُم الجَرْمِي (2) والمُبَرِّدُ (3) وابنُ السَّراجِ (4) والسِّيْرَافِيُّ (5) والفَارِسِيُّ (6) وابنُ جِنِّي، قالَ في اللُّمَعِ (7) :" و (زَيْدٌ) مَرْفُوعٌ، لأنَّه خَبَرُ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ، كَأنَّ قائِلاً قالَ: مَنْ هذا المَمْدُوحُ؟ فقُلْتَ: (زَيْدٌ) ، أيْ: هو زَيْدٌ ".
الثانِي: المَخْصُوصُ مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ، والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ خَبَرٌ عَنْه (8) ، وهذا هو الرَّأيُ الذي اخْتَارَه أبو الحَسَن بنِ الباذِش (9) وغَيْرُه مِنْ النُّحَاةِ (10) .
ويَرَى ابنُ الباذِش أَنَّ الرَّأيَ الأوَّلَ هو رَأْيُ مَنْ يُسيءُ فَهْمَ عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه (11) ، ونَقَلَ الأشْمُونِي عَنْ ابنِ الباذِش قَوْلَه (12) : " لا يُجِيزُ سِيْبَوَيْه أَنْ يَكُونَ المُخْتَصُّ بالمَدْحِ والذَّمِّ إلاّ مُبْتَدأ ".
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب3/25.
(2) انظر ارتشاف الضرب 3/25، وشرح التصريح 2/97.
(3) انظر المقتضب 2/142.
(4) انظر الأصول 1/112.
(5) انظر ارتشاف الضرب 3/ 25،والأشموني 3/37.
(6) انظر الإيضاح العضدي 87.
(7) اللمع 140.
(8) انظر شرح جمل الزجاجي لابن خروف 594،وشرح التصريح 2/97.
(9) انظر مغني اللبيب 602، والنكت الحسان 134،والأشموني 3/ 37، وشرح التصريح 2/97.
(10) انظر التبصرة والتذكرة 1/275،وشرح جمل الزجاجي لابن خروف 594،وشرح الرضي 2/318.
(11) انظر النكت الحسان 134.
(12) انظر الأشموني 3/37.(11/484)
ويَرى ابنُ خَروف أَنَّ في عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه غُمُوضاً (1) ، وهذا هو الحَاصِلُ، فعِبَارَةُ سِيْبَوَيْه تَحْتَمِلُ الرَّأْيَيْن، قالَ في كِتابِه (2) : " وإِذا قالَ: (عَبْدُ اللهِ نِعْمَ الرَّجُلُ) فهو بمَنْزِلَةِ: (عَبْدُ اللهِ ذَهَبَ أَخُوه) ،كَأَنَّه قَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ) فقِيْلَ لَه: مَنْ هو؟ فقالَ: (عَبْدُ اللهِ) ، وإذا قالَ: (عَبْدُ اللهِ) فكَأَنَّه قيلَ له: مَا شَأْنُه؟ فقالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ ".
فإِذا أَرَدْتَ المَعْنى العامَّ لِنَصِّ سِيْبَوَيْه فرَأْيُه مَا ذَهَبَ إليه ابنُ الباذِش، وإِذا أَرَدْتَ أَنْ تُفَسِّرَ كَلامَ سِيْبَوَيْه مَقْطَعِيّاً، فالمَقْطَعُ الثانِي مِنْ كَلامِه يَدُلُّ عَلى ما ذَهَبَ إليه الجُمْهورُ، وهو قَوْلُه: " كَأَنَّه قالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ) ،فقِيلَ له: مَنْ هو؟ فقالَ: عَبْدُ اللهِ "، فالمَعْنى عَلى أَنَّ التَّقْديرَ: هو عَبْدُ اللهِ.
ونَقَلَ لَنا أبو حَيَّانَ اسْتِدلالَ ابنِ الباذِش عَلى مَذْهَبِه، فذَكَرَ أنّه اسْتَدَلَّ بوَجْهَيْن (3) :
الأوَّلِ: جَوازُ حَذْفِ المَخْصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالى: "نِعْمَ العَبْدُ " فحُذِفَ للعِلْمِ، ولَوْ كَانَ مُبْتَدأ مَحْذُوفَ الخَبَرِ أو عَكْسَه للزِمَ مِنْ ذلكَ حَذْفُ الجُمْلَةِ بأَسْرِها، والعَرَبُ لا تَفْعَلُ ذلك.
الثانِي: إِنَّ جَعْلَ جُمْلَةِ المَدْحِ جُمْلَتَيْن يُؤَدِّي إلى ارْتِبَاطِهِمَا مِنْ غَيْرِ رَابِطٍ؛ لأنَّ (نِعْمَ الرَّجُلُ) جُمْلَةٌ، و (زَيْدٌ) المَمَدُوحُ جُمْلَةٌ، ولا تَعَلُّقَ بَينَهما بِخِلافِ المَذْهَبِ الذي يَجْعَلُ جُمْلَةَ المَدْحِ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
وفي هذه المَسْأَلَةِ رَأيان آخَران:
__________
(1) انظر شرح جمل الزجاجي لابن خروف594.
(2) الكتاب 2/176.
(3) انظر النكت الحسان 134.(11/485)
الأوّل: أنْ يَكُونَ المَخْصُوصُ مُبْتَدأ خَبَرُه مَحْذُوفٌ تقديره: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ المَمْدوحُ، ذَكَرَهُ ابنُ عُصْفور في المُقَرّبِ (1) .
الثاني: المَخْصُوصُ بَدَلٌ مِنْ الفاعِلِ، وهو رَأيُ ابنِ كَيْسان (2) ، ويَرُدُّه أَنَّ المَخْصوصُ لازِمٌ،وليسَ البَدَلُ بلازِمٍ في الكَلامِ، كَمَا يَرُدُّه أنَّه لا يَصْلُحُ لمُباشَرَةِ "نِعْمَ".
يُلاحَظُ في هذه المَسْألةِ تَعَدُّدّ وُجُوه الإعْرابِ،وسَبَبُ هذا التَّعَدُّدِ هو عِبَارَةُ سَيْبَوَيْه الغامِضَةُ، وأَرَى أَنَّ الاسْتِدلالَ الذي قَدَّمَه ابنُ الباذِشِ اسْتِدْلالٌ يَدُلُّ عَلى فَهْمٍ سَديدٍ لِعَبارَةِ سِيْبَوَيْه،ويُضَافُ إلى اسْتِدْلالِه أَنَّ جُمْلَةَ المَدْحِ تامَّةُ المَعْنى، فلا تَحْتاجُ إلى التَّقْديرِ الذي ذَهَبَ إليه أَكْثرُ النُّحَاةِ في الرَّأْيِ الأوَّلِ.
دلالة (ربّ)
اسْتَعْمَلَتْ العَرَبُ (رُبَّ) للدّلالَةِ عَلى العَدَدِ،والمَقْصُودُ بالعَدَدِ هو القِيْمَةُ التي تَدُلُّ عليه مِنْ حيث القلَّةِ والكَثرَةِ، وهذا الاسْتِعْمالُ ثابِتٌ في أشْعَارِهم وأقوالِهم، واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في القِيمَةِ التي تَدُلُّ عَلَيهِ (رُبَّ) ،واخْتِلافُهُم مَحْصُورٌ في دَلالَتِها على القَلِيلِ أو الكَثيرِ (3) .
وذَهَبَ ابنُ الباذِش إلى أنَّه لا يُمْكِنُ تَحْديدُ القِيمَةِ التي تَدُلُّ عَليه سَواء كانت قلَيلَةً أو كثيرةً، فهي مَجْهولَةٌ مُبْهَمَةٌ مِنْ هذه الناحِيَةِ (4) ،وتَابَعَه في هذا الرَّأيِ ابنُ طَاهِر (5) .
__________
(1) انظر المقرب 73.
(2) انظر الأشموني 3/37، وشرح التصريح 2/97.
(3) انظر ارتشاف الضرب 2 /456،والهمع 4/175،والمسائل والأجوبة (ضمن كتاب رسائل ونصوص في اللغة والأدب) 233.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/456،والهمع 4/175.
(5) انظر ارتشاف الضرب 2/456،والهمع 4/175.(11/486)
وبَعْدَ اسْتِعْراضِ مَجْمُوعَةٍ مِنْ شَواهِدِ النُّحَاةِ الشِّعْرِيَّةِ على الكَثرَةِ أو القِلَّةِ رَأَيْتُ أَنَّها لا تَدُلُّ عَلى أَنَّ هناك قيمَةً مَحْدودَةً يُمْكن قِياسُها مِنْ خِلالِ السِّياقِ، فحَقِيقَةُ هذه القِيمَةِ مَجْهُولَةٌ لا يُمْكِنُ إِدْرَاكُها إلاّ بقَرينَةٍ لفظية أو مَعْنَويّة، ومِمّا يُذْكَرُ في هذا المَوْضع أَنَّ كثيراً مِنْ الشَّواهِدِ التي اسْتَدَلُّوا بِها عَلى الكَثْرَةِ قد رُدَّتْ واسْتَدَلّوا بها عَلى القِلةِ (1) ، وهذا مِمّا يُقَوِّي رَأيَ أبي الحَسَن بن الباذِش.
اسم وخبر كان إذا كانا معرفتين
اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في تَفْسِيرِ عِبَاراتِ سِيْبَوَيْه، ومِنْ تلك العِبارَاتِ التي اخْتَلَفُوا فيها عِبَارَتان تَتَعَلّقان باسْمِ وخَبَرِ (كانَ) إذا كَانا مَعْرِفَتَيْن،وكانَ لأبي الحَسَنِ بن الباذِش رَأيٌ في تَفْسِيرِ هَاتَيْن العِبَارَتَيْن.
العِبَارةُ الأولى: قَوْلُ سِيْبَوَيْه (2) : " وإِذا كانا مَعْرِفَةً فأنتَ بالخيارِ: أيَّهُما مَا جَعَلتَه فاعِلاً رَفَعْتَه ونَصَبْتَ الآخَرَ كَما فَعَلْتَ ذلك في ضَرَبَ، وذلك قَوْلُكَ:كَانَ أَخُوكَ زَيْداً، وكَانَ زَيْدٌ صَاحِبَكَ، وكَانَ هذا زَيْداً، وكَانَ المُتَكَلّمُ أَخَاكَ ".
__________
(1) انظر المسائل والأجوبة (ضمن كتاب رسائل ونصوص في اللغة والأدب) 233 وما بعدها.
(2) الكتاب 1/4950.(11/487)
نُقِلَ عن أبي الحَسَن بن الباذِش أنّه اخْتَارَ رَأيَ السِّيْرَافِيِّ في تَعْيينِ اسْمِ وخَبَرِ (كان) ،وأَخَذَ بِرَأيِهِمَا ابنُ الضَّائِعِ وابنُ خَروف، قالوا: تَنْظُرُ إلى المُخَاطَبِ، فإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَحَدَ المَعْرِفَتَيْن ويَجْهَلُ الآخَرَ جُعِلَ المَعْلومُ الاسْمَ والمَجْهُولُ الخَبَرَ، نَحْو: (كَانَ أَخُو بَكْرٍ عَمْراً) إِذا قَدَّرْتَ أَنَّ المُخَاطَبَ يَعْلَمُ أَنَّ لِبَكْرٍ أَخاً ويَجْهَلُ كَوْنَهُ عَمْراً، و (كَانَ عَمْروٌ أَخا بَكْرٍ) إذا كَانَ يَعْلَمُ عَمْراً ويَجْهَلُ كَوْنَه أَخَا بَكْرٍ (1) .
وقد فُسِّر قَوْلُ سِيْبَوَيْه أَكْثرَ مِنْ تَفْسِيرٍ، ونَتَجَ عَنْ ذلكَ أَكْثَرَ مِنْ رَأي، فمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى تَخَيُّرِ أَيِّهِما شِئْتَ اسْماً والآخَرَ خَبَراً،وقَالوا:هذا ظَاهِرُ كَلامِ سِيْبَوَيْه (2) ،ومِنْهُم مَنْ رَأى أنَّه إذا لَمْ يَسْتَوِيا في رُتْبَةِ التَّعْريفِ فالاخْتِيارُ جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً والآخَرِ خَبَراً (3) ، وذَهَبَ بَعْضُهُم إلى أَنَّ الخَبَرَ مَا تُريدُ إثباتَه مُطْلَقاً نَحْو: (كَانَتْ عُزْلَتَكَ عُقُوبَتُكَ) فالعُزْلَةُ هي الثابِتَةُ، فهي الخَبَرُ (4) ، ومِنْهُم مَنْ قالَ: مَا صَحَّ مِنْهُما جَواباً فهو الخَبَرُ والآخَرُ الاسْمُ (5) .
العِبَارَةُ الثانِيَةُ: قالَ سِيْبَوَيْه (6) : " وتَقولُ: مَنْ كَانَ أَخَاكَ، ومَنْ كَانَ أَخُوكَ، كَما تَقولُ: مَنْ ضَرَبَ أَبَاكَ،إِذا جَعَلْتَ (مَنْ) الفاعِلَ ".
__________
(1) انظر شرح جمل الزجاجي 425،والتذييل 2/لوحة139، والهمع2/9394.
(2) انظر ارتشاف الضرب 2/89،والهمع 2/93.
(3) انظر الهمع 2/28،وارتشاف الضرب 2/89.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/ 89.
(5) انظر ارتشاف الضرب 2/ 89.
(6) الكتاب 1/ 50.(11/488)
لمْ تَخْتَلِفْ نَظْرَةُ ابنِ الباذِش وغيرِه مِنْ النُّحَاةِ إلى هذه العِبَارَةِ عَنْ نَظْرَتِهِ إلى العِبَارَةِ السَّابِقَةِ، فَيَنْطَلِقُ في تَفْسِيرِه مِنْ التَّرْكِيبِ مُرْتَبِطاً بِواقِعِ الحَالِ، فهو يَرْبِطُ بَيْنَ االمُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه كَتَرْكِيبٍ وبَيْنَ المُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ عِلْمِه أو جَهْلِه، قالَ أبو حيَّانَ في تَفْسيرِ هذه العِبارَةِ نَقلاً عَنْ السِّيْرَافِيِّ وابنِ الباذِش والشلوبين وابنِ الضَّائِعِ (1) : " مُرَادُ سِيْبَوَيْه أنّكَ لا تُخْبِرُ المُخَاطَبَ فتَجْعَلَ له الخَبَرَ عَنْ (كَانَ) المَجْهُولَ عندَه، إنّما مُرادُه أَنَّهُما إذا كَانَا مَعْرِفَتَيْن والمُخَاطَبُ يَعْرِفُ كُلاً عَلى انْفِرَادِه لا التركيب، فأَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ بانْتِسَابِ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ، فأنتَ إذن بالخيارِ، وإِنَّما جَعَلْتَ الاسْمَ والخَبَرَ [بالخيارِ] لأنَّ كُلاً مِنْهُما عِنْدَه في المَعْرِفَةِ سَواء، إذ مَقْصُودُكَ هو أَنْ تُعَرِّفَه تَرْكِيبَهُما ".
(كان) التي فيها ضمير الشأن ناقصة
اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في (كَانَ) التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشَّأْنُ نَحْوَ قَوْلِ الشاعِرِ (2) :
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ:شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالّذي كُنْتُ أَصْنَعُ
__________
(1) التذييل 2/لوحة139.
(2) البيت للعجير عمر بن عبد الله بن سلول في شرح الجمل لابن خروف 447،وانظر البيت في الكتاب 1/71، وابن السِّيْرَافِيّ 1/144، والجمل 50،والبسيط 760.(11/489)
فقد نَقَلَ لَنا أبو جَعْفَر بنُ الإمَامِ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش عَنْ أبي القاسِمِ الشَّنْتَريني أنّه قال (1) : " مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَانَ التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشأنُ هي النَّاقِصَةُ فقد أَخْطَأَ، وإنّما هي غَيْرُها "،والمَقْصُودُ بغَيْرِها تَمَامُها وإَلْغاءُ عَمَلِها في المُبْتَدَأ والخَبَرِ، وهو رَأيُ ابنِ الطَّرَاوَةِ (2) .
وأَخَذَ أبو الحَسَنِ بنِ الباذِش برَأيِ الجُمْهُورِ، فإِنَّ (كَانَ) التي فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي النَّاقِصَةُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقد نَقَلَ لنا رَأيَهُ في هذه المَسْألَةِ وَلَدُه أبُو جَعْفَر، قالَ (3) : "قالَ أَبي: والصَّحِيحُ أَنَّ (كَانَ) المُضْمَرَ فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي (كَانَ) النَّاقِصَةُ، والجُمْلةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، يَدُلُّ عَلى ذلكَ أَنَّ الأمْرَ والشَّأنَ يَكُونُ مُبْتدأ ومُضْمَراً في (إِنَّ) وأَخَواتِها و (ظَنَنْت) وأَخَواتِها والجُمْلةُ المُفَسِّرَةُ الوَاقِعَةُ مَوْقِعَ خَبَرِ هذه الأشْياءِ،ومَا ثبَتَ أنَّه خَبَرُ المُبْتَدأ، ولَمّا ذُكِرَ معه ثبَتَ أنَّه خَبَرٌ لِ (كَانَ) . انتهى ".
وأَرَى أَنَّ الأقْرَبَ إلى الصَّوَابِ في هذِه المَسْألةِ هو مَا ذَهَبَ إليه الشَّنْتَريني، فإنَّ مَا ذَهَبَ إليه الجُمْهُورُ يُنَاقِضُ المَعْنى، فإضْمَارُ الشأنِ في هذا المَوْضِعِ لا دَلالةَ عليه، فلا حَاجَة تَدْعُونا إلى إضْمَارِه،كَمَا أَنَّ في اخْتِيارِ الشَّنْتَريني بُعداً عَنْ التَكَلُّفِ.
العطف على اسم (أنّ)
لَنْ أَخُوضَ في الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في مَسْألةِ العَطْفِ عَلى اسْمِ (إنَّ) وأَخَواتِها، فهذِه مَسْأَلةٌ طَويلةٌ أشبعَ البَحْثُ فيها، وهي مَوْجُودَةٌ في الكُتُبِ حَيثُ يَكادُ لا يَخْلو كِتابٌ مِنْ ذِكْرِها.
__________
(1) الأشباه والنظائر 4/34.
(2) انظر ابن الطراوة النحوي 166.
(3) الأشباه والنظائر 4/35.(11/490)
يَنْقُلُ ابنُ عَطِيَّةَ الأندَلُسيّ رَأْيَ أُسْتاذِه أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش في إعْرابِ قَولِهِ تَعَالى: (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ المُشْرِكينَ ورَسُوْلُه ( {التوبة 3} فيقولُ (1) : " ومَذْهَبُ الأسْتاذِ يَعْني ابنَ الباذِش عَلى مُقْتَضَى كَلامِ سِيْبَوَيْه أَنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَليه (أَنَّ) إذْ هو مُعْرَبٌ قد ظَهَرَ فيه عَمَلُ العَامِلِ، وأنَّه لا فَرْقَ بَيْنَ (أَنَّ) وبَيْنَ (لَيْتَ) ،والإجْمَاعُ عَلى أَنْ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عليه هذه " هذا كَلامُ ابنِ عَطِيَّةَ نَقْلاً لمَذْهَبِ ابنِ الباذِش.
ويُفْهَمُ مِنْ هذا الكَلامِ أنَّ عَالِمَنا يَأْخُذُ برَأيِ سِيْبَوَيْه في عَدَمِ جَوَازِ العَطْفِ عَلى مَوْضِعِ اسْمِ (أَنَّ) ، وأَنَّ مَا جَاءَ مِنْها مَرْفُوعَاً كَهذِه الآيةِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، كَأَنَّهُ قالَ: (ورَسُولُه كَذلِكَ) .
ورَفْعُه لا يَكُونُ إلاّ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ،وثانِيْها أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ، والثالثِ العَطْفُ عَلى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ، وهذا مَا لمْ يُجِزْهُ سِيْبَوَيْه (2) وغَيْرُه مِنْ المُحَقِّقين، ويَرَوْنَ أَنَّ العَطْفَ في هذِه المَواضِعِ عَلى الجُمَلِ لا عَلى المُفْرَداتِ، أيْ: العَطْفُ عَلى جُمْلةِ (أَنَّ) واسْمِها وخَبَرِها لا عَلى اسْمِ (أَنَّ) (3) .
__________
(1) المحرر الوجيز 6/408.
(2) انظر الكتاب 1/238،2/144.
(3) انظر شرح الجمل لابن خروف 1/463،واللمع 126،وشرح الكافية الشافية1/513،والصفوة 2/101.(11/491)
ويَرَى أبُو حيَّانَ أَنَّ العِلَّةَ التي ذَكَرَها ابنُ الباذِش في أنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه (أَنَّ) غَيرُ صَحيحَةٍ، فالعِلَّةُ ليْسَت هي ظُهُورُ عَمَلِ العَامِلِ بدَلِيلِ: (لَيْسَ زَيْدٌ بقائِمٍ) فقد ظَهَرَ العَامِلُ، ولَهُمَا مَوْضِعٌ (1) .
ويُعَلِّقُ أَيْضاً عَلى مَا ذَكَرَه مِنْ إِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلى (لَيْتَ) ،وأَنَّه لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه، فهُناكَ خِلافٌ في هذه المَسْأَلةِ، فقد ذَهَبَ الفَرَّاءُ إلى أَنَّ حُكْمَ (لَيْتَ) حُكْمُ غَيْرِها مِنْ أَخَواتِها، فلَيْسَ في هذا الرَّأيِ إِجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابنُ الباذِش (2) .
ورَدَّ السَّمينُ الحَلَبي قَوْلَ ابنِ الباذِش: (وأنَّ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ وبَيْنَ لَيْتَ) فقال (3) : "فإِنَّ الفَرْقَ قائِمٌ، وذلك أَنَّ حُكْمَ الابْتِداءِ قد انتَسَخَ مَعْ (لَيْتَ) و (لَعَلَّ) و (كَأنَّ) لفظاً ومعنىً بخِلافِه مَعْ (إِنَّ) و (أَنَّ) فإِنَّ مَعْناه معهما باقٍ "
جواز نصب صفة (أي) في النداء
أَجَازَ المَازِنِيُّ نَصْبَ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ،وذلكَ في قَوْلِكَ: (يَا أَيُّها الرَّجُلُ) فأَجَازَ النَّصْبَ في (الرَّجُلِ) (4) ،ووَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ المَازِنِيِّ مِنْ جِهَةِ القِياسِ فيهِ قَوْلان:
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/6.
(2) انظر البحر المحيط 5/6.
(3) الدر المصون 6/8.
(4) انظر هذه المسألة في معاني القرآن للزجاج 1/98،وإعراب القرآن للنحاس 1/197،وشرح الكافية الشافية1318،والدر المصون1/185،وشرح اللمع للواسطي 146،وشرح اللمع لابن برهان1/280،والمقتصد2/777،والأشموني3/150،وشرح ألفية ابن معط للقواس 1044،والصفوة الصفية2/200،وارتشاف الضرب3/127،والمجيد في إعراب القرآن 147.(11/492)
أَوَّلُهُمَا: الحَمْلُ عَلى مَوْضِعِ (أَيّ) ، فالأصْلُ في النِّداءِ النَّصْبُ (1) ، ورَدَّ النُّحَاةُ هذا القِياسَ بأنَّ الحَمْلَ عَلى المَوْضِعِ حَمْلٌ عَلى التَّأويلِ،ولا يُحْمَلُ عَلى التَّأويلِ مَا لمْ يَتِمَّ الكَلامُ (2) ،كَمَا قالُوا: إِنَّ الحَمْلَ عَلى المَعْنى إِنَّما يَكُونُ في المُنَادى المُسْتَغْنِي عَنْ الصَّفَةِ، فأَمَّا (أَيّ) فلا تَسْتَغْنِي عَنْ الصِّفَةِ، فلا تُحمَلُ صِفَتُها عَلى المَعْنى (3) .
وثانِيها: القِياسُ عَلى صِفَةِ غَيْرِه مِنْ المُنَادَياتِ المَضْمُومَةِ (4) ،ورَدَّه النُّحَاةُ، قالَ القوَّاسُ (5) : " وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المَقْصُودَ بِصِفَةِ العَلمِ الإيضاحُ، والمُنَادَى هُناكَ هو العَلَمُ،وها هُنا الصِّفَةُ هي المُنَادَى،و (أيّ) وَصْلةٌ إلى نِدَائِه، ولِذلكَ لا يُوقَفُ عَلى الوَصْلَةِ دونَ الصِّفَةِ بخِلافِ العَلَمِ".
أَمّا وَجْهُ النَّصْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ فقد أَنْكَرَ النُّحَاةُ وُجودَ سَمَاعٍ في هذا المَوْضِعِ (6) ، قالَ ابنُ بُرْهان (7) : " ولمْ يُسْمَعْ في (الرَّجُلِ) النَّصْبُ، كَمَا قالوا: (يَا زَيْدُ الفاضِلَ) ؛لأنَّ (الرَّجُلَ) وإنْ كَانَ صِفَةً في اللَّفْظِ فإِنَّه المَقْصُودُ بالنِّدَاءِ، فأَلزَمُوا (الرَّجُلَ) الرَّفْعَ ليَدُلُّوا عَلى الفَرْقِ بَيْنَهُما، وسَوَّى بَيْنَهُما أبو عُثمَان قِياساً مِنْ غَيْرِ رِوايَةٍ ".
__________
(1) انظر شرح اللمع للواسطي145،والدر المصون 1/185، والصفوة الصفية 2/200، والمجيد 147.
(2) انظر شرح اللمع للواسطي 146، والصفوة الصفية 2/200.
(3) انظر الصفوة الصفية 2/200.
(4) انظر شرح الكافية الشافية1318، وشرح ألفية ابن معط للقواس1044، والأشموني 3/150.
(5) شرح ألفية ابن معط للقواس 1044.
(6) انظر المقتصد 2/777778،وشرح اللمع لابن برهان1/280.
(7) شرح اللمع لابن برهان1/280.(11/493)
ونَقَلَ أبُو حيَّانَ عَنْ أبي الحَسَن بنِ الباذِش أَنَّ النَّصْبَ في هذا المَوْضِعِ مَسْمُوعٌ عَنْ العَرَبِ، ولمْ يَذْكُرْ شاهِداً عَلى ذلك (1) ،وذكر الصَّبَّانُ في حَاشِيَتِه عَلى الأشْمُوني سَمَاعَ ابنِ الباذِش، ونَقَلَ شَاهِداً عَلى ذلكَ عَنْ السّنْدُوبي وهو قِراءَةُ بَعْضِهم: " قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرِينَ " {الكافرون 1} بالنَّصْبِ (2) ،ولمْ أجِدْ في كُتُبِ القِراءاتِ التي تَيَسَّرَ لي الاطِّلاعُ عَليْها هذه القراءَةَ،ولا يَعْني ذلكَ أَنَّ هذه القراءَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فأبو حَيَّانَ يُؤكِّدُ أَنَّ عِنْدَ ابنِ الباذِشِ شَاهِداً عَلى ذلكَ، والصَّبَّانُ يَنْقُلُ هذا الشَّاهِدَ القُرْآنِيّ،ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ابنَ الباذِشِ مِنْ أَكابِرِ عُلماءِ القِراءاتِ في عَصْرِه،ويَشْهَدُ عَلى ذلكَ كِتابُ وَلدِه المَوْسُومُ ب (الإقناعِ) ، فمِنْ الصَّعْبِ الشَّكُّ فيما يَنْقُلُ هذا العَالِمُ مِنْ رِواياتٍ عَنْ القرَّاءِ.
والحَقُّ أَنَّ هذه القِراءَةَ إنْ صَحَّت دَعَامَةٌ تُقَوِّي مِنْ رَأيِ المَازِنِيِّ، ومَا نُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش يَدُلُّ عَلى جَوازِ نَصْبِ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ عِنْدَه، فلو كَانَ هذا السَّماعُ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَه مَا ذَكَرَه.
الفصل بين نكرتين
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب 3/127.
(2) انظر حاشية الصبان 3/150.(11/494)
نَقَلَ أبُو حَيَّانَ وغَيْرُه عَنْ أبي الحَسَن بنِ الباذِشِ أَنَّه حَكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْ الكُوفِيَّين أَنَّهُم أَجَازُوا الفَصْلَ بَيْنَ النَّكِرَاتِ (1) ، ومِنْ ذلكَ قَوْلُه تَعالى: "أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ " {النحل 92} هذا مَا نَقَلَهُ أبو حَيَّانَ عَنْ ابنِ الباذِش، ولا يَدُلُّ هذا عَلى مُتَابَعَةِ ابنِ الباذِش للكُوفِيِّين،وقد ذَكَرَ رَأيَهُم الزَّجَّاجُ في مَعَانيه ورَدَّه (2) .
اشتقاق اسم الفاعل من العدد فوق العشرة
أَجَازَ سِيْبَوَيْه وجَمَاعَةٌ مِنْ المُتَقدِّمين اشْتِقَاقَ اسْمِ الفَاعِلِ المُخْتَلفِ في المُرَكَّبَاتِ قِياساً لا سَمَاعاً، فيُجِيزُ: رَابِعُ ثَلاثَةِ عَشْر وخَامِسُ أَرْبَعَةِ عَشْر بمَعْنى التَّصْييرِ،وقاسَ سِيْبَوَيْه ذلكَ عَلى مُتَّفقِ الألفاظِ، قالَ (3) : "ونَقُولُ: هو خَامِسُ أَرْبَعٍ إذا أَرَدْتَ أَنْ تُصَيِّرَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ خَمْسَةً، ولا تَكادُ العَرَبُ تَكَلَّمُ بِه كَما ذَكَرْتُ لك، وعَلى هذا تَقُولُ: رَابِعُ ثَلاثَةِ عَشْر ".
ومَنَعَ هذا الاشْتِقاق الجُمْهورُ (4) ،وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّين (5) والأخْفَشِ (6) والمَازِنِيِّ (7) والمُبرِّد (8) والفَارِسِيُّ، قالَ الفَارِسِيُّ (9) : " ومَنْ قالَ: خَامِسُ أَرْبَعَةٍ لم يَقلْ: رَابِعُ ثلاثةِ عَشْر، ولا رَابِعُ عَشْر ثلاثةَ عَشْر؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ الجَارِي عَلى الفِعْلِ لا يَكونُ هكذا ".
__________
(1) انظر التذييل1/لوحة188، وارتشاف الضرب1/493، ونتائج التحصيل 2/655.
(2) انظر معاني القرآن للزجاج 2/142.
(3) الكتاب 3/561.
(4) انظر ارتشاف الضرب 1/374.
(5) انظر ارتشاف الضرب 1/374.
(6) انظر ارتشاف الضرب 1/374،والرضي 3/316،وشرح ألفية ابن معط للقواس 1113.
(7) انظر المقتضب 2/181، والكناش 1/305.
(8) انظر المقتضب 2/.181
(9) التكملة281.(11/495)
وتابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش الجُمْهورَ في مَنْعِهِم مِثْلَ هذا الاشْتِقاقِ، قالَ أبو حيَّانَ (1) : " وقد رَدَّ بَعْضُ المُتَأَخِّرينَ عَلى هذا القَوْلِ بأَنَّ العَرَبَ إنّما تَشْتَقُّ مِنْ العَقدِ الأوَّلِ فلا تَرْكِيبَ، ومِنْهُ اشْتَقَّتْ ثالِثَ عَشْرَ ثلاثةَ عَشْرَ، اشْتَقَّتْ ثالِثاً مِنْ ثلاثةٍ ثم رَكَّبَتْه بَعْدُ مَعْ (عَشْر) ، قالَ: والعَرَبُ تَقولُ: رَبَّعْتُ الثلاثةَ عَشْرَ، أيْ: رَدَدْتُهُم أَرْبَعَةَ عَشْرَ، فاشْتَقَّتْ مِنْ الصَّدْرِ ولمْ تُرَكِّبْ، فكَذلكَ تَشتَقُّ اسْمَ الفَاعِلِ مِنْ الصَّدْرِ "،ثمّ يَعْتَذِرُ ابنُ الباذِش لسِيْبَوَيْه فيقول (2) : " وإنّما قالَ سِيْبَوَيْه: رَابِعُ ثَلاثةَ عَشْر ولمْ يَعْلَمْ أنَّه مَحْذُوفٌ مِنْ تَرْكِيبٍ،واسْمُ الفاعِلِ تابِعٌ للفِعْلِ " قالَ أبو حيَّانَ (3) : " هكذا قالَ ابن الباذِش "، ومَقْصُودُ ابنِ الباذِشِ أَنَّ (رَابعَ) اسْمُ فَاعِلٍ،وهو مُشْتَقٌّ في هذا المَوْضِعِ (رَابِعُ ثلاثةَ عَشْر) مِنْ التَّرْكِيبِ (أَرْبَعَةَ عَشْر) ، واسْمُ الفَاعِلِ الذي بمَعْنَى المُصيِّر لا بُدَّ لَه مِنْ فِعْلٍ ومَصْدَرٍ، ولمْ يَثْبُتْ فِعْلٌ ولا مَصْدَرٌ مَبْنِيَّان مِنْ عَدَدٍ مُرَكَّب فوقَ العَشْرة.
أمس
تُسْتَعْمَلُ (أَمْس) في العَرَبِيَّةِ ظَرْفاً وغَيْرَ ظَرْفٍ، وفي الاسْتِعْمَالَيْن خِلافٌ، وهو خِلافٌ لَهَجِيٌّ يَتَعَلَّقُ ببِناءِ أو إِعْرَابِ (أمْس) في لُغَةِ الحِجَازِ وتَمِيم.
__________
(1) التذييل 3/لوحة136.
(2) التذييل 3/لوحة136، وارتشاف الضرب 1/374.
(3) التذييل 3/لوحة136، وارتشاف الضرب1/374.(11/496)
أَمَّا الخِلافُ عندَ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً فهو في بِنائِها أوَّلاً، فالظّاهِرُ أَنَّ النُّحَاةَ لمْ يَتّفِقوا عَلى حَرَكَةِ البِنَاءِ، فقد ذَهَبَ الزَّجَّاجُ (1) والزَّجَّاجِيُّ في جُمَلِهِ إِلى أَنَّ بِنَاءَ (أَمْس) عَلى الفَتْحِ لُغَةٌ وَرَدَتْ عَنْ العَرَبِ (2) ، والجُمْهورُ يَرى أنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى الكَسْرِ في حَالِ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً (3) ، وحَمَلَ ابنُ الباذِش عَلى الزَّجَّاجيِّ فقالَ (4) : "خَرَجَ الزَّجَّاجيُّ عَنْ إِجْمَاعِ النُّحَاةِ بِقَولِهِ: ومِنْ العَرَبِ مَنْ يَبْنيه عَلى الفَتْحِ "،وتابَعَ ابنَ الباذِش ابنُ مَالِك في التَّسْهيلِ (5) .
ثُمَّ إِنَّهُم اخْتَلفُوا في هذِه الكَلِمَةِ بَيْنَ الإعْرابِ والبناءِ، فالجُمْهُورُ يَرى بِنَاءَها، والخَلِيلُ يَرى أَنَّ الكَسْرَةَ كَسْرَةُ إِعْرابٍ عَلى تَقْديرِ: لَقيتُكَ بالأمْسِ بِحَذْفِ البَاءِ وأل التَّعْريفِ، والكِسَائي يَرى أَنَّ (أَمْس) ليسَ مُعْرَباً ولا مَبْنِياً، وإِنَّما هو اسْمٌ مَحْكِيٌّ سُمِّيَ بِفِعْلِ الأمْرِ مِنْ الأمْسِ كَمَا لو سُمِّيَ ب (أَصْبَحَ) مِنْ الإصْبَاحِ (6) .
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب 2/249.
(2) انظر الجمل299.
(3) انظر التسهيل 95.
(4) التسهيل 95هامش.
(5) انظر التسهيل 95.
(6) انظر هذين الرأيين في ارتشاف الضرب2/249.(11/497)
أَمَّا إذا اسْتُعْمِلَ (أَمْس) غَيْرَ ظَرْفٍ فأَهْلُ الحِجَازِ يَبْنونَه عَلى الكَسْرِ في كُلِّ حَالٍ، يَقولونَ: (ذَهَبَ أَمْسِِ) و (كَرِهْتُ أَمْسِِ) (1) . أَمَّا بَنو تَميمٍ فاخْتَلَفَ النُّحَاةُ في مَا وَرَدَ عَنْهُم، فقد ذَهَبَ ابنُ الباذِش وابنُ عُصْفور وابنُ مَالِك إلى أَنَّ بَني تَميمً تُعْرِبُ (أَمْس) ، وتَمْنَعُهُ مِنْ الصَّرْفِ للتَّعْرِيفِ والعَدْلِ عَنْ الألِفِ والَّلامِ في حَالِ الرَّفْعِ خَاصَّةً،ويُبْنى عَلى الكَسْرِ في حَالِ النَّصْبِ والجَرِّ، تَقولُ: (ذَهَبَ أمْسُ بمَا فيه) و (كَرِهْتُ أَمْسِِ) (2) .
وذَهَبَ الشلوبين إلى أَنَّ بَني تَميمٍ يُعْرِبُونَه في الرَّفْعِ فَيقولون: (ذَهَبَ أَمْسُ) ويُنَوَّنُ في النَّصْبِ والجَرِّ (3) ،فيقولون: (كَرِهْتُ أمْساً) و (مَرَرْتُ بأَمْسٍ) ،وحَكَى الكِسَائي أَنَّ بَعْضِهُم يَمْنَعُه الصَّرْفَ رَفْعاً ونَصْباً وجَرّاً، وبَعْضُهُم يُنَوِّنُهُ تَنْوينَ الصَّرْفِ في الأحْوَالِ الثلاثةِ إلا في النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِ (4) ،وحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ بَعْضَهُم يُنَوِّنُه، وهو مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ (5) ، وذَكَرَ ابنُ مَالِك والفَارِقِيّ أَنَّ مِنْهم مَنْ يُعْرِبُه في الجَرِّ بالفَتْحَة (6) كَقولِ الرَّاجزِ:
لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسا (7)
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب 2/249.
(2) انظر التسهيل 95،وشرح الكافية الشافية 1480، وارتشاف الضرب 2/249،والخزانة7/171.
(3) انظر ارتشاف الضرب 2/249،والخزانة 7/171.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/249،ولباب الإعراب 209.
(5) انظر ارتشاف الضرب 2/249.
(6) انظر الإفصاح 238، وشرح الكافية الشافية 1480.
(7) الشاهد في البيت وقوع أمس مجرورة وعلامة جرها الفتحة لمنعها من الصرف،وهو بلا نسبة في الكتاب2/44،والأمالي الشجرية 2/260،وابن يعيش 4/106، ولباب الإعراب 209،وشرح الكافية الشافية1481، والإفصاح238.(11/498)
وخَصَّ ابنُ أبي الرَّبِيعِ مَنْعَهُ مِنْ الصَّرْفِ عِنْدَ تَمِيمٍ إذا كَانَ مَرْفُوعاً أو مَخْفُوضاً ب (مُذ) أو (مُنْذُ) ،قالَ (1) : "وكَذلكَ (أَمْس) عِنْدَ بَنِي تَميمٍ إذا كَانَ مَرْفُوعاً أو مَخْفُوضاً ب (مُذ) أو (مُنْذُ) ،وجَعَلوه في حَالِ النَّصْبِ أو الخَفْضِ بِغَيْرِهِما مَبْنِياً عَلى الكَسْر".
فالمُلاحَظُ بَعْدَ كُلِّ هذِه الآراءِ أَنَّ الخِلافَ في النَّقْلِ والرِّوايَةِ عَنْ تَمِيم، وأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِر في (أَمْس) يَقَعُ ضِمْنَ الخِلافَاتِ الَّلَهَجِيَّةِ، وتَقْرِيرُ كَوْنِ (أَمْس) مَبْنِياً أو مُعْرَباً يَعْتَمِدُ عَلى صِحَّةِ السَّمَاعِ عَنْ تَميم.
جواز (هما يفعلان) للمؤنث
أَجَازَ أَبو الحَسَن بنُ الباذِش الإخْبَارَ عَنْ المُؤَنَّثِ إِذا سُبِقَ الفِعْلُ بضَمِيرٍ أَنْ تَقولَ: (هُمَا يَفْعَلان) بالياءِ (2) ، وقد أجَازَ ذلكَ حَمْلاً عَلى اللَّفْظِ، فالضَّمِيرُ (هُما) للمُذَكّرين، ونُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش أَنَّه أَجَازَ ذلكَ مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ، فقد ذَكَرَ النُّحَاةُ أنَّه يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ المُذَكَّرُ الغَائِبُ عَلى المُؤَنَّثِ فتقولُ: (تَجِيءُ كِتَابي) يريدُ الصَّحيفَةَ (3) ، ومِنْ ذلكَ قَوْلُه تَعَالى: (تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ( {يوسف 10} ، ونُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش أَيْضاً أنَّه لمْ يَعْلَمْ سَمَاعًا مَخْصُوصاً مِنْ العَرَبِ في هذِه المَسْألَةِ (4) .
__________
(1) الملخص 620.
(2) انظر رأيه في ارتشاف الضرب 3/34،والهمع 6/67،وحاشية الصبان 1/98.
(3) انظر ارتشاف الضرب 3/4.
(4) انظر الهمع6/67.(11/499)
وذَهَبَ ابنُ أبي العَافِيَةِ إلى وُجُوبِ الحَمْلِ عَلى المَعْنى، فلا يُجِيزُ إلاّ أَنْ تَقولَ: (هُما تَفْعَلان) (1) ،وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ أبو حَيَّانَ (2) ،ورَدَّ رَأْيَ ابنِ الباذِش بأَنَّ الضَّمِيرَ يَرُدُّ الأشْيَاءَ إلى أُصُولِها (3) ، بمَعْنى أَنَّ الضَّمِيرَ يَنْبَغي أَنْ يَدُلَّ عَلى التَّثْنِيَةِ المُؤَنَّثةِ، ولا يَجُوزُ أَنْ يُنَاقِضَ ذلكَ.
كَمَا ذُكِرَ أَنَّ السَّمَاعَ جَاءَ بالتاءِ (4) ،وذلكَ في مِثْلِ قولِ عُمَر بنِ أبي رَبِيعَةَ:
لَعَلَّهُمَا أَنْ تَبْغِيَا لَكَ حَاجَةً …………………… (5)
وهذا مَا يُؤَيِّد قولَ ابنِ أبي العَافِيَةِ.
الاسم بعد حروف النفي في باب الاشتغال
يَسْتَوي الرَّفْعُ والنَّصْبُ عِنْدَ أَبي الحَسَن بنِ الباذِش في الاسْمِ المَشْغُولِ عَنْه إذا وَلِيَ أَحَدَ حُرُوفِ النَّفْيِ (مَا،لا، إِنْ) ،نَحْوَ قولِ الشَّاعِرِ:
فَلا حَسَباً فَخَرْتَ بِهِ لِتَيْمٍٍ وَلا جَدّاً إِذا ازْدَحَمَ الجُدُودُ (6)
__________
(1) انظر ارتشاف الضرب3/4،والهمع 6/67، وحاشية الصبان 1/98.
(2) انظر ارتشاف الضرب3/4.
(3) انظر الهمع 6/67.
(4) انظر الهمع6/67.
(5) كذا رواه السيوطي في الهمع 6/67،وهو في ديوانه 203 برواية:
لعلهما أن تطلبا لك مخرجاً وأن ترحبا صدراً بما كنت أحصر
(6) البيت لجرير في ديوانه332، وانظر الكتاب1/73، والنكت للأعلم1/269.(11/500)
وقد رُوِيَ البَيْتُ بالوَجْهَيْن، ونَحْوَ قولِكَ: (مَا زَيْدٌ ضَرَبْتَه) ، والعِلَّةُ في ذلكَ أَنَّ هذِه الحُرُوفِ تَدْخُلُ عَلى الأسْمَاءِ والأفْعَالِ، أَمَّا غَيْرُها مِنْ أَحْرُفِ النَّفْيِ المُخْتَصَّةِ بِدُخُولِها عَلى الأفْعَالِ نَحْوَ: (لمْ،لَمّا، لنْ) فَلا يَجُوزُ فيها إلاّ النَّصْبُ لاخْتِصَاصِها بالأفْعَالِ (1) .
وتَابَعَ أَبا الحَسَن بنَ الباذِش في هذا الرَّأيِ ابنُ أبي الرَّبِيعِ (2) وابنُ خَروف،ونَسَبَ هذا الرَّأيَ لسِيْبَوَيْه،قالَ (3) : " وهو الظَّاهرُ مِنْ كَلامِ سِيْبَوَيْه"، واعْتَلَّ بأَنَّ المَوْضِعَ لا يَخْتَصُّ بالفِعْلِ دونَ الاسْمِ (4) .
وهُناكَ رَأيانِ آخَرَانِ في هذِه المَسْأَلَةِ، فظَاهِرُ كَلامِ سِيْبَوَيْه تَرْجِيحُ الرَّفْعِ مَعْ جَوازِ النَّصْبِ (5) ، وتَابَعَه في هذا الرَّأيِ ابنُ طَاهِرٍ (6) ، ويَرَى كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ أَنَّ النَّصْبَ أَرْجَحَ مِنْ الرَّفْعِ، وهو اخْتِيَارُ ابنِ مَالِكٍ (7) وابنِ الحَاجِبِ (8) والرَّضِيِّ (9) والخَوارِزْمي (10) والوَرَّاقِ (11) والنِّيليِّ (12) ،وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ كَمَا ذَكَرَ أبو حَيَّانَ (13) ، والعِلَّةُ في هذا الاخْتِيارِ أَنَّ النَّفْيَ أَوْلى بالفِعْلِ.
__________
(1) انظر رأي ابن الباذِش في ارتشاف الضرب3/108،والمجيد في إعراب القرآن330،وأوضح المسالك2/10، وشرح التصريح1/310، وحاشية الصبان 2/7879.
(2) انظر الملخص202.
(3) انظر شرح الجمل لابن خروف 410.
(4) انظر شرح الجمل لابن خروف 410.
(5) انظر الكتاب 1/145146.
(6) انظر المجيد 330.
(7) انظر شرح الكافية الشافية2/619.
(8) انظر شرح المقدمة الكافية 2/467.
(9) انظر شرح الرضي1/457.
(10) انظر التخمير 1/392.
(11) انظر علل النحو 313.
(12) انظر الصفوة الصفية833.
(13) انظر ارتشاف الضرب3/108.(12/1)
وأَرَى أَنَّ مَا اعْتَلَّ بِهِ الجُمْهُورُ تَعْليلٌ عَامٌّ يَشْملُ جَمِيعَ حُرُوفِ النَّفْيِ،والنَّفْيُ بابٌ واسِعٌ، فمِنْ حُرُوفِه مَا يَدْخُلُ عَلى الأفْعَالِ، ومِنْه مَا يَخْتَصُّ بالأسْمَاءِ، ومِنْها مَا يَدْخُلُ عَلى الأسْمَاءِ والأفْعَالِ عَلى السَّواءِ، فلا يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلَ كُلُّ النَّفْيِ مُعَامَلَةً وَاحِدَةً، ولِذا أَرَى أَنَّ رَأيَ ابنِ الباذِش أَدَقُّ مِنْ غَيْرِه مِنْ الآراءِ، وبِهِ جَاءَ السَّمَاعُ.
المشغول عنه بعد الاستفهام
يَبْدو لِي أَنَّ السّيوطِي قد خَلَطَ بَيْنَ الاسْتِفْهامِ والنَّفْيِ في نِسْبَةِ اسْتِواءِ الرَّفْعِ والنَّصْبِ بعد النفي لابنِ الباذِش، فقد نَسَبَ إليه في الهَمْعِ اسْتِواءَ الأمْرَيْن بَعْدَ الاسْتِفْهَام نَحْوَ: (أَزَيْداً ضَرَبْتَه) (1) ، ولمْ يَذْكُر رَأْيَهُ في النَّفيِ، ولمْ أَجِدْ هذا الرَّأيَ مَنْسُوباً لَهُ عِنْدَ غَيْرِ السّيوطي.
(جُمَع) و (كُتَع) وغيرها من ألفاظ التوكيد أعلام
يَكادُ النُّحَاةُ يُجْمِعون عَلى كَوْنِ (أَجْمَعَ) وأخَواتِه و (جُمَع) وأخَواتِه مِنْ أَلْفاظِ التَّوْكِيدِ مَعَارِفَ، ولمْ يَخْرُجْ عَنْ هذا الإجْمَاعِ إلاّ ابنُ الحاجِبِ ومَنْ تَبِعَه حَيْثُ ذَهَبَ إلى أَنَّ (جُمَع) مُنِعَ مِنْ الصَّرْفِ لعِلَّتَيْن هُما العَدْلُ والوَصْفُ الأصْليُّ (2) .
__________
(1) انظر الهمع 5/155.
(2) انظر شرح المقدمة الكافية1/272.(12/2)
واخْتَلَفُوا في تَعْريفِه، فرَأى الخليلُ أنَّ (جُمَع) و (أَجْمَع) وأَخَواتِهِمَا تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ (نَفسِه) و (عَيْنِه) المَعْرِفَتَيْن بالإضَافَةِ، قالَ سِيْبَوَيْه (1) : " وسَأَلتُه عَنْ (جُمَع) و (كُتَع) ، فقالَ: هُمَا مَعْرِفةٌ بمَنْزِلَةِ (كُلِّهِم) ، وهُمَا مَعْدولَتانِ جَمْعُ (جَمْعَاءَ) وجَمْعُ (كَتْعَاءَ) "، فهو تَعْرِيفٌ إِضَافِيٌّ عِنْدَ الخَليلِ، وتَابَعَه جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ.
ونُسِبَ لأبي الحَسَن بنِ الباذِش أَنَّ هذِه الألفَاظَ مَعَارِفُ بالعَلَمِيَّةِ (2) ، وقد أَسْعَفَنا أبُو حَيَّانَ فيمَا نَقَلَهُ مِنْ شَرْحِ الجُمَلِ لابنِ الباذِش بِرَأيِ عَالِمِنا في هذِه المَسْأَلَةِ، قالَ ابنُ الباذِش (3) : " وأَسْمَاءُ التَّوْكيدِ التي للإحَاطِةِ أَعْلامُ التَّوْكِيدِ المَعَارِفِ، فهي تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ سَائِرِ الأعْلامِ "، ثُمَّ يُبَيِّنُ لنا أَنَّ هذِه الألْفَاظَ أَعْلامٌ مُشْتَقَّةٌ في حَالِ العَلَمِيَّةِ غَيْرِ مَنْقولةٍ، ثُمَّ يَقولُ: "هذا قَوْلُ سِيْبَوَيْه وكَافَّةِ أَصْحَابِه".
__________
(1) الكتاب2/14.
(2) انظر شرح التصريح2/222.
(3) تذكرة النُّحَاة557.(12/3)
وقد وَجَدْتُ هذا الرَّأيَ عِنْدَ ابنِ أبي الرَّبِيعِ في المُلَخَّصِ، قالَ (1) :"وأَمّا (أَجْمَعُ) فمَعْرِفَةٌ بالعَلَمِيَّةِ؛ لأنَّه اسْمُ عَلَمٍ لِجُمْلَةٍ أَجْزَاءِ مَا تَجْرِي عَلَيْه، ولَيْسَ بنَكِرَةٍ "،وأَخَذَ بِهِ ابنُ مَالِك في التَّسْهيلِ (2) ورَدَّه في شَرْحِ عُمْدَةِ الحَافِظِ، قالَ (3) : "وصارَ (جُمَع) لِتَعْرِيفِه بغَيْرِ عَلامَةٍ مَلْفُوظٍ بِها كَأَنَّهُ عَلَمٌ،وليسَ عَلَماً؛ لأنَّ العَلَمَ إِمَّا شَخْصِيّ وإِمَّا جِنْسِيّ، فالشَخْصِيُّ مَخْصُوصٌ ببَعْضِ الأشْخَاصِ، والجِنْسِيُّ مَخْصُوصٌ بِبِعْضِ الأجْنَاسِ، و (جُمِع) بِخِلافِ ذلكَ فالحُكْمُ بِعَلَمِيَّتِه بَاطِلٌ ".
ويُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إليه ابنُ الباذِش أَنَّ هذِه الألْفَاظِ تَأتي تَأكِيداً للمَعَارِفِ،فهي مَعَارِفُ، ويُضافُ إلى ذلكَ دَلالَتُها الثابِتَةُ عَلى مَجْمُوعَةِ المُؤَكَّدِ،كَمَا يُؤَيِّدُ رَأيَه أَنَّ (أَجْمَعُ) يُجْمَعُ بالواوِ والنونِ، وهذا الجَمْعُ خَاصّ بالصِّفاتِ والأعْلامِ، و (أَجْمَعُ) وأَخَواتُها لَيْسَت بِصِفَاتٍ، فلمْ يَبْقَ إلا العَلَمِيَّةُ.
هل يجوز التعليق فيما لم يجز فيه الإلغاء؟
تَابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش ابنَ السَّرَّاجِ وأبا عَليٍّ الفَارِسِيّ في أَنَّه لا يَجُوزُ التَّعْليقُ في مِثْلِ قَوْلِكَ: (عَرَفْتَ أيُّهُم زَيْدٌ) ، وقَوْلِ الشاعرِ (4) :
حُزُقٌّ إذا ما القومُ أَبْدَوْا فُكَاهَةً تفكّرَ آإيّاه يَعْنونَ أم قِرْدا
__________
(1) الملخص 546.
(2) انظر التسهيل 222.
(3) انظر عمدة الحافظ867.
(4) البيت لجامع بن عمرو بن مرخيّة الكلابي في شرح شواهد الشافية349، وهو لرجل من بني كلاب في اللسان (حزق) ،وبلا نسبة في سر الصناعة723، وابن يعيش9/118، وارتشاف الضرب3/74، والحزق:الضيق الرأي من الرجال أو النساء، وقيل: القصير.(12/4)
فابنُ الباذِش يَرى أَنَّه لا يَكُونُ التّعْلِيقُ إلاّ فيمَا جازَ إلغاؤُه،وهذِه الأفْعَالُ لمْ يَرِدْ الإلغَاءُ فيها،وأَجَازَ هو وجَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ أَنْ تُحْمَلَ هذِه الأفعالُ عَلى غَيْرِها ممّا جَازَ فيها التَّعْليقُ، وبِناءً عَلى هذا الرَّأيِ يَكونُ (تَفَكَّرَ) و (عَرَفَ) فِعْلَيْن يَتَضَمَّنانِ مَعْنى مَا يَتَعَدَّى إلى اثنين،وقد سَدَّت الجُمْلةُ مَسَدَّ المَفْعُولين (1) .
وذَهَبَ السِّيْرَافِيّ وجَمَاعَةٌ إلى أَنَّه يَجُوزُ التّعْليقُ في أَفْعَالِ القُلوبِ مُطلقاً سَواءً كَانَ ممّا يُلغَى أو ممّا لا يُلغَى (2) .
والذي أَرَاه أَنَّ أَمْرَ الإلغَاءِ والتَّعْلِيقِ جَائِزٌ في كُلِّ فِعْلٍ يَدْخُلُ عَلى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، فإِذا جَازَ الإلغَاءُ والتَّعْلِيقُ في نَواسِخِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ جَازَ في غَيْرِها مِنْ الأفْعَالِ التي تُحْمَلُ عَلَيها في دُخُولِها عَلى المُبْتَدأ والخَبَرِ، وإذا كَانَتْ فِكْرَةُ التَّعْلِيقِ جَائِزَةٌ في الأفْعَالِ النَّواسِخِ والمَحْمُولَةِ عَلَيْها فلا أَرَى ضَيْراً مِنْ تَعْلِيقِ الأفْعَالِ التي لمْ يَرِدْ فيها الإلْغَاءُ، وذلك بِحَمْلِها عَلى غَيْرِها مِنْ الأفْعَالِ، ومَا ذَهَبَ إليه السِّيْرَافِيُّ دَعَامَةٌ لِرَأيِ أبي الحَسَن بنِ البَاذشِ.
الأصل في واو المَفْعُول معه
__________
(1) انظر هذه المسألة في ارتشاف الضرب 3/74.
(2) انظر ارتشاف الضرب 3/74.(12/5)
ذَهَبَ الزَّجَّاجِيُّ في الجُمَلِ إلى مَنْعِ رَفْعِ ما بَعْدَ الواوِ في قولك: (اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) فأَوْجَبَ النَّصْبَ (1) ، وخَالفَهُ أبو الحَسَنِ بنِ الباذِش الغرناطي فهو يَرى أَنَّ أَصْلَ الواوِ في هذا المَوْضعِ هو العَطْفُ، ونَقَلَ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ على هذا الأصْلِ (2) ، ويَرى أنّه لا يَكونُ النصبُ على المَفْعُوليَّةِ إلاّ في بَعضِ المَعْطوفِ، وكَأنَّ ابنَ الباذِش لَمَحَ في كَلامِ الزَّجَّاجيِّ عَدَمَ إِقْرارِه بأَنَّ أَصْلَ الواوِ العَطْفُ.
وقد نَقَلَ أبو حيَّانَ في التَّذييلِ نَصَّ رَدِّ ابنِ الباذِش على الزَّجّاجيِّ فقال (3) : " وقد ادَّعَى الإجْمَاعَ على ذلك أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش، قال: ويَمْتَنِعُ بإِجْماعٍ أَنْ يَكونَ المَفْعُولُ مَعَه غَيرَ مَنْقولٍ من العَطْفِ،فلا يكونُ فيه إلاّ النَّصيبُ في شيءٍ مِنْ الأفْعَالِ كَمَا زَعَمَ أبو القاسم يَعْني الزَّجّاجيَّ في قولهم: (اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) أنّه لا يَجوزُ فيهِ إلاّ النَّصْبَ؛ لأنَّ المَعْنى: ساوى الماءُ الخَشَبَةَ، وهذا خِلافُ ما البابُ عَليه مِنْ أنَّ بَعضَ المَعْطوفِ هو الذي يَجوزُ فيه النَّصْبُ. انتهى ".
__________
(1) انظر الجمل 317.
(2) انظر ارتشاف الضرب 2/286،والتذييل 3/لوحة201.
(3) التذييل 3/لوحة201.(12/6)
وأُقِرُّ مَع ابن الباذِشِ أنَّ الأصْلَ في هذه الواو هو العطفُ،ولكنَّها في هذا البابِ تحملُ مدلولاً آخرَ يَخْتلِفُ عَنْ مَدْلولِها في العَطْفِ،كما أُ قِرُّ معَه أنَّه لا يَجُوزُ النَّصْبُ على المَفْعُوليَّةِ إِلاّ في القَليلِ مِنْ الأفعالِ،أمّا قوله: (اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) ففيه أَمْران: إِنْ قصَدَ المتَكَلِّمُ أنَّ (اسْتَوى) بمَعْنى:ارْتَفَعَ أو اسْتَقامَ،فلا يَجُوزُ إلاّ النَّصْبُ على المَعِيَّةِ، وإنْ أَرادَ أنّ (اسْتَوى) بمَعْنى: تَسَاوَى جَازَ العَطفُ،فالأوّلُ ما أَرادَه الزّجّاجيُّ،والثاني ما قَصَدَه ابنَ الباذِشِ.
ثانياً: العامل النحوي
العامل في المَفْعُول معه
تَابَعَ ابنُ الباذِش سِيْبَوَيْه وجُمْهُورَ البَصْرِيِّين في العَامِلِ في المَفْعُولِ مَعَه، فهو يَرى أَنَّ العَامِلَ فيه الفِعْلُ بِتَوَسُّطِ الواوِ، ويُشَبِّهُ ابنُ الباذِش هذا العَمَلَ بعَمَلِ الفِعْلِ في المُسْتَثْنى بواسِطةِ أَداةِ الاسْتِثناءِ، ويَرى أَيْضاً أَنَّه لا يَعْمَلُ في المَفْعُولِ مَعَه إلاّ الفِعْلُ، وعَزا ذلك إلى سِيْبَوَيْه (1) .
وقد نَقلَ أبُو حَيَّانَ قولَ ابنِ الباذِش في التذييلِ فقال (2) : " وقال أبو الحَسَن بنُ الباذِش: المَفْعُولُ مَعَه يَعْمَلُ فيه الفِعْلُ بِتَوَسُّطِ الواوِ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الاسْتثناءِ، إلاّ أَنَّ حَرْفَ الاسْتِثناءِ يُسَلّطُ الفِعْلُ ومعنى الفِعْلِ، ولا يُسَلّطُ الواوَ بمَعْنى مَع إلاّ الفِعْلُ عِنْدَ سِيْبَوَيْه، فهي مَتْروكَةٌ على العَطفِ أَبَداً إِلاّ في الفِعْلِ فإِنَّها تُنْقَلُ مِنْ العَطفِ إلى التّعْدِيَةِ وتَسَلُّطِ الفِعْلِ.انتهى ".
__________
(1) انظر رأيه في التذييل 3/لوحة201،وارتشاف الضرب 2/286.
(2) التذييل 3/لوحة201.(12/7)
وهذا هو رَأيُ سِيْبَوَيْه، قال (1) : " والواوُ لمْ تُغَيِّرْ المَعْنى، ولكنَّها تُعْمِلُ في الاسْمِ ما قَبْلها "، ولا يُجِيزُ سِيْبَوَيْه عَمَلَ المَعْنى، وصَرَّحَ بذلكَ في قوله (2) : " وزَعَمُوا أَنَّ ناساً يَقولون: كَيْفَ أَنْتَ وزَيْداً، ومَا أَنْتَ وزَيْداً، وهو قَليلٌ في كَلامِ العَرَبِ، ولمْ يَحْمِلُوا الكَلامَ عَلى (مَا) ولا (كَيْفَ) ولكِنَّهُم حَمَلُوه عَلى الفِعْلِ، عَلى شيءٍ لو ظَهَرَ حَتّى يَلْفِظوا بِه لمْ يَنْقُضْ مَا أَرَادُوا مِنْ المَعْنى "، فأَضْمَرَ سِيْبَوَيْه فِعْلاً، فكَأَنَّكَ قلتَ: ما كُنْتَ وزَيْداً.هذا هو رَأيُ سِيْبَوَيْه، وتابَعَه فيه ابنُ الباذِش، وأَخَذَ بِهِ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ مِنْهُم ابنُ بابْشاذ (3) والصَّيْمَريّ (4) وابنُ مالك (5) .
أمّا الفَارِسِيُّ فالمَنْسُوبُ إليه جَوازُ عَمَلِ المَعْنى (6) ، مُحْتَجّاً بقولِ الشاعِرِ:
لا تَحْبِسَنَّكَ أَثْوَابِي فَقَدْ جُمِعَتْ هذا رِدَاِئي مَطْوِيّاً وسِرْبَالا (7)
__________
(1) الكتاب1/297.
(2) الكتاب 1/303.
(3) انظر شرح المقدّمة المحسبة310.
(4) انظر التبصرة والتذكرة256.
(5) انظر التسهيل 99، وشرح التسهيل2/248.
(6) انظر شرح التسهيل2/248، وتوضيح المقاصد 2/97، وارتشاف الضرب 2/285،والأشموني 2/136، والهمع 3/238، وشرح التصريح1/343،ولم أجده في كتبه التي تيسر لي الاطلاع عليها.
(7) لم أعثر على قائله،والشاهد فيه نصب (سربالا) على أنه مفعول معه، وهو منصوب باسم الإشارة عند الفَارِسِيّ، وقد ورد الشاهد بلا نسبة في شرح التسهيل 2/248، وابن الناظم 110،وارتشاف الضرب 2/286،والأشموني 2/136،والهمع 3/238، وشرح التصريح 1/343.(12/8)
وفي هذه المَسْأَلَةِ آراءٌ أُخْرى، مِنْها رَأيُ الكُوفَيّين، فهُمْ يَرَونَ أَنَّ العَامِلَ مَعْنَويٌّ، وهو الخِلافُ أو الصَّرْفُ (1) ، ومِنْها رَأيُ الأخْفَشِ الأوْسَطِ حَيْثُ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَا بَعْدَ الواوِ يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ (مَعْ) ، فهو مَنْصُوبٌ عَلى الظرْفِيَّةِ (2) ، ومِنْها مَا نُسِبَ إلى الزَّجَّاجِ وهو أَنَّ المَفْعُولَ مَعَه مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الواوِ،تَقْدِيرُه: (لابَسَ) (3) ،وذَهَبَ الجُرْجانِيُّ في جُمَلِه وعَوامِلِه إلى أنَّه مَنْصُوبٌ بالواوِ نَفْسِها (4) ، ونُسِبَ للصَّيْمَرِيّ أنَّه يَنْتَصِبُ عَنْ تَمَامِ الكَلامِ كَما في التَّمْييزِ (5) ،ولمْ أَجِدْ هذا الرأيَ في كِتابِه،وممّا نُسِبَ إلى الخَليلِ أَنَّ الاسمَ بَعْدَ الواوِ انْتَصَبَ بنَزْعِ الخَافِضِ،وهو (مَعْ) (6) ، وآخِرُ هذه الآراءِ مَا ذَهَبَ إليه الخَوارِزْمِيُّ في التَّخْمِيرِ فقد صَرَّحَ فيه أَنَّ هذه الواوَ هي واوُ الحالِ، وأَنَّ ما بَعْدَها مَنْصُوبٌ على الحَالِ (7) .
__________
(1) انظر رأيهم في معاني القرآن للفراء 1/33،والإنصاف 248،وشرح الرضي 1/ 195،وائتلاف النصرة36.
(2) انظر الإنصاف 248،وشرح الرضي 1/195، وارتشاف الضرب 2/286.
(3) انظر الإنصاف248، وشرح الرضي 1/195،وشفاء العليل 489،وارتشاف الضرب 2/286،والهمع 3/237.
(4) انظر الجمل للجرجاني76، وشرح العوامل للأزهري 187.
(5) انظر ارتشاف الضرب 2/285،والهمع 3/239.
(6) انظر كشف المشكل 1451،والتهذيب الوسيط181.
(7) انظر التخمير 1/ 408.(12/9)
هذه هي آراءُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ،وهي -كَمَا يُلاحَظُ - كَثيرةٌ، وكُلُّها آراءٌ مُحْتَمِلَةٌ للصَّوابِ،وأَخُصُّ مِنْ هذه الآراءِ رَأيُ صَاحِبِ التَّخْميرِ، فالمَعْنى يُرْشِدُ إلى الحَالِ، فقولُكَ: (جَاءَ البَرْدُ والطَّيَالِسَةَ) مَعْناهُ:جَاءَ البَرْدُ مَقْرُوناً مَعْ الطَّيَالِسَةِ، كَمَا أَنَّ الحَالَ جَاءَتْ في القُرآنِ الكَريمَ في مَعْنى المَفْعُولِ مَعَه، وذلك قَوْلُه تَعالى: " فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين " {المدثر 49} فالمَعْنى: مَا لَهُم والإعْراضِ عَنْ التَّذْكِرَةِ،ومَعْ كَثْرَةِ الإشاراتِ التي تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ رَأْيِهِ إلاّ أنَّ المَنْطِقَ الُّلغويَّ يَرْفُضُهُ؛ فالقَوْلُ بأَنَّ الواوَ واوُ الحَالِ يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ بَعْدَها جُمْلةٌ اسْمِيَّةٌ صَدْرُها مُبْتدأ مَرْفُوعٌ، والظاهَرُ أَمَامَنا أَنَّ مَا بَعْدَها مَنْصُوبٌ، ولذلكَ أَرى أَنَّ أَقْوى الآراءِ وأَقْرَبَها إلى الصَّوابِ مَا ذَهَبَ إليه الفَارِسِيُّ مِنْ جَوازِ عَمَلِ المَعْنى مُضَافاً إلى عَمَل الفِعْلِ بِتَوَسُّطِ الواوِ.
عامل النصب في المُسْتَثْنى(12/10)
للنُّحاةِ في هذه المَسْأَلَةِ آراء كَثيرَةٌ (1) ،ففي ناصبِ المُسْتَثْنى ثمانِيَةُ آراءٍ،نُسِبَ أَرْبَعَةٌ مِنْها لِسِيْبَوَيْه،وقد كانَ لِعَبارَةِ سِيْبَوَيْه مُتَعَدِّدَةِ الوُجُوهِ دَوْرٌ رَئيسٌ في هذا الخِلافِ وتَعَدُّدِ الآراءِ، وكَانَ أبُو الحَسَنِ بنُ الباذِش أَحَدَ العُلَماءِ الذين حَاوَلوا فهمَ عِبارَةِ سِيْبَوَيْه وأَمْعَنوا النَّظَرَ فيها.
أمّا الآراءُ التي نُسِبَت إلى سِيْبَوَيْه وفُهِمَت مِنْ عِبارَتِه فأَوُّلُها: النَّصْبُ عَنْ تَمَامِ الكَلامِ،وهو اخْتِيارُ ابنِ عُصْفُور (2) ،وهذا يُفْهَمُ من قَوْلِ سِيْبَوَيْه (3) : "عَامِلاً فيه ما قَبْلَه كَما تَعْمَلُ عِشْرونَ فيما بَعْدَها إذا قُلْتَ: عِشْرونَ دِرْهَما " فعَامِلُ النَّصْبِ في التَّمْييزِ عندَه هو (عِشْرونَ) ؛ لأنَّ الدِّرْهَمَ مِنْ تَتِمَّتِه، وقد شَبَّه سِيْبَوَيْه انْتِصَابَ التَّمْييزِ في هذا المَوْضِعِ بالمَنْصوبِ في قولِك: (هو أَحْسَنُ مِنْك وَجْهاً) ،فالوَجْهُ مِنْ تَتِمَّةِ (أَحْسَنَ) كَما أَنَّ الدِّرْهَمَ كَذلِك (4) ،وإذا كانَ الدِّرْهَمُ يَنْتَصِبُ بِهذا الشَّكْلِ فالمُسْتَثْنى كذلك.
__________
(1) انظر الخلاف في هذه المسألة في الإنصاف1/260 وأسرار العربية201 وشرح التسهيل2/271 والإيضاح في شرح المفصل 1/361 وشرح الرضي 1/226 وابن يعيش 2/76 وشرح الجمل لابن خروف 958 وشرح الجمل لابن عصفور2/252 والمساعد1/555 والأشموني2/143 وارتشاف الضرب2/300 وشفاء العليل 499 والهمع 3/252 وشرح التصريح 1/349
(2) انظر شرح الجمل لابن عصفور 2/254
(3) الكتاب 2/310
(4) انظر شرح التصريح 1/349(12/11)
وثانيها: ما ذَهَبَ إليه ابنُ خَرُوف، قالَ في شَرْحِ الجُمَلِ (1) : " والعَامِل في الاسْمِ المَنْصُوبِ في الصَّحِيحِ مِنْ الأقْوالِ وهو قولُ سِيْبَوَيْه الفِعْلُ الأوَّلُ "،وهذا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ سِيْبَوَيْه (2) : " عامِلاً فيهِ ما قَبْلَه " وأَبْرَزُ العَوامِلِ المَوْجُودَةِ قَبْلَه هو الفِعْلُ.
وثالثها: اخْتِيارُ ابنِ مَالك (3) ،فالعَامِلُ عندَه هو (إلاّ) ، ونَسَبَه في شَرْحِ التسْهيلِ لسِيْبَوَيْه والمُبَرّدِ والجُرْجانيِّ،ويُمْكِنُ أنْ يُفْهَمَ هذا مِنْ عِبارَةِ سِيْبَوَيْه السَّابِقَةِ، واحْتَجَّ ابنُ مالك بأَنَّ (إلاّ) مُخْتَصَّةٌ بِدُخولِها على الاسْمِ ولَيْسَت جُزءاً منه، فعَمِلَت فيه ك (إن) ولا التَّبْرِئَةِ.
__________
(1) شرح الجمل لابن خروف 958
(2) الكتاب 2/ 310
(3) انظر رأي ابن مالك في التسهيل 101 وشرح التسهيل 2/271(12/12)
ورابعها: اخْتِيارُ ابنِ الباذِش (1) ، والعَامِل عنْدَه هو الفِعْلُ المُتَقَدِّمُ بواسِطةِ (إلاّ) ، وهو الرأيُ الذي أَخَذَ بِه الجُمْهورُ، ونُسِبَ إلى سِيْبَوَيْه (2) والسِّيْرَافِيِّ والفَارِسِيِّ وابنِ بابْشَاذ وابنِ الضَّائِعِ والرُّنْديِّ وغيرِهم مِنْ النُّحَاة (3) ، واسْتَدَلَّ النُّحَاةُ على ذلك بِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْها (4) : 1 القِياسُ عَلى المَفْعُول مَعَه، فالنَّاصِبُ لَه الفِعْلُ بِتَقْوِيَةِ الواوِ. 2 التَّشْبِيهُ بالمَفْعُولِ، فقد جَاءَ المُسْتَثْنى بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ كَمَا يَأتِي المَفْعُولُ بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ. 3 العَمَلُ بالأصَالةِ للأفْعَالِ، فإذا وُجِدَ الفِعْلُ كانَ العَمَلُ مُضَافاً إليه، وها هُنا وُجِدَ الفِعْلُ أو ما يُشَابِهُهُ، ولكنَّهُ لمَّا كانَ لا يَتَعَدَّى قُوِّيَ بإلاّ.
هذه هي آراءُ النُّحَاةِ التي يُمْكِنُ فَهْمُها مِنْ عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه، والتي فَهِمَها النُّحَاةُ منها، وللنُّحَاةِ آراءٌ أُخْرى غيرُ هذه الأرْبَعَةِ أُوجِزُها فيمايأتي:
رأيُ المُبَرِّدِ، قالَ في المُقْتَضَبِ (5) : "وذلك لأنّكَ لمَّا قُلتَ: (جَاءَني القومُ) وَقَعَ عِنْدَ السَّامِعِ أنَّ (زَيْداً) فيهم،فلمّا قُلتَ: (إِلاّ زَيداً) كَانَتْ (إلاّ) بَدَلاً مِنْ قولك: أَعْني زَيْداً وأَسْتَثني في مَنْ جَاءَني زَيْداً، فكانَتْ بَدَلاً مِنْ الفِعْلِ".
__________
(1) انظر الهمع 3/252، وشرح التصريح 1/349.
(2) انظر ارتشاف الضرب2/ 300.
(3) انظر الهمع 3/252،وشرح التصريح 1/349.
(4) انظر الهمع 3/ 252253.
(5) المقتضب 4/390.(12/13)
واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في تَفْسيرِ كَلامِ المُبَرِّدِ، فمِنْهُم مَنْ نَسَبَ إلَيْه أَنَّ العَامِل هو مَعْنَى الاسْتِثناءِ المَوْجُودُ في (إلاّ) (1) ،ومِنْهُم مَنْ نَقَلَ عَنْه أَنَّ المُسْتَثْنى مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَ (إلاّ) تَقدِيرُه: أَسْتَثني أو أَعْني (2) ، ومِنْهُم مَنْ نَسَبَ إليه أَنَّ العَامِل هو مَعْنى (إلاّ) لِكَوْنِها بِمَعْنى أَسْتَثني (3) ، وقد نُسِبَتْ جَميعُ هذه الآراءِ إلى الزَّجَّاجِ أَيْضاً (4) .
رَأيُ الفَرّاءِ، يَرى أَنَّ (إِلاّ) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنْ) و (لا) ، فالنَّصْبُ ب (إنْ) والرَّفْعُ ب (لا) (5) .
رَأيُ الكِسائِيِّ، نُسِبَ إليه أَنَّ المُسْتَثْنى مَنْصُوبٌ ب (أنَّ) مُقَدَّرَةٍ بَعْدَ (إلاّ) مَحْذُوفَةِ الخَبَرِ (6) .
رَأيٌ آخَرُ للكِسائِيِّ، نُسِبَ إليه أَيْضاً أَنَّ العَامِلَ فيه عَامِلٌ مَعْنَويٌّ،وهو المُخَالَفَةُ (7) ،وهذا العَامِلُ هو نفسُه مُصْطلحُ الخِلافِ أو الصَّرفِ أو الخُروجِ الذي يَسْتَعْمِلُه الكوفيون كثيراً في تَسْويغِ الحَرَكَةِ الإعْرابِيَّةِ.
نَصْبُ المُسْتَثْنى بَعْدَ الجُمْلةِ الاسْمِيَّةِ، ذَكَرَ ابنُ خَروفٍ في شَرْحِه على الجُمَلِ أَنَّ الابْتِداءَ بِتَوَسُّطِ (إلاّ) هو العَامِلُ في المُسْتَثْنى (8) ،ويَرى ابنُ الحاجِبِ أَنَّ المُسْتَثْنى منه بِتَوَسُّطِ (إلاّ) هو العَامِلُ (9) .
__________
(1) انظر شرح الرضي1/226.
(2) انظر ارتشاف الضرب 2/300، والأشموني 2/143، وشرح الرضي 1/227، والهمع 3/253.
(3) انظر شرح التصريح 1/349.
(4) انظر ارتشاف الضرب 2/300، وشرح الرضي 1/227، والهمع 3/ 253،وشرح التصريح 1/349.
(5) انظر معاني القرآن للفراء2/24.
(6) انظر الإنصاف 265،والهمع 3/252.
(7) انظر الهمع 3/252.
(8) انظر شرح الجمل لابن خروف 958.
(9) انظر الإيضاح في شرح المفصّل 1/363،وشرح الرضي 1/227.(12/14)
هذه هي آراءُ النُّحَاةِ في العَامِلِ في المُسْتَثْنى، ولَعَلَّه يُلاحَظُ ما في هذه الآراءِ مِنْ اضْطِرابٍ،ويُلاحَظُ أيضاً أَنَّ مِنْ أَسْبابِ هذا الاضْطِرابِ العِبَارَةَ المُبْهَمَةَ لسِيْبَوَيْه أو المُبَرِّدِ وغيرِهما مِنْ النُّحَاةِ،ولو تَتَبَّعْتَ هذه الآراءَ وَجَدْتَ أنَّه قد تَمَّ الاعْتِراضُ على جَميعِها،وأَرى أَنَّ أقْرَبَ هذه الآراءِ قُبُولاً هو ما اخْتارَه ابنُ الباذِش وهو رَأيُ الجُمْهورِ.
العامل في المضاف إليه
للنُّحَاةِ في عَامِلِ الجَرِّ في المُضَافِ إليه ثلاثَةُ آراءٍ، هي:
1 المضافُ.
2 الإضافَةُ.
3 الحَرفُ.
أمّا الأوَّلُ فهو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْه (1) ، ولِهذا الرَّأيِ تَوْجِيهان،أَحَدُهُما أَنَّ العَامِلَ هو الاسْمُ المُضَافُ بنَفْسِه، وهو مَا أَخَذَ به الرَّضيُّ (2) ، والثاني أنَّ العَامِلَ هو الاسْمُ المُضَافُ بِواسِطَةِ نِيابَتِه عَنْ حَرْفِ الجَرِّ المُقَدَّرِ، وهو مِا ذَهَبَ إليه أبو الحَسَن بنُ الباذِش الغرناطيُّ حَيْثُ نُسِبَ إليه أَنَّ العَامِلَ في المُضَافِ إليه حَرْفٌ مُقَدَّرٌ نَابَ عَنْه المُضَافُ (3) .
ويُفْتَرَضُ هنا أَنْ يَدُلَّ المُضَافُ عَلى الحَرْفِ المُقَدَّرِ حَتّى يَنُوبَ عَنْه، فلا يُمْكِنُ للاسْمِ أنْ يَنُوبَ عَنْ الحَرْفِ العَامِلِ إلاّ إذا تَضَمَّنَ هذا الاسْمُ مَعْنى الحَرْفِ وهو الإضَافَةُ، والذي أراه أنَّ المُضَافَ لا يَدُلُّ عَلى الحَرْفِ المُقَدَّرِ، فمَعْنى اللامِ أو (مِنْ) لمْ يَحْدُثْ مِنْ المُضَافِ، وإنَّما مِنْ النِّسْبَةِ المَوْجُودَةِ بينَ المُضَافِ والمُضافِ إليه.
__________
(1) انظر الكتاب 1/177.
(2) انظر شرح الرضي 1/25.
(3) انظر شرح التصريح2/25.(12/15)
واحْتَجَّ الإمامُ يَحْيى بنُ حَمْزَةَ لهذا الرأي فقال (1) : " والحَقُّ عندَنا في هذه المَسْألَةِ أَنَّ العَامِلَ في المُضَافِ إليه ليسَ الحَرْفُ نفْسُه،ولا الاسْمُ نَفْسُه؛لأنّه يَلزَمُ مَا ذَكَرُوه، وإنّما العَمَلُ يَكُونُ للاسْمِ بِواسِطَةِ نِيَابَتِه عَنْ الحَرْفِ، فعَلى هذا لا يَلْزَمُ إعْمَالُ الاسْمِ؛لأنّه ليسَ عَامِلاً بنَفْسِه، ولا يَلزَمُ عَليه إعْمَالُ الحَرْفِ وهو مُضْمَرٌ،فإنَّ الاسْمَ قد نَابَ عَنْه، ولا يَلزَمُ عليه أنْ يَكُونَ العَامِلُ مَعْنَويّاً؛ فإنَّ الاسْمَ ها هنا لَفْظِيٌّ،فهذا هو الذي يَجْمَعُ المَذاهِبَ ولا يَلزَمُ منه فَسادٌ ".
أمّا الرأيُ الثاني فهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ (2) والسُّهَيْليِّ (3) وأبي حيَّانَ (4) ، واحْتَجُّوا لِهذا الرَّأيِ بأنَّ النِّسْبَةَ المَوْجُودَةَ بَينَ المُضَافِ والمُضَافِ إليه هي المُعَرِّفَةُ للمُضَافِ، فهو لا يَقومُ بعَمَلِ التَّعْريفِ كَمَا أَنَّ الحَرْفَ المُقَدَّرَ لا يَقومُ بذلك (5) .
وأمّا الرأيُ الثالثُ فهو مَذْهَبُ الزَّجَّاجِ (6) ،واخْتَلفُوا في العِبارَةِ، فقيلَ: حَرْفٌ مُقَدَّرٌ، وحَرْفٌ مَنْوِيٌّ، وحَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنى الإضَافَةِ، ومَعْنى الحَرْفِ،ووَجْهُ هذا الرأيِ هو المَعْنى، فلا يَخْلو في كُلِّ إِضَافَةٍ حَقيقِيَّةٍ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مُناسِبٍ، والمَعْروفُ عندَ النُّحَاةِ أنّه يُقَدَّرُ أحَدُ ثلاثةِ حُروفٍ، هي: اللامُ و (مِنْ) و (في) (7) .
__________
(1) المحصل 2/لوحة71.
(2) انظر الهمع 4/265.
(3) انظر شرح التصريح 2/25.
(4) انظر النكت الحسان 117.
(5) انظر النكت الحسان 117.
(6) انظر الأشموني 2/237،والهمع 4/265،وشرح التصريح 2/25.
(7) انظر ابن يعيش 2/117،وارتشاف الضرب 2/501،والهمع4/266.(12/16)
والذي يَراهُ البَاحِثُ أنَّ وَظيفَةَ المُضَافِ إليهِ هي تَحْديدُ وتَخْصيصُ الاسْمِ الذي قَبْلَه،كَمَا أنَّ بينَ الاسْمَينِ علاقَةً تَلازُمِيَّةً بحَيثُ يَرْتَبِطُ المُضَافُ إليه بالمُضافِ مِنْ حَيْثُ المَعْنى، فلا يُفْهَمُ مِنْ وُجُودِ المُضَافِ إليه شيئاً إلاّ بارتِبَاطِه مَعْ الاسْمِ الذي خَصَّصَه، وهذا يَدْفَعُني إلى تَرْجيحِ رَأيِ الأخْفَشِ، فالعَامِلُ فيه هو الإضافَةُ، وهو المَعْنى المُسْتَفادُ مِنْ النِّسْبَةِ بينَ المُضَافِ والمُضَاف إليه.
العامل في (بَيْنَا) و (إذْ) الفجائية
ذَهَبَ سِيْبَوَيْه إِلى أَنَّ (إذْ) في قَوْلِكَ: (بَيْنا زَيْدٌ قَائِمٌ إذْ جَاءَ عَمْرو) و (بَيْنَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ إذْ جَاءَ عَمْروٌ) للمُفَاجَأَةِ (1) ، واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في (إِذْ) ، فرَأى ابنُ جِنِّي أنَّها ظَرْفِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ (2) ، ونَسَبَ الرَّضيُّ هذا الرأيَ للزَّجَّاجِ (3) ، وأَخَذَ ابنُ الباذِش الغَرناطيُّ بِهِ (4) .
وهناك تَأْويلاتٌ عِدَّةٌ للجُمْلَةِ، فَقَدَّروها: جَاءَ عَمْروٌ في زَمَنِ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي (5) ،وعَلى هذا التَّقْديرِ تَكُونُ الجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً، والعَامِلُ في (إِذْ) هو الفِعْلُ الذي يَليها، أمّا العَامِلُ في (بَيْنَ) فَفِعْلٌ يُفَسِّرُه الفِعْلُ المَذْكُورُ، وهذا هو رَأيُ ابنُ جِنِّي وابنِ الباذِش (6) .
__________
(1) انظر سِيْبَوَيْه 4/232.
(2) انظر سر صناعة الإعراب255.
(3) انظر شرح الرضي1/273.
(4) انظر ارتشاف الضرب2/235،والهمع 3/171،وحاشية الصبان 2/253.
(5) انظر حاشية الصبان 2/253.
(6) انظر مغني اللبيب 1/84، والجنى الداني190،وارتشاف الضرب2 /235، وحاشية الصبان 2/253.(12/17)
وقَدَّروا الجُمْلَةَ أَيْضاً: وَقْتُ مَجيءِ عَمْروٍ حَاصِلٌ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي،أو بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي مَجيءُ زَيْدٍ، وعَلى هذا التَّقْديرِ تَكُونُ الجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، والعَامِلُ في (إِذْ) و (بَيْنا) هو الابْتِداءُ (1) .
ويَذْهَبُ أبو عليٍّ الشلوبين إلى أَنَّ العَامِلَ في (بَيْنا) ما يُفْهَمُ مِنْ مَعْنى الكَلامِ، و (إِذْ) بَدَلٌ مِنْ (بَيْنَ) (2) ، والتَّقديرُ:حِينَ زَيْدٌ قَائِمٌ حِينَ جَاءَ عَمْروٌ (3) ، فلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ العَامِلُ في (إِذْ) هو الفِعْلُ عِندَ الشلوبين.
وفي العَامِلِ في (إِذْ) و (بَيْنا) آراءٌ أُخْرى لا تَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْتُه (4) ، كَمَا أَنَّ في (إِذْ) آراءٌ أخْرى، فمِنْهُم مَنْ يَرى أَنَّها للظرفِيَّةِ المَكَانِيَّةِ كالمُبَرِّدِ (5) ،ومِنْهُم مَنْ يَرى أَنَّها حَرْفُ مُفاجَأَةٍ، وهو رأيُ ابنِ برّي (6) ،ويَرى بَعْضُهم أنّها زائِدَةٌ (7) .
__________
(1) انظر مغني البيب1/84.
(2) انظرمغني اللبيب 1/84،والجنى الداني 190، وارتشاف الضرب 2 /235.
(3) انظر ارتشاف الضرب 2/ 235.
(4) انظرالجنى الداني 190، ومغني اللبيب 1/84.
(5) انظر شرح الرضي1/272.
(6) انظر شرح الرضي 1/272.
(7) انظر شرح الرضي 1/272،والجنى الداني 190،ومغني اللبيب 1/84.(12/18)
والحَقُّ الذي أَرَاهُ أَنَّ هذه التَأويلاتِ لا تَدُلُّ عَلى وَاقِعِ المَعْنى، وَلا تَخْدمُه، فجُمْلَةُ (بَيْنَما زَيْدٌ قَائِمٌ إِذْ جَاءَ عَمْرو) لا يُعَادِلُها في المَعْنى تَأويلُ ابنُ جِنِّي وابنُ الباذِشِ الغَرْناطيِّ الذي هو (جَاءَ عَمْروٌ في زَمَنِ أَوْقاتِ قِيامِي) ،ولا يُعَادِلُها أَيْضاً تَقْديرُ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ: (وَقْتُ مَجيءِ عَمْرٍو حَاصِلٌ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي) ، ولا تَقْديرُ الشلوبين: (حِينَ زَيْدٌ قائِمٌ حِينَ جَاءَ عَمْروٌ) ،وأَرى أَنَّ الجُمْلَةَ لا تَحْتاجُ لِكُلِّ هذه التَّأويلاتِ، فالمَعْنى: (جَاءَ عَمْروٌ بَيْنَما زَيْدٌ قائِمٌ) فالجُمْلَةُ فِعْلِيَّةٌ، كَمَا أَرَى أَنَّ الزَّمَانَ الذي رَآهُ ابنُ جِنّي وابنُ الباذِشِ الغَرْناطِيِّ في (إِذْ) الفُجَائِيَّةِ يُفْهَمُ مِنْ (بَيْنَما) والتي هي في هذا المَوْضِعِ تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ،أَمَّا (إِذْ) الفُجَائِيَّةُ فرَأيُ المُبَرِّدِ فيها هو الصَّحيحُ،فالمُفَاجَأَةُ تَكونُ في المَكَان -غالباً- لا في الزّمَانِ، سَواءٌ كَانَتْ في (إِذْ) أو (إِذا) ، فالمَعْنى إذَنْ هو: في الوَقْتِ الذي كَانَ فيه زَيْدٌ قائِمٌ فاجَأَهُ مَجيءُ عَمْروٍ في المَكَانِ المَوْجودِ فيه،وهذا الرَّأيُ مَوْجُودٌ في (إذا) الفُجَائِيَّةِ عِنْدَ كَثيرٍ مِنْ النُّحَاةِ، مِنْهُم الخَوارِزمِيُّ، فهو يَرى أَنَّها مَكَانِيَّةٌ، والتقديرُ عِنْدَه: خَرَجْتُ فبِالحَضْرَةِ السَّبْعُ (1) .
ثالثاً:العلَّة النحوية في بعض المسائل
علّة بناء (ما) ونحوها
__________
(1) انظر التخمير 1/ 268.(12/19)
من المعروفِ عندَ النُّحَاة أنَّ علّةَ بناءِ (مَنْ) و (ما) ونَحْوِهِما مشابهةُ الحرفِ (1) ، وقد جَزَمَ بِذلكَ ابنُ مالك (2) ، أمّا ابنُ الباذِش فيَرى أنّ (ما) كبعضِ الاسمِ، وبعضُ الاسمِ مبنيٌّ؛ لأنّ الإعرابَ لا يكونُ إلاّ في أواخِرِ الأسماءِ، ولكون (ما) بعضَ الاسمِ أو جزءاً منه وَجَبَ بِناؤُها (3) .
وهذه العلةُ التي ذكرَها ابنُ الباذِش أشارَ إليها غيرُه من النُّحَاة، قال الوَرّاقُ في الحديثِ عن (ما) (4) :" وفي الخبرِ بمنزلةِ (الذي) فقد صارت كبَعْضِ اسمٍ، فوجَبَ بناؤها في جميعِ المَواضعِ ".
علة امتناع نعت المَعْرِفَة بالنَّكِرَة والنَّكِرَة بالمَعْرِفَة
يَرى ابنُ الباذِش أنَّ سببَ امتناعِ نعتِ النَّكِرَة بالمَعْرِفَة هو أنَّ من حَقِّ المَعْرِفَة التقديمَ على النَّكِرَةِ، وحَقُّ النَّعْتِ التَّأخُّرُ عن المنعوتِ فهُما مُتَدافِعان، أمّا امتناعُ نَعْتِ المَعْرِفَةِ بالنَّكِرَةِ فلأنّ نعتَ المَعْرِفَةِ لإزالةِ التَّنْكيرِ العارضِ فيها، والنَّكِرَةُ يلزَمُها التَّنْكيرُ، فلا تُزيلُ النَّكِرَةُ عن غيرِها ما لا يجوزُ أنْ يزولَ عنها (5) .
والظاهِرُ أنَّ ابنَ الباذِشِ تابَعَ الرّبعيّ في هذه العلَّة، وقد نقلَ ابنُ برهان كَلامَ الربعي فقالَ (6) : " وقال علي بن عيسى:لا تُوصَفُ المَعْرِفَةُ إلا بمَعْرِفَةٍ؛ لأنَّ صِفَةَ المَعْرِفَةِ لإزالةِ الاشْتِراكِ العَارِضِ عَلى المَعْرِفَةِ، والنَّكِرَةُ لا تُزيلُ الاشْتِراكَ العَارِضَ. وحُكْمُ النَّكِرَةِ ألاّ توصَفَ إلاّ بِنَكِرَةٍ لأنَّ المَعْرِفَةَ أَحَقُّ بالتقديمِ".
__________
(1) انظر الهمع 1/48 وشرح الجمل لابن خروف 1057
(2) انظر شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ ا /111
(3) انظر التذكرة 555
(4) علل النحو426
(5) انظر التذكرة 556
(6) شرح اللمع لابن برهان 1/203(12/20)
أمّا الجَرْمِي فيَرَى أَنَّ المَعْرِفةَ وُصِفَتْ بالمَعْرِفةِ، والنَّكِرَةُ وُصِفتْ بالنَّكِرَةِ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما جِنْسٌ على حِيالِهِ (1) ،وهذا مَا أخَذَ بهِ الفارِسِيُّ في الإيضاحِ والمَسائِلِ المَنْثورَةِ (2) ، قالَ في المَسَائِلِ المَنثورةِ (3) : " وإنَّما امْتَنَعَ ذلكَ لأنَّ الوَصْفَ هو المَوْصُوفُ في الحَقيقةِ، ولَمَّا كَانَتْ النكرةُ تَقَعُ عَلى أشْخَاصٍ كَثيرَةٍ، فتدُلُّ على جنسٍ، وهو قولكَ: (مَا جَاءَني أَحَدٌ) و (مَا رَأيتُ أحَداً) ، فلو وَصَفْناه بمَعْرِفَةٍ لكُنّا قد جَعَلنا الذي هو جَمْعٌ واحِداً، وكَذلكَ لو وَصَفنا المَعْرِفَةَ بالنَّكِرَةِ لكُنّا قد جَعَلنا مَا هو واحِدٌ جَمْعاً، وهذا مُتَناقِضٌ"،وسَار على هذا النهجِ في التَّعْليلِ كَثيرٌ مِنْ النحاةِ (4) .
ورَدَّ ابنُ خَروف هذا التَعْلِيلَ بأنّه يَلزَمُهُم ألاّ يُبْدَلَ أَحَدُهُما مِنْ الآخَرِ بَدَلَ الشيءِ مِنْ الشَّيءِ وهما لشيءٍ واحِدٍ؛ مِنْ حيثُ لا يَكُونُ الواحِدُ جَمْعاً،ولا فَرْقَ في هذا بينَ النَّعْتِ والبدَلِ (5) .
__________
(1) انظر المسائل المنثورة43
(2) انظر الإيضاح286 والمسائل المنثورة 43
(3) المسائل المنثورة 43
(4) انظر شرح اللمع لابن برهان 1/202 وشرح التسهيل 3/307وابن يعيش3/58
(5) انظر شرح الجمل لابن خروف1/303(12/21)
وهناكَ مِنْ العُلماءِ مَنْ أَجَازَ مَا مَنَعه غَيْرُهم،فالأخفشُ أَجَازَ وَصْفَ النَّكِرَةِ بالمَعْرِفَةِ عندَ تَخْصِيصِها مُسْتَدِلاً بقولِه تعالى:" فَآخَرانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهم الأوَّلِيَّانِ " {المائدة 107} ف (الأوَّلِيَّانِ) صِفَةٌ ل (آخَرانِ) (1) ،وجَوّزَ بَعْضُهم العكسَ مُطْلقاً،وذَهَبَ ابنُ الطّرَاوَةِ إلى جوازِ وَصْفِ المَعْرِفَةِ بالنّكِرَةِ إذا كَانَ الوَصْفُ خاصاً بالمَوْصوفِ (2) .
وأَرَى أَنَّ أَمْرَ مَنْعِ وَصْفِ النَّكِرَةِ بالمَعْرِفَةِ والعكس لا يَتَعلّقُ بِكَونِ النَّكِرَةِ تدلُّ على جِنْسٍ، والمَعْرِفةُ تَدُلُّ عَلى مُفْرَدٍ،فالطّبيعَةُ العامَّةُ للنَّكِرَةِ والمَعْرِفَةِ لا عَلاقةَ لها بعِلّةِ المَنْعِ؛ بدَليلِ أَنَّ كَثيراً مِنْ النُّحاةِ قد أَجَازَ ذلكَ،كمَا أنَّ تعميمَ المَنْعِ غيرُ دَقيقٍ، فمَتى صارَتْ النَّكِرَةُ بمَنْزِلَةِ المَعْرِفَةِ وكانَ نَعْتُها بالمَعْرِفَةِ يُخَصِّصُها نُعِتَتْ، والعكس جائِزٌ، والذي أَراهُ أَنَّ الأمْرَ يَتَعَلَّقُ بطَبِيعَةِ المَعْرِفةِ والنَّكِرَةِ المَوْصُوفَةِ في النصِّ، ومَا يَدُلُّ على ذلك جَوازُ وَصْفِ النَّكِرَةِ المُخصّصة عندَ بَعْضِهم.
__________
(1) انظر معاني القرآن1/266
(2) انظر المسألة في الهمع 5/172، 173(12/22)
أَمَّا إِذا أَرَدْنا أَنْ نَذْهَبَ إلى الأصولِ فهي تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ بَعْضِ مَا ذَهَبَ إليه الرّبْعي وابنُ الباذِش،فالأصولُ النَّحْويَّةُ تقولُ: إنّ الأصْلَ في المَعَارِفِ ألاّ تُوصَفَ مُطلقاً؛ لأنَّها مَوْضُوعَةٌ عَلى التَّخْصيصِ،لكنَّ طَبيعَةَ وَضْعِها ككَلِمَةٍ مَوْصُوفَةٍ جَعَلها تَحْتَاجُ إلى الصِّفَةِ،وهذه الطَّبيعَةُ هي أَنَّ هذِه المَعْرِفَةَ المُخَصَّصَةَ صَارَتْ تَحْتَاجُ إلى تَخْصِيصٍ جديدٍ،فأَشْبَهَتْ النَّكرةَ مِنْ هذا الوَجْه، فوُصِفَتْ بمَعْرِفةٍ، والأصْلُ في النَّكِرَةِ أَنْ تُوصَفَ لِكَونِها غيرَ مُخَصّصةٍ،والمَقصودُ مِنْ هذا الكَلامِ أَنَّ المَعْرِفةَ لا تُوصَفُ إلا لإزالةِ عَارِضٍ أَثَّرَ على تَخْصِيصِها السابقِ،أو تَنْعَتُها ثانياً وثالثاً لِتُؤكِّدَ تَخْصيصها، والنَّكِرةُ لا تُزيلُ العَارِضَ المَوجودَ، فلمْ تَنْعَتْ بها المَعْرِفَةَ، فقولك: (زيدٌ المُجتهدُ غائبٌ) مَيّزْتَ بالمُجتهدِ زيداً عن غيرِه من الزُّيودِ، فأَزَلْتَ الاشْتِراكَ،وإذا أَخَذْنا برَأْيِ الفارِسِيِّ وهو أنَّ المَوْصوفَ هو الصِّفَةُ في المَعْنى لقلنا: إنّ زيدأ هو المُجتهدُ،والمُجْتهدُ هو زيدٌ،وهذا غيرُ دقيقٍ،ويَرِدُ عليه بالإضَافَةِ إلى رَدّ ابنِ خَروفٍ أنّه لو كَانَ كَذلكَ لَمَا كانَ مِنْ الصِّفَةِ فائِدَةٌ، فهما واحدٌ،ولَمَا حَدَثَ تَبيينٌ وتَخْصيصٌ، وقد تحدث النحاة كثيرأ عن الخصوص والعموم بين النعت والمنعوت،فالأصل في "النعت أن يكون تعرِيفُهُ أنقصَ تعريفاً مِنْ المنعوت، ولا يجوز أن تنعت الاسم بالأخصّ " (1) ولِهذا كُلّه أَرى أَنَّ مَا ذَهَبَ إليه الرّبْعيُ وابنُ الباذِشِ صواباً، وهو رَأيُ جُمْلةٍ مِنْ النُّحَاةِ، مِنْهُم الوَرّاقُ (2) وابنُ خَروفٍ (3) والقَوّاسُ (4)
__________
(1) علل النحو381
(2) انظر علل النحو380
(3) انظر شرح الجمل لابن خروف1/300
(4) انظر شرح ألفية ابن معطٍ 750(12/23)
العلة الرافعة للاسم
استعملَ النُّحَاة للدَّلالَةِ على عَمَلِ الفِعْل في الفاعلِ عباراتٍ عِدَّةً، فابنُ السَّرّاجِ يَسْتعملُ مُصْطلحَ (البناءِ) ،ويَرى أنَّ الفاعِلَ مَبْنيٌّ على الفِعْل، وأنّ هذا البناءَ هو العلَّةُ الرافِعَةُ للفاعِلِ،ويُوَضِّحُ ابنُ السَّرّاجِ مُرَادَه بهذه العِلَّةِ فيَقولُ (1) : " ومَعْنى قَوْلي: بَنَيْتُه على الفِعْل الذي بُنِي للفاعِلِ، أيْ: ذَكَرْتُ الفِعْل قبلَ الاسمِ؛ لأنّك لو أتيتَ بالفِعْل بعدَ الاسمِ لارتفَعَ الاسمُ بالابتداء " فظاهرُ عبارَتِهِ يَدُلُّ على أنّ الرفعَ في الفاعِلِ حَصَلَ من الفِعْل لكَوْنِه قد أتى بعده، ويَدُلُّ كلامُه عَلى أنّه ليسَ للمَعْنى دورٌ في الرَّفْعِ، فالبناءُ عندَه تركيبُ ألفاظٍ مُرَتَّبَةٍ بطريقةٍ مُعيَّنةٍ، فإذا انتَقَضَ هذا الترتيبُ بَطُلَ الرفعُ بعِلَّةِ البناءِ، فالعلّةُ في رفعِ الاسمِ في: (حَضَرَ مُحَمَّد) ليست هي العلّةَ في رفعِ الاسمِ في: (مُحَمَّد حَضَرَ) ،وهذا الرأيُ على خِلاف ما يَقْتَضيه المَعْنى.
واستعملَ الفَارِسِيّ وغيرُه مُصْطلحَ (الإسنادِ) ، فالفاعِلُ مرفوعٌ لكون الفِعْل مسنداً إليه، قال (2) : " وصِفَتُه أنْ يُسْنَدَ الفِعْل إليه مُقدّماً عليه، ومثاله: (جَرَى الفرسُ) و (غَنِمَ الجيشُ) و (يَطيبُ الخَبَرُ) و (يَخْرُجُ عبدُ الله) وبهذا المَعْنى الذي ذَكَرْتُ ارتَفَعَ الفاعِلُ لا بأنّه أحْدثَ شيئاً على الحقيقةِ "، والظاهرُ أنّ مُصطلحَ البناءِ كَما استعمَله ابنُ السَّرّاجِ يَخْتَلِفُ عن مُصْطَلحِ الإسنادِ عندَ الفَارِسِيّ،فالترتيبُ عندَ ابنِ السَّرّاجِ يَتَعَلّقُ بعمليةِ البناءِ،بينما قد يَكونُ الإسنادُ صحيحاً من غيرِ ترتيبٍ،وإنّما يَكونُ التَّقديمُ شرطاً في عَمَلِ الفِعْل في الفاعِلِ.
__________
(1) الأصول 1/72
(2) الإيضاح العضدي 106(12/24)
ويَرفُضُ ابنُ الباذِش هذين التَّفْسيرين لِعَمَلِ الفِعْل في الفاعِلِ، فهو يَرى أنّ استِحْقاقَ الفاعِلِ للرَّفْعِ بسبَبِ تَفَرُّغِ الفِعْل له، وأنَّ المَعْنى الذي يَنْتَصِبُ به المَفْعُول هو اشتغالُ الفِعْل عنه بالفاعِلِ قبلَ وُصولِه إليه، قال (1) :" فبِالتَّفرُّغِ والاشتِغالِ يكونُ الرفعُ والنصبُ لجَميعِ الأفعالِ لا بإسْنادِ الفِعْل لِما يَعْمل فيه ولا بِبِنائِه له ولا لأنّه وَقَعَ مَوْقِعَ الفِعْل من الاسم أو رُفِعَ به " وعَزا هذا الرأي إلى الخليل وسِيْبَوَيْه، قال (2) : "هذا مذهبُ الخَليلِ وسِيْبَوَيْه ".
والظاهرُ أنَّ مُصْطلحَ التفرُّغِ والاشتِغالِ يَرْتَبِطُ بالمَعْنى أكْثَرَ من ارتِباطِه بتَركيبِ الألفاظِ وتَرتيبِها،فابنُ الباذِش يرى أنّ تَقَدّمَ المَفْعُول على الفاعِلِ لا يُخْرِجُ الفِعْل عن أن يكونَ مُفرّغاً للفاعِلِ، فالتَقدّمُ لفظيٌّ، والأصلُ تقديمُ الفاعِلِ وتَأخيرُ المَفْعُول.
ويَسْتَدلُّ ابنُ الباذِش على ذلك برَفعِ الاسمِ ونَصْبِه في بابِ ما لم يُسَمّ فاعلُه نحو: (أُعْطِي مُحَمَّد ثوباً) ،فكلاهما مَبْنيٌّ له الفِعْل، كما اسْتدَلَّ في باب كانَ وأخواتِها،فالمَرْفوعُ والمَنصوبُ في قولك: (كانَ زيدٌ مجتهداً) لم يَتَعَلقا بالفِعْل من خلال عَمَليَّةِ الإسنادِ أو البناءِ، فالإسنادُ موجودٌ بينَ الاسمين (اسم كان وخبرها) وليس بينَ الاسمِ والفِعْل،لكنَّ تفرّغَ الفِعْل لهذا الاسمِ هو الذي رَفَعَه كما أنَّ اشتِغالَ الفِعْل بهذا المَرْفوعِ أدّى إلى نَصْبِ المَفْعُول (3) .
__________
(1) تذكرة النُّحَاة 554 وانظر شرح المقدّمة الجزولية للشلوبين 235
(2) تذكرة النُّحَاة 554
(3) انظر حججه في تذكرة النُّحَاة 554 وشرح المقدّمة الجزولية 235236(12/25)
ويَرى ابنُ الباذِش أنّ مَنْ قالَ: إنَّ العِلَّةَ الرَّافِعَةَ لذلك بناءُ الفِعْلِ للاسمِ ليسَ بمصيبٍ، قالَ (1) : "لأنّا إذا قلنا: (أُعْطِيَ زيدٌ درهماً) فإنّ هذا البناءَ صالِحٌ لكُلِّ واحِدٍ من الاسْمَيْن، فإذا كانَ الأمرُ كذلك فالفِعْلُ في ذلك مَبْنيٌّ للدِّرْهَمِ،وهو لم يَرْفَعْه، فدَلَّ ذلك على أنّ بِناءَ الفِعْلِ للاسمِ ليسَ رافِعاً له، وإنّما الرّافِعُ له الاشتِغالُ والتَّفْريغُ لا البناءُ ".
ورَدَّ الشَّلوبين رأيَ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش فقالَ (2) : "ولكنَّ هذا الذي قالَه أبو الحَسَن ليسَ بصَحيحٍ؛ لأنّه ليسَ صَلاحِيَّةُ الاسمِ أنْ يكونَ الفِعْلُ مَبْنِياً له هو بناءُ الفِعْلِ له، بل بناءُ الفِعْلِ للاسمِ أمرٌ آخَرُ غيرُ صَلاحِيَّتِه لأنْ يُبْنى الفِعْلُ له، فإذا قلنا: (أُعْطِي زيدٌ دِرْهَماً) وإنْ كانَ كلُّ واحِدٍ من الاسْمَين صالِحاً أنْ يُبْنى له (أُعْطِي) فإنّه لم يُبْنَ مِنْهُما إلا لِزيدٍ، والدَّرْهَمُ داخِلٌ في حَديثِه كَما أنّا إذا قلنا: (أُعْطِي زيداً دِرْهَمٌ) فإنّه لم يُبْنَ مِنْهُما إلاّ للدَّرْهَمِ،وزيدٌ داخَلٌ في حَديثِه، فبَطُلَ بذلك قولُه: إنَّ الفِعْلَ مَبْنيٌّ لكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما، ولم يَرْفَعْ إلاّ أحَدَهُما، وإنّما غَلطُه في ذلك صَلاحِيَّةُ كُلِّ واحِدٍ مِنْهُما لِبناءِ الفِعْلِ له ".
__________
(1) شرح المقدّمة الجزولية 235236
(2) شرح المقدّمة الجزولية 236(12/26)
وأرى أنّ جَميعَ هذه المُصْطَلحاتِ مِنْ مُصْطَلَحاتِ سِيْبَوَيْه إلاّ أنّ عَدَمَ تَحْديدِ سِيْبَوَيْه لِماهِيَّتِها سَبَّبَ هذا الخِلافَ بينَ النُّحَاة، أمّا مُصْطَلحا الإسْنادِ والبِناءِ فذَكَرَهُما في أوَّلِ كِتابِهِ، قالَ في بابِ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه (1) : " وهُما ما لا يُغْني واحِدٌ مِنْهما عن الآخَرِ، ولا يَجِدُ المُتَكَلِّمُ منه بُدّاً، فمَنْ ذلك الاسْمُ المُبْتَدأ والمَبْنِيُ عليه وهو قولك: (عبدُاللهِ أخوكَ) و (هذا أَخوكَ) ، ومثلُ ذلك: (يَذْهَبُ عبدُالله) ،فلا بُدَّ للفِعْل من الاسْمِ كَما لم يَكُن للاسْمِ الأوَّلِ بُدٌّ مِن الآخَرِ في الابْتِداءِ ".
فالمُلاحَظُ في نَصِّهِ أَنَّ الإسْنادَ والبناءَ بمَعْنىً واحِدٍ، ويَقْصِدُ بهِما ارْتِباطُ اسْمٍ بآخَرَ أو كَلِمَةٍ بأُخْرى، ولا يَسْتَغْني أَحَدُهُما عن الآخَرِ، وهذا يَنْطبِقُ على المُبْتَدأ والخبَرِ، والفِعْلِ والفاعِلِ 0
أَمّا ما فَهِمَهُ ابنُ الباذِش فهو ما جاءَ في قولِ سِيْبَوَيْه (2) : "هذا بابُ الفاعِلِ الذي لم يَتَعَدَّهُ فِعْلُهُ إلى مَفْعُولٍ، والمَفْعُولِ الذي لم يَتَعَدَّ إليه فِعْلُ فاعِلٍ،ولم يَتَعَدَّه فِعْلُهُ إلى مَفْعُولٍ آخَرَ، والفاعِلُ والمَفْعُولُ في هذا سواءٌ، يَرْتَفِعُ المَفْعُولُ كَما يَرْتَفِعُ الفاعِلُ؛ لأنّك لم تُشْغِلْ الفِعْلَ بغَيْره، وفَرَّغْتَهُ له كَما فَعَلتَ ذلك بالفاعِلِ "،فالفاعِلُ ونائِبُهُ رُفِعا لأنّك قد فَرَّغْتَ الفِعْلَ لهُما، ونُصِبَ المَفْعُول لأنّك قد شَغَلتَ الفِعْلَ بالفاعِلِ.
__________
(1) سِيْبَوَيْه 1/23
(2) سِيْبَوَيْه 1/33(12/27)
والمُلاحَظُ أَنَّ هناك كَثيراً مِن العُلماءِ يُفَرِّقونَ بينَ هذه المُصْطَلَحاتِ،ويَرَونَ أنّ لِكُلِّ مُصْطلحٍ مَعْنىً خاصاً به واسْتِعْمالاً مُحَدَّدا يَخْتَلِفُ عن غيرِه مِن المُصْطلحاتِ، وهناك مَنْ لم يُفَرِّقْ بَيْنَها، ومِنْهُم ابنُ أبي الرَّبيعِ فقد صَرَّحَ في البَسيطِ أنّ هذه الألفاظَ مُتَرادِفَةٌ، قالَ (1) : "فما ذَكَرْتُه مِن الإسْنادِ إليه وتَفْريغِ الفِعْلِ له وبِناءِ الفِعْلِ للإسنادِ إليه،وهذه الألفاظُ كُلُّها مُتَرادِفَةٌ لمَعْنىً واحِدٍ، وقد أتَى بِها سِيْبَوَيْه في مَواضِعَ فدَلَّ ذلك على أنّها على مَعْنىً واحِدٍ ".
وأَرى أَنَّ خِلافَ ابنِ الباذِش مَعْ غيرِهِ مِنْ النُّحَاة في هذه المَسْأَلَةِ مَرَدُّهُ إلى عبارَةِ سِيْبَوَيْه المُبْهَمَةِ، فقد ذَكَرَ سِيْبَوَيْه المُصْطلحاتِ الثلاثَةِ ولم يُحَدِّدْ مَعْنى أَيٍّ منها،ولم يَعْتَمِدْ مَفْهوماً أو مُصْطلحاً واحِداً، وهذا التَّنَوُّعُ في الاصْطِلاحِ أو التعبيرُ المُبْهَمُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبابِ الخِلافِ، وهذا ما سَنَراهُ في جُمْلَةٍ مِنْ المَسَائِلِ 0
علة منع عمل اسم الفاعل مصغّراً
في إِعْمالِ اسْمِ الفاعِلِ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً خِلافٌ بَيْنَ البَصْريِّين والكُوفيِّين، فالبَصْريُّون والفَرّاءُ يَمْنَعونَ إِعْمالَهُ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً،ويُجِيزُ ذلك الكِسائيُّ وجُمْهورُ الكُوفيِّين، ووافَقَهُم في إِعْمالِه النَّحَّاسُ (2) .
ونَسَبَ الأزْهَريُّ إلى ابنِ الباذِش أَنَّ عِلَّةَ المَنْعِ كونُ التَّصْغِيرِ وَصْفاً في المَعْنى، فمَنَعُوه مِنْ العَمَلِ كَما مَنَعوا إِعْمالَه مَوْصُوفاً (3) .
__________
(1) البسيط261
(2) انظر هذه المسألة في شرح التسهيل 3/74 وشرح الكافية الشافية 1042 وارتشاف الضرب 3/181 والهمع 5/ 81
(3) انظر شرح التصريح 2/326327(12/28)
والحَقُّ أنَّ هذه العِلَّةَ لمَنْ سَبَقَهُ مِنْ النُّحَاة ولَيْسَت له، قال الفَارِسِيّ في التَّكْمِلةِ (1) : " تَصْغيرُ الاسْمِ بمَنْزِلةِ وَصْفِهِ بالصِّغَرِ، فقَوْلُنا: (حُجَيرٌ) كقولنا: (حَجَرٌ صَغيرٌ) ، ويَدُلُّ على ذلك أَنَّ مَنْ أَعْمَلَ اسْمَ الفاعِلِ نَحْوَ: (هذا ضَارِبٌ زَيداً) إذا صُغِّرَ فقال: (ضُوَيْرِبٌ) لم يَسْتَحْسِنْ إِعْمالَهُ في المَفْعُولِ بِهِ كَما لا يَسْتَحْسِنُ إذا وَصَفَه فقال: هذا ضَارِبٌ ظَريفٌ زَيداً "،فالواضِحُ مِنْ هذا النَّصِّ أَنَّ الوَصْفِيّةَ عِلَّةٌ للمَنْعِ عندَ الفَارِسِيّ.
ويَبْدو لي أنَّ هذا اخْتِيارٌ لابنِ الباذِش، وليسَ رأياً له، وهو اخْتِيارُ جُمْهورِ البَصْرِيِّين في التَّعْليلِ لمَنْعِ عَمَلِ اسْمِ الفاعِلِ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً (2) .
أمّا العِلَّةُ الثانِيَةُ وهي عِلَّةُ مَنْعِ المَوْصُوفِ أو الصِّفَةِ عن العَمَلِ فيَرى النُّحَاة أنّ الأسْماءَ العامِلةَ إذا وُصِفَت انْعَزَلت عن العَمَلِ؛ وذلك لبُعْدِها عَنْ مُشابَهَةِ الفِعْلِ (3) ،قال الرضي (4) : "إنّما لم يُصَغَّرْ الاسمُ العامِلُ عَمَلَ الفِعْلِ لغَلبَةِ شَبَهِ الفِعْلِ عليه، إذن فكَما لا يُصَغَّرُ الفِعْلُ لا يُصَغَّرُ مُشْبِهُهُ ".
علّة مجيء (أي) الموصولة بعد المستقبل
__________
(1) التكملة 496
(2) انظر الملخص 295 وشرح ألفية ابن معط 1201 وشرح الشافية للرضي 1/292 وشرح اللمع لابن برهان639 والصفوة الصفية 2/382
(3) انظر شرح ألفية ابن معط 1201 وشرح الشافية للرضي 1/292
(4) شرح الشافية للرضي 1/292(12/29)
ذَكَرَ الكِسائِيُّ أنَّ (أَيَّ) المَوْصُولَةَ لا يَجُوزُ أنْ يَكونَ عَامِلُها إلاّ مُسْتقبلاً، وقد جَرَت بَيْنَ الكِسائِيِّ ومَروانَ بنِ سَعيدٍ المُهَلَّبيِّ مُنَازَعَةً في هذه المَسْأَلَةِ (1) ،وفيها قالَ مَروانُ للكِسائِيِّ: فَكَيْفَ تَقولُ: (ضَرَبْتُ أيَّهُم في الدارِ) ؟ قالَ: لا يَجُوزُ، قال: لِمَ؟ قالَ: (أَيُّ) كَذا خُلِقَتْ. فلم يَذْكُرْ الكِسائِيُّ عَلَّةً لِوُجُوبِ كَوْنِ عامِلِ (أَيّ) مُسْتقبلاً.
وتَابَعَ رَأيَ الكِسائِيِّ أَبُو الحَسَنِ بنِ الباذِش حَيْثُ ذَهَبَ إلى أَنَّه لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ (أَيُّ) هذه أَبَداً مَعْ الماضي،وإِنَّما تَكونُ بَعْدَ المُسْتَقبَلِ، وزادَ ابنُ الباذِش على ذلك بأنْ ذَكَرَ عِلَّةَ مَجيئِها بَعْدَ المُسْتَقبَلِ فقالَ (2) : " (أَيُّ) مَوْضُوعَةٌ للإبْهامِ، والإبْهامُ لايَتَحَقَّقُ إلاّ في المُسْتَقْبَلِ الذي لا يُدْرى مَقْطَعُه ولا مَبْدَؤُه بِخِلافِ الماضي والحالِ فإِنَّهُما مَحْصُوران، فلمّا كانَ الإبْهامُ في المُسْتَقْبَلِ أَكْثَرَ مِنْه في غَيْرِه اسْتُعْمِلت مَعَه (أَيُّ) المَوْضُوعَةُ على الإبْهامِ ".
ورَدَّ الشلوبين هذه العِلَّةَ بأنْ قالَ (3) : " وهذا لا مَعْنى له "، كَما رَدَّها الرَّضيُّ بقوله (4) : " ولَيْسَ بشَيءٍ؛ لاخْتِلافِ الإبْهامَيْن ولا تَعَلُّقَ لأحَدِهِما بالآخر " والمَقْصُود بالإبْهامَيْن الإبْهامُ المَوجودُ في (أَيِّ) والإبْهامُ المَوجودُ في المُسْتَقبَلِ.
رابعاً:توجيهات قرآنية
توجيه قوله تعالى: (ولا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلي لَهُم ( {آل عمران 178}
__________
(1) انظر مجالس العلماء186
(2) شرح الرضي 3/22 وانظر الحدائق الندية لوحة 133
(3) شرح المقدمة الجزولية 607
(4) شرح الرضي 3/22 وانظر الحدائق الندية لوحة133(12/30)
في هذِه الآيَةِ قِرَاءاتٌ عِدَّةٌ، واضْطَرَبَتْ أقوالُ النُّحَاةِ في تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وأَنْكَرَ قِرَاءَتَهُ جَمْهَرَةٌ مِنْ النُّحَاةِ حَتّى عَدَّها أبو حَاتِم لحْناً (1) ، قالَ النَّحَّاسُ (2) : " وتَابَعَه عَلى ذلكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ".
أَمَّا قِرَاءَتُه فهي: "ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا " بالخِطَابِ وفَتْحِ البَاءِ والسِّين (3) ، قالَ الأزْهَرِيُّ (4) : " ومَنْ قَرَأ (ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا (لمْ يَجُزْ عِنْدَ البَصْرِيِّين إلاّ كَسْرَ أَلِفِ (إِنَّ) المَعْنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا إمْلاؤُنا خَيْرٌ لَهُم، ودَخَلَتْ (إِنَّ) مُؤَكّدةً، وإذا فَتَحْتَ صَارَ المَعْنَى:ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَروا إِمْلاءَنا ".
هذا هو رَأيُ البَصْرِيِّين، فهُم لا يُجِيزُونَ في قِرَاءَةِ حَمْزَةَ إلا كَسْرَ هَمْزَةِ (إَنَّ) ، قالَ الفَارِسِيّ (5) : " قَوْلُه (الَّذينَ كَفَرُوا) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بأَنَّهُ المَفْعُولُ الأوَّلُ،والمَفْعُولُ الثانِي في هذا البابِ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ في المَعْنى، فلا يَجُوزُ فَتْحِ (إِنَّ) ".
__________
(1) انظر أقوال النُّحَاة في الحجة3/100،والتبيان 1/312، وإعراب القراءات السبع1/123، والبحر المحيط 3/122، والدر المصون 3/496.
(2) إعراب القرآن للنحاس 1/379.
(3) انظرها في الحجة3/100، والبحر3/122، ومعاني القراءات114،وإعراب القراءات السبع1/123،وإعراب القرآن للنحاس1/379.
(4) معاني القراءات 114.
(5) الحجة 3/107.(12/31)
وذَهَبَ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ إلى جَوازِ فَتْحِ (أَنَّ) ،ومِنْهُم ابنُ الباذِش (1) ،فهو يَرى أَنَّ قَوْلَهُ (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُم خَيْرٌ لأنْفُسِهِم) بَدَلٌ مِنْ (الَّذينَ) ،والمَفْعُولُ الثانِي عِنْدَه مَحْذُوفٌ،قالَ (2) : "ويَكُونُ المَفْعُولُ الثانِي حُذِفَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَليه، ويَكُونُ التَّقْديرُ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا خَيْرِيَّةُ إِمْلائِنا لَهُم كَائِنَةٌ أو واقِعَةٌ ".
وقد رُدَّ هذا الرَّأيُ بأَنَّ حَذْفَ المَفْعُولِ الثانِي في هذِه الأفْعَالِ لا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدً، قالَ السَّمينُ (3) : " وهذا الرَّدُّ ليسَ بِشَيءٍ".
إعراب قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلونَ أنفُسَكُمْ ( {البقرة 85}
للعُلَمَاءِ في إعْرابِ هذِه الآيَةِ آراءٌ عِدَّةٌ (4) ،مِنْها رَأيٌ لأبي الحَسَن بنِ البَاذِش نَقَلَهُ عَنْه تِلْمِيذُه ابنُ عَطِيَّةَ الأندلسي،قال (5) : "قالَ الأسْتاذُ الأجَلُّ أبو الحَسَن بنُ أحْمَدَ شَيْخُنا: (هؤُلاءِ) رَفْعٌ بالابْتِداءِ، و (أَنْتُم) خَبَرٌ مُقَدَّم، و (تَقْتُلُونَ) حَالٌ بِها تَمَّ المَعْنى،وهي كَانَتْ المَقْصُودَةَ،فهي غَيْرُ مُسْتَغْنى عَنْها،وإنّما جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ تَمَّ الكَلامُ في المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه كَما تَقُولُ: (هذا زَيْدٌ مُنْطَلِقاً) ، وأنتَ قد قَصَدْتَ الإخْبَارَ بانْطِلاقِه لا الإخْبَارَ بأَنَّ هذا هو زَيْدٌ ".
__________
(1) انظر رأي ابن الباذِش والزمخشري وغيرهما في معاني القرآن للفراء 1/248، والكشاف1/482،وكشف المشكلات1/276، والبحر المحيط3/122،والدر المصون 3/496.
(2) البحر المحيط3/122.
(3) الدر المصون3/ 498.
(4) انظر آراءهم في البحر1/290،والدر المصون 1/475، والمجيد في إعراب القرآن المجيد 321،والتبيان 1/86،وكشف المشكلات 1/65،وإعراب القرآن للنحاس 1/19219.
(5) المحرر الوجيز 1/379.(12/32)
وقد خَالَفَ ابنُ الباذِش في هذا الرَّأيِ سِيْبَوَيْه وغَيْرَه مِنْ نُحَاةِ البَصْرَة حَيْثُ يَذْهَبُ سِيْبَوَيْه إلى أنّ (أَنْتُم) مُبْتَدأ و (هؤُلاءِ) خَبَرٌ و (تَقْتُلُونَ) في مَوْضِعِ الحَالِ (1) .
ويَتَعَجَّبُ أَبُو حَيَّانَ مِنْ رَأيِ ابنِ الباذِش فيقولُ (2) : " ولا أَدْري مَا العِلَّةُ في عُدُولِه عَنْ جَعْلِ (أَنْتُم) مُبْتَدأ و (هؤلاءِ) الخَبَرَ إلى عَكْسِه "، ولَعَلَّ في رَأْيِ ابنِ الباذِش شَيْئاً مِنْ الصَّوابِ إِذ لَمِ يُرِدْ اللهُ سُبْحانَه وتعَالى الإشَارَةَ إِلَيْهِم، إِنَّما أَرَادَ الإخْبَارَ عَن مَاهِيَّتِهِم وتَصَرُّفَاتِهِم مِنْ قَتْلِ النّفْسْ وسَفْكِ الدِّمَاءِ وغَيرِ ذلك،فالمَعْنى المُرَادُ مِنْ الآيَةِ: أَنْتُم تَقْتُلُونَ أَنْفَسَكم وتَسْفِكُون دِمَاءَكُم،ولِتَوضِيحِ المَعْنى نُفَرِّقُ في المَعْنى بَيْنَ (هؤلاءِ أَنْتُم) و (أَنْتُم هؤلاءِ) ، ففي الجُمْلَةِ الأولى الإخْبَارُ عَنْ اسْمِ الإشَارَةِ، أيْ:الإخْبَارُ عن المُشَارِ إليه بضَمِيرِه، أي:بِذَاتِهِ، ولَيْسَ هذا هو المُرَادُ في الآيَةِ، وإِنَّمَا المُرادُ الإخْبَارُ عَنْ ذَاتِهم أنَّهُم يَفْعَلُونَ كَذا وكَذا، كَقَولي لَكَ: أَنْتَ هذا تَأكُلُ وتَشْرَبُ، والمَعْنى يُوحِي أَنَّ اسْمَ الإشَارَةِ تَوْكيدٌ للضَّميرِ، وهذا المَعْنى هو الّذي دَفَعَ ابنَ الباذِش إلى القولِ بهذا الرَّأيِ، وأَرَاه صَواباً، والله أعلم.
__________
(1) انظر الكتاب 1/379، وابن يعيش 2/16،4/24.
(2) البحر 1/290.(12/33)
ويَرى بَعْضُ الكُوفِيّين أَنَّ (هؤلاءِ) مُنادى حُذِفَ مِنْه الأداةُ،وقد نَسَبَ الرَّضِيُّ هذا الرَّأيَ لَهُم مُعَلِّلِينَ بأَنَّ اسْمَ الإشَارَةِ مَعْرِفَةٌ قَبْلَ النِّداءِ، فلِذلكَ جَازَ حَذْفُ الأدَاةِ قبلَ اسْمِ الإشَارَةِ (1) ، وبَعْضُهُم يُجِيزُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الإشَارَةِ بمَعْنى الأسْمَاءِ المَوْصُولةِ، فيُصْبِحُ مَعْنى الآيَةِ:أَنْتُم الذين تَقْتُلونَ (2) .
وقيلَ في الآيَةِ: إِنَّ (هؤلاءِ) مَنْصوبٌ عَلى الاخْتِصَاصِ (3) .
وقيلَ: (تَقْتُلونَ) جُمْلَةٌ مُسْتَأنَفَةٌ (4) .
وقيلَ: (هؤلاءِ) خَبَرٌ، ولكن بتَأويلِ حَذْفِ المُضَافِ، أي: مِثلَ هؤلاءِ (5) .
توجيه قوله تعالى: " تِلْكَ عشرةٌ كاملةٌ " {البقرة 196}
نَقلَ لنا أبُو حَيَّانَ في تَفْسِيرِه رَأياً لابنِ الباذِش في تَوجيهِ قولِه تعالى: "تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ " فقالَ (6) : " فقالَ الأستاذُ أبُو الحَسَن عَليّ بنُ أحمدَ الباذِش مَا مَعْناه: أَتَى بِعَشْرَةٍ تَوْطِئةً للخَبَرِ بَعْدَها، لا أنّها هي الخَبَرُ المُسْتَقِلّ به فَائِدَةَ الإسْنَادِ، فجِيءَ بِهَا للتوكِيدِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ " يَعْني في هذا الكَلامِ أَنَّ المَقْصُودَ هو الإخْبَارُ بالصَّلاحِ، وجِيءَ بِرَجُلٍ تَوْطِئةً،إذْ عُلِمَ أنَّه رَجُلٌ، وفي هذِه الآيَةِ عُلِمَ أَنَّها عَشْرَةٌ حَيْثُ قالَ: " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجِعْتمُ "، فهو لمْ يُرِدْ الإخْبَارَ أنَّها عَشْرةُ أيَّامٍ،إِنَّمَا أَرَادَ الإخْبَارَ بكَمَالِها.
__________
(1) شرح الرضي 1/426.
(2) انظر الرضي 3/23،ونتائج التحصيل 2/734،وشرح ألفية ابن معط 1041، والدر المصون 1/477.
(3) انظر الدر المصون 1/477،والمجيد 323.
(4) انظر الدر المصون 1/478.
(5) انظر الدر المصون 1/476.
(6) البحر المحيط 2/79،وانظر الدر المصون 2/320.(12/34)
وفي هذِه الآيَةِ آراءٌ أخْرى (1) ، فمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّ المَقْصُودَ بِقَولِه (كَامِلَةٌ) إِزَالَةُ التَّوَهُّمِ ورَفْعِ الَّلبْسِ،إذْ قد يَظُنُّ القارِىءُ أَنَّ الواوَ في (وسَبْعَةٍ) للتَخْييرِ، فَأَزَالَ هذا الاحْتِمَالَ، وهذا رَأيُ الزَّجَّاجِ (2) .
وذَهَبَ الأخْفَشُ إلى أَنَّ (كَامِلة) جِيءَ بِها للتوكِيدِ (3) ، وأَخَذَ بهذا ابنُ جِنِّي في خَاطِرِيّاتِه (4) .
ويُلاحَظُ في رَأيِ ابن الباذِشِ في هذه الآيَةِ ومَا سَبَقَهَا بالمَعْنى، فتَوْجِيهُه للآيَةِ كَانَ مُعْتَمِداً عَلى فَهْمِه للآيَةِ بِكَمَالِهَا لا نَظْرَةً مُقْتَصِرَةً عَلى التَّرْكِيبِ، فإِعْرَابُه لِهذا التَّرْكِيبِ كَانَ ضِمْنَ نَصٍّ كَامِلٍ، فاللهُ سُبْحَانَه وتَعَالى لَمْ يُرِدْ أَنْ يُخْبِرَهُم أَنَّها عَشْرةُ أَيَّامٍ، فهُم يَعْرِفُونَ أَنَّها عَشْرَةُ أَيَّامٍ، ولا حَاجَةَ لإخْبَارِهِم عَنْها، وإِنَّما أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَهُم عَنْ كَمَالِها،فلا أَرَى رَأياً مِنْ هذِه الآراءِ أَقْرَبَ إلى المَعْنى مِنْ رَأيِ أبي الحَسَن بنِ الباذِش.
الفصل الثالث: خلافه مع ابن الطراوة
خِلافُه مَعْ ابنِ الطَّراوةِ
__________
(1) انظر المسألة في معاني القرآن للأخفش 163،ومعاني القرآن للزجاج 1/258، والخاطريات 50،البحر المحيط 2/79،والدر المصون 2/320،وكشف المشكلات 1/145.
(2) انظر معاني القرآن للزجاج 1/258.
(3) انظر معاني القرآن للأخفش 163.
(4) انظر الخاطريات 50.(12/35)
قيلَ: إنَّ لابنِ الطَّراوَةِ مُؤَلَّفاً خَصّه بمَسْألةِ نَحويّةٍ جَرَتْ بينَه وبَينَ ابنِ الباذِش (1) ، ولا نعلمُ حَقيقةَ هذِه المَسْألةِ، فلَمْ يُشر إلى فَحْواها مَنْ ترجَمَ لابنِ الطَّراوَةِ أو لابنِ الباذِش، ويَبدو أنَّ بَينَ العَالِمَيْن خِلافاً لا يقفُ عندَ حدودِ مَسالةٍ نَحويَّةٍ.
ويُمْكِنُ أَنْ نَتِعَرَّفَ عَلى أَبْرزِ نُقاطِ الاخْتِلافِ بينَ الشَّخْصِيَّتَين مِنْ خِلالِ نَهْجِ الحَياةِ العِلميَّةِ في ذلك العصرِ،فقد كَانَ اهتِمامُ نُحاةِ الأندلسِ بجُمْلةٍ مِنْ كتبِ أهلِ المَشْرقِ، منها كتابُ سِيْبَوَيْه والمقتضَبُ للمبَرّدِ وأُصولُ ابنِ السَّراجِ وجُمَل الزجّاجِيّ الذي زادَت شروحه الأندلسية عن خَمسين شرحاً، كما ذاعتْ كُتُب الفَارِسِيّ كالإيضاحِ وكتبُ ابنِ جنِّي كاللُّمَعِ الذي اهتِمامَ علماءِ الأندلسِ، ومِنْ الكتبِ التي نَالتْ اهتِمامَ العلماءِ كتاب الكافي لأبي جعفر النَّحاس.
أَمَّا الخِلافُ بينَ العَالِمَين فيُمْكنُ تَبَيُّنُهُ مِنْ خِلالِ مَوْقِفِهِما مِنْ هذِه الكتبِ، فابنُ الباذِش عَالِمٌ مُلتَزِمٌ بعِلمِ القدَمَاءِ،مُعْجَبٌ بجُهُودِهم، ولا يُحاولُ الخُروجَ عَنْ النَّهْجِ الذي رَسَموه، فهو يُتابِعُ سِيْبَوَيْه في كُلِّ مَسألةٍ،وقد قيلَ عنه (2) : " كانَ مِنْ أحفظِ النّاسِ لِكِتابِ سِيْبَوَيْه وأَرْفَقِهم به "، وكَانَ ابنُ الباذِش أَكثرَ النّاسِ إعْجاباً بالفَارِسِيّ وإيضاحِه حَتَّى قالَ فيه:
أَضِعْ الكَرى لِتَحَفُّظِ الإيضاحِ وصِلْ الغُدُوَّ لفَهْمِه برَواحِ
__________
(1) انظر أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو 51 وابن الطراوة النحوي 107
(2) انظر بغية الملتمس419(12/36)
ومَنْ كَانَ مُعْجَباً بالفَارِسِيّ وكتبِه أُعْجِبَ بابنِ جِنِّي وكتبِه، فلابنِ الباذِش شرحٌ لأحَدِ كُتبِهِ، وهو المُقتَضَبُ مِنْ كلامِ العربِ، وهو كتابٌ صَغيرٌ مختصرٌ في اسْمِ المَفْعُولِ مُعْتلِّ العين،كما شَرَحَ ابنُ الباذِش جُمَل الزَّجّاجِيّ،ولَمَسْتُ في هذا الشَّرْحِ عِدَّةَ انتِقاداتٍ لآراءِ الزَّجّاحِيّ،أمّا مَوقفُ ابنِ الباذِش مِنْ كتابِ الكافي لأبِي جعفر النحاس فهو مُخْتلفٌ عن مَوقفِه مِنْ بَقِيَّةِ الكُتُبِ، فلابنِ الباذِش نَقدٌ على هذا الكتابِ يُبَيّنُ فيه وَهْمَ أبي جعفر النحاس في أكْثَرِ مِنْ مئةِ موضعٍ.
أَمّا ابنُ الطَّرَاوَةِ فقد اخْتَلفَ في نَهْجِه عنْ نَهْجِ ابنِ الباذِش، فقامَ بنَقدِ كِتابِ سِيْبَوَيْه الذي يَعُدُّه ابنُ الباذِش حُجَّةً، وذلكَ مِنْ خِلالِ كتابِه "المُقَدِّمَات" فقد حَفلَ هذا الكتابُ " وبصورَةٍ واضِحَةٍ بنَقدِ سِيْبَوَيْه، فَأثارَتْ هذِه الصورةُ مُعَاصِريه عليه" (1) .
أمّا كتبُ أبي عَليّ الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي فهو يَرى أَنَّها " كتبٌ لا تَتَضَمَّنُ جَديداً، وأَنَّها لا تعدو أَنْ تكونَ أسْماءً خاليَة مِنْ المَضْمونِ، وأنّ الأجْدَرَ صَرْفُ هِمَمِ الناشِئينَ إلى كتابِ سِيْبَوَيْه والجُملِ للزَّجّاجِيّ والكافي لابن النحاس، فهذِه كَمَا يقولُ تواليفُ مُسْنَدةٌ ذاتُ قوانينَ مُقيَّدةٍ، وأمّا هذا السيلُ الجَارِفُ المنسوبُ إلى الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي فهو إلى أنَّه لا يُفيدُ جديداً قد خلا مِنْ شَرْطِ النقلِ عن الثقةِ " (2) .
__________
(1) أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو 49
(2) أبو الحسين بن الطراوة وأثره النحوي 17(12/37)
ويَبدو واضِحاً أَنَّ بينَ العَالِمَيْن ندّيّةٌ شَديدةٌ، فابنُ الباذِش يؤلّفُ كتاباً يَنْتَقدُ فيه كتابَ الكافي، ويُخطّىءُ النَّحَّاسَ في نحو مئةِ مَسألةٍ، وابنُ الطَّراوَةِ مُعْجَبٌ بكتابِ الكافي،ونَجِدُه يؤلفُ كتاباً يَنْتقدُ فيه كتابَ الإيضاحِ الذي يُدافِعُ عنه ابنُ الباذِش، والسَّبَبُ في تأليفِ ابنِ الطَّرَاوَةِ لكِتَابِهِ " الإفصاح " هو في الحقيقةِ مَا ظهرَ في عَصْرِه من إعجابٍ بهذا الكتابِ والمَقصودُ مِنْ ذلكَ كلِّه أبو الحَسَن بنُ الباذِش، يقولُ ابنُ الطَّراوَةِ في الإفْصاحِ (1) : "وكَانَ الذي حَدا إلى النَّظرِ في هذا الكتابِ تهافتاً في تفضيلِه عَلى غَيْرِه منْ المُخْتصَراتِ المَرْوِيَّةِ، وتظاهُرَ المُصَحِّفين لتقديمِه على التواليفِ المُسندَةِ خُروجاً مِنْ شَرطِ النقلِ عَن أهلِ الثقَةِ والإسْنادِ إلى الأئِمَّةِ ".
ويقولُ في موضعٍ آخرَ مفضِّلاً كتابَ سِيْبَوَيْه والجُمَل والكافي ومُعرّضاً بكتبِ الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي (2) : " وغَبُنَ رأيُه مَنْ عدلَ عن التواليفِ المُسندةِ والقوانينِ المُقيَّدةِ كالجُمَلِ والكافي وكتابِ سِيْبَوَيْه الشافي، وفَرَغَ للإيضاحِ والشيرازياتِ والخصائصِ والحلبياتِ، ترجَمَةٌ تَروقُ بلا مَعنى، واسْمٌ يهولُ بلا جسمٍ إلا تَشدُّقاً بالكتبِ وإحَالةٍ على الصُّحُفِ، وإنَّ هذا لهو الخسرانُ المبينُ " وهذا هو التنافسُ والنِّدِّيَّةُ.
__________
(1) الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في الإيضاح16
(2) الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في الإيضاح37(12/38)
وخُلاصةُ القولِ في الخِلافِ النَّحْوي بَيْنَهُما أنَّ ابنَ الباذِش لا يَرى في كتابِ الكافي للنحاس شيئا يمكنُ أنْ يقدِّمَه على كتابِ الإيضاحِ،والأمْرُ ضِدَّ هذا عندَ ابنِ الطَّرَاوَةِ،أمّا كتابُ سِيْبَوَيْه فالذي أراه أنَّه خِلافٌ في فهمِ عِبارَةِ الكتابِ لا في تقديرِ الكتابِ نفسِه، فكِلاهُما يُجِلُّ سِيْبَوَيْه ويُقَدِّرُ كتابَه.
وهناكَ قضيَّةٌ أخْرى لها أكبرُ الأثرِ في الخِلافِ النَّحْويّ الذي دارَ بينَهما، وهذه القضيَّةُ تَتَعَلقُ في نَشأتِهما، فابنُ الباذِش نَشَأ في أُسْرةٍ مُتدَيِّنةٍ،وبَقِي مُحافِظاً عَلى هذا النَّهْجِ حَتَّى بَلَغَ درجَةً عاليَةً بينَ عُلماءِ الدينِ، فأصبحَ إمامَ الفَريضَةِ في جَامِعِ غَرْناطَةَ،وقد ذَكَرْتُ سابقاً أنَّ لابنِ الباذِش مُشارَكَةٌ في علومِ الحديثِ والقرآنِ، فهذِه النَّشأةُ تَجْعلُ مِنْ ابنِ الباذِش عالِماً مُلتَزِماً مُقدِّراً لجُهودِ القُدمَاءِ العلميّةِ.
أمّا ابنُ الطَّرَاوَةِ فلمْ تكُنْ له أيُّ مُشارَكةٍ في المَعارِفِ الإسلاميَّةِ، وتَجَاوَزَ ابنُ الطَرَاوَةِ هذا الأمْرَ بأنْ كانَ " لا يَحولُ بينَه وبينَ أنْ يَأخُذَ مِنْ الحَياةِ بشَيءٍ مِنْ المُتْعَةِ وأنْ يكونِ له مَجْلسُ شُرْبٍ وندامى، وأنْ يَحمِلَهُ الطَّربُ عَلى أنْ يقولَ الشعرَ فيمَنْ يَهوى ويُحِبُّ، وكانَ قد جَاوَزَ الشبابَ والكهولةَ" (1) .
وأرى أنه لا اتفاقَ بينَهما في النَّشْأةِ،وهذا ولّدَ عندَهُما شَيئاً منْ التنافُسِ والنِّدِّيَّةِ،وقد تكونُ وَصَلتْ إلى دَرَجَةِ الكَرَاهيةِ، وهذا ظاهِرٌ مِنْ الكَلامِ الذي بَدَأ به ابنُ الطَّراوَةِ كتابَه الإفصاح، ولذلك أرى أنّ هذه النَّشأةَ كانَ لها الأثرُ الكبيرُ في الخِلافِ بينَهما.
نَتائِجُ البَحثِ وخَاتمتُه
__________
(1) أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو 38(12/39)
يَتَّضِحُ مِنْ عنوانِ هذا البحثِ (أبو الحَسَن بنِ الباذِشِ الغرناطي وأثرُه النَّحْويّ) أنّ الباحِث يَهْدِفُ إلى التعرُّفِ على شَخصيَّةِ هذا العَالِمِ مِنْ خِلالِ دِراسَةِ آرائِه واخْتِياراتِه النَّحْويّة، فتحدّثَ في البدايةِ عن عصرِ هذه الشَّخْصيَّةِ والحَياةِ التي عاشَتها،ثمّ تناولَ ما نُسِبَ إليه مِنْ آراء واختياراتٍ وتوجيهاتٍ نَحْويةٍ،وتحدّثت في الختام عن خلافِ ابن الباذش معْ ابنِ الطَّراوَةِ.
ويودُّ الباحثُ هنا أنْ يُشيرَ إلى ما اسْتطاعَ التوصُّلَ إليه مِنْ نَتائِجَ يَجْدرُ به أنْ يُوجزَ أهمُّها:
أوّلاً: لا يَتّفقُ واقِعُ الحَياةِ السياسيّةِ في الأنْدَلُسِ في القَرْنِ الخامسِ وبدايَةِ القرنِ السادِسِ الهجري مَعْ مَا شَهِدَته البِلادُ مِنْ ازدِهارٍ في الحَياةِ العِلميَّةِ،فالأنْدَلسُ كانَت تُعاني مِنْ فوضى واضطِرابٍ سِياسِيّ،وهذا الواقعُ السياسي لا يَسْمحُ بالتفرّغِ لطلبِ العِلمِ، فهناك نقيضان:اضطرابٌ سياسي متمثِّلٌ بتمزّقِ الأندلس،وازدهارٌ علمي.
ثانياً: عاشَ ابنُ الباذِشِ في أسْرَةٍ مُحبَّةٍ للعلم، والظاهر أنّ لقبَ الباذِشِ لقَبٌ للأسْرَةِ لا لهذا العالم وحده،فالأصل في اسمه:"أبو الحسَن علي بن أحمد بن خلف الباذِش"، وعُرِفَ ابن الباذِشِ بورعه وحبّه للعلم، فأخَذَ من العلوم كافة، ويشهد على ذلك شيوخُه وتلامِيذه، وعُرفَ منها بعلمي النحو والقراءات، أمّا علمُ القِراءاتِ فأخَذَه عنه ولدُه أبو جعفر، وصَنّفَ كتابَ الإقناعِ في القراءاتِ السبع فكانَ مِنِْ أحسنِ الكتبِ في هذا العلمِ كما يقول أبو حيان في تفسيره،وفي هذا الكتاب وضع أبو جعفر جميع ما أخذه عن والده، فعرضه عليه واستنار برأيه،كما ذكره في هذا الكتاب ما يزيد على خمسين مرّة.(12/40)
ثالثاً: أمّا علمُه في النحو فكانَ له الجُهدُ الكبيرُ فيه،فقد نُسب إليه جملة من الشروح، منها شرح كتاب سيبويه والأصول وإيضاح الفارسي وجمل الزجّاجي وغيرها،ولم يصلنا شيء من هذه الكتب، وعُرِفَ بحبه لإيضاح الفارسي الذي امتدحه بأبيات عِدّة.
رابعاً:كانت مَنْزِلةُ أبي الحَسَن بنِ الباذِش عندَ النَّاسِ منزلةً رَفيعَة؛ وذلك بسببِ وَرَعِه وزُهْدِه، فكانَ إمامَ الفريضةِ بجامعِ غَرناطة،ومِنْ حُبّ النّاس له ازدحامُهم عندَ وفاتِه حتّى كسروا النعشَ،وكانت وفاته سَنَة ثمانٍ وعشرين وخمسمائة هجرية، ومولدُه سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
خامساً: مَنْهَجُه النَّحْويّ: مِنْ الصعبِ تَحْديدُ وتَبَيُّنُ جَميعِ عَناصِرِ المَنْهَجِ النَّحويّ لشَخْصِيَةٍ نَحْويةٍ مِنْ خِلالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ آرائِهِ القليلةِ، فلا يُمكنُ الحُكمُ عَلى مَوقِفِه مِنْ القِياسِ أو السَّمَاعِ أو العِلَلِ وغيرِها بدِقَّةٍ، وأحاولُ في هذا الموضع تَلَمُّسَ بعض عناصِرِ هذا المنهج، فاتَّضَحت بعضُ المَعَالِمِ مِنْ مَنْهَجِ ابنِ الباذِش أورِدُها فيما يأتي:(12/41)
1 إِنَّ مِنْ أهَمِّ المَلامِحِ التي وَضُحَتْ في مَنْهَج ابنِ الباذِش مَوْقفَه مِنْ بعضِ النُّحَاةِ، فقد ظهرَ جَليّاً أنَّ ابنَ الباذِش يَسيرُ عَلى خُطى سيبويه لا يَتجَاوزُه إلى غيرِه من العلماءِ، ولمْ أجدْ في هذه الآراءِ مَا يُخَالفُ فيه سِيْبَوَيْه،فتابَعَه في كلِّ مَسألةٍ، ولم يَقفْ الحَدُّ عندَ مُتابَعَتِه لآراءِ سِيْبَوَيْه بل تَجاوَزَ الأمْرُ إلى تَلمُّسِ تفسيرٍ وفهمٍ خاصٍّ لعبارَةِ سِيْبَوَيْه المبهمةِ، وقد وَضُحَ ذلكَ مِنْ خِلالِ حَديثِه حول العِلَّةِ الرَّافِعَةِ للاسْمِ وإيضاحِ مَعْنى المُضَارَعة والقولِ في عَلاماتِ الإعرابِ، وغيرها من المَواضِعِ، ويُحاوِلُ دَوْماً إيجادَ تسويغٍ لحُكمِ سِيْبَوَيْه النَّحويِّ، ويُكْثرُ ابنُ الباذِش مِنْ نَقلِ آرائِهِ والأخْذِ بِها، وهذا الأمْرُ نَجِدْه مَنْثوراً فيما نَقَلَهُ أبُو حيَّانَ مِنْ شَرْحِ ابنِ الباذِش للجُمَلِ في تَذْكِرتِه.
2 خَالفَ ابنُ الباذِش الفَارِسِيَّ في عِدَّةِ مَواضِعَ، ولا يَعْني مدحُ ابنِ الباذِش للفارِسِيِّ وكِتابِهِ مُتابَعَتُه له في كُلِّ آرائِه، والظاهِرُ لي أنَّ الفَارِسِيّ لمْ يَصِلْ إلى مرتبةِ سِيْبَوَيْه عندَ ابن الباذِش، فلا شكَّ أنَّه مُعجبٌ بالإيضَاحِ، وقد عَبَّرِ عَنْ هذا الإعجابِ في القصيدَةِ السابقةِ،وانتقدَ ابنُ الباذِش الزَّجّاجِيَّ في شَرحِه للجُمَلِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، وهذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هذِه الشخصيَّةَ لها تَمَيُّزُها واسْتِقلاليتُها، أمّا مَا لَمَسْناه مِنْ مُتابَعَتِه لسِيْبَوَيْه فهو في الحَقيقةِ إضافةُ فَهْمٍ جَديدٍ ونَظْرةٍ مستقلةٍ جديدةٍ لعبارةِ سِيْبَوَيْه.(12/42)
3 يَتَّضِحُ ممّا سبَقَ أنَّ ابنَ الباذِش بَصْرِيُّ المذهبِ، ولمْ أجِدْ للكُوفِيّين نَصِيباً كبيراً في تَفْكيرِ ابنِ الباذِش النَّحويِّ، ومَعْ ذلكَ وَجَدْتُه يَعْرضُ كَثيراً مِنْ آرائِهم دونَ نقدٍ أو تَعليقٍ،فها هو يَعْرضُ آراءَهم في الحُروفِ التي تَنْصِبُ المُضارِعَ، ولا أَجِدُه يُصَرِّحُ في مُتابَعَتهِ لرَأيٍّ مِنْ آرائِهم، ولعلَّ هذه القضيَّةَ مِنْ قضايا الخِلافِ بَيْنَه وبَينَ ابنِ الطراوَةِ الذي تابَعَ الكوفيين في مَجموعَةٍ كبيرةٍ مِنْ آرائِهم.
4 لمْ يَتَّضحْ موقفَ ابنِ الباذِش مِنْ السَّماعِ أو القِياسِ، ولكن هُناكَ إشاراتٌ تَدُلُّ على أنَّه كانَ يَأخُذُ بمَرْوِيّاتِ الكُوفيين (1)
__________
(1) انظر البحر المحيط 1/220
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة للشرجي الزبيدي، تحقيق د. طارق الجنابي، عالم الكتب، ط1، 1987.
الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين بن الخطيب،حققه مُحَمَّد عبد الله عنان،مكتبة الخانجي،ط2، القاهرة1973.
ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيَّانَ الأندلسي تحقيق: مصطفى النماس، مكتبة الخانجي، ط1، القاهرة 1984.
أسرار العربية لأبي البركات الأنباري، تحقيق مُحَمَّد بهجة البيطار، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق 1957.
الأشباه والنظائر في النحو الإمام جلال الدين السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت 1985.
الأصول في النحو لابن السراج تحقيق:عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1985.
إعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه، تحقيق د. عبد الرحمن العثيمين،ط1، مكتبة الخانجي 1992.
إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس، تحقيق زهير غازي زاهد،عالم الكتب، ط2،1985.
الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في الإيضاح ابن الطراوة النحوي، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، ط1، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1990.
الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب للفارقي، حققه سعيد الأفغاني، ط2 بنغازي 1974
الإقناع في القراءات السبع أبو جعفر أحمد بن علي المعروف بابن الباذِش، حققه د. عبد المجيد قطامش، مطبوعات جامعة أم القرى، ط1،1403 هـ.
الأمالي الشجرية لابن الشجري،دار المَعْرِفَة للطباعة والنشر، بيروت.
إنباه الرواة على أنباه النُّحَاة للقفطي علي بن يوسف تحقيق: مُحَمَّد أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار الفكر العربي ومؤسسة الكتب الثقافية 1986.
الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري، تحقيق مُحَمَّد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.
أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام، تحقيق مُحَمَّد محيي الدين عبد الحميد، ط6، دار إحياء التراث العربي، بيروت1966.
الإيضاح العضدي لأبي علي الفَارِسِيّ، تحقيق د. حسن شاذلي فرهود، مطبعة دار التأليف، ط1،مصر 1969.
الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، تحقيق موسى بناي العليلي، مطبعة العاني، بغداد 1982.
البحر المحيط = تفسير البحر المحيط
البسيط في شرح الجمل لابن أبي الربيع، تحقيق د. عياد الثبيتي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986.
بغية الملتمس أحمد بن يحيى الضبي، دار الكاتب العربي 1967.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنُّحَاة للسيوطي تحقيق مُحَمَّد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار الفكر 1979.
البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة للفيروز أبادي حققه مُحَمَّد المصري، منشورات مركز المخطوطات والتراث، ط1، الكويت، 1987.
التبصرة والتذكرة للصيمري، تحقيق د. فتحي أحمد مصطفى،منشورات مركز البحث العلمي، ط1، مكة المكرمة،1982.
التبيان في إعراب القرآن للعكبري، تحقيق علي البجاوي، عيسى البابي الحلبي.
تذكرة النُّحَاة أبو حيَّانَ مُحَمَّد بن يوسف الأندلسي، تحقيق:د. عفيف عبد الرحمن، ط1، مؤسسة الرسالة،بيروت 1986.
التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيَّانَ الأندلسي، نسخة مصورة من المخطوط بحوزة د. طارق نجم عبد الله.
ترشيح العلل في شرح الجمل للخوارزمي، إعداد عادل محسن سالم العميري، مطبوعات جامعة أم القرى، ط1، 1419هـ.
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك،تحقيق مُحَمَّد كامل بركات،دار الكتاب العربي 1967.
تفسير البحر المحيط أبو حيَّانَ الأندلسي، دار الفكر، بيروت.
التكملة للفارسي تحقيق د. كاظم المرجان، ط2،عالم الكتب، بيروت، 1999.
التهذيب الوسيط في النحو لابن يعيش الصنعاني، تحقيق د. فخر صالح قدارة، دار الجيل، ط1، بيروت 1994.
توضيح المقاصد والمسالك للمرادي، تحقيق د. عبد الرحمن علي سليمان، ط2، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس لأبي عبد الله الحميدي، الدار المصرية للتأليف، 1966.
الجمل في النحو للزجاجي تحقيق: د. علي الحمد، مؤسسة الرسالة ودار الأمل، ط1، 1984.
الجمل في النحو للجرجاني، تحقيق يسرى عبد الغني عطية، دار الكتب العلمية، ط1،بيروت 1985.
الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي، تحقيق د. فخر الدين قباوة ومُحَمَّد نديم، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1983.
حاشية الصبان على شرح الأشموني،مُحَمَّد بن علي الصبان،دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.
الحجة للقراء السبعة للفارسي، حققه بدر الدين قهوجي وزميله،ط2، دار المأمون للتراث 1993.
الحدائق النديّة في شرح الفوئد الصمدية لابن معصوم، نسخة مصورة بحوزة د. سمير استيتية.
الحياة العلمية في الأندلس في عصر الموحدين د. يوسف علي بن إبراهيم العريني، مطبوعات مكتبة الملك عبد العزيز العامة، ط1، الرياض 1416 هـ.
أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو د. مُحَمَّد إبراهيم البنا، ط1، دار الإعتصام، القاهرة 1980.
الخاطريات الإمام أبو الفتح عثمان بن جني، حققه علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت 1988.
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1983
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي، تحقيق أحمد مُحَمَّد الخراط، ط1، دار القلم، دمشق 1986
الدرر اللوامع على همع الهوامع للشنقيطي، تحقيق عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1994.
دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي مُحَمَّد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي القاهرة ط2، 1969.
الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فَرْحُون المالكي تحقيق مُحَمَّد أبو النور، دار التراث، القاهرة.
ديوان جرير، دار صادر،بيروت 1960.
ديوان ذي الرمة شرح الإمام أبي نصر الباهلي، تحقيق د. عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان، ط2، بيروت 1982.
ديوان عمر بن أبي ربيعة، ط الهيئة المصرية العمة للكتاب 1978.
ديوان كثير عزة، تحقيق د. إحسان عباس، نشر وتوزيع دار الثقافة 1971.
رسائل ونصوص في اللغة والأدب والتاريخ حققها وقدم لها: إبراهيم السامرائي،مكتبة المنار،ط1، الزرقاء، الأردن 1988.
سر صناعة الإعراب لابن جني، تحقيق د. حسن هنداوي، دار القلم،ط1، دمشق 1985.
سير أعلام النبلاء للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وزملائه، مؤسسة الرسالة، 1404هـ.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية مُحَمَّد مخلوف، دار الكتاب العربي.
شرح أبيات سِيْبَوَيْه لابن السِّيْرَافِيّ، تحقيق مُحَمَّد علي سلطاني، دار المأمون للتراث 1979.
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، علي بن مُحَمَّد الأشموني،بأعلى حاشية الصبان، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.
شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، اعتنى به مُحَمَّد بن سليم اللبابيدي، انتشارات ناصر خسرو، طهران،إيران.
شرح ألفية ابن معط، للقواس عبد العزيز بن جمعة تحقيق د. علي الشوملي، ط1،مكتبة الخريجي، الرياض، 1985.
شرح التسهيل لابن مالك تحقيق د. عبد الرحمن السيد ود. مُحَمَّد بدوي المختون،هجر للطباعة والنشر، ط1،1990.
شرح التصريح على التوضيح، خالد الأزهري، دار أحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.
شرح جمل الزجاجي لابن عصفور الإشبيلي، تحقيق: د. صاحب أبو جناح، منشورات وزارة الأوقاف، بغداد 1982.
شرح جمل الزجاجي لابن خروف الإشبيلي تحقيق: سلوى مُحَمَّد عمر عرب، منشورات جامعة أم القرى، 1419هـ.
شرح الرضي على الكافية، تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر، وطبعة دار الكتب العلمية، ط3، بيروت 1982.
شرح شافية ابن الحاجب، الرضي الإستراباذي، تحقيق مُحَمَّد نور الحسن وزميليه، دار الكتب العلمية،بيروت 1982.
شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لابن مالك تحقيق عدنان الدوري، مطبعة العاني، بغداد، 1977.
شرح العوامل المائة النحوية في أصول العربية للأزهري، تحقيق د. البدراوي زهران،ط2، دار المعارف، مصر.
شرح الكافية الشافية، لابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، منشورات جامعة أم القرى، دار المأمون للتراث.
شرح اللمحة البدرية في علم العربية لابن هشام الأنصاري، تحقيق د. صلاح رواى، ط2، بدون.
شرح اللمع لابن برهان حققه د. فائز فارس،ط1، الكويت، 1984.
شرح اللمع في النحو للواسطي الضرير، تحقيق د. رجب عثمان، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 2000.
شرح المفصل لابن يعيش الحلبي، عالم الكتب، بيروت.
شرح المفصل الموسوم بالتخمير للخوارزمي،تحقيق د. عبد الرحمن العثيمين،الطبعة الأولى الخاصة بمكتبة العبيكان، الرياض 1421هـ.
شرح المقدمة الجزولية الكبير للشلوبين عمر بن مُحَمَّد، تحقيق د. تركي بن سهو، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1994.
شرح المقدمة الكافية في علم الإعراب لابن الحاجب، تحقيق جمال عبد العاطي مخيمر، ط1، مكتبة نزار الباز، الرياض 1997.
شرح المقدمة المحسبة لابن بابشاذ، تحقيق خالد عبد الكريم، ط1، الكويت 1984.
شفاء العليل في إيضاح التسهيل لمُحَمَّد بن عيسى السلسيلي، تحقيق د. الشريف عبد الله الحسيني، ط1، المكتبة الفيصلية 1986.
الصفوة الصفية في شرح الدرّة الألفية للنيلي، تحقيق د. محسن بن سالم العميري، منشورات جامعة أم القرى، 1419هـ.
الصلة ابن بشكوال،خلف بن عبد الملك،االدار المصرية للتأليف 1966.
ابن الطراوة النحوي عياد عيد الثبيتي، مطبوعات نادي الطائف الأدبي، ط1، 1983.
عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس مُحَمَّد عبد الله عنان، لجنة التأليف والنشر، القاهرة، ط1،1964.
علل النحو لأبي الحسن الوراق تحقيق د. محمود الدرويش،مكتبة الرشد،ط1، الرياض، 1999.
فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين، لأبي بكر مُحَمَّد بن خير الأشبيلي، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة 1997.
كتاب سِيْبَوَيْه، أبو بشر عمرو بن عثمان تحقيق عبد السلام هارون، عالم الكتب، بيروت.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة مكتبة المثنى، بغداد.
كشف المشكلات وإيضاح المبهمات لجامع العلوم الباقولي، تحقيق د. مُحَمَّد أحمد الدالي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
كشف المشكل في النحو للحيدرة، تحقيق هادي عطية، مطبعة الإرشاد، ط1،بغداد،1984.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري،رتبه مصطفى حسين أحمد، دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي، ط3، 1978
الكناش في فني النحو والصرف للملك المؤيد الأيوبي صاحب حماة، تحقيق د. رياض الخوام،ط1، المكتبة العصرية، بيروت 2000.
لباب الإعراب للإسفراييني، تحقيق بهاء الدين عبد الوهاب، ط1، دار الرفاعي، الرياض 1984.
اللباب في علل البناء والإعراب للعكبري، تحقيق غازي طليمات وزميله، مطبوعات مركز جمعة الماجد، دار الفكر، ط1، 1995.
اللمع في العربية لابن جني، تحقيق د. فائز فارس، دار الكتب الثقافية، الكويت.
مجالس العلماء للزجاجي،تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، دار الفاعي،ط2، القاهرة 1983.
المجيد في إعراب القرآن المجيد للصفاقسي، تحقيق موسى مُحَمَّد زنين، ط1، منشورات كلية الدعوة الإسلامية 1992.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد الله الأنصاري وزميليه، ط1، الدوحة 1984.
المحصل في كشف أسرار المفصّل للإمام يحيى بن حمزة العلوي، مخطوط محفوظ في صنعاء، الجامع الكبير، مكتبة الأوقاف رقم 1731، 1732 نحو.
المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق: مُحَمَّد كامل بركات، منشورات مركز البحث العلمي، مكة المكرمة 1984.
معاني القراءات لأبي منصور الأزهري،حققه الشيخ أحمد فريد المزيدي،منشورات مُحَمَّد علي بيضون،ط1،دار الكتب العلمية 1999.
معاني القرآن للفراء، تحقيق مُحَمَّد علي النجار وأحمد نجاتي، ط3، بيروت 1983.
معاني القرآن وإعرابه للزجاج تحقيق عبد الجليل شلبي، عالم الكتب بيروت 1983.
المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي ابن الأبار، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري، تحقيق مُحَمَّد محيي الدين عبد الحميد،دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المقتصد في شرح الإيضاح، عبد القاهر الجرجاني،تحقيق كاظم بحر المرجان، منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دار الرشيد، 1982.
المقتضب للمبرد، تحقيق مُحَمَّد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت.
المقرب لابن عصفور، تحقيق: أحمد الجواري وعبد الله الجبوري،وزارة الأوقاف، لجنة إحياءالتراث الإسلامي، مطبعة العاني، بغداد، 1971.
الملخص في ضبط قوانين العربية لابن أبي الربيع،تحقيق د. علي بن سلطان الحكمي، ط1،1985.
نتائج التحصيل في شرح كتاب التسهيل للدلائي، تحقيق د. مصطفى الصادق العربي، بدون.
نتائج الفكر في النحو للسهيلي، تحقيق د. مُحَمَّد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، القاهرة 1984.
النكت الحسان في شرح غاية الإحسان لأبي حيَّانَ الأندلسي، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1988.
النكت في تفسير كتاب سِيْبَوَيْه للأعلم الشنتمري، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان،منشورات معهد المخطوطات العربية،ط1،الكويت1987.
هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين إسماعيل باشا البغدادي، مكتبة المثنى بغداد.
همع الهوامع في شرح جمع الجوامع للسيوطي تحقيق عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت 1987.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.(12/43)
،وهو يأخُذُ بالقِرَاءاتِ الشاذَّةِ،ويَعْتَدُّ بها،فيجْعَلُ منها أصْلاً في السماع، وذلكَ كَمَا في قِراءَةِ "قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرِينَ "، فَأَجَازَ بهذِه القِراءَةِ نَصْبَ التابِعِ في النداءِ حَمْلاً عَلى المَوْضِعِ، وهو رَأيُ المَازني.
5 يَهْتمُّ ابنُ الباذِش بالعِللِ الأولى، ولا يأخُذُ بالثواني ومَا يَليها مِنْ عِلَلٍ، فهو كَبَقِيّةِ النُّحَاةِ في الأخْذِ بالعِلةِ،وقد ذَكَرْتُ له جُمْلةً مِنْ العِللِ، مِنْها عِللٌ خَاصَّةٌ بابنِ الباذِش كعِلَّةِ مَجيءِ (أيّ) المَوصولةِ بَعدَ المُستقبلِ، فالكِسائِي تَرَكَ الأمْرُ دونَ تَعْليلٍ وتَصَدّى لتعليلِها ابنُ الباذِش مُحاولاً إيجَادَ تفسيرٍ لهذا الحُكمِ أو ذاك،ومِنْها عِللٌ قديمةٌ بثوبٍ جَديدٍ، وهي ضِمْنَ المُحاوَلاتِ لفَهمِ أو تفسيرِ الأحْكامِ المَوْجودَةِ في كتابِ سِيْبَوَيْه، ومن ذلكَ العِلَّةُ الرَّافِعَة للاسْمِ وغيرها، ومنها ما هو مُتَابَعَةٌ لغيرِه في التعليلِ.
6 وجدتُ ابنَ الباذِشِ يَتفردُ في بَعضِ الأحْكامِ النَّحْويَّةِ، ويقوم بترجيحِ الرأي المناسب معتمداً على الأصولِ النحوية وقوّة البرهان، وأذكُرُ في هذا المَوضعِ بعض الأحكام التي تفرّد بها ابن الباذش:
تَوْجيهُ رأيِ سيبويه في العِلَّةِ الرَّافِعَةِ للاسْمِ.
عِلَّة مَجيء (أيّ) الموصولة بعد المستقبل.
العامل في المضاف إليه.
تَعلّقُ لام المستغاثِ له.
جواز التنازع إذا كان المتنازع فيه سببياً مرفوعاً.
تأويله لإفراد كاف الخطاب عند خطاب الجماعة.
دلالة ربّ.
جواز (هما يفعلان) للمؤنُّث.
علمية جُمَع وكُتَع.(12/44)
سادساً: هناك خِلافٌ بينَ ابن الباذِشِ وابنِ الطراوَةِ يتَمَثّلُ في أنّ ابنَ الباذِشِ معْجبٌ بالفارسيِّ وإيضاحِه وكتبه الأخرى، وينقدُ كِتابَ الكافي للنحّاسِ،أمَّا ابنُ الطّراوَةِ فهو مُعْجَبٌ بكُلِّ الكتبِ النَّحْويّةِ، وقامَ بمَدْحِ كتابِ سيبويه والمقتضبِ والأصولِ والجُمَلِ والكافي في كِتابِه الإفصاح، وذَمَّ كتبَ الفارِسِيِّ وابنِ جِنِّي، هذا هو الخِلافُ النَّحْويُّ الظاهري المَوجودُ بينَ الشَّخْصِيَّتَيْن،والذي أَرَاهُ أنَّ الخِلافَ بينَهما في النَّشأةِ،فابنُ الباذِشِ كانَ عالماً وَرِعاً مُلتزِماً،وكانَ إمامَ الفَرِيضةِ في جَامِع غرناطةَ، أَمَّا ابنُ الطَّراوَةِ فلمْ يَنْشأ هذه النَّشْأةَ التي نَشَأها ابنُ الباذِشِ،والذي يُروَى عنه أنَّه كَانَ له مَجْلسُ شربٍ، وكانَ يقولُ الشعرَ فيمن يهوى، وهذه النشأةُ ولّدَتْ عندَهما شيئاً مِنْ التنافُسِ والنِّدِّيَّةِ، وأرى أنّ لها الأثرَ الكَبيرَ في الخِلافِ بينهما.
الحواشي والتعليقات(12/45)
التنغيم في التراث العربي
د. عليان بن محمد الحازمي
الأستاذ المشارك بقسم اللغة والنحو والصرف
كلية اللغة العربية جامعة أم القرى
ملخص البحث
تهدف هذه الدراسة إلى بيان التنغيم ووظيفته. وتوضح أن التنغيم ليس محصوراً في اختلاف درجات الصوت التي ينشأ عنها ارتفاع النغمة أو هبوطها. ولكن ترى أن التنغيم يحدث من كل ما يحيط بالنطق من وقف، وسكت، وعلو صوت، ونبر. واتباع سنن أهل اللغة في أدائها. لذا يرى البحث أن للتنغيم وظيفتين:
1 - وظيفة أدائية، بها يتم نطق اللغة حسب النظام المتعارف عليه عند أهلها، من حيث الالتزام بطرق أدائها، لأنه لو لم يلتزم بها يصبح نطقه وكلامه غير واضح ولبدا غريباً عند أهلها.
2 - وظيفة دلالية وهو أن التنغيم له تأثير على بيان وتوضيح الدلالات المختلفة ومقاصد الكلام.
كما بينت هذه الدراسة إلى تنبه علماء العربية إلى أهمية التنغيم وأشارت إلى الحاجة إلى دراسة طرق الأداء المختلفة عند القراء من وقف، وسكت، ووصل، ومد حيث أنها تحمل عند النطق بها تنغيمات مختلفة. وأوضحت الدراسة أن النحاة عند استنباطهم لقواعد اللغة لم يهملوا دلالة التنغيم فقد اعتمدوا على مشافهة الفصحاء والسماع منهم وعلى ضوء سماع نطقهم وضعوا القواعد. وكان نطقهم يحمل تنغيماً معيناً. كما في كم الخبرية وكم الاستفهامية، والاستفهام والتعجب والإغراء والتحذير.
***
التنغيم واللغة العربية
مقدمة
إن الاهتمام بالأداء والنطق من أهم الجوانب التي أكد عليها ((علم اللسانيات)) . فدراسة الأصوات، ومعرفة أقسامها، وصفاتها، وما يعرض لها من تأثير، هي البداية الأولى لمعرفة وإتقان أي لغة من لغات البشر، والأساس الذي تنطلق منه أي دراسة لغوية.(12/46)
والأداء الصحيح للغة، ونطقها له أسس ومعايير، دوّنها العلماء، ينبغي أن تلقن وتعرف. فالانحراف عن النطق المتعارف عليه عند أصحاب اللغة، يؤدي غالباً إلى اختلاف المعاني وتباين المقاصد. ناهيك عن عدم وضوح
المعنى. فمعرفة طرق الأداء والنطق الصحيح، لا يقل في أهميته عن معرفة علم النحو. وللسانيات قدم راسخة في دراسة أساليب الأداء في اللغات، كان من ثمراتها استحداث واستنباط مصطلحات علمية في مجال دراسة الأصوات كالمماثلة، والنبر، والتزمين والتنغيم إلى غير ذلك. والأصل في اللغة أن تكون منطوقة، ((يعبر بها كل قوم عن أغراضهم)) (1) . والكتابة ما هي إلا صدى ومحاولة لنقل وتصوير المنطوق؛ لذا ابتكرت اللغات من الوسائل ما يجعل المكتوب مقارباً للمنطوق. استعانت أحياناً بوضع علامات ورموز سنتحدث عنها يما عد تعين على توضيح المراد وبيان لمطلوب. التنغيم
((Intonation)) أحد المصطلحات التي ترد في علم الأصوات. ويهتم به معلمو اللغات. ويلقنونه الدارسين عند تعلمهم اللغات. ويحاولون أن يجعلوه سجية، وملكة في طبائعهم؛ لأن أي انحراف عنه قد يؤدي إلى عدم وضوح المعنى، وتعثر في فهم كلام المتحدث.
__________
(1) ابن جني الخصائص ج1 ص 33.(12/47)
وهذه الدراسة تحاول أن تكشف عن أهمية التنغيم في أداء اللغة، ومدى تنبه علماء العربية له. وتوضح في الوقت نفسه بأن كثيراً من معطيات اللسانيات لم تكن بعيدة عن تصور أذهان لغويينا. فليست عقول القوم بأذكى وأقوم من عقول سلفنا. فلقد أثبت كثير من المنصفين (1) بما لا يدع مجالاً للشك بنجابة فهم اللغويين العرب لظواهر اللغة وحسن تعليلهم. إن قراءة التراث العظيم الذي خلفه علماؤنا بتمعن ليقفنا على مدى مالهم من وقفات تعكس براعتهم في التحليل والتفسير والاستنباط. كما أنه يتعين علينا أن ننبذ الحساسية التي ترى أن ((اللسانيات)) علم بعيد عن تراثنا، وأنه تنفس في أجواء غريبة. فاللسانيات وإن كانت نتاجاً غير عربي، فإنه لا يستبعد أن تكون قد هبت عليها رياح من نتاج الأمم الأخرى فتأثرت به. فلقد كان لعلماء الساميات أثر في تقديم قواعد اللغة العربية لأممهم، كما أن لدارسي الإسلام والعربية من المستشرقين أياً كانت توجهاتهم نصيباً في إعطاء ملامح عن التفكير العربي في مختلف الميادين. [فهذا حمزة قبلان المزيني يتلقى رسالة من نعوم تشومسكي رائد المدرسة اللغوية التحويلية رداً على استفسارات بعث له بها اعترف فيها أنه اطلع واستفاد من التراث اللغوي العربي] . كما أن فيرث رائد المدرسة اللغوية الانجليزية استفاد أيضاً من اطلاعه على اللغات الشرقية حيث أن تحليله الذي اهتم فيه بالأصوات ((البروسودي Prosodies)) (2) استقاه من الهنود عندما كان أستاذاً في جامعة البنجاب. لذا يتحتم علينا أن نؤصل ما جاء في تراثنا ونقدمه بما يتوافق
__________
(1) انظر على سبيل المثال التراث النحوي العربي الإسلامي: نحوي عربي من القرن الثامن الميلادي، مساهمة في تاريخ اللسانيات ميخائيل ج. كارتر، تعريب محمد رشاد الحمزاوي ص 179 من قضايا المعجم العربي قديماً وحديثاً.
(2) البروسودي يطلق عليه كمال بشر التطريز الصوتي، وآخرون يطلقون عليه النظم. انظر(12/48)
وحس العصر مع الاهتمام بما يفيد لغتنا في حاضرها ومستقبلها. من هنا جاءت مصادر هذا البحث متعددة ومتنوعة. فقد أفاد من كتب التراث العربي، ومن الدراسات اللغوية المحدثة التي كتبها اللغويون العرب الذين اطلعوا على اللسانيات، كما اعتمد على آراء في مصادرها الأصلية.
معنى التنغيم:
يعد إبراهيم أنيس أول من أدخل مصطلح التنغيم في الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، وسماه ((موسيقى الكلام)) ، حيث ذكر ((أن الإنسان حين ينطق بلغته لا يتبع درجة صوتية واحدة في النطق بجميع الأصوات، فالأصوات التي يتكون منها المقطع الواحد، تختلف في درجة الصوت وكذلك الكلمات قد تختلف فيها.... ويمكن أن نسمي نظام توالي درجات الصوت بالنغمة
الموسيقية)) (1) .
فالتنغيم مصطلح لساني يقابل لفظ ((Intonation)) يقول روبنز معرفاً التنغيم: ((تتابعات مطردة من الدرجات الصوتية المختلفة)) . ويقول دانيال جونز: ((التنغيم ربما يُعَرّفُ بأنه التغيرات التي تحدث في درجة نغمة الصوت في الكلام والحديث المتواصل، هذا الاختلاف في النغمة يحدث نتيجة لتذبذب الأوتار الصوتية)) (2) ،فالتنغيم مرتبط بالاهتزازات التي تحدثها الأوتار
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 176.
(2) An Outline of English Phonetics, p. 275(12/49)
الصوتية، فكلما زادت عدد الاهتزازات وكانت ذات سرعة كان عدد التغيرات في التنغيمات أوضح. والملاحظ أن إبراهيم أنيس أخذ مصطلح التنغيم من اللسانيات التي ترى التنغيم هو أحد سمات الأداء الذي لابد من وجوده في أي لغة. فاختلاف نغمات الكلام شيء طبيعي في اللغة التي لابد أن تحتوي على ((موسيقى نغمات)) تتألف منها ألفاظها. يقول تمام حسان ((التنغيم ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الكلام)) (1) . ويقول ((إن الكلام لا يجري على طبيعة صوتية واحدة بل يرتفع الصوت عند بعض مقاطع الكلام أكثر مما يرتفع عند غيره وذلك ما يعرف باسم التنغيم)) (2) .
لذا فإن كل جملة أو كلمة ينطق بها لابد أن تشتمل على درجات مختلفة من درجة الصوت، ما بين عالية، ومنخفضة، ومستوية، ومنحدرة تتناسق وتتناغم لتُؤَدّي الكلمة والجملة. فاختلاف درجة الصوت في الكلمة وتباينها من مقطع إلى مقطع آخر قاعدة عامة تخضع له جميع اللغات. إذ أنه من المستحيل أن نجد لغة تستعمل نغمة واحدة في الكلمة أو الجملة وتجعلها سائدة في كل أجزاء الجملة، فلابد أن تكون هنالك عدة نغمات متآلفة متناسبة في الكلمة. وقد أشار العلماء إلى أنواع النغمات ما بين هابطة إلى أسفل وصاعدة إلى أعلى وثابتة مستوية (3) ، كما حددوا الوظيفة الأصواتية للتنغيم بأنها ((النسق الأصواتي الذي يستنبط التنغيم منه)) (4) .
__________
(1) مناهج البحث في اللغة ص 164.
(2) البيان في روائع القرآن ص 263.
(3) مناهج البحث في اللغة ص 166.
(4) مناهج البحث في اللغة ص 164.(12/50)
فاختلاف التنغيم وتغير النغمة في اللفظ أو الجملة المنطوقة شيء طبيعي ويمكن أن نطلق عليه ((التنغيم الطبيعي)) وهذا يوجد في كل اللغات إذ به ينسجم الأداء المطلوب، وليست له أي وظيفة دلالية. ولكن المتحدث باللغة، أي لغة كانت، لابد له من إتقان هذا النوع، لأنه إذا لم يستعمله أصبح نطقه متنافراً لا يتفق مع طبيعة اللغة وقياسيتها عند أهلها. فعدم إتقانه يجعل المتحدث يبدو غريباً عند أهل اللغة. وربما وقع في خطأ وبدا حديثه غير مفهوم، والسبب يرجع إلى عدم التزامه بمقياسية نغمات ألفاظ اللغة.
التنغيم واللغات:
قسم العلماء اللغات إلى نوعين:
1 - لغات نغمية ((Tone Languages)) وهي لغات يتحدد معنى الكلمة فيها عن طريق النغمة، حيث أن الاختلاف في درجة الصوت على الكلمة المنطوقة هو المسؤول عن تحديد معناها. ويظهر هذا في اللغة الصينية، فاللفظ ينطق بنغمات مختلفة وبها يتحدد المعنى. يقول أحمد مختار عمر ((إن اختلاف درجة الصوت في هذه اللغات يساعد على تمييز كلمة من أخرى)) (1) .
2 - لغات تنغيمية ((Intonation Languages)) وتمثلها اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية إذ ان الجملة تتعدد دلالاتها باختلاف التنغيمات التي تنطق. فطرق الأداء التي بها يتم نطق الجملة له أثر كبير في المعاني المراد
إبلاغها. يقول أحمد مختار عمر ((ونوع يسمى بالتنغيم وهنا تقوم درجات الصوت المختلفة بدورها المميز على مستوى الجملة أو العبارة أو مجموعة الكلمات)) (2) . وهذا ما جعل اللغويين الإنجليز أتباع مدرسة فيرث يهتمون اهتماماً كبيراً بإرساء قواعد التنغيم. يقول روبنز ((لا تجد لغة من اللغات إلا وتستخدم درجات مختلفة من الصوت ((Pitch)) (3) إنها المسؤولة عن التنغيم.
__________
(1) دراسة الصوت ص 192.
(2) دراسة الصوت ص 192.
(3) R. H. Robins: General Linguistics 111.(12/51)
واختلاف درجة الصوت موجود في جميع اللغات إلا أن الوظيفة التي تؤديها يختلف من لغة إلى أخرى كما أن الأشخاص يختلفون أيضاً فيها ولكن مع هذا يوجد نوع عام للتنغيم يميز نطق كل لغة. وهذا ما جعل أتباع المدرسة اللغوية الانجليزية يؤكدون على دراسة الأصوات وما يتعلق بها من نبر وتزمين. فبعض المقاطع تكون أكثر جهارة ووضوحاً؛ لأن المقطع المنبور يحمل نغمات أكثر من المقطع غير المنبور. يقول روبنز ((المقطع المنبور تكون نغمته أعلى من المقطع المتوسط أو غير المنبور)) (1) .
فالدراسة الأصواتية وما اصطلحت عليه مدرسة فيرث بالتحليل البروسودي ما هو إلا وسيلة يتوصل به إلى معرفة المعنى. فالمعنى أهم ما تسعى إليه الدراسة اللغوية. يقول تمام حسان ((لأن كل دراسة لغوية - لا في الفصحى فقط بل في كل لغة من لغات العالم - لابد أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وكيفية ارتباطه بأشكال التعبير المختلفة)) (2) .
وظيفة التنغيم:
لاشك أن للتنغيم وظائف يقوم بها، منها:
1 - وظيفة أدائية بها يتم نطق الجملة في اللغة حسب نظم الأداء فيها وحسب ما يقتضيه العرف عند أهل اللغة.
2 - وظيفة دلالية بها يتم معرفة المعاني المختلفة ورغم أن هاتين وظيفتان مختلفتان إلا أنه لا يمكن أن نفصل الوظيفة الأدائية عن الدلالية. فهما متلازمتان ومتكاملتان. لذا فإن إيجاد قواعد عامة توضح التنغيم، وأهمية ما يسمى بدرجة الصوت ((Pitch)) وتتابعها إنما هو على سبيل المقاربة. فالتنغيم - في رأينا - مجموعة معقدة من الأداء الصوتي بما يحمل من نبرات، وفواصل صوتية، وتتابع مطرد للسكنات والحركات، التي بها يحدث الكلام وتتميز دلالاته.
__________
(1) op. cit, 150.
(2) اللغة العربية معناها ومبناها ص 6.(12/52)
وهذا ما دعا ديفيد كريستال إلى القول ((ليس التنغيم نظاماً متفرداً من المناسيب يأتي في نهاية الجملة ولكن خصائص معقدة من مختلف الأنظمة البروسودية)) تشمل النغمة، درجة الصوت، المدى، علو الصوت، التزمين. هذه الأمور كلها مجتمعة تأتي متناغمة ذات إيقاع)) (1) . ((ولقد ظل الدارسون مترددين في حصر التنغيم فقط في حركة درجة الصوت ((Pitch)) بيد أنه عندما يسأل ما أثر التنغيم في توجيه المعنى حينئذ معايير أخرى غير درجة الصوت يشار إليها على أنها جزء مهم وأساس في التأثير على المعنى)) (2) .
فالتنغيم أوسع من أن يحصر في ما يسمى بهبوط النغمة، أو صعودها، ولكن كل ما يحيط بالنطق من طرق الأداء. هذه الطرق تشمل الوقف، والسكت، علو الصوت، نبر المقاطع، وطول الصوت وغير ذلك، ثم أن التنغيم يقتصر على التراكيب المسموعة دون التراكيب المقروءة. فالأداء وما يحمل من نبرات، وتنغيمات، وفواصل له أثر كبير في نفوس السامعين، ومتابعتهم، وحسن إصغائهم، وفهم المراد. ولقد تناول سليمان بن إبراهيم العايد ذلك في مقال ((القراءة الجهرية بين الواقع وما نتطلع إليه)) يقول: ((فأنت حين تقول ((اُخرج!)) وأنت تأمر أمراً عادياً لك أداء يختلف عنه حين تقولها وأنت تنهر شخصاً وتطرده. ومثلها ((قم!)) في الحالين، وكذلك حين تأتي باستفهام تريد به مجرد الاستفهام، أو تريد به الإنكار، أو التعجب، أو التقرير)) (3) .
__________
(1) D. Crystal: Intonation, p. 110.
(2) op. cit, p. 110.
(3) التراث: العدد الأربعون، السنة الثانية والعشرون؛ جريدة البلاد السنة 69 العدد 15826 الخميس 10 شعبان 1420 هـ(12/53)
والتركيز على حسن الأداء جزء من دراسة الأصوات وطرق أدائها فإبراهيم أنيس يرى ((لطول الصوت أهمية خاصة في النطق باللغة نطقاً صحيحاً، فالإسراع بنطق الصوت أو الإبطاء به يترك في لهجة المتكلم أثراً أجنبياً عن اللغة ينفر منه أبناؤها)) . ويقول: ((فالصوت المنبور أطول منه حين يكون غير منبور وانسجام الكلام في نغماته يتطلب طول بعض الأصوات وقصر البعض الآخر)) (1) . إن وضوح المعاني يتطلب أموراً كثيرة: منها أحكام بناء الجملة، فالإعراب الذي يظهر على أواخر الكلم هو من صميم الأداء يقول محمد إبراهيم البنا: ((الإعراب بيانات أدائية تحقق الوضوح لأبنية التركيب)) (2) .
فالتنغيم عنصر مهم من عناصر الأداء، وعدم إتقانه يؤدي إلى عدم الوضوح كما أشرنا (ص 7) . وقد يحدث أن يتحدث إليك من لا يتقن اللغة ولا يجيد أداءها فلا تعرف ما يريد أن يقوله، والسبب في ذلك يعود إلى أنه لا ينطقها بما هو متعارف عليه من التنغيم. إن حسن الأداء لا يتأتى إلا باتباع سنن أهل اللغة في النطق، والاهتمام بالجانب التطبيقي، والتعود على مجاراة الفصحاء، والسماع للقراء المجودين. فالقراءات التي نسمعها من القراء من وقف، ومد، وسكت، ومدود مختلفة هي التنغيم. هذه الجوانب المشرقة في تراثنا، يجب أن نضع أيدينا عليها، لأن حسن الأداء ووضوح المعاني من أهم ما سعى إليه علماء العربية.
التنغيم ودلالاته:
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 156.
(2) الإعراب سمة الفصحى ص 5.(12/54)
للتنغيم وظيفة أصواتية وتتمثل في انسجام الأصوات، حيث تكتمل فيه النغمات وتتآزر مؤدية المعاني والمقاصد. وقد أشرنا (ص 9) إلى أن التنغيم أوسع من أن يحصر. ((فالوظيفة الدلالية يمكن رؤيتها لا في اختلاف علو الصوت وانخفاضه فحسب ولكن في اختلاف الترتيب العام لنغمات المقاطع)) (1) . فإذا قلت جاءَ محمدٌ قد تكون إثباتاً وقد تكون تأكيداً لمن قام بالحدث. والمعول عليه هنا النطق واختلاف طرق الأداء. وقد أكد تمام حسان هذا بقوله عندما تحدث عن التنغيم ((وربما كان له وظيفة نحوية هي تحديد الإثبات والنفي في جملة لم تستعمل فيها أداة الاستفهام فتقول لمن يكلمك ولا تراه: أنتَ محمدٌ، مقرراً ذلك ومستفهماً عنه وتختلف طريقة رفع الصوت وخفضه في الإثبات عنها في الاستفهام)) (2) .
فدلالة التنغيم تظهر في الجمل المنطوقة ((فكم)) تكون استفهامية، وتكون خبرية، والذي يحدد ذلك هو النغمات الصوتية التي يتم بها الأداء. وبيت الشاعر الفرزدق خير مثال على ذلك:
كم عمةًٍ لك يا جرير وخالة
فدعاء قد حلبت عليّ عشاري
إن الفرق بين دلالة الاستفهام والخبر تتضح في النغمة المرتفعة في الاستفهام والمستوية في الخبرية.
كم عمةٍ كم عمةً
مستوية مرتفعة
خبرية استفهامية
يقول سلمان العاني ((إن الفرق الرئيسي بين هاتين الأداتين يوجد في المعنى الذي هو الفرق بين الاستفهام للعلم بما يجهله المتكلم ويعلمه السامع المخاطب، والإخبار الذي يعلمه المتكلم علم اليقين ويجهله السامع أو المخاطب ويوجد كذلك في المبنى وهذا ماثل في الحركة الإعرابية ... وفي النغمة الصوتية التي هي في الإخبار نغمة صوتية مستوية بينما هي ذات نغمة صوتية صاعدة في معنى الاستفهام)) (3) .
__________
(1) مناهج البحث ص 164.
(2) المصدر نفسه ص 164.
(3) S. H. Alani, Arabic Phonology , p.92 , 96(12/55)
فمن مظاهر التنغيم أنه يزيل اللبس عن معنى الجملة وبه يدرك الفرق بين المعاني. وهذا يتأتى بإتقان مجموعة طرق الأداء في النطق تتمثل في النبر، والوقف، والسكت والإيقاع، ووصل بعض الكلام، واختلاس بعض الأصوات والاستغناء عن بعضها ومد بعضها لتكون واضحة. هذه الأمور هي علامات بارزة وهي ما يكوّن التنغيم. فالمتكلم قد يهدف بحديثه وتتابع نغمات كلامه العتابَ، أو الاستحثاثَ، أو لفتَ النظرِ، أو الامتعاضَ إلى غير ذلك.
التنغيم وعلماء العربية:
ذكرنا فيما سبق أهمية التنغيم ودوره في تعيين الدلالة. وأوضحنا أن مفهوم التنغيم لا يمكن حصره في درجة الصوت فقط ((Pitch)) ولكنه مجموعة من الاتحادات الصوتية بها يتم تحقيق الأداء الصحيح. كالنبر، والسكت، والوصل ومد بعض الأصوات، واختلاس بعضها التي بها يتم الانسجام ويتحقق التنغيم. وقد فطن إبراهيم أنيس إلى الآثار التي يتركها طول الصوت وقصره وتحقيقه عندما قال ((وانسجام الكلام في نغماته يتطلب طول بعض الأصوات وقصر البعض الآخر)) (1) .
هذه الأمور مجتمعة هي التنغيم. لذا اهتم العلماء بطرق الأداء. ولعلماء القراءات إسهامات متميزة في هذا المجال، فاللحون التي نسمعها من القراء المجودين لقراءات القرآن الكريم هي التنغيم. فالإشبتاع مثل إشباع الفتحة في آخر الآيات الكريمات الآتية:
(وتظنون بالله الظنونا ((2) .
(يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ((3) .
(فأصلونا السبيلا ((4) .
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 156.
(2) سورة الأحزاب، آية 10.
(3) سورة الأحزاب، آية 66.
(4) سورة الأحزاب، آية 67.(12/56)
نوع من التنغيم يؤدي إلى البيان والوضوح والتأكيد على تأصل الكفر. بل إن هاء السكت التي تلحق الكلمات المنتهية بياء المتكلم كتابيه، حسابيه، سلطانيه هي نوع من التنغيم الذي يشير إلى استراحة النفس وذلك بالوقف على هاء السكت ومن ثم يعدل عن الإعراب وبيانه. كما أن القسم لاشك له دلالة التأثير لكن يصاحب القسم نغمة يؤدي بها هذه النغمة، وإن كانت أغفلت لوضوح أن القسم له دلالته، فإن هذه النغمة تكون دائماً مصاحبة للقسم. فقوله تعالى: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ((1) يدل على التأكيد ((وقد يساق الموصول مساق التعظيم بسبب ما يحتمله التعميم من التهويل والتضخيم والتكريم)) (2) .
إن الجوانب المشرقة التي نراها في اهتمام علماء القراءات بطرق أداء القرآن الكريم وتجويده تقفنا على كمٍّ من المصطلحات التي تحمل في جنباتها آليات التنغيم ودرجاته. فقراءة التحقيق هو ((إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمز، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف وهو بيانها وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة)) (3) .
والتجويد هو ((الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين)) (4) . لذا اهتموا بالوقف، وبيان ما يحسن منه وما يقبح؛ لأن الوقف استراحة يقوم بها القارئ، فقد يضطر أن يقف لئلا ينقطع نفسه، فما كان منهم إلا أن أشاروا وبينوا أنواع الوقف فصنفوا المطولات والمختصرات توضح مواطنه لكيلا يوقف على ما يخل بالمعنى.
__________
(1) سورة الرعد، آية 1.
(2) روائع البيان ص 365.
(3) النشر في القراءات العشر ج1 ص 293.
(4) النشر ج1 ص 299.(12/57)
والذي يعنينا بيانه هنا هو أن النطق والأداء يعتمدان على النفس، والوقف استراحة يلجأ إليها المتكلم ليعاود استئناف كلامه فيما بعد. وما بين استمرار الكلام والوقف والاستئناف نغمات وتسلسل صوتي يدركها السامع وتعيها الأذن المدربة؛ لذا فرق العلماء بين الوقف والسكت، ((فالوقف قطع الصوت على الكلمة زمناً يتنفس فيه)) (1) ، وهذا ما ينشأ عنه في رأينا ما يسمى بالنغمة المنحدرة في أغلب الأحيان. بينما السكت ((قطع الصوت زمناً وهو دون زمن الوقف عادة من غير تنفس)) (2) وهذا ما ينشأ عنه النغمة المستوية كما في قوله تعالى: (الحمد لله لاذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر … (فالسكت الذي على ((قيّماً)) نغمة مستوية ترتفع بعد معاودة القراءة.
إن أنواع الوقف تحتاج إلى دراسة تؤخذ من قراءة القراء المجودين لأن النغمات التي تنشأ عنها متباينة وتؤدي معاني مختلفة لاحظها علماء القراءات (3) . يقول محمد الصادق قمحاوي ((به يعرف الفرق بين المعنيين المختلفين والنقيضين المتنافيين والحكمين المتغايرين)) .
كذلك السكت أنواع حيث ذكر العلماء السكتة اليسيرة، والقصيرة والمختلسة من غير إشباع، والسكتة اللطيفة من غير قطع (4) .
كل هذا - في رأينا - يحدث عنه نغمات أقل ما يقال عنها أنها مختلفة في درجاتها. وقد أبان ابن الجزري المعاني التي تنشأ عن السكت عندما قال:
وجه السكت في ((عِوَجا)) قصد به بيان أن قيماً بعده ليس متصلاً بما قبله في الإعراب. وفي ((مَرْقَدِنا)) بيان أن كلام الكفار قد انقضى وأن قوله ((هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن)) ليس من كلامهم (5) .
__________
(1) النشر ج1 ص 334.
(2) النشر ج1 ص 337.
(3) البرهان في تجويد القرآن ص 57 وانظر الوقف والابتداء ص
(4) النشر ج2 ص 57.
(5) النشر ج2 ص 57.(12/58)
والحقيقة أن في كلتا السكتتين السابقتين نغمات مختلفة الأمر الذي لم يغفل عنه المحققون من علمائنا فوضحوه لئلا تلتبس المعاني ومن طريف ما ذكره محمود الطناحي عن أهمية الأداء وحسنه ما كان يفعله الشيخ عامر بن السيد عثمان بترويص المتعلمين لقراءة القرآن من إعطاء كل مقطع حقه من التنغيم وذلك بأن يقسم ((أضللن)) في قوله تعالى: (رب إنهن أضللن (إلى مقطعين يقول ((فكان شيخنا يقرأ أمامه ((أضللن)) على مقطعين هكذا ((أض)) ((للن)) ويكرر المقطعين منفردين ثم يقرأهما معاً حتى يخلص له الترقيق المراد. أما النبر فقد ذكر الطناحي أنه سأل الشيخ عامر عنه فأجابه بقوله: ((إن القراء لم يذكروا هذا المصطلح ولكنه بهذه الصفة يمكن أن يسمى ((التخليص)) أي تخليص مقطع من مقطع)) وذكر أمثلة سمعها من شيخه منها قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى الي الظل (وقوله تعالى: (فقست قلوبهم (وقوله عز وجل: (وساء لهم يوم القيامة حملاً (يقول: ((فأنت لو ضغطت على الفاء في الآية الأولى صارت من الفسق لا من السقي، وإن لم تضغط على الفاء في الثانية صارت من الفقس لا من القسوة أما في الآية الثالثة فلابد من أن تخلص ((ساء)) من ((لهم)) حتى يكون من السوء لا من المساءلة لو خطفها خطفة واحدة)) )) (1) .
التنغيم وعلماء النحو:
__________
(1) محمود الطناحي: مستقبل الثقافة العربية ص 117، 118، 119.(12/59)
لعلماء النحو وقفات ذكية تدل على تنبههم لما يحدثه التنغيم من توضيح وبيان للإعراب. وقد اطلعت على الدراسة الجادة التي قام بها أحمد كشك في كتابه ((من وظائف الصوت اللغوي)) وكنت قبل مطالعتي كتابه القيم ألقيت في عام 1400 هـ محاضرات في علم اللغة على طلابي بمرحلة البكالوريوس بقسم اللغة العربية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة ذكرت فيها أن ابن جني بحسه أدرك أهمية التنغيم في تفسير بعض المسائل الإعرابية عندما تعرض لقضية حذف الصفة في قولهم ((سير عليه ليل)) يقول: ((وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سير عليه ليل وهم يريدون ليل طويل وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها. وذلك إنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله طويل ونحو ذلك)) (1) .
كما أنك عندما تمدح إنساناً وتثني عليه وتقول: ((كان والله رجلاً فتزيد في قوة اللفظ ب ((الله)) هذه الكلمة وتتمكن من تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك)) (2) .
إن قول ابن جني ((فتزيد في قوة اللفظ ب ((الله)) وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها)) هو نطق الكلمة منغمة. كما أن النحاة قد استخدموا مصطلح الترنم للدلالة على التنغيم. فالترنم إنما هو مد الصوت وإطالته وهو ظاهرة تنغيمية يقول ابن يعيش: ((اعلم أن المندوب مدعو …)) ويقول: ولما كان مدعواً بحيث لا يسمع أتوا في أوله بياء أو واو لمد الصوت ولما كان يسلك في الندبة والنوح مذهب التطريب زادوا الألف آخراً للترنم (3) .
__________
(1) الخصائص ج2 ص 370، ص 371.
(2) المصدر نفسه ج2 ص 371.
(3) شرح المفصل ج2 ص 13.(12/60)
إن هذا ليدل على إدراك النحاة بأهمية التنغيم فالواو خصصت للندبة لما فيها من التفجع والحزن إذ ((المراد رفع الصوت ومده لإسماع جميع الحاضرين)) (1) إن هذه الإشارات التي ذكرها علماء العربية تدل على أنهم عرفوا لما للتنغيم من أهمية في إيضاح المعاني. فالفرق بين كم الاستفهامية وكم الخبرية، إنما تأتي أن كل واحدة منهما تحتوي على أداء معين بها تتميز. والنحاة عند استنباطهم واستخراجهم قواعد اللغة اعتمدوا على سماع كلام العرب، ففرقوا بينهما على أساس ما تشتمل عليه من نغمات. ومثل هذا نجده في صيغ التعجب وأساليبه القياسية والسماعية. فالنغمة التي في التعجب توحي بأن هنالك شيئاً خفياً حمل المتكلم على التعجب، وهو ضرب من الإيهام. وقد قال الزركشي نقلاً عن الرماني ((وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي)) (2) فصيغتا التعجب ((ما أَفْعَلَهُ)) و ((أَفعلْ بِهِ)) تشتمل الأولى على نغمة صاعدة ثم مستوية ثم منحدرة. أما أفعل به فمستوية ومنحدرة.
إن التنغيم هو الذي يفرق بين الإغراء والتحذير في قولك ((الرجلَ الرجلَ)) فإذا كانت النغمة مرتفعة فإنها تحذرك من الرجل وأما إذا نطقت بنغمة مستوية فإنها تدل على الإغراء. من هنا كانت إشارات ابن جني الذكية تدل على أهمية التنغيم فقد بين أن ((.. لفظ الاستفهام إذا ضامه معنى التعجب استحال خبراً. وذلك قولك: مررت برجل أي رجل. فأنت الآن مخبر بتناهي الرجل في الفضل، ولست مستفهماً)) (3) والذي يدل على ذلك إنما هو التنغيم الذي يجعل المتحدث يمد صوته عندما يقول أي رجل مستخدماً النغمة العالية المنتهية بالمنحدرة. ويذكر السيوطي ما حدث بين الكسائي واليزيدي حين سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الخليفة هارون الرشيد عن بيت من الشعر أنشده وقال له هل ترى فيه من عيب:
__________
(1) المصدر نفسه ج2 ص
(2) البرهان في علوم القرآن المجلد الثاني ص 317.
(3) الخصائص ج3 ص 269.(12/61)
لا يكونُ العيرُ مهراً لا يكون المهرُ مهرٌ
((فقال الكسائي قد أقوى الشاعر، لابد أن ينصب المهر الثانية على أنه خبر كان، فقال اليزيدي الشعر صحيح إنما ابتدأ فقال المهر مهر)) (1) .
هذه الحادثة تدل على أن المنشد قد سكت سكتة عند ((لا يكون)) الثانية ونطقها بنغمة عالية ومنتهياً بنغمة منحدرة ثم ابتدأ بقوله المهر مهر. ويظهر هذا جلياً عند التحدث والنطق وبالأخص عند إنشاد الشعر. فالأصل في اللغة أن تكون متحدثة ومنطوقة؛ لأن النطق يأتي أولاً والكتابة تمثل المرحلة الثانية، لأنها ما هي إلا صدى ومحاولة لرسم ما نطق. والكتابة غالباً ما تخفي بعض طرق النطق كالنبر والتنغيم لذا لجأ العلماء إلى وضع علامات ورموز عند الكتابة يسترشدون بها إلى النطق الصحيح.
وقد دُئِبَ عند طباعة المصاحف الكريمة إلى وضع علامات ورموز اصطلاحية تعين القارئ على القراءة الصحيحة المجودة. لأن تلك الرموز والعلامات لها دور كبير في إبراز وبيان مظاهر التنغيم من سكت، ومد،
__________
(1) كتاب الأشباه والنظائر ج3 ص 245؛ انظر أيضاً أحمد كشك: من وظائف الصوت اللغوي ص 61.(12/62)
ووقف، ووصل. كما أن علامات الترقيم في الكتابة العربية تقوم مقام التنغيم والأداء حيث أنها تيسر عملية الإفهام وتحدد ((مواضع الوقف، حيث ينتهي المعنى أو جزء منه، والفصل بين أجزاء الكلام، والإشارة إلى انفعال الكاتب في سياق الاستفهام، أو التعجب)) (1) . فالفاصلة تدل على أن يقف القارئ وقفة خفيفة. ولو لم يضع هذه الفاصلة لربما يلتبس المعنى. أما الفاصلة المنقوطة فإنها تتطلب أن يكون الوقف أطول وهي في رأينا تؤدي ما يقوم به التنغيم. أما علامة الاستفهام فإنها توضح ما إذا كانت الجملة استفهامية أو تعجبية مثل قولنا ((تعرف هذا وتسكت)) . وعلامة التأثر ((!)) ((تعبر عن الانفعالات النفسية، كالتعجب، والفرح، والحزن، والدعاء، والدهشة، والاستغاثة، ونحو ذلك)) (2)
__________
(1) عبد العليم إبراهيم: الإملاء والترقيم في الكتابة العربية ص 95.
(2) الإملاء والترقيم ص 102، 103.
المصادر والمراجع
أولاً العربية:
- الأشباه والنظائر في النحو، أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال أبو بكر جلال الدين السيوطي، حققه طه عبد الرءوف سعد، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية 1395 هـ - 1975 م.
- الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1961 م.
- الإعراب سمة العربية الفصحى، محمد إبراهيم البنا، القاهرة، دار الإصلاح 1401 هـ - 1981م.
- الإملاء والترقيم في الكتابة العربية، عبد العليم إبراهيم، دار المعارف، مصر.
- البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار الفكر 1400 هـ - 1980 م.
- البرهان في تجويد القرآن، محمد الصادق قمحاوي، عالم الكتب، بيروت 1414 هـ - 1994 م.
- البيان في روائع القرآن، تمام حسان، القاهرة، عالم الكتب 1412 هـ - 1993 م.
- الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني، حققه محمد علي النجار، دار الكتب المصرية
1376 هـ - 1956 م.
- دراسة الصوت اللغوي، أحمد مختار عمر، القاهرة، عالم الكتب 1396 هـ - 1976 م.
- دراسات في علم اللغة، كمال محمد بشر، القاهرة، دار المعارف 1986 م.
- شرح المفصل، موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش النحوي، بيروت، عالم الكتب.
- القراءة الجهرية بين الواقع وما نتطلع إليه، سليمان إبراهيم العايد، التراث، العدد الأربعون، جريدة البلاد، العدد 15826، 10 شعبان 1420 هـ.
- اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب 1973 م.
- مستقبل الثقافة العربية، محمود الطناحي، كتاب الهلال، القاهرة، العدد 581.
- مناهج البحث في اللغة، تمام حسان، الدار البيضاء، دار الثقافة 1974 م.
- من قضايا المعجم العربي قديماً وحديثاً، محمد رشاد الحمزاوي، تونس، دار الغرب الإسلامي 1986 م.
- من وظائف الصوت اللغوي، أحمد كشك، القاهرة، مطبعة المدينة 1403هـ - 1983م.
- النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري، قدم له وحقق نصوصه وعلق عليها، محمد سالم محيسن، القاهرة، مكتبة القاهرة.
- إيضاح الوقف والابتداء، أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، تحقيق محيي الدين رمضان، دمشق 1391 هـ - 1972 م.
الأجنبية:
- Alani, S. H. Arabic Phonology.
- Crystal, D.: Intonation , Penguin Books 1972.
- Firth, J. R. Papers in Linguistics , Oxford Universit , press 1957.
- Jones , Daniel. An Out Line of English Phonetics, Comblidge 1967.
- Robins, R. H. General Linguistics, Longman 1967.(12/63)
وخلاصة القول:
1 - أن التنغيم ركن أساسي في الأداء لا تخلو منه أي لغة من لغات البشر.
2 - إتقان التنغيم ومعرفته أمر بالغ الأهمية لما له من صلة بالمعنى فهناك وظيفتان للتنغيم وظيفة أدائية ووظيفة دلالية.
3 - لعلماء العربية إشارات ذكية تدل على تنبههم لما للتنغيم من أهمية في تفسير وتوضيح المعاني والإعراب.
4 - التنغيم ليس محصوراً فقط في درجة الصوت وإنما هو مجموعة معقدة من الأداء الصوتي بما يحمل من نبرات، وفواصل، وتتابع مطرد للسكنات والحركات التي يتم بها الكلام.
5 - التنغيم يقتصر على التراكيب المسموعة أما التراكيب المقروءة فقد استعاضت عنه ببعض رموز وعلامات الترقيم لتدل بها على الاستفهام والتعجب والاستغاثة والدهشة وغير ذلك.
6 - أنواع الوقف في القراءات تحتاج إلى دراسة لأن النغمات التي تنشأ عنها متباينة وتؤدي معاني مختلفة.
7 - إن أساليب الاستفهام والنداء والإغراء والتحذير التي تناولها النحاه بالدرس والتقعيد تحمل في طياتها عند النطق بها تنغيمات مختلفة.
8 - النحاة عند استنباطهم قواعد اللغة العربية اعتمدوا على السماع ومشافهة الفصحاء، وعلى ضوء سماعهم وضعوا القواعد، والعربي عند تحدثه كان يستعمل طرقاً معينة في أدائه ((تنغيمات)) . فالنطق بالإغراء له نمط معين وللتحذير أداء محدد وكذلك التعجب.
الحواشي والتعليقات(12/64)
أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره
حتى نهاية العصر العباسي الثاني
د. حمد بن ناصر الدخيِّل
أستاذ مشارك - قسم الأدب - كلية اللغة العربية
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض
ملخص بحث
أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره حتى نهاية العصر العباسي الثاني د. حمد بن ناصر الدخيل
الصحراء فضاء واسع ممتد، قَفْر، لا ماء فيها كالأنهار والجداول، قليلة الأمطار والنبات، ذات جوٍّ جاف. والصحراوات في قارات العالم كثيرة، من أشهرها صحراء العرب، وصحراء شمالي إفريقية المعروفة بالصحراء الكبرى. نشأ الشعر العربي في قلب صحراء العرب. وتدرج في نشأته وتطوره وازدهاره حتى وصل إلى مرحلة نضجه في الشعر الجاهلي.(12/65)
ويتناول هذا البحث أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي، ويتكون من مقدمة، وتمهيد. تحدثت فيه عن الصحراء المكان والإنسان، أردت بالمكان صحراء العرب، وأردت بالإنسان العربي الذي عاش في الصحراء، وأمضى حياته فيها، وتأثر في نمط عيشه وسلوكه وأخلاقه وعاداته وتقاليده ببيئة الصحراء وطبيعتها، ثم تحدثت عن نشأة الشعر العربي وأوليته، وعلاقة ذلك بالصحراء التي شهدت نشأة هذا الشعر، وهي بداية لا نستطيع تحديد زمنها تحديدًا دقيقًا. وانتقلت إلى دراسة مظاهر أثر الصحراء في الشعر العربي، ومن أبرز هذه المظاهر أثر الصحراء في اللغة، الذي تمثل في تزويد المعجم اللغوي بكثير من الألفاظ والمصطلحات، وفي مقدمة ذلك الأسماء والصفات التي أطلقت على الصحراء. وعرض البحث أيضًا لأثر الصحراء في موضوعات الشعر وأغراضه، التي حملها إلينا الشعر العربي. ومن أهم ذلك وصف طبيعة الصحراء مسالكها ودروبها وجوها ورياحها وأمطارها وحيواناتها وطيورها ونباتاتها، وما يتصل ببيئتها، وأنماط العيش والحياة فيها. تلا ذلك أثر الصحراء في مضمون الشعر من معانٍ وأفكار، وأثرها في صوره الفنية، وهي صور كثيرة استمدها الشاعر العربي من بيئة الصحراء ومناظرها، ونجدها ماثلة بصفة خاصة في شعر الجاهليين والأمويين، وفي شعر كثير من شعراء العربية عبر العصور الذين تأثروا بالشعر الجاهلي والأموي. ويستطيع الباحث من خلال هذه الصور أن يستنبط خصائص الصحراء وسماتها.
وختم البحث بخاتمة لخصت أهم نتائجه. ويعد هذا البحث مدخلاً لدراسات كثيرة تدرس أثر الصحراء في اللغة والأدب، وربما لدراسات تتناول أثر الاجتماعي والنفسي. ويأتي أيضًا ضمن اهتمام عدد من الباحثين والأدباء في الشرق والغرب بالصحراء ورصد ما لها من تأثيرات متعددة.
مقدمة(12/66)
أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره موضوع أدبي مهم، يصلح أن يكون عُنوانًا لكتاب ضخم، يفصل فيه الدارس مؤثرات الصحراء في الشعر العربي من حيث النشأة والتطور في الموضوعات والمعاني وفي اللغة والأسلوب، والصور والأخيلة والأوزان والقوافي، حتى استقام على الطريقة الشعرية المثلى التي وصلت إلينا في شعر امرئ القيس، وأوس بن حجر، والنابغة، وزهير، وطرفة بن العبد، وعنترة، والأعشى، وغيرهم من فرسان الشعر الجاهلي. وكانت واسطة عِقْده القصائد المطولات التي عرفت في اصطلاح بعض الأدباء بالمعلقات السبع أو العشر.
والدراسات والكتب التي صدرت عن الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي عامة تمثل مكتبة متكاملة؛ لأن أدب العصر الجاهلي يعد النواة الأولى لنشأة الأدب العربي ومسيرته في معارج التطور والازدهار. وكان الرواة والأدباء وعلماء اللغة الأوائل يعنون بهذا الأدب عناية خاصة – ولا سيما الشعر – ويرون فيه النموذج والمثل للشعر العربي الأصيل الذي ينبغي للشعراء أن يحتذوه وينسجوا على منواله. وأقوال الرواة في تفضيل الشعر الجاهلي على غيره كثيرة نجدها في طبقات فحول الشعراء، لمحمد بن سلام الجمحي (000 – 231هـ) ، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني (284 – 356هـ) ، والموشح للمرزباني (296- 384هـ) ، وسواها من مصادر الأدب.
وأثر الصحراء في الشعر والأدب عامة موضوع جدير بالبحث على كثرة ما كتب عن الشعر الجاهلي من دراسات وبحوث وكتب، تناولت بيئته وجغرافيته وتاريخه وشعراءه، وما يتبع ذلك من دراسة شعرهم دراسة موضوعية وفنية.
والحقيقة أن ما اطلعت عليه مما كتب عن الأدب والشعر في العصر الجاهلي ألمس فيه تأثير الصحراء، وألحظ أنها ماثلة قائمة في كل سطر من سطوره. ولكن تبقى الحقيقة المهمة الغائبة، وهي تتبع أثر الصحراء المباشر في الشعر بخاصة، وفنون النثر في الأدب الجاهلي بعامة.(12/67)
ولكن قبل أن يلج الدارس هذا الموضوع الأدبي الحيوي، لابد أن يمهد له بدراسة وافية عن بيئة الصحراء وطبيعتها وخصائصها، ونباتاتها وحيواناتها، وما يتصل بطبيعة الحياة فيها، واستخلاص الشعر الذي يوظف في موضوعاته ومعانيه وصوره ما تمتاز به الصحراء من دلالات ورموز، وهو شعر كثير غزير يدلنا على كثرته ما وصل إلينا منه، وهو غيض من فيض.
وسوف أتناول في هذا البحث موضوع الصحراء، المكان والإنسان، ثم نشأة الشعر العربي، وأثر الصحراء في تطوره وازدهاره في الموضوعات والمعاني والصور. ويبقى الموضوع على الرغم مما كتب فيه، وما صدر عنه من بحوث ودراسات في حاجة إلى دراسات أخرى تنطلق من حيث انتهت البحوث التي بين يدينا؛ لأن أثر الصحراء في الشعر العربي سيبقى مجالاً لدراسات مجددة مبدعة، تتناول أثرها الكبير من زوايا متعددة، وطروحات مختلفة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
الصحراء: المكان، والإنسان
للصحراء على الإنسان فضل لا ينكر في توجيه حياته وفكره وسلوكه، وهي مكان وظرف، ولكنها – على الرغم من ذلك – تركت أثرًا لا تمحوه الأيام من ذاكرة الإنسان، في تكوين حياته، وبناء مجده وحضارته، والإنسان ابن الصحراء تقلب في رحمها، وانطلق منها في تشييد حضارة الكون، وإضافة لبنات أساسية في صرح شموخها وعطائها وتوجهها، أكسبته قسوة الصحراء قوة، وبعثت فيه عزمًا لا يلين، ومنحته الذهن الثاقب والذكاء المتوقد، وخلعت عليه في اتساعها، واندياح جنباتها برود السماحة والكرم والخلق الرضي، فكان ذلك الإنسان الذي ينسب إلى الصحراء في تألقه وتفرده وامتيازه ورضاه.(12/68)
والصحراء مكان فضفاض، يغيب فيه البصر الحديد، ويمتد أمامه الأفق واسعًا رحبًا حتى كأنه لا نهاية له. للصحراء في العين مجتلى ومتعة، وللنفس فيها راحة وروحانية، وللفكر انبعاث وإبداع وتجديد. عرف العربيُّ الصحراءَ قبل أن يعرف البحر، ورأى أديمها قبل أن يرى زرقة الماء، ولامس أديمها جلده دون حائل، وجال في حزونها وسهولها، وسرَّح أنعامه في أفيائها، وشمَّ أريجَ نبتها وأزهارها، واستنبط الماء من جوفها لذة للشاربين، وافتن في شؤون الحياة وضروب العيش على ظهرها، وعاش – ما شاء الله له أن يعيش – وهو لا يعرف شيئًا سوى سهولها وجبالها ورمالها وأبارقها ورياضها وأوديتها ووهادها، يضرب في أكنافها سحابة نهاره، فإن جنّ الظلام أوى إلى بيته مستمتعًا بنعيم الراحة ولذة الدفء، إن كان الوقت شتاءً، ولذة الجو المعتدل والنسيم العليل إن كان الوقت صيفًا.
امتزج العربيُّ بالصحراء حتى غدت قطعة من نفسه، وجزءًا من حياته، فلا يرى لغيرها بديلاً، ولا عنها متحولاً. استمد منها تجارب حياته، ونمط عيشه، وكوّن من مناظرها، وتفاعله معها ثقافته ورؤيته للحياة. عرف نسائمها ورياحها، وعانى قُرَّها وحَرَّها، وتقلبات جوها، وشارك حيواناتها وطيورها في البحث عن العيش، فكان منها المستأنس الداجن، والسبع الضاري، فعاملها بما ينسجم مع طبيعة حياته وطريقته في الإقامة والتَّرْحال، والبحث عن ما يقيم أوده ويكفيه رزقه.
ولم يقنع بما يقنع به القوم ذوو الهمم الضعيفة والأفكار المحدودة، بل كان طمَّاحًا متطلعًا، يدفعه في ذلك ذكاء لمَّاح، وبديهة على اللسان حاضرة، وذهن متوقد، فهو – كما قال طرفةُ بن العبد – (1) :
__________
(1) ... ديوانه: 59، وهو من معلقته المشهورة. الضرب: الخفيف من الرجال. الخشاش بتثليث الخاء: الرجل الذكي الماضي في الأمور. الحية: الثعبان. المتوقد: الذكي الكثير الحركة. شرح ديوانه.(12/69)
أنا الرجلُ الضَّرْبُ الذي تعرفونه *** خُِشَاشٌ كرأسِ الحيَّةِ المتوقِّدِ
يضاف إلى ذلك عقل يجيد التكفير، ويرسم له خطوات مستقبله القريب في حدود إمكاناته ومعارفه وتجاربه؛ فكشف عن موهبته في القول والتعبير دون أن يقرأ في صحيفة، أو يخط حرفًا. وكان يملك ناصية اللغة، ويمسك بزمام الفصيح، أخذ ذلك مشافهة من بيئته، فلم يكتف بالتعبير عن حاجات يومه القائمة، بل وظف لغته القوية الغنية بمفرداتها وألفاظها في قول رفيع وبيان رائع، وتصوير يأخذ بمجامع القلوب، فاستنبط من وقع خطوات الإبل المنتظمة – وهي تقطع الصحارى والفيافى – الحُدَاء، وهو أن ينشد للإبل شعرًا موقعًا منغومًا فتطرب وتنشط، فتغذ السير إلى الغاية، ثم تحول حداؤه إلى مقطعات قصيرة موزونة، وتدرجت هذه المقطعات إلى قصائد كانت نواة للشعر الجاهلي الذي وصل إلينا منه قدر غير يسير.
وأتى إلينا هذا الشعر يحمل لغة الصحراء ووصفها وصورها وطوابعها، وبرع في تصويرها وتمثيلها حتى لكأننا نراها ماثلة أمام عيوننا نقرؤها في كتاب. وتأصلت منظومة الشعر الجاهلي على أديمها، فعرفنا منها القصائد المطولات وغير المطولات التي وظفها شعراء الجاهلية في الموضوعات المتنوعة، وتضمنت آراءهم وأفكارهم ومعانيهم التي تداعب أخيلتهم وعواطفهم وعقولهم، واستمدوها من بيئة الصحراء.
وهذا العطاء الشعري المتنوع الذي ولد في الصحراء، ونما في ربوعها، ووصل إلينا قويًّا سامقًا يمثل قاعدة الشعر العربي وأسسه ومقاييسه؛ فالأشعار التي قيلت في العصور التالية ترسمت خطوات الشعر الجاهلي – ولاسيما الشعر في العصر الأموي – ووظفت لغته، وكثيرًا من معانيه وصوره.(12/70)
فللصحراء فضل لا ينكر في نشأة الشعر العربي، وتدرجه، ثم تطوره وسموقه وازدهاره. نقرأ الشعر الجاهلي في لغته الرفيعة، وأسلوبه البليغ، وموضوعاته الغنية المتنوعة، فنعجب لابن الصحراء كيف استطاع أن يمتلك عنان عبقرية الشعر، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتخرج في مدرسة أو جامعة، وثقافته في الحياة لا تتعدى ثقافة الصحراء التي منحته هذا القدر الهائل من التفكير والتصوير والبيان الذي يأخذ بمجامع قلوبنا، على الرغم من مضي ستة عشر قرنًا على قرض هذا الشعر الذي نقرؤه وندرسه كما نقرأ وندرس شعر الشعراء الذي نعيش معهم في عصر واحد ومكان واحد.
الصحراء ونشأة الشعر العربي
في زخم الصراع وخضم العراك بين الاتجاه الحداثي في كتابة الشعر شكلاً ومضمونًا، والاتجاه إلى استلهام مضمون الشعر العربي الأصيل الموروث، واتخاذه قاعدة أساسية، ومرتكزًا أوليًا يعتمد عليه شعراء الأصالة فيما يتناولون من صور التجديد، وعوامل التطوير استجابة لمعطيات الحياة البشرية والتجارب الإنسانية، يحلو الحديث ويطيب عن النبع الأول، والإرهاصات التي تمخض عنها شعر العربية منذ أن كان طفلاً وليدا يحبو حتى اشتد عوده، واستقام على سُوقه.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات والبحوث التي قام بها الباحثون من عرب ومستشرقين في محاولة لوضع نظرية تقترب من الحقيقة نوعًا ما حول البداية الأولى لنشأة الشعر العربي، فإنها لم تسفر عن نتيجة يطمئن إليها الباحث، ويركن إليها الدارس المعني بهذا الموضوع.
وكثيرا ما يتساءل بعض المهتمين بالشعر العربي ونشأته وتطوره عن الكيفية التي ولد بها هذا الشعر؟ وكيف نشأ؟ وما المراحل والخطوات التي مر بها وقطعها حتى استقام على تلك الطريقة الفنية المكتملة شكلاً ومضمونًا، التي وجدناها في شعر أوس بن حجر، والمهلهل، وامرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير، وأضرابهم من شعراء الرعيل الأول في العصر الجاهلي؟(12/71)
وليس من اليسير أن نضع أيدينا على أولية الشعر العربي قبل أن يصل إلينا في صورته الحالية؛ لأن مرحلة الطفولة التي عاشها هذا الشعر مازال يكتنفها الغموض، ويلفها ضباب كثيف، وهي فترة أهملها التاريخ المدون ضمن ما أهمله من تاريخ العرب القديم لأسباب أهمها، ندرة الكتابة في بلاد العرب آنذاك، وشيوع الأمية، والاعتماد على الذاكرة أو الحافظة في تلقي الأدب والأخبار.
ولا جرم أن هناك محاولات وإرهاصات أولية لنظم الشعر قبل أن يصل إلينا في صورته الحالية المكتملة وزنًا وقافية وشكلاً ومضمونًا، غير أن هذه المحاولات والإرهاصات ضاعت وسقطت من يد الزمن ضمن ما ضاع من تراث العرب وأخبارهم قبل عصر التدوين والكتابة.
قال أبو عمرو بن العلاء (70 – 154هـ) الراوية المشهور:)) ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير (( (1) . ويعلل محمد بن سلام الجمحي (139- 231هـ) ضياع شعر العرب بقوله:)) لما جاء الإسلام تشاغلت العرب عن الشعر، وتشاغلوا بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مُدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير (( (2) .
__________
(1) ... طبقات فحول الشعراء: 25، والمزهر للسيوطي: 2/472.
(2) ... طبقات فحول الشعراء: 25، والمزهر 2/473.(12/72)
وقد حاول بعض الباحثين من قدامى ومحدثين (1) أن يزيحوا جانبا من الغموض حول أولية الشعر العربي، وبداية نشأته، فوضعوا بعض الافتراضات التي يمكن أن تتخذ منطلقًا وقاعدة بحث لوضع تصور عن بداية الشعر العربي في عصوره المتقدمة في الجزيرة العربية، فرأى بعضهم أنّ نشأة الشعر ارتبطت بحُدَاء الإبل، حيث كان يغني لها صاحبها في أثناء سيرها بصوت منغوم حسن مرتفع، فتطرب، وتنشط في سيرها، ومازال الحُدَاء في صورته الجاهلية القديمة معروفًا لدى القبائل التي تعيش في الصحراء وتقتني الإبل، ثم تطور الحداء إلى الرجز، لأنه أقرب إليه، وقد يكون الحداءُ في بعض صوره رجزًا نظرًا لما بينهما من مشابهة في النغم وطريقة الإنشاد (2) .
وقد حاول بعض المستشرقين المهتمين بدراسة الأدب العربي – مثل كارل بروكلمان (3) (1285- 1375 = 1868- 1956م) - أن يستخلصوا من الملابسات المتشابهة عند الشعوب البدائية الأخرى نتائج يمكن تطبيقها على الحياة العربية، في محاولة لرسم نظرية لأولية الشعر العربي، حيث اعتبروا أن الأغاني القصيرة الخفيفة (الطقاطيق) قدر مشترك بين الشعوب البدائية، يرددها أفرادها عند القيام بعمل من الأعمال، أو مزاولة حرفة من الحرف، أو في أثناء السفر، لما لها من أثر سحري فعال في الحث على النشاط، واستنهاض الهمم والإقبال على العمل، أو للتعبير عن الحالات العاطفية والشعورية كالفرح والحزن. وكانت تلك الأغاني أو المقطوعات القصيرة هي الإرهاصة الأولى لنشأة الشعر وتطوره ليس عند العرب فقط، بل عند جميع الشعوب الشاعرة أو ذات الإنتاج الشعري، كاليونان والرومان والفرس والهنود.
وهذه المقولة لا تخرج في مفهومها العام عن الفرضية التي ذكرناها، وهي انبثاق الشعر من حُدَاء الإبل.
__________
(1) ... المزهر: 2/474- 476، وتاريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان: 1/44.
(2) ... دراسات في الشعر الجاهلي، للدكتور يوسف خليف: 45.
(3) ... تاريخ الأدب العربي: 1/44.(12/73)
وعلى الرغم من أن مقارنة أحوال العرب بأحوال أمم أخرى ومضاهاتها بها قد تفيد في مجال التنظير المجرد، لكنها لا تسلم عند التطبيق من مظنة التعسف والاقتسار، ولا تنأى عن جادة الزلل والخطأ. ويرى بعض الدارسين أن السجع كان البذرة الأولى لبداية الشعر، ثم تطور السجع إلى الرجز، ثم تحول الرجز إلى ذلك الشعر المنظوم على البحور الشعرية المعروفة التي استنبطها الخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 170هـ) . ولم يكن الرجزُ في العصر الجاهلي شائعًا، فلا يوجد منه إلاّ الأبيات القليلة يقولها الراجز في حاجته، ولم يكثر الشعراء منه إلا في العصر الأموي، حيث وجد رجاز تفرغوا له، منهم العجّاج، وابنه رؤبة، وأبو النجم العجلي، والزفيان السعدي، حتى سمي بحر الرجز بحمار الشعراء، لكثرة ما نظموا فيه.
وقد حاول ابن سلام أن يضرب لنا مثالاً في مقدمة كتابه طبقات فحول الشعراء لبداية نشأة الشعر عند العرب بقوله: ((لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبياتُ يقولها الرجلُ في حاجته، وإنما قصدت القصائد، وطول الشعر على عهد عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف)) (1) .
أما أن أوائل العرب من الشعراء لم يكن لهم من الشعر إلا الأبيات فهذا صحيح يؤيده الواقع المشاهد والتجارب المتماثلة؛ لأنّ هذه الأبيات القليلة يقولها الرجل عبارة عن محاولات وإرهاصات وتجارب أولية لتقصيد القصائد وتطويل الشعر، فالشعر وكذا سائر الفنون الأدبية الأخرى لم تنشأ دفعة واحدة، بل كان لابد لها لكي تنضج وتكتمل من مرحلة زمنية تستوعب فيها النمو والنضج والاكتمال.
__________
(1) ... طبقات فحول الشعراء: 26، والمزهر: 2/474.(12/74)
وأما أنّ تقصيد القصائد وتطويل الشعر لم يحدث إلا في عهد عبد المطلب ووالده هاشم بن عبد مناف، فرأي يحتاج إلى مراجعة ومزيد بحث ودراسة؛ لأن الشعر العربي أقدم من هذا بزمن، فهاشم وهو أقدم الرجلين توفي قبل الهجرة النبوية بما يقرب من مئة عام، ويذكر التاريخ أنه توفي في شبابه المبكر، لم يتجاوز ثلاثين عامًا أو تجاوزها بقليل، ولعل الصواب أن يقال: إن الشعر الذي وصل إلينا من أفواه الرواة يبدأ من هذه المدة التي عاش فيها عبد المطلب ووالده هاشم ابن عبد مناف، أو قبلهما بقليل؛ لأن هناك ذكرًا لشعراء لم يصل إلينا شيء من شعرهم، ووصلت إلينا أسماؤهم في بعض أشعار المتقدمين، فامرؤ القيس يقول:
عُوجا على الطَّلَلِ المحُيلِ لعلَّنَا *** نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ (1)
ولا نعرف شيئًا عن هذا الشاعر سوى إشارة امرئ القيس إلى أنه وقف على الأطلال وبكى الديار، ولا ريب في أن شعره وصل إلى امرئ القيس وإلى معاصريه من الشعراء وحفظوه وفهموه؛ كما نحفظ الآن شعر امرئ القيس ونفهمه، وسائر شعراء الجاهلية الذين وصلت إلينا أشعارهم.
ومن الشعراء الأقدمين الذين روي لهم شعر، ولكنه قليل دويد بن زيد ابن نهد القُضاعي. فقد رويت له بعض أبيات حين بلغ من الكبر عتيا، وأبيات قالها حين حضرته الوفاة (2) .
لكن يبقى ما ذكرته مجرد افتراضات لا يطمئن الدارس إلى ما تفضي إليه من نتائج وحقائق ما لم تكن مدعومة بالأمثلة الصحيحة والشواهد الأدبية والتاريخية؛ لأن نشأة الشعر العربي حدثت في مدة وبيئة عجز التاريخ عن الكشف عنهما.
__________
(1) ... ديوانه: 114، وطبقات فحول الشعراء: 39، ورواية المزهر: 2/476 (عوجا على طلل الديار لعلنا) .
... عوجًا: اعطفا وميلا. الطلل: الشاخص من آثار الديار. المحيل: الذي أتى عليه الحول، فتغير.
(2) ... انظر: طبقات فحول الشعراء: 32، والشعر والشعراء: 104، والمزهر: 2/475.(12/75)
ولعل الطريق الأمثل لدراسة نشأة أدب من الآداب الإنسانية هو أن نتخذ من دراسة نشأة اللغة، وعوامل تكونها وتطورها، ومضاهاتها باللغات التي تأثرت بها أو أثرت فيها منطلقا لوضع أيدينا على البدايات الأولى للشعر؛ لأن اللغة وعاء الشعر، والشعر أيضا لا ينشأ من فراغ، فلكي يعطي ثماره، لابد أن تكون اللغة نفسها قد وصلت إلى مرحلة من النضج تستوعب فيها التعبير عن العواطف والمشاعر والأفكار وغير ذلك من الحالات الشعورية والمواقف الإنسانية.
فإمساك الباحث بأول خيط نشأة اللغة، وتتبع مراحل تطورها عبر الزمن سيتيح له الوقوف على بداية الشعر، ومراحل تطوره، ولكن قد توجه ملحوظة مهمة إلى هذا الرأي، وهي أن بداية اللغة نفسها غير واضحة المعالم، كالشعر تمامًا، والدراسات التي كتبت عن أولية اللغة لا تكاد تسلم من الافتراضات وربما التخمينات في طرح بعض النظريات التي قد لا تصح، ولكن قد يسهم في حل الغموض الاستعانة بالنقوش والكتابات العربية التي عثر عليها في الكهوف والمعابد، وفوق الصخور في أماكن متعددة من شبه الجزيرة العربية، كالجوف، وتيماء، ومدائن صالح، والفاو، بالإضافة إلى الاستعانة بالحفريات والآثار التي تلقي بعض الأضواء على حياة العرب الأولى، وصلتهم بالأمم الأخرى.
وقد وجدت دراسات كثيرة حول هذا الموضوع قام بمعظمها رحالة ومستشرقون وكتبوها بلغاتهم الأصلية.
ومثل هذه الدراسات والبحوث التي تكتب عن نشأة اللغة وتدوين بداياتها الأولى قد تضعنا على أول الطريق، لوضع نظرية صحيحة لنشأة الشعر العربي.(12/76)
ونخلص من هذا كله إلى نتيجة حتمية، وهي أن الشعر العربي نشأ في صحراء العرب؛ فهي التي ألهمت الشعراء الأوائل في التوصل إلى قرض الشعر، وشهدت سهولها وحزونها البدايات الأولى لنشأته ومرحلة طفولته، وتدرجه حتى استقام شعرًا له وزنه وقافيته، غني بالمعاني والأفكار والموضوعات والصور البيانية والخيالية، التي استمد معظمها من بيئة الصحراء وثقافة الصحراء.
مظاهر أثر الصحراء في الشعر العربي:
للصحراء أثر واضح في الشعر العربي، ولاسيما الشعر الذي قيل على أديمها، والشعر الذي تأثر به في العصور الأولى، وبخاصة شعر عصر صدر الإسلام، والدولة الأموية، والعصر العباسي الأول والثاني. ونلمس هذا التأثر في مختلف جوانب الشعر: الشكل والمضمون والموضوعات. والشعر العربي ليس نصوصًا إبداعية فقط ولكنه – إلى جانب ذلك – يمثل بيئته، ويعبر عن حياة العرب الاجتماعية، وما تحفل به من نشاط متنوع. وهو بهذا المقياس شعرٌ له رسالة وهدف، وهذا ما دفع بعض الدارسين أن يستوحوا حياة العرب من شعرهم، حين قصر التاريخ عن استيعاب ذلك والإلمام به، بل إن مصادر التاريخ كسيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، تضمنت نصوصًا شعرية كثيرة أسهمت في تدوين أحداث التاريخ، ولذلك ستكون معالجتي لنصوص هذا البحث من هذا المفهوم الذي يرى أن الشعر العربي تصوير لحياة العرب ومناشطهم. وسأتحدث في الصفحات التالية عن أبرز معالم تأثير الصحراء في الشعر مستشهدًا ببعض النصوص الشعرية الغزيرة التي تثبت ذلك في أجلى مظاهره.
في اللغة:(12/77)
اللغة مادة الأدب شعرًا ونثرًا، وأداة البيان والتعبير المثلى. والتأثير في اللغة ثراءً ودلالةً ومضمونًا تأثير في الأدب، وتأثير فيما يحمله من أفكار ومعان. والصحراء بمفهومها الدلالي أثرت اللغة العربية بفيض من الألفاظ والمفردات التي وظفها الشعراء في شعرهم، وبخاصة الشعراء الذين كانت صلتهم بالصحراء مباشرة، وارتباطهم بها قويًّا، بأن ولدوا في رحابها، ودرجوا على ظهرها، وتنسموا هواءها، وأمضوا سنوات عمرهم يتنقلون في جنباتها. ويتضمن معجم الشعر العربي ألفاظًا غزيرة أوحت بها الصحراء ومظاهرها وطبيعة الحياة فيها. والمتتبع للشعر العربي يستطيع أن يُرْجعَ كثيرًا من ألفاظه إلى وحي الصحراء. وتمثل هذه الألفاظ الشعرية معجمًا لغويًا كبيرًا يكوِّن في مجمله جانبًا لا يستهان به من مفردات اللغة العربية، من ذلك أسماء الصحراء وصفاتها، ووصف حزونها وسهولها، وما يتعلق بطبيعتها الساكنة والمتحركة، وهي ألفاظ كثيرة تتصل بالحيوان، والنبات، والسحاب، والمطر، والسيل، إضافة إلى الألفاظ المتعلقة بالحياة ووسائل العيش والتنقل تبعًا لتغير فصول العام، وما تفرضه طبيعة المجتمع الصحراوي من حركة ونشاط، وكر وفر في ميدان المعارك والحروب.
ولفظة (صحر) المكونة من الصاد والحاء والراء أصل في بُِنية الكلمة، تدل على أصلين، أحدهما البراز في الأرض، والآخر لون من الألوان، يقال: أصحر القوم إذا برزوا إلى الصحراء لا يسترهم شيء، وأصحر الرجل: نزل الصحراء، وبرز إلى فضاء واسع لا يواريه شيء. والأصل الآخر الصُّحْرَة، وهي لون أبيض مشرب بحمرة (1) .
والصحراء من الأرض مثل ظهر الدابة الأجرد ملساء، ليس فيها شجر ولا آكام ولا جبال (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (صحر) : 3/333.
(2) اللسان (صحر) .(12/78)
وقيل: الصحراء فضاء واسع ممتد قَفْر، لا ماء فيها ولا حياة (1) . وأيًّا ما كانت التعريفات فهي متفقة على أنّ الصحراء فضاء واسع جدًا، لا ماء فيها كالأنهار والجداول والعيون الجارية، قليلة الأمطار والنبات. ونموذج الصحراء واضح في صحراء جزيرة العرب، والصحراء الكبرى في شمالي إفريقية، وقارات العالم لا تخلو من صحراوات كثيرة مشهورة.
وتجمع الصحراء على صحارى بفتح الراء وكسرها، وعلى صحراوات (2) . ووضع العرب للصحراء نحوًا من أربعين اسمًا، وجميعها أسماء تلمح فيها معنى الصفة، وتلحظ دلالتها على ما تمتاز به الصحراء عن غيرها من أنواع البقاع والأراضي (3) .
وهي في الأصل صفات تنعت بها البقاع التي تنفرد بسمات لا تخرج عن المفهوم المعروف للصحراء، وتدل جميعها على قدرة واضعي اللغة العربية – وهم العرب – على اختيار اللفظة المناسبة للدلالة على المعنى الماثل في الذهن. ويمكن باستخلاص المعاني والدلالات التي تدل عليها هذه الصفات أن نحدد في دقة خصائص الصحراء كما تعرف في لغة العرب وأدبهم. فمن صفات الصحراء:
1 – القَفْر: الخلاءُ من الأرضِ، والمفازة لا ماء فيها ولا نبات (4) . قال الأعشى (5) :
وبَيْدَاءَ قَفْرٍ كَبُرْدِ السَّديرِ مشاربُها داثِرَاتٌ أُجُنْ (6)
__________
(1) الإفصاح في فقه اللغة: 1050.
(2) اللسان (صحر) .
(3) انظر: فقه اللغة وسر العربية: 284 – 286، والإفصاح في فقه اللغة: 1050- 1051، وراجع ص: 1048-1049.
(4) اللسان (قفر) ، والإفصاح: 1050.
(5) ديوانه: 67.
(6) البرد: ثوب مخطط. السَّدير: أرض باليمن تنسب إليه البرود. معجم البلدان (السدير) 3/201. مشاربها: مفردها مَشْرَب، وهو موضع الماء الذي يشرب منه. داثرات: مطموسات. أجُن: مفردها آجن، وهو الماء المتغير الطعم واللون، يقال: أجَنَ الماء يأجن بكسر الجيم وضمها أجْنًا وأجونًا. اللسان (أجن) .(12/79)
ووصف امرؤ القيس القَفْر في قوله (1) :
وقَفْرٍ كَظَهرِ التُّرْسِ مَحْلٍ مَضِلَّةٍ *** مَعَاطِشِ مجرى الماءِ طَامِسَةِ الفَلاَ
2 – الفلاة: القَفْر من الأرض، سميت بذلك لأنها فُليت عن كل خير، أي فطمت وعزلت. وقيل: الصحراء الواسعة. وقيل: هي التي لا ماء فيها. وقال النضر بن شُمَيل (2) : هي التي لا ماء فيها ولا أنيس، وإن كانت مُكْلِئَةً. والجمع: فَلاَ، وفَلَوات، وَفُلِيٌّ، وَفِلِيٌّ (3) . قال حُميد بن ثور الهلالي يصف قطاة:
وتأوي إلى زُغْبٍ مسَاكينَ دونها *** فلاً، ما تَخَطَّاهُ العيونُ مَهُوبُ (4)
3 – البريَّة: الصحراء. والجمع: البراري (5) .
4 – البَيْدَاء: الفلاة، والمفازةُ لا شيءَ بها، وسميت الصحراءَ بيداءَ؛ لأنها تُبيدُ سالكها، والإبادة: الإهلاك، والجمع بِيد وبيداوات (6) . قال الحطيئة (7) :
__________
(1) ديوانه: 332، ومعنى البيت واضح.
(2) هو: أبو الحسن النضرُ بن شُمَيل المازني التميمي، من نحاة البصرة، ولد بمرو، ونشأ في البصرة، وأخذ العربية والنحو عن الخليل، وطوّف في البادية كثيرًا، وأقام بها أربعين سنة، وشافه الأعراب، وأخذ عنهم، وكان ثقة صدوقًا، صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام الناس ورواية للحديث، ضاقت به سبل العيش في البصرة، فتركها إلى مرو، وتوفي بها عام 203هـ أو 204هـ.
... أخبار النحويين البصريين: 64، ومعجم الأدباء: 19/238- 243، وإنباه الرواة: 3/348- 352، ووفيات الأعيان: 5/397- 405، وبغية الوعاة: 2/316- 317.
(3) انظر هذه المعاني في اللسان والتاج (فلا) .
(4) ديوانه: 54، واللسان (فلا) ، ورواية اللسان (مراضيع) ، و (لا تخطاه الرِّقاب) . زغب أراد أنها أفراخ صغار، والزغب: شعيرات صفر على ريش الفرخ. اللسان (زغب) . مهوب: مخيف، يهابه الناس، ومهوب العيون: لا تدركه العيون.
(5) القاموس المحيط (برر) ، والإفصاح في فقه اللغة: 1050.
(6) اللسان (بيد) ، والإفصاح: 1050.
(7) ديوانه: 396.(12/80)
وطاوِي ثلاثٍ، عَاصِبِ البَطْنِ، مُرْمِلٍ ** ببيداءَ لم يعرفْ بها سَاكِنٌ رسْمَا (1)
وقال المتنبي (2) :
أما الأحبةُ فالبيداءُ دونهمُ ... *** فليت دونَكَ بِيدًا دونها بِيدُ
5- الفَيْفَاء: الصحراء الملساء، والمفازةُ لا ماءَ فيها، والجمع الفيافي. والفَيْفُ: المكان المستوي، والجمع أفْيَاف وفُيُوف (3) . قال ذو الرمة (4) :
طَوَاها إلى حَيْزُومِهَا واْنَطوَتْ لها *** جيوبُ الفيافي حَزنُهَا ورِمَالُهَا (5)
6 – المفازة: البرية القَفْر. ويقال لها أيضًا المفاز، والجمع مفاوز. قال ابن الأعرابي، سميت الصحراءُ مفازةً؛ لأنّ من خرج منها وقطعها فاز. وقال: سميت المفازة من فوَّز الرجل إذا مات (6) . قال امرؤ القيس (7) :
وكم دونها من مَهْمَهٍ ومَفَازَةٍ ... ** وكم أرْضِ جَدْبٍ دونها ولصُوصُ (8)
7 – البَسْبَس: البر المقفرُ الواسعُ، والجمع: البسابس (9) .
8 – السَّبْسَب: القَفْر، والقَفْرُ البعيدة مستويةً وغير مستوية، وغليظة وغير غليظة، لا ماء فيها ولا أنيس، والسبسب: الأرض الجدبة، والجمع: السباسب (10) . وقال عبيد بن الأبرص (11) .
__________
(1) طاوي: جائع. ثلاث: ثلاث ليالٍ. عاصب البطن: عصب بطنه وشده بخرقة من ألم الجوع. مرمل: فقير محتاج. الرسم: ما بقي في الأرض من آثار الديار. شرح الديوان: 397.
(2) شرح ديوانه: 2/140.
(3) الصحاح، والقاموس المحيط (فيف) .
(4) ديوانه: 510.
(5) طواها: أي أضمرها راكبها. الحيزوم: الصدر. جيوب القيافي: مداخلها. القاموس (جيب) . الحزن: ضد السهل، مكان مرتفع ذو صلابة.
(6) اللسان (فوز) .
(7) ديوانه: 177.
(8) المهمه: سيأتي شرحها.
(9) اللسان (بسس) .
(10) اللسان (سبسب) .
(11) ديوانه: 47.(12/81)
أنّى اهتدَيْتَ لركبٍ طال سَيْرُهُمُ *** في سَبْسَبٍ بين دَكْدَاكٍ وَأعْقَادِ! (1)
9 – التَّيْهَاء: المفازة يُتَاهُ فيها، أي يُضَل ولا يُهْتَدى لطريق، والأرض المضلة الواسعة لا أعلامَ فيها ولا جبال ولا آكام (2) . قال ذو الرمة (3) :
بِتَيْهَاءَ مِقْفَارٍ يكادُ ارتكاضُها ** بآلِ الضحى والهَجْرِ بالطَّرْفِ يَمْصَحُ (4)
10 – الدَّيْمُومَة والديموم: الفلاةُ يدوم السير فيها لبعدها، والأرض المستوية لا أعلامَ بها ولا طريق ولا ماء ولا أنيس وإن كانت مُكْلِئَةً، والجمع: الدياميم. قال أبو عمرو: الدياميم الصحارى الملس المتباعدة الأطراف (5) . قال الأعشى (6) :
فوق ديْمُومَةٍ تَغَوَّلُ بالسَّفْ *** رِقِفَارٍ إلاّ من الآجَالِ (7)
11 – المَهْمَهُ: المفازة البعيدة، والخَرْق الأملس الواسع، والفلاة لا ماء بها ولا أنيس، والبرية القفر، والجمع مَهَامِهُ. قال الشاعر:
__________
(1) أنّى: كيف. الدكداك: ما تكبَّس واستوى وتلبَّدَ من الرمل. الأعقاد: مفردها عَقد بفتح أوله وكسر ثانيه وفتحه، ما تعقد من الرمل وتراكم. القاموس (دكك، عقد) .
(2) اللسان (تيه) .
(3) ديوانه: 1213. وانظر أبياتًا ذكرت فيها التيهاء ص:285، 485، 701.
(4) مقفار: قَفْر: ارتكاضها: ركضها، والضمير يعود على تيهاء. الآل: السراب، الهجر: الهاجرة وقت اشتداد الحرارة. الطرف: العين. يمصح: يذهب بالعين.
(5) اللسان (دوم) ، والقاموس المحيط (دمم) ، والإفصاح: 1050.
(6) ديوانه: 55.
(7) تَغَوَّلُ: تتشبه بالغول في إلحاق الأذى والأين بالمسافرين. الآجال مفردها إجْل: القطيع من بقر الوحش. القاموس (أجل)(12/82)
في تيهِ مَهْمَهَةٍ كأنّ صُوَيَّهَا *** أيدي مُخَالِعَةٍ تَكُفُّ وتَنْهَدُ (1)
وقال امرؤ القيس (2) :
مَهَامِهِ مَوْمَاةٍ من الأرضِ مَجْهَل * تداعَى على أعلامِهِ البومُ والصَّدَى (3)
12- الخَرْق: الفلاة الواسعة، والأرض البعيدة مستوية كانت أو غير مستوية، سميت بذلك لانخراقِ الريح فيها، والجمع: خُرُوق (4) . قال مَعْقِل بن خويلد الهذلي:
وإنهما لجوَّابَا خُرُوقٍ *** وشَرَّابانِ بالنُّطَفِ الطَّوامِي (5)
وقال امرؤ القيس (6) :
وخَرْقٍ بعيدٍ قد قطعتُ نِيَاطَهُ ... على ذات لَوْثٍ سَهْوَةِ المَشْيِ مِذْعَانِ (7)
وقوله (8) :
__________
(1) اللسان (مهه) . الصوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازات المجهولة يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها. المخالعة التي تطلب الخُلْع من زوجها أي الطلاق والبينونة. اللسان (صوي، خلع. تنهد: ترفع يديها. يريد أن يشبه هذه الصوى لاختلافها قصرًا وطولاً بامرأة تخالع زوجها فهي مرة تكف يديها وتارة ترفعهما وتمدهما.
(2) ديوانه: 332.
(3) مَوْمَاة: سيأتي شرحها. الأعلام: الجبال. الصدى: ذكر البوم.
(4) اللسان (خرق) .
(5) البيت في شرح أشعار الهذليين: 1/380، واللسان (خرق) . جواب: قطاع. النطف: الماء الصافي. وفي الشرح: الماء القليل. الطوامي: المرتفعة المملوءة.
(6) ديوانه: 91.
(7) نياط الخرْق: بعد طريقه كأنه نيط (وُصِلَ) بخرْق آخر لا يكاد ينقطع، وإنما قيل لبعد الخرق نياط؛ لأنه منوط بخرق آخر يتصل به. اللسان (نوط) . لوث: قوة. يريد بها الناقة. سهوة المشي: لينة المشي سهلته. والسهوة. الناقة. القاموس (سهو) . مذعان: طيِّعة مذللة.
(8) ديوانه: 92.(12/83)
وخَرْقٍ كجْوفِ العَيْر قَفْرٍ مَضِلَّةٍ ** قَطَعْتُ بِسَامٍ سَاهِمِ الوجهِ حُسَّانِ (1)
13 – الصَّرْمَاء: الفلاة، والمفازة لا ماءِ فيها (2) .
14 – الفَدْفَد: الفلاة التي لا شيء فيها. وقيل: الأرض الغليظة ذات الحصى، وقيل: المَوْضع الصُّلْب، والمكان المرتفع فيه صلابة، وقيل: الأرض المستوية. والجمع: فدافد (3) .
15 – المَوْمَاة: المفازة الواسعة الملساء، والفلاة التي لا ماء فيها ولا أنيس، وهي جماعُ أسماء الفَلَوَاتِ، والجمع مَوَامٍ (4) . قال تأبط شرًّا (5) :
يَظَلُّ بموْمَاةٍ ويُمْسِي بغيرِها ... *** جَحِيشًا ويَعْرَوْرِي ظُهورَ المهالكِ (6)
16 – القِيُّ والقَوَاء: القفرُ من الأرض، والأرض المستَوية الملساء (7) . قال العَجَّاج (8) :
وبلدةٍ نِيَاطُها نَطِيُّ ... *** ... قِيٌّ تُنَاصِيها بلادٌ قِيُّ (9)
17 – التنوفة: المفازة، والأرض القفر، وقيل: الأرض المتباعدة الأطراف، والتي لا ماء فيها من الفلوات ولا أنيس، وإن كان معشبة، والجمع تنائف (10) . قال امرؤ القيس (11) :
وتنوفةٍ جَرْدَاءَ مَهْلَكَةٍ ... جاوزتُها بنجائِبٍ فُتْلِ (12)
__________
(1) جوف العير: بطن الحمار الذي ليس فيه شيء يؤكل. وفي الشرح تفصيل في الديوان. مضلة: يضل فيها المسافر. السامي: الفرس المشرف المرتفع. ديوانه (الشرح) . ساهم: ضامر قليل اللحم. القاموس (سهم) . حسان: صيغة مبالغة من الحسن.
(2) الصحاح واللسان (صرم) .
(3) اللسان (فدفد) .
(4) اللسان (موم) .
(5) ديوانه: 152.
(6) جحيشًا: منفردًا. يعروري: يركب.
(7) اللسان (قوي) .
(8) ديوانه: 317، واللسان (قوي) .
(9) نياطها: ظهرها. نطي: بعيد. تناصيها: تطاولها. شرح ديوانه: 317 – 318.
(10) اللسان (تنف) .
(11) ديوانه: 237.
(12) الفتل مفردها فتلاء، وهي الناقة إذا كان في ذراعها فَتَلٌ وبعد عن جنبها، ويكون ذلك أقوى لها، وأسرع في السير. اللسان (فتل) .(12/84)
18 – الدوّ: الفلاة الواسعة، والمفازة، وقيل: الأرض المستوية الملساء (1) . والدو: أرض مسيرة أربع ليال شبه تُرْس خاوية يسار فيها بالنجوم، ويخاف فيها الضلال، وهي على طريق البصرة متياسرة إذا أصعدت إلى مكة، وإنما سميت الدوّ؛ لأن الفرس كانت لطائمهم تجوز فيها، إذا سلكوها تحاضوا فيها بالجد، فقالوا بالفارسية: دَوْدَوْ (2) ، قال الأزهري (3) : ((وقد قطعت الدوَّ مع القرامطة – أبادهم الله – وكانت مطرقهم قافلين من الهبير، فسقوا ظهرهم، واستقوا بحفر أبي موسى (4) الذي على طريق البصرة، وفوَّزوا في الدو، ووردوا صبيحة خامسة ماءً يقال له: ثَبْرَة، وعطَبت فيها بُخْت كثيرة من إبل الحاج لبلوغ العطش منها والكلال)) .
قال الحسن بن عبد الله الأصفهاني المعروف بلغدة (5) : ((والدَّوُّ أرض مستوية مفازة لا ماء به ولا شجر ولا جبال، مسيرة أربعة أيام، قيعان، وهو لأفناء تميم، وليس به ماء ولا شجر، ولا ينبت إلا النَّصِيَّ والسَّخْبَر (6) وما أشبههما، لا تُرى به شجرة مرتفعة رأسًا، لا عرفجة (7) ولا غيرها، إنما تراه مِيْيَاضًا كُلَّه)) .
__________
(1) اللسان (دوا) .
(2) تهذيب اللغة: 14/224، ودَوْدَوْ معناها بالفارسية: أسرع أسرع، انظر: معجم البلدان، لياقوت (الدو) : 2/490.
(3) تهذيب اللغة: 14/224 – 225.
(4) هو أبو موسى الأشعري، حفر فيه آبارًا يستقي منها الحجاج في أثناء ولايته على البصرة في أواخر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، انظر الكامل في التاريخ حوادث سنة: 22هـ 3/38، ومعجم البلدان (حفر) : 2/275، ويعرف الآن بحفر الباطن، وهو بلدة عامرة كثيرة السكان، تقع في الشمال الشرقي من المملكة، وتبعد عن الرياض بنحو 500كيل، وعن مدينة المجمعة بنحو 300كيل.
(5) بلاد العرب: 317. وتعرف الدوّ الآن بالدِّبدِبة، وهي معروفة.
(6) نباتان لا يزالان يعرفان بهذا الاسم في نجد.
(7) لا يزال يعرف بهذا الاسم.(12/85)
قال ذو الرمة (1) :
ودَوٍّ ككفِّ المُشْتَرِي غير أنَّهُ ... ** بِسَاطٌ لأخماسِ المراسِيلِ واسعُ (2)
والدويَّة كالدوِّ، والياء فيها زائدةٌ ليست بياء نسبة (3) . وقال أيضًا:
ودَوِيَّةٍ يحَارُ بها القَطَا ... ** ... أدِلاَّءُ رُكْبَاهَا بناتُ النجائِبِ (4)
وقال العجاج (5) :
دَوِيَّةٌ لِهَوْلِها دَوِيُّ ... ** للرِّيح في أقْرَابِهَا هُوِيُّ (6)
ومِثلها الدَّاوِيَّة (7) ، قال امرؤ القيس (8) :
ودَاوِيَّةٍ قَفْرٍ كَأن الصَّدَى بها ... ** إذا ما دعا عند المساءِ حَزينُ (9)
19 – البَلْقَع والبَلْقعة: الأرضُ القَفْرُ التي لا شيءَ فيها من شجر ونحوه (10) .
20 – المَرْت: المفازة لا نباتَ فيها (11) . قال امرؤ القيس (12) :
__________
(1) ديوانه: 1290، وأمالي القالي: 2/91، وتهذيب اللغة: 14/224، والسان (دوا) .
(2) شبه الدو في استوائه وانبساطه يكف المشتري إذا بسطه وصفق براحته على راحة البائع عند إمضاء صفقة البيع. والمراسيل: مفردها مرسال، وهي الناقة السريعة السهلة السير، وأخماس مفردها خِمْس، والمراد خمسة أيام، ثلاثة أيام تكون في المرعى، ويوم ترد فيه الماء، ويوم تصدر عنه. وقيل معناه: ورود الماء في اليوم الخامس.
(3) اللسان (دوا) .
(4) ديوانه: 1845. سميت دوية لدويِّ الصوت الذي يسمع فيها، وقيل: سميت دوية؛ لأنها تدوي بمن صار فيها، أي تذهب بهم، ودَوَّى في الأرض: ذهب. تهذيب اللغة: 14/224، واللسان (دوا) . وبنات النجائب: الإبل.
(5) الرجز في ديوانه: 319- 320، وتهذيب اللغة: 14/224، واللسان (دوا) .
(6) دوي: صوت. أقرابها: جوانبها. هُوي: هبوب شديد.
(7) اللسان (دوا) . وتأتي الكلمة مثقلة ومخففة.
(8) ديوانه: 286.
(9) الصدى: الذكر من البوم. اللسان (صدي) .
(10) اللسان (بلقع) .
(11) اللسان (مرت) .
(12) ديوانه: 304.(12/86)
بِيدٌ مُسَهَّبةٌ، مَرْتٌ مُخَفَّقَةٌ ** ... يَهْمَاءُ حِرْ باؤُها للشمسِ مُنْتَصِبُ (1)
21 – التَّيْمَاء: الفلاة الواسعة. وقال الأصعمي: التيماءُ التي لا ماءَ فيها، وأرضٌ تيماءُ: مَضِلّة مَهْلَكَةٌ (2) .
22 – اليَهْمَاء: المفازة لا ماءَ فيها، ولا يسمعُ بها صوت. وقيل: الفلاة لا ماءَ فيها ولا عَلَم، ولا يُهْتَدى لطرقها. قال الشاعر:
كُلُّ يَهْمَاءَ يَقْصُرُ الطرْفُ عنها ... أرْقَلَتْها قِلاَصُنَا إرقالا (3)
وقال امرؤ القيس (4) :
فَصَبَّحْتَهُمْ مَاءً بَيهْمَاءَ قَفْرَةٍ ** وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى
وقال عبيِدُ بن الأبرص (5) :
يجتابُ مَهْمَهَةً يَهْمَاءَ صَمْلَقَةً ** سَكْنُ الخلائقِ حاذي اللحمِ مُغْتَبِطُ (6)
وقال الأعشى (7) :
يَهْمَاءَ مُوحِشَةٍ رفَعْتُ لِعَرْضِها ... طَرْفِي لأَِقْدِرَ بَيْنَهَا أمْيَالَها (8)
__________
(1) مسهبة: طويلة بعيدة ممتدة. مخفقة: تخفق فيها الرياح. يهماء: يأتي شرحها. الحرباء: دابة أكبر من العظاية. شرح الديوان.
(2) اللسان (تيم) .
(3) اللسان (يهم) . أرقل: أسرع، وأرقلتها: قطعتها، والقِلاَص: جمع قلائص وقُلُص، ومفرد هذين: قَلُوص، وهي الشابة من الإبل أو الباقية على السير. القاموس المحيط (قلص) .
(4) ديوانه: 333.
(5) ديوانه: 85.
(6) يجتاب: يقطع ويجتاز. مهمهة. مر تفسيرها. الصملقة والسملقة: القاع الأملس. اللسان (صملق) ، سَكن الخلائق: هادئ النفس. حاذي اللحم: اسم فاعل من الحَذِيَّة، وهي العطية، والمراد أنه ينحر الإبل أو يذبح الغنم ويقدم لحمها للناس. انظر: اللسان (حذو) . معتبط: ينحر الذبيحة من غير داء ولا كسر، وهي سمينة فتيَّة، واللحم العبيط: السليم من الآفات. اللسان (عبط) .
(7) ديوانه: 77.
(8) الميل: قدر منتهى مد البصر. اللسان (ميل) ، ويقدر بثلاثة آلاف ذراع بذراع الملك، والذراع ثلاثة أشبار معجم البلدان: 1/36.(12/87)
23 – المهلكة: المفازة، لأنه يهلك فيها كثير ممن يسلكها (1) .
24 – النَّفْنَفُ: المفازة البعيدة الخالية (2) : قال امرؤ القيس (3) :
في نَفْنَفٍ طَامِسِ الأعلامِ ليسَ به ** إلا ذُؤَاَلةُ طَاوٍ كَشْحُهُ جُنُبُ (4)
25 – الصَّرْدحُ والصَّرْداحُ وَالصَّرْدَحَةُ: الصحراءُ لا شجر بها ولا نبت، والفلاة لا شيء فيها، والجمع: الصَّرَادِح (5) . قال ذو الرمة (6) :
فجاءَتْ كذودِ الخارِبَيْنِ يَشُلُّهَا ... مِصَكٌّ تهَادَاهُ صَحَارٍ صَرَادِحُ (7)
26 – السَّهْب: الفلاة، وسهوب الفلاة: نواحيها التي لا مسلك فيها (8) . قال الأعشى (9) :
وكم دون ليلى من عَدُوٍّ وبَلْدَةٍ ** وسَهْبٍ به مُسْتَوْضِحُ الآلِ يَبْرُقُ (10)
__________
(1) اللسان (هلك) .
(2) اللسان (نفنف) .
(3) ديوانه: 303.
(4) ذؤالة: الذئب. طاو: جائع. الكشح: الخاصرة. جنب: أجنبي غريب.
(5) اللسان (صردح) .
(6) ديوانه: 900.
(7) فجاءت: الضمير يعود على الحمر الوحشية: الذود: من ثلاث إلى تسع، وقد يتجاوز هذا العدد. الخاربان: لصان، والخارب: المفسد. يشلها: يطردها. مصك: قوي. يريد به الحمار الوحشي. تهاداه: ترمي به صحراء إلى صحراء أخرى. شرح الديوان، والقاموس (ذود، صكك) .
(8) اللسان (سهب) .
(9) ديوانه: 273.
(10) الآل: السراب.(12/88)
ومن أدق ما وصفت به الصحراء شعرًا قول المُرَقِّشِ الأكبر (1) :
1- ودوِيَّةٍ غَبْراءَ قد طال عَهْدُها
2- قطعتُ إلى معروِفها منكراتِها
3- تركْتُ بها ليلاً طويلاً ومنزلاً
4- وتَسْمَعُ تَزْقاءً من البومِ حَوْلَنَا
5- فيصبحُ مُلْقَى رَحْلِهَا حيثُ عَرَّسَتْ
6- وتصبحُ كالدَّوْدَاةِ ناطَ زمَامَها
7- ولما أضَأْنا النارَ عند شِواَئِنا
8- نبذْتُ إليه حُزَّةً من شِوَائِنَا
9- فَآضَ بها جَذْلاَنَ يَنْفُضُ رأسَهُ
10- وأعرَضَ أعلامٌ كأنَّ رؤوسَهَا
11- إذا عَلَمٌ خلَّفْتُهُ يُهْتَدَى به
تهالَكَ فيها الوِرْدُ والمرءْ ناعِسُ (2)
__________
(1) هو ربيعة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، من بكر بن وائل، وقيل: اسمه عمرو بن سعد، وقيلك عوف بن سعد، ولقب بالمرِّقش لبيت مشهور قاله، شاعر جاهلي قديم، عاصر المهلهل بن ربيعة، وشهد حرب بكر وتغلب المعروف بحرب البسوس، عرف بحبه لابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة، وشعره مما جلبه معه أبو علي القالي من بغداد إلى الأندلس ومعه شعر المرقِّش الأصغر، ويقعان في جزء واحد تام. الشعر والشعراء: 210- 213، ومن اسمه عمرو من الشعراء: 34- 35، والأغاني: 6/121- 128، والمؤتلف والمختلف: 281، ومعجم الشعراء: 201، وجمهرة أنساب العرب: 319- 310، وفهرست ابن خير الإشبيلي: 396. وجمع شعره: د. نوري حمودي القيسي، معتمدًا في المقام الأول على ما ورد في المفضليات، ونشره في مجلة العرب.
(2) المفضليات: 225- 336، والمرقش الأكبر أخباره وشعره، مجلة العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة، ربيع الآخر: 1390هـ، حزيران وتموز: 1970م، ص:876- 877. تهالك: أجهد نفسه في السير حتى كاد أن يشرف على الهلاك. الورْد: الإبل. ...(12/89)
بِعَيْهَامَةٍ تَنْسَلُّ والليلُ دامِسُ (1)
ومُوقَدَ نارٍ لم تَرُمْهُ القَوَابِسُ (2)
كما ضُرِبَتْ بعد الهدوءِ النواقِسُ (3)
من الأرض قد دبَّتْ عليه الروامِسُ (4)
إلى شُعَبٍ فيها الجواري العوانِسُ (5)
عرانا عليها أطلسُ اللَّوْنِ بائِسُ (6)
__________
(1) عَيْهامة: ناقة سريعة، والجمع عياهم. اللسان (عهم) . تنسل: تسرع. يقول: توغلت في قطع هذه الفلاة الغبراء حتى أفضيت إلى مالا يعرف من دروبها وأعلامها.
(2) مُوقَد: مكان إيقاد النار. لم ترمه: لم تمسسه، القوابس: من يقتبسون النار، المفرد قابس: يقول: قطعت هذه الدوية وقد بقي من الليل شطر كبير، وغادرت الموضع الذي حللته منها، وموقد النار الذي لا يوجد عنده أحد يقتبس منه نارًا، لوحشة المكان، وبعده عن الناس.
(3) تزقاء: صياح، من زقا الديك والطائر ونحوهما يزقو ويَزْقي: صاح، وكذلك الصبي إذا اشتد بكاؤه. اللسان (زقا) . النواقس كالنواقيس، مفردها: ناقوس، وهو جرس يضربه النصارى لأوقات صلاتهم. القاموس المحيط (نقس) . ...
(4) ملقى رحلها: موضع إلقاء رحلها، اسم مكان من ألقى. عرَّسَتْ: بركت وأقامتْ. والتعريس: الإقامة والنزول في آخر الليل للاستراحة. الروامس: الرياح الدوافن للآثار. القاموس المحيط (عرس، رمس) : دبت: عفت.
(5) الدَّوداة: أثر أرجوحة الصبيان على الأرض، وجمعها دوادٍ. اللسان (دود) . ناط: علق: الزمام: خطام الناقة. العوانس: مفردها عانس، وهي الفتاة التي تبقى زمانًا لا تتزوج بعد أن تدرك ويحين وقت زواجها، وقيل: العانس إذا صارت نصفًا وهي بكر ولم تتزوج، ولا تسمى عانسًا إذا تزوجت مرة واحدة، ويطلق الوصف على الرجل أيضًا، ولكن إطلاقه على المرأة أكثر وأشيع. اللسان (عنس) .
(6) عرانا: ألم بنا. الأطلس: الذئب الأمعط في لونه غبرة إلى السواد. والأمعط: الطويل الذي لا شعر على جسده. القاموس المحيط (طلس، معط) . بائس: جائع. ...(12/90)
حياءً، وما فُحْشِي على مَنْ أجَالِسُ (1)
كما آبَ بالنَّهْبِ الكَمِيُّ المُحَالِسُ (2)
رؤوسُ جبالٍ في خليجٍ تَغَامَسُ (3)
بدا عَلَمٌ في الآلِ أغْبَرُ طَامِسُ (4)
وَصَفَ المرقش الصحراء بأنها مفازة واسعة شاسعة الأرجاء، جافة، يعلوها الغبار، وتتلاشى فيها الأصوات، لا أثر فيها للماء، ولا ما يقيم الحياة، تكاد الإبل التي تسير فيها تتعرض للهلاك والموت. ويذكر أنه ألم بها وسار في جنباتها، وأفضى به السير إلى أماكن مجهولة موحشة يضرب فيها يمنة ويسرة، لا يتهدى لعلم معروف وطريق مأثور، ووسيلته في ذلك مطيته القوية الصلبة السريعة التي تغذ السير، والليل قد مد رواقه، وأرخى سدوله. وتمكن أن يقطع هذه الفلاة الواسعة، والليل لا تزال منه بقية، وغادر المكان الذي نزل فيه طلبًا للراحة، وفيه موقد ناره الذي لم يلم به قابس؛ لأنه في مكان موحش ناءٍ لا يطرقه المسافرون.
__________
(1) حُزَّة بضم الحاء: قطعة من اللحم قطعت طولاً. القاموس المحيط (حزز) .
(2) آض يئيض أيْضًا: رجع. الكمي: الشجاع أو لابس السلاح. القاموس المحيط (أيض، كمي) . المحالس: الشجاع الذي يلازم قِرْنه والذي لا يبرح ساحة القتال. اللسان (حلس)
(3) أعرض: برز وبان. قال عمرو بن كلثوم التغلبي. ... ... ... ...
فأعرضتِ اليمامةُ واشمخرّتْ ... ... كأسيافٍ بأيدي مُصْلِتِينَا
... شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات: 383.
... أعلام: جبال، مفردها علم: قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار.
... الخليج: شرمٌ من البحر، وهو ما انقطع من معظم الماء لأنه يجبذ منه أي يقطع. وخليج البحر: رِجْلٌ يختلج منه. اللسان (خلج) . تغامس: تتغامس، أي تنغمس مرة وتظهر أخرى.
(4) الآل: السراب. أغبر: تعلوه غبرة. طامس: غير ظاهر. وأغبر وطامس: صفتان لعلم.(12/91)
ويضاف إلى ما ذكره من خصائص الصحراء أنه يتهادى إلى سمعه أصوات البوم، وهي من طيور الصحراء والخراب التي يشبه صياحها بضرب النواقيس، ويصف موضع رحله حيث عرّس بأنه أصبح أثرًا بعد عين أن سفت عليه الرياح فمحت كل أثر. ويقص علينا ما تعانيه حيوانات الصحراء من جوع ومسغبة، من أظهرها الذئب الذي جلبته رائحة الشواء، فأقبل يتهادى على الرغم من أنه يخشى الإنسان، وينفر من ضياء النار، فرمى إليه قطعةً من الشواء، فآب ينفض رأسه جذلاً وحبورًا بعد أن ظفر ببعض ما يسد جوعه، ويشبهه في أوبته بأوبة فارس شجاع كمي السلاح من ساحة الحرب بعد أن نال من غنائم العدو ما نال.
ويذكر منظرًا من طبيعة الصحراء، وهو أنه يمر في سيره بجبال تكاد تغرق في السراب، ويشبه قننها ورؤوسها برؤوس جبال يكتنفها الماء، فهي تبدو تارة وتختفي أخرى. ويؤكد هذا المعنى في البيت الأخير، وهو أنه كلما تجاوز جبلاً يهتدي به بدا جبل أغبر آخر يلوح من خلال السراب لا يكاد يرى.
والرحلة في قلب الصحراء ووصف مسالكها ودروبها ومعالمها وحيواناتها وطيورها موضوع مأثور في قاموس الشعر الجاهلي، نجد نماذج منها في القصائد السبع أو العشر الطوال الجاهليات التي عرفت عند بعض الباحثين بالمعلقات، وكقصيدة امرئ القيس الرائية التي وصف فيها رحلته إلى قيصر الروم مستنجدًا به لاستعادة ملك أبيه (1) ، وكقصيدة عبيد بن الأبرص الطائية (2) ، وفي شعر الصعاليك أمثلة كثيرة.
أثر الصحراء في موضوعات الشعر:
__________
(1) ديوانه: 56. ...
(2) ديوانه: 83.(12/92)
لم يقتصر أثر الصحراء في الشعر العربي على وضع الأسماء والصفات الخاصة بالصحراء، وما يتصل بها من مفردات وألفاظ دلل عليها الشعر وحملها إلينا، بل تجاوز تأثيرها فيه إلى آفاق أخرى، شملت موضوعاته ومعانيه وصوره وأخيلته وإيقاعه؛ حتى إن الدارس ليستطيع القول إن الشعر العربي وليد الصحراء، نشأ على أديمها، وتدرج في النشأة حتى استقام في صورته الكاملة التي وصلت إلينا في شعر الجاهليين ودواوينهم ومطولاتهم التي بين أيدينا. ولا نبالغ إذا قلنا إننا نجد في كل قصيدة جاهلية أثرًا ظاهرًا من آثار الصحراء، بل نجد هذا الأثر في شعر جميع العصور التي اقتفت الشعر الجاهلي في ألفاظه ومعانيه وصوره، غير أن الباحث لا يجد في الشعر العربي موضوعات مستقلة خاصة بالصحراء، بل يجد أثرها وإيحاءها مبثوثين في موضوعات الشعر المختلفة. ولكي ندرك أثر الصحراء في ديوان العرب إدراكًا شاملاً دقيقًا لابد من استقراء ديوان الشعر العربي ومجموعاته المختلفة؛ لنستخلص منها ما يتعلق بالصحراء. ولا يقتصر الاستقراء على الشعر الجاهلي الذي يعد شعرًا لصيقًا بالصحراء، بل إن الشعر العربي كله في جميع العصور يحمل شيئًا من سمات الصحراء وطابعها؛ لأن التأثر والتأثير ظاهرة ملحوظة في الآداب الإنسانية، وفي طليعتها الشعر. ولكن ليس من السهل في بحث موجز كهذا البحث الإلمام بالشعر العربي كله أو معظمه، وإنما يترك ذلك لدراسات مستقبلة تكون أوعب وأوسع. بل أرى أن بعض دواوين الشعر تستحق أن تفرد بدراسة عن أثر الصحراء فيها، فمن الممكن أن تكون هناك دراسة عن أثر الصحراء في شعر امرئ القيس، أو طرفة بن العبد، أو زهير، أو الأعشى، أو الصعاليك أو غيرهم من شعراء الجاهلية، بل إن أثر الصحراء في شعر بعض الشعراء غير الجاهليين كشعر الفرزدق، وجرير، والمتنبي، والشريف الرضي جدير بأن يأخذ نصيبه من الدراسة. وحتى أولئك الشعراء الذين عاشوا في المدن، وأمضوا حياتهم في بحبوحة الحضارة(12/93)
والمدنية لم يكن شعرهم بمنأى عن التأثر بالصحراء كقول مسلم ابن الوليد الأنصاري يصف طريقه الصحراوي الذي سلكه ليصل إلى ممدوحه (1) :
1- ومَجْهَلٍ كَاطِّرَادِ السيفِ مُحْتَجِزٍ
2- تمشي الرياحُ به حَسْرَى مُوَلَّهَةً
3- مُوَقَّفِ المتْنِ لا تمضِي السبيلَ به
4- قريْتُهُ الوَخْدَ من خَطَّارّةٍ سُرُحٍ
5- إليكَ بادرْتُ إسفارَ الصباحِ بها
6- وبلدةٍ ذاتِ غَوْلٍ لا سبيلَ بها
7- كأنَّ أعلامَها والآلُ يَرْكبُها
8- كُلِّفْتُ أهوالَها عينًا مُؤَرَّقَةً
عن الأدِلاَّءِ مَسْجُورِ الصيَّاخِيدِ (2)
حَيْرَى تلوذُ بأكنافِ الجلاميدِ (3)
إلاّ التَّخَلُّلَ ريثًا بعد تَجْهِيدِ (4)
__________
(1) شرح ديوانه: 154 – 156.
(2) مجهل: مكان مجهول لا يعرفه الناس. كاطراد السيف: يريد أنه مستو أملس كالسيف. محتجز عن الأدلاء أي: يجهلون مسالكه ودروبه. مسجور: موقد. القاموس المحيط (سجر) . الصياخيد مفردها صيخود، وهو شدة الحر، وصخدته الشمس: أحرقته. القاموس المحيط (صخد) .
(3) حسرى: أصابها التعب والإعياء فكلت، والتعبير مجاز بالاستعارة، من حسَرَت الدابة والناقة: أعيتْ وكلت. مولهة: شديدة الحزن، والتعبير مجاز بالاستعارة أيضًا. حيرى: متحيرة، لا تدري أين تذهب. الجلاميد: مفردها جلمود، وهو القطعة من الصخر قدر ما يرمي به القَذَّاف. اللسان (حسر، وله، جلمد) .
(4) موقف المتن، التوقيف: البياض مع السواد، ودابة موقفة. في قوائمها خطوط سود. اللسان (وقف) . ويريد بموقف المتن المجهل الذي ذكره في البيت الأول، ويعني بذلك أن الصحراء التي سلكها مختلفة الألوان. الريث: الإبطاء. تجهيد: جهد شديد. يصف هذا المجهل بأنه صعب المسالك والمرتقى، لا طرق فيه، والسير فيه مضنٍ لا يتم إلا بالتخلل عبر الأماكن الضيقة، والانعطاف يمنة ويسرة في بطءٍ وجهد.(12/94)
تَفْرِي الفَلاَةَ بِإرْقَالٍ وتَوْخِيدِ (1)
من جُنْحِ ليلٍ رحيبِ الباعِ ممدودِ
إلاّ الظنونُ وإلاَّ مَسْرَحُ السيِّدِ (2)
بُدْنٌ توافى بها نُذْرٌ إلى عيدِ (3)
إليكَ لولاكَ لم تُكْحَلْ بتسْهِيدِ (4)
هذه الأبيات وصف نادر للصحراء وبيئتها ودروبها لا تقل في روعتها وبلاغتها عن أبيات المرقش الأكبر، قالها مسلم بن الوليد- وهو شاعر عباسي - ضمن قصيدة طويلة تتكون من مائة بيت يمدح بها داود بن يزيد بن حاتم بن خالد بن المهلب بن أبي صفرة (5)
__________
(1) قريته: القرو مصدر قولك قروتُ إليهم أقرو قرْوًا، وهو القصد نحو الشيء. والقرو من الأرض الذي لا يكاد يقطعه شيء. والضمير يعود على المجهل في البيت الأول. الوخد: ضرب سريع من السير. خطارة: ناقة تخْطِر بذنبها في السير نشاطًا. سرح: سهلة السير. الإرقال والتوخيد: ضربان سريعان من السير. اللسان (قرا، وخد، خطر، سرح) . تفري: تقطع بهمة ونشاط. الإرقال والتوخيد: ضربان سريعان من السير. اللسان (رقل) .
(2) الغول: بعد المفازة؛ لأنه يغتال من يمر به. اللسان (غول) . السيِّد. الذئب.
(3) الآل: السراب. بدن: نياق. توافى بها نذر إلى عيد: أي جلبها لتنحر يوم عيد وفاء لنذر قطعه على نفسه.
(4) كلفت: حملت بمشقة. مؤرّقة: من الأرق، وهو عدم النوم، ومثله التسهيد.
(5) في النجوم الزاهرة: 2/75 ((داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة)) . وهو من الأمراء الولاة القادة الشجعان، ولاه الرشيد إفريقية بعد وفاة والده يزيد عام: 170هـ، ثم خلفه عليها عمه روح بن حاتم المهلبي عام 171هـ، أو عام 172هـ، ثم ولاه الرشيد مصر عام 174هـ، إلى المحرم من عام 175هـ، ثم السند عام: 184هـ، وبقي واليًا عليها إلى أن توفي عام 205هـ. قاد بعض الجيوش لقمع الثائرين على الرشيد.
... ولاة مصر: 157- 158، والكامل في التاريخ لابن الأثير: 5/602، 6/108، 113، 116، 124، 362، والنجوم الزاهرة: 2/3، 75-77، 116، وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: 1/591، والأعلام: 2/336.(12/95)
، وهي قصيدة ذائعة مشهورة. ونلحظ تأثره الواضح بالقصيدة الجاهلية في وصفه للمفازة التي سلكها للوصول إلى ممدوحه؛ فهو يسمها بأنها غير معروفة المسالك والدروب، مستوية يغيب فيها البصر، ولا يستطيع الأدلاء أن يهتدوا للسير فيها، ويصف جوها بأنه متوقد الحرارة بالقدر الذي يجعل الرياح تهب في ضعف وكلال، وتلوذ بأكناف الصخور للبحث لها عن أماكن ظليلة. ثم يضفي وصفًا آخر للمفازة التي سلكها، وهي أنها مختلفة الألوان تبعًا لطبيعة الأرض، ويعاني المسافر مشقة بالغة في التوقل في مسالكها، والتخلل عبر منافذها الملتوية الضيقة التي تكون عادة في الشعاب والتلاع والجبال. ويذكر أنه اعتمد في قطع هذه المفازة الشاسعة على ناقة صلبة سريعة سهلة السير ذات نشاط وهمة في اجتياز هذه المسافة الطويلة، وتمكن بها أن يصل إلى ممدوحه عند إشراق ضوء الصباح بعد ليل طويل داجي الظلمة أمضاه في السير. ويصف البلدة التي قصدها بأنها بعيدة بعدًا مضنيًا، يتصور الذهن أن الوصول إليها رجم من الظن والغيب، فالطريق إليها ليس إلا مسرحًا للذئاب. ويشبه جبالها وقد كللها السراب بإبل جللت بالمطارف البيض تغذ السير لتنحر وفاء بنذر في يوم عيد، ويشير إلى أنه عانى من أهوال قطع هذه المفازة، واكتحلت عيناه بالأرق والسهاد؛ ليبلغ ممدوحه وينشده قصيدته.
وندرك مما تقدم أن وصف الصحراء من الموضوعات التي عني بها الشعر العربي، وإن لم يكن ذلك الوصف موضوعًا مستقلاً، ولكنه داخل ضمن موضوعات أخرى كالمدح كما تقدم في قصيدة مسلم بن الوليد.(12/96)
يضاف إلى هذا الموضوع وصف حيوانات الصحراء، ما كان منها مستأنسًا وغير مستأنس، ومن أظهر ذلك وصف الناقة التي تعد المركب الذلول لقاطن الصحراء، ووسيلته الأولى في قطع الفيافي واجتياز المفاوز الشاسعة، ولذلك أطلق عليها سفينة الصحراء؛ لأنها تقوى على السير الطويل والحمل الثقيل، في مختلف الأجواء، وتمكث أيامًا دون طعام أو ماء. ومن أبرز الشعراء الذين أثر عنهم شعر في وصف الناقة طرفة بن العبد البكري، الذي اشتمل ديوانه على نعوت كثيرة لها حتى إنّه يستحق أن يلقب بشاعر الناقة، وأشعاره التي قالها فيها جديرة أن تفرد ببحث مستقل. ولست أرى دابة لصيقة بالصحراء وطبيعتها مثل الناقة؛ لذلك أرى أن جميع الأوصاف التي خلعها طرفة وغيره من الشعراء عليها كانت من تأثير الصحراء، ولو بطريقة غير مباشرة. وتحظى معلقته بالنصيب الأوفر من الأبيات التي وظفها في وصف الناقة، فقد حظيت منه باثنين وثلاثين بيتًا من المعلقة (1) وحدها، فضلاً عن الأبيات المتفرقة في ديوانه (2) .
من ذلك قوله في وصفها (3) :
1- وإنِّي لأُمْضِي الهمَّ عند احْتِضَارِهِ
2- أَمُونٍ كألواحِ الإرَانِ نَسَأْتُهَا
3- جُمَالِيَّةٌ وَجْنَاءُ تَرْدِي كأنَّها
4- تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وأتْبَعَتْ
بَعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تروحُ وتَغْتَدِي (4)
__________
(1) معلقة طرفة، ديوانه: 34- 46، وشرح القصائد السبع الطوال الجاهليات: 149وما بعدها. ...
(2) ديوانه: 61، 62، 94، 95، 100، 101، 167، 176، 184- 186.
(3) ديوانه34-35، وشرح القصائد السبع الطوال الجاهليات: 149- 154، وشرح المعلقات السبع: 48- 49.
(4) احتضاره: حضوره. العوجاء: التي اعوجتْ من الهُزَال إلى السمن، وهي التي لحِقَ ظهرُها ببطنها فاعوج جسمها. مرقال: سريعة.(12/97)
على لاحِبٍ كأنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ (1)
سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لأزْعَرَ أربَدِ (2)
وظيفًا وظيفًا فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ (3)
يصف ناقته بأنها هزيلة ضامرة شديدة الضمور سريعة في غدوها ورواحها، وهي مع ذلك سهلة السير مأمونة العِثَار، تشبه الجمل في وثاقة التركيب والقوة، والنعامة في سرعة السير، حتى إنها لتسابق الإبل الكريمة السريعة في قطع المسافات، ويصف في دقة بالغة هيئة يديها ورجليها أثناء السير، وهي تتابعهما في حركة سريعة خاطفة.
وليس في الإمكان أن أورد ما قاله طرفة في الناقة في بحث موجز كهذا، والمثال الواحد نموذج لأمثلة كثيرة مماثلة.
ومن شعراء الجاهلية الذين عنوا بوصف الناقة الشاعر الجاهلي المثقب العبدي، فله في ذلك قصيدة دالية (4) حشد فيها عددًا من نعوت ناقته، منها قوله (5) :
1- عَرْفَاءَ وَجْنَاءَ جُمَالِيَّةٍ
2- تَنْمِي بنهّاضٍ إلى حَارِكٍ
3- كأنما أَوْبُ يَدَيْهَا إلى
4- نَوْحُ ابنةِ الجَوْنِ على هَالكٍ
5- كَلَّفْتُهَا تَهْجِيرَ دَاوِيَّةٍ
6- في لاَحِبٍ تَعْزِفُ جِنَّانُهُ
__________
(1) الأمون: الناقة التي يؤمن عِثَارُهَا وزللها. الإران: تابوتٌ كانوا يجعلون فيه الموتى من سادتهم وكبرائهم دون سواهم. نسأتها: حملتها على السير، أو ضربتها بالمِنْسَأة، وهي العصا. اللاحب: الطريق الواضح. البُرْجُد: كساء للأعراب ذو خطوط.
(2) جُمالية: تشبه الجمل في القوة ووثاقة الخلْق. وجْنَاء: العظيمة الوجنات. تردي: تعدو وتسرع. سفنجة: نعامة. تبري: تعرض. أزعر: قليل الشعر. أربد: لونه لو الرماد.
(3) تباري: تسابق. عتاق: إبل كريم. ناجيات: سريعات. الوظيف: ما بين الرُّسْغ إلى الركبة. المور: الطريق.
(4) ديوانه، ص: 10 وما بعدها.
(5) ديوانه: 26- 31.(12/98)
مُكْرَبَةٍ أرساغُهَا جَلْمَدِ (1)
ثَمَّ كَرُكْنِ الحَجَرِ الأصْلَدِ (2)
حَيْزُومِهَا فوق حَصَى الفَدْفَدِ (3)
تندبُهُ رافعةَ المِجْلَدِ (4)
من بَعْدِ شَأْوَيْ لَيْلِهَا الأبْعَدِ (5)
مُنْفَهِقِ القَفْرَةِ كالبُرْجُدِ (6)
وله قصيدة نونية وصف فيها الناقة، مطلعها (7) :
أفاطمُ قبل بَيْنِكِ مَتِّعِينِي ... *** ومَنْعُكِ ما سَأَلْتُكِ أنْ تبِينِي (8)
ومنها قوله (9) :
1- فَسَلِّ الهمَّ عَنْكَ بذاتِ لَوْثٍ
2- بصادِقَةِ الوَجِيِف كأن هرًّا
3- كَسَاها تامِكًا قَرِدًا عليها
__________
(1) عرفاء: مشرفة السنام، أو طويلة العرف، وهو صوف العنق، أو مذكرة تشبه الجمل. وجناء: الغليظة الصُّلْبة. اللسان (عرف، وجن) ، جمالية: وثيقة تشبه الجمل في خِلْقَتها وشدتها وعِظَمها، اللسان (جمل) .. مُكْرَبة: موثقة. الأرساغ مفردها رسغ، وهو الموضع الدقيق الذي بين الخفِّ وموصل الوظيف من اليد والرجل. اللسان (رسغ) . جلمد: قطعة من الصخر. شبه أرساغها بالحجر في القوة.
(2) نهّاض: عنق. الحارك: أعلى الكاهل، وهو موضع مقدم السنام. ثمّ: هناك. الأصلد: القوي الأملس.
(3) الأوب: ترجيع الأيدي والقوائم، وقيل: سرعة تقليب اليدين والرجلين في السير. الحيزوم: الصدر، وقيل: وسطه. اللسان (أوب، حزم) . الفَدْفَد: مرّ شرحها.
(4) ابنة الجون: نائحة من كندة كانت في الجاهلية. المِجْلد: قطعة من جلد تمسكها النائحة بيدها، وتلطم بها وجهها وخدها. وقيل: خرقة تمسكها النوائح بأيديهن إذا نحن. اللسان (جون، جلد) .
(5) تهجير: السير في الهاجرة، وهي منتصف النهار عند اشتداد الحرارة. الداوية: الدو. مرّ شرحها. شأوي: مثنى شأو: وهو الغاية والشوط والمدى: اللسان (شأي) .
(6) اللاحب والقفرة والبرجد مرّ تفسيرها. منفهق: واسع.
(7) ديوانه: 136.
(8) البين: البعد والفراق. ومعنى الشطر الثاني أن منعكِ ما سألتك إياه مثل بينك وفراقك.
(9) ديوانه: 165 – 174.(12/99)
4- إذا قَلِقَتْ أشُدُّ لها سَنَافًا
5- كأنَّ مواقِعَ الثَّفِنَاتِ منها
عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ القُيُونِ (1)
يُبَارِيها ويأخُذُ بالوضِينِ (2)
سَوَادِيُّ الرَّضِيحِ مع اللَّجِينِ (3)
أمامَ الزَّوْرِ من قَلَقِ الوَضِينِ (4)
مُعَرَّسُ باكراتِ الوِرْدِ جُونِ (5)
ومنها البيتان المشهوران (6) :
1- إذا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بِلَيْلٍ
2- تقولُ إذا درأتُ لها وَضِينِي:
تَأَوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحَزِينِ
أهذا دينُهُ أبدًا ودِينِي (7) ؟!
__________
(1) ذات لوْث: ذات قوة. عُذَافرة: قوية صُلْبة. القيون: الحدادون.
(2) الوجيف: ضرْب من السير سريع. الوضين: حزام الرَّحْل.
(3) التامك: السنام البارز المشرف. قرد: ملبد بعضه على بعض. السوادي: القَتّ والنوى. الرضيح: نوىً يُدَق ويخلط بالخَبَطِ، وتعلف به الناقة. اللجين: ورق الشجر يخبط ثم يخلط بدقيق أو شعير فيعلف للإبل. اللسان (لجن) ، وأدركنا هذا اللون من الطعام وهو يقدم للإبل والبقر.
(4) السناف للبعير كاللبب للفرس، وهو ما يشد على صدر الدابة لئلا يتأخر الرحل عن مكانه. الزور: الصدر.
(5) الثفنات ما يصيب الأرض إذا بركت الناقة، ويحصل فيها غلظ من أثر البروك، فالركبتان من الثفنات، وكذلك المرفقان وكركرة الناقة، سميت بذلك، لأنها تغلظ من مباشرة الأرض وقت البروك، مفردها ثَفِنَة. وثَفِنَتْ يده: غلظت من العمل. اللسان (ثفن) . مُعَرَّس موضع التعريس، وهو النزول أول الليل أو آخره، وأراد به هنا المكان. باكرات: يريد بها القطا. جون: سود. شبه أثر ثفناتها على الأرض بأثر قطا جثمن على الأرض، وهو تشبيه دقيق.
(6) ديوانه: 194 – 195.
(7) الوضين: مرّ تفسيره. يقال: درأتُ وضين البعير إذا بسطتُهُ على الأرض ثم أبركته عليه لتشده به. اللسان (درأ) . دينه: عادته ودأبه وديدنه.(12/100)
ووصف الحيوانات والطيور يكثر دورانه في الشعر الجاهلي خاصة، وليس من المتيسر أن نلم بالموضوع، ويكفي أنني اتخذت من وصف الناقة نموذجًا؛ لارتباطها الوثيق بالصحراء، واعتماد العرب عليها في التنقل والترحال عبر مسالك جزيرتهم.
ووصف الحيوانات والطيور امتد عبر مسيرة الشعر العربي إلى العصر الحديث (1) .
ومن الأوصاف التي أوحت بها الصحراء إلى الشعراء وصف البرق والرعد والسحاب والمطر والسيل والرياح، ويمثل ذلك قول أوس بن حجر (2) :
1-قد نِمْتَ عني وَباتَ البرقُ يُسْهِرُنِي
2- يَا مَنْ لبرقٍ أبيتُ الليلَ أرْقُبُهُ
3- دانٍ مُسِفٍّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُهُ
4- كأن رَيِّقُهُ لما علا شَطِبًا
5- هَبَّتْ جنوبٌ بأعلاهُ ومَالَ به
6- فالْتَجَّ أعْلاهُ ثم ارتجَّ أسفَلُهُ
7- كأنما بين أعلاه وأسفلِهِ
8- يَنْزَعُ جِلْدَ الحَصَى أجَشُّ مُبْتَرِكٌ
9- كأنّ فيه عِشَارًا جِلَّةً شُرُفًا
10- هُدْلاً مَشَافِرُها بُحًّا حَناَجِرُهَا
11-فأصبحَ الروضُ والقيعَان مُمْرِعَةً
كما اسْتَضَاءَ يهودِيٌّ بِمصْبَاحِ
في عَارِضٍ كَمُضيءِ الصُّبْحِ لّماحِ (3)
يكاد يَدْفَعُهُ مَنْ قام بالرَّاحِ (4)
__________
(1) انظر: كتاب الحيوان للجاحظ، والحيوان في الأدب العربي لشاكر هادي شكر.
(2) ديوانه: 15- 17، وتروى القصيدة لعبيد بن الأبرص الأسدي، ديوانه: 34.
(3) العارض: السحاب المعترض في الأفق.
(4) دانٍ: قريب. مسف: قريب من الأرض، هيدبه: هماليل السحاب، وهي ما تدلى منه إلى الأرض، ويكون السحاب حينئذ شديد الغزارة.(12/101)
أقَرَابُ أبْلَقَ يَنْفِي الخيلَ رمَّاحِ (1)
أعجازُ مُزْنٍ يَسُحُّ الماءَ دَلاَّحِ (2)
وضاقَ ذَرْعًا بِحَمْلِ الماءِ مُنصَاحِ (3)
رَيْطٌ مُنَشَّرَةٌ أو ضوءُ مِصْبَاحِ (4)
كأنّهُ فَاحِصٌ أو لاعِبٌ داحِي (5)
__________
(1) رَيِّقه: أوله. شَطِب: جبل لا يزال يعرف بهذا الاسم يقع شمالي جبل ثهلان (ذهلان) ، بالقرب من بلدة الشعراء، بينهما صحراء يقطعها الماشي في نحو ساعة، وهو معدود من جبال بني نمير وكذلك جبل ثهلان. معجم البلدان (شطب) 3/343، والمجاز بين اليمامة والحجاز: 95- 96. الأقرب مفردها قُرْبُ، بضم القاف، وسكونها، وبضمها مع الراء: الخاصرة أو من الشاكلة إلى مراق البطن. القاموس (قرب) . الأبلق من الخيل ما فيه سواد وبياض، أو ما فيه تحجيل إلى الفخذين. القاموس (بلق) . ينفي: يطرد. رماح: كثير الرفس. قال ابن السكيت: ينكشف البرق كما يرمح الأبلق فيبدو بياضُهُ. خزانة الأدب: 1/157. ...
(2) دلاّح: كثير الماء. القاموس (دلح) .
(3) الْتَجّ: صَوَّت, من اللَّجَّةِ وهي الأصوات والجلبة. القاموس (لجج) . المُنْصاح: الفائض الجاري على وجه الأرض: وقيل: انصاح: تشقق من قبل نفسه. اللسان (صوح) .
(4) رَيْط ورياط جمع مفرده رَيْطَة، وهي كل مُلاَءة كلها نسج واحدٌ وقطعة واحدة. القاموس (ريط) .
(5) أجش: غليظ الصوت، يوصف به ما كان كذلك من إنسان وخيل ورعد وغيره. القاموس (جشش) ، يصف به صوت المطر الغزير. مبترك: غزير، من ابتركت = =السحابة اشتد انهلالها، والسماء دام مطرها. القاموس (برك) . الفاحص: أراد به من يفحص التراب، أي يقلبه ويحوله. يقال: فحص المطر التراب: قلبه. وفحص القطا التراب: اتخذ فيه أفحوصًا، وهو مجثمه. القاموس (فحص) . الداحي: الذي يلعب بالمِدْحَاة، وهي حجارة يَدْحَى بها الصبي فتمر على الأرض لا تأتي على شيء إلا اجتحفته. القاموس (دحو) ، وفيها تفصيل ذكر في اللسان (دحو) .(12/102)
شُعْثًا لهَامِيمَ قد همَّتْ بِإِرْشَاحِ (1)
تُزْجِي مرابيعَها في صَحْصَحٍ ضَاحِي (2)
من بينِ مُرْتَفِقٍ منها ومن طَاحِي (3)
ذكر أوس أنه بات ليله سَهِرًا يرقب البرق الذي بدا يلوح في عارض السحاب كفلق الصبح، وانتقل إلى وصف السحاب، فأشار في البيت الثالث إلى أنه يحمل ماء غزيرًا لدنوه من الأرض، وتدلي ذيوله وهماليله حتى ليكاد المرء أن يلمسه بيده، فهو سحاب مثقل بالماء. ثم وصف هطول المطر وأثره في الأرض، وذكر أنه لغزارته وقوة جريانه يكاد ينزع جلد الحصى ووجه الأرض، ولم يُغْفِلْ وصف الرعد الذي صحب تدفق المطر من السحب، فقد شبهه بصوت حنين نياق مسنة تهدلت مشافرها، وبحت أصواتها كِبَرًا، تسوق أولادها في قاع ممتد.
والبيت الثالث من الأبيات المشهورة.
ولامرئ القيس أبيات فائية عدتها ثلاثة عشر بيتًا وصف فيها السحاب والرعد والمطر والسيل أفضى فيها إلى الغاية (4) .
__________
(1) العشار من الإبل التي قد أتى عليها عشرة أشهر. الجلة: العظام الكبار من الإبل، وقيل: المسان منها يقع على الذكر والأنثى والواحد والمثنى والجمع. الشرف: الإبل المسنة، والمفرد: شَارِف. اللهاميم: النوق الغزيرة اللبن، المفرد: لهموم. أرشحت الناقة والمرأة وهي مرشح إذا خالطها ولدها وقَوِيَ ومشى معها وسعى خلفها ولم يتعبها. اللسان (عشر، جلل، شرف، لهم، رشح) .
(2) هدل مشافرها: مسترخية. اللسان (هدل) . تزجي: تسوق. المرابيع: مفردها مِرْبَاع، وهي الناقة التي تلد في أول النتاج، والمراد بالمرابيع هنا أولادها. الصحصح: الأرض الجرداء المستوية الواسعة. اللسان (ربع، صحح) . الضاحي: الظاهر.
(3) المرتفِق: الممتلئ الواقف الثابت الدائم. الطاحي: الممتد المنبسط. اللسان (رفق، طحو) .
(4) ديوانه: 325 – 329.(12/103)
واختصت الصحراء بأشجار ونباتات معينة، بعضها يتحمل البيئة القاسية من شدة حرارة وبرودة وقلة مطر، وبعضها ينبت إبان الربيع بعد هطول الأمطار. وشاع في الشعر العربي ذكر لكثير من هذه الأشجار والنباتات التي عرفها سكان الصحراء، واستعانوا بها في حياتهم وأعمالهم ورعي أنعامهم، واستخدموا ثمار بعضها في غذائهم كالنخيل والزروع التي تنتج القمح والشعير والدُّخْن، ووظفوا أغصانها في صنع الرماح والقسي والسهام والعصي، وخشبها في صنع الرحال والأقتاب والهوادج، ولوقود النار، وغير ذلك من المنافع التي أحسن العرب صنعها واستخدامها. ومن حسن الحظ أن كثيرًا من أسماء الأشجار والنباتات لا تزال تحتفظ بأسمائها التي عرفت بها في الشعر الجاهلي، وانتقلت عبر هذه القرون الكثيرة من السلف إلى الخلف مشافهة حتى وصلت إلينا.
غير أن جميع أنواع الأشجار والنباتات الصحراوية لم ترد في شعر العرب في موضوعات مستقلة، بل وردت أسماؤها متناثرة في أبيات متفرقة في دواوين الشعر ومجاميعه، والذين عرضوا لتحقيق الدواوين وجمع الأشعار لم يعنوا بوضع فهرس للنباتات والأشجار التي تضمنتها إلاّ قليلاً منهم، على الرغم من أهمية هذا الفهرس وضرورته، وكان عملهم في الفهارس منصبًا على التقليدي منها، كفهرس الأشعار، والأعلام، والقبائل والطوائف، والمواضع والأمكنة؛ ولذلك فإن الدارس المعني بالموضوع مضطر إلى قراءة الدواوين والمجموعات الشعرية وتصفحها؛ حتى يعثر على بغيته. ومن هنا تأتي أهمية الفهارس الشاملة المفصلة؛ لأنها تضع أمام الباحث مفاتيح الدراسة، وتوفر له جهدًا ووقتًا من الممكن أن يستغلها في جوانب مهمة من دراسته.(12/104)
ولذلك ستكون نماذج الاستشهاد أبياتًا مفردة؛ لتعذر العثور على نصوص شعرية متكاملة. والأسماء التي وضعها العرب للأشجار والنباتات هي من وحي بيئة الصحراء وتأثيرها، فحق أن ينسب ذلك كله إلى أثرها في الشعر. وليس من المستطاع أن ألم بجميع ما ورد في الشعر العربي، أو الشعر الجاهلي بخاصة من الأسماء، فحسبي ذلك بعض النماذج والأمثلة التي تثري الموضوع وتدل عليه، ويقاس عليها ما سواها مما تحفل به دواوين الشعر ومجاميعه. وسأذكر فيما يلي اسم الشجرة أو النبتة، وأعرف بها، ثم أذكر شاهدها الشعري.
1- النخلة، قال أوس بن حجر (1) :
وقتلى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ *** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ (2)
والمعنى والتشبيه واضحان.
2 – الشَّرْيُ: وهو شجر صحراوي يفترش الأرض، يشبه شجر البطيخ الأحمر (الحبحب) أو (الرّقي) كما يُسَمَّى في العراق، وله حَدَجٌ في مثل حجم البرتقال، وبعضه في مثل حجم البطيخ، شديد المرارة، تأكله بعض الحيوانات، ويقال له الحنظل أيضًا، وله حب صغير يسمى الهبيد، الواحدة شَرْية (3) . وهبيده يُعَالج حتى تذهب مرارته، ثم يؤكل لبه، وهو لذيذ خفيف على المعدة. قال أوس (4) :
ألم تَرَيَا إذْ جئتُمَا أنَّ لحمَها ** به طَعْمُ شَرْيٍ لم يُهَذَّبْ وحَنْظَلُ؟! (5)
وكان العرب في الجاهلية يأكلون لب الهبيد. قال امرؤ القيس (6) :
__________
(1) ديوانه: 30.
(2) مسبل منهمر: مطر غزير.
(3) انظر: اللسان (شري، حنظل، هبد) .
(4) ديوانه: 94.
(5) يصف لحمها بأنه شديد المرارة كالحنظل. لم يهذب: لم يعالج وينق حبه حتى تذهب مرارته. اللسان (هذب) .
(6) ديوانه: 9. والبيت من معلقته المشهورة.(12/105)
كأني غداةَ البَيْنِ يوم تحمَّلوا ... ** لدى سَمُرَاتِ الحيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ (1)
وكان لبُّ الهبيد يؤكل في نجد إلى وقت قريب.
3 – الخزامى: نبت ربيعي طيب الرائحة واحدته خُزَاماة. قال أبو حنيفة الدينوري:)) الخزامى عشبة طويلة العيدان، صغيرة الورق، حمراء الزهرة، طيبة الريح، لها نَوْرٌ كَنَوْرِ البَنَفْسَج (( (2) . قال امرؤ القيس (3) :
كأنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغمامِ
يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِهَا
وريحَ الخُزَامى ونَشْرَ القُطُرْ (4)
إذا طَرَّبَ الطائرُ المُسْتَحِرْ (5)
وقال عبيد بن الأبرص (6) :
وريحِ الخُزَامى في مذانِبِ رَوْضَةٍ ** جَلاَ دِمْنَهَا سَارٍ من المُزْنِ هَطَّالِ (7)
ولا يزال الخزامى معروفًا بهذا الاسم والصفة في جزيرة العرب، ويكثر نبته إبان الربيع.
__________
(1) البين: البعد والفراق. تحملوا: رحلوا. سَمُرات مفردها سَمُرة، وهي من شجر الطلح الذي ينمو في صحراء العرب. يستعمل شجره في تغمية (تسقيف) البيوت، ووقودًا للنار. اللسان (سمر) . ناقف الحنظل: الذي يستخرج حبه. يريد أن دموعه سالت عند فراق من أحب كما تسيل دموع ناقف الحنظل رغمًا عنه.
(2) اللسان (خزم) .
(3) ديوانه: 157 – 158 (خزم) .
(4) صوب: وقع. الغمام: السحاب واحدته غمامة. نَشْر: رائحة. القُطُرُ: بضم القاف مع ضم الطاء أو تسكينها، العود الذي يتبخر به، وقد قطّر ثوبه وتَقَطّّرِت المرأة. اللسان (قطر) .
(5) يُعَل: من العلل، وهو الشرب الثاني. والنهل: الشرب الأول. والمراد هنا يُسْقى به. طرب: صوت. المستحر: المصوت في السحر. يصف فاها بطيب الرائحة، وأنه لا يتغير بعد النوم. والأنياب أراها كلمة غير مناسبة في هذا المقام ولو قال: أسنانها أو ثنايها لكان أولى.
(6) ديوانه: 114.
(7) مذانب الروضة: الجداول التي توزع السيل في جنباتها: اللسان (ذنب) . جلا: كشف. الدمنة: آثار الأقوام والدواب. المزن: مفردها مُزْنة، وهي السحابة الممطرة.(12/106)
4 – العَرْفَج: نبات صحراوي ينمو في السهول وعلى ضفاف الأودية، له عيدان دقاق كثيرة، وزهره أصفر، وورقه صغير، ورائحته طيبة، ولون أغبر يميل إلى الخضرة ما دام غضًّا، ويبيض إذا يبس، تأكله الإبل والغنم رطبًا ويابسًا، ولهبه شديد الحمرة، واحدته عرفجة (1) ، ولا يزال يعرف بهذا الاسم. قال الراعي النميري (2) :
كَدُخَانِ مُرْتَجِلٍ بأعلى تَلْعَةٍ ... غَرْثَانَ ضَرَّمَ عَرْفَجًا مَبْلُولا (3)
5 – العَوْسَج: شجر ذو شوكٍ من العِضَاه، ينمو في صحارى نجد، ويتحمل العطش، له ثمرٌ أحمرُ صغير مدوّر، كأنه خرز العقيق (4) ، يستطاب أكله، ويقال له في نجد: النبق. وقد أكلناه ونحن صغار، وهو لذيذ الطعم. قال الشماخ (5) :
مُنَعَّمَةٌ لم تَدْرِ ما عَيْشُ شِقْوَةٍ ... ولم تَغْتَزِلْ يومًا على عُودِ عَوْسَجِ (6)
__________
(1) اللسان (عرفج) .
(2) ديوانه: 240.
(3) المرتجل: الذي أصحاب رجلاً من جراد فهو يشويه أو يطبخه. اللسان (رجل) . التلعة: ما ارتفع من الأرض وما هبط منها، ومسيل الماء، وما اتسع من فوهة الوادي ومسيل الماء من الأسناد والجبال والمرتفعات حتى ينصب في الوادي، ولا تكون التلاع إلا في الصحارى. القاموس (تلع) . غرثان: جوعان. ضَرَّم: أوقد وأشعل.
(4) ... اللسان (عسج) .
(5) ... اللسان والتاج (عسج) . ورواية ديوانه: 74 (لم تَلْقَ بؤسَ مَعِيشَةٍ) .
(6) ... تغتزل: تغزل الصوف بالمغزل. والبيت دليل على أن العرب كانوا يصنعون المغزل من أعواد العوسج. وكان يستعمل إلى وقت قريب في البادية؛ لغزل الخيوط التي تنسج منها بيوت الشعر وغيرها من الفرش. وقد رأيت في صغري الأعرابيات وهن يغزلن الصوف في سرعة وخفة ومهارة، وينسجن منه بيوت الشعر.(12/107)
6 – الأُقْحُوَان: من نبات الربيع مُفَرَّض (مُحَزَّز) الورق، دقيق العيدان، له نَوْرٌ أبيض كأنه ثَغْرُ جارية حديثة السن، طيب الرائحة، تشبه به الأسنان، ويجمع على أقَاحٍ (1) ، وهو معروف بهذا الاسم في صحراء نجد. قال ذو الرمة (2) :
إذا أخذَتْ مِسْوَاكَها صَقَلَتْ به ** عِذَابًا كنَوْرِ الأُقْحُوَانِ المُهَطَّلِ (3)
7 – الخِمْخمُ: نباتٌ تُعْلَفُ حَبَّهُ الإبلُ، ويروى بالحاء المهملة الحِمْحِم، وهو الشُّقَارى (4) ، وبهذا الاسم يعرف في نجد. قال عنترة (5) :
ما رَاعَنِي إلا حمولةُ أهلِها ... وَسْطَ الديارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (6)
8 – الجَثْجَاثُ: نبات ينمو في القيعان والرياض، له زهرة صفراء، تشبه زهرة العَرْفَجة طيبة الرائحة، يشبه القيصوم، تأكله الإبل والغنم إذا لم تجد غيره، وهو مرّ الطعم، تستطيبه العرب، وتكثر ذكره في أشعارها، واحدته جَثْجَاثة (7) . ويعرف بهذا الاسم في إقليم نجد، ويستعمل هو والقيصوم كمامًا للنخل حماية لثمره من الجراد. قال كثير عزة (8) :
فما رَوْضَةٌ بالحَزْنِ طيبةُ الثرى
بأطيبَ من فيها إذا جِئْتَ طارقًا
يَمُجُّ الندى جَثْجَاثُهَا وعَرَارُهَا (9)
وقد أُوقِدَتْ بالمِجْمَرِ اللَّدْنِ نَارُهَا
__________
(1) ... اللسان (قحو) .
(2) ... ديوانه: 1472.
(3) ... عذابًا: يريد أسنانًا عذابًا، اكتفى بالصفة عن الموصوف. نور: زهر. المهطل: أصابه الهطل وهو المطر.
(4) ... اللسان (خمم) .
(5) ... ديوانه: 188.
(6) ... الحمولة: الإبل التي تحمل المتاع. تَسَف: تأكل.
(7) ... اللسان والتاج (جثث) .
(8) ... المصدران السابقان (جثث) من غير نسبة، وهما لكثير في ديوانه: 429- 430. ورواية البيت الثاني في الديوان فيها اختلاف عما أثبت هنا.
(9) ... الحزن: ضد السهل. يمج: يخرج ويُسيل. العرار: سيأتي بيانه.(12/108)
9 – العرار نبت طيب الرائحة، يسمى بهار البرّ، وقال ابن بري: هو النَّرْجِسُ البري، واحداته: عرارة (1) .
قال الصِّمَّةُ القشيري (2) :
تَمَتَّعْ من شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ
ألا يا حبذا نَفَحَاتُ نجدٍ
فما بعد العَشِيَّةِ من عَرَارِ
وريَّا رَوْضِه بعد القِطَارِ (3)
وقال الأعشى (4) :
بَيْضَاءُ غُدْوَتُهَا وصَ ... *** فْرَاءُ العَشِيَّةِ كالعَرَارَهْ (5)
10 – القيصوم: ينبت في القيعان والرياض وضفاف الأودية كالجثجاث، طيب الرائحة، وورقه هَدَبٌ، يعد من رياحين الصحراء، له نَوْر أصفر، ينهض على ساقٍ تطول (6) ، ويكم به النخل كالَجثْجَاثِ، وهو معروف بهذا الاسم في ديار نجد حتى الآن، وينمو كالجَثْجَاثِ كثيرًا. قال جرير (7) :
نَبتَتْ بمَنْبِتِهِ فَطَابَ لِشَمِّها *** ونأتْ عن الجَثْجَاثِ والقَيْصُومِ
وقال الشاعر (8) :
بلادٌ بها القَيْصُومُ والشِّيحُ والغَضَى
11 – الشِّيح: نبات سهلي ينبت في القيعان والرياض، وهو من الأمرار، له رائحة طيبة، وطعم مُرّ، وهو مرعى للخيل والنعم، كان العرب يتخذون منه المكانس (9) . قال الشاعر (10) :
في زاهرِ الروضِ يُغَطِّي الشِّيحَا
__________
(1) ... اللسان والتاج (عرر) .
(2) ... ديوانه: 78، واللسان والتاج (عرر) .
(3) ... الريا: الريح الطيبة. القاموس (روي) . القِطَار: مفردها القَطْر، وهو المطر.
(4) ... ديوانه: 203، واللسان والتاج (عرر) ، ورواية الديوان (بيضاء ضَحْوَتُها) .
(5) ... يريد أنها تتلون بلون الشمس، أو أنها تضمِّخُ جسدها بالزعفران والطيب آخر النهار.
(6) ... اللسان (قصم) .
(7) ... اللسان (قصم) ، وديوانه: 1038 نقلاً عن اللسان.
(8) ... اللسان (قصم) .
(9) ... اللسان (شيح) .
(10) ... المصدر السابق (شيح) .(12/109)
12 – الغضى: من نبات الرمل، له هَدَبٌ كهدَبِ الأرطى، وهو من أجودِ الوقودِ عند العرب، واحدته غَضَاةٌ (1) . قال سُحيم عبد بني الحَسْحَاس (2) :
كأن الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فوق نَحْرِها ... وجَمْرَ غضىً هبَّتْ له الريحُ ذاكِيا
وأهل الغضى أهل نجد لكثرته في بلادهم (3) .قالتْ أم خالد الخثعمية (4) :
فإنْ كُنْتَ من أهْلِ الحجازِ فلا تَلِجْ
رأيتُ لهم سِيمَاءَ قَوْمٍ كرِهْتُهُمْ
وإن كُنُتَ نجديًّا فَلِجْ بِسَلاَمِ
وأهلُ الغَضَى قومٌ عليّ كرامُ
13- السَّلَم: شجر من العِضَاه، ليس له خشب، وله شوْك دُقَاق طُوال حادٌ إذا أصاب رجل الإنسان، وله زهرة صفراء فيها حبة خضراء طيبة الرائحة، وفيها شيءٌ من مرارة، واحدته سَلَمَة (5) . قال الشاعر (6) :
__________
(1) ... اللسان (غضي) .
(2) ... ديوان: 17، واللسان (غضي) وهو من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
عُمَيْرةَ ودِّعْ إن تَجَهَّزْتَ غازيا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا
(3) ... اللآلي: 641، واللسان (غضي) .
(4) ... أمالي أبي علي القالي: 2/10، واللآلي: 641، واللسان (غضي، قطم) ، وانظر معجم النساء الشاعرات في الجاهلية والإسلام: 291، وأعلام النساء: /313- 314، ولم أجد لها ترجمة سوى أنها شاعرة من شواعر العرب، وقصيدتها الميمية قالتها في جَحْوَش العُقَيلي، وكانت فيما يبدو تحبه وتهواه، وجحوش الخفاجي العقيلي عاش في الدولة الأموية، وتوفي في أول القرن الثاني الهجري.
... انظر: شعراء بني عُقَيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي: 1/28- 29، وراجع فهرس الأعلام: 157. ... ... ... ... ...
... ونسب البيت الأول في المؤتلف والمختلف: 157 إلى خنساء بنت أبي الطمّاح، وكانت زوجة للضحاك بن عُقِيل العُقَيْلي. وفي المصدر نفسه ثلاثة أبيات قالتها خنساء بنت التَّيِّحان تتشوق إلى جحوش العُقَيلي الخفاجي.
(5) ... اللسان (سلم) .
(6) ... المصدر السابق (سلم) .(12/110)
كُِلي سَلَمَ الجرْدَاءِ في كُلِّ صَيْفَةٍ *** فإنْ سألوني عَنْكِ كُلَّ غَرِيمِ (1)
وقال الراجز (2) :
إنَّكَ لن تَرْوِيَهَا فاذهَبْ ونَمْ *** إنَّ لها رَيَّا كمِعْصَالِ السَّلَمْ (3)
14 – الحرْمَل: شجر دائم الخضرة، صحراوي، ينبت في السهول، مُرّ الطعم، تعافه الدواب ما عدا المِعْزَى، وفي امتناعه عن الأكلة (4) قال طرفةُ يذم قومًا (5) :
هُمُ حَرْمَلٌ أعيا على كُلِّ آكِلٍ ... مَبيتًا، ولو أمْسَى سَوَامُهُمُ دَثْرَا (6)
وسميت حرملاء بهذا الاسم لكثرة نبات الحَرْمَلِ في أرضها (7) ؛ وهي المعروفة الآن بحريملاء، وتقع شمالي الرياض بنحو مئة كيلٍ. قال أوس (8) :
تَجَلَّلَ غَدْرًا حَرْمَلاءَ وأقْلَعَتْ ... سَحَائِبُهُ لما رأى أهْلَ مَلْهَمَا (9)
__________
(1) ... الجَرْداء: بلد دون الفَلْج (الأفلاج) ببلاد يني جعدة. المصدر السابق (سلم) .
(2) ... اللسان (سلم، عصل) .
(3) ... ريَّا: رائحة طيبة. المِعْصَال: مِحْجَن يتناول به أغصان الشجر لاعوجاجه. اللسان (عصل) .
(4) ... اللسان (حرمل) .
(5) ... ديوانه: 88، واللسان (حرمل) .
(6) ... مبيتًا: مكان البَيَات، أي ليس عندهم موضع يبيت فيه الضيفان، يصفهم بالبخل. ورواية الديوان (مبيرًا) أي مهلكًا. السوام: الأنعام التي ترعى. دثرًا: كثيرًا. القاموس (دثر) .
(7) ... معجم اليمامة: 1/317.
(8) ... ديوانه: 111، ومعجم ما استعجم: 1/440.
(9) ... هذا البيت من ثمانية أبيات في ديوانه. قال البغدادي: ((هذه الأبيات قالها أوس بن حجر لبني الحارث بن سدوس بن شيبان، وهم أهل القرية (سدوس) باليمامة، حيث اقتسموا معزاه، وقيل: اقتسمها بنو حنيفة وبنو سحيم، وكان أوس بن حجر أغرى عليهم عمرو ابن المنذر بن ماء السماء، ثم جاور فيهم فاقتسموا معزاه)) . خزانة الأدب: 4/373.
... والقرية التي تسمى الآن سدوس قريبة من حريملاء وملهم. ذمّ أهل سدوس وحرملاء، وأثنى على أهل ملهم.(12/111)
15- القَرَظ: شجر يُدْبغ به. قال أبو حنيفة الدينوري: القرَظ أجود ما تدبغ به الأهُبُ (الجلود) في أرض العرب، وهي تدبغ بورقه وثمره، واحدته قَرَظَةٌ (1) . وأغصانه طويلة لدنة، وهو معروف باسمه حتى الآن في جزيرة العرب، ورأيناه تدبغ به الجلود ونحن صغار. قال أبو ذؤيب الهذلي (2) :
وحتى يؤوبَ القارظانِ كلاهُمَا *** ويُنْشَرَ في القَتْلَى كُليبُ بنُ وائلِ (3)
16- السَّبَطُ: نبات صحراوي رملي سَلِبٌ (4) طُوال دقيق العيدان، تأكله الإبل والغنم والبقر، وليس له زهر ولا شوك، وله ورق دُقَاق على قدر الكُرَّاث، يشبه نبات الدُّخْن، الواحدة سَبَطَة، وأرضٌ مَسْبَطَةٌ كثيرةُ السَّبط (5) .
قال ذو الرمة يصف رملاً (6) :
بين النهارِ وبين الليلِ من عَقِدٍ *** على جوانبهِ الأسباطُ والهَدَبُ (7)
__________
(1) اللسان (قرظ) .
(2) شرح أشعار الهذليين: 1/147، ومجمع الأمثال: 3/152، واللسان (قرظ) .
(3) القارظان: رجلان من عنزة، خرجا في طلب القرظ فلم يعودا فضرب بهما المثل في طلب الأمر المستحيل، فقيل: لا آتيك حتى يؤوب القارظان. مجمع الأمثال: 3/152، وجمهرة الأمثال: 1/123- 124، وكليب وائل: هو الذي قتله جساس بن مرة وقامت بسبب حرب البسوس.
(4) يقال: شجرة سَلِيب: سُلِبَتْ ورقها وأغصانها. القاموس (سلب) .
(5) اللسان (سبط) .
(6) ديوانه: 1/27، واللسان (سبط) .
(7) عقِد بكسر القاف وفتحها: ما تراكم من الرمل وكثر وتعقد.(12/112)
وأسماء النباتات والأشجار الصحراوية التي حملها إلينا الشعر العربي كثيرة، وهي لا تزال معروفة حتى الآن بأسمائها وصفاتها في جزيرة العرب، ويصعب تعدادها والإحاطة بها في هذا البحث، من ذلك الأرْطى (1) ، والصَّمْعَاءُ (2) ، والنَّصِيُّ (3) ، والحَمْضُ (4) والرِّمْثُ (5) ، والبَسْبَاسُ (6) ، والثُّمَامُ (7) ، والرَّبْل (8) ، واحدته رَبْلَة، وهي أسماء متعددة تحتاج إلى بحث مستقل.
أثر الصحراء في معاني الشعر:
__________
(1) اللسان (أرط) .
(2) اللسان (صمع) .
(3) اللسان (نصي) .
(4) اللسان (حمض) .
(5) اللسان (رمث) .
(6) اللسان (بسس) .
(7) اللسان (ثمم) .
(8) اللسان (ربل) .(12/113)
لحظنا في الصفحات السابقة أن للصحراء أثرًا واضحًا في توجيه موضوعات الشعر التي عبرت عن بيئة الصحراء، وما زاوله سكانها من نشاط وأعمال، ووصلت إلينا حاملة طابع الصحراء في شكلها ومضمونها؛ فالألفاظ التي تضمنتها الموضوعات المنبثقة عن الصحراء غزيرة تمثل معجمًا ضخمًا، وما يندرج تحتها من معانٍ أضاف إلى الشعر ثروة وامتدادًا؛ فوصف الرحلة عبر الصحراء، ووصف طبيعتها وسهولها وحزونها وحيوانها ونباتها، وما يتصل بذلك من نشاط تضمن معاني كثيرة، أغنت الشعر العربي، وزودته بمضامين وأفكار جديدة، ما كان ليظفر بها لو وجد في بيئة أخرى؛ فجميع الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين الذين أتيح لهم أن يعيشوا في الصحراء اقتصروا في معاني شعرهم على ما أوحت به إليهم بيئتها وأجواؤها، فحينما نقرأ شعر امرئ القيس، أو أوس بن حجر، أو زهير بن أبي سلمى نلحظ أن طوابع الصحراء ماثلة في شعرهم، والمعاني التي طرقوها تتجسد فيها إيحاءات الصحراء؛ فالشعر العربي، وشعر كل أمة ابن بيئته، ولا يمكن أن يحمل مضامين بيئة أخرى غريبة عنه، إلا إذا انسلخ الشاعر عن جلدته، واستعار جلدة أخرى، وحتى الموضوعات التقليدية من مدح وغزل، وهجاء وعتاب واعتذار يستحيل أن تتنصّل عن تأثير الصحراء؛ ولذلك نجد بعض الدارسين اتجهوا في بحوثهم ودراساتهم إلى استنباط حياة العرب من شعرهم، وكان نجاحهم في هذا الاتجاه بارزًا؛ لأنهم وصلوا إلى معلومات ثمينة نادرة عن حياة العرب في صحرائهم. ولعل في هذا ردًا على مقولة إن الشعر الجاهلي أكثره موضوع، وكيف يتسنى أن يكون موضوعًا أو منحولاً وهو يمثل بيئتهم الصحراوية في جزيرة العرب بأماكنها ومواضعها ومسالكها وحيواناتها ونباتاتها أصدق تمثيل؟ وكيف يتاح لواضع هذا الشعر أن يتمثل هذه البيئة كلها في شعر ينظمه ثم ينحله الجاهليين؟ وتبين لي من خلال الشواهد الشعرية التي أثبتها في البحث صدق الشاعر الجاهلي ودقته في تحديد الأماكن وصحة(12/114)
الأسماء والأوصاف التي أطلقها على الحيوان والنبات، والدليل على ذلك أن كثيرًا من أسماء المواضع والأماكن لا تزال تحتفظ بأسمائها التي عرفناها في الشعر الجاهلي، وقد أشرت إلى ذلك في مواضعه من البحث، ولذلك ينبغي أن نستنبط ردودنا على من ينكر صحة الشعر الجاهلي من الشعر نفسه، ونطبق ما ورد فيه من أسماء الأماكن والمواضع والحيوان والنبات على واقع الحال المشاهد، ونستدل من الأوصاف ومظاهر الحياة الاجتماعية التي دونها الشعر على نظائرها التي احتفظت ببقائها إلى وقت قريب، ويعود السبب في ذلك إلى أن الصحراء بقيت إلى عقود قريبة محافظة على خصائصها وسماتها وبيئتها التي قرأناها في الشعر الجاهلي والأموي، وكان سكانها قبل توطينهم وتحضرهم يمارسون الأعمال نفسها التي كان يمارسها عرب الجاهلية، ومن أظهرها الاعتماد في حياتهم على إنتاج الصحراء من حيوان ونبات، والتنقل في مسالكها بحثًا عن المياه والمراعي، أو شن الغارات على الخصوم، وغير ذلك من المهمات التي نسمعها عن عرب البادية في شكل قصص وأخبار، ولا نجد في مضمونها اختلافًا عما كنا نقرؤه عن عرب الصحراء في عهود سحيقة، ووجه الاختلاف الوحيد وسيلة النقل، نقرأ أخبار العرب وقصصهم في الجاهلية والإسلام، وما يصحبها من أشعار باللغة الفصحى، أما أحفادهم عرب البادية فنسمع أخبارهم وقصصهم وأشعارهم من أفواه الرواة باللهجة العامية، ولابد من الإشارة إلى أنه سقط الكثير من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام وقصصهم وأشعارهم، وما وصل إلينا من ذلك لا يمثل إلا القليل مما فقد، والسبب في ذلك واضح، وهو أن التدوين الكتابي الفعلي لم يبدأ إلا في القرن الثاني الهجري، كذلك لم يدون من أخبار عرب الصحراء في جزيرة العرب وقصصهم إلا القليل جدًا، ولم يبدأ التدوين إلا منذ عهد قريب، ممثلاً في الكتب التي تعنى بالأدب الشعبي شعرًا ونثرًا.(12/115)
أما قبل ذلك فكانت الأخبار والقصص والأشعار في حوافظ الرواة وذواكرهم، فذهب معظم ما كان معهم بذهابهم عن الدنيا.
وما ذكرته أعده مدخلاً لمعاني الشعر المرتبطة بالصحراء، وهي معانٍ كثيرة، ليس في الإمكان أن ألم بها أو ببضعها في هذا البحث، ولكن الدارس يجدها ماثلة في دواوين الشعراء الذين عاشوا في جزيرة العرب، وفي دواوين الشعراء الذين تأثروا بهم.
ومن أبرز الصفات المعنوية التي كونتها الصحراء في نفوس ساكنيها، ودونوها شعرًا يفوح منه عبق الصحراء، ما نلحظه من خصائص المجتمع الجاهلي، وكل مجتمع صحراوي، وهي خصائص تتمثل في الشجاعة والجرأة، والميل إلى المخاطرة، والاستهانة بالموت، والصبر على المكاره، وتحمل الأعباء، والحمل على النفس، والكرم، والنجدة، والإيثار، والتآزر في الملمات، والعفة، والحلم، والعفو عند المقدرة، والوفاء، وإباء الضيم، والميل إلى الحرية، والوضوح في المنطق، والصراحة التي تبلغ أحيانًا حد الإثارة والاستفزاز، والغلظة التي تصل في بعض المواقف إلى الجفاء المعهود في الأعراب، والتكتم، والتمويه الذي يمكن عده نوعًا من المراوغة والخداع، كما كان يحدث في الحروب، والولاء للقبيلة، والتعصب لها، والقيافة. وغير ذلك من الخلال والصفات التي حملها الشعر الذي يصدق عليه وصف شعر الصحراء، سواء أكان شعرًا جاهليًا أم إسلاميًَا، ولا يجد الدارس صعوبة في التمثيل لها من النصوص الشعرية الكثيرة (1) .
أثر الصحراء في الصور الفنية:
__________
(1) لمزيد من التفصيل انظر: الحياة العربية من الشعر الجاهلي، للدكتور أحمد محمد الحوفي. والموضوع في حاجة إلى دراسات تطبيقية أكثر سعة وشمولاً.(12/116)
يحفل الشعر العربي بالصور الفنية التي أوحت بها الصحراء، واستقاها الشعراء من بيئتها، وطبيعة الحياة فيها، وكيف يتسنى لشاعر عاش حياته كلها في الصحراء أن يستعير صورًا من خارج البيئة التي خبرها وأمضى ما تصرم من حياته في ربوعها؟! بيئة خبر دروبها وسهولها وحزونها وقيعانها وجبالها ووهادها وأوديتها ورياضها. ولذلك فإن الشعر الذي نصفه بالصحراوي من الطبيعي أن ينتزع صوره من تشبيهات واستعارات من الصحراء، فحينما نأتي إلى وصف الفرس أو الناقة في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين نجدهم لا يخرجون في تصويرهم عما عهد في بيئتهم وشاهدوه وهم يتنقلون في فضاء الصحراء، فامرؤ القيس حينما أراد أن يجسد صلابة فرسه وسرعة كره على العدو وإدباره عنه حيث لا مجال للكر لم يجد ما يشبهه به سوى قطعة صلبة من الصخر دحرجها سيل قوي من مكان مرتفع، وذلك في قوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مدبرٍ معًا **كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ من عَلِ (1)
وصورة التشبيه انتزعها من مشاهدته لما يحدث في الصحراء حينما تتدافع حجارة الجبل، وتنصب في حركة سريعة متتابعة لها دويٌّ وصوت، والتشبيه غير دقيق؛ لأن حركة الكر والفر والإقبال والإدبار لا تطابق كل المطابقة تهدي الحجر من مكانٍ عالٍ.
وفي قوله:
له أيطلا ظبيٍ وسَاقَا نَعَامةٍ ... ** وإرخاءُ سِرْحَانٍ وتَقْرِيبُ تَتْفُلِ (2)
شبه خاصرتي فرسه في الضمور بخاصرتي ظبي، وساقيها بساقيْ نعامة في الصلابة والقصر وطول الفخذين، وهي صفات محمودة في الفرس، وشبه عدوه بإرخاء الذئب (3) وتقريب الثعلب (4) ، والمشبه به منتزع من حيوانات صحراوية شاهدها امرؤ القيس في جزيرة العرب كثيرًا.
__________
(1) ديوانه: 19.
(2) ديوانه: 21.
(3) الإرخاء: شدة العدو، أو عدو فوق التقريب. القاموس (رخو) .
(4) التقريب: ضرب من العدو، أو أن يرفع يديه معًا ويضعهما معًا. القاموس (قرب) .(12/117)
وشبه كَفَل فَرَسِه بدِعْصِ الرمل الذي لبَّدَهُ الندى فثَبتَ وتماسك، وذلك في قوله (1) :
له كَفَلٌ كالدِّعْصِ لبَّدَهُ الندى ... ** إلى حَارِكٍ مِثْلِ الغَبيطِ المُذَأَّبِ (2)
والدعص الكثيب الصغير من الرمل، وهو مما يشاهد في الصحراء.
وشبه عمرو بن كلثوم غضون الدروع بطرائق الغدير إذا هبت عليه الريح، وذلك في قوله (3) :
كأن مُتُونَهُنَّ متونُ غُدْرٍ ** تُصَفِّقُها الرياحُ إذا جَرَيْنَا
والمشبه به منتزع من الصحراء، فتكسر سطح الغدير إثر هبوب الرياح عليه منظر ألفه ساكن الصحراء العربية، وشاهده كثيرًا.
وفي بيت الأعشى (4) :
تَسْمَعُ لِلْحَلْي وَسْوَاسًا إذا انْصَرَفَتْ **كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ (5) زَجِلُ
صورة فنية صحراوية، فالعِشْرِق نبات صحراوي، ولا يزال ينبت فيها، ويعرف بهذا الاسم منذ العصر الجاهلي، وهو يفترش الأرض، وله عناقيد يكون فيها الحب، فإذا يبست، وهبت عليها الريح سمع لها صوت، شبه به الأعشى صوت حُلَيِّ محبوبته هريرةَ إذا انصرفت، وهو تشبيهٌ دقيقٌ مصيب.
وفي بيت زهير (6) :
تَبَصَّرْ خَلِيلي هل تَرَى من ظَعَائِنٍ *كما زَالَ في الصَّبْحِ الأشَاءُ (7) الحَوَامِلُ
__________
(1) ديوانه: 47.
(2) الكفل مؤخرة الفرس، أو الدابة مما يلي الفخذين. الحارك: أعلى الكاهل. الغبيط: رحل قتبه وأحناؤه واحدة، والجمع: غُبُط. القاموس (غَبَطَ) . المُذَأَّب إذا جعل له فرجة بين دَفّتيه، فكان بذلك واسعًا. أو جعل له ذؤابة. اللسان (ذأب) .
(3) شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات: 416، وشرح المعلقات السبع: 132، وشرح القصائد العشر: 357.
(4) ديوانه: 105.
(5) العِشْرِق: نبات صحراوي يفترش الأرض، ويستعمل دواءً مسهلاً، وله قوة في الإسهال فعالة.
(6) شرح ديوانه: 294.
(7) المفرد: أشَاءة.(12/118)
صورة أخذها من الصحراء، شبه مراكب النساء على الإبل وهي تسير بالنخل الصغار الحوامل إذا حركتها الريح، وركنا التشبيه من مشاهد الصحراء البارزة.
ومن صور الصحراء المألوفة أثر الدَّبا – وهو صغار الجراد – في الأرض السهلة المنحدرة، واستغل أوس بن حجر هذه الصورة فشبه بها الشطوب التي ترى على صفحة السيف، فقال (1) :
وأخرج منه القَيْنُ أثْرًَا كأنَّهُ ** مَدَبُّ دَبًا سُودٍ سَرَى وهو مُسْهِلُ (2)
وشبه نصل السيف في بياضه ولمعانه بتلؤلؤ البرق في سحب ركامية (3) في قوله (4) :
وأبيضَ هِنْديًّا كأنَّ غِرَارَهُ ** تلألؤُ بَرْقٍ في حَبِيٍّ تَكَلَّلاَ (5)
ونهر المجرة (6) الذي يُرَى في السماء يشاهده ساكن الصحراء في ليالي الصحو كثيرًا، فنقل زهير بن أبي سلمى هذا المشهد، وشبه به الطريق الواضح في قوله (7) :
__________
(1) ديوانه: 95.
(2) القين: الحداد الذي يصنع السيوف وغيرها. الأثْر: فرند السيف. القاموس (أثر) . مدب: ممشى. مسهل: منحدر إلى السهل أو في طريق سهل.
(3) هي السحب التي يركب بعضها بعضها، ويكون برقها شديد اللمعان والإضاءة، ومطرها غزيرًا بإذن الله؛ لأنها مثقلة بالماء، وهي على خلاف السحب الانبساطية التي تكون قريبة من الأرض قليلة الماء. ...
(4) ديوانه: 84.
(5) هندي: مصنوع في الهند. الغِرَار: حد السيف والرمح والسهم. القاموس (غرر) .
... الحبي: السحاب يشرف من الأفق على الأرض، أو الذي بعضه فوق بعض، ويسمى السحب الركامية، ويكون مطرها غزيرًا بإذن الله. القاموس (حبي) .
... تكلل: تراكم بعضُه فوق بعض كأنّ غشاءً ألبسه. القاموس (كلل) .
(6) يسميها العرب: درب التَّبَّانة، أي الذين ينقلون التبن، ويسميها الغرب: الطريق اللبني Mikly Way، نسبة إلى اللبن، ولفظة المجرة يقابلها في الإنجليزية لفظة Galaxy.
(7) شرح دوانه: 257.(12/119)
على لاحِبٍ مِثْلِ المجرَّةِ خِلْتَهُ ... إذا ما علا نَشْزًا من الأرضِ مُهْرَقُ (1)
والمطر الغزير من خصائص الصحراء، ولاسيما في العشايا، ووظف علقمة ابن عبدة الفحل هذه الخاصية، فشبه به جري الفرس السريع وهو يعدو خلف قطيع من البقر الوحشي فقال (2) :
فَأَتْبَعَ آثارَ الشِّيَاهِ بصَادِقٍ ** حثَيثٍ كغيثِ الرَّائِحِ المُتَحَلِّبِ (3)
ومنظر الغنم منتشرة والرعاة خلفها يسوقونها إلى المرعى دون أن تبدي مقاومة من مناظر الصحراء المتكررة، وأخذ علقمة هذا المنظر وشبه به قبيلة زيد مناة بن تميم فيما يراه من ضعفهم وانعدام شخصيتهم، فقال (4) :
كأنَّ زيدَ مَنَاةٍ بَعْدَهُمْ غَنَمٌ ** صَاحَ الرِّعَاءُ بها أن تَهْبِطَ القَاعَا (5)
وتشبيه النياق أو الجمال وهن يَغْذُذْن السير في الفلاة بسرب القطا الذي أمضه العطش في صبح يوم شديد الحرارة صورة واقعية من صور الصحراء، قال عبيد بن الأبرص (6) :
وكُنَّ كأَسْرَابِ القَطَا هَاجَ وِرْدَهَا ** مع الصُّبْحِ في يومِ الحَرُورِ رَمِيضُ (7)
__________
(1) اللاحب: الطريق الواضح. نشزًا: مكانًا مرتفعًا. مُهْرَق: صحيفة بيضاء، وهي كلمة معربة من الفارسية. القاموس واللسان (هرق) .
... والكلمة خير لمبتدأ محذوف تقديره: هو مهرق. حاشية الديوان. والجملة تشبيه بليغ، أي هو مثل الصحيفة البيضاء في الملاسة والاستواء والوضوح.
(2) ديوانه: 94.
(3) الشياه: مفردها شاة من الغنم عامة، والظباء، والبقر، والنَّعَام، وحمر الوحش، والمرأة. القاموس (شوه) . وتطلق في نجد على أنثى الخراف فقط. بصادق: صفة لموصوف محذوف تقديره: بجريٍ صادق. المتحلب: الممطر في غزارة.
(4) ديوانه: 126.
(5) القاع: أرض سهلة مطمئنة مستوية، لا حصى فيها ولا حجارة. وفي تعريفه تفصيل في اللسان (قوع) .
(6) ديوانه: 81.
(7) رميض: شديد الرمضاء.(12/120)
ومن الصور المألوفة المأخوذة من مشاهدات الصحراء تشبيه عبيد ناقته في قوتها وسرعتها بالحمار الوحشي في قوله (1) :
ومَهْمَهٍ مُقْفِرِ الأعلامِ مُنْجَرِدٍ
أجَزْتُهُ بِعَلَنْدَاةٍ مُذَكَّرَةٍ
نائي المناهِلِ جَدْبِ القاعِ مُنْسَاحِ (2)
كالعَيْرِ مَوَّارَةِ الضَّبْعَيْنِ مِمْرَاحِ (3)
والصور الفنية المتأثرة ببيئة الصحراء المنتزعة من طبيعتها غزيرة من السهل تتبعها واستخراجها من ديوان الشعر العربي.
الخاتمة
__________
(1) ديوانه: 39.
(2) البيت فَذٌ في وصف الصحراء، أرض واسعة متاهة مضلة لا أعلام فيها يستدل بها على طريق، بعيدة موارد المياه، جدباء، متسعة الأرجاء.
(3) علنداة: ناقة ضخمة طويلة. اللسان. (علد) . مذكرة: تشبه الجمل في قوتها: العَيْر: الحمار الوحشي. موّارة: ناقة سهلة السير سريعة. اللسان (مور) . الضبعين: وسط العَضُد بلحمه يكون للإنسان، وغيره، ويقال: ضبعت الناقة مدَّت ضَبْعَيْهَا في سيرها واهتزت. اللسان (ضبع) . ممراح: نشيطة خفيفة. اللسان (مرح) .(12/121)
للبيئة أثر لا ينكر في توجيه النشاط الإنساني، ومجموع العادات والتقاليد الاجتماعية والسلوكية وفي الأعمال الأدبية، وفي إطار تأثير البيئة كان هذا المبحث الأدبي الموجز الذي درس أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره، وتضمن البحث مقدمة، ثم تمهيدًا تحدثت فيه عن بيئة الصحراء وساكن الصحراء، وعن امتزاج العربي بها حتى أصبحت جزءًا من كيانه، ثم تطرقت إلى محاولة تلمس البدايات الأولى لنشأة الشعر العربي على أديم جزيرة العرب وتطوره حتى وصل إلينا قصائد طويلة، تمتاز بالنضج الشعري شكلاً ومضمونًا على ألسنة الرعيل الأول الذي عرفناه من شعراء العصر الجاهلي. وتناول البحث بعد ذلك أثر الصحراء في اللغة، ولحظت أن بيئة الصحراء أمدت قاموس اللغة العربية بفيض زاخر من الأسماء والصفات التي اكتسبت صفة الاسمية مع كثرة الاستعمال ومرور الزمن، وأحصيت من أسماء الصحراء نحوًا من ثلاثين اسمًا دللتُ على معظمها بشواهد شعرية، ثم تحدثت عن أثر الصحراء في موضوعات الشعر مثل وصف المظاهر الطبيعية والكونية، ووصف الحيوانات التي كانت تجد لها ملاذًا آمنًا في جزيرة العرب، وخصصت بالحديث الناقة؛ لأنها أظهر حيوان صحراوي، ولها ذكر ووصف في معظم دواوين شعراء الصحراء، ثم وصف الأشجار والنباتات التي امتازت بها صحراء جزيرة العرب مستدلاً بالنماذج والشواهد الشعرية، ثم تحدثت بعد ذلك عن أثر الصحراء في مضمون الشعر ومعانيه، فأثرها في الصور الفنية، وهو أثر ملحوظ؛ لأن الشعراء الذين عاشوا في الصحراء استقوا منها معظم صورهم الشعرية.(12/122)
وأعد هذا البحث مدخلاً أو توطئة لبحوث أو دراسات موسعة تتناول أثر الصحراء في توجيه مسيرة الشعر العربي، وتفصل في أبواب نقاط البحث التي درستها في إيجاز، وتلم بالقضايا الشعرية التي تتصل بالموضوع اتصالاً قريبًا أو بعيدًا؛ وبناء على ما تقدم فمن الممكن أن نطلق على الأدب في العصر الجاهلي والإسلامي أدب الصحراء؛ وأذكر من هؤلاء جريرًا والفرزدق والأخطل، وبشارًا وأبا نواس ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأضرابهم من شعراء الدولة الأموية والعباسية. وأدب الصحراء يمتاز في معظمه بالقوة والمتانة والجزالة والفصاحة في اللغة والأسلوب، إذ هو بمنأى عن رقة المدن التي ربما تفضي إلى ضعف في اللغة والأسلوب، وهذا أمر ملحوظ بين أدب الصحراء وأدب الحاضرة أو المدن، ولهذا السبب لا يستشهد علماء اللغة والنحو بالشعراء الجاهليين الذين قضوا أعمارهم في الحواضر والمدن؛ كعدي بن زيد العِبَادي؛ لأنه نشأ في الحيرة، ولم يأخذوا اللغة عن الحضر، ولا عن القبائل التي كانت تجاور في منازلها أممًا غير عربية (1)
__________
(1) انظر المزهر للسيوطي 1/211- 212.
المصادر والمراجع (1)
أخبار النحويين البصريين، صنعة: أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي (284- 368هـ) ، تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا، الطبعة الأولى: 1405هـ= 1985م، دار الاعتصام – القاهرة
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء) ، ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (574- 626هـ) ، نشرة الدكتور أحمد فريد الرفاعي ( ... – 1376هـ = ... – 1956م) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، نسخة مصورة.
الأعلام (قاموس تراجم) ، خير الدين الزركلي (1310- 1396هـ = 1893- 1976م) ، الطبعة السابعة: 1986م، دار العلم للملايين – بيروت، لبنان.
أعلام النساء في عالمي العربي والإسلام، عمر رضا كحالة (1323- 1408هـ = 1905 – 1987م) ، الطبعة الرابعة: 1402هـ= 1982م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني علي بن الحسين (284- 356هـ) ، الطبعة الثالثة: 1381هـ= 1962م، دار الثقافة، بيروت.
الإفصاح في فقه اللغة، عبد الفتاح الصعيدي (1310- 1391هـ= 1892- 1971م) ، وحسين يوسف موسى، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، القاهرة.
الأمالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي (288- 356هـ) ، عناية: محمد عبد الجواد الأصمعي (1312- 1388هـ= 1894- 1968م) ، الطبعة الثانية: 1404هـ= 1984م، دار الحديث، بيروت، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، عام: 1344هـ= 1926م، القاهرة.
إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي (567- 646هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، دار الفكر العربي، القاهرة، ومؤسسة الكتب الثقافية – بيروت: 1406هـ= 1986م.
________________
(1) أهملت إثبات معجمات اللغة، لسهولة الرجوع اليها اعتماداً على ترتيبها المعروف.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (849- 911هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، الطبعة الأولى: 1384هـ= 1964م، مطبعة الحلبي، القاهرة.
بلاد العرب، الحسن بن عبد الله الأصبهاني المعروف بلغدة ( ... – نحو 310هـ) ، تحقيق: حمد الجاسر (1328هـ- 1421هـ= 1910- 2000م) ، والدكتور صالح العلي (1916- ... ) ، الطبعة الأولى: 1388هـ= 1968م، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض.
تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان (1285- 1375هـ= 1868- 1956م) ، تحقيق: عبد الحليم النجار، ورمضان عبد التواب، والسيد يعقوب بكر، دار المعارف، مصر.
تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (282- 370هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، وآخرين، الطبعة الأولى: 1384هـ= 1964م، دار القومية العربية للطباعة، القاهرة.
جمهرة الأمثال، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري ( ... - بعد 400هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، وعبد المجيد قطامش ( ... – 1414هـ= ... – 1993م) ، الطبعة الأولى: 1384هـ= 1964م، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة.
جمهرة أنساب العرب، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (384- 456هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1981م) ، دار المعارف بمصر: 1382هـ= 1962م، القاهرة.
حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (849- 911هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، الطبعة الأولى: 1387هـ= 1967م، القاهرة.
الحياة العربية من الشعر الجاهلي، د. أحمد محمد الحَوْفي (1328- 1403هـ= 1910- 1982م) ، الطبعة الرابعة، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، القاهرة.
الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ (150- 255هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، الطبعة الثانية، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
الحيوان في الأدب العربي، شاكر هادي شاكر، الطبعة الأولى: 1405هـ= 1985م، مكتبة النهضة العربية، وعالم الكتب، بيروت.
خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (1030- 1093هـ= 1620- 1682م) ، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، الطبعة الأولى: 1979- 1986م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومكتبة الخانجي، القاهرة.
دراسات في الشعر الجاهلي، د. يوسف خليف (1341- 1415هـ= 1922- 1995م) ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس ( ... - 7هـ= ... - 629م) ، شرح وتعليق: د. محمد محمد حسين (1331- 1403هـ= 1912- 1982م) ، دار النهضة العربية: 1974م، بيروت، لبنان.
ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، الطبعة الثانية: 1964م، دار المعارف بمصر.
ديوان أوس بن حجر، حققه وشرحه: د. محمد يوسف نجم، دار صادر ودار بيروت. بيروت، لبنان.
ديوان تأبط شرا وأخباره، جمعه وحققه وشرحه: علي ذو الفقار شاكر، الطبعة الأولى: 1404هـ= 1984م، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
ديوان جرير (28- 110هـ) ، بشرح محمد بن حبيب ( ... – 245هـ) ، تحقيق: الدكتور نعمان أمين طه، الطبعة الأولى: 1969- 1971م، دار المعارف بمصر.
ديوان الحطيئة ( ... - نحو 45هـ) بشرح ابن السكيت (186- 244هـ) ، والسكري (212- 275هـ) ، والسجستاني ( ... - 255هـ أو 248هـ) ، حققه: نعمان أمين طه، الطبعة الأولى: 1378هـ= 1965م، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب عام: 1371هـ= 1951م.
ديوان حميد بن ثور الهلالي ( ... – نحو 30هـ= ... – 650م) ، تحقيق: عبد العزيز الميمني الراجكوتي (1306- 1399هـ= 1888- 1978م) ، الدار القومية للطباعة والنشر: 1384هـ= 1965م، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب عام: 1371هـ= 1951م.
ديوان ذي الرمة غيلان بن عُقبة العَدَوِي (77- 117هـ) ، شرح أبي نصر أحمد ابن حاتم الباهلي ( ... - 231هـ) صاحب الأصمعي، حققه: د. عبد القدوس ناجي أبو صالح، الطبعة الأولى: 1392هـ= 1972م، مجمع اللغة العربية بدمشق.
ديوان الراعي النميري ( ... – 90هـ) ، تحقيق: راينهرت فايبرت، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، بيروت: 1401هـ= 1980م.
ديوان سحيم عبد بني الحسحاس ( ... – نحو 40هـ) ، تحقيق: عبد العزيز الميمني (1306- 1399هـ= 1888- 1978م) ، الدار القومية للطباعة والنشر: 1384هـ= 1965م، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية عام: 1369هـ= 1950م.
ديوان شعر المثقب العبدي (535- 587م) ، حققه وشرحه وعلق عليه: حسن كامل الصيرفي (1326- 1404هـ= 1908- 1984م) ، الطبعة الثانية: 1418هـ= 1997م، معهد المخطوطات العربية، القاهرة.
ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني ( ... – 22هـ) ، تحقيق: صلاح الدين الهادي، الطبعة الأولى: 1986م، دار المعارف بمصر.
ديوان الصمة بن عبد الله القشيري ( ... – 95هـ) ، جمعه وحققه: د. عبد العزيز محمد الفيصل، الطبعة الأولى: 1401هـ= 1981م، النادي الأدبي – الرياض.
ديوان طرفة بن العبد. تحقيق وشرح د. علي الجندي، مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة الرسالة، القاهرة.
ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق وشرح د. حسين نصار، الطبعة الأولى: 1377هـ= 1957م، مصطفى الحلبي، القاهرة.
ديوان العجاج ( ... – نحو 90هـ) ، رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، تحقيق: د. عزة حسن، مكتبة دار الشروق: 1971م، بيروت.
ديوان علقمة بن عبدة الفحل، بشرح الأعلم الشنتمري (410- 476هـ) ، تحقيق: لطفي الصقال، ودرية الخطيب، الطبعة الأولى: 1389هـ= 1969م، دار الكتاب العربي، حلب.
ديوان عنترة، تحقيق: محمد سعيد مولوي. المكتب الإسلامي – دمشق.
ديوان كثير عزة ( ... – 105هـ) ، جمعه وشرحه: د. إحسان عباس، الطبعة الأولى: 1391هـ= 1971م، دار الثقافة، بيروت، لبنان.
سمط () اللآلي في شرح أمالي القالي، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (432-487هـ= 1040- 1094م) ، تحقيق: عبد العزيز الميمني (1306- 1398هـ= 1888= 1978م) ، الطبعة الثانية: 1404هـ= 1984م، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.
شرح أشعار الهذليين، صنعه: أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري (212- 275هـ) ، حققه: عبد الستار أحمد فراج (1335- 1401هـ= 1916- 1981م) ، الطبعة الأولى، مكتبة دار العروبة، القاهرة.
شرح ديوان زهير بن أبي سُلْمى، صنعة: أبي العباس ثعلب أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني (200- 291هـ) ، الدار القومية للطباعة والنشر: 1384هـ= 1964م، القاهرة. مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية عام: 1363هـ= 1944م.
شرح ديوان صريع الغواني مسلم بن الوليد الأنصاري ( ... - 208هـ) ، حققه: د. سامي الدهان (1328- 1391هـ= 1910- 1971م) ، الطبعة الثانية: 1970م، دار المعارف بمصر.
شرح ديوان المتنبي (303- 354هـ) ، وضعه: عبد الرحمن البرقوقي (1293- 1363هـ= 1876- 1944م) ، مطبعة السعادة، القاهرة.
شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (271- 328هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، الطبعة الرابعة: 1400هـ= 1980م، دار المعارف بمصر، ذخائر العرب (35) .
شرح القصائد العشر، الخطيب التبريزي (421- 502هـ) ، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، الطبعة الثالثة: 1399هـ= 1979م، دار الآفاق الجديدة – بيروت.
شرح المعلقات السبع، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني ( ... – 486هـ) ، دار صادر، بيروت.
شعراء بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي (جمعًا وتحقيقًا ودراسة) ، د. عبد العزيز بن محمد الفيصل، الطبعة الأولى: 1408هـ، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض.
الشعر والشعراء، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213- 276هـ) ، تحقيق: أحمد محمد شاكر (1309- 1377هـ= 1892- 1958م) ، الطبعة الثانية: 1966- 1967م، دار المعارف بمصر.
طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي (139- 231هـ) ، تحقيق: محمود محمد شاكر (1327- 1418هـ= 1909- 1997م) ، مطبعة المدني، القاهرة.
العرب (مجلة) ، الجزء العاشر، السنة الرابعة، ربيع الآخر: 1390هـ، حزيران، وتموز: 1970م، تصدر عن دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض.
فقه اللغة وسر العربية، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري (350- 429هـ) ، تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري (1320- 1414هـ= 1902- 1994م) ، وعبد الحفيظ شلبي، الطبعة الأولى: 1392هـ= 1972م، مطبعة الحلبي، القاهرة.
الفهرست، أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد النديم البغدادي ( ... - 438هـ) ، تحقيق: رضا تجدد، كراجي – باكستان.
فهرست ما رواه عن شيوخه، أبو بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي (502- 575هـ) ، تحقيق: فرنسشكه قداره زيدين، وخليان رباره طرغوه، الطبعة الثانية: 1382هـ= 1993م.
الكامل في التاريخ، ابن الأثير عز الدين علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (555- 630هـ) ، الطبعة الأولى: 1385هـ= 1965م، دار صادر، ودار بيروت، بيروت.
المجاز بين اليمامة والحجاز، عبد الله بن محمد بن خميس (1339هـ- ... ) ، الطبعة الأولى: 1390هـ= 1970م، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض.
مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري ( ... - 518هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، الطبعة الأولى: 1978- 1979م، عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
المزهر في علوم اللغة وآدابها، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (849- 911هـ) ، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى (1300- 1363هـ= 1883- 1944م) ، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم (1322- 1401هـ= 1905- 1981م) ، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب.
معجم البلدان، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (574- 626هـ) ، الطبعة الأولى: 1376هـ= 1957م، دار صادر، ودار بيروت، بيروت.
معجم الشعراء، محمد بن عمران بن موسى المرزباني البغدادي (296- 384هـ) ، تحقيق: سالم الكرنكوي (فريتس كرنكو) ، (1872- 1953م) ، مكتب القدسي: 1354هـ، القاهرة.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، أبو عبيدعبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (432- 487هـ= 1040- 1094م) ، حققه: مصطفى السقا، الطبعة الثالثة، 1403هـ= 1983م، عالم الكتب، بيروت.
معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ( ... - 395هـ) ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، الطبعة الثانية: 1389هـ= 1969م، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
معجم النساء الشاعرات في الجاهلية والإسلام (خطوة نحو معجم متكامل) ، عبد علي مهنا، الطبعة الأولى: 1410هـ= 1990م، دار الكتب العلميةن بيروت.
معجم اليمامة – عبد الله بن محمد بن خميس (1339هـ- ... ) ، الطبعة الأولى: 1398هـ= 1978م، مطابع الفرزدق، الرياض.
المفضليات، المفضل بن محمد الضبي الكوفي ( ... - 178هـ) ، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (1309- 1377هـ= 1892- 1958م) ، وعبد السلام محمد هارون (1327- 1408هـ= 1909- 1988م) ، الطبعة الخامسة: 1976م، دار المعارف بمصر.
من اسمه عمرو من الشعراء، أبو عبد الله محمد بن داود ابن الجراح (243- 296هـ) ، حققه: د. عبد العزيز بن ناصر المانع، الطبعة الأولى: 1412هـ= 1991م، مطبعة المدني، القاهرة.
المؤتلف والمختلف، أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي ( ... - 370هـ) ، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج (1335- 1401هـ= 1916- 1981م) ، الطبعة الأولى: 1381هـ= 1961م، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة؛ لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي (813- 874هـ) ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر (الهيئة العامة للكتاب حاليًا) ، القاهرة. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس أحمد بن محمد بن خلكان (608- 681هـ) ، تحقيق: د. إحسان عباس، الطبعة الأولى: 1397هـ= 1977م) ، دار صادر، بيروت، لبنان.
ولاة مصر، محمد بن يوسف الكندي (283- نحو 362هـ) ، تحقيق: د. حسين نصار، دار صادر، بيروت.(12/123)
الحواشي والتعليقات(12/124)
القصة القصيرة عند شيخة الناخي
رائدة القصة الإماراتية
د. زينب بيره جكلي
أستاذ مساعد في جامعة الشارقة
ملخص البحث
القصة القصيرة عند شيخة الناخي رائدة القصة الإماراتية
بقلم الباحثة: د. زينب بيره جكلي
يتحدث بحث " القصة القصيرة عند شيخة الناخي " عن العصر الذي عاشت فيه الأديبة وهو عهد التحول الاجتماعي في الإمارات العربية المتحدة من مرحلة ما قبل النفط إلى ما بعده، والتقدم الاجتماعي والثقافي الذي حصل في هذه الدولة وعن فن القصة في الإمارات وريادة شيخة الناخي لهذا الفن إذ كانت قد نشرت أولى قصصها " الرحيل " منذ 1970.
وقد ترجم البحث لهذه الأديبة التي تعمل حالياً مديرة لأكبر ثانوية في الشارقة فضلاً عن نشاطها الثقافي في أندية فتيات الشارقة وفي غيرها.
ثم انتقل الحديث إلى مجموعتين قصصيتين وهما " الرحيل " و " رياح الشمال "، وكانت تتحدثان
مضموناً عن الأوضاع الاجتماعية في الإمارات خاصة ولا سيما في موضوع الحياة الزوجية والتغيرات
الحضارية والاجتماعية والثقافية في البلاد، أما القصص السياسية فقد أبانت عن أوضاع داخلية لبلد
ما، وتحدثت عن الاغتراب السياسي وعن الحروب بين الأقطار العربية.
ثم انتقلت الباحثة إلى الحديث عن بناء القصة، حوادثها ومعناها وشخصياتها فأبانت عن سماتها العامة مبينة استخدامها أساليب شتى في عرض حوادثها، كما تحدثت عن الشخصيات وطرق عرضها وعن نسيج القصة لغوياً، ودرست لغة القصة الفصحى وردت على من شجع على كتابة هذا اللون
الأدبي باللغة العامية، ثم انتقلت إلى الوصف وطريقة السرد والتقرير وانتهت إلى الخاتمة التي لخصت دورها القصصي وهو أن الأديبة كانت مصلحة اجتماعية، وكانت عفة القلم، وقد نبهت الأجيال إلى الهفوات الاجتماعية دون أن ينحدر أدبها وبذلك وضعت لبنة في كتابة القصة كتابة هادفة وأغنت المكتبة الأدبية عامة والخليجية خاصة بآداب رفيعة شكلاً ومضموناً.
***(12/125)
مخطط بحث القصة القصيرة عند شيخة الناخي
رائدة القصة في الإمارات
مقدمة:
تمهيد:
عصر الأديبة.
لمحة عن القصة القصيرة في الإمارات.
لمحة عن حياة الأديبة.
دراسة القصة القصيرة عند شيخة الناخي
أولاً: مضمون القصص:
القصص الاجتماعي:
أ - الحياة الزوجية.
ب- التغيرات الحضارية، وآثارها.
2- القصص السياسي:
أ. قصص الأوضاع الداخلية.
ب. قصص الاغتراب السياسي
ج. قصص الحروب العربية.
د. قصص عن الاستعمار.
ثانيا: الدراسة الفنية للقصص:
1- بناء القصة:
أ - الحوادث.
المعنى ولحظة التنوير.
ج - شخصيات القصة.
2-نسيج القصة
أ- التشكيل اللغوي.
ب- الوصف.
ج – الحوار.
د- السرد
المقدمة
باسم الله أبدأ، وعلى نهجه أسير، وأسوتي في ذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
فالله ربي جعل القصة عبرة للقارئين، ورسوله العظيم اتخذها مطية للدعوة إلى الله، وإلى الخلق النبيل.
وهاهي ذي شيخة الناخي ابنة الإمارات العربية المتحدة ترى الوضع المتردي للقيم الاجتماعية، وانحرافها عن نهج الله، فيهولها هذا، ويقض مضجعها أن ترى في القصص نأيا عن الصراط السوي حين تصور المرأة متعة للرجل في دنيا بعيدة عن أعراف البلاد وعقيدتها، كما ترى الوضع السياسي المتدهور للأمتين العربية والإسلامية فتكتب مجموعتين قصصيتين هما " الرحيل، ورياح الشمال " وكانت في الأولى رائدة القصة الإماراتية، وبها تبدو وقد خطت في مدارج هذا الفن، وألقت فيه أولى إشعاعات الخير والإصلاح، ولكنها كانت في الثانية، وبعد اطلاعها على أصول هذا الفن الأدبي إبان دراستها الجامعية، أقدر على كتابة هذا اللون الأدبي، وأكثر وعيا لقضايا الأمة، ففي " الرحيل " كانت مصلحة اجتماعية، وفي " رياح الشمال " شاركت أمتها في قضاياها السياسية والاجتماعية دون أن تسمي غالبا قطرا أو معركة، لتبقى القصة رمزا لكل حين وحال مشابهة.(12/126)
وقد درست في هذا البحث هاتين المجموعتين، وبدأت بتمهيد أوجز الحديث عن العصر الذي عاشته الأديبة، وعن حياتها، لقلة ما نشر في هذين المجالين ثم أتبعته بالحديث عن مضمون القصة الناخية، ودرستها فنيا، مضمونا وشكلا، وكان اهتمامي بالشكل يفوق اهتمامي بالمضمون بعد أن رأيت الدراسات المعاصرة تصب اهتمامهاعلى الثاني، حتى غدت القصة كبحث عن الدراسات الاجتماعية والسياسية لاعلاقة لها باللغة خاصة، وبالفن عامة إلا لمما.
القصة القصيرة عند شيخة الناخي رائدة القصة الإماراتية
كتاب القصة ورواتها مصلحون لا تستغني عنهم الحضارة الإنسانية فهم يصورون العالم ويخططون حدوده وأشكاله في الأذهان
التمهيد:
سأتحدث فيه عن عصر الأديبة والنشاط القصصي في الإمارات، وعن حياة شيخة الناخي بإيجاز يناسب البحث، ويتعلق به.
1- عصر الأديبة:
عاشت شيخة الناخي على أرض الإمارات العربية المتحدة، وغذت من معين ثقافاتها، وعاداتها، وشهدت تحولات مجتمعها بعد اكتشاف النفط خاصة، وانفتاحها على العالم اجتماعيا وسياسيا، ونشاط الحركة التعليمية فيها، وتحولها من الكتاتيب إلى التعليم الرسمي، ورأت بأم عينها الاتساع الثقافي، ودور المرأة فيه، ودخول أجهزة الإعلام التي أطلعت الشعب على ما يجري في الساحتين العربية والإسلامية في كفاحهما ضد الاستعمار والصهيونية، كما اطلعت على الوعي السياسي والديني الذي كان قد بدأ بتأثيرالحركة الوهابية، ثم اتسع فقضى على البدع والخرافات ونشر الوعي الديني السديد.(12/127)
وقد تسربت في الربع الأخير من القرن العشرين تيارات فكرية وفنية جديدة أدت إلى تغير البنى الاجتماعية، وقلب معايير العلاقات بين الناس، وتضاءلت فكرة الانتماء القبلي، وساعدت الصحافة التي ظهرت في البلاد منذ 1969 م على نشرالثقافات المتعددة والتطلعات الجديدة، وعلى تقديم القصص للقراء، وكانت جريدتا الخليج والاتحاد تستقبلان نتاج الأدباء وكذلك فعلت المجلات كالرافد والآداب والمنتدى.
وفي عام 1976م أنشئت جامعة الإمارات قي مدينة العين فكان لها دورها الثقافي الكبير، وانتسبت الأديبة إلى قسم اللغة العربية فيها، كما عملت البعثات التعليميةعلى تنشيط الثقافة إضافة إلى النوادي الأدبية والجمعيات الثقافية، وكان للمرأة دورها المبكر في هذين المجالين، وكانت "شيخة الناخي " من مؤسسات نادي فتيات الشارقة، ورئيسة القسم الثقافي فيه، وذلك يشير إلى أن المرأة الإماراتية قد حصلت على كثير من حقوقها الثقافية والاجتماعية 0
وقد عمل " اتحاد كتاب وأدباء الإمارات " على تنشيط الفن القصصي في الإمارات وكان يضم أربع عشرة قاصة، وهذه ظاهرة مثيرة للإعجاب في مجتمع محافظ ناشئ كالإمارات (1) .
2- لمحة عن القصة القصيرة في الإمارات:
مع ولادة الحركة الأدبية الحديثة في الإمارات برزت القصة كلون أدبي مؤثر، ذلك لأنها من أقدر الفنون الأدبية على تمثيل الأخلاق وتصوير العادات، ورسم خلجات النفوس، وحث القراء على المثل العليا وكريم الخلال 0
وكان للقصة جذورها في أدبنا العربي القديم ولكن الإمارات المعزولة عن العالم بصحرائها الشاسعة لم تعرف الرواية والقصة كجنس أدبي له شروط فنية جديدة إلا بعد ظهور النفط، واحتكاكها بالعالم ثقافيا وتجاريا، ولهذا برز في القصص الإماراتي التفاعل الثقافي، واصطبغ في كثير منه بالصبغة الإماراتية0(12/128)
وكانت القصص الأولى ودراسات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات التي بدأت في لقائه الأول 1985م (2) تهتم بالمضمون لا بالشكل الفني، وكان للمرأة مشاركات في هذا المضمار، إذ تحدثت بنبرة واقعية عن حياة مجتمعها، والتغيرات الحضارية التي ظهرت على الساحة، وما صاحبها من قلق روحي ونفسي، ووجدت في القصة القصيرة بغيتها مما أدى إلى نموها كما وكيفا بصورة تلفت النظر، وكان صوت المرأة ينم عن سخطها على التقاليد ورفضها للأعراف القديمة, ولا سيما سطوة الآباء، وكان في نبرة بعضهن نزعة إنسانية تخطت الحدود المحلية الضيقة وإن لم تتضح فيها تسمية أماكن أو أزمنة محددة، إذ جاءت على شكل تداعيات عن واقع مؤلم أحسسن به، وهو يمثل شريحة في مجتمع ما (3) كما بدا في القصص أيضا التأثر الواضح بالقصص العربية التي سادت في أجواء العصر الحديث، ولا سيما في مصر والشام إذ ركزت هذه على الفقر، والعلاقة بين الجنسين (4) فقلدها قصاص الإمارات وصوروا الطبقية وجعلوا العلاقة بين الرجل والمرأة قائمة على الخيانة أو على سوء الفهم (5) ، حتى بدت كأنها تحكي مجتمعا كمجتمع الغرب لا تحكمه قيم ولا دين، ولا تؤثر فيه أخلاق البداوة وعفتها ونقاؤها.
فالكاتب " عبد الله صقر " تحدث في مجموعته القصصية " الخشبة " في جرأة تخدش الحياء مما أدى إلى حرقها لمنعها من الانتشار (6) ، والأديبة " سارة الجروان " صورت الرجل أنانيا وقاسيا وزير نساء، مما دعا الكاتب " عزت عمر" أن ينتقدها ويبين أن قصصها لا تصور الرجل على حقيقته إذ جعلته سلبيا، وانحازت إلى صف الأنثى، أو أنها تأثرت بالفكر الاستشراقي في رؤيتها عنهما، وأوضح أن الخلافات الزوجية موجودة في المجتمعات كافة، وعلى المرأة ألا تكون عاطفية في تصويرها للرجل لئلا تنسب إليه أسوأ الصفات (7) .(12/129)
أما " أمينة عبد الله " فقد صورت المرأة خرقة مهترئة ترمى لحي البغاء وتسعى إلى الدعارة، والرجل خبيث الطوية لا مزية إنسانية فيه، وفي قلبه ثعلب شرير، وهو يسخر من الفقراء، ويغري الأطفال بالمال، ونواياه شيطانية، وهو يكره أهل البلد وهم يكرهونه إلا أنهم يزوجونه بناتهم لغناه، والفتيات يكرهنه إلا أنهن يرغمن على الزواج منه ثم يخضعن لسطوته (8) .
وقصص "سلمى مطر سيف " تمثل المرأة التي لا تحتمل حياة التقاليد فتنحرف إلى الدعارة، وتجعل الرجل لا يصمد أمام إغرائها، وهي تسعى للانتقام منه ولا سيما إن كان غنيا بطريقتها الخاصة القائمة على السكر والعربدة (9) 000
وتهتم " مريم جمعة فرج " بالعمالة الوافدة وبالناس البسطاء أما " شيخة الناخي " فعفة القلم تنأى عن القصص الجنسي المنحرف، وتهتم بوصف المجتمع النسوي البعيد عن الشبهات، تصف أغوار النفس الأنثوية، وتبين ضعف المرأة أمام تسلط الرجل أباً كان أم زوجاً، وكأنها أرادت أن تنبه الوعي إلى أنها إنسانة هدرت كرامتها بتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، وعلى المجتمع أن يتخلى عن هذه التقاليد المنحرفة القاهرة 0
وسألقي الضوء على قصص هذه الأديبة بعد أن أعرف بها تعريفا موجزا 0
3- ... حياة الأديبة:(12/130)
في سنة 1952ولدت شيخة الناخي في إمارة الشارقة، وتعد هذه ثالث إمارات الدولة في اتساعها وأهميتها، وفي نشاطها الثقافي والتجاري، كما عرفت بوقوفها أمام العدوان الإنجليزي. وكانت أسرتها أسرة علم وأدب، فوالدها مبارك الناخي شاعر يكتب بالفصيح في وقت قل فيه شعراء الفصحى إذ كان الشعرالنبطي هو السائد، وقد تلقت تعليمها الأولي في مدارس مدينتها، ثم انتسبت إلى جامعة الإمارات، وحازت على شهادة الليسانس في الآداب سنة 1985 وعلى الدبلوم العام في التربية سنة 1987 من الجامعة نفسها، ثم عملت في التدريس، وشغلت منصب مديرة أكبر ثانوية في الشارقة هي ثانوية الغبيبة، ولا تزال على رأس عملها.
تعد شيخة الناخي من أوائل المثقفات النشطات في الدولة اللواتي ساهمن في إثراء الثقافة كما أنها رائدة فن القصة القصيرة، فقد نشرت قصتها الأولى " الرحيل" في1970 (10) ثم نشطت القصص بعد ذلك، فدل ذلك على بداية مرحلة اجتماعية وثقافية جديدة.
عرفت الأديبة بين زميلاتها بحسن العشرة والأحدوثة، وبالتزامها بالإسلام في تصرفاتها الشخصية والمهنية، ولا سيما الحجاب وعدم الاختلاط، وهي مخلصة في عملها، هادئة، وقور، تقول الكلمة فتسمع، وتعاشر من تعاشره باحترام وهذا ما أكسبها محبة القلوب.
والأديبة عضو في " اتحاد كتاب وأدباء الإمارات " الذي كان يساهم منذ 1985في تنشيط الفن القصصي كما أنها رئيسة رابطة أديبات الإمارات في " أندية فتيات الشارقة، ودورها فيه بارز إلى الآن.
ولها مجموعتان قصصيتان هما الرحيل، ورياح الشمال، وتضم الأولى تسع قصص هي حسب تسلسلها: (الرحيل، خيوط من الوهم، أنامل على الأسلاك، وكان ذلك اليوم، حصار، رحلة الضياع، القرار الأخير، الصمت الصاخب، من زوايا الذاكرة، وهي جميعاً أقاصيص اجتماعية تصور قطاعاً من الحياة، وقد التقطت الأديبة مواقفها من المجتمع.(12/131)
أما رياح الشمال فتحوي عشر قصص سبع منها سياسية وهي حسب تسلسلها: " رماد، أحزان ليل، إعصار، للجدران آذان، لا تكن جلاداً، حطام المخاوف، انكسارات روح، حزمة الألوان، هواجس، رياح الشمال ".
وسأدرس قصص هاتين المجموعتين مبينة مضامينها وفنيتها.
القصة القصيرة عند شيخة الناخي
القصة القصيرة أكثر الفنون الأدبية انتشارا في العصر الحديث، وهي تقوم على عناصرعدة يجمعها بناء يحوي حادثة يسلط الضوء فيها على جانب معين أو محدد من الحياة، وتتحرك الشخصيات لأدائه في زمن محدد ومكان ضيق، ويتماسك هذا البناء مع نسيج القصة: " الحوار والوصف والسرد " لأداء هدف يتضح في لحظة التنوير، وبها يتجلى المعنى (11) .
وسأدرس قصص شيخة الناخي بادئة بتعريف القارئ على مضامينها ثم أنتقل إلى دراستها فنيا، بناء ونسيجا.
أولا: مضمون القصة:
مع تغير المجتمع الإماراتي من عصر البحر إلى عصر النفط، ومن الانتماء القبلي إلى الانتماء الدولي برزت تغيرات اجتماعية عديدة رصدها الأدباء وحكوا عنها، وكانت شيخة الناخي قد عايشت هذه التبدلات فراح قلمها يسطر ذلك بأسلوب فني، وقد أولت اهتمامها القضايا الاجتماعية في الإمارات، والسياسية للأمتين العربية والإسلامية اللتين تعانيان في عصرنا هذا من تكالب الاستعمار والصهيونية عليهما.
وسأبين هذين الاتجاهين في مجموعتيها الرحيل ورياح الشمال:
1- القصص الاجتماعي:(12/132)
صورت الأديبة الواقع الاجتماعي في الإمارات العربية المتحدة ولا سيما أوضاع المرأة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الكاتبة امتازت بعفة قلمها، إذ ربأت بالمرأة أن تجعلها تعيش في بؤرة فساد أو تقلد نساء مجتمع بعيد عن عاداتها وتقاليدها، ولهذا راحت ترصد واقع المرأة الإماراتية في أسرتها، مع زوجها وأبيها ... وتتأمل بفكر ثاقب ما تعاني منه في مجتمعها، ثم تقدم قصصاً إصلاحية تنظر إلى الحياة من وجهة نظر إسلامية وتظهر الصراع على القيم والسلوكيات في نبرة غلبت فيها سلبية المرأة.
ولعل أبرز الموضوعات التي عالجتها هي:
الحياة الزوجية.
التغيرات الحضارية وآثارها الاجتماعية والثقافية المباشرة وغير المباشرة.
الحياة الزوجية:
تحدثت الأديبة، ولا سيما في مجموعتها الأولى " الرحيل " عن ظواهر اجتماعية بدت في مجتمعها الجديد، كظاهرة غلاء المهور، والزواج من المسنين والأغنياء، ومن النساء الأجنبيات، كما حكت انحراف الشباب وأخطاره على الحياة الأسرية.
ففي قصتها " الرحيل " (12) وهي أول قصة نشرتها نراها تتحدث عن الزواج من الأغنياء، وغلاء المهور من خلال مأساة علياء التي تفتح قلبها منذ صغرها على حب بريء لابن جيرانها دون أن تتكلم معه، وكذلك كان هو، فلما شبا صارت خالته رسولاً بينهما، وكان يمني نفسه بخطبتها، ولكن والدها رفض لأنه فقير، وهو يريد لابنته زوجاً ثرياً، وباءت المحاولات كلها بالإخفاق، بل طرد من البيت ولهذا قرر الرحيل بعد أن خلف رسالة يخبر بسفره، فدهشت للنبأ غير المتوقع (13) .(12/133)
وفي قصة " رحلة الضياع " (14) تبين لنا أضرار الزواج من الكبار، وتحكم الأب بمصير البنات، وذلك من خلال حديثها عن فتاة توفيت والدتها، فتزوج أبوها من أخرى كانت قاسية جافية فتحولت حياة الصغيرة إلى جحيم ملتهب، ورفض أبوها أن يستمع إلىشكواها، ثم أجبرت على الزواج من رجل مسنّ مريض، وحاولت عبثاً رده عن فكرته، وكانت ليلة الزفاف أليمة، بكت كثيراً، وتذكرت أمها ... وحاولت أن تخلص لزوجها، ولكن نوبات المرض كانت تفقده أعصابه فيضربها بكل ما يقع تحت يده، ويقذفها، ثم ينكر ما اقترفت يداه حين يصحو، ويتهمها بالجنون ... وأحست المسكينة أن السعادة سراب ووهم، ولا سيما بعدما فوجئت بورقة الطلاق ولما أفاقت من الصدمة تطلعت إلى ما حولها في ذهول، وحملت حقيبتها وعادت من حيث أتت.
أما قضية الزواج من الأجنبيات فقد ألمحت إليها الكاتبة إلماحاً من خلال نقدها لعادة تسمية الزواج منذ الصغر في قصتها " خيوط من الوهم " (15) ، إذ تحدثت عن فتاة كانت منذ نعومة أظفارها تسمع أنها ستكون زوجاً لعلي، وشغل هذا تفكيرها، ونسجت حوله أحلامها، ولكن ابن عمها هذا لم يفاتح أهلها بالقضية عندما جاء ليودعهم قبيل سفره، بل لم يلق نظرة وداع أو تحية عليها فأدركت الفتاة أنها كانت تعيش في حلم وهمي، وسرعان ما تكشفت لها الحقيقة في رسالة أخبرها فيها أنه أكمل نصف دينه بزواجه من أجنبية.(12/134)
وظاهرة انحراف الشباب وإهمالهم لأسرهم، ولهوهم مع رفاق سوء جاءت في قصة " حصار " (16) ؛ وتصف لنا شيخة الناخي بإسهاب معاناة الزوجة وسهرها في انتظار قرينها حتى ساعة متأخرة من الليل، وحين يقدم ثملاً لا يعي من حديثها شيئاً، فتضيق من هذه الحياة … ويصحوان صباح العيد ليذهب إلى صحبه، ويأتي أبوها فترجو منه المرحمة، فيحزن أمضّ الحزن على واقع فلذة كبده، ولكنهما يفاجأان بهاتف من المستشفى يخبرها أن الزوج في حالة خطرة من حادث سيارة، فتهوي السماعة من يدها، وتروح تدور حول نفسها وهي تصرخ " لا.. لا يمكن، إن حياتنا لم تبدأ بعد ".
لم تقف شيخة عند سلبيات المجتمع وإنما أبانت عن إيجابياته أيضاً لتحث الرجال على الحفاظ على الروابط الأسرية، ففي قصتها " أنامل على الأسلاك " (17) تطالعنا بحديثها عن امرأة تربي صغيرتها على هم قاتل نتج من إهمال زوجها، ولكن هذا عاد إلى الأسرة بعدما حرك شغاف قلبه حديث ابنته ببراءتها ووداعتها.
وفي " القرار الأخير " (18) يبدو جاسم بطل القصة موزع اللب، قد خيم الظلام عليه وهو يقطع أرض الشاطئ جيئة وذهاباً، بعد أن أمضه مطلب زوجته الثانية إذ خيرته بينها وبين الأولى، وكانت هذه قد أصيبت بالعجز، فأصرت عليه أن يقترن بأخرى ليعيش كغيره من الرجال ... وراحت ذكريات فاطمة تنثال على مخيلته، ونسيم البحر يداعب صفحة محياه، ثم اتخذ قراره الأخير وعزم على صرم الثانية إن أصرت على موقفها.
التغيرات الحضارية:
ولهذه أثرها في القصص الإماراتي، وقد بدت في نواح اجتماعية وأخرى ثقافية، وبصورة مباشرة تارة، وغير مباشرة أخرى.(12/135)
فمن التغيرات الاجتماعية ما تحدثت به الأديبة في قصتها " هواجس " (19) عن ضيق الإماراتي بالمعطيات الحضارية الجديدة التي أدت إلى ازدحام الشوارع بالوافدين من ذوي الوجوه المتعددة الذين لوّثوا نقاء البلد مادياً ومعنوياً، وهم يتكلمون لغة عربية مكسرة، ويحاولون أن ينشروا لغتهم، وعاداتهم وتقاليدهم المغايرة لعادات الإمارات، حتى بات الصغار يطلبون الأفلام المكسيكية، ووجبات الطعام الأمريكية، ولكن ذوي الوعي من أبناء البلد ضاقوا بهذه الحضارة التي جلبت لهم الشر، وحاولوا توجيه الشعب نحو الإفادة من معطياتها الثقافية الجديدة.
وهذه القصة التي سطرتها الأديبة في سنة 1995 تمثل أخطار العمالة الوافدة التي باتت مشكلة تتطلب حلاً ناجعاً يحمي الدولة من أخطارها، بعد أن ازدادت نسبة الوافدين أضعاف ما كانت عليه، وكانت الأمم المتحدة في السنة المذكورة تطالب بإعطاء الكثيرين منهم جنسيات إماراتية، وقد تنبه الشعب الإماراتي إلى هذا الخطر الذي يحكم قبضته عليهم، وكان للأدباء دورهم في التحذير من مخاطر سيطرة الغرباء، ولا سيما الهنود على مقدرات الدولة إن أعطيت لهم الهوية الإماراتية، لئلا تصير الإمارات فلسطيناً ثانية (20) ، وشاركت الأديبة الناخي بذلك وحذرت من ذلك، وجاء في قصتها " ما بال الوجوه الغريبة تقتحم عليه كل الأمكنة " (21) و " لم تعد المدينة نقية، أصابها التلوث " (22) ، و " حرك كلامه في نفسه مشاعر حزينة، ورغبة في التمرد على الواقع، وعلى كل الأصوات الغريبة التي تحكم حصارها من حوله، غير أن الحياة تجري لاهثة تصادر هويته، وتتحفز للحظة الانقضاض " (23) .
ومن التغيرات الثقافية قضية انتشار التعليم الرسمي في المدارس، والتخلي عن الكتاتيب، مما عرّض معلميها أو المُطَوِّعين فيها كما يسمون للحاجة المادية.(12/136)
وتحكي لنا الأديبة في قصتها " من زوايا الذاكرة " (24) هذا التغيير فتصور لنا امرأة لفت نظرها وهي تقود سيارتها مبكراً في طريقها إلى مدرسة ابنتها – شيخاً ينكب على صندوق القمامة، ويبحث في مخلفاته بحذر، ولما رأته تذكرته وذكرت تعليمه والخميسية التي كان يحصل عليها كل أسبوع، والتربية الناجعة التي كان يربي عليها الأولاد إضافة إلى تعليمهم، وكانت كلماته المؤثرة في حياتها لا تبرح مخيلتها فأسفت على ما آل إليه وضعه بعد التغير الثقافي في البلاد.
أما قصة " حزمة الألوان " (25) فتشير إلى عناية الدولة بالمكفوفين وتعليمهم والمتاعب النفسية التي يعاني منها هؤلاء، وهي ترمز بقصة " الوعد الحق " موضوعاً للدرس إلى حياة صاحبها " طه حسين " الذي ثقف وكان أعمى، وكأن هذه القصة الإصلاحية نداء إنساني ليتابع المسؤولون رعايتهم لهؤلاء المبتلين.
وهناك قصص عرضت التغيرات الحضارية بشكل غير مباشر، فقصة " حطام المخاوف " (26) تتحدث عن العلاج الطبي خارج الإمارات، وعن السفر للنزهة صيفاً بعيداً عن حر البلاد، وقصة " الصمت الصاخب " (27) تتحدث عن السفر إلى خارج الدولة عن طريق البر، والمخاطر التي قد تتعرض لها الأسر، ولا سيما إن اعتمدت على سائق غريب لا يدرك أخطار البحر.
من خلال استعراضي لهذه القصص الاجتماعية تبين لي أن الأديبة رسمت المشاكل الاجتماعية التي ينوء المجتمع تحت وطأتها، وكان الكثير منها يتحدث عن الحياة الزوجية، والمرأة أقدر على تصوير عواطف أختها وقضاياها؛ كما حكى لنا بعض آخر الآثار الإيجابية والسلبية للحضارة الجديدة في الإمارات، وأثرها على نفوس الأبناء كباراً وصغاراً، مثقفين وغير مثقفين.
القصص السياسية:(12/137)
شيخة الناخي أديبة تتمتع بوعي سياسي واضح يجعلها تعيش مع أوضاع الأمة سياسياً كما عايشتها اجتماعياً، ولذلك لم تدع جانباً من الجوانب السياسية إلا أولته عنايتها، ولا سيما أن الفترة التي كتبت فيها " رياح الشمال "، وهي التي احتوت قصصها السياسي، كانت الإمارات فيها تحتضن شعوباً إسلامية عديدة تعاني الاضطهاد السياسي هنا أو هناك، وقد وعت مخيلتها صور مآسيها وأحاديث معذبيها، ثم كانت حرب البوسنة والهرسك وكوسوفو وأذربيجان، وكشمير والشيشان، والهجوم العراقي على الكويت، وحرب اليمن ... وهذه الحروب والأجواء المكفهرة تركت بصماتها على أدبها قصصاً تحكي المآسي والحروب دون أن تسمي بلداً أو تشير – غالباً – إلى دولة، لتكون المأساة عامة تصلح لكل حرب ضد الطغيان كما صرحت لي (28) ….
وسأدرس قصصها السياسية مقسمة إياها (29) إلى: -
أ - قصص تتحدث عن أوضاع داخلية لبلد ما.
ب - قصص تتحدث عن الاغتراب السياسي.
ج - قصص تتحدث عن الحروب العربية.
د - قصص تتحدث عن الاستعمار.
أ - قصص الأوضاع الداخلية:
وتحكي هذه معاناة شعب من السجون الداخلية، وقد ابتغت القاصة من ذلك تحريك الرأي العام ضد من ينتهك حرمات شعبه، ويحكم عليه أحكاماً جائرة لمجرد الشبهة أو الظنة، لأن ذلك يخلف في نفوسهم معاناة مادية ومعنوية، ولاسيما إن كانوا أبرياء، كبطل قصة " للجدران آذان " (30) ، إذ جرى حديث بينه وبين سجّانه أبان عن الظلم الذي وقع عليه، كما كشف عن أجهزة التصنت التي يستخدمها الطغاة ضد شعوبهم، وقد عبرت الأديبة عنها بكلمة " للجدران آذان ".
ب - أما قصص الاغتراب السياسي:(12/138)
فقد تابعت فيها الناخي رسمها للأجواء السياسية التي يعاني منها العرب والمسلمون، ففي لا تكن جلاداً (31) يتمكن البطل من الفرار من وطنه واللجوء السياسي إلى دولة ما، وهي ظاهرة كثر أمثالها في عصرنا هذا، وتصوره القاصة يناجي طائراً فيكشف بذلك عن مكنونات نفسه المعذبة، ومن توارد الأفكار على مخيلته ندرك مدى الشقاء الذي يحس به، فهو يجوع طويلاً، وإن أكل فكسرة خبز يطفئ بها هياج أمعائه الخاوية، وهو يعاني الذل والهوان ويحس كأن الناس يطؤونه بأقدامهم، ويفتقر وسط هذه الحضارة المادية إلى الأخوة الإنسانية، وأنى له هذا في مجتمع الغرباء الذي ازدحم فيه الناس، وغدا كلٌّ يفكر بنفسه وسط ضجيج الحياة، وضجيج الكنائس الذي يمقته ويجعله يحن إلى صوت المآذن.. ويتخيل البطل وهو شارد الذهن أن الطغاة يلاحقونه فيتلفت هنا وهناك.. ثم تنقله أفكاره إلى أهله وأولاده، فيتصور نفسه بينهم، ولكن هؤلاء ينصحونه بالعودة إلى مغتربه … ويظل الرجل يذكر الوطن والمعذبين حتى تأتيه رسالة تخبره أن العدو اعتقل ابنه الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، وبذلك تكتمل صورة الإجرام الوحشي للمستعمر الذي يجثم على صدر الوطن، وينكل بأبناء البلاد كبارهم وصغارهم.
هذه القصة حسب تقديري (32) تمثل واقع الإنسان الفلسطيني الذي يلاقي العنت من الاحتلال الإسرائيلي، إذ يعذب من يناوئه أشد العذاب حتى إن الكثيرين يلاقون حتفهم على أيديه وهم لا يزالون في عمر الورود.(12/139)
أما القصص التي تتحدث عن الحروب العربية التي جرت بين الأشقاء فقد صورتها الكاتبة في قصتين هما: " إعصار " (33) و " رياح الشمال " (34) ، وصرحت لي أنها تعني في الأولى ما جرى بين العراق والكويت، وقد كشفت عن التوتر النفسي الذي أصاب الناس يومذاك ممثلاً بجاسم بطل القصة إذ أحس أن النبأ كان كقذائف حارقة، وتهاوى متهالكاً بعدما اتصل بصديقه لينقذه، وعبثاً حاول هذا أن يهدئ روعه ليفكرا بهدوء فيما سيفعلانه، ولكن الرجل فارق الحياة بعد أن أوصى صديقه بالعمل الدؤوب لتحرير الوطن.
أما " رياح الشمال " فتحدثت عن قلق فتاة وأمها من الحرب الدائرة بين اليمن الشمالي والجنوبي، ورفض أب تزويج ابنته من شاب ينتمي إلى الشمال، وعدّه غريباً بسبب الحرب القائمة بين الجزأين، وكأن الأديبة أرادت أن تنبه الرأي إلى أن هذه الخلافات والمجازر بين الأخوة تقطع الأواصر وتدع الشعوب في قلق قد يودي بمستقبل أولادهم.
أما قصص الاستعمار الذي جثم على الأراضي الإسلامية الأخرى بوصفها أرض أخوة لنا تجمعنا وإياهم رابطة العقيدة، فقد صورتها قصة " انكسارات روح " (35) حيث التقطت صوراً من صور التعذيب الوحشي الذي تعرضت له هذه المناطق على أيدي الصرب وقدمت ذلك في أسلوب رمزي يشف عن المعنى (36) ، ويشير إلى الممارسات الجنونية والانزلاق في حفر الهاوية الجهنمية، وإلى الوحش الذي يغرز أنيابه القذرة في أعناق الفتيات العاجية، وأشارت إلى ضرورة الثورة على هؤلاء المجرمين لمقاومة عبثهم الجنوني بنفحات الإيمان، ولئن تطايرت بها الأشلاء فإنها ستكون زهوراً تعبق بشذا رياحين الجنة حتى تزول الأرواح الشريرة وتنكسر حدتها.
وهكذا كانت قصص شيخة الناخي معبرة عن آلامها مما يعاني منه العرب والمسلمون في هذا العصر، سواء في الداخل أم في الخارج، وكانت غالباً لا تعين للحدث زماناً ولا مكاناً ليكون أشمل للواقع المحسوس في كل أرض يسودها طغيان.(12/140)
ثانياً: الدراسة الفنية:
إن أهم ما يميز القصة القصيرة عن غيرها أمران: -
أولاهما طول القصة، إذ يجب ألا تزيد عن عشرين إلى ثلاثين صفحة، كما قد تصغر حتى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وحينذاك تسمى أقصوصة.
وثانيهما وهو الفارق الجوهري أن القصة القصيرة تحكي حدثاً أو موقفاً تقوم عليه القصة بشكل موجز ومركز، فكأنه منظر التقطته عدسة آلة تصوير من زاوية واحدة، ولذلك لا يمكننا أن نحول القصة الطويلة أو الرواية إلى قصة قصيرة باختصارها وضغط حوادثها.
وحتى يصل الأديب إلى بغيته عليه أن يختار مشهداً من الحياة أو حدثاً ما، ويعرضه عن طريق الشخصيات المحددة، وقد تصل إلى واحدة أو اثنتين في زمان محدد بيوم أو يومين أو حتى في لحظات، وكذلك حال المكان يجب ألا يتعدى حدود البلد أو الحي، وتقود الشخصية الرئيسة البناء الفني للقصة، ولذلك يذكر فيها ما هو ضروري لخدمة الحدث إذ لا مجال للاستطراد والتكرار وترادف العبارات (37) .
هذه هي الشروط الفنية للقصة القصيرة، ويمكنني أن أجملها في أمرين هامين هما:-
1) بناء القصة: ويعني الوحدة بين أركان الحدث الثلاثة: الحوادث والشخصيات والمعنى، وبذلك يصير الحدث كامل التطور، له بداية ووسط ونهاية، فيتحقق بذلك الشكل، ويميز هذا العمل الفني من غيره.
2) نسيج القصة: ويعني أن يقوم على خدمة الحدث كل من التشكيل اللغوي والوصف والحوار والسرد.
والقصة القصيرة سواء من ناحية البناء أو من ناحية النسيج، تهدف إلى تصوير حدث متكامل له بداية ووسط ونهاية، في وحدة مستقلة لها كيان ذاتي لا يجزأ.
فهل حققت الأديبة شيخة الناخي هذه الشروط الفنية في قصصها؟
الدراسة الفنية خير ما يجيب على هذا السؤال …
(1) بناء القصص: ...
كما ذكرت فإن البناء يجب أن تتوفر فيه ثلاثة عناصر هي:
الحوادث.
المعنى.
الشخصيات.
وسأبين عن سماتها في قصص شيخة الناخي:
أ - الحوادث:(12/141)
من شروط الحوادث أن تكون مترابطة متآخية يأخذ بعضها برقاب بعض، وإلا غدت مفككة الأوصال، وأن تنشأ من موقف معين ثم تتطور وتنمو، حتى تصل إلى نقطة معينة هي لحظة التنوير التي يكتمل بها الحدث ويبدو بها المعنى (38) .
والأديبة الناخي استمدت مواقف قصصها وحوادثها من واقع الحياة السياسية والاجتماعية، وانطلقت تترجم عن هذا الواقع برؤية إسلامية ووعي يقظ جعلاها تشارك الأمة في أحداثها وتبصر مجتمعها بما يدور حولها بأسلوب قصصي مزج الواقع فيه بالخيال، وبطريقة سوية لا تحرف الجيل ولا تحرك الغرائز الشاذة، وهذه أسمى مهمات الأدب، وبذلك تكون قد دفعت عجلة الأدب الإسلامي إلى الإمام (39) .
لقد حكت الواقع، ونقدت العادات والتقاليد التي لا تستند إلى شرع أو دين، والتي سببت معاناة للمجتمع كعادة غلاء المهور، وزواج الصغيرات بالمسنين الأغنياء، وإهمال الزوجة والانشغال عنها مع الصحب، كما كشفت عن واقع الأمة السياسي من ثورات داخلية وحروب بين الأشقاء، وإرهاب ضد المسلمين وبذلك وضعت الأديبة لبنة في بناء القصص على أسس واقعية ومعالجتها بنبرة نقدية إصلاحية فيها بعض الروح الإيمانية.
ولقد عنيت الكاتبة بمقدمات قصصها، وللمقدمة أثرها في النفس، وقد أشار البلاغيون بأهميتها لأنها أول ما يلاحظ القارئ فيقبل بعدها على النص أو يعرض عنه، كما قد تبين أحياناً نظرة الأديب إلى الحياة.
ومقدمات شيخة الناخي إجمالاً تناسب سياق القصص، ففي " الرحيل " (40) وهي قصة تتحدث عن اضطراب حياة علياء والنهاية التعسة التي آلت إليها بعد أن كانت تعيش على الأماني العذاب، نراها تستهل قصتها بوصف الحياة، وتشبهها بسفينة تتقلب في بحر هادر لا يرحم، فكأن هذه المقدمة تشي بما سيكون في هذا المجتمع المادي الجديد الذي خدع بالمظاهر وأثر على حياة أبنائه وبناته فعاشوا على حلم ثم اصطدموا بمجتمع يحكمه عرف لا يستند إلى شرع أو منطق.(12/142)
وفي " القرار الأخير " (41) نرى الشمس تتمايل نحو الغروب تمد أشعتها الناعسة، وتتزاحم في الأفق ألوان من الشفق الأحمر الذي يبعث في النفس راحة وطمأنينة، وكانت تداعب أمواج البحر في فرح وابتهاج، فكأن القاصة عبرت بالأشعة الناعسة وباللون الأحمر عن حالة القلق والاضطراب التي كان عليها جاسم بطل القصة، لكن النهاية السعيدة التي قرّ قراره عليها يلائمها أن تذكر لها الراحة والاطمئنان، والفرح والابتهاج بعد الحمرة والنَّعَس.
وندرت المقدمات التي لا توحي بمضمون القصص، وبما ستؤول إليه من نحو " أنامل على الأسلاك " إذ بدأت بالشكوى من الزوج وانتهت بالفرحة بعودته ولكن هذه النهاية لم تتضح إلا قبيل النهاية بقليل.
ومما يلاحظ على المقدمات أيضاً أنها استمدت معظمها من الطبيعة، ولا سيما عالم البحر، ولا ننسى أنها ابنة الإمارات التي تطل على الخليج العربي، ويعيش أهلها – قبل النفط – من خيراته، ولذا بدا أثره في أحاديثهم وآدابهم جلياً، من ذلك مقدمات قصصها: الرحيل، وكان ذلك اليوم، والقرار الأخير، ورماد، وحطام المخاوف (42) .
وقد تنأى عن ذلك إلى تصوير الحالة النفسية التي كان عليها البطل كما في " إعصار " (43) إذ طالعتنا بالبطل وقد تشبثت يداه بجانبي رأسه في قوة، وكادت أصابعه تنزع خصلات من شعره الكث، وأطبق جفنيه، بينما راحت شفته السفلي تئن تحت وطأة أسنان فكه العلوي، وهذه الحالة الانفعالية الأليمة تناسب الحدث الفجائي الذي حلّ بأرض الكويت من جراء الاعتداء العراقي عليها.
وقد عرضت الأديبة حوادث قصصها في أساليب عدة، منها:
أ - أسلوب الترجمة الذاتية أو السرد الذاتي على لسان البطل: كما في " خيوط من وهم، ورحلة الضياع " (44) ، كقولها على لسان البطلة في الثانية:(12/143)
"صعقتُ لكلامه الذي اخترقه جدار صدري كسهم سكن في الصميم، وراح يمزق أحشاء قلبي، أحسست بالمرارة كل المرارة، وبالحزن كل الحزن، وأنا أرى أبي يقف بجانب زوجته دون أن يكلف نفسه عناء معرفة الحقيقة، وعندها أيقنْتُ أن لا فائدة من اللجوء إليه مرة أخرى … " (45) .
ب - أسلوب السرد بضمير الغائب، وبقلم الكاتبة، فكأن الحدث خبر تسجيلي يحكي قضية تاريخية، مع أن كاتبة القصة غير كاتبة التاريخ (46) ، ويكثر هذا في مجموعتها " الرحيل " على نحو قولها في القصة المسماة بهذا الاسم " وأقدم على الخطوة التي ستقرر مصيريهما، وتقدم يطلب يدها من أبيها، ولكن توقعه كان في محلّه ... الرفض بالطبع، فهذا الوالد من ذاك المجتمع المتكالب على المادة، وهو يريد لابنته زوجاً ثرياً لا شاباً فقيراً كسعيد " (47) .
ج - وقد تمزج بين الحوار والسرد، ويكثر هذا في مجموعتها الثانية " رياح الشمال " وكأنها بعد أن درست الفن القصصي في الجامعة طورت إنتاجها الأدبي فصارت تعرض الحوادث من خلال الحوار الذي يجري بين الشخصيات، كما في قصة " رماد " (48) .
د - وقد تعرض الحوادث من خلال النجوى الداخلية أو " الحديث اللاواعي "، أو ما يسمى بالمونولوج الداخلي: كما في قصة " لا تكن جلاداً " إذ بدأت بمناجاة البطل للطير، ثم عرضت علينا الحوادث واحدة تلو الأخرى من خلال تذكر البطل أو تخيله لما حدث أو سيحدث لو عاد إلى وطنه الذي يقبع تحت سلطة مستعمر أو طاغية لم تسّمهما وإن كان السياق يدل عليهما.
وغالباً ما تكون الحوادث معروضة بدءاً من مستهل الحدث إلى نهايته كما في " الرحيل " و " حصار " و " إعصار " (49) ، ولكن بعضها رجع بالقارئ القهقرى كما في " من زوايا الذاكرة " (50) حيث طالعتنا الأديبة بالمصير الذي آل إليه المطوع وعُرف فقره بسبب تغير أساليب التعليم من تقليدية إلى معاصرة.(12/144)
وقد وفقت الأديبة في ربط حوادث القصص بعضها إلى بعض برابط السببية، فالمقدمة تنقلنا إلى الحدث، وهذا يتطور حتى النهاية، وكل جزئية تصلنا إلى ما بعدها؛ فصوت الإنذار بالخطر في " أحزان ليل " (51) والمتكلم الذي ينادي " ادخلوا مساكنكم قبل أن تطأكم أقدامهم " وحيرة الجميع، والأسئلة التي تعصف بالرؤوس تبحث عن أسئلة شافية كل هذا يدعو إلى الذعر وإلى الظن بأن عدواً يتربص بهم، وأنهم وقعوا في الفخ، ولهذا أرسل الخفير، ولما تأخر تطوع الشيخ بنفسه ليبحث عن السبب، وانتظر الجميع عودة الشيخ المهيب على حد قول الأديبة، ولكن بلا جدوى.
وقد يتدخل القدر لينهي الحدث بطريقة غير منطقية كما في " رحلة الضياع " (52) ، إذ فوجئت بورقة الطلاق على الرغم من إخلاصها لزوجها وتحملها لنوباته التشنجية؛ وقد يكون القدر ناتجاً عن خطأ ارتكبته الشخصية كما في " الصمت الصاخب " (53) إذا كان السائق الغريب لا يدرك هياج البحر في مدّه، ولهذا تعرّضت الأسرة للخطر.
وتسير الناخي في حوادث القصص مفصلة لجزئياتها حيناً، ويصير هذا التفصيل عنصر تشويق في القصة، كما في " إعصار " إذ صورت الحالة النفسية التي كان عليها البطل تصويراً مفصلاً مما دعا إلى الإشفاق عليه، لنقرأ لها قولها تحدثنا عن حالته إثر قراءة نبأ احتلال العراق للكويت:
" بدأ بقراءة العناوين ... وما إن انتهت سطورها العريضة حتى انطلقت من داخله صرخة حبيسة:
اكتملت اللعبة.. الدائرة تدور
أسرع نحو الهاتف.. أداره في عصبية، أرسل رنينه المتتابع في إلحاح:
أريدك حالاً.
لعل الداعي خير.
تعال بسرعة ... إني أحترق.
لم يستطع إتمام حديثه، كان منهاراً، تهاوى متهالكاً، سقطت سماعة الهاتف من يده، بدأت روحه تحلق في سماء الغرفة التي أحس بجدرانها تنطبق على جسده لتسحقه، وشعر بكتل من اليأس تتراكض حوله بحزن العالم كله.. تهاجر إلى قلبه (54) .(12/145)
فالأديبة أسهبت في حديثها عن انهيار البطل النفسي إثر تلقي نبأ الهجوم وكان هذا الإسهاب مدعاة لمتابعة الحدث الذي سبب له هذا التوتر والضيق.
وهناك وسائل تشويق أخر كالإرهاصات التي تنتشر هنا وهناك ففي " خيوط من الوهم " نرى الفتاة قد تعلق قلبها بمن عرفته منذ صغرها خِطباً لها، ولكن تصرفاته كانت تشي بعدم رغبته في الزواج، فهو مثلاً جاء ليودع الأسرة قبيل السفر ولم يتكلم بشيء عن مصيرهما، وسافر ولم يلق نظرة وداع أو تحية، وهذه الإشارات أو الإرهاصات تشوقنا لمعرفة نهاية الحدث، وتجعلنا شبه متيقنين بما سيحدث لها.
وقد يكون عنصر الزمن أداة تشويق تحفزنا إلى مواصلة القراءة، كما في " حصار " (55) ، إذ نرى الزوجة تسهر وحيدة تنتظر قرينها إلى ما بعد الثانية والنصف ليلاً، وتقتل وقتها بقراءة صحيفة، أو بالوجوم والتفكير، ثم يقدم الزوج ثملاً تفوح منه رائحة كريهة وهو يجر قدميه جراً، وهنا راحت الأديبة تطيل في تصوير جزيئات هذا الموقف في بطء زمني يوحي بثقل الحدث على قلب الزوجة وسط هذا الليل الطويل حتى أدركت أن لا فائدة من الحديث مع رجل مخمور لا يعي مما تقول شيئاً..
وقد يكون رسم البيئة عنصر تشويق أيضاً، كما في " الصمت الصاخب " (56) ، إذ شوقنا هجوم البحر بمدّه إلى متابعة ما سيحدث لهذه الأسرة القابعة في سيارتها المصفحة بعد أن غمر البحر المكان وتعرضت للخطر.
وللبيئة في قصة " هواجس " (57) أثرها في حثنا على متابعة القصة وقد بانت لنا أوضاعها المادية والمعنوية من خلال رؤى خلفان لواقع المدينة، ومن حواره مع السائق ومع أخيه الصغير إذ عرفنا على التغيرات الحضارية وعلى تبدلات الأخلاق، والتأثير الثقافي للوافدين.(12/146)
ومعظم قصص الناخي باهتة الحبكة، وكأنها تأثرت بنظرة الواقعيين إلى عناصر القصة، إذ لم يعودوا يشترطونها، ولا يتطلبون روعة المفاجأة فيها، بل صاروا يدخلون إلى الحياة الإنسانية في القصة من أي جانب، ويهتمون بتصوير الحدث في قوة وعمق، ومن غير مبالغة أو تحريف وقد حققت الأديبة هذا حين استعاضت عن هذا العنصر المشوق بذكر التفصيلات كما مر، أو بالحديث عن العواطف المتأججة كما في " لا تكن جلاداً " (58) أو بتصوير المفارقة بالحيرة مثلاً التي تنتاب الشخصية إزاء أمر ما كما في " القرار الأخير " (59) .
وكانت الحبكة في بعضها الآخر لا تتعدى خواطر بسيطة تجول في مخيلة فتاة، أو هاجساً يمتزج بتفكير البطل، ثم لا تلبث الخاتمة أن تكشف الأمر بسرعة.
وقد عنيت الأديبة بنهايات قصصها، والخاتمة نهاية المطاف، وهي آخر ما يعيه القارئ أو السامع، ويرتسم في ذهنه، وهي اللحظة الحاسمة، وتشير إلى قدرة الأديب على أن يرسخ الفكرة أو يؤجج العاطفة، وكانت نهايات القصص عندها مفتوحة غالباً، إذ لم تصرّح فيها بالحقيقة أو بالمصير بل تدعنا نتخيل أموراً عدة، وإن كان ما سبق من تصوير أو إشارات تجعلنا نرجح أمراً على أمر كما في " أنامل على الأسلاك " إذ نتصور عودة الحياة الزوجية إلى القرينين وإن لم تفصح الأديبة عن ذلك، لأن وصفها لمعاناة الزوجة ولندم الزوج،ثم قولها في خاتمة القصة " والتفت لتلتقي نظراته بمن تقف ذاهلة وقد استغرقتها المفاجأة … و… " (60) تجعلنا نتوقع ما ذكرناه، وكأن الأديبة بهذه الخاتمة المفتوحة أرادت أن تثير مشاعرنا أكثر من تعريفنا على الحقيقة، وذلك فن من فنون القصة.(12/147)
ولكني أرى أن الأديبة لو أنطقت شخصية من شخصياتها بما ينم عن الخاتمة وأضافت إلى الحديث ما يكشف عن رؤيا إسلامية أو إيجابية للقضية لكان دور القصة أبين وأجلى، كأن تجعل راوية " من زوايا الذاكرة " تعمل على إيجاد عمل للمطوع بدلاً من أن تنظر إليه وهو يغيب عنها كطائر أبيض ويظل هم الفقر يجثم على كلكله؛ ولعل كثرة مشاهد البؤس في هذا المجتمع غدت – على ما يبدو – لا تحرك ساكناً نحو ذويه.
والأديبة تميل إلى النهايات المأساوية – ولهذا أنهت ثلاث عشرة قصة بالمآسي كالموت أو الدمار، واعتقال الصغار وتشريد الكبار، وكان ثلاث قصص فحسب قد انتهت نهاية سعيدة بعودة الزوج، أو الأمل في عودته (61) .
ولعل الظروف السياسية والاجتماعية التي تغمر العالمين العربي والإسلامي بالمآسي، وتفشي قيم نتجت عن عصبية جاهلية لا عن شرع صائب أديا بالكاتبة إلى هذه النظرة السلبية في قصصها، وكل إناء بما فيه ينضح.
ب - المعنى ولحظة التنوير:
وإذا ذكرت الخاتمة ذكر معها لحظة التنوير، وهي النقطة التي تنتهي إليها خيوط الحدث، فيكتسب بها معناه المحدد الذي أراده له الكاتب، ونحن لا نستطيع أن نفصلها عن الخاتمة، إن لم نقل إنها نهاية الخاتمة، وقد أجادت الأديبة تصوير هذه اللحظة بعباراتها الأخيرة الدالة على المعنى كقولها في " رماد " على لسان الصغيرة التي أشفقت على دميتها على حين لم يشفق بنو البشر على بعضهم بعضاً:
" وبين حطام النوافذ والأبواب يأتي صوتها من الداخل واهناً مستغيثاً:
أنا قادمة إليكم يا أبي، لا تتركوني هنا، أحضرت دميتي معي (62) .
وفي " لا تكن جلاداً " تقول على لسان البطل المغترب المشرد متحدثاً عن اعتقال ابنه " عمره لم يتجاوز الثانية عشرة ... مازال صغيراً، ترى ماذا يريد منه الجلادون، وانخرط في البكاء " (63) .
فالأديبة في كلتا النهايتين أبانت عن جرائم العدو الذي لا يرحم صغيراً ولا كبيراً إلا ويودى به.(12/148)
أما في قصة " هواجس " فنرى خلفان يثقل بتكاليف الأسرة ومطالبها ثم ينذر لأنه لم يدفع ثمن فاتورة المياه والكهرباء، وتنهي القاصة حديثها بقوله: " وعاوده هاجس الخوف والصوت الهامس:
تجلد يا خلفان، عليك بالصبر، الطريق طويل، أنت رب الدار " (64) .
وبلحظة التنوير هذه تتضح معاناة الشاب في أسرته بعد وفاة والده، وهذه الفكرة وإن لازمت مسيرة القصة طويلاً إلا أنها ليست الغاية – فيما أرى – لأن تركيز الحديث كان عن التغيرات الحضارية في المجتمع، ولهذا لم تكن الخاتمة في هذه القصة مناسبة للعنصر السائد فيها (65) ، خلافاً لأعمالها القصصية الأخرى إذ كشفت عن أوضاع المجتمع الإماراتي، وعن الواقع السياسي للأمة – العربية والإسلامية، وهذا العنصر السائد فيها أبان عن وعي الكاتبة لما يجري حولها من إرهاب وأخطار وأخطاء.
شخصيات القصص:
لا نستطيع الفصل بين الشخصيات والأحداث، لأن الحدث ليس نقل أخبار فحسب بل هو عمل متكامل موحد، أو هو تصوير الشخصية وهي تعمل.
وقد برزت شخصيات قصص الناخي في ثلاث طرق:
1" - الطريقة التحليلية (66) :
وبها صورت شخصياتها من الخارج، وتحدثت عن عواطفها ودوافعها، وأصدرت أحياناً أحكامها عليها، وكانت هي المفضلة لديها في مجموعتها القصصية الأولى " الرحيل " التي نشرت أولاها منذ سنة 1970، وقد برزت في قصة " الرحيل، وأنامل على الأسلاك، وكان ذلك اليوم، وحصار " (67) ؛ وأرى أن طريقة الترجمة الذاتية تشبه هذه، إذ رويت بلسان المتكلم بدلاً من الغائب، وكانت كلتاهما تعتمدان على السرد، ومن هذه القصص " خيوط من الوهم، ورحلة الضياع، والقرار الأخير ".(12/149)
2" - ولكن الأديبة بدت في مجموعتها الثانية " رياح الشمال " أقدر على كتابة القصة الفنية، وكأنها أفادت من دراستها العربية في الجامعة، ولهذا نراها تعرض شخصياتها بالطريقة التمثيلية، فتسمح لها بذلك أن تكشف عن نوازعها من خلال أحاديثها، لنقرأ لها قولها الذي يبين عن نفسية السجان وسجينه:
«لم تقل لي أنت ما تهمتك؟
لا أدري.
ولكن من حقك أن تعرف.
لقد دفعوني إلى هنا دون أن أعرف التهمة المنسوبة إليّ.
لا يعقل هذا، هل هي وشاية؟
سمها بما شئت، والحقائق تصبح مرة حين تفسر بعدة وجوه، بينما الآخرون تمتد الأرض وتطول من تحت أقدامهم.
لا أفهم ما تقصده.
أعذرك.
أفصح بالله عليه.
لن تصل معي إلى شيء، أترى الأشجار من حولنا؟
نعم.
إنها تحاصرنا، وللجدران آذان صاغية.
سمعت هذا القول من قبل (68) » .
فالأديبة هنا عبرت عن ظلم فئة متسلطة تمتد الأرض وتطول من تحت أقدامها على حد قولها وهي لا تبالي بمعاناة الشعب، ولهذا تتجسس عليه فتسجن أبناءه وتراقبهم وتتسمع إلى ألفاظهم حتى في أقبية سجونهم، حتى شاع المثل " للجدران آذان "؛ وهذا الحديث يكشف عن ضيق الشعب من الجبابرة الطغاة، مع أن الأديبة لم تذكراً قطراً، ولم تحدد بلداً.
3- طريقة تداعي الأفكار:
وبهذه تتضح نوازع الشخصيات وأهواؤها، ومواقفها، كما في " لا تكن جلاداً " إذ نحس أثر المعاناة والضغوط النفسية من خلال ما يجري في مخيلة البطل من خواطر وأحاديث ذهنية على نحو قولها:
" أطلق تنهيدة حارة، شعر بوطأة الوحدة ... بالصوت المخيف في قريته يقتحم سمعه وقلبه معاً:
قف مكانك.. لا تتحرك.. امتثل للأوامر.. لا تقاوم.
قفز من مكانه يهرول مسرعاً، مديراً رأسه خلفه:
لا أحد يطاردني.
تعوذ من الشيطان وقال مواسياً نفسه:
دع عنك المخاوف، اقتل كل الأوهام، اسحقها بأقدامك، لا تضعف(12/150)
مسح بيديه وجهه وبدأ يخفف سرعة خطواته، تناهى إلى سمعه صوت صغيرة وهو يقول له في اضطراب وخوف:
لقد عادوا للبحث عنك، كانوا هناك في بيتنا بأحذيتهم السميكة، ماذا ستفعل يا أبي؟ جاء سؤال الصغير حاداً أدماه من الداخل:
جميعهم في انتظارك، أمي قلقة، وأخوتي خائفون.
تلقى في ذهول تلك الإشارات المشؤومة، أمسك بيد الصغير، ضمه إليه وساروا في طريق العودة وهو يهمس قائلاً: لا تخف (69) » .
فالأصوات التي تأتيه من هنا وهناك، فتشعره بالمطاردة والخوف لم تكن إلا من عقله الباطني إذ يحس بها نتيجة الضغوط النفسية في ظروف سياسية قاهرة، أقصته عن الأهل وجعلته يعيش في مغترب ناءٍ بعيد، فكأن الكاتبة قد امتزجت بالشخصية وترجمت عما في أعماقها من مشاعر، بل سبقت عالم النفس في الحديث عن أغوارها، وقد جاء هذا العرض المركز للاشعور موفقاً في القصة، إذ جعلنا ننفعل مع الشخصية، نتألم، ونحقد على الطغاة الظالمين، وبذلك يكون للفن أثره في القراء.
ويقول أ. د " بهجت الحديثي " معلقاً على هذه القصة، متحدثاً عن الانطباع الذي خلفته في نفسه: «التمتع بالجمال الفني ... هو غاية قائمة بذاتها، ورؤية فيها الشيء الكثير من الإبداع في إعادة تشكيل الصور الفنية، والتحرر من كل القيود التي تكبل المبدع والمتلقي حيث أن الفن أوسع من أن يعرف أو يصب في قوالب جاهزة ... وهذه وقفة سريعة إلا أنها تسجل انطباعات وملاحظات، وربما وجهة نظر كونتها كقارئ ...
«قصة " لا تكن جلاداً " هي بيت القصيدة من حيث أسلوبها وروعة تصويرها ... لقد نقلتني تلك القصة بعيداً وأنا أسبح في بحر خيالها، وهي تحكي حالة إنسانية، وتنطوي على غايات نبيلة، وتفتح آفاقاً رحبة أمام القارئ ليطلّ منها على عوالمنا البائسة الخاوية على عروشها إلا من القهر والتسلط واللاإنسانية، وما فيها من جنون وعنجهية وسادية إن صح التعبير ... أما لغتها فلا أجمل منها ... » (70) .(12/151)
وهذا التأثر الشديد بالنص يذكرنا بالمذهب " التأثري أو الانطباعي " (71) الذي يعولّ على ما يخلفه النص في نفس القارئ والناقد من انطباعات ذاتية تشعره باللذة النابعة من النص، لأن هذا التأثر أو الانطباع هو وحده القادر على تقدير هذا النص تقديراً جمالياً، وقيمة العبقرية في رأي "أناتول " تكمن في السر الذي تعجز العقول عن تفسيره، ولكن النفوس تشعر به وتنجذب إليه بما يحدثه من متعة سحرية تتجاوز العقل والمنطق، ومقياس هذا المذهب لا يعود إلى قواعد مسبقة أو قضايا اجتماعية أو أخلاقية، فتلك تتبدل وتتغير، ولكن أثر النص في النفس يبقى فيها (72) .
أما الناقد الإيطالي " كروتشه" صاحب مذهب " النزعة التعبيرية " النقدي فيرى أن المهم في النص الأدبي هو التعبير عما في النفس لا عن الواقع (73) .
وقد أجادت الأديبة في هذه القصة في تعبيرها عما تحس به من خلال معايشتها للظروف السياسية التي كانت الأمة تعاني منها في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وكانت أجهزة الإعلام تنقل الصور المؤثرة عن فلسطين ولبنان والعراق والكويت، وعما يحدث في سوريا والجزائر وفي البوسنة والهرسك وأفغانستان، وأذربيجان.. وإذا أضفنا إلى هذا الحساسية الإيمانية التي تتمتع بها الأديبة الناخي أدركنا التأثر والانفعال الذي كان يمضها من جراء سماع هذه الأنباء، وقد انعكس هذا في قصصها، فبرعت في تصوير نفسيات أبطالها والأديبة في قصصها وصافة للنفسيات، وهاهي في " حطام المخاوف " أيضاً نراها تتحدث عما انتابها – بوصفها البطلة والكاتبة معاً – إثر سماعها نبأ تراجع صحة والدتها، وتوقع وفاتها، وكانت بعيدة عنها:
" أتاني الصوت وفيه نبرة رجاء ملهوف:
جف حلقها من مناداتكم.(12/152)
انزلقت سماعة الهاتف لتسقط متدلية، وانخرطت في بكاء حار.. أصوات متداخلة وأقدام كثيرة تقترب وتبتعد، صوته يخترق سمعي مواسياً كعهدي به دائماً، رفعت رأسي تصفحت وجهه، كان ينم عما في داخله من قلق دفين.
أحسست ساعتها بفقدان قدرتي على التحكم بأعصابي، وقد تراءت لي الأشياء بألوان مختلفة، والزمن يتمطط، وحين يقع الإنسان فريسة للمخاوف يصبح عاجزاً عن الصمود أمامها ومواجهتها بصلابة " (74) .
لقد استطاعت الأديبة أن تترجم عن إحساسها بهذه التجربة الشعورية التي أحست بها، فكأنها رسامة عواطف بقلم فني مداده ألفاظ صادقة نبعت من سويداء قلبها، فجعلها تختار كلمة " جف حلقها من مناداتكم " لتشير إلى شدة شوق أمها لأولادها و " وانزلقت سماعة الهاتف.. ولا تعي إلا أقداماً تقترب وتبتعد " لتعبر بذلك عن أثر الصدمة والذهول الذي أصابها، وعن إحساسها بالعجز عن مواجهة الخطب بجلد وقوة.
وقد تدع الأديبة شخصياتها تتصرف تصرفات فجائية، لكن المفاجأة تبدو مقنعة فعودة الزوج في " أنامل على الأسلاك " (75) بعد إهمال الأسرة طويلاً كان أمراً مفاجئاً للبطلة، ولكنه كان استجابة لوازع الضمير الذي حركه سماع صوت ابنته الطفولي من الهاتف، وموت البطل في " إعصار " (76) كان بسبب الصدمة النفسية التي أصابته عندما سمع نبأ اعتداء العراق على الكويت.(12/153)
وشخصيات قصصها إجمالاً مسطحة تلازم حالة واحدة لا تحيد عنها، ففي " خيوط من الوهم " (77) نرى حصة تخلص لخطبها وتكبر مع أحلامها ولكن علياً يبدو غير مبالٍ بها ثم يسافر دون أن يودعها، ويذهب إلى البلد الأجنبي ليتزوج هناك مؤكداً بذلك عدم رغبته في الزواج ممن كانت له خطباً وانتظرته طويلاً؛ وفي " رحلة الضياع " (78) نرى الفتاة معذبة منكودة في بيت أبيها وقرينها، لا تعرف الرحمة إلى قلبها سبيلاً … أما في " أنامل على الأسلاك " (79) فقد بدت شخصية الزوج نامية أو من النوع المستدير (80) إذ غير سلوكه وجعلنا نحس بوازع ضميره.
والأديبة محايدة في نظرتها إلى شخصياتها، تبين فضائلها وتكشف عن عيوبها بإلماح لا تجريح فيه، ولكنها تقنعنا من خلال حوادثها بالظلم الواقع على المرأة، فهي تنتظر الزوج، وهو يلهو في عربدته ومع صحبه (81) ، أو يتزوج من أجنبية ويدعها (82) ، وقد يقسو عليها ويضربها (83) ، وهي تعيش على أحلام وردية، ولكن مجتمعها بعاداته وتقاليده غير المنطقية ولا الشرعية كغلاء المهور يقف حائلاً دون سعادتها (84) ، وهي المسؤولة عن رعاية البيت (85) ، وليس لها دور في القضايا السياسية إلا أن تخفف عن زوجها وأولادها الضغوط السياسية بأحاديثها واحتضان أولادها (86) .
أما الرجل اجتماعياً فهو، كما في الحياة الواقعية، المسؤول عن جلب لقمة العيش، ودفع مهر الزوجة (87) ، وقد يفي لخطبة، أو يغدر فيتزوج من أخرى أجنبية (88) وقد يتزوج من ثانية فيقسو على أسرته بسببها (89) ، أو يكون وفياً لعهده (90) .
والرجل السكير اللاهي لا خير فيه، ونهاية مشؤومة غالباً (91) .(12/154)
أما الرجل سياسياً فيدافع عن وطنه بكل حمية ويجاهد العدو إرضاء لله سبحانه (92) وقد يسجن (93) أو يهاجر خلاصاً من ظلم طاغية (94) أو عدو، أو يجاهد فيتقد وجهه بنفحات إيمانية ويشجع أسرته على الصمود في سبيل استرداد الكرامة، ويدرك أن سبيله إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة (95) ، وقد لا يحتمل نبأ سقوط بلاده بأيدي عدو فيصاب بتوتر شديد يودي بحياته (96) .
وبهذا يكون الرجل والمرأة في قصص الناخي نموذجين للبشر في حياتهما اليومية، وكان تصويرهما عفاً، إذ لم تجعلهما ذئباً وفريسة يلهثان وراء الجنس أو المتاع كما فعلت أمينة عبد الله وسلمى مطر سيف في قصصهما، وقد أشرت إلى ذلك في التمهيد.
(2) نسيج القصص: ...
القصة القصيرة وحدة مستقلة لها كيانها الذاتي الذي لا يتجزأ إلى بناء ونسيج، لأن كلاً منهما يعمل على تصوير الحدث بمعونة الآخر، ويؤدي إلى لحظة تنوير تتضح بها الفكرة، ولكن الفصل بينهما يكون لتسهيل الدراسة فحسب.
ونسيج القصة يعني كل ما ساهم في أداء المعنى وتصوير الحدث أو تطويره، من بداية القصة إلى نهايتها، بحيث تصبح كالكائن الحي، ويمكننا أن نقول إنه:
أ-التشكيل اللغوي.
ب-الوصف.
ج_الحوار.
د-السرد.
وسأدرس هذه العناصر في قصص شيخة الناخي موضحة خصائصها الإيجابية والسلبية.
أ-التشكيل اللغوي:
لا فصل بين اللغة والمضمون في العمل الفني، فكلاهما يلتحم التحاماً تاماً في بوتقة واحدة، وكل منهما أداة ووسيلة، ولكن " الأسلوب هو الرجل " فلكل أديب ميزة تميزه عن الآخر.(12/155)
وأولى ميزات الأديبة أنها حافظت على اللغة الفصحى في مجموعتيها، وهذا أمر أساسي في آدابنا العربية كلها، حتى في القصة، وإن كان للدكتور رشاد رشدي رأي يخالف ما عليه النقاد، إذ يرى أن الواقعية القصصية لا تتحقق إلا إن نطقت الشخصية باللغة التي تتكلم بها في حياتها اليومية ويؤكد على ذلك ويستشهد بأدباء الغرب الذين يُنطقون شخصياتهم باللغة التي يتحدثون بها، كما يندد بمن يخالف ذلك وينسبه إلى الروح التقليدية في الآداب لتمسكه بالقديم وطرق صياغته وهذا برأيه يخالف فنية القصة التي هي لون جديد في أدبنا العربي (97) .
ولكن نقاداً آخرين ردوا عليه، ويأتي في مقدمتهم " د. محمد غنيمي هلال " إذ ناقش قضية العامية والفصحى مناقشة مسهبة في كتابة " النقد الأدبي الحديث " وبين أن الواقعية ليست في اللغة وإنما في الموقف والتصوير، وفي مسيرة الحوادث وتصرفات الشخصيات، وأن الفصحى قادرة على التعبير، ولو كتبنا بغيرها لما أدينا رسالة أدبنا العربي، لأن الفصحى أقدر على تنويع الدلالات وتعميقها من العامية المحدودة في مفرداتها والمتصلة بالمحسوسات، والمتعددة تعدد البلدان العربية بل مدنها وأحيائها أيضاً، وأن علينا أن نرقى بمجهودنا العربي لغوياً عن طريق القصة كما أن علينا أن نرقى بهذا اللون الأدبي ليصبح ضمن آدابنا العربية الهامة (98) .(12/156)
وأقول أيضاً إن طبيعة اللغات الأجنبية غير طبيعة لغتنا العربية، فتلك تفرعت عن اللاتينية ولم تحافظ على كيانها، أما لغتنا فقد قاومت هذا التعدد، وحافظت على أصالتها على مر السنين وكتبت بها حضارات الأمم وآدابها، ثم إن الحفاظ عليها حفاظ على تراثنا، والهجمة ضدها فكرة استعمارية لا نزال نشهد آثارها في الدعوة إلى العولمة، والانصياع للهجات العامية باسم التراث أو باسم الواقعية أو تحت أي اسم براق قضاء على شخصيتنا وهويتنا، ولهذا أحسنت الأديبة شيخة الناخي حين التزمت الفصحى لغة لقصصها، وبها يكتب لها الخلود لا باللغة العامية.
والأديبة فضلاً عن ذلك عمدت إلى اللغة الواقعية السهلة في مجمل قصص مجموعتها الأولى الرحيل، إلا أنها جملّت مقدماتها بلغة إنشائية تستهوي بوقعها الجميل قراءها من غير مبالغة في الصنعة، من ذلك قولها في مستهل: " وكان ذلك اليوم ": " كانت تحلق في الفضاء بخيال واسع وأمان، تمخر بأحلامها عباب أمواج البحر الشاسع، حيث الأفق البعيد،وفوق رمال شاطئ الخليج البراقة الجميلة ترى حلمها يرتسم فوق صفحة القمر، وفي خيوط الشمس مع نسمة الهواء، وهي تداعب أوراق الأشجار في دلال، في عين كل طفل وطفلة، وهما يلعبان ويمرحان في براءة وطهر " (99) .
فالأديبة لجأت إلى الأسلوب الوصفي الذي استمدت عناصره من الطبيعة لتعبر به عن بهجتها في الحياة، وأمانيها العذاب، وهي ترسم أحلامها المستقبلية.(12/157)
وبعض النقاد يعيبون هذا التأنق في الصياغة وينفرون منه أشد النفور، ويعّدونه بعداً عن الواقعية، ويفضلون عليه المضمون، ويطلبون السهل غير المدبج من الأسلوب، وأرى أن لا ضير في ذلك إن لم يكن متكلفاً، وكان يساعد على أداء الفكرة كهذه المقدمة، إذ يوحي فيها جو الطبيعة بالسعادة التي آلت إليها الشخصية، ولا سيما أن الأديبة كانت تعود إلى الأسلوب الواقعي بعد مقدماتها، بل قد تأخذ به في مستهل قصصها كما في " من زوايا الذاكرة "، وهذا مقطع يبين عن هذا الأسلوب في هذه القصة:
" في ركن بعيد آخذ في الانزواء سقطت أنظاري على رجل يقف عند الجانب الآخر من الطريق بالقرب من صندوق للمخلفات، وكان يبدو عليه أنه منهمك في عمل ما، وبين الفنية والأخرى كانت قامته تنتصب يرسل خلالها نظرات فاحصة لكل ما حوله، ثم يعود لما كان عليه " (100) .
ولم تخل مجموعتها الثانية " رياح الشمال " من الأسلوب الواقعي أيضاً، وقصة" هواجس " (101) فيها خير شاهد على هذا إذ تحدثت بلغة سهلة وعرض واقعي عن أوضاع الإمارات بعد نهضتها الحديثة المعتمدة على العمالة الوافدة في كثير من أمورها، وأثر هذه العمالة.
ولكن الأديبة عمدت إلى الأسلوب الإيحائي تعرض به كثيراً من قصصها لتكون أكثر تأثيراً على نفوس قرائها ففي قصة " إعصار " أشارت إلى شدة انفعال البطل لخبر الهجوم العراقي بلغة موحية بمعناها ومبناها على نحو قولها: " جاء الخبر قذائف حارقة أصابته في الصميم فحطمته، أحس بالغوص في أنفاق مظلمة، وبأيدٍ ممتدة نحوه، تشده في كل الاتجاهات، شعر بالاختناق، صرخ بأعلى صوته …
كيف.. لماذا..؟
تباً لك من حياة.. مازلت تنسجين خيوط الأحزان أثواباً للبائسين تباع على قارعة الطريق، وانخراط في بكاء متواصل.(12/158)
كبرت دائرة الألم، أحس معها بخناجر مسمومة تنغرس بلا رحمة لتصل أعماق قلبه المكلوم ... قفز نحو الشرفة وهو يضرب بكلتا يديه، ووقف مشدوهاً وقد اعتصرته الفاجعة بدأ كيانه بالغليان..
جبناء، كلهم جبناء " (102) .
فهنا نرى الأديبة تستعين لإظهار الضيق النفسي الذي أحس به البطل بلغة موحية مصورة فالخبر " قذائف حارقة " أصابته في " الصميم "، وكلمة الصميم لها مغزاها، وقد أدى به هذا الخبر إلى " التحطيم "، وكأنه " غاص في نفق مظلم "، ولعل اختيارها لكلمة الغوص كان بتأثير بيئتها البحرية عليها، ولكن غوص هذا المسكين كان في نفق مؤلم، ولم يكن لجلب اللؤلؤ، وهو يحس " بأيد ضاغطة، وبالاختناق، وبالخناجر المسمومة، وبخيوط الأحزان تنسج أثواباً، فيضرب بكلتا يده " و " قد عصرته الفاجعة، وأحس بالغليان ".
وهذه اللغة المصورة الموحية تشي بصدق التعبير وجماليته في آن واحد وهي أقدر في الدلالة من اللغة المباشرة، إذ تآزرت فيها الصورة مع اللغة، وجاءت الحروف الجزلة، والانفجارية (103) معاً لتكمل صورة المعاناة النفسية، وللحروف إيقاعها وظلها وإشعاعها، ولهذا رأينا الأديبة تكثر من الكلمات التي تحوي هذه الحروف:
فالباء مثلاً وردت في: البائسين، تباع، بكاء، بخناجر، بلد.
والتاء في مثل: تباً، مازلت تنسجين، تباع، تنغرس، لتصل، اعتصرته
والطاء في: خيوط، الطريق، انخراط.
والكاف في: بكاء، كبرت.
والقاف في: قارعة، أعماق قلبه، قفز، وقد، وقف.
فهذه الحروف الانفجارية ذات النبر القوي شاركت التصوير في التعبير عن الضغوط النفسية التي كان البطل يعاني منها من جراء القصف العراقي للكويت، كما شاركت في الدلالة على هذه المعاناة أيضاً الهاء اللاهثة والحاء التي تشي ببحة الصوت، ووردتا كثيراً في هذا المقطع:
فالهاء جاءت في: أصابته، تشده، الاتجاهات، صوته، قلبه، هو، يديه، مشدوهاً، اعتصرته، كيان، كلهم.(12/159)
والحاء في: حارقة، حطمته، أحس، نحوه، حياة، الأحزان.
وكان هذا كله دليلاً على شدة التوتر والضغط النفسي الذي أحس به البطل، ثم أودى بحياته.
وكان للفواصل التي تكاثرت بين الأسطر على شكل نقط متواليات دورها في التعبير أيضاً فقد زادت الإحساس بالألم عمقاً، حتى بدت وقفاتها وسكناتها ناطقة لا صامتة، وكأنها تدع القارئ يتملى الموقف، ويفكر وسط زخم من الصور التي تنم عن الانفعالات المتكررة الأليمة.
ولنقرأ للأديبة أيضاً هذا المقطع من قصة " أحزان ليل "، وفيه فواصل زمنية متعددة لها إيحاءاتها ودلالاتها على شدة الخوف والذعر الذي أحاط بالناس من جراء القصف المتواصل:
«شيء مخيف.
ماذا تقصد؟
تكلم.
أتقول الحقيقة؟
…………………
لا، لا يمكن أن يحدث هذا.
إنك تلعب بأعصابنا.
لزم الصمت برهة وسرح بعيداً.. ثم تكلم متابعاً حديثه:
ليت الساعة تقوم.
... الساعة؟
نعم الساعة … بل القيامة» (104) .
فالفواصل المنقطة هنا تدل على الزمن الذي استغرقه المتحدث وهو صامت لا يجيب، وهذا الصمت شارك في الدلالة التعبيرية، إذ أشعرنا بأن الخفير غير قادر على التعبير عن هول الموقف، ولهذا كان يسكت، فلما تكلم قال " ليت القيامة قامت" مشيراً بذلك إلى شدة ذعره من العدو.
والأديبة لجأت في معظم قصص رياح الشمال إلى اللغة الرمزية، ولكن الرمز فيها واضح، لاسريالي (105) إذ لا غموص فيه، بل هو يستشف من السياق العام بما فيه من إيحاءات، فيكون أبلغ في الدلالة التعبيرية.
قالت في قصتها " انكسارات روح " وهي كما ذكرت لي " تتحدث عن حرب البوسنة والهرسك ويمكن أن نعدها تتكلم عن كل حرب ضد الإسلام والمسلمين" (106) :
«إذا كانوا قد سلبوك حقك في الدفاع عن كرامتك فما عليك إلا الصمود.
لكنهم يصادرون أحلامي.. يلوثون مساحاتي.(12/160)
المطر لا يزال ينهمر، سيغسل بواباتك المخلوعة، وزجاج نوافذك المهشمة.. وسيطوي الليل رذاذ أنفاسهم القذرة.. وعندها ستمدين يدك نحو القمر مصافحة، ويمتد الفرح ليغمر مساحة روحك وأنت تودعين كآبتك الجنائزية» (107) .
فالقاصة هنا استخدمت الرمز للتلويح بالانتهاكات التي تعرضت لها المرأة البوسنية من الصرب المجرمين، ونقلت لنا الحالة الوجدانية التي كانت عليها البطلة بهذه الألفاظ الموحية بالثورة التي كانت لرد الكرامة، ولهذا جاءت الأديبة بما ينم عن هذه المعاني من مثل " مصادرة الأحلام، تلويث المساحات، البوابة المخلوعة، زجاج النوافذ المهشمة، الأنفاس القذرة، الكآبة الجنائزية، المطر ينهمر ليغسل ... الليل سيطوي، القمر سيصافح، الفرحة تغمر مساحة الروح "
وهذه الألفاظ كلها جاءت من استدعاء القاصة للمعاني الإيحائية، فالكلمة تستدعي أخرى، فسلب الحق يدعو إلى الدفاع عن الكرامة، وهذا يؤدي إلى الصمود، ويذكر بانتهاكات العدو، ومصادرة الأحلام، وتلويث المساحات … وهذا التلويث وتلك الجرائم تستدعي المطر ليغسلها، والعدو يهشم، وهذا يعني الكآبة الجنائزية … وهناك تفاؤل.. والتفاؤل يذكر بالقمر، والفرح، والمصافحة ...
لكأن الأديبة كرست رصيدها اللغوي والصور التي التقطتها مخيلتها من أجهزة الإعلام، واحتفظت بها ذاكرتها لتقدم بهما حكاية للمآسي مؤثرة في الأعماق بألفاظها التي يجمع بينها علاقات التضاد حيناً، والتدرج أخرى (108) .
فمن التضاد قولها: السلب والصمود، والفرح والكآبة، والتلويث والغسل، ومن التدرج: سلبوك حقك ... يصادرون أحلامي، يلوثون مساحاتي، المطر ينهمر، الزجاج يهشم، الأنفاس القذرة، الكآبة الجنائزية.(12/161)
فالجرائم بدأت بسلب الحقوق، ومصادرة الأحلام، ثم تلويث المساحة، فكان المطر وهذا أدى إلى ازدياد التهشيم والتحطيم والقذارة، ثم كانت الكآبة الجنائزية، وهذا التدرج أوحى بكثرة الجرائم التي صبت على الشعب المسلم في البوسنة وأمثالها صباً..
إن الكلمات كما تقول د. نور الهدى لوشن " تظل حاملة للمعاني المتعارف عليها إلى أن يأتي الأديب المقتدر الذي يفجر طاقات معانيها لتخرج إلى السياقات المختلفة لكي تتنفس الكلمات وتنبص بالحياة (109) " وهنا برز دور شيخة الناخي وإبداعها في تفجير طاقات كلماتها التي أحكمتها في تراكيب دقيقة وفي سياقات متعددة.. لتعبر عما تريده وعما أحست به تجاه الشعب البوسني المنكوب، بل تجاه كل شعب مسلم في كل أرض يشهد أبناؤها بالله الواحد وبدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان هذا الأسلوب الإيحائي التصويري عنصراً من عناصر التشويق في القصة، عوض عن فقدان الحبكة، ودل على حسن اختيار الأديبة لألفاظها للدلالة على المعاني التي تريدها بعمق وأصالة.
وأسلوب الأديبة في بعض قصصها في مجموعتها رياح الشمال قد ارتقى حتى شابه الشعر في إيقاعه الموسيقي الجميل وإيقاع الشعر وشعور أحاسيس.
هاهي ذي تعبر عن حالة المغترب النفسية وهو يناجي الطير ويطلب منه أن يحمل له رسالة إلى أهله فتقول على لسانه:(12/162)
" لا يأتيني ردك بالرفض، فقد اكتوت نفسي بناره دهراً، غرس الخنجر بداخلي ليقطع أحشائي المشتعلة بحرارة الانتظار، تسافر روحي إليك، أطير محلقاً في خيال الأوهام والآهات، أسكب الدمع أنهاراً تغسل نفسي الهائمة، أتدثر بأغطية الوحشة القاتلة تطاردني بمخالبها اللعينة تهز أوتار قلبي، تلقي بي فوق أرصفة المحطات وزوايا الطرق، تتزاحم الأجساد الملهوفة تخترق الأرض بقوة، تعبر فوق جثتي بأحذية قذرة، أتنفس الهواء المتعفن بالأتربة المتطايرة، أبذل المحاولات في النهوض، أتعثر في خطاي، أرتشف قطرة من عبراتي المنهمرة فوق وجهي المطارد، أقضم كسرة خبز أخمد بها هياج أمعائي الخاوية (110) .
في هذا المقطع أرى إيقاعاً صوتياً بين مقدمات جملها، من مثل:
أتنفس الهواء.
أتعثر في خطاي.
أرتشف قطرة.
أقضم كسرة.
وهذه خاصية من خصائص جملها في المجموعة الثانية، وقد أضفى هذا الإيقاع الصوتي على النص نغمة موسيقية عذبة، ونبرة حلوة، إضافة إلى الشحنات العاطفية المستمدة من العبارات المصورة الموحية، وقد أدى هذا إلى مشاركة المغترب في أحاسيسه؛ والأدب الجميل ما هز المشاعر.(12/163)
ولغة الأديبة ولا سيما في مجموعتها الثانية مصورة بعمق ما تريد أن تعبر عنه، فكثرة الوافدين، ومادية البلد في حضارتها الجديدة عبرت عنهما بعبارة " الأجساد الملهوفة تخترق الأرض بقوة "، والفقر الشديد صورته ب " هياج أمعائي الخاوية "، وأي كلمة أبلغ من " هياج " للدلالة على آلام الجوع، والسيارة " أشبعت " بلوازم السفر للدلالة على الامتلاء الشديد، و " البحر هائج يلتهم الرمال " فكأنه وحش أمام فريسته، و " الصباح يزحف مرسلاً وميضه "،فأشعته الوادعة تشبه الوميض في لغة الأديبة، ولسياط الجلاد لهيب، وهي كوحش جائع، والأجساد لا تقوى على الصمود أمام لهيب السياط المسعورة، وحروف الكلمات " عباءة أتدثربها في لياّلي المرعبة " والخوف سكن في أعماقها كجان يرعبها، والثورة عبث جنوني ...
وهذا مجاز ذو علاقة فاعلية يقوم بعمل التجريد، فيحول الخوف من الإنسان المادي إلى الأسئلة المعنوية للدلالة على شدة الذعر وقد بدا في قولها: " لزم الجميع الصمت، والصغار يمطرونهم بوابل من أسئلتهم الخائفة ".
وهذه صور اشتركت فيها حاستا السمع والبصر معاً للدلالة على إحساس البطل بالضيق جاءت في قولها: " والخبر يئز في أذنيه، كل ما حوله بدا موحشاً كئيباً ".
ولننظر كيف عبرت عن جنود الاحتلال: " كانوا هنا بأحذيتهم السميكة " وكيف عبرت عن التغرب القسري: " لماذا لفظتني مطروداً " وما أكثر المشردين الذين لفظتهم أوطانهم، ولذلك نراها تقول: " الأرض حبلى بالمطرودين أمثالك ".
ولم تخل مجموعة الرحيل وهي أول مجموعة كتبتها من خاصية التصوير أيضاً، فهي حين تشير إلى إحساس المرأة بالمرارة تقول " انطويت على نفسي " وإلى الثورة النفسية في الأعماق: " الاستغاثة المتشنجة "، وإلى الركض وراء خطب لا يلقى لها بالاً: " تلهثين خلف سراب الوهم ".(12/164)
ولكل كاتب أسلوبه، والأسلوب هو الرجل كما يقولون، وهو يبرز في آدابه كثيراً كان أم قليلاً، ومن خلال استعراضي لهذه الصور أرى أن الأديبة تمكنت بأسلوبها هذا من التعبير عن الأحاسيس بما تعجز عنه اللغة الحقيقية، والمجاز من عوامل قوة لغتنا، وهو في بعده عن الحقيقة أدى وظيفته الجمالية المرجوة منه بشكل أقوى وأعمق.
ومن ميزات أسلوب الأديبة أيضاً أنها تخفي ما يعود إليه الضمير ليفهم من سياق الكلام، والتعمية عامة من نهجها اللغوي والمعنوي، وقد بدت في خواتيم القصص كما بدت في الأسلوب ولكن هذه التعمية أساءت إلى فهم الفكرة أحياناً، وأحاجت القارئ أن ينتظر طويلاً ليعرف من المتكلم، ولا سيما إن كانت في أول القصة، كما في " حزمة الألوان ورياح الشمال " (111) .
ويكثر في أسلوبها الألفاظ الرومانسية التي تدل على التشاؤم والمعاناة، وقد بدت هذه الخاصية حتى في عناوين القصص مثل: الرحيل، الحصار، الضياع، انكسارات روح، إعصار ... " ومن عباراتها " الحفر النارية، هذيان الركض، الممارسات الجنونية، الجدار الأخرس ... ".
وقلما نرى الأديبة متفائلة في قصصها، وكأن الجو السياسي للعالمين العربي والإسلامي والواقع الاجتماعي المتردي، والتغيرات الحضارية وما آلت إليه من رفض القيم قد انعكس في قصصها.
كما بدا في أسلوبها تأثر بالقرآن الكريم، فقد اقتبست منه قولها " وقلبها يكاد يتميز من الغيظ " (112) و " ادخلوا مساكنكم قبل أن تطأكم أقدامهم " (113) ، و " تلطف حتى لا يشعر بك أحد " (114) ، كما تأثرت بالأسلوب المترجم مضموناً وشكلاً فقد تسربت إلى لغتها مفردات من القاموس الأجنبي مثل: " النشيد الجنائزي "، " وروح مصلوبة فوق جدار الألم " و " لتصلب في فضاءات … "، و " سيمفونية " ومن أساليب الترجمة قولها: " كم هي المرات "، والأولى أن تقول: كم مرةٍ، وقولها: " هل مازلْتِ في انتظار المكالمة؟ " والأجود أمازلت ….؟(12/165)
والنقد القصصي يتجنب الإشارة إلى الهنات اللغوية أو النحوية، ولكني على تقديري للمؤلفة وأسلوبها – لا أرى مندوحة من ذلك، ومن ذلك قولها: " فأجهشت بالبكاء " بزيادة البكاء لأن الفعل الأول يدل على البكاء، وفي قولها: " بالأمس القريب جداً " وأمس المعرفة بأل تدل على يوم ما مضى، أما أمسِ المبنية على الكسر فتدل على الزمن القريب قبل يومين " أو يوم واحد، والأولى كذلك أن يأتي بعد إذا الفجائية اسم مرفوع لا مجرور ولكن الأديبة قالت " فإذا بالقلوب تخفق "، وحين الظرفية تسبق بحرف الجر على، والكاتبة قالت: " في حين تتسلق يداك …، وهي تستخدم كلمة الفشل بمعنى الإخفاق، وتعرف كلمة بعض بأل التعريف، وهذه كلها من الأخطاء الشائعة (115) .
ب - الوصف:
لا يصاغ الوصف في القصة الفنية لمجرد الوصف، ولكن ليخدم الحدث أو الشخصية، ولهذا يعد جزءاً لا يتجزأ من القصة (116) ، وكذلك كان في قصص الناخي، فالفتاة وأمها في قصة " حطام المخاوف " تتلقيان نبأ الطبيب المعالج للأم، فتغرق الفتاة في بحر من ذهول مؤلم، وتغدو الأم سلبية الإرادة، غارقة في عذابها؛ لنقرأ لها قولها:
" كان ذلك اليوم الحزين حين أدخلت المستشفى لتتلقى علاجها الأخير، وهي عنه راغبة، وقهرني التخاذل، وغرقت في ذهول سكنه الوجع حين نقل إلي الخبر، تدفق في داخلي لحظتها شلال الأحزان ليجرف معه بقايا أمل يسكن الأعماق، ثار في رأسي طوفان الأفكار المتصارعة، وأنا أنقل إليها القرار المفاجئ لمعالجها، كانت نظراتها تنوء بحزن مقهور بذاك الخبر التفتت إلي في إعياء مشوب بالدهشة وصرخة نفس مكتومة:
هل انتهت محاولاته؟ لم يبق أمامه شيء؟ … أليس كذلك؟ ! .
أغمضت عيني بتعب مرهق، وأحسست في الساعة بالذات أنها أضحت مسلوبة الإرادة، وأنها تغرق في عذابها، وأن الخلاص من عذابها أخذ يبتعد عنها " (117) .(12/166)
فالأديبة هنا عبرت عن إحساسها بالخبر المؤلم في قولها " قهرني التخاذل – غرقت في ذهول سكنه الوجع، تدفق شلال الأحزان، ثار في رأسي طوفان الأفكار المتصارعة ... " وهذا كله يشير إلى المعاناة النفسية من إحساسها بدنو أجل أمها.
أما الأم فقد تكلمت في إعياء، ودهشة، وصرخة مكتومة، وقالت في يأس شديد:
هل انتهت محاولاته.
ثم استخدمت القاصة أسلوب التقرير " لم يبق أمامه شيء " ثم جاءت بالاستفهام فكأنها تشير به إلى عدم تصديق الأم عجز الأطباء مشيرة بذلك إلى أثر القول.
ومن الوصف ما طور الحوادث فالزوج المخمور اللاهي في قصة " حصار " ستنتهي حياته نهاية مؤلمة بحادث سيارة، وستصاب قرينته بالدهشة لأنها كانت تحس أن حياتها لم تبدأ بعد بسبب انشغاله عنها بصحبه، تقول الناخي في القصة مصورة شقاء المرأة الذي كان سبباً في إحساسها بالمرارة:
" كل شيء كان في البيت ساكناً، قبعت فوق الكرسي في انتظار زوجها، ولم تلبث أن شعرت بوحدة مخيفة، وتقاطرت عليها ضروب الهواجس، وامتزجت بتفكيرها، وتساءلت وهي تجول ببصرها في أرجاء البيت، وتمتمت: الحل، ألا يوجد حل لهذه الحالة؟ لهذه الحياة؟ لقد أكدوا لي بان الزواج هو الحل السعيد للفتاة، والحياة الزوجية نهاية المطاف، وهي أمتع اللحظات، بحق السماء هل هي كذلك؟ لست أدري.. وألقت بجسدها الواهن الذي أضناه السهر وحطمه الانتظار فوق كرسي في صدر الصالة، وبين لحظة وأخرى كانت عقارب الساعة تمزق السكون القاتل " (118) .
ويبدو جمال الوصف أيضاً عن طريق المفارقة بين أمرين، فالفتاة في " رحلة الضياع " تجبر على الزواج من الأشيب العجوز، ولهذا لم تحس بسعادة الزفاف على الرغم من مظاهر البهجة المحيطة بها. وهاهي الأديبة تصور لنا هذه المفارقة لتشير إلى ضيق الفتاة في ليلة زفافها:
" ولم أشعر إلا وبيد أخرى تسقط فوق كتفي بقوة لتقول:(12/167)
- هيا سارعي، جهزي نفسك، أنسيت أن اليوم عرسك، لا تتأخري
كانت يد زوجة أبي، تراجعت إلى الوراء، رحت أذرع أرض غرفتي في حيرة وقلق واضطراب، أجل، إن مصير حياتي تقرر، وليس هناك من مفر أو خلاص، كل شيء حولي.. الصخب.. الهزج.. الزغاريد تفرض علي الانقياد.
قمت أجر قدميّ جراً فكأنما أساق إلى موت محقق لأكون كما يريدونني عروساً تلبس ثوب زفاف أبيض.
كنت أشعر لحظتها بمدى كذبي على نفسي أولاً وعلى الناس، وأنا أساق لموكب زفافي … جلست وسط جموع كثيرة، ودعوات كثيرة، وزغاريد متتالية.. لم أشعر بما يجري حولي فقد كنت ساهمة كتمثال جامد، ضغطت على نفسي في محاولة يائسة حتى أرد على المهنئين بابتسامة باهتة شاحبة.. وكان الزواج " (119) .
لقد أجادت الأديبة في تصوير المفارقة إذ كان الناس في فرحة غامرة، وهي تبدو في ثوب زفافها لا مبالية … تنقاد للزفاف، وترد على المهنئين بابتسامة باهتة كأنها تمثال جامد … وبذلك عمقت إحساسنا بمأساة الفتاة المكبوتة.
ووسط الأجواء العاطفية المحملة بمشاعر الحزن والأسى كانت الأديبة تغرق أحياناً في الوصف، فتبدو بعض المواقف العادية بسبب وصفها ذات تأثير كبير على القراء، هاهي ذي تخاطب الطير لتعرفه على إحساسها بالوحدة وبالحزن اللذين أمضا قلبها وهي ترافق أمها في بلد العلاج:
" أعرفك أنني مكبلة بالوحدة، وكل ما حولي يتسكع على أرصفة سفر طويل.. مثلك تماماً يا من ضللت الطريق مهاجراً تطارده أشباح عالم غريب.. محاصر بالخواء من سفري المشحون بالألم نسجت من حروف الكلمات عباءة أتدثّر بها في لياليّ المرعبة.. تحاصرني وحوش الخوف شاهرة سلاحها، تحركه في كل الاتجاهات، ليت الليل الخائف ينام على وسادة من ريش ناعم، وغطاء دافئ، وأحلام وردية؛ يمر الفجر على العيون المسهدة فإذا هي غفوة من نوم خاطف، حتى امتدت أشعة من ضوء النهار تعود روحك الهائمة ويبدأ همسنا معاً، وليس لنا غيره (120) .(12/168)
فإحساس الأديبة بالخوف على حياة أمها جعلها تشعر بالقلق والوحشة، وقد عبرت عن هذا بمثل: الوحدة، الشبح، الليالي المرعبة، الليل الخائف، الغفوة الخاطفة.. ومع أن الفكرة بسيطة يسرة إلا أن خيالها المبدع قد صبغها بألوان من الحزن نمّ عن حالتها النفسية وجعلنا نشاركها في أحزانها ومصابها.
ومن الأوصاف ما كان واقعياً، ولا سيما في مجموعتها الأولى الرحيل فالبحر في قصتها " الصمت الصاخب ": " يرسل إشاراته التحذيرية واحدة تلو الأخرى، شاهراً أسلحته أمواجاً صاخبة تنطلق مسرعة نحونا " والفتاة تعبر عن رؤيتها فتقول: " لا بد من اللحاق بوالدي.. الدقائق تمر من عمر الساعة، ودقات قلبي تزداد سرعة واضطراباً، تتلاحق أنفاسي، ومن حولي تكاثفت المخاوف من هول هذا الاتساع الموحش " (121) .
فالبحر هنا هائج يحذر الناس منه، وكأن مدّه صار إنذاراً أدى إلى خوف البطلة وإحساسها بأن الزمن يمر بسرعة على غياب أبيها ولا بد من اللحاق به لإنقاذه.. وهذا كله يحدث في بيئة صحراوية وبحرية معاً، ولكن الذي لا أراه واقعياً هو أن تذهب الفتاة في هذه العاصفة للبحث عن أبيها.
وهناك وصف آخر لواقع مادي ينم عن التغيرات الحضارية بدا في قصة " هواجس " فأبواق السيارات ترتفع، والمحلات صار لها واجهات زجاجية، ووجوه الناس ملونة وحركة المرور مختنقة، وأشجار النخيل وسط الشوارع العريضة تمتد بقامتها الطويلة (122) ، وهذا كله يشير إلى التطور الحضاري المادي لمجتمع الإمارات يقابله ضيق نفسي لذويها بسبب تأثير التركيبية السكانية على أوضاعها.(12/169)
أما وصف الطبيعة فقد وظفته القاصة ليخدم الفكرة، فالشمس في قصتها " القرار الأخير "، " ترسل أشعتها الناعسة ترسم خيوطاً ذهبية، وتتزاحم في الأفق ألوان من الشفق الأحمر الذي يبعث في النفس راحة وطمأنينة، وتنساب في حقه لتملأ المكان وتلاعب أمواجها رمال الشاطئ في فرح " وهذا يناسب الغضبة الحمراء التي كان عليها جاسم من مطلب قرينته الثانية، ثم الطمأنينة التي أحس بها حين اتخذ قراره الأخير إزاء مريم إن أصرت على موقفها من زوجه الأولى.
ج - الحوار:
وهو جزء لا يتجزأ من نسيج القصة، وقد عمدت الأديبة إليه لتعرض به فكرة أو حدثاً أو تنميه وتطوره، أو ترسم به شخصية، وكان وسيلة لاستهلال بعض القصص كما في" للجدران آذان " إذ طالعتنا القصة بحوار جرى بين السجان وسجينه عرفنا من خلاله أن السجين كان بريئاً، وأنه سيفرج عنه (123) .
وقد تتخذّ " الناخي " الحوار لتنمية الحدث، ففي قصة " رماد " عرفنا إصابة الرجل، وتذمر الأسرة من الأوضاع الراهنة، واحتلال الجنود للمنازل، والانفجار الهائل عن طريقه (124) وفي " الصمت الصاخب " أدركنا المأزق الحرج الذي كانت فيه الأسرة وهي في طريق سفرها إذ تحركت شفتا السائق متمتماً بكلام غير مسموع، غير أن الوالد فاجأه بسؤال غير منتظر:
" ماذا تقول؟
أشعر بقلق.
لماذا؟
البحر.
ما به.
هو في طريقه إلينا.
ماذا؟
انظر هناك.. أتراه، سيداهمنا.. ما العمل؟
فلنتوقف وننتظر.
وانتابته رجفة فبدأ يخفف من اندفاع السيارة.
أوقف السيارة.
وخيمت لحظة صمت.
لقد صدق حدسي.
شعوري الداخلي لا يخطئ " (125) .
فهذا الحوار الذي داربين السائق ورب الأسرة أطلعنا على حدث جديد وهو أن تيار الموج بدأ يهجم على الطريق، وأن الخطر بدأ يحيق بالمسافرين، وقد أدى هذا إلى النهاية المفجعة التي آلت إليها هذه الرحلة البرية، وبذلك يكون للحوار دوره في تطوير الحدث ودفعه نحو الخاتمة.(12/170)
وكان بعضه يكشف عن التغيير الاجتماعي في الإمارات كما في قصة " هواجس " إذ عرفنا من الحديث الذي داربين خلفان وأخيه رغبة الصغير في رؤيا الأفلام المكسيكية وإن كان لا يدرك خطرها لصغر سنه، وتغير وجبات الطعام اليومية بالأكل في المطاعم..
ولعل من أهم أدوار الحوار عرض نفسيات الشخصيات، ففي " أحزان ليل " لا حظنا الخوف الذي انتابها من تأخر عودة الخفير، ولهذا قالت:
" تأخر كثيراً.
سقطنا في الفخ.
فخ.
أجاب وهو يرتجف:
شيء مخيف.
ماذا تقصد؟
تكلم.
أتقول الحقيقة.
……………….
ماذا تقول؟
……………….
لا، لا يمكن أن يحدث هذا.
إنك تلعب بأعصابنا ".
فالحوار الذي دار كشف لنا ذعر الناس من صوت الإنذار، ثم من تأخر الخفير.. فشارك بذلك في إحساسنا بالخطر الذي تتعرض له البلاد، وفي تنمية الوعي ضد العدوان الخارجي.
ولكن بعض القصص خلت من الحوار كقصة " القرار الأخير " إذ جاءت بلسان السرد بلهجة الغائب، وقل حوار بعضها الآخر " كأنامل على الأسلاك ".
ويمكنني أن أقول إن الأديبة في مجموعتها الثانية كانت أقدر على استخدام الحوار أداة فنية تخدم بناء القصة، وهذا يدل على تطور في فنية القصة عند شيخة الناخي.
د - السرد والتقرير:
اتكأت الأديبة على السرد في معظم قصص مجموعتها الأولى " الرحيل " وقل في " رياح الشمال " ولكن اللغة الشاعرية فيها جعلته مقبولاً، وقد عرضت به حوادثها في اثنتي عشرة قصة، وجاء معه بعض التقرير ليحكي رأي القاصة في أمر ما من أمور مجتمعها، وذلك على نحو قولها في " الرحيل ":
" أي حياة هذه التي ستحياها؟ فمجتمعها قاس وعنيد لا يقيم وزناً للفتاة، إذاً فهي لا تملك من أمر حياتها سوى الأحلام والأوهام " (126) ، وكقولها أيضاً: " فهذا الوالد من ذاك المجتمع المتكالب على المادة، وهو يريد لابنته زوجاً ثرياً لا شاباً فقيراً كسعيد" (127) .(12/171)
وهذا التقرير من عيوب القصة، ذلك لأن الكاتب لا يتدخل تدخلاً مباشراً بالشرح أو بالتعليق، وإنما يوجه الحوادث لتفهم الفكرة من خلالها، إلا إن قصد الغوص إلى أعماق الشخصية، ولو أوردت القاصة الفكرة على لسان شخصية ما لكانت أفضل وأجود.
الخاتمة
وأخيراً..
فقد وجد الأدباء، ومنهم شيخة الناخي، أن القصة القصيرة مجال خصب لعرض الأفكار التي يرغبون، سياسية كانت أم اجتماعية، فاتخذوها مطية لتصوير معاناة المرأة خاصة، من زوج أهمل الأسرة والولد وشغل بلهوه مع صحبه، أو أب انصاع لزوجه الثانية..، في مجتمع لا يقدرها حق قدرها، وقد عرضت الأديبة هذه المآسي بريشة المصلحة الاجتماعية لتنير للأجيال الدرب القويم بأسلوب مشوق جذاب وهذه مهمة الأديب في الحياة، ولا سيما ممن وعي الإسلام حق وعي.
وقد ربأت القاصة عن أن تجعل المرأة من سقط المتاع، واتخذت من الأسلوب العف، واللفظ المهذب نهجها في قصصها، فأرتنا المرأة الإماراتية على حقيقتها، لا كما فعلت صاحبتها أمينة عبد الله وسلمى سيف مطر، فنبهت بذلك الأجيال إلى الأخطاء والهفوات في طهر ونقاء.. وحققت بذلك ما يهفو إليه الجيل من قصص هادف، يرتقي بالبلاد حضارياً واجتماعياً وثقافياً، وتلك من أهم عوامل الصدق الفني (128) ، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا اللون الأدبي الجديد.
ولا ننسى الدور الهام الذي كان لأدبها في إغناء المكتبة الخليجية بآداب رفيعة في مضمونها وشكلها – إجمالاً – وإغناء المكتبة العربية بل والإنسانية عامة. ...
الحواشي والتعليقات(12/172)
(1) ينظر: بوشعير: الرشيد: الشعر العربي الحديث في منطقة الخليج، ط 1418هـ / 1997م، دار الفكر المعاصر بيروت لبنان، دار الفكر دمشق سوريا. ومجلة الرافد عدد خاص بالقصة القصيرة (ملف القصة القصيرة شهادات ورؤى) الشارقة ص 22، وفيه يذكر أن نسبة القاصات في المجموعة القصصية " كلنا 00كلنا 00كلنا نحب البحر " كانت 35 % من مجموع القصاص المشاركين.
(2) ينظر: ملكاوي: ثابت: الرواية والقصة القصيرة في الإمارات نشأة وتطور منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة ص 27.
(3) ينظر عبد الملك: بدر: القصة القصيرة والصوت النسائي في دولة الإمارات العربية المتحدة 1995م منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – الشارقة –ص 5.
(4) ينظر: مريدن: عزيزة: القصة الشعرية الحديثة في العصر الحديث 1404هـ/1998م دار الفكر دمشق سوريا.
(5) ... مجلة الرافد عدد خاص بالقصة القصيرة /150
(6) بوشعير: الرشيد: مدخل إلى القصة القصيرة الإماراتية 1998 ن ويرى المؤلف أن هذا هو سبب حرقها ومنعها لا هجومه على الإنكليز كما ورد في كتاب ثابت الملكاوي الرواية والقصة القصيرة في الإمارات ص 118 ن لأن الاستعمار كان قد خرج من الإمارات وأبيحت إدانته.
ينظر مجلة الرافد ع خاص ص 19
ينظر: عبد الملك: بدر: القصة القصيرة والصوت النسائي/ 30-37.
نفسه / 40-58(12/173)
بوشعير: الرشيد: مدخل إلى القصة القصيرة ص/8، وفيه أن عبد الله صقر نشر قصته "قلوب لاترحم" في نادي النصر الرياضي في أواخر الستينات، ولكنه لم ينشر هذه القصة في مجموعته الأولى التي صدرت في 1975م، وهذا يعني أنها كانت أشبه بمقالة قصصية لم يعترف بها بعد، أما قصصه في مجموعته الأولى (الخشبة) فقد أرخت بين (1974-1975) على حين كتبت شيخة الناخي أولى قصصها 1970 كما ذكر في مجموعة (كلنا 00كلنا000كلنا نحب البحر) التي صدرت عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، كما أنها شاركت بها في المسابقة الأدبية التي نظمتها وزارة الشباب بالإمارات 1972م، وفازت بالجائزة الأولى فيها.
ينظر رشدي: رشاد: فن القصة القصيرة 1982م دار العودة بيروت ط2: ويعرف من خلال عرضه لعناصر القصة في ص / 29،50،82،97.
الناخي: شيخة: الرحيل مجموعة قصصية 1992م، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ص 11.
تحار الأديبة بين خاتمتين للقصة، فقد ظهرت في طبعتها الأولى 1970م تتحدث عن انتحار البطلة تحت عجلات سيارة مسرعة، وفي طبعة 1992م أنهتها بالدهشة فحسب، ينظر لذلك في: بوشعير: الرشيد: مدخل إلى القصة القصيرة الإماراتية /19-20.
الناخي: شيخة: من المجموعة القصصية الرحيل / 51
نفسه / 19
نفسه / 43
نفسه / 25
نفسه / 59
الناخي: شيخة: من المجموعة القصصية رياح الشمال 1992 منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات /75
بوشعير: الرشيد: مدخل إلى القصة القصيرة الإماراتية /15، وقد عايشت هذه الظروف السياسية التي مرت على البلاد، واطلعت على ما كتب في الصحف من أخطار ما تطلبه الأمم المتحدة من تجنيس، وعلى وقفة الإماراتيين الحميدة والقوية أمام هذا الخطر الداهم على بلادهم.
الناخي: شيخة: رياح الشمال / 83
نفسه / 84
نفسه / 78
نفسه / 77
نفسه / 67
نفسه / 53
نفسه / 65
في الحديث الذي أجريته معها في 31/10/2000م(12/174)
كما رأيتها من خلال الحديث المذكور معها، أو من خلال قرائن تشير إلى ذلك.
الناخي: رياح الشمال /37
نفسه / 45
إذ لم تصرح الأديبة بذلك على عادتها في تعمية العدو وزمانه ومكانه لتكون دلالة القصة عامة تصلح لكل زمان ومكان.
رياح الشمال /27
نفسه /87
نفسه /63
رشدي: رشاد: فن القصة القصيرة / 15 وما بعدها
نفسه / 15 وما بعدها
نفسه / 15
الأدب الإسلامي يهتم بقضايا الأمة ويواجه مشكلاتها بطريقة جادة يلتزم فيها نظرة الإسلام إلى الحياة، ويعرض بالكلمة الطيبة المعبرة والمؤثرة ما يراه ويوجه نحو ما يجب أن يكون برؤية إسلامية أيضا: ينظر لذلك: د. قصاب: وليد: في الأدب الإسلامي 1419هـ 1988م دار القلم دبي ص/ 91، و: د. القاعود: حلمي محمد: الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني 1996 دار البشير عمان الأردن ص / 131، والقبسي: عودة الله منيع: تجارب في النقد الأدبي التطبيقي 1405هـ /1985م دار البشير عمان الأردن ص 94
الناخي: مجموعة الرحيل /9
نفسه / 59
ينظر لذلك الصفحات الآتية من: الرحيل9،33،95، ومن رياح الشمال 7 و 51
رياح الشمال / 25 ويشبهها في ذلك قصتا أحزان ليل، ولا تكن جلادا في مجموعة رياح الشمال ص 17و43
و (45) الرحيل / 19و53
(46) ينظر لذلك: نجم: محمد يوسف: 1996 دار صادر بيروت، ودار الشروق عمان – الأردن / 50
(47) الرحيل / 14-15 ومثلها في قصة " وكان ذلك اليوم " في المرجع نفسه /35
(48) رياح الشمال / 14-15
(49) هي حسب تسلسل صفحات ورودها في الرحيل / 9 و 41 ورياح الشمال / 25
(50) الرحيل 75
(51) رياح الشمال / 17
(52) الرحيل/49
(53) نفسه /65
(54) رياح الشمال / 28-29، وينظر لمثلها في المجموعة نفسها في قصتي حطام المخاوف / 51، ولا تكن جلادا / 43، وفي: أنامل على الأسلاك في مجموعة الرحيل / 27.
(55) الرحيل / 41
(56) نفسه / 65
(57) رياح الشمال / 73
(58) نفسه / 45
(59) الرحيل / 59(12/175)
(60) نفسه / 31، وينظر لمثلها في المجموعة نفسها في قصتي " وكان ذلك اليوم " /33، و" القرار الأخير " ص 59، وفي مجموعة رياح الشمال في قصتي إعصار / 25، وأحزان ليل ص 17
(61) كما في قصص مجموعتها الرحيل: أنامل على الأسلاك / 25، وكان ذلك اليوم /33 والقرار الأخير ص 59
(62) من مجموعة رياح الشمال / 16
(63) نفسه/50
(64) نفسه / 84
(65) يعرف د. محمد يوسف نجم العنصر السائد في القصة بأنه الأثر الذي تخلفه في نفوس القراء، وينتج عن سيادة الحدث أو الشخصبة أو البيئة أو الفكرة، ينظر لذلك فن القصة /13
(66) ينظر أمين: أحمد: النقد الأدبي جزءان 1972منشر مكتبة النهضة المصرية ط4/ 123
(67) الرحيل وبالتتابع /9،27،25،43
(68) رياح الشمال / 39
(69) نفسه 46-47
(70) جريدة الخليج، الإمارات العربية المتحدة ع 7695 تاريخ 13/7/2000م
(71) ينظر له: الحوراني: رامز: نشوء النقد الأدبي وتطوره، جزءان 1996م جامعة سبها الإدارة العامة للمكتبات الدار العربية للنشر والتوزيع القاهرة مصر ج2/83
(72) نفسه 2/78
(73) نفسه / 85
(74) رياح الشمال / 59
(75) الرحيل / 25
(76) رياح الشمال / 25
(77) الرحيل/17
(78) نفسه / 49
(79) نفسه/25
(80) الشخصية المستديرة هي التي تتغير سلوكياتها وتدهشنا في أعمالها، وتستطيع أن توقظ فينا المشاعر، ينظر لذلك في فورستر: أركان القصة /90
(81) كما في مجموعة الرحيل: قصة حصار / 49
(82) مجموعة الرحيل / 17
(83) نفسه: قصة رحلة الضياع / 49
(84) نفسه / 9
(85) نفسه /41
(86) من مجموعة رياح الشمال / 43
(87) الرحيل/9
(88) نفسه/17
(89) نفسه 49
(90) نفسه/ 59
(91) نفسه / 41
(92) نفسه /17
(93) رياح الشمال /35
(94) نفسه/43
(95) نفسه 61
(96) نفسه/ 25
(97) رشدي: رشاد: فن القصة القصيرة / 100-103
(98) هلال: محمد غنيمي: النقد الأدبي الحديث 1987 بيروت / 614-627
(99) مجموعة الرحيل /33
(100) نفسه / 77(12/176)
(101) رياح الشمال / 73
(102) نفسه / 27-28
(103) الحروف الانفجارية هي (ب-ت-د-ط- ض- ق- ك) ينظر لذلك:د. نور الهدى لوشن: علم الدلالة دراسة وتطبيق 1995م، منشورات جامعة قار يونس – بنغازي- ليبيا / 73و76، ومن الحروف الجزلة: الجيم والميم.
(104) رياح الشمال /21-22
(105) ينظر إلى هذا الرمز في كتاب فضل: صلاح: نظرية البنائية في النقد الأدبي 1419هـ1998م، دالا الشروق، القاهرة ص 254
(106) في حديثي معها في 31/10/2000م
(107) رياح الشمال / 65
(108) دلالات الألفاظ لها علاقات مع بعضها بعضا منها علاقات التضاد والتماثل والترادف والتنافر و000: ينظر لذلك في: د. لوشن: نور الهدى علم الدلالة / 117-119م
(109) علم الدلالة 101
(110) رياح الشمال / 45-46
(111) نفسه/ 67و85
(112) نفسه / 22 وهو مقتبس من قوله تعالى (تكاد تميز من الغيظ) : (تبارك /8)
(113) نفسه / 19 " " " " " (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده: (النمل/ 18)
(114) نفسه / 20 وهو مقتبس من قوله تعالى:" وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " (الكهف / 19)
(115) ينظر لصحة هذه المعلومات في ابن منظور: لسان العرب، ومغني اللبيب وجامع الدروس العربية للرافعي /26
(116) رشدي: رشاد: فن القصة القصيرة 115
(117) رياح الشمال /7 5
(118) الرحيل / 44
(119) نفسه 55-56
(120) رياح الشمال / 54
(121) الرحيل / 71
(122) ينظر رياح الشمال / 76-77
(123) نفسه/37
(124) نفسه /7
(125) الرحيل/ 69-70
(126) و (127) نفسه / 12و 15
(128) ينظر: مريدن: عزيزة: القصة القصيرة في العصر الحديث / 19، ولوي كابانس: جان: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ترجمة فهد عكام 1402هـ 1982م دار الفكر دمشق.(12/177)
مؤتمر الأوقاف الأول
في المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فبفضل من الله وتوفيقه ثم برعاية من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام.
افتتح صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة مؤتمر الأوقاف الأول في المملكة العربية السعودية الذي عقد في رحاب جامعة أم القرى بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المدة من الرابع من شهر شعبان 1422هـ وحتى السابع منه.
وقد تضمن حفل الافتتاح كلمة راعي الحفل ألقاها نيابة عنه صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة.
واشتملت على بيان أهمية الوقف عند المسلمين والخدمات الجليلة التي تقوم بها الأوقاف في النهوض بالمجتمعات دينياً ودنيوياً، والترحيب بالمشاركين والدعاء لهم بالتوفيق.
وتمت ناقشة البحوث المقدمة ضمن المحاور الآتية:
المحور الأول: الوقف ومفهومه وفضله وأنواعه.
المحور الثاني: قضايا الوقف المعاصرة.
المحور الثالث: واقع الوقف عبر التاريخ الإسلامي وجهود الدولة السعودية في الأوقاف ورعايتها.
المحور الرابع: نماذج وتطبيقات معاصرة في مجال الوقف.
المحور الخامس: تنظيم أعمال الوقف وتنمية موارده.
المحور السادس: الإعلام والوقف.
المحور السابع: أثر الوقف في تنمية المجتمع.
المحور الثامن: الوقف والدعوة إلى الله.
وقد شارك في جلسات المؤتمر نخبة من أهل العلم والاختصاص والدراية بأمور الأوقاف ... وقدمت فيه أبحاث وأوراق عمل قيمة تجلي فيها العمق والإفادة وكانت هناك مناقشات ومداخلات مثمرة نتج عن ذلك أراء بناءة ومقترحات سديدة.
وقد انتهى المؤتمر إلى التوصيات الآتية:(12/178)
اعتبار كلمة سمو راعي الحفل وثيقة من وثائق المؤتمر للإفادة مما ورد فيها من توجيهات سديدة.
تبصير الأمة بمشروعية وبيان ما فيه من الثواب العظيم، وحث الموسرين عليه وترغيبهم فيه عبر منابر التوجيه المعتبرة ذات التأثير الواسع كخطب الجمعة ودروس المساجد ووسائل الإعلام المؤثرة كالصحافة الإذاعية والتلفزة إنهاضاً لعزائمهم وبعثاً لنوازع الخير الكامنة في نفوسهم.
التوعية المبكرة بأهمية الوقف عن طريق المناهج الدراسية المناسبة في مراحل التعليم المختلفة.
إصدار مجلة علمية متخصصة تعني بشؤون الأوقاف لإثراء الساحة بقضايا الأوقاف.
تأسيس منظمة دولية إسلامية تعني بشؤؤن الأوقاف الإسلامية في العالم تجمع في عضويتها جميع وزارات الأوقاف والمؤسسات والصناديق الوقفية.
دعوة الشركات والمؤسسات إلى وقف شيء من أموالها في وجوه البر المختلفة.
تبصير الأمة بتنوع وجوه البر التي يمكن الوقف عليها لتشمل كل ما يحتاجه المسلمون في دينهم ودنياهم وعدم التركيز على وجه معين منها دون الوجوه الأخرى التي تمس الحاجة إليها.
حث الجهات ذات العلاقة على إعداد دراسات تتناول أوجه البر المختلفة التي يمكن الوقف عليها وتصنيفها حسب الأهمية.
إعداد نماذج صيغ وقفية تراعى فيها الأحكام الشرعية والأنظمة المرعية.
تشجيع البحث العلمي في الوقف من جميع جوانبه مع الاهتمام بالمسائل المستجدة وما يعرض له من مشكلات وإنشاء موسوعة للأوقاف تتناول كل ما يتعلق بها من أحكام.
استمرار عقد الندوات والمؤتمرات لبحث قضايا الأوقاف المتنوعة مع الاهتمام بالمسائل المستجدة ومنها توحيد الأوقاف المتنوعة في وقف واحد والأوقاف التي جرى تحكيرها وما يتعلق بالوقف على الذرية وغيرها من المسائل.
عدم ترك الأموال الموقوفة مجمدة في المصارف لا تؤدي وظيفة استثمارية مشروعة في المجتمع.(12/179)
التعاون مع المؤسسات والهيئات الاستثمارية والإفادة من إمكاناتها المشروعة في مجال تمويل الأوقاف واستثمارها لزيادة عوائدها.
التأكيد على أن يكون استثمار الأوقاف وتنمية مواردها خاضعاً للقواعد والأحكام الشرعية.
إنشاء مؤسسات وقفية تعني بالدعوة إلى الإسلام ومواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية ودعوة الموسرين للإسهام فيها وتمويلها.
وضع خطة شاملة للحفاظ على الأوقاف الإسلامية في البلاد التي يعيش فيها أقلية مسلمة.
إنشاء أوقاف في البلاد الإسلامية يخصص ريعها لاحتياجات الأقليات الإسلامية من مساجد ومدارس ومستشفيات ونحوها.
العمل على حماية الأوقاف الإسلامية في بلاد غير المسلمين عن طريق المنظمات والهيئات كرابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
حث المسلمين على تخصيص أوقاف ينفق ريعها على المسجد الأقصى.
إبراز أثر الأوقاف عبر التاريخ الإسلامي في نشر العلم والنهوض بالمجتمعات وسد حاجاتها المتنوعة.
إنشاء مركز للدراسات الوقفية وحصر الوثائق المتعلقة بالأوقاف وجمعها من مظانها.
إقامة دورات تدريبية للمعنيين بشؤون الأوقاف من نظار وإداريين للرفع من مستواهم العلمي والإداري.
الإفادة من الصيغ الاستثمارية المعاصرة في مجال استثمار الأوقاف وتنمية مواردها والتي تحقق عائدً أفضل من الوفاء بشرط الواقف.
مخاطبة المؤسسات الإعلامية في الدول العربية والإسلامية من أجل إعداد حملة إعلامية موسعة لدعم سنة الوقف في الدول الإسلامية تستهدف زيادة الوعي العام والمعرفة بأهمية الوقف من الناحية الشرعية والتنموية والاجتماعية.
عقد سلسلة من الدورات التدريبية المتخصصة لعدد من الإعلاميين المسلمين لمزيد تعريفهم بالوقف وأهمية وكيفية توظيف وسائل الإعلام في دعم الوقف.(12/180)
إنشاء مركز إعلامي عبر الإنترنت لتبادل المعلومات عن الوقف في الدول الإسلامية وإمداده بشكل دوري بالإحصاءات والبيانات الدقيقة عن الوقف وجوانبه الشرعية والواقعية ومجالات استثماره في المجتمعات المعنية.
التوجه في الرسائل الإعلامية إلى الفئات الفاعلة في المجتمع من قادة الرأي والمفكرين والعلماء والقضاة والخبراء ورجال الأعمال والمؤسسات الكبرى وتخصيص رسائل لكل فئة على حدة لإقناعهم بضرورة الإسهام في مناقشة أثر الإعلام في دعم الوقف وتفعيله.
إعداد مجموعة من المطبوعات والدوريات بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات التعليمية المتعلقة بالوقف وأهميته.
إنشاء مؤسسة إعلامية وقفية إسلامية ضمن الضوابط الشرعية لدعم الإعلام الإسلامي وتصيره في مرحلة تتعرض فيها الأمة إلى حملات إعلامية تشوه قيمها ومنجزاتها الحضارية.
تشكيل لجنة من جامعة أم القرى ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لمتابعة تفعيل توصيات المؤتمر.
وفي الختام يرفع المشاركون وافر الشكر والامتنان إلى مقام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني وفقهم الله على اهتمامهم بأمور الأوقاف والعناية بها والتوجيه بعقد المؤتمرات والندوات واللقاءات المتعلقة بها ودعمها مادياً ومعنوياً ويوصون برفع برقيات بذلك.
ويقدرون لسمو النائب الثاني رعايته للمؤتمر، ويشكر لسمو أمير منطقة مكة المكرمة افتتاحه للمؤتمر.
ويثمنون لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ولجامعة أم القرى مبادرتهما إلى إقامة هذا المؤتمر ويشكرون اللجان العاملة فيه على حسن الإعداد وجودة التنظيم، وجميل العناية بالمشاركين والحضور. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وقد تناولت الأبحاث وأوراق العمل المحاور السابق ذكرها فكانت على النحو التالي:
محور الوقف ومفهومه وفضله وأنواعه:
الوقف ومفهومه وفضله – د. إبراهيم بن عبد العزيز الغصن.(12/181)
الوقف مفهومه وفضله وشروطه وأنواعه – د. إسماعيل بن إبراهيم البدوي.
الوقف مفهومه وشروطه وأنواعه – د. العياشي الصادق فداد.
الوقف فقهه وأنواعه – د. علي بن محمد يوسف المحمدي.
الوقف مفهومه، شرعيته، وأنواعه وحكمه، وشروطه – د. محمد بن عبد الرحيم سلطان العلماء.
الوقف مفهومه، شرعيته، وأنواعه وحكمه، وشروطه – د. محمود بن أحمد أبو ليل.
شروط الوقف في الإسلام – د. محمد بن نبيل غنايم.
الوقف: مفهومه، فضله، أركانه وشروطه وأنواعه – د. محمود بن عبد الرحمن عبد المنعم.
محور قضايا الوقف المعاصرة:
توحيد الأوقاف المتنوعة في وقف واحد – د. خالد بن علي المشيقح.
من قضايا الأوقاف المعاصرة والآثار المترتبة على الوقف- د. صالح بن حسن المبعوث.
عقد الحكر والآثار المترتبة على زال الأنقاض فيه – أ. صالح بن سليمان الحويس.
توحيد الأوقاف المتنوعة في وقف واحد – د. عبد الله بن محمد نوري.
الوقف وحكم بيعه واستبداله (ورقة عمل) - الشيخ/ فهد بن محمد الداود.
أحكام الأوقاف التي جرى تحكيرها (ورقة عمل) – د. ناصر بن إبراهيم المحيميد.
محور واقع الوقف عبر التاريخ الإسلامي وجهود الدولة السعودية في الأوقاف ورعايتها:
الوقف الإسلامي وواقعه في الحبشة (أثيوبيا) – د. جيلان بن خضر غمدا.
أحباس المغاربة في الحرمين الشريفين – د. حسن بن عبد الكريم الوركلي.
المدارس الوقفية في المدينة المنورة – د. طارق بن عبد الله الحجاز.
أوقاف عبين زبيدة في عهد الملك عبد العزيز– د. عادل بن محمد نور غباشي.
الأوقاف العامة في بريدة – د. عبد العزيز بن سليمان المقبل.
العوامل التي أدت إلى تدهور الوقف عبر التاريخ الإسلامي – د. عبد القهار بن داود العاني.
ازدهار الأوقاف في عصر المماليك – د. محمد بن حمد أمين.
الأوقاف على الحرمين (ورقة عمل) – الشيخ/عبد الرحمن عبد القادر فقيه.
محور نماذج وتطبيقات معاصرة في مجال الوقف:(12/182)
مؤسسة الملك فيصل الخيرية (مؤسسة خاصة) - الأمير بندر بن سعود بن خالد.
الأمانة العامة للأوقاف بالكويت (مؤسسة حكومية) - د. محمد بن عبد الغفار الشريف.
البنك الإسلامي للتنمية (مؤسسة دولية) – د. أحمد بن محمد خليل الإسلمبولي.
نموذج مقترح (باحث) – د. محمد بن عبد الحليم عمر.
محور تنظيم أعمال الوقف وتنمية موارده:
تنمية موارد الوقف والمحافظة عليه – د. العياشي الصادق فدا.
تنظيم أعمال الوقف وتنمية موارده – د. سلطان بن محمد حسين الملا.
تنمية موارد الوقف والمحافظة عليه – د. صالح بن عبد الله المالك.
إدارة الأوقاف الإسلامية والتجربة السعودية – د. عبد الرحمن بن إبراهيم الضحيان.
تنظيم أعمال الوقف وتنمية موارده (ورقة عمل) .
محور الإعلام والوقف:
أثر التسويق والإعلام في تنمية الوقف – د. أحمد بن سند يوسف.
التكامل بين الوقف والإعلام: رؤية تحليلية – د. أنور بن ماجد عشقي.
استثمار الإعلام لخدمة الوقف – د. طالب بن عيد الأحمدي.
علاقة الإعلام بالوقف: تأصيل نظري – د. عدلي سيد محمد رضا.
الإعلام الإسلامي وإحياء سنة الوقف – أ. محمد صلاح الدين.
كيفية توظيف وسائل الإعلام لخدمة الوقف – د. محمود حسن طربية.
علاقة الوقف بالإعلام: تأصيل من الناحية الشرعية – د. محمود السيد الدغيم.
محور أثر الوقف في تنمية المجتمع:
الوقف وأثره في نشر العلم في الأحساء – د. عبد الحميد آل الشيخ مبارك.
أثر الوقف في التنمية الاقتصادية – د. عبد اللطيف بن عبد الله العبد اللطيف.
الوقف والتنمية الاقتصادية – د. عبد الله بن سليمان الباحوث.
دور الوقف في دعم الجوانب التربوية والدينية والعلمية – د. عبد الله بن محمد أحمد حريري.
دور الوقف في بناء الحياة الاجتماعية وتماسكها – د. عبد الله بن ناصر السدحان.
أثر الوقف في التنمية الاقتصادية – د. محمد إبراهيم الخطيب.
أثر الوقف في نشر التعليم والثقافة – د. ياسين بن ناصر الخطيب.(12/183)
الوقف وأثره في تطوير المجتمع (ورقة عمل) - د. محمد إرشاد الباري عبد الرشيد.
محور الوقف والدعوة إلى الله:
صور من علاقة الوقف بالدعوة إلى الله تعالى (مقارنة بين الماضي والحاضر) .
الوقف وأثره في نشر الدعوة – د. عبد الرحيم بن محمد المغذوي.
مجالات الوقف المؤثرة في الدعوة إلى الله – د. مقتدي بن حسن ياسين.
مجالات الوقف المؤثرة في الدعوة إلى الله – د. مقتدى بن حسن ياسين.
الوقف وأثره في الدعوة الإسلامية في إندونيسيا (ورقة عمل) – د. محمد راضي الحافظ.(12/184)
توصيات ندوة المجتمع والأمن
المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية
13-15 صفر 1422هـ
الموافق 7-9 مايو 2001م
تحت رعاية صاحب السمو الملكي
الأمير/محمد بن نايف بن عبد العزيز
مساعد وزير الداخلية للشئون الأمنية
تشرفت الكلية خلال الفترة من 13-15 صفر 1422هـ، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير/محمد بن نايف بن عبد العزيز لفعاليات ندوة المجتمع والأمن والتي عقدت في رحاب الكلية. ويأتي عقد هذه الندوة وما سبقها وما يليها من ندوات إنفاذاً للتوجيهات الكريمة بضرورة توظيف الجهود العلمية البحثية في مجال الأمن وتحسين أداء مؤسساته. وإدراكاً من إدارة الكلية لأهمية البحث العلمي، فقد قام مركز البحوث بتنظيم الندوة ودعوة الباحثين للمشاركة بالرأي والكتابة في محاور الندوة ضمن منظومة الأمن الشامل الذي تتبناه أجهزة وزارة الداخلية وكافة المؤسسات الحكومية ضمن خطط التنمية الطموحة التي تعيشها بلادنا. وقد حددت الأهداف المتوخاة من ندوة المجتمع والأمن بهدف تسليط الضوء على بعض المشكلات الأمنية التي تواجه المجتمع، وكذلك تحليل المشكلات الأمنية والاجتماعية تحليلاً علمياً بغية الخروج بحلول عملية. كما استهدفت محاور الندوة التركيز على أهمية توعية المجتمع بمخاطر الجريمة وتنمية الحس الأمني لدى المواطن وذلك ضمن تكامل العمل الأمني مع الحاجات الأساسية للمجتمع مع تأكيد أهمية توثيق العلاقة بين الأجهزة الأمنية والجمهور.
جلسات الندوة:
الجلسة الأولى – علاقة الأجهزة الأمنية بالجمهور وتشمل:
العلاقة المتبادلة بين المواطن ورجل الأمن.
العلاقات الإنسانية وأثرها في رفع الأداء الوظيفي لرجل الأمن.
الرأي العام وتأثيره على أداء رجل الأمن.
الجلسة الثانية – الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وعلاقتها ببعض المشكلات الأمنية وشملت المواضيع التالية:
البطالة والسلوك المنحرف.
توطين العمالة وأثره في الحد من الجريمة.(12/185)
الجلسة الثالثة – انعكاس المشكلات المرورية على أمن المجتمع وشملت المواضيع التالية:
حوادث المرور وأثرها على الاقتصاد الوطني.
الجذور الاجتماعية للمخالفات المرورية.
الحملة الوطنية الشاملة للتوعية المرورية.
الجلسة الرابعة – المسجد ودوره الأمني في المجتمع.
الجلسة الخامسة – الدور الأمني للمدرسة وشملت المواضيع التالية:
الدور الأمني للمدرسة في المجتمع السعودي.
الأنشطة المدرسية ودورها في وقاية الشباب من الانحراف.
تحديات العولمة للهوية الثقافية وانعكاساتها على أمن المجتمع.
وبفضل من الله استقطبت الندوة اهتمام الرأي العام المحلي وحظيت فعاليتها بتغطية واسعة في وسائل الإعلام، كما نشرت بعض أوراق العمل في الصحف المحلية. ومما حققته الندوة أنها هيأت فرص التقاء الباحثين وتعارفهم وولدت العديد من مشاريع البحوث المشتركة. كما تسلمت إدارة الندوة العديد من الاقتراحات البناءة التي ستساهم بشكل كبير في مشاريع الندوات العلمية القادمة.
... توصيات الندوة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فقد خلصت لجنة التوصيات إلى مجموعة من التوصيات حسب محاور الندوة نوردها فيما يلي:
المحور الأول: علاقة الأجهزة الأمنية بالجمهور:
1- التركيز على معايير اختيار رجل الأمن وتأهيله وإعداده لمواجهة الجمهور، ورفع مستوى تعامله وتخاطبه مع فئات المجتمع المختلفة من مواطنين ومقيمين، وتأصيل مبدأ المساواة والعدالة بين الجميع من مواطنين ومقيمين، عن طريق وسائل منها:
أ- وضع معايير دقيقة لاختيار رجل الأمن، يركز فيها على الاستقامة وحسن الخلق.
ب- تضمين برامج التأهيل التعليمية لإعداد رجال الأمن على مختلف تخصصاتهم، مناهج علمية تتعلق بفن التعامل والتخاطب مع الجماهير، وكيفية مواجهتها، وتأصيل مبدأ العدالة من دون النظر إلى جنس أو عنصر أو وطن، وفق ضوابط الأخلاق في الإسلام.(12/186)
ج- تشكيل لجنة إرشادية توعوية في كل قطاع يوضع لها برنامج دقيق لإلقاء محاضرات توعوية خاصة للمراكز الأمنية ذات العلاقة بالجمهور بكون مرورها بالمراكز دورياً.
2- تنمية العلاقة التكاملية بين الأجهزة الأمنية المختلفة ومؤسسات المجتمع التعليمية والتربوية والإعلامية وغيرها عن طريق وسائل منها:
أ – إنشاء قسم لعلاقات المجتمع في المراكز الأمنية وبخاصة ذات الطبيعة الجماهيرية.
ب- تبادل الزيارات بشكل مستمر بين المراكز الأمنية في المدارس ومساجد الحي والمراكز الاجتماعية والرياضية.
3- إنشاء هيئة إعلامية وطنية للتوعية المستمرة، تمنح نسبة من المساحات الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة بهدف استخدامها في رفع مستوى الوعي الأمني وغيره تكون أولوياتها حسب ما تقتضيه المصلحة.
4- إنشاء وتفعيل أقسام البحث العلمي والتطوير الإداري في كل قطاع أمني لتطوير آلية العمل ولتحقيق أهداف القطاع ومتابعة وسائل تنفيذها ومعرفة المعوقات والسلبيات والعمل على تلافيها، لتحسين أداء القطاع بشكل عام والذي ينعكس بدوره على علاقة الجهاز الأمني بجمهوره.
5- تسهيل مهمة المتعاونين مع أجهزة الأمن لرفع درجة تفاعل أفراد المجتمع مع الأجهزة الأمنية وصولاً إلى تحقيق أمن شامل.
المحور الثاني: الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وعلاقتها ببعض المشكلات الأمنية:
الإسراع في تنفيذ برامج السعودة حيث أثبتت الدراسات العلمية ارتباط الجريمة بالبطالة.
التأكيد في برامج التوعية على المفهوم الإسلامي لقيمة العمل والحض على قبول العمل الشريف بصرف النظر عن طبيعته.
حث مراكز البحوث المعنية على إجراء دراسات ميدانية شاملة عن الأبعاد الاجتماعية الوطنية ومدى علاقتها ببعض المشكلات الأمنية، واستخلاص سبل علاج.(12/187)
حث وزارة العمل والشئون الاجتماعية ومراكز البحوث المعنية على إجراء دراسات ميدانية عن تجمعات العمالة الوافدة وعلاقتها ببعض المشكلات الأمنية واستخلاص الحلول المناسبة لها.
توعية أصحاب العمل بضرورة متابعة مكفوليهم في مقار سكنهم وتجمعاتهم للحيلولة دون وقوع أي إخلال بالأمن، وتبصيرهم بقوانين البلد، وإلزام أصحاب العمل بتسليم مستحقات مكفوليهم المالية أولاً بأول.
المحور الثالث: انعكاس المشكلات المرورية على أمن المجتمع
1- ضرورة إنشاء لجنة هندسية من وزارة المواصلات ووزارة البلديات والإدارة العامة للمرور واللجنة الوطنية للسلامة المرورية لمعالجة المواقع التي تكثر فيها الحوادث المرورية وتفادي سلبياتها.
2- إنشاء مدارس خاصة لتعليم القيادة المرورية، غير مخولة بمنح رخص قيادة وإنما لتعليم النشء فنون القيادة الصحيحة.
3- فتح باب التطوع لفئة منتقاة من شرائح المجتمع المختلفة لتسجيل المخالفات المرورية بالتنسيق مع مكتب خاص ينشأ بإدارة المرور مع وضع الضوابط المنظمة لذلك.
4- الحزم في تطبيق الأنظمة المرورية بحق المخالفين، ومعاقبة جميع مرتكبي المخالفات دون استثناء.
5- حث وزارتي المواصلات والشئون البلدية والقروية على إعادة النظر في المواصفات الخاصة بالطرق.
المحور الرابع: المسجد ودوره الأمني في المجتمع
وضع ضوابط لاختيار أئمة المساجد والجوامع، للقيام بمهام الإمامة وتفعيل دور المسجد على الوجه المطلوب.
تفعيل دور المسجد من خلال إنشاء مجلس إدارة من جماعة المسجد يتولى متابعة شئون الحي الأمنية والتعليمية والاجتماعية والصحية وغيرها.
التنسيق بين الجهات الأمنية وخطباء المساجد لرفع مستوى الوعي الأمني.
إعادة تصميم مكونات المساجد لتلبية رغبات أفراد الحي مثل: مكتبة عامة متعددة الأغراض، حديقة أطفال، صناديق بريد، صالة طعام، فصول لتحفيظ القران الكريم.(12/188)
تشجيع حلقات تحفيظ القران الكريم، والعمل على تعميمها وحث الموسرين على دعمها وإنشاء الأوقاف عليها، لما لها من دور في التنشئة الإيمانية، والقضاء على أوقات الفراغ لدى المنتسبين لها، وانعكاس ذلك على الضبط الاجتماعي والواقع الأمني.
الاهتمام بجانب المرأة من خلال فتح حلقات لتحفيظ القران الكريم ملحقة بالمساجد وإقامة الدروس والمحاضرات التوعوية، وفق تنظيم مناسب.
المحور الخامس: الدورة الأمني للمدرسة
وجوب إعادة النظر في مناهج التعليم للتبصرة بالظواهر الجديدة المتعلقة بالجريمة والوقاية من الوقوع فيها مع ربط المدرسة بالمجتمع المحلي وعدم قصر أنشطتها داخل أروقتها.
إنشاء أندية اجتماعية في المدارس موزعة على الأحياء لتعمل في الفترة المسائية تحت إشراف وزارة المعارف ,والعمل على تأهيل مشرفين متخصصين لإدارة أنشطتها.
تبادل الزيارات بين المدارس والمراكز الأمنية المختلفة للرفع من الوعي الأمني لدى الطلاب على اختلاف مستوياتهم وكسر الحاجز النفسي بين الطلبة ورجال الأمن.
إجراء دراسة ميدانية شاملة على مستوى المملكة للتعرف على حجم وقت الفراغ لدى الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة وبما يشغلونه , واستخلاص الوسائل الكفيلة للاستفادة منه بالشكل الذي يلبي حاجاتهم وميولهم.
حث القطاع الخاص على دعم الأنشطة المدرسية مادياً وتبني مشاريع دعم معامل الحاسب الآلي ومختبرات المواد العلمية.
المحور السادس: الدور الأمني لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العمل على وضع ضوابط دقيقة لاستقطاب الكوادر المؤهلة للعمل في الهيئات.
فتح معمل متخصص لإعداد رجال الحسبة وتأهيلهم في مجال كيفية التعامل مع مختلف فئات المجتمع.
تعزيز التنسيق بين مراكز الهيئات والمراكز الأمنية لمنع الازدواجية في الأداء مع دعم مراكز الهيئات بأعداد كافية من رجال الأمن لتسهيل مهامها.(12/189)
حث إدارات المراكز التجارية على تخصيص مكتب للهيئة داخل المراكز لتسهيل مهام الهيئات.
توعية أفراد المجتمع بدور الهيئة الأمني في خدمة المجتمع , من خلال المحاضرات ووسائل الأعلام المختلفة.
مواصلة دعم الهيئات بما تحتاجه من معدات وتجهيزات تمكنها من القيام بمهامها على الوجه المطلوب.(12/190)
مجلة جامعة أم القرى
لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها
العدد 24
ربيع الأول 1423هـ/مايو (آيار) 2002م
محتويات العدد
أولاً: القسم العربي:
أ- دراسات في الشريعة وأصول الدين:
1- المنهاج في الحكم على القراءات
د. إبراهيم بن سعيد الدوسري
2- من منهج إبراهيم (عليه السلام) في الدعوة كما عرضه القرآن الكريم
د. محمد منظور بن محمد رمضان
3- من منهج الدعوة إلى الله في سورة هود
د. محمد ولد سيدي ولد حبيب
4- الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر: رواية ودراية
د. محمد بن عمر بازمول
5- التوبة وشروطها
د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
6- الأوقاف في العصر الحديث: كيف نوجهها لدعم الجامعات وتنمية مواردها
د. خالد بن علي المشيقح
7- من أحكام مس القرآن الكريم: دراسة فقهية مقارنة
د. عمر بن محمد السبيل
8- التوكيل في الخصومة في الفقه الإسلامي
د. محمد بن إبراهيم الغامدي
9- رد الخبر الواحد بما يسمى ب " الانقطاع الباطن" حقيقته، وحكمه
وأثره في الفقه الإسلامي.
د. ترحيب بن ربيعان الدوسير
10- منهاج الإمام مالك في التعامل مع الأخبار المتعارضة
د. محمد سيد منصور
ب - الدراسات التاريخية والحضارية:
11- مسائل في منهج دراسة السيرة النبوية
د. محمد بن صامل السلمي
12- موقف الإمام الذهبي من الدولة العبيدية نسباً ومعتقداً
د. سعد بن موسى الموسى(12/191)
ج - اللغة العربية وآدابها:
13- صوت الهاء في العربية
د. إبراهيم كايد محمود
14- منهاج الإمام مالك في التعامل مع الأخبار المتعارضة
د. محمد سيد منصور
15- بعض آراء بن سيده النحوية من خلال شرحه لمشكل شعر المتنبي
د. فائزة بنت عمر المؤيد
16- وقفات في جزم المضارع في جواب الطلب وأثر المعنى على الحركة
الإعرابية في الجواب
د. سلوى بنت محمد عرب
17- مسائل بلاغية ونقدية في شرح السهيلي لسيرة ابن هشام
د. محمد رفعت زنجير
18- الفلسفة الجمالية عند حمزة شحاته
د. صالح بن سعيد الزهراني
د - تحقيق النصوص:
19- أحكام لاسيما وما يتعلق بها للشيخ أحمد بن أحمد السجاعي
(ت 1197هـ) تحقيق ودراسة
د. حسَّان بن عبد الله الغنيمان
ثانياً: القسم الإنجليزي
ملخصات البحوث الإنجليزية(12/192)
المنهاج في الحكم على القراءات
د. إبراهيم بن سعيد الدوسري
الأستاذ المشارك بقسم القرآن وعلومه- كلية أصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مخلص البحث
يعنى هذا البحث بإيضاح مفهوم الحكم على القراءات وبيان أصالته التاريخية وأهميته (العلمية، وتحديد أنواع القراءات ومراتبها، وفق الشروط التي اعتمدها أهل السنة والجماعة في قبول القراءة أوردها، وهي نقل الثقات، وموافقة الرسم تحقيقاً أو احتمالا، وكونها غبر خارجة عن اللغة العربية.
كما عني بالخطوات العلمية للحكم على القراءات، وذلك عن طريق استقراء مصادرها، ودراستها في ضوء أقوال العلماء فيها للوقوف على درجة كل قراءة صحة وضعفاً.
وقد تضمن دراسة تطبيقية على نماذج متنوعة من القراءات المتواتر والشاذة حسب المعايير المعتبرة في الحكم على القراءات.
ومن ثم انتهى هذا البحث إلى نتائج متعددة، ومن أهمها:
أن القراءات تقع على قسمين أساسين، وهما:
أالقراءات المتواترة، وهي القراءات العشر التي عليها عمل القراء إلى وقتنا الحاضر.
ب القراءات الشاذة، وهي ما عدا تلك القراءات العشر.
أن وصف الشذوذ في القراءة لا يقتضي الضعف في الشاذ جميعه، وإنما يقضي بمنع القراءة بها.
والله ولي التوفيق
المقدمة:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الله تعالى قد فضّل القرآن الكريم على سائر الكتب، إذ جعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، ومن وجوه تفضيله ومزاياه ما اختُص به من إنزاله على وجوه القراءات، وتكفل الله بحفظه وترتيله، فجاء مُصرَّفا على أوسع اللغات، وظلّ محروسا من الزيادة والنقصان والتبديل على مر الزمان وتقلّب الأحوال، وما ذاك إلا دلالة من دلائل إعجازه وبدائع نظمه.(12/193)
إن القرآن الكريم وقراءاته روح حياة الأمة الإسلامية ومشكاة حضارتها الفكرية، فلذلك كان حقا على المتخصصين من أبناء الأمة في كل عصر أن يعنوا بمحاسن هذا الدين العالمي من خلال كتابه المبين، وأن ينبروا لإظهار الحق وإبرازه بلغة تناسب عصورهم ومعطياتها.
ويأتي هذا البحث القرآني ليعنى بدراسة قضية أخذت حيزا من اهتمام علماء القراءات، غير أنها لم تفرد بمؤلَّف يُسهّل على الباحثين تقريب مباحثها، فجاء هذا البحث ليلمّ ما تشعّب من مسائلها، ويكشف اللثام عن تاريخها وأصولها، في دراسة موضوعية تطبيقية.
ومن الله تعالى أستمد العون، ومنه سبحانه أستلهم الرشاد.
أهمية الموضوع:
يمثل هذا الموضوع دعامة مهمة في الحكم على القراءات وفق المنهج الأمثل الذي اعتمد عليه حذاق القراء ومحرريهم.
وهو ذو أهمية ضرورية، إذ به يعرف ما يقبل من القراءات وما يُبنى عليها من أحكام شرعية وتعبدية وما لا يُقرأ به منها وما لا يعمل به أيضا.
وتشمل هذه الدعامة الجوانب اللغوية وجميع المسائل التي تنبني على هذا العلم في التفسير وغيره.
والحق أن هذا الموضوع يُعمل الفكر ويذكي جذوته في البحث عن ضبط حروف القرآن الكريم وقراءاته، وفي ذلك فوائد جليلة، وإليها أشار الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) بقوله:
فليحرص السعيد في تحصيله * ولا يَملّ قط من ترتيله
وليجتهد فيه وفي تصحيحه * على الذي نُقل من صحيحه (1)
وحاجة الباحثين في الدراسات القرآنية وما يتصل بها إلى هذا الموضوع أكثر من غيرهم، إذ تستدعي دراستهم معرفة المنهج الذي يتم على ضوئه الحكم علي القراءات بناء على الأسس والمعايير العلمية.
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() ... طيبة النشر ص31.(12/194)
وقد لُحظ أن عددا من الباحثين إذا وجد القراءة في كتاب السبعة لابن مجاهد (ت 324 هـ) حكم بتواترها، ومنهم من إذا وجدها في مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ت370 هـ) أو المحتسب لابن جني (ت 392 هـ) حكم بشذوذها، وذلك منهج غير صحيح، كما سيتضح من خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى، ولا شك أن بيان المنهج الصحيح والحالة هذه أمسى ضرورة ملحّة، ولا سيما أن المصادر التي تثري هذا الموضوع توفرت في هذا الوقت أكثر من ذي قبل، حيث نشطت حركت تحقيق كتب القراءات وطبعها، كما تيسرت ولله الحمد سبل الاطلاع على المخطوطات واستجلابها، وذلك يلقي بظلاله على المهتمين بعلم القراءات دراسة هذا الموضوع وأمثاله على نحو أعمق.
ولا تقتصر أهمية الموضوع على الباحثين فحسب، فالموضوع يتصل بكلام الله جل وعلا وشرعة هذه الأمة ومنهاجها، والأعداء يتربصون بالأمة الإسلامية وكتابها أشد التربّص، لنفث سمومهم ونشر شبهاتهم للطعن في القرآن الكريم من خلال اختلاف قراءاته.
ولئن كان مثار الجدل حول اختلاف أوجه القراءات مقصورا على فئات معينة فإنه في هذا العصر أصبح أكثر اتساعا بواسطة وسائل الإعلام والاتصال المتعددة التي لم يسبق لها مثيل.
فهذا الموضوع وأشباهه من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يتجرد لها أهل الاختصاص لحماية هذه الثغرة والحفاظ على ميراثنا الرباني المجيد، ويأتي في مقدمة تلك الموضوعات ما يُعنى بالأسس والمناهج التي إذا أُبرزت بالصورة الصحيحة أسهمت في الكشف عن مظهر حضاري لهذا الدين العظيم، ألا وهو سلامة مناهجه، وثبات مقاييسه، وصدقية أحكامه.
هدف البحث:
يستهدف هذا البحث دراسة الكلمات القرآنية التي قرئت على أكثر من وجه، وذلك بالكشف عن الأسس والضوابط المعتبرة التي عوّل عليها القراء في الحكم علي القراءات، مع دراسة تطبيقية ترسخ ذلك المنهج لدا الباحثين نظريا وعمليا.
خطة البحث:(12/195)
تتكون خطة هذا البحث من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة،وذلك على النحو التالي:
المقدمة: وتتضمن أهمية البحث وهدفه وخطته، كما تقدم بيانه.
الفصل الأول: تاريخ الحكم على القراءات وأهميته، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: تاريخ الحكم على القراءات.
المبحث الثاني: أهمية الحكم على القراءات.
الفصل الثاني: أنواع القراءات ومراتبها، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: ما يُقرأ به وما لا يُقرأ به.
المبحث الثاني: مراتب القراءات.
الفصل الثالث: الخطوات العلمية للحكم على القراءات، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: الحكم على القراءة عن طريق مصادرها.
المبحث الثاني: الحكم على القراءة من خلال دراستها.
الفصل الرابع: الدراسة التطبيقية على الحكم على القراءات.
الخاتمة: وتتضمن أهم نتائج البحث.
***
الفصل الأول: تاريخ الحكم على القراءات وأهميته ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: تاريخ الحكم على القراءات.
المبحث الثاني: أهمية الحكم على القراءات.
تاريخ الحكم على القراءات:
يرجع تاريخ الحكم على القراءات إلى بداية الإذن بالقراءة على سبعة أحرف، فكان الحُكم عند اختلاف الصحابة في القراءات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي حادثة عمر (ت 23 هـ) رضي الله عنه مع هشام بن حكيم (ت بعد 15 هـ) رضي الله عنه لما استقرأهما الرسول صلى الله عليه وسلم صوّب قراءة كل واحد منهما) (1) ، كما وجّه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى أن يقرؤوا كما عُلّموا (2) .
__________
(1) ... يراجع الحديث في صحيح الإمام البخاري:" كتاب فضائل القرآن "، " باب أنزل القرآن على سبعة أحرف " ص 895 رقم الحديث4992، وفي صحيح الإمام مسلم:" كتاب صلاة المسافرين "، " باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف " ص 329، رقم الحديث [1899] .
(2) ... انظر بيان السبب الموجب لاختلاف القراءات للمهدوي ص242 وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 19 / 30.(12/196)
فلا يقبل من القراءات إلا ما كان منقولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا النهج جمَع أبو بكر الصديق (ت 13 هـ) رضي الله عنه القرآن الكريم، إذ كان من شروطه أن لا يثبتوا بين اللوحين إلا ما ثبت سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم وتُلقي عنه (1) ،ومما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) رضي الله عنه: " من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأتنا به " (2) ، فالتلقي شرط معتبر في القرآن الكريم وقراءاته.
وقد لزم جميع الصحابة رضوان الله عنهم هذا النهج القويم، حيث كانوا يقرؤون بما تعلموا، ولا ينكر أحد على أحد قراءته، ثم أن انتشروا في البلاد يعلمون الناس القرآن والدين، " فعلّم كل واحد منهم أهل مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة الذين علموهم " (3) .
وبعد سنة واحدة من خلافة عثمان بن عفان (ت 35 هـ) رضي الله عنه، أي في حدود سنة خمس وعشرين (4) شهد حذيفة بن اليمَان (ت 35 هـ) رضي الله عنه فتح أَرْمينية وأَذربيجان فوجد الناس مختلفين في القرآن، " ويقول أحدهم للآخر: قراءتي أصح من قراءتك، فأفزعه ذلك (5) " فركب حذيفة إلى أمير المؤمنين رضي الله عنهما، فقال: " يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى" (6) .
__________
(1) ... انظر المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة ص 85، 60.
(2) ... المصاحف لابن أبي داود ص 17.
(3) ... الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب ص 37.
(4) ... انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 19/20.
(5) ... النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/7.
(6) ... من حديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: " كتاب فضائل القرآن "، " باب جمع القرآن " ص894، رقم الحديث 4987.(12/197)
فقام عثمان بن عفان الخليفة الراشد بكتابة المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه العمل في العرضة الأخيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة الصحابة رضي الله عنهم واتفاق منهم، فأخذ المسلمون بها وتركوا ما خالفها (1) .
ومن هنا ظهر العمل بالمقياس القرّائي الذي يعتبر شرطا أساسا في الحكم على القراءة، وهو موافقة الرسم العثماني، وكل قراءة خالفت هذا الرسم عند جمهور العلماء لا تُعدّ متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة (2) .
فلا تصح القراءة بما خالف الرسم العثماني من أوجه القراءة وإن صح نقلها، وهذا هو أحد الأركان الثلاثة لصحة القراءة، والركنان الآخران هما: ثبوت القراءة بالنقل الصحيح، وموافقتها للغة العربية.
أما شرط النقل فقد تقدم آنفا، وأما شرط العربية فمنشؤه من إنزال القرآن على لسان العربية، قال الله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ((3) .
ومقياس العربية أشبه بالوصف، لأن القراءة إذا صحت نقلا لزم أن تصح عربية.
وبعد: فيمكننا القول: إن شروط قبول القراءات التي اعتمدها أهل السنة والجماعة (4) كانت أصولها منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، واكتملت بالتحديد بعد العرضة الأخيرة، حيث لا تجوز القراءة إلا بما أقرأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجه القراءات واتصل به، ووافق ما رسم عليه المصحف على مقتضى العرضة الأخيرة، ووافق لغة القرآن، فلا جرم أن تلك الأركان مستقاة مما تواتر نقله عن الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا النحو.
__________
(1) انظر المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة ص 171.
(2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/395.
(3) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/395.
(4) انظر مقدمة الجامع المعروف بسوق العروس للطبري (1/أ) .(12/198)
وما كان لهذه الشروط أن يرتكز عليها أهل السنة والجماعة لولا اعتمادها على نصوص الشريعة وأصولها، ولاسيما أن الأمر يختص بالقرآن الكريم، فما خالف هذه الشروط من أوجه القراءات فهو منسوخ أو باطل أو شاذ (1) ، ولا يمكن اعتقاد ذلك والحكم به إلا بدليل من القرآن والسنة، " إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نُسخ بالإجماع، فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في نزول الوحي من كتاب أو سنة" (2) ، وما يقال في النسخ يقال فيما شابهه من الأحكام المذكورة آنفا القاضية ببطلان ما خرج عن تلك الأصول، ولهذا قال العلماء:" القراءة سنة" (3) ، قال إسماعيل القاضي: (ت 282 هـ) في معنى ذلك:" أحسبه يعني هذه القراءة التي جُمعت في المصحف (4) ".
وقد عمل القراء بهذا الميزان إقراء وتأليفا في الحكم على القراءات، كما جاءت الإشارة إليه في أوائل مصنفاتهم، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) - وهو أول إمام معتبر جمع القراءات (5) بعد أن ناقش أحد أوجه القراءات علل حكمه بأنه اجتمعت له الشروط الثلاثة المذكورة، حيث قال: " اجتمعت له المعاني الثلاثة من أن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج عن قراءة القراء" (6) .
وعلى هذا الأساس اعتمد مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) ما يقبل من القراءات وما لا يقبل (7) .
__________
(1) انظر الإبانة عن معاني القراءات ص 31 والنشر في القراءات العشر 1/9.
(2) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 155.
(3) السبعة في القراءات لابن مجاهد ص 50.
(4) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 170.
(5) انظر النشر في القراءات العشر ص 1/33.
(6) إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل لابن الأنباري 1/311.
(7) انظر الإبانة عن معاني القراءات ص 39.(12/199)
وقد ظل هذا المعيار هو الحكم الذي يُحتكم إليه عند اختلاف أوجه القراءات، ولا سيما بعد أن كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وكثر أهل البدع الذين قرؤوا بما لا تحل تلاوته (1) .
وكلما تقادم الزمن كثر القراء وانتشروا، وخلفهم أجيال بعد أجيال في طبقات متتابعة، فمنهم المجوّد للتلاوة المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك الاختلاف، وكاد يختلط المتواتر بالشاذّ، فانبرى جهابذة العلماء فميزوا ذلك وحرروه وضبطوه في مؤلفاتهم (2) .
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) :"وإذا كان صحة السند من أركان القراءة كما تقدم تعين أن يعرف حال رجال القراءات كما يعرف أحوال رجال الحديث، لا جرم اعتنى الناس بذلك قديما، وحرص الأئمة على ضبطه عظيما، وأفضل من علمناه تعاطى ذلك وحققه، وقيد شوارده ومطلقه، إماما الغرب والشرق الحافظ الكبير الثقة أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني مؤلف التيسير وجامع البيان وتاريخ القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه تحقيق هذا العلم وضبطه وإتقانه ببلاد الأندلس والقطر الغربي، والحافظ الكبير أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمداني مؤلف الغاية في القراءات العشر وطبقات القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه معرفة أحوال النقلة وتراجمهم ببلاد العراق والقطر الشرقي.
ومن أراد الإحاطة بذلك فعليه بكتابنا غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أويى الرواية والدراية" (3) .
__________
(1) انظر لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1 /66.
(2) انظر إبراز المعاني في حرز الأماني لأبي شامة ص4.
(3) النشر في القراءات العشر 1/193.(12/200)
ثم إن الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) جمع ما انتهى إليه من سبقه في مصنفاته المنيفة، ويأتي في مقدمتها الكتاب المذكور غاية النهاية وكتابه النشر في القراءات العشر ومنظومته طيبة النشر، ومن ثم عكف الشيوخ عليها تأليفا وإقراء، فاشتهر علم التحريرات الذي يعنى بعزو أوجه القراءات إلى طرقها ومصنفاتها، في دقة متناهية مع بيان الجائز منها والممنوع حال الإقراء، وآخر ما انتهى إليه هذا العلم تحقيقا وتأليفا وإقراء هو الإمام محمد بن أحمد المتولي (ت 13 13هـ) الملقب بابن الجزري الصغير، إذ عليه مدار الإقراء وبه تلتقي جل أسانيد القراء، فهو بجدارة إمام مدرسة القراءات في العصر الحديث (1) .
ولئن استمر العمل في تحرير القراءات والحكم عليها بعد ابن الجزري فإنه لن ينقطع بالمتولي، وهو مجال رحب للقراء والباحثين.
أهمية الحكم على القراءات
القراءات ميراث خالد اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، وعلم القراءات علم جليل، له من الرواية ذروة سنامها، ومن الدراية صافي دررها، وإحكام مبانيها والتبحر في مقاصدها والغوص في معانيها بحر لا ساحل له وغور لا قاع له.
وعلم القراءات ليس له حد ينتهي إليه، فمجالاته عديدة وفروعه متشعبة، وطرق أسانيده لا تكاد تستقصى، ومعاني وجوه القراءات لا تكاد تنقضي، فكلما أنعم الباحث النظر في تصاريفها تجددت معانيها في حلل أبهى.
وتجيء مكانة الحكم على القراءات في أولويات القيم العلمية لهذا النوع من العلوم الشرعية.
__________
(1) انظر كتاب الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات ص 8، 332، 375.(12/201)
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) في سياق تعداد فوائد علم القراءات:" ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظةٍٍ لفظةٍ، والكشف عن صِيغةٍ صِيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يُوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم " (1) .
وتشتمل الأهمية العلمية للحكم على القراءات على الجوانب العقدية والفقهية.
أما الجانب العقدي:
فإن ما قُطع على صحته يكفر من جحده لأنه من القرآن، وكل قراءة ثبتت على هذا النحو فهي مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، كلاهما حق يجب الإيمان بهما والعمل بهما، وسواء كانتا قراءتين أم أكثر، وأما ما لم يقطع على صحته فإنه لا يكفر من جحده، لأن ذلك من موارد الاجتهاد التي لا يلحق النافي ولا المثبت فيها تكفير ولا فسق، والأولى أن لا يُقدم على الجزم بردّ قرآنيته، وأما ما لم يثبت نقله ألبته أو جاء من غير ثقة فلا يقبل أصلا (2) .
وأما الجانب الفقهي:
فهو منبثق من الجانب العقدي، إذ ما قطع عليه من القراءات بكونه قرآنا جازت القراءة به في الصلاة وخارجها، وما لم يقطع بصحته فقد اختُلف فيه (3) .
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1/53.
(2) انظر فضائل القرآن لأبي عبيد 2/152 والإبانة عن معاني القراءات ص 39 والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/292 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 391، 398، والنشر في القراءات العشر 1/14.
(3) انظر المصادر السابقة.(12/202)
والقراءة الصحيحة المقروء بها لا خلاف في الاحتجاج بها، والأظهر أن الشاذ من القراءات إذا صح نقله فإنه يحتج به في الأحكام وإذا لم يصح نقله فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام (1) .
وينبغي أن يحمل ذلك على ما جاء في التفسير واللغة أيضا، فلا يُستند فيها إلا على قراءة صحيحة ولو كانت منقولة نقلا آحادا، كما أن القراءة إذا ثبتت وجب قبولها وعدم ردها ولو أباها بعض النحويين (2) .
حقا فدراسة القراءات والحكم عليها ذات أهمية فائقة، وتبرز هذه الأهمية في سائر فروع القراءات ومجالاتها النقلية والعقلية، ولا سيما في معايير قبول القراءات واختيارها، وفي مقدمتها أركان قبول القراءة السالفة الذكر.
ولا تزال القيمة العلمية في ذلك ذات أهمية فائقة، وبخاصة في القراءات التي لا يقرأ بها الآن، وأكثرها يذكر في الكتب غير معزو بَلْهْ بيان نوعها ودرجتها، وربما أُخذ بها في الأحكام الفقهية والمعاني التفسيرية والقواعد اللغوية وغيرها، وإذا اتضح أن ما كان كذلك من القراءات لا يحتج به إلا إذا كان بنقل صحيح فإن البحث فيها من أولى المهمات.
الفصل الثاني: أنواع القراءات ومراتبها، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: ما يُقرأ به وما لا يُقرأ به.
المبحث الثاني: مراتب القراءات.
أنواع القراءات ومراتبها
كان لأحوال القراءات التاريخية أثر بين في تنوعها، وتعتبر العرضة الأخيرة المرحلة التي عليها الاعتماد، ولا سيما بعد الجمع العثماني (3) ، ومن ثم فإن ما خالف الرسم أقل رتبه مما وافقه أو احتمله.
كما أن لنقل القراءات والمشافهة بها أثرا في تفاوت القراءات وتفاضلها، إذ تتنوع بحسب رواتها كثرة وقلة وقوة وضعفا.
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 34/43.
(2) انظر فضائل القرآن لأبي عبيد 2/154 ودراسات لأسلوب القرآن الكريم 1/1.
(3) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 19/36.(12/203)
وثمة اعتبارات أخرى تعطي القراءات مجالا أوسع في تعداد أنواعها، وسيتناول هذا المبحث منها ما يخص الحكم منها، حيث ستتم دراسة القراءات من جهة المقروء به وغير المقروء به، ومراتب كل منهما.
ما يُقرأ به وما لا يُقرأ به
ليس كل ما يُروى من القراءات تجوز القراءة به الآن، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يُعوّل عليه في ذلك؟ أهو ما جاء عن القراء السبعة أو عن العشرة؟ أو ما توفرت فيه أركان صحة القراءة وإن كان عن غير السبعة والعشرة؟ أو أن المعتمد عليه في ذلك ما ورد في كتب القراءات أو كتب معينة منها ككتاب السبعة والشاطبية والنشر؟
والحق أن الذي يجب أن يعول عليه ما نقل متواترا مشافهة، واستمرّ على هذا النحو، حيث ورد عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول (1) ، وعن علي بن أبي طالب (ت 40 هـ) رضي الله عنه أنه قال:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل كما عُلّم " (2) .
وذلك أن القراءات لا تضبط إلا بالتلقي والسماع من الشيوخ ومشافهتهم بها كما أخذوها عمن قبلهم هكذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يمثل الشرط الأول في أركان القراءة، وهو صحة النقل، والشرطان الآخران وهما الرسم والعربية لازِمان لهذا النوع من القراءات المقروء بها (3) .
__________
(1) انظر السبعة لابن مجاهد ص 51، 52.
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 182 واللفظ له، وأحمد في مسنده 7/88 رقم الحديث 3981، والطبري في تفسيره 1/12، والحاكم في مستدركه 2/223 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن مجاهد في السبعة ص 47.
(3) انظر النشر في القراءات العشر 1/10.(12/204)
وليس كل ما شُوِفهَ به يُقرأ به اليوم، بل لابد من اتصاله بأهل العصر، ولذلك فإن كثيرا من القراءات كان يقرأ بها (1) ، بيد أن انقطاع إسنادها مشافهة لقصور الهمم أدى إلى إهمالها ومن ثم لم تتصل، وعليه فلا تجوز القراءة بها الآن.
والذي عليه قراءة هذا العصر هو ما اتصل بالقراء العشرة، وهم:
ابن عامر الشامي (ت 118 هـ) وابن كثير المكي (ت 120 هـ) وعاصم بن أبي النَّجود (127 هـ) وأبو عَمرو البصري (ت 154 هـ) وحمزة الزيات (ت 156 هـ) ونافع المدني (ت 169 هـ) والكسائي (ت 189 هـ) والثلاثة الذين يكتمل بهم العشرة، وهم أبو جعفر المدني (130 هـ) ويعقوب الحضرمي (ت 205 هـ) وخلف البزار (ت 229 هـ) .
وليس كل ما يُعزى إلى هؤلاء يُقرأ به، بل لا يقرأ إلا بما ثبت عنهم على وجه المشافهة دون انقطاع (2) .
وليس لأحد أن يقرأ بأوجه القراءات المقروء بها عن الأئمة العشرة إلا إذا شافهه بها، لأن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما تقدم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) : " ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده ... فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه" (3) .
والذي لا يقرأ به أكثر مما يقرأ به، فإن في سورة الفاتحة ما يناهز خمسين اختلافا من غير المقروء به، وفي سورة الفرقان نحو مائة وثلاثين موضعا (4) .
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/329.
(2) انظر الدراسة التطبيقية في هذا البحث المثال (1) ، (3) .
(3) انظر دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 1/70.
(4) انظر التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/302 وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 19/46.(12/205)
وما ترك من القراءات له أصل في الشرع، وإلا كانت الأمة آثمة بعدم أدائه، وهذا الأصل هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الأحرف السبعة: " فاقرؤوا ما تيسر منه " (1) ، حيث دلّ الحديث على أن نقل جميع حروف القراءات ليس نقل فرض وإيجاب، وإنما كان أمر إباحة وترخيص (2) ، وبذلك يظهر وجه علّة الأوجه والروايات التي كان يقرأ بها في الأمصار عن الأئمة السبعة أو العشرة ثم اندثرت، مثال ذلك قول الحافظ أبي العلاء (ت 569 هـ) في مقدمة غايته: " فإن هذه تذكرة في اختلاف القراء العشرة الذين اقتدى الناس بقراءتهم، وتمسكوا فيها بمذاهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق " (3) ، ثم ذكر بعد ذلك رواتهم ومنهم شجاع ابن أبي نصر (190 هـ) وأبو زيد الأنصاري (ت 215 هـ) عن أبي عمرو البصري (ت 154 هـ) ، وقتيبة ابن مِهْران (ت بعد 200 هـ) عن الكسائي (ت189 هـ) وغيرهم، في حين أن روايات هؤلاء وأمثالهم لا يقرأ بها الآن (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، " باب أنزل القرآن على سبعة أحرف " ص 895، رقم الحديث 4992، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، " باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف " ص 329، رقم الحديث [1899] .
(2) انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 1/28 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/396.
(3) غاية الاختصار في القراءات العشر للحافظ أبي العلاء 1/3.
(4) وانظر نحو هذا المثال في مفردة نافع للداني ص 6، وقلما تخلوا كتب القراءات في مقدماتها من هذا القبيل.(12/206)
وأما ما يذكر في كتب القراءات على وجه القراءة مع مخالفته للرسم فقد حمله أكثر العلماء على وجه التعليم فحسب، وذلك من أجل الاستفادة في الأحكام الشرعية والأدبية (1) .
مراتب القراءات
تختلف مراتب أوجه القراءات على أنواع شتى، فمن أوجهها المتواتر والمشهور والآحاد والضعيف، ومنها المسند على وجه الأداء والتلاوة، والمسند على وجه الرواية دون تلاوة، ومنه المذكور في كتب أهل العلم دون إسناد ومنها ما لا أصل له ... ، غير أنها كلها تؤول إلى نوعين، وهما:
النوع الأول: القراءة المتواترة.
النوع الثاني: القراءة الشاذة.
أولا القراءة المتواترة:
وهي القراءات التي اشتملت على شروط صحة القراءة المشهورة، وهي السند والرسم والعربية.
__________
(1) انظر التمهيد لما في الموطأ من معاني وأسانيد لابن عبد البر 8/292 والقول الجاذّ لمن قرأ بالشاذّ للنويري1/75 ولطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/37.(12/207)
والمقصود بالسند: ثبوت الوجه من القراءة بالنقل الصحيح عن الثقات (1) ، وهو غير معدود عندهم من الغلط أو مما شذ به بعضهم (2) ، وقد اختلفت تعبيرات العلماء في ذلك اختلافا يوهم التناقض، فمنهم من نص على الآحاد (3) ، ومنهم من قيده بالشهرة والاستفاضة (4) ، ومنهم من صرح بالتواتر وهم الأكثرون (5) ، وقد استبان بعد النظر في أقوالهم أن الخلاف صوري، فمن نظر إلى أسانيد القراء من جهة نظرية على ما هو مذكور في أسانيد مصنفاتهم وجد كثيرا من أوجه الاختلاف تشتمل على أسانيد آحادية أو مشهورة، ومن نظر إليها من جهة الوقوع عدها متواترة وأجاب بأن انحصار الأسانيد ولو كانت آحادية في طائفة معينة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم إذ مع كل واحد منهم في طبقته ما يبلغها حد التواتر، لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد الجم الغفير طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل، ولو انفرد أحد بوجه دون أهل تلك البلد لم يوافقه على ذلك أحد (6) "، ومما يدل على هذا ما قاله ابن مجاهد: قال لي قُنبل: قال لي القوّاس: في سنة سبع وثلاثين ومائتين الق هذا الرجل يعني البَزِّي فقل له: هذا الحرف ليس من قراءتنا،يعني (وما هو بميت ((7) مخففاً، وإنما يخفف من الميت من قد مات، ومن لم يمت فهو مشدد، فلقيت البَزِّي فأخبرته فقال: قد رجعت عنه " (8) .
__________
(1) انظر الإبانة عن معاني القراءات ص 39 وبيان السبب الموجب لاختلاف القراءات وكثرة الطرق والروايات ص 245.
(2) انظر لطائف الإشارات لفنون القراءات 1/68.
(3) انظر إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني ص 30.
(4) انظر التجبير في علم التفسير للسيوطي ص 141.
(5) انظر القول الجاذّ لمن قرأ بالشاذّ ص 57.
(6) انظر لطائف الإرشادات 1/78 وإتحاف فضلاء البشر 1/72.
(7) سورة إبراهيم، الآية 17.
(8) منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص 207، وانظر مزيداً من الشواهد في جمال القراء 1/234.(12/208)
وحيث إن القراءات العشر المقروء بها في هذا العصر على هذا النحو فإنها هي المتواترة، وما عداها فهو الشاذّ، إذ انقطاع الإسناد من جهة المشافهة لأي وجه من القراء مسقط له، ولو تواتر الإسناد نظريا في الكتب، وذلك أن في القراءات وجوها لا تحكمها إلا المشافهة، بله إذا صح إسناده ولم يتصل مشافهة.
والتواتر المذكور يختص بأوجه القراءات بصفة عامة، وليس كل ما كان من قبيل الأداء متواتر، بل منه الصحيح المستفاض المتلقى بالقبول، كمقادير المد الزائدة على القدر المشترك بين أهل الأداء، غير أنه ملحق بالمتواترة حكما لأنه من القرآن المقطوع به، قال الحافظ ابن الجزري (ت833 هـ) : " ونحن ما ندعي التواتر في كل فرْدٍ مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق، لا يدّعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر؟ وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر، وصحيح مستفاض متلقى بالقبول، والقطع حاصل بهما " (1) .
وقال أيضا: " فإنه إذا ثبت أن شيئا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله، فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجها ولا بعشرين وجها، ولا بنحو ذلك، وإنما إن صح شيء منها فوجه، والباقي لاشك أنه من قبيل الأداء " (2) .
ولعل هذا النوع من الأوجه المختلف فيها بين القراء هو الذي جعل بعض العلماء لا يشترط التواتر.
والمقصود بموافقة الرسم:
__________
(1) منجد المقرنين ومرشد الطالبين ص 91.
(2) المصدر السابق ص 196.(12/209)
أن تكون القراءة موافقة لأحد المصاحف العثمانية المشهورة، سواء كانت تحقيقا وهي الموافقة الصريحة، أو كانت الموافقة تقديرية وهي الاحتمالية، فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع كثيرة إجماعا نحو: " الصلوة "و" الزكوة "، وبذلك وردت بعض القراءات نحو قراءة " مالك " في سورة الفاتحة بالألف مع أنها مرسومة بدون ألف، فاحتمل أن تكون مرادة كما حذفت من "الرحمن" و " إسحق " (1) .
والمقصود بموافقة العربية:
أن تكون القراءة على سنن كلام العرب ولهجاتها التي وافقت الأحرف السبعة، وإن لم تكون مشهورة لدى النحويين، قال الإمام الداني (ت 444 هـ) : " وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، إذا ثبتت لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها " (2) .
وأي وجه من القراءات توفرت فيه تلك الشروط فهو من القرآن الذي يجب الإيمان به، ويكفر من جحده (3) .
وجمهور العلماء على جواز الاختيار بين تلك القراءات، واختياراتهم في ذلك مشهورة، " وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء: قوة وجهه في العربية وموافقته للمصحف واجتماع العامّة عليه " (4) ، إلا أنه ينبغي التنبيه على شيء، وهو أنه قد تُرجّح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يؤدي إلى إسقاط القراءة الأخرى أو إنكارها، وهذا غير مرضي، لأن كلتيهما متواترة (5) .
__________
(1) انظر المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 171 والنشر في القراءات العشر 1/11.
(2) جامع البيان في القراءات السبع المشهورة للداني (172/ ب) .
(3) انظر الإبانة عن معاني القراءات ص 39.
(4) انظر المصدر السابق ص65، وفيه أن العامة ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، أو ما اتفق عليه أهل الحرمين.
(5) انظر البرهان في علوم القرآن 1/339.(12/210)
وأما تفضيل ما يعزى إلى القراء السبعة على ماعداهم من القراء العشرة في القراءات المتواترة فهو من حيث الشهرة فحسب، أما من حيث التواتر فالقراءات السبع والعشر سواء (1) .
ثانيا القراءة الشاذة:
وهي القراءة التي فقدت أحد الأركان الثلاثة لصحة القراءة، وقد لخص ابن الجزري ذلك بقوله:
وحيثما يختل ركن أثبتِ شذوذه لو أنه في السبعةِ (2)
وقوله رحمه الله: " لو أنه في السبعة " يشير إلى أن الاعتماد في صحة أي وجه من وجوه القراءات على ما استجمع تلك الأوصاف، وليست العبرة بمن تنسب إليهم، فالقراء السبعة أو العشرة مع شهرتهم رُوي عنهم ما خرج عن أوصاف القراءة الصحيحة، وحينئذ ينبغي أن يحكم على ما كان كذلك بالشذوذ (3) ، ولذلك قال أبو العباس الكوَاشي (ت 680 هـ) : " ... فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذّ" (4) .
وقال أبو شامة (ت 665 هـ) : " كل قراءة اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف ولم تنكر من جهة العربية فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك فهو داخل في حيز الشاذّ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض " (5) .
ويتضح مما سبق أن مصطلح الشذوذ عند القراء مصطلح خاص، يقصد به ما خرج من أوجه القراءات عن أركان القراءة المتواترة.
وكما أن القراءات المتواترة على مراتب فكذلك القراءات الشاذة تتفاضل أيضا بحسب إسنادها قوة وضعفا، وبحسب رسمها مخالفة وموافقة، وبحسب عربيتها فصاحة ونحوا وتصريفا (6) .
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/393 ومنجد المقرئين ومرشد الطالبين ص102.
(2) طيبة النشر ص 32.
(3) انظر الدراسة التطبيقية من هذا البحث، المثال (1) .
(4) لطائف الإشارات لفنون القراءات 1/67.
(5) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز 178.
(6) انظر الدراسة التطبيقية، المثال (2) .(12/211)
ويندرج في القراءات الشاذة ما لم يصح سنده من المنكر والغريب والموضوع (1) .
وامتنع بعض المحققين من إطلاق الشاذ على ما لم ينقل أصلا وإن صح لغة ورسما، وسموه مكذوبا (2) .
واعتبر بعض القراء وطوائف من أهل الكلام أن جميع ما روي من القراءات الخارجة عن المصاحف العثمانية محمولة على وجه التفسير وذلك بناء على أن تلك المصاحف اشتملت على جميع الأحرف السبعة، فما خرج منها فهو ليس من الأحرف السبعة أصلا،وهذا النوع على هذا المذهب أشبه بأنواع المدرج في علم الحديث.
وذهب أئمة السلف وأكثر العلماء إلى أن المصاحف العثمانية لم تشتمل على جميع الأحرف السبعة، وإنما اشتملت على جزء منها، وأن الجمع العثماني منع من القراءة مالا يحتمله خطه، وعليه فإن ما كان كذلك فهو من القراءات الشاذة وليس من التفسير، ولكن حكمه حكم التفسير بل أقوى (3) .
ومذهب السلف هو الأسلم والأولى، وهو الموافق لتاريخ القراءات، وبه لا تنخرم إحدى القواعد المعتبرة التي اعتمدها أهل السنة والجماعة في تصحيح القراءة أو تشذيذها، وهي السند والرسم والعربية، وذلك يقتضي أن كل قراءة خرجت عن رسم المصاحف العثمانية قراءة شاذة وليست تفسيرا.
__________
(1) انظر التجبير في علم التفسير ص142.
(2) انظر منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص 84 ولطائف الإشارات لفنون القراءات1/72.
(3) انظر فضائل القرآن لأبي عبيد ص154 وبيان السبب الموجب لاختلاف القراءات وكثرة الطرق والروايات ص 243 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/397،401 والإتقان في علوم القرآن 1/266.(12/212)
وينبغي التنبه هنا على أن المقصود باشتراط العربية ذا بُعد يرجع إلى نزول القرآن على لسان العرب، وإلى أن أحرفه السبعة لا تخرج عن لهجات العرب، وحينئذ فإن الوجه إذا ثبت نقله واستقام رسمه فلا يحكم عليه بالشذوذ لمجرد طعن بعض النحاة ومن تبعهم، بل القراءة هي الحاكمة والحجة، فكيف إذا كان مقروءا بها في الأمصار والمحاريب، ويرحم الله الإمام ابن مالك (ت672 هـ) إذ انتصر لأحد الوجوه التي أنكرت في قوله:
وعمدتي قراءةُ ابن عامرِ * وكم لها من عاضد وناصري (1) .
وأغلب ما وصف بالشذوذ من القراءات كان بسبب مخالفة الرسم العثماني أو بسبب عدم توافر النقل، وليس من أجل مخالفة العربية، إلا في النادر، مما نقله ثقة ولا وجه له في العربية، ولا يصدر مثل هذا إلا سهوا بشريا، وقد نبه عليه المحققون والقراء الضابطون (2) .
الفصل الثالث: الخطوات العلمية للحكم على القراءات،
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: الحكم على القراءة عن طريق مصادرها.
المبحث الثاني: الحكم على القراءة من خلال دراستها.
الخطوات العلمية للحكم على القراءات
الخطوات الرئيسة في الحكم على أي قراءة، تكون من خلال ما يلي:
الحكم على القراءة عن طريق مصادرها.
الحكم على القراءة من خلال دراستها.
فإنه من خلال استقراء نصوص أئمة القراء في الحكم على القراءات استبان أن محاور أحكامهم تعتمد على هذين المحورين، فأول ما يُرجع إليه مصدرها، وهو الذي من خلاله يعرف ما إذا كانت القراءة مقروءاً بها عند أهل الأداء
__________
(1) الكافية الشافية ص53.
(2) انظر النشر في القراءات العشر 1/16.(12/213)
أو لا، فإن كانت من القراءات المقروء بها فهي قراءة متواترة يجب الإيمان بها والعمل بها، وإن لم تكن كذلك درست في ضوء أقوال العلماء فيها للوقوف على درجتها صحة وضعفا. ولا يخفى ما بين هذين المحورين من ترابط يثري المادة العلمية وإن كان لكل قراءة طبيعتها التي تستدعي الأخذ بهما أو بأحدهما.
الحكم على القراءة عن طريق مصادرها
يمكن تصنيف الكتب التي يستمد منها الحكم على القراءات وهي كتب القراءات المسندة إلى أربعة أنواع:
المصادر التي تضمنت القراءات المتواترة المقروء بها إلى وقتنا الحاضر.
المصادر التي تضمنت القراءات التي توفرت فيها شروط الصحة، إلا أنه انقطع إسنادها من جهة المشافهة بها، في بعض وجوه القراءات.
المصادر التي تضمنت القراءات دون مراعاة لشروط الصحة.
المصادر التي تضمنت القراءات الشاذة.
أما المصادر التي تضمنت القراءات المتواترة إلى وقتنا الحاضر فإن أئمة القراء في الوقت الحاضر يجعلونها على قسمين:
القسم الأول:
مصادر القراءات العشر الصغرى، وهي حرز الأماني ووجه التهاني المعروفة بالشاطبية في القراءات السبع للإمام القاسم بن فِيرُّه الشاطبي (ت 590 هـ) وتحبير التيسير في القراءات العشر للحافظ أبي الخير محمد ابن الجزري (ت833 هـ) وسُميت بالعشر الصغرى لأنها أخذت عن كل راو طريقاً واحداً فقط، وينضوي تحت تلك المصادر كل من وافقها من الكتب أو أَسند إليها، ومن أشهرها غيث النفع في القراءات السبع من طريق الشاطبية للصفاقسي (ت 1118 هـ) والدرّة المضيّة في القراءات الثلاث للحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) والبدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريق الشاطبية والدرّة للشيخ عبد الفتاح القاضي (ت 1403 هـ) .
القسم الثاني:(12/214)
مصادر القراءات العشر الكبرى، وهي التي اعتمدت عن كل راو ثمانية طرق أصلية، ولذلك أُطلق عليها العشر الكبرى، وهي في النشر في القراءات العشر وتقريب النشر وطيبة النشر، كلاها للحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) ، وكذلك من وافقه كما في إتحاف فضلاء البشر للبنا الدمياطي (ت 1117 هـ) فيما يرويه عن القُرَّاء العشرة.
وهنا أمران ينبغي التنبيه لهما، وهما:
الأمر الأول:
أن الأوجه التي في القراءات العشر الصغرى قد تضمنتها القراءات العشر الكبرى إلا أربع كلمات زادت فيها الدرة وجها آخر لابن وردان ليس في الطيبة، وهي (لايخرج ((1) بضم الياء وكسر الراء، (فيغرقكم ((2) بالتأنيث وتشديد الراء، (سقاية (و (عمارة ((3) بضم أولهما وحذف الياء من (سقاية (وحذف الألف من (عمارة (.
الأمر الثاني:
حيث إنه ربما يشق على غير المتخصصين الرجوع إلى جميع المصادر المذكورة في هذا النوع من القراءات، وهي القراءات المتواترة التي عليها الاعتماد عند علماء العصر الحاضر، فإنه يمكن للباحث الرجوع إلى كتاب إتحاف فضلاء البشر للبنا الدمياطي (ت 1117 هـ) فيما يرويه عن القراء العشرة، فإن هذا الكتاب قد اشتمل على المتواتر عن هؤلاء العشرة، لأنه تضمن النشر وطيبته وتقريبه وشروحها وما يدور في فلكها (4) .
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 58، وانظر شرح الدرة للزبيدي ص 309.
(2) سورة الإسراء،الآية 69، وانظر المصدر السابق ص69.
(3) سورة التوبة، الآية 19، وانظر المصدر السابق ص 323.
(4) انظر إتحاف فضلاء البشر 1/64.(12/215)
وهذا الكتاب بمثابة النثر للطيبة والتهذيب للنشر، وذلك أن ابن الجزري لم يذكر في طيبته مما أورده في النشر إلا ما كان معمولا به عند علماء الأداء، ولا يخفى ما في النشر من كثرة طرقه وتشعبها وما في الطيبة من صعوبة من جهة نظمها ورموزها، فالخلاصة أن إتحاف فضلاء البشر من أيسر مصادر هذا النوع وأحسنها عرضاً وترتيباً، وهو من الكتب الأساسية في الحكم على القراءات، ومعرفة ما يقرأ به منها، فهو كما قيل:" كل الصيد في جوف الفَرا " (1) .
أما المصادر التي تضمنت القراءات التي توفرت فيها شروط الصحة إلا أنه انقطع إسنادها من جهة المشافهة بها فهي كثيرة، ولا يقرأ بشيء منها الآن إلا فيما اتصل إسناده على وجه المشافهة مما تضمنته المصادر السابقة وعلى رأسها كتاب النشر في القراءات العشر الذي حوى زهاء سبعين مصدرا من أمهات كتب القراءات (2) .
وأشهر المصادر التي في هذا النوع السبعة للإمام ابن مجاهد (ت 324 هـ) فهذا الكتاب مع شهرته إلا أنه قد انقطع العمل ببعض رواياته وأوجه قراءاته مشافهة (3) ، وأمثاله كثير (4) .
فما وجد من أوجه القراءات في هذه الكتب وثبت أنه لا يُقْرأ به الآن فإنه يحكم عليه بالشذوذ لفقده شرط اتصال السند مشافهة، وهو قليل، لأن الغالب من تلك المصادر قد تضمنه كتاب النشر في القراءات العشر أو وافقه.
__________
(1) انظر كتاب الأمثال لأبي عبيد ص35.
(2) انظر النشر في القراءات العشر 1/58 – 98.
(3) انظر الدراسة التطبيقية في هذا البحث، المثال (1) .
(4) انظر منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص87.(12/216)
وأما المصادر التي تضمنت القراءات دون مراعاة لشروط الصحة، فقد نص عليها ابن الجزري (ت 833 هـ) في قوله رحمه الله: " ومنهم من ذكر ما وصل إليه من القراءات، كسبط الخياط، وأبي معشر في الجامع، وأبي القاسم الهُذلي، وأبي الكرم الشَّهْرزوري، وأبي علي المالكي، وابن فارس، وأبي علي الأهوازي، وغيرهم، فهؤلاء وأمثالهم لم يشترطوا شيئاً، وإنما ذكروا ما وصل إليهم، فيرجع إلى كتاب مقتدى ومقرئ مقلد" (1) .
وهذا النص يشير إلى أن المصادر من هذا النوع اشتملت على المتواتر والشاذ، فما وافق المصادر المعتبرة المقروء بها كان متواترا، وما خرج عنها حكم عليها بالشذوذ.
وعبارة ابن الجزري: " أو مقرئ مقلّد " تشير إلى أن الاقتصار في الحكم على كتاب " مقتدى" غير كاف، بل لابد أن ينضم إليه ما عليه العمل عند قراء كل عصر.
وأما المصادر التي تضمنت القراءات الشاذة فكمختصر شواذّ ابن خالويه (ت 370 هـ) والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جني (ت 392 هـ) والتقريب والبيان في معرفة شواذّ القرآن للصفراوي (ت 636 هـ) وشواذ القرآن واختلاف المصاحف للكرماني، وغيرها، فهذه الكتب وأمثالها أصل مادتها القراءات الشاذة، فما حوته من القراءات حكم عليها بالشذوذ، إلا أن يكون الوجه من القراءة مستعملا في القراءات المتواتر (2) ، فما كان كذلك فهو معدود في المتواتر، وإن نسب في تلك المصادر إلى غير القراء العشرة المشهورين، لأن العبرة باستيفاء الشروط وليس بمن تنسب إليهم القراءة، على أنها عند الاستقراء لا تخرج عن الأئمة العشرة كما سبق بيانه.
الحكم على القراءة من خلال دراستها
__________
(1) المصدر السابق ص 88.
(2) انظر الدراسة التطبيقية، المثال (3) ، (4) .(12/217)
لقد حظيت حروف القرآن العظيم على اختلاف قراءاته بنقل العلماء، ولكن إن فات شيء فهو نزر يسير، وأما أكثره وجملته فمنقول محكي عنهم، فجزاهم الله عن حفظهم الحروف والسنة أفضل الجزاء وأكرمه (1) .
وهذه الحروف منثورة في كتب القراءات المتخصصة وغيرها، أما كتب القراءات فقد سبق الحديث عنها آنفا، وأما الكتب الأخرى فلا شك أن ما اشتملت عليه مما خرج عن القراءات المتواترة أنه من الشاذّ.
وإذا تأصّل أنه لا تبنى الأحكام الفقهية والمعاني التفسيرية إلا على ما ثبت فلا جرم أن معرفة درجتها من الأهمية بمكان، وذلك أن الشذوذ في القراءات لا يقتضي الضعف، وإنما يمنع من القراءة بها فحسب.
وتقوم دراسة تلك القراءات على الاعتبار بأقوال أئمة القراء والعلماء في أسانيد الطرق والروايات ووجوه القراءات، وتشكل هذه الأقوال والنصوص مادة غنية تساعد الباحث على معرفة درجة القراءة، وينبغي عند الحاجة إلى الرجوع إليها أن يراعى ما يلي:
أن بحث الحكم لا يحتاج إليه إلا في القراءات التي انقطع إسنادها، فلا يقرأ بها في العصر الحاضر، لأن القراءة إذا كان مقروءا بها فذلك يكفي دليلا على تواترها، ولا حاجة للبحث عنها أصلا بل يجب الإيمان بها والعمل بها مطلقا، لأنه مقطوع بصحتها.
وما جاء عن بعض العلماء مما يوهم تضعيف بعض القراءة المتواترة أو ردها فهو إما أن يكون صادرا عن غير ذوي الاختصاص فهذا مردود عليه، كما هو مشهور عند بعض النحاة، وقد تصدى علماء القراءات للردّ عليهم بما لا مزيد عليه.
وإما أن يكون صادرا عن بعض ذوي الاختصاص، فهذا ينبغي أن يرجع فيه إلى أقوال العلماء الآخرين، لحمل تلك الأقوال على محمل حسن أو ردها على صاحبها، فكل يؤخذ منه ويرد إلا نصوص الشرع المطهر، وكفى بتواتر القراءة ردا على من تكلم فيها أو طعن فيها.
__________
(1) انظر التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/ 314.(12/218)
ولعلّ الذين تكلموا في بعض القراءات الثابتة كان بسبب أنها لم تصل إليهم، فهذا الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) كره قراءة حمزة، فلما تبين له تواترها رجع عن كراهيته تلك (1) ، على أن هذه الكراهية يمكن أن تحمل على الكراهية النفسية وليست الشرعية، والكراهية النفسية بمثابة الاختيار، وهو جائز عند العلماء ما لم يؤدّ إلى إسقاط الروايات الأخرى وإنكارها كما سبق بيانه (2) .
وهذا ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) ثبت ما يدل أنه لم يكن يقصد باختياراته رد القراءات الصحيحة، حيث قال: " كل ما صح عندنا من القراءات أنه علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من الأحرف السبعة التي أذن الله له ولهم أن يقرؤوا بها القرآن فليس لنا اليوم أن نخطئ من قرأ به إذا كان ذلك موافقا لخط المصحف، فإذا كان مخالفا لخط المصحف لم نقرأ به ووقفنا عنه وعن الكلام فيه ".
المعوّل عليه في الحكم على نقد القراء ما تضمنته طبقات القراء، ومن أشهرها معرفة القراء الكبار للحافظ الذهبي (ت 748 هـ) وغاية النهاية للحافظ ابن الجزري (ت 833هـ) .
كما يمكن الاعتبار بكتب الطبقات الأخرى، مع التأكد أن ما وصف به أحد القراء فيها من ضبط أو جرح يختص بالقراءات، قال الحافظ الذهبي (ت 748 هـ) في ترجمة أبي عمر الدُّوري (ت 246 هـ) : " وقول الدّارقطني: ضعيف، يريد في ضبط الآثار، أما في القراءات فثبت إمام، وكذلك جماعة من القراء أثبات في القراءة دون الحديث، كنافع والكسائي وحفص، فإنهم نهضوا بأعباء الحروف وحرروها، ولم يصنعوا ذلك في الحديث، كما أن طائفة من الحفاظ أتقنوا الحديث، ولم يحكموا القراءة، وكذا شأن كل من برّز في فن ولم يعتن بما عداه " (3) .
__________
(1) انظر طبقات الحنابلة للقاضي ابن أبي يعلى 2/374 والفروع لابن مفلح 1/422.
(2) انظر مراتب القراءات من هذا البحث.
(3) سير أعلام النبلاء 11/543.(12/219)
3- لا يقتضي حكم أحد الأئمة على قراءة بأنها صحيحة جواز القراءة بها اليوم، لأن الحكم ربما يقتضي الصحة التي لا ترقى إلى التواتر القرآني، وربما تكون متواترة عند من حكم بها في عصره أو بلده فحسب، ثم انقطع إسنادها من قِبل المشافهة (1) .
وثمة وجوه من القراءات رويت أو ذكرت ولم يعثر على نص إمام معتبر فيها أو فيمن نسبت إليه، والغالب فيما كان كذلك أن يكون موغلا في الشذوذ، فهو في أدنى درجاته، ولا طائل من البحث وراءه.
الفصل الرابع: الدراسة التطبيقية على الحكم على الدراسة التطبيقية على الحكم على القراءات
ستعنى هذه الدراسة بما سبق في الدراسة النظرية، ولذا اقتضى البحث أن يشتمل، كل مثال على المسائل التالية:
أ- نص القراءة المراد دراستها.
ب- مصادر القراءة والقراء الذين قرؤوا بها.
ج- الحكم على القراءة.
د- تعليل الحكم.
هـ- أهم النتائج.
* * *
المثال الأول:
أ- (غِشاوة ((2) : بكسر الغين ونصب التاء
ب- رواتها ومصادرها:
رويت هذه القراءة في جميع أنواع مصادر القراءات عدا المصادر التي تضمنت القراءات المتواترة المقروء بها.
وفيما يلي ذكر المصادر التي وردت فيها والقراء الذين قرؤوا بها:
1- المصادر التي تضمنت القراءات التي توفرت فيها شروط الصحة إلا أنه انقطع إسنادها من جهة المشافهة بها، وعزتها إلى المُفضَّل الضَّبّي (ت 168 هـ) عن عاصم بن أبي النَّجود (ت 127 هـ) (3) .
__________
(1) راجع مبحث " ما يقرأ به وما لا يقرأ به " فيما سبق من هذا البحث.
(2) سورة البقرة، الآية 7.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ص 140 والتذكرة في القراءات الثمان لابن غلبون 2/248 وغاية الاختصار للحافظ أبي العلاء 2/403.(12/220)
2- المصادر التي تضمنت القراءات دون مراعاة لشروط الصحة، وعزتها إلى المُفضَّل، (ت 168 هـ) وأبَان بن يزيد عن عاصم، وحفص (ت 180 هـ) وشعبة (ت 193 هـ) من بعض طرقهما عن عاصم أيضا، وأبي حيوة شريح بن يزيد (ت 230 هـ) وإبراهيم بن أبي عبلة (ت 151 هـ) .
3- المصادر التي تضمنت القراءات الشاذة، وعزتها إلى المفَّضل وابن أبي عبلة المذكورين في المصادر السابقة، وإلى الحارث بن نبهان عن عاصم ابن أبي النجود، وشعبة من طريق يحيى بن آدم (ت 203 هـ) وغيره عن عاصم (1) .
ج- الحكم على القرآءة:
قراءة (غشاوةً ((2) نصباً شاذّة.
د- التعليل: وقع حكم الشذوذ على هذه القراءة من جهة إسنادها، وذلك من عدة وجوه:
انقطاع إسنادها على وجه المشافهة.
تفرّد المفضَّل الضبِّي بروايتها في المصادر التي اشترطت الصحة، وما تفرّد به عن عاصم فهو شاذّ (3) . لأنه ضعيف في القراءات (4) ، قال ابن الجزري: "تلوت بروايته القرآن من كتابي المستنير لابن سِوار والكفاية لأبي العزّ وغيرهما مع شذوذ فيها " (5) .
ورودها في غير مصدر من كتب الشواذّ.
أما من حيث الرسم والعربية فهي موافقة لهما، ووجهها في اللغة العربية على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة (6) .
هـ- أهم النتائج:
ليس كل ما يروى عن القراء السبعة أو العشرة أو عن أحد من رواتهم يكون متواتراً، فهذا عاصم وراوياه: شعبة وحفص رويت عنهم هذه القراءة وهي شاذة، لكن ثبت عنهما الوجه المتواتر في المصادر التي اشتملت على المتواتر.
__________
(1) انظر مختصر في شواذ القرآن لابن خلوية ص2 والتقريب والبيان في شواذ القرآن واختلاف المصاحف للكرماني (19/ب)
(2) سورة البقرة، الآية 7.
(3) انظر معرفة القراء الكبار 1/275.
(4) انظر الجرح والتعديل للرازي 8/318 والمصدر السابق.
(5) غاية النهاية في طبقات القراء 2/307.
(6) إعراب القراءات الشواذ للعكبري 1/117.(12/221)
اشتمال الكتب التي اشترطت الصحة على قراءات لا يقرأ بها اليوم، ومنها السبعة لابن مجاهد (ت 324 هـ) (1) .
المثال الثاني:
أ- (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج ((2) بزيادة " في مواسم الحج ".
ب- رواتها ومصادرها:
وردت هذه القراءة عن بعض الصحابة والتابعين في عدد من مصادر القراءات والحديث والتفسير، وغيرها، وفيما يلي ذكرها:
مصادر القراءات: وردت في بعض الكتب المختصة بالشاذة، وعزتها إلى ابن عباس (ت 68هـ) رضي الله عنه وعكرمة (ت 106 هـ) وعمرو بن عبيد (ت 144 هـ) (3) .
وخلت منها كتب القراءات الأخرى فيما بين يدي من المصادر.
المصادر الأخرى المسندة: وروتها عن ابن عباس رضي الله عنه وعكرمة أيضاً (4) .
المصادر الأخرى غير المسندة: ذكرتها عن ابن مسعود (ت 32 هـ) وابن الزبير (ت 73 هـ) وابن عباس رضي الله عنهم (5) .
ج- الحكم على القراءة:
زيادة " في مواسم الحج " بعد قوله تعالى - (فضلا من ربكم (قراءة شاذة، وإسنادها صحيح.
" وحكمها عند الأئمة حكم التفسير " (6) .
د- التعليل:
__________
(1) انظر قراءات أخرى شبيهة بهذا المثال في كتاب السبعة المذكور ص181، 189،194.
(2) 93) سورة البقرة، الآية 198.
(3) انظر مختصر في شواذ القرآن ص 12 وشواذ القرآن واختلاف المصاحف (37/ب) .
(4) انظر فضائل القرآن بي عبيد ص107 وصحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة (، ص 329 رقم الحديث 205. وجامع البيان عن تأويل القرآن 2/ 282.
(5) انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2/ 173 وتفسير البحر المحيط 2/ 94.
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/78.(12/222)
هذه القراءة مخالفة لرسم المصحف، ولذلك حكم بشذوذها، وإن كانت قد وردت بأسانيد صحيحة (1) .
وهي من القراءات التي كان مأذونا بها قبل العرضة الأخيرة أو الرسم العثماني المجمع عليه، ثم نسخت تلاوته (2) .
هـ- أهم النتائج:
أن القراءة إذا خالفت الرسم العثماني فهي شاذة وإن ثبتت بالأحاديث الصحيحة.
المثال الثالث:
أ - (الم ((3) بفتح الميم من غير همز بعدها. فتكون ألِفْ لَام مِّيمَ حسِب.
ب - رواتها ومصادرها:
ثبتت هذه القراءة في جلّ مصادر القراءات عن ورش وغيره، وفيما يلي تفصيلها:
المصادر التي روت القراءات المتواترة المقروء بها وروتها عن ورش (ت197 هـ) عن نافع (ت169 هـ) ، وعن حمزة (ت156 هـ) بخلف عنه وقفا على (حسب (، ويجوز لمن قرأ بالنقل القصر والطول في ميم (4) .
وأورد ابن الجزري (ت833 هـ) عن أبي جعفر (ت130 هـ) أصل النقل عنه ولم يعتمده (5) .
المصادر التي اشترطت الصحة، ولكنها لم تتصل جميع أوجهها على وجه المشافهة، وروتها عن ورش وحمزة (6) .
المصادر التي لم تشترط الصحة، وروتها عن ورش وأبي جعفر وحمزة بِخُلْف عنه (7) .
__________
(1) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/135، وانظر نظير هذا الاختلاف في صحيح البخاري كتاب التفسير باب " وما خلق الذكر والأنثى " ص884 رقم الحديث 4944.
(2) انظر فتح الباري 18/360.
(3) سورة العنكبوت، الآية 1.
(4) انظر النشر 1/408،434 وإتحاف فضلاء البشر 2/348 وغيث النفع ص 317.
(5) انظر النشر 1/409.
(6) انظر الإقناع لابن الباذش 1/388، 432، والكنز للواسطي ص 66، 215 والمفتاح للقرطبي 1/235، 254.
(7) انظر الكامل في القراءات الخمسين (134/أ، ب) والمصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر 3/1197، 1205.(12/223)
المصادر المختصّة بالشواذ، وروتها عن ورش وأبي جعفر (1) .
ج- الحكم على القراءة:
فتح سكون الميم حالة وصلها ب (أحسب (قراءة متواترة، وعليها العمل عن ورش، وعن حمزة حالة الوقف على (أحسب (دون وصلها بما بعدها.
د - التعليل:
انبثق الحكم على هذا الوجه من خلال مصادر القراءات المقروء بها، وهو مستوف للشروط المعتبرة عند علماء القراءات، إسناداً ورسماً وعربية، أما الإسناد فهو يتصل بقارئين من الأئمة السبعة، وهما نافع من رواية ورش، وحمزة، ورويت عن أبي جعفر كما سبق،وأما الرسم فهو في غاية الظهور، (وأما وجههه في العربية فعلى نقل حركة الساكن إلى قبلها، وهو لغة مشهورة لبعض العرب سواء أكان وصلاً أم وقفاً (2) .
ولا وجه لمن ضعف وجه النقل في هذا الحرف لغة (3) ، فإن القراءة إذا ثبتت لا يضرها تضعيف النحاة أو غيرهم لها.
هـ- أهم النتائج:
إذا وردت القراءة في المصادر المقروء بها وغيرها، فالمعول على ما تضمنته المصادر التي عليها العمل.
أن كتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات قد اشتمل على بعض القراءات المتواترة كغيره من كتب القراءات المختصة بالشواذ، وكذلك العكس، فربما ورد في المصادر التي اشترطت الصحة شيء من الشواذ، والتحقق من معرفة ذلك بالمقارنة بين جميع تلك المصادر والتعويل على التلقي واستمرار المشافهة.
أن الحكم بالتواتر والشذوذ يصدق على أصول القراءات كما يصدق على فرشها، خلافا لمن فرّق بينهما (4) ، إذ الخلاف بين القراء في هذا الحرف معدود من قبل الأصول.
__________
(1) انظر المحتسب في تبين وجوه شواذ القراءات 2/ 158 والتقريب والبيان في معرفة شواذ القرآن 1/106، 125.
(2) انظر الكشف عن أوجه القراءات 1/95 وإبراز المعاني من حرز الأماني ص166 والنشر في القراءات العشر 1/408، 428.
(3) ... انظر المحتسب 2/158.
(4) انظر منجد المقرئين ص 186.(12/224)
أنه ربما رُوي عن بعض السبعة أو العشرة وجوه غير معمول بها عنهم، وإن عمل بها عند غيرهم، فهذا أبو جعفر قد روي عنه النقل، لكن لا (يقرأ به عنه.
اختار بعض العلماء التحقيق فيما يجوز فيه النقل كما في هذا الحرف (1) ، وذلك يدل على جواز الاختيار حتى وإن كان الوجه الذي لم يقع عليه الاختيار مقروءاً به، كما يدل على التفاضل بين وجوه القراءات وتفاوت مراتبها من حيث الدراية.
المثال الرابع:
أ- (ثلثي ((2) : بإسكان اللام.
ب- رواتها ومصادرها:
وردت هذه القراءة في جميع أنواع مصادر القراءات، وهي:
المصادر التي حوت القراءة المتواترة المقروء بها، وعزتها إلى هشام بن عمّار (ت 245 هـ) عن ابن عامر (ت 118 هـ) من جميع الطرق (3) .
المصادر التي تضمنت القراءات الصحيحة إلا أنه انقطع إسنادها من جهة المشافهة، وعزتها إلى هشام عن ابن عامر من أكثر طرقه (4) ، ولذلك أهملتها بعض المصادر كما في غاية ابن مهران (ت 381 هـ) وإرشاد أبي العز القلانسي (ت 291 هـ) .
المصادر التي لم تشترط الصحة، وروتها من أشهر الطرق عن هشام عن ابن عامر (5) ، ورويت عن قنبل (ت 120 هـ) ، وآخرين (6) .
__________
(1) ... انظر الكشف عن وجوه القراءات 1/93.
(2) ... سورة المزمل، الآية 20.
(3) انظر حرز الأماني ووجه التهاني ص89 والنشر في القراءات العشر 1/217 وإتحاف فضلاء البشر 2/569، وغيث النفع ص 375.
(4) انظر السبعة ص658 والتلخيص في القراءات الثمان ص450 والكافي لابن شريح 223 والكنز للواسطي ص256.
(5) انظر مفردة ابن عامر الشامي للداني ص229 والمبهج لسبط الخياط ص792 والمنتهي للخزاعي ص 624 وبستان الهداة لابن الجندي ص 373.
(6) انظر الكامل في القراءات الخمسين (245 / ب) وقرة عين القراء (207/ب) ورواها أبو علي في الحجة 6/337 عن شبل عن ابن كثير، وهي في البحر المحيط 8/366 عن شيبة وأبي حيوة وابن السَّمِيفع وآخرين.(12/225)
المصادر المختصة بالقراءات الشاذة، وعزتها إلى ابن عامر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت117) والحسن البصري (ت110 هـ) (1)
ج- الحكم على القراءة:
إسكان ضم اللام من (ثلثي (قراءة متواترة.
د- التعليل:
اجتمع في هذه القراءة الأركان الثلاثة، إذ هي من القراءات المتواترة، واستمرار العمل بها إلى وقتنا الحاضر أقوى الأدلة على تواترها، وهي ثابتة في مصادر القراءات العشر الصغرى والكبرى، ومما يشهد لهذا التواتر روايتها عن قراء آخرين غير هشام عن ابن عامر.
فالقراءة مستقيمة من حيث الإسناد والرسم، ومن حيث العربية أيضاً، لأن الإسكان جائز إما تخفيفاً وإما لغة (2) .
هـ- أهم النتائج:
اشتمال كتب الشواذ على بعض القراءات المتواترة، ولذلك ينبغي الحيطة من الاستعجال في إطلاق الشذوذ على القراءة لمجرد وجودها في كتب الشواذ، بل لابد من الرجوع إلى مصادر القراءات الأخرى للتثبت من عدم ورودها فيها.
إن تتبع القراءة في أكثر مصادرها يساعد على الكشف عن قراء آخرين، مما يدفع القول بعدم تواتر بعض القراءات المقروء بها، ففي هذا المثال لم يتفرّد هشام بالإسكان، بل شاركه عدد من الرواة والقراء يصدق عليهم حد التواتر.
خلوّ بعض المصادر الصحيحة من بعض أوجه القراءات المعتبرة لا يخدش في ثبوتها في المصادر الأخرى، لأن المعتمد في كتب القراءات الرواية والمشافهة، فالأصل أن المصنف لا يثبت إلى ما رواه أو شافهه به، وغاية ما يدل عليه اختلاف المصادر عن أحد القراء أو الرواة أن الوجهين المذكور والمتروك وردا عنه حسب الطرق التي أدت تلك الروايات والقراءات إلى تلك المصادر.
المثال الخامس:
__________
(1) انظر مختصر في شواذ القرآن لابن خالوية ص 164 وشواذ القرآن واختلاف المصاحف (252/أ) .
(2) انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع 2/346 وشرح الهداية 1/234،
2/541.(12/226)
أ - (فلا يخاف عقباها ((1) بالفاء مكان الواو في " ولا ". ب – رواتها ومصادرها:
رواها ابن عامر الشامي (ت 118 هـ) وأبو جعفر المدني (ت 130 هـ) ونافع المدني (ت 169 هـ) وقد تضمنتها جميع مصادر أنواع القراءات (2) ، عدا المصادر الشاذة.
ج - الحكم:
... القراءة بالفاء مكان الواو قراءة متواترة.
د – التعليل:
... توافر لهذا الوجه أركان صحة القراءة، فمن حيث السند روتها المصادر غير الشاذة، ومن حيث الرسم كونها في مصاحف أهل المدينة والشام رسمت كذلك (3) ، ومن حيث العربية الفاء عطف على قوله: (فكذبوه فعقروها ((4) .
هـ- أهم النتائج:
... أن المصاحف العثمانية اختلفت في رسم بعض المواضع (5) ، وجميعها معتبر به في القراءات، وليس ذلك مثل الذي في المثال الثاني من هذه الدراسة، لأن ما جاء على نحو هذا المثال (فلا (، (ولا (فهو من المثبت بين اللوحين (6)
__________
(1) سورة الشمس، الآية 15.
(2) انظر السابعة لابن مجاهد ص 689 وجامع البيان للداني (197 / ب)
وغاية الاختصار للحافظ أبي العلاء 2/718 والنشر لابن الجزري 2/401 وغيرها.
(3) انظر السبعة لابن مجاهد ص689 وهجاء مصاحف الأمصار ص121.
(4) انظر الحجة لأبي علي الفارسي 6/420.
(5) انظر حصر هذه المواضع في فضائل القرآن لأبي عبيد ص 156، وهي اختلافات يسيرة جداً.
(6) انظر المصدر السابق ص162.
المصادر والمراجع
الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: محيي الدين رمضان، دمشق، دار المأمون للتراث، 1399 هـ.
إبراز المعاني ِمِِن حرز الأماني، أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، مصر، مصطفى البابي الحلبي 1402 هـ.
إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر، أحمد بن محمد البنا (الدمياطي، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، بيروت (دار عالم الكتب) ، القاهرة (الكليات الأزهرية) ، 1407هـ.
الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: مركز الدراسات والبحوث، الرياض، مكتبة نزار الباز 1417 هـ.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، بيروت، دار المعرفة.
إعراب القراءات الشواذ للعكبري، أبو البقاء عبد الله بن الحسين العُكبري، تحقيق: محمد السيد عزّوز، 1417 هـ، بيروت، عالم الكتب.
الإقناع في القراءات السبع، أحمد بن علي بن الباذش، تحقيق: د. عبد المجيد قطامش، مكة المكرمة، مركز البحث العلمي، 1403هـ.
الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات، إبراهيم بن سعيد الدوسري، الرياض، مكتبة الرشد، 1420 هـ.
الأمثال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، بيروت، دار المأمون للتراث، 1400 هـ.
إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، تحقيق: محيي الدين رمضان، 1390 هـ، دمشق، مجمع اللغة العربية بدمشق.
البحر المحيط في تفسير القرآن، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، الطبعة الثانية 1403هـ، بيروت، دار الفكر.
البرهان في علوم القرآن، محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
بستان الهداة، في اختلاف الأئمة والرواة، أبو بكر بن الجندي بن آيدُغْدي، تحقيق حسين العواجي، المدينة المنورة، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية، 1416هـ.
بيان السبب الموجب لاختلاف القراءات وكثرة الطرق والروايات (ضمن مجموع بعنوان نصوص محققة) ، أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، تحقيق: أ.د. حاتم صالح الضامن، بغداد، وزارة التعليم العالي.
التحبير في علم التفسير، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: د. فتحي عبد القادر، القاهرة، دار المنار، 1406 هـ.
التذكرة في القراءات الثمان، طاهر بن عبد المنعم ابن غلبون، تحقيق: أيمن رشدي سويد جدة، الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، 1412هـ.
التقريب والبيان في معرفة شواذ القرآن، عبد الرحمن بن عبد المجيد الصفراوي، تحقيق: أحسن سخاء بن محمد أشرف الدين، المدينة المنورة، رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية 1410هـ.
التلخيص في القراءات الثمان، أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري، تحقيق: محمد حسن عقيل، جدة، الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم 1412هـ.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري، تحقيق: محمد الفلاح، المغرب، الطبعة الثانية، 1402 هـ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن،أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1388هـ.
جامع البيان في القراءات السبع، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، مخطوط، محفوظ بدار الكتب المصرية رقم الحفظ 1966.
الجامع المعروف بسوق العروس، أبو معشر عبد الكريم ابن عبد الصمد الطبري (مخطوط) جزء فيه الأصول،نسخة برلين.
جمال القراء وكمال الإقراء، علي بن محمد السخاوي، تحقيق: د. علي البواب، مكة المكرمة، مكتبة التراث، 1408 هـ.
الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
الحجة للقراء السبعة،أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي، تحقيق: بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، دمشق، دار المأمون.
حرز الأماني ووجه التهاني (الشاطبية) ، أبو القاسم بن فيرُّة الشاطبي، تصحيح: علي بن حسن الضباع، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي 355هـ.
اختلاف المصاحف، محمد ابن أبي نصر الكرماني، مخطوط،محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 20073 ب.
دراسات لأسلوب القرآن الكريم، د. محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة، دار الحديث.
دقائق التفسير (الجامع لتفسير ابن تيمية) ، تحقيق: د. محمد السيد الجليند، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسسة علوم القرآن 1404 هـ.
السبعة في القراءات، أحمد بن موسى بن مجاهد، تحقيق: د. شوقي ضيف، الطبعة الثانية، القاهرة، دار المعارف.
سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وزملائه، بيروت، مؤسسة الرسالة.
شرح الدرة، عثمان بن عمر الزبيدي، تحقيق: عبد الرازق علي إبراهيم، صيدا، المكتبة العصرية، 1409هـ.
شرح الهداية، أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، تحقيق: د. حازم حيدر، الرياض، مكتبة الرشد، 1416 هـ.
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري الطبعة الثانية 1421 هـ، الرياض، دار السلام (طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني) .
صحيح مسلم، مسلم ابن الحجاج النيسابوري، الطبعة الثانية 1421 هـ، الرياض، دار السلام (طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني) .
طبقات الحنابلة،محمد ابن أبي يعلى الحنبلي، تحقيق: د. عبد الرحمن العثيمين، الرياض، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، 1419 هـ.
طيبة النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد ابن الجزري، عناية الشيخ محمدتميم الزعبي، جدة،دار الهدى،1414 هـ.
غاية الاختصار، أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني، تحقيق: أشرف طلعت، جدة، الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، 1414هـ.
غاية النهاية في طبقات القراء، محمد بن محمد بن الجزري، بيروت، دار الكتب، الطبعة الثالثة 1402هـ.
غيث النفع في القراءات السبع، علي النوري الصفاقسي، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة، 1373هـ.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي ابن حجر، تحقيق: عبد الرؤوف وزميليه، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1398هـ.
فضائل القرآن ومعالمه وآدابه، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، تحقيق: أحمد الخياطي،المغرب، مطبعة فضالة، 141ِ5 هـ.
الفروع،محمد ابن مفلح الحنبلي، بيروت، عالم الكتب، الطبعة الثالثة 1402 هـ.
قرّة عين القراء، إبراهيم بن علي القوّاس المَرَندي، مخطوط مصور في جامعة الإمام في الرياض، رقم الحفظ 6029.
القول الجاذّ لمن قرأ بالشاذّ، أبو القاسم محمد بن محمد النويري، تحقيق: أبو سنة (ملحق بشرح الطيبة للنويري ص 46 –88) ، مصر، مطبعة الأميرية 1406 هـ.
الكامل في القراءات الخمسين، أبو القاسم يوسف بن جبارة الهذلي، مخطوط، نسخة رواق المغاربة في الأزهر، رقم 369.
الكافية الشافية في علم العربية، محمد بن مالك الطائي، مكة المكرمة، 1332 هـ.
الكافي في القراءات السبع،محمد بن شريح الرعيني، تحقيق: أحمد محمود الشافعي، بيروت، دار الكتب العلمية.
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1401هـ.
الكنز في القراءات العشر، عبد الله ابن عبد المؤمن الواسطي، تحقيق: هناء الحمصي، بيروت، دار الكتب العلمية.
لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، بيروت، دار صادر.
لطائف الإشارات لفنون القراءات، أحمد بن محمد القسطلاني، تحقيق: الشيخ عامر السيد عثمان، د. عبد الصبور شاهين، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية1392هـ.
مجموع فتاوي شيخ الإسلام بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكة المكرمة، مكتبة النهضة.
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، أبو الفتح عثمان ابن جني الموصلي، تحقيق على النجدي ناصف، د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، دار سزكين، الطبعة الثانية 1406هـ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق ابن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد الله الأنصاري وزملائه، 1398 هـ، الدوحة.
المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، تحقيق: د. طيار آلتي قولاج، بيروت، دار صادر، 1395 هـ.
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، (إشراف يوسف المرعشلي،بيروت، دار المعرفة.
المستنير في القراءات العشر، أبو طاهر أحمد ابن سِوار، تحقيق: أحمد طاهر أويس، رسالة دكتوراه، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية 1413هـ.
المسند، أحمد ابن حنبل، حقق: تحت إشراف د. عبد الله التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413 هـ.
المصاحف، ابن أبي داود السجستاني،بيروت، دار الكتب العلمية، 1405 هـ.
المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر، المبارك بن الحسن الشهرزوري، تحقيق: إبراهيم بن سعيد الدوسري، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رسالة دكتوراه،1414 هـ.
المبهج في القراءات،سبط الخياط، (عبد الله بن علي البغدادي) تحقيق: د. عبد العزيز بن ناصر السبر، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رسالة دكتوراه، 1404 هـ.
مختصر في شواذ القرآن، الحسين أحمد ابن خالويه، بعناية برجشتراسر، مكتبة القاهرة.
معرفة القراء الكبار، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: د. طيار آلتي قولاج، إستانبول، مركز البحوث الإسلامية، 1416 هـ.
المفتاح في اختلاف القراء السبعة، عبد الوهاب بن محمد القرطبي، تحقيق: فهد المغذّوي، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية، رسالة ماجستير، 1421 هـ.
مفردة نافع (المفردات السبع) ، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، مصر، مكتبة القرآن.
المنتهي، أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، تحقيق: محمد شفاعت رباني، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية، رسالة دكتوراه، 1415 هـ.
منجد المقرئين ومرشد الطالبين، محمد بن محمد ابن الجزري، تحقيق: علي العمران، مكة المكرمة، دار عالم الفوائد، 1419 هـ.
النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد بن الجزري، إشراف علي الضباع، بيروت، دار الكتب العلمية.(12/227)
* * *
الخاتمة:
... بعون من الله تعالى وتوفيقه تيسرت دراسة معالم منهج الحكم على القراءات، وذلك من خلال إيضاح مفهوم الحكم على القراءات وبيان أصالته التاريخية وأهميته العلمية في الجوانب العقدية والفقهية، وتحديد أنواع القراءات ومراتبها، وفق الشروط التي اعتمدها أهل السنة والجماعة في قبول القراءة أوردها، وهي نقل الثقات، وموافقة الرسم تحقيقا أو احتمالا، وكونها غير خارجة عن لسان العربية.
وقد عني البحث بالخطوات العلمية للحكم على القراءات، وذلك عن طريق استقراء مصادرها، ودراستها في ضوء أقوال العلماء فيها للوقوف على درجة كل قراءة صحة وضعفاً.
... كما عني بالجانب التطبيقي، حيث تضمن دراسة نماذج متنوعة من القراءات المتواترة والشاذة حسب المعايير المعتبرة في الحكم على القراءات.
ومن ثم انتهى هذا البحث إلى نتائج متعددة، ومن أهمها:
إن القراءات تقع على قسمين أساسين، وهما:
القراءات المتواترة، وهي القراءات العشر التي عليها عمل القراء إلى وقتنا الحاضر.
القراءات الشاذة، وهي ما عدا تلك القراءات العشر.
شروط قبول القراءات الثلاث يرجع أصلا إلى العرْضة الأخيرة، وهي مستقاة مما تواتر نقله عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
القراءات المقروء بها اليوم هي القراءات العشر، وكلها متواترة، وما كان منها صحيح مستفاض مما هو من قبيل الأداء فهو ملحق بالمتواتر حكما، لأنه من القرآن المقطوع به.
ليس كل ما يعزى إلى القراء السبعة أو العشرة تجوز القراءة به، بل لا بد من اتصال المشافهة والتلقي.
ليس كل ما حكم بصحته تجوز القراءة به، إذ لا بد من استمرار النقل على وجه المشافهة.
كتاب إتحاف فضلاء البشر من أيسر الكتب وأجمعها لمعرفة ما يقرأ به في الوقت الحاضر، وذلك عن القراء العشرة.(12/228)
ربما وقع في الكتب التي اشترطت الصحة قراءات شاذة ككتاب السبعة، وكذلك العكس، فربما وقع في الكتب المختصة بالشاذ قراءات متواترة ككتاب المحتسب.
كل ما وافق القراءات السبع أو العشر المتواترة لا يجوز الحكم عليه بالشذوذ، لأن العبرة بوجه القراءة لا بمن نسبت إليه.
لا يجوز رد القراءات المتواترة أو الطعن فيها، وما ورد عن بعض الأئمة في ذلك فإنه يحمل على وجه الاختيار.
إذا ثبتت القراءة فلا يضرها تضعيف النحاة أو غيرهم لها.
تتبع القراءة في أكثر مصادرها يساعد على الكشف عن قراء آخرين، مما يدفع تفردها عن أحد من القراء أو الرواة أو الطرق أو الكتب.
خلو بعض المصادر من بعض أوجه القراءات لا يخدش فيما ذكر من القراءات الثابتة في نظائرها من المصادر الأخرى، وإنما يدل على ورود الوجهين المذكور والمتروك عن القارئ حسب الطرق التي أدت تلك الروايات والقراءات إلى تلك المصادر.
مذهب السلف أن كل قراءة خالفت الرسم فهي شاذة وليست تفسيراً، ولكن حكمها حكم التفسير.
مصطلح الشاذ عند القراء ما افتقد منه أحد أركان صحة القراءة الثلاثة المشهورة.
أن وصف الشذوذ في القراءة لا يقتضي الضعف في الشاذ جميعه، وإنما يقضي بمنع القراءة بها.
ولقد تأكد من خلال هذا البحث أمران مهمان للغاية يجب العناية بهما، وهما:
أولاً: المحافظة على تلقي القراءات العشر المتواترة واستمرار المشافهة بها، وتلقينها للناشئة جيلاً إثر جيل.
ثانياً: نشر مصادر القراءات المتواترة والشاذة.
فهذان أمران بإذن الله تعالى يضمنان الحفاظ على القراءات ويحميانها من الاندثار، ويبرزان محاسنها للعالمين.
وبعد: فإن هذا البحث لا يعدو إلا أن يكون إسهاما ضئيلاً ومحاولة لإيضاح ملامح الحكم عند علماء القراءات، ولعلّ الباحثين في هذا العلم يبرزون تلك الملامح في دراسات واسعة ومتنوعة.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خاتم المرسلين،(12/229)
من محتويات سورة هود على الدعوة إلى الله
الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب
الأستاذ المساعد بقسم الدعوة- كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
ملخص البحث
تعرضت في هذا البحث لأصول دعوة الأنبياء لاشتمال سورة هود على الكثير من ذلك فذكرت عرضاً عن قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم، كما ذكرت من شأن هذه السورة أنها هي وأخواتها: عم يتساءلون، إذا الشمس كورت، والمرسلات شيبت رسول الله (وذكرت في البحث مكانة الاستقامة وعظم أمرها حيث أمر بها رسول الله (وموسى وهارون وبينت أن هذه السورة بدئت بالهدف المقصود من العباد وهو إفراد الله وحده بالعبادة، واختتمت به، كما بينت أن الغيب لا يعلمه إلا الله وإن الملائكة لا يعلمون منه إلا ما علمهم الله، كما أوضحت أن إرسال الرسل وإنزال الكتب إنما هو من أجل إقامة توحيد الله في أرضه.
* * *
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمَّد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فإِنَّه لمّا كانت الرسل عليهم صلوات الله وسلامه هم مصدر الدعوة إلى الله، وكانوا الأسوة الحسنة، والقدوة المتّبعة في شئون الدعوة؛ كان لزامًا على الدعاة أن يقفوا على دعواتهم ويقتدوا بهم في كلّ مراتب دعواتهم ليتعلّموا طريق الدعوة وأساليبها ومناهجها ووسائلها من خلال قصصهم في القرآن الكريم، لأنّ الله ما قصّ علينا قصصهم في كتابه إِلاَّ لنقتفي أثرهم ونعتبر بحالهم فنصبر كما صبروا، وندعو كما دعوا، ونتسلى بما أصابهم.
ولمّا كانت سورة هود (من السور الَّتي ذكر الله فيها جزءًا كبيرًا من قصص الرسل، وكيف صبروا على أذى المدعوين وسخريتهم، وكيف كانت عاقبة مكذّبيهم؛ جعلتها موضوعًا لهذا البحث المتواضع.(12/230)
فسورة هود تعرّضت لقصص الأنبياء بالتفصيل، فقد تعرّضت لدعوة نوح وهود وصالح وشعيب وموسى عليهم وعلى نبيّنا أتمّ الصلاة والتسليم، وبدأت بقصة نوح (لأَنَّه الأب الثَّاني للبشر من بعد الطوفان، قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ((1) ، وهو أطول الأنبياء عمرًا، وأكثرهم بلاءً وصبرًا، فقد صبر على الدعوة ألف سنة إِلاَّ خمسين عامًا وهو يدعوهم إلى الله، ولم يؤمن به في هذه المدّة إِلاَّ القليل، كما قال تعالى: (وَمَاءَامَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ((2) . ثُمَّ ثنّت بذكر قصّة نبي الله هود، ثُمَّ قصّة صالح، ثُمَّ شعيب، ثُمَّ موسى، وختمت بتوجيه الخطاب لخاتم الرسل محمَّد (بالاستقامة والصبر والثبات على الدعوة إلى الله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ((3) . وأعقبت ذلك ببيان الحكمة من ذكر قصص الأنبياء ليثبت قلب النَّبي (أمام الصعوبات الَّتي يلاقيها أثناء دعوته: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ((4) . فهي بدأت بتقرير أصول الدين، وإقامة الأدلة والبراهين على وجود الله ووحدانيته، وردّ الشبه الَّتي كان أعداء الإسلام يثيرونها حول القرآن والرسالة المحمّدية، حيث تعرّضت لعناصر الدعوة الَّتي هي: التوحيد، والرسالة، والدعوة، وفرّقت بين الأعمى عن دعوة الحقّ وبين من بصّره الله فأنار بصيرته فاستجاب لها، ثُمَّ شرعت تسرد قصص الرسل حتَّى ختمت بما بدأت به من التوحيد: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() الآية 77 من سورة الصافات.
(2) الآية 40 من سورة هود.
(3) الآية 112 من سورة هود.
(4) الآية 120 من سورة هود.(12/231)
تَعْمَلُونَ ((1) .
وكانت هذه السورة من أعظم السور وأشدّها على رسول الله (هي وأخوات لها من سور القرآن، فقد ورد عنه من طرق متعدّدة أَنَّه شيّبته هود وأخواتها، أخرج الحاكم في المستدرك بسنده إلى ابن عبّاس قال: قال أبو بكر الصدّيق (لرسول الله (: أراك قد شبت، قال: ((شيّبتني هود، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت)) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه (2) ، وسكت عليه الذَّهبيّ في التلخيص، وأخرجه التِّرمذيّ في تفسير سورة الواقعة، وزاد: والمرسلات، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث ابن عبّاس إِلاَّ من هذا الوجه (3) ، وذكره العجلوني في كشف الخفاء بعدّة روايات وطرق عن ابن مردويه والبزار وغيرهما، فانظره (4) .
هذا وقد قسّمت الكلام في هذا الموضوع إلى: مقدّمة وتمهيد ومباحث عدّة.
أمّا المقدّمة فقد ذكرت فيها محتويات سورة هود عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام على الدعوة عن طريق الإجمال.
وأمّا التمهيد فذكرت فيه تعريف الدعوة لغة واصطلاحًا.
وأمّا المباحث فهي بحسب ما ذكر في السورة الكريمة مما له تعلّق بالدعوة تعلّقًا واضحًا. وقد وصلت إلى ثمان مباحث.
***
التمهيد: تعريف الدعوة لغة
__________
(1) الآية 123 من سورة هود.
(2) المستدرك: 2/343.
(3) سنن التِّرمذيّ، تفسير سورة الواقعة.
(4) كشف الخفاء ومزيل الإلباس: 2/20 21.(12/232)
الدعوة: المرّة الواحدة من الدعاء، واسم الفاعل منها: داعٍ، تقول: دعاه يدعوه؛ فهو داع له، وقوله تعالى: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ( [الأحزاب/46] معناه: داعيًا إلى توحيد الله وما يقرّب منه، وجمع الداعي: دعاة وداعون، كقضاة وقاضون، والدعاة: قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، واحدهم داع، ورجل داعية إذا كان يدعو النّاس إلى بدعة أو دين، والهاء للمبالغة، والنبي (داعي الله تعالى، وفي تهذيب اللغة: المؤذّن داعي الله، والنبي داعي الأمّة إلى توحيد الله وطاعته، قال تعالى في شأن الجنّ: (يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ (
[الأحقاف/31] ، ودعوة الحق شهادة أن لا إله إِلاَّ الله، والدعاء إلى الشيء: الحثّ على قصده، ومنه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ( [يوسف/33] (1) .
فتحصّل أن الدعوة إلى الله هي دعوة الحقّ، ودعوة الحق هي شهادة أن لا إله إِلاَّ الله، وأنها تطلق على الدعوة إلى هدى أو ضلالة، وتطلق على الدعاء إلى الشيء والحثّ على قصده.
أمّا في الاصطلاح:
فقد عرّفها بعض المتأخرين مثل محمَّد الرَّاوي في كتابه ((الدعوة إلى الإسلام دعوة عالمية)) بتعريفين:
الأَوَّل، قال: الدعوة الإسلامية هي: دين الله الَّذي بُعث به الأنبياء جميعًا، تجدّد على يد محمَّد (خاتم النبيين كاملاً وافيًا لصلاح الدنيا والآخرة.
وقال أَيضًا: الدعوة الإسلامية: تبليغ رسالة النَّبي ((2) .
__________
(1) طالع لسان العرب لابن منظور: 14/225 229، وتهذيب اللغة لأبي منصور: 3/120 وتاج العروس للزبيدي: 10/128.
(2) الدعوة إلى الإسلام دعوة عالمية، محمَّد الرَّاوي.(12/233)
وعرّفها الدكتور أبو بكر زكرى فقال: الدعوة هي: قيام من له أهلية النصح والتوجيه السديد من المسلمين في كلّ زمان ومكان بترغيب النّاس في الإسلام اعتقادًا ومنهجًا، وتحذيرهم من غيره بطرق مخصوصة (1) .
وعرّفها الأستاذ محمَّد الغزالي فقال: هي برنامج كامل يضمّ في أطوائه جميع المعارف الَّتي يحتاج إليها النّاس ليُبصروا الغاية من محياهم، وليستكشفوا معالم الطريق الَّتي يجمعهم راشدين (2) .
وعرّفها آخرون بتعاريف أعرضنا عن ذكرها؛ ففي ما ذكرنا كفاية. وأشمله في رأيي تعريف الغزالي.
المبحث الأَوَّل: حكم الدعوة إلى الله، واختلاف العلماء في ذلك، وسببه
__________
(1) الدعوة إلى الإسلام، للدكتور أَبي بكر زكرى، ص8، مكتبة دار العروبة، القاهرة.
(2) مع الله، ص17، ط دار الكتب الحديثة بمصر.(12/234)
إنّ الله (أمر نبيّه محمَّدًا (في غير ما آية من كتابه بالدعوة، كما أمر هذه الأمّة المحمّدية بالدعوة إلى الله، وأخبر تعالى أنّ فضل هذه الأمّة على الأمم السابقة إِنَّما هو بسبب أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وذمّ - سبحانه وتعالى - بني إسرائيل لعدم تناهيهم عن المنكر، وأخبر - سبحانه وتعالى - عن نفسه أَنَّه يدعو إلى الحقّ وأنّ له دعوة الحقّ، وأَنَّه يدعو إلى دار السلام، وأمر النَّبي (أصحابه أن يبلّغوا عنه ولو آية، كما أمرهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك موضّحًا، فبان مما ذكر أن للدعوة إلى الله أهميّة بالغة، وأجمعت الأمّة على وجوبها، إِلاَّ أن العلماء اختلفوا هل هذا الوجوب المتّفق عليه على الأعيان بحيث يكون القيام بالدعوة واجبًا على كلّ فرد من أفراد الأمّة الإسلامية، وكلّ من تركه يأثم؟ أم هو وجوب كفاية يكفي في الخروج من عهدة الأمر به قيام بعض الأمّة به دون النظر إلى فاعله، فكل طائفة من المسلمين قامت به سقط الوجوب عن باقي المسلمين؟ وسأذكر كلام العلماء في ذلك إن شاء الله بعد سرد الآيات الَّتي فيها الأمر للنبي (وللأمّة بالدعوة، والآيات الَّتي أخبر فيها - سبحانه وتعالى - أَنَّه يدعو إلى الجنّة ونحو ذلك اهـ.
أمره (بالدعوة هو وأمّته
قال تعالى مخاطبًا له عليه الصلاة والسلام: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ((1) .
يلاحظ أَنَّه جمع الأمر له ولأمّته في هذه الآية، وإن كان الأمر له أمرًا لها لأنّ أمر القدوة أمر للأتباع، وقال تعالى: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ((2) ، وقال تعالى: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
__________
(1) الآية 108 من سورة يوسف.
(2) الآية 67 من سورة الحج.(12/235)
الْمُشْرِكِينَ ((1) ، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ((2) ، وقال تعالى معمّمًا ومخبرًا أَنَّه لا أحد أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إِنَّه من المسلمين فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ((3) ، وقال تعالى آمرًا هذه الأمّة بالدعوة إلى الله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ((4) ، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ ((5) ، وقال تعالى ذامًّا لبني إسرائيل: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ((6) ، وقال تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ((7) .
دعوة الله عبادَه إلى الخير
__________
(1) الآية 87 من سورة القصص.
(2) الآية 125 من سورة النحل.
(3) الآية 33 من سورة فصلت.
(4) الآية 104 من سورة آل عمران.
(5) الآية 110 من سورة آل عمران.
(6) الآية 79 من سورة المائدة.
(7) الآية 63 من سورة المائدة.(12/236)
قال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ((1) . يعني الجنّة، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ((2) ، وقال تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ((3) .
أمره (الأمّة بالدعوة
أخرج البخاريّ في صحيحه بسنده إلى أَبي بكرة أن النَّبي (قال في حجّة الوداع يوم النحر ... ((أيّ يوم هذا؟ إلى أن قال: ليبلّغ الشاهد الغائب، فإِنَّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى منه)) (4) ، وقال (: ((بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار)) (5) .
المبحث الثاني: في اختلاف العلماء في حكم الدعوة، وسببه
اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في حكم الدعوة إلى الله تعالى، هل هي فرض عين أو فرض كفاية؟ وقد قدّمنا سرد الآيات الَّتي فيها الأمر الصريح للنبي (وللأمّة بالدعوة.
__________
(1) الآية 25 من سورة يونس.
(2) الآية 122 من سورة البقرة.
(3) الآية 10 من سورة إبراهيم الخليل (.
(4) أَخرَجه البخاريّ في كتاب العلم، في باب: ربّ مبلّغ أوعى من سامع، وفي الحج، في باب: الخطبة أيام منى.
(5) البخاريّ، كتاب الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل. والترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل.(12/237)
والمقرّر في علم الأصول والَّذي كان عليه القرون المفضّلة أن الأمر للوجوب إِلاَّ إذا وجدت قرينة تصرف عن ذلك الوجوب وهي هنا معدومة، فحصل الاتفاق على الوجوب، إِلاَّ أن الكثير من العلماء يقول: هي فرض كفاية يسقط بفعل البعض (1) لأنّ الشارع ينظر إلى الفعل دون النظر إلى فاعله في فرض الكفاية، بخلاف فرض العين فإِنَّ الشارع ينظر فيه إلى كلّ عين من أفراد المكلّفين، كالصلاة والصوم والزكاة مثلاً، أمّا إنقاذ الغريق مثلاً فهو فرض كفاية، وأي فرد من أفراد الأمّة أنقذه سقط الإثم عن الباقين، ولو تركوا إنقاذه أثموا جميعًا وهلم جرًّا.
سبب الخلاف
إنّ سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة اختلافهم في فهم المراد ب (مِن) من قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ((2) .
قالوا: إنّ الدعوة إلى الخير تشمل مصالح العباد في دنياهم وأخراهم، وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعدها من باب ذكر الخاص بعد العام إيذانًا بفضلهما، أو المراد ذكر الدعاء إلى الخير مفصّلاً بعد الدعاء إليه مجملاً فلزمت دعوة الأمّة لهذا الخير العظيم الَّذي يشمل مصالح العباد في دنياهم وأخراهم، ثُمَّ قال بعضهم: إن هذا التبليغ يصحّ من بعضهم دون الجميع، وقال بعضهم: إِنَّه يلزم جميع أفراد المكلّفين أن يكونوا دعاة إلى الله حسب استطاعتهم.
__________
(1) انظر روح المعاني: 3/21، ط دار الطباعة المنيرية.
(2) الآية 104 من سورة آل عمران.(12/238)
فالذين قالوا إِنَّها فرض كفاية قالوا: إن (مِن) من قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ ... (للتبعيض، وقالوا: إنّ الآمِرين يجب أن يكونوا علماءَ وليس كلّ النّاس علماءَ، والذين قالوا إِنَّها فرض عين قالوا: إن (مِن) لبيان الجنس، وأن المعنى: لتكونوا كلّكم دعاة إلى الخير، والقول الأَوَّل نصره القرطبي في مواضع من تفسيره، وقد قال بعد نقله كلام العلماء في المسألة ما نصّه: قلت: القول الأَوَّل أصح فإِنَّه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عيّنهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ((1) ، وليس كلّ النّاس مُكّنوا (2) .
وقال الآلوسي في روح المعاني: (مِن) هنا قيل: للتبعيض، وقيل: للتبيين وهي تجريدية كما يقال: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر، يريد بذلك جميع الأولاد، ومنشأ الخلاف أن العلماء اتفقوا على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولم يخالف في ذلك إِلاَّ النزر ... قالوا إِنَّه من فروض الأعيان (3) .
__________
(1) الآية 41 من سورة الحج.
(2) القرطبي: 4/165، ط الثانية، دار الكتب بمصر.
(3) الآلوسي: 2/238، توزيع دار الباز.(12/239)
ثُمَّ إن الَّذين قالوا بالكفاية اختلفوا هل واجب الكفاية واجب على جميع المكلّفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم، أو هو واجب على البعض؟ ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثَّاني للاكتفاء بحصوله من البعض، ولو وجب على الكلّ لم يكتف فيه بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلّف بفعل غيره، وذهب إلى الأَوَّل الجمهور، وهو ظاهر نصّ الإمام الشَّافعيّ في الأمّ، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه، ولو لم يكن واجبًا عليهم كلّهم لما أثموا بتركه، وأجيب من جهة الفريقين بأجوبة يطول ذكرها (1) .
(قلت) جمهور علماء الأمّة على أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية يأثم جميع المكلّفين بترك ذلك، ويسقط عنهم الإثم إذا قام البعض بذلك، ولهذا عدَّ الأصوليون هذا النوع من فروض الكفاية، قال صاحب مراقي السعود:
فروضه القضا كنهيٍ أمرِ
(
ردِّ السلام وجهادِ الكفرِ
__________
(1) انظر روح المعاني للآلوسي: 2/238، توزيع دار الباز.(12/240)
كنهي أمر يعني بذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قلت: هكذا قرّر الجمهور، لكن مذهبهم يعكر عليه ما ثبت في السنّة الصحيحة مما ظاهره وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كلّ مكلّف، ففي صحيح مسلم في باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان من حديث ابن أَبي شيبة ما نصّه: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (يَقُولُ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)) ، وفيه أَيضًا من حديث عبد الله بن مسعود (أن رسول الله (قال: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ؛ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)) (1) .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان ... إلخ: 1/69 70، دار الفكر، بيروت، تحقيق فؤاد عبد الباقي.(12/241)
وقد حكى ابن عبد البرِّ الإجماع على وجوب تغيير المنكر على كلّ من قدر عليه، وأَنَّه إذا لم يلحقه بتغييره إِلاَّ اللوم الَّذي لا يتعدى إلى الأذى فإِنَّ ذلك لا يمنعه من تغييره (1) .
وقال ابن العربيّ: إنّ من رجا زوال المنكر وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرجّح زواله فأي فائدة عنده؟ ثُمَّ قال: والَّذي عندي أن النيّة إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي (2) . وقد قال قبل كلامه هذا بأسطر: قال بعض علمائنا: هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنْ أدّى ذلك إلى قتل الآمر به (3) .
والمراد بالآية الَّتي ذكر قوله تعالى في آل عمران: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ((4) .
(قلت) هذا التصريح من النَّبي (بالأمر الصريح الصحيح بصيغته الصريحة الَّتي هي الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر (فليغيره) مرتّبًا ذلك على ما في وسع المكلّف وإخباره أن ترك ذلك ما وراءه شيء من الإيمان، وتعبيره عليه الصلاة والسلام بمَن الدالة على العموم الشامل لجميع أفراد المكلّفين كل هذا يدل على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين هما أساس الدعوة إلى الله لزومًا عينيًا بالإضافة إلى ما ذكره ابن عبد البر من الإجماع على أنّ تغيير المنكر واجب على كلّ من قدر عليه، ومع هذا فإِنَّ مذهب الجمهور مخالف
__________
(1) بواسطة نقل القرطبي: 4/48.
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/266 267، ط دار المعرفة.
(3) المصدر السابق.
(4) الآية 21 من سورة آل عمران.(12/242)
لهذا، ولفظ الآية على أن (مِن) فيه للتبعيض يؤيّد مذهب الجمهور كما يؤيده الفرق الَّذي جعله علماء الأصول بين فرض العين وفرض الكفاية، وهو أن فرض الكفاية يتميّز عن فرض العين بأنه لا تتكرّر مصلحته إذا فعل، فمثلاً يقولون: إنقاذ الغريق واجب كفاية؛ فإذا غرق غريق ووجد من ينقذه من البحر، فلو غمس المنقذ مرّة أخرى في البحر لم يُحصّل فائدة، بخلاف فرض العين فإِنَّ المصلحة تتكرر من فعله دائمًا كما في تكرير الصلوات الخمس من الخشوع والانكسار أمام الخالق فإِنَّ هذه المصلحة تتكرّر بتكرّر الصلاة.
وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
مزه من العيني بأن قد حظلا
(
تكريرُ مصلحته إن فُعلا
وعلى هذا فيتعذّر كون النهي عن منكر بعينه فرض عين لأنّ ذلك المنكر إذا غيّره أحد وتغيّر بالفعل لم يبق هناك شيء مطالب به ذلك المغيِّر مرّة أخرى ولا غير مطالب به أَيضًا، وعلى هذا فلا بد من تلمّس جمع بين القولين لأنّ إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما وإلغاء الآخر، والجمع واجب بين الأدلة متى أمكن.
الجمع بين القولين:
الَّذي يظهر لي والله تعالى أعلم أَنَّه يتعيّن الجمع بين القولين المتقدّمين، ووجه الجمع عندي أنّ الأمر بالمعروف الَّذي هو الدعاء إلى الخير والنهي عن المنكر الَّذي هو الزجر عن الشر وهذا أمران أساسيان للدعوة إلى الله ولاسيما في زمننا هذا ينقسمان إلى قسمين: عام وخاص.(12/243)
فالقسم الخاص هو الَّذي يعنيه القائلون بوجوبهما وجوبًا عينيًا، وبيان ذلك أن كلّ إنسان راع ومسئول عن رعيّته مثل الرَّجل في بيته مع أولاده وزوجاته وجيرانه وزملائه في التّعليم والعمل والسفر فيجب على كلّ مكلّف أن يأمر أهله وجيرته وزملاءه بالخير وينهاهم عن الشر امتثالاً لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ ... ((1) ، وتطبيقًا للأحاديث الكثيرة الَّتي ورد فيها التوكيد على الأمّة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلّ فرد لم يتّصف بهاتين الصفتين لم توجد فيه صفة الإيمان الَّتي وصف الله بها المؤمنين في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ((2) بل اتصف بصفات المنافقين الَّتي وصفهم الله بها في قوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ... ((3) ، ودخل في الذمّ الَّذي ذمّ الله به بني إسرائيل في قوله: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ((4) ، وفي قوله فيهم أَيضًا: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ((5) . ولا ريب أن الغالب من المسلمين لا يجهلون وجوب الصلاة والصيام والزكاة ومعنى الشهادتين ومعنى الإسلام في الجملة وذلك كان في القيام بالدعوة على هذا النحو؛ وهو يشمل العالم والمثقّف والعامل والصانع
__________
(1) الآية 6 من سورة التحريم.
(2) الآية 71 من سورة التوبة.
(3) الآية 67 من سورة التوبة.
(4) الآية 79 من سورة المائدة.
(5) الآية 63 من سورة المائدة.(12/244)
ومن دونهم ثقافة وعلمًا، فالمدار على معرفة الداعي ما يدعو إليه، ومن هنا تكون الدعوة إلى الله فرض عين، ويؤيّد ذلك ظاهر قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ((1) ، فإذا حملنا هذه الآيات الَّتي فيها التوكيد بالأمر بالمعروف والنهْي عن المنكر على خصوص أفراد في خصوص جماعات وأوقات وأماكن كما ذكرنا وأوجبنا عليهم أن يكونوا في جميع حالاتهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إيجابًا عينيًا في هذه الأوقات وهذه المجتمعات الخاصة بكلّ فرد وجعلنا (مِن) في الآية معناها التبعيض كان المعنى أَنَّه لا بُدّ لمن يلي أمر المسلمين أن يخصص جماعة من علماء الأمّة يعرفون ما يأمرون به ويأتونه، ويعرفون ما ينهون عنه ويبتعدون منه، وأن يجعل في كلّ قطر من الأقطار جماعة بهذا الشكل يدعون إلى دين الله وتوحيده وعبادته والاستقامة على ذلك يعرفون الحلال والحرام ويتخصصون في رسم السبل الَّتي تعيد للأمّة قوّتها ومجدها وللإسلام مكانته في قيادة النّاس إلى الخير، فإذا قامت هذه الطائفة بالدعوة إلى الله كان مَن سواهم من الأمّة غير آثم بتركه هذه المهمة لأَنَّها قام بها من هو أهل لها، لكنَّ بقيّة الأمّة مطالبون بالدعوة في حقّ أهليهم وجيرانهم كما تقدّم، ولا يقول عاقل إن من رأى منكرًا يُرتكب في بيته أو في مقرّ عمله أو في جيرانه يقول لا عليّ لأنّ هناك جماعة ذهبت إلى أوربا وأمريكا دعاة فننتظر قدوم هذه الجماعة ليغيّروا هذا المنكر؛ هذا لا يقوله عاقل، وإن لم يفعل ذلك من يقوم بأمر المسلمين أثم وأثمت الأمّة بسكوتهم على ذلك، إذا فعلنا ما ذكر نكون جمعنا بين القولين، والجمع واجب إذا أمكن، والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: في بيان الهدف من الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -
__________
(1) الآية 110 من سورة آل عمران.(12/245)
وذلك ما بدئت به سورة هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو إفراد الله وحده بالعبادة دون سواه فهذا هو الَّذي بعثت الرسل من أجله، ودارت فيه المعارك بين الحقّ والباطل، واهتم به القرآن الكريم في السور المكيّة اهتمامًا بالغًا فلا تكاد تقرأ سورة من السور المكيّة إِلاَّ وفيها تقرير التوحيد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ((1) .
هذه الآية الَّتي هي قوله: (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (فيها الدلالة الواضحة على أنّ الحكمة العظمى الَّتي أنزل القرآن من أجلها هي أن يُعبد جَلَّ وَعَلا وحده ولا يشرك به في عبادته شيء لأنّ قوله جلّ وعلا: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ (صريحٌ في أنّ آيات هذا الكتاب فصّلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده سواء قلنا إن (أَنْ) هي المفسَرة، أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، فمعنى الآية: أن تفصيل القرآن هو أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به شيء، ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((2) ، ومعلوم أن إِنَّما من صيغ الحصر فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى لا إله إِلاَّ
الله (3) ، وهذا هو أساس الدعوة إلى الله بلا شكّ.
__________
(1) الآيتان 1 2 من سورة هود.
(2) الآية 108 من سورة الأنبياء.
(3) انظر أضواء البيان: 3/7 8، ط المدني.(12/246)
أمّا الآيات الدالة على أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده فهي كثيرة مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ... ((1) ، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ((2) ، وقوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ((3) ، وقد بيّن تعالى هذا المعنى الَّذي هو تحقيق معنى لا إله إِلاَّ الله في سورة الفاتحة بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ((4) ، لأنّ معنى لا إله إِلاَّ الله مركّب من أمرين: نفي وإثبات، فالنفي هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات هو إفراد ربّ السماوات وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، وأشار إلى النفي من لا إله إِلاَّ الله بتقديم المعمول الَّذي هو إياك، وقد تقرّر في علم الأصول وعلم المعاني أن تقديم المعمول من صيغ الحصر، وأشار إلى الإثبات منها بقوله: نعبد، وقد بيّن هذا المعنى المشار إليه هنا في قوله: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... (، وصرّح بالنفي منها في قوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ((5) .
__________
(1) الآية 36 من سورة النحل.
(2) الآية 5 من سورة الأنبياء.
(3) الآية 45 من سورة الزخرف.
(4) الآية 4 من سورة الفاتحة.
(5) طالع أضواء البيان: 1/34 35، المصدر السابق.(12/247)
قلت: وهذا هو مضمون آية هود المتقدّمة (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (فقوله: إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم تعليل لأمره لهم بعبادة الله وحده يحمل في طيّاته التهديد الشديد لمن لم يعبد الله وحده، وهذه هي وظيفة الدعاة، يبشّرونَ وينذرون، فالرسل بعثوا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للنّاس على الله حجّة، كذلك ينبغي للدعاة أن يسلكوا مسلكهم ويقْفوا أثرهم فيقيموا دعوتهم على ما أقام عليه الرسل دعوتهم، وهذا ما أشار إليه آخر آية هو السابقة.
المبحث الرابع: في الفرق بين من استجاب للدعوة وأصغى لها وقبلها وبين من أعرض عنها وصار بمنزلة الأعمى والأصم عن الحق(12/248)
وهذا ما أشارت إليه الآية من سورة هود (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ((1) . يعني أن حالة الفريقين المعرضين عن دعوة الرسل المكذبين لها والمؤمنين المستجيبين لها تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من جهة، وقد سبق ما يؤذن بهذين الفريقين في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (، إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ (ومعنى الفريق هو الجماعة الَّتي تفارق أي يخالف حالهُا حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة كما في قوله تعالى: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ((2) . فالحاصل أن الآية شبّهت حال فريق الكفّار الَّذين أعرضوا عن الدعوة وتركوها وراء أظهرهم في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى، وشبّهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم، وشبهت حال فريق المؤمنين الَّذين استجابوا لدعوة الرسل بحال من كان سليم البصر سليم السمع فهو في هدى ويقين من مُدْرَكاته، ومعلوم أن المشبهين بالأعمى والأصم هم الفريق المقول فيهم: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (، فهم يشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل الَّتي طريق إدراكها البصر، ويشبهون الأصَمَّ في عدم فهم المواعظ النافعة الَّتي طريق فهمها السمع، فهم في حالتين كلّ منهما مشبه به، فهو تشبيه معقولين بمحسوسين (3) .
__________
(1) الآية 24 من سورة هود.
(2) الآية 81 من سورة الأنعام.
(3) طالع التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور: 6/40 42، ط مكتبة ابن تَيْمِيَّة.(12/249)
قلت: هكذا الأمثال الَّتي يضربها الله للنّاس في القرآن تشتمل على تشبيه أمر أو أمور معقول أو معقولة بأمور محسوسة، فيجعل المعقول في قالب المحسوس فيصير المعنى المعقول كأنه مدرك بإحدى الحواس الخمس.
وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: فالكافر أعمى عن وجه الحقّ في الدنيا وفي الآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به، وأمّا المؤمن ففطن ذكي لبيب، بصير بالحق يميّز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر، سميع للحجّة يفرّق بينها وبين الشبهة، فلا يرجع إليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا؟ (1) .
قال الآلوسي في روح المعاني عند تفسير هذه الآية ما نصّه: وفي البحر لم يجئ التركيب: كالأعمى والبصير والأصم والسميع ليكون كلّ من المتقابلين على إثر مقابلة لأَنَّه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأسلوب في المقابلة، والأتمُّ في الإعجاز، فانظره (2) .
وقيل إن التمثيل بأمر واحد، وعليه يكون تقدير الكلام: كالأعمى الأصمّ والبصير السميع، ودخلت واو العطف كما تقول: جاءني زيد العاقل والكريم؛ وأنت تريده بعينه، فهو على هذا تمثيل بواحد (3) . وذكر هذا المعنى أَيضًا أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير الآية فقال: ... وقيل: كالأعمى والأصم، والمعنى: كالأعمى الأصم، وكذلك قيل: والسميع والبصير، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل: قام الظريف والعاقل؛ وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا (4) .
__________
(1) طالع تفسير ابن كثير: 2/423، ط دار الجيل، بيروت.
(2) 6/235، المصدر السابق.
(3) انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي: 7/268.
(4) ج 7، جزء 22، ص17.(12/250)
قلت: هذا حال النّاس اليوم مع الدعاة، فبعض النّاس معرض عن سماعه لا يدع فرصة للدعاة حتَّى يبلّغوه، ولا يترك لهم مجالاً، فهو معرض عنهم بقلبه وقالبه، وبعضهم لله الحمد يستجيب ويصغي وينتفع، وهكذا سنّة الله في خلقه، ما من داع يدعو إلى خير إِلاَّ وجد من يقف أمام دعوته منفّرًا منها مبعدًا النّاس عنها، ووجد أَيضًا من يستجيب لدعوته، إِلاَّ أن أكثر من يستجيب للدعوة قديمًا وحديثًا ضعاف النّاس، وأكثر من يقف أمامها أهل الجاه والمكانة، وهذه السنّة جارية في خلق الله إلى يومنا هذا، فأهل الجاه من أهل التّصوّف وغيرهم ممن درجوا على التقليد الأعمى يقفون أمام الدعوة وينفّرون النّاس من حضور مجالس الدعاة والاستماع إلى ما يدعون إليه دون أن يعلموا ما يقولون، (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... ((1) . ويؤيد ما ذكر أنّ دعوة رسولنا محمَّد (غالب من استجاب لها على الفور ضعاف المسلمين كعمّار وسميّة وبلال وابن مسعود ونحوهم، وأوّل من وقف أمامها عظماء قريش كأبي جهل، وأَبي لهب، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وأخيه شيبة، وغيرهم. وفي الحديث الصحيح الَّذي أَخرَجه البخاريّ في صحيحه في اثنتيْ عشر موضعًا منه ما يدل على ما ذكرنا وهو حديث أَبي سفيان الطويل في شأن كتاب رسول الله (إلى هرقل عظيم الروم، وكان أبو سفيان في ركب من قريش هناك، فأرسل إليهم هرقل وكانوا تجّارًا بالشام فدعاهم فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرَّجل الَّذي يزعم أَنَّه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أَدْنُوه مني وقَرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثُمَّ قال لهم: إني سائل هذا الرَّجل فإن كذبني فكذّبوه ... إلى أن قال: فأشراف النّاس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهذا محلّ الشاهد من الحديث، وهو طويل جدًّا ...
__________
(1) الآية 39 من سورة يونس.(12/251)
اهـ. (1) .
المبحث الخامس: المبحث الخامس في بعض ما احتوت عليه سورة هود من دعوة نبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
إن نبيّ الله نوحًا قد رسم للدعاة منهجًا حكيمًا في دعوته يسيرون عليه، فقد اشتهر بالصبر على الدعوة وتحمّل الأذى فيها والتغاضي عن زلات قومه والنصح لهم ولين الجانب معهم، وهذا بعينه هو ما يجب على الدعاة أن يقتفوه ويتّصفوا به تأسيًا بهذا الرسول الكريم، كما سلك معهم الأساليب الحكيمة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى غير ذلك من أنواع دعوته المتنوعة، وقد ذكر القرآن قصّته في عشر سور منه مطوّلة مبسوطة في بعضها ومختصرة في بعض، فقد ذكرت في سورة الأعراف، وفي يونس، وفي هود، وفي الأنبياء، وفي قد أفلح المؤمنون، وفي سورة الشعراء، وفي العنكبوت، وفي الصافات، وفي الفرقان، وفي سورة نوح، وهذا إِنَّما هو للاعتبار بقصّته والاتعاظ منها، ولاتخاذ منهجه في الدعوة منهجًا متّبعًا لمن يأتي بعده من الدعاة.
منهجه عليه السلام في دعوته
المراد بالمنهج: المبادئ العامة الَّتي تدعو إليها، وبها الرسل لتكون منارات للدعاة في دعوتهم.
أمّا الأسلوب فهو الصور اللغوية والبيانية الَّتي ترد على ألسنة الدعاة من كونها خبرًا أو إنشاء، أمرًا أو نهيًا، حوارًا أو قصصًا، إلى غير ذلك مما هو كثير.
إنّ منهج نوح (هو المنهج العام للرسل في دعوتهم، وذلك المنهج هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، ونبذ عامة الشركاء، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
__________
(1) أَخرَجه البخاريّ في أوّل صحيحه في بدء الوحي، وأخرجه بعد ذلك مطوّلاً ومختصرًا في كتاب الإيمان، وفي كتاب الشهادات، وفي كتاب الجهاد، وغير ذلك مما يطول ذكره.(12/252)
الطَّاغُوتَ ... ((1) ، فما من نبي بعثه الله إِلاَّ دعا النّاس لعبادة الله وحده إِلاَّ نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أعطاه الله من الصبر على الدعوة إلى الله ما لم يعطه لأحد من الأنبياء، وذلك بسبب طول عمره ومكثه بين ظهرانَيْ قومه، فقد لبث يدعوهم المدّة الَّتي حدّدها القرآن لنا وهي ألف سنة إِلاَّ خمسين عامًا، فهو أوّل رسول بعث إلى أهل الأرض بعد أن دخلها الشرك، وذلك أن النّاس كانوا من لدن آدم إلى نوح على الحقّ لا يوجد في الأرض شرك بل كانوا أمّة واحدة كما حكى القرآن الكريم عنهم في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ((2) ، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ((3) ، وفي حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أَبي هُرَيْرة (( ( ... فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أوّل الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبدًا شكورًا)) ... إلخ، الحديث الطويل (4) ، وروى الحاكم في المستدرك بسنده إلى ابن عبّاس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلّهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين، قال: وكذلك في قراءة عبد الله كان النّاس أمّة واحدة فاختلفوا، وقال هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ ولم يخرجاه، وأقرّه الذَّهبيّ في التلخيص (5) . فنوح أعطاه الله طول الباع، ومنحه درجة من الصبر لم يوفّق لها غيره من الأنبياء، فقد لبث المدّة الَّتي تقدّمت يدعو قومه ليلاً ونهارًا، سرًا وعلانية، ومع ذلك لم يزدادوا
__________
(1) الآية 36 من سورة النحل.
(2) الآية 213 من سورة البقرة.
(3) الآية 19 من سورة يونس.
(4) أَخرَجه البخاريّ في كتاب التفسير في سورة الإسراء في باب ذرية من حملنا مع نوح، ومسلم في كتاب الإيمان: 1/185، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي.
(5) المستدرك: 2/546 547، كتاب التاريخ.(12/253)
إِلاَّ فرارًا عن الحقّ وإعراضًا عنه وتكذيبًا لنبي الله نوح، ولم يؤمن به طول هذه المدة إِلاَّ القليل كما قال تعالى: (وَمَاءَامَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ((1) ، هذا مع ما يلاقيه في تلك المدّة من أنواع الأذى كالسخرية والاستهزاء به وبمن آمن به، فينبغي لكل داعية مخلص أن يتأسى بنبي الله نوح في صبره على الدعوة إلى الله وعدم الضجر ولا يستكثر المدّة الَّتي يقضيها وهو يدعو إلى الله فلم يستجب له إِلاَّ القليل حتَّى ولو لم يستجب له أي أحد فليحتسب وليعلم أَنَّه فعل ما في وسعه وخرج من عهدة الأمر المتوجه إليه في قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... (، وفي قوله (: ((بلّغوا عني ولو آية)) (2) .
__________
(1) الآية 40 من سورة هود.
(2) تقدّمت الإشارة إلى موضع الآية وتخريج الحديث.(12/254)
وقد رسم نبي الله نوح منهجًا للدعاة في التوكّل على ربّه ينبغي لكل داع أن يقتفيه ويسلكه، فهو رغم انفراده في قومه وقلّة من آمن به منهم لم يثن ذلك عزيمته عن دعوتهم إلى الله وتحدِّيهم بأن يجمعوا أمرهم مع مالهم من الشركاء وأن يُنْهوا أمره ولا يمهلوه ساعة واحدة وما ذاك إِلاَّ من شدّة توكّله على ربّه وعلمه أَنَّهم لا يستطيعون أن يضروه بشيء لم يشأ الله تعالى أن يضروه به، وقد صوّر لنا القرآن الكريم هذا التوكل والتحدي في آية من سورة يونس فقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ((1) . فالمعنى: يا قوم إن كان عظم عليكم مقامي فيكم ولُبْثي بين أظهركم وتذكيري إياكم بآيات الله أي بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة فعلى ربي توكلت فإني لا أبالي بكم ولا أكفّ عن دعوتكم عَظُم ذلك عليكم أولا فأجمعوا أمركم مع شركائكم الَّذين تدعونهم من دون الله من أصنام وغيرها ولا تجعلوا أمركم ملتبسًا، بل وضّحوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقّون فاقضوا إليَّ ولا تنظرون واستريحوا مني ولا تؤخرون ساعة واحدة مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أبالي بكم ولا أخاف إذْ لستم على شيء.
__________
(1) الآية 71 من سورة يونس.(12/255)
فهكذا ينبغي أن يكون الداعية متوكلاً على الله لا يخاف غير الله، لا تأخذه فيه لومة لائم، صبورًا على الأذى، محتسبًا الأجر من الله، عالمًا بأنّ النّاس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يرد الله أن يضروه به لم يستطيعوا، كما ينبغي له ألا يطلب أجرًا أي مالاً مقابل الدعوة إِلاَّ من الله تعالى تأسيًا بنوح الداعي الأَوَّل ثُمَّ بباقي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فإِنَّ ذلك منهج رسمه نوح (للدعاة مما احتوت عليه سورة هود، وذلك في قول الله جلّ وعلا حاكيًا عنه: (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ... ((1) ، تكرر هذا القول من نبي الله نوح، فقد ذكره الله عنه في سورة يونس حيث قال: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ... ((2) ، وحكاه عنه أَيضًا في سورة الشعراء فقال: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ((3) ، ثُمَّ تتابعت الرسل من بعده مقتفية إثره في ذلك فقال هود (: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ((4) ، وقال صالح (: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ((5) ، وقال هذه المقالة نفسها لوط وشعيب وغير ما ذكر من الأنبياء إلى أن وصلت الدعوة إلى نبينا محمَّد (فقال هذه المقالة، قال تعالى حكاية عنه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ((6) ، وقال تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
__________
(1) الآية 29 من سورة هود.
(2) الآية 72 من سورة يونس.
(3) الآية 109 من سورة الشعراء.
(4) الآية 127 من سورة الشعراء.
(5) الآية 145 من سورة الشعراء.
(6) الآية 86 من سورة ص.(12/256)
الْقُرْبَى ((1) .
ومن هنا لا بُدّ أن نلمّ ببعض الأحكام الفقهية المستنبطة من هذا المنهج الحكيم الَّذي اتبعه أوّل الدعاة نوح وتتابعت عليه الدعاة من بعده، وهو عدم أخذ العوض مقابل الدعوة، وتعليم العقائد والقرآن، والحلال والحرام.
قلت: يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الواجب على أتباع الرسل الَّذي هم العلماء أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانًا من غير أخذ عوض على ذلك لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ... (2) لأنّ الأنبياء هم الأسوة الحسنة لنا والقدوة المتبعة، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ((3) . ويعتضد ذلك بأحاديث وردت عن النَّبي (، منها ما رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبيّ بن كعب (قال: علّمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوسًا فذكرت ذلك للنبي (فقال: ((إن أخذتها أخذت قوسًا من نار)) فرددتها (4) ، وأخرجه ابن ماجه (5) ، وفي الزوائد إسناده مضطرب، قاله الذَّهبيّ في الميزان في ترجمة عبد الرَّحمن بن سَلْمٍ، وقال العلاء في المراسيل: عطية بن قيس الكلاعي عن أبيّ ابن كعب مرسل، لكن ابن حجر قال في التهذيب: وقال أبو مسهر كان مولده في حياة رسول الله (في سنة سبع، وقال قبل ذلك بقليل: إن أبا حاتم قال: صالح الحديث (6)
__________
(1) الآية 23 من سورة الشورى.
(2) صحيح البخاريّ، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل. وأبو داود في أوّل باب من كتاب العلم. والترمذي في العلم في باب فضل العلم على العبادة. وابن ماجه، حديث رقم223 في المقدمة.
(3) الآية 21 من سورة الأحزاب.
(4) البيهقي في سننه، كتاب الإجارة: 6/207 208.
(5) انظر سنن ابن ماجه: 2/730، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن، 2158.
(6) انظر تهذيب التهذيب: 7/203 204.(12/257)
ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت (قال: علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن، فأهدى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال؛ أرمي بها في سبيل الله (، لآتين رسول الله (فلأسألنه، فأتيته فقلت يا رسول الله أهدى إليَّ رجل قوسًا ممن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن وليست بمال؛ أرمي عليها في سبيل الله؟ فقال: ((إن كنت تحبّ أن تطوّق طوقًا من النار فاقبلها)) (1) وفي إسناده المغيرة بن زياد
الموصلي، قال الخطابي: وثّقه وكيع، ويحيى بن معين، وتكلّم فيه جماعة (2) ، ورواه أبو داود من طريق أخرى عن عبادة بن الصامت ... فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله (، فقال: ((جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)) (3) . اهـ.
قال الخطابي: بقيّة بن الوليد قد تكلّم فيه غير واحد، وعزاه للمنذري، وقال فيه ابن حجر: بقيّة بن الوليد كثير التدليس عن الضعفاء (4) .
قال الشَّيخ محمَّد الأمين رحمه الله: فهذه الأدلة ونحوها تدل على أنّ تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليها، وممن قال بهذا القول الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة، والضحاك بن قيس، وعطاء، وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر، وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف الَّتي يأخذها المعلمون من السحت، وممن كره أجرة التّعليم مع الشرط الحسن وابن سيرين وطاوس والشعبي والنخعي، وظاهر كلام أحمد جواز أخذ المعلّم ما أعطيه من غير شرط (5) .
__________
(1) أبو داود، كتاب الإجارة، باب كسب المعلم، رقم3416.
(2) انظر شرح الخطابي لأبي داود عند الحديث المذكور، وذكر عن الإمام أحمد أَنَّه قال: ضعيف الحديث حدّث بأحاديث مناكير وكلّ حديث رفعه فهو منكر.
(3) سنن أَبي داود، كتاب الإجارة، الحديث رقم3417، باب في كسب المعلّم.
(4) التقريب: 1/105.
(5) أضواء البيان: 3/23 24، ط أولى.(12/258)
وقال ابن قدامة في المغني ما نصه: ونقل أبو طالب عن أحمد أَنَّه قال: التّعليم أحبّ إليّ من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ومن أن يتوكل لرجل من عامة النّاس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعلّه لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات النّاس، التّعليم أحبّ إليّ، وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم، وممن أجاز ذلك مالك والشافعي، ورخّص في أجور المعلّمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر (1) .
هذه حجج المانعين، أمّا الَّذين أجازوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الحلال والحرام والعقائد فاستدلوا بأدلة منها:
__________
(1) المغني: 5/410 411.(12/259)
ما ثبت في الصحيحين عن النَّبي (أَنَّه زوّج رجلاً امرأة بما معه من القرآن، ونصّ الحديث في رواية البخاريّ في كتاب فضائل القرآن بسنده عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله (فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله (، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: هل عندك من شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا، قال: انظر ولو خاتما من حديد، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله (: ما تصنع بإزارك؟ إن لبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء؟ فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام، فرآه رسول الله (مولّيا فأمر به فدُعي، فلما جاءه قال: ماذا معك من القرآن؟ قال معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا؛ عدّها، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن (1) .
فمحلّ الشاهد من الحديث قوله (: ((فقد زوجتكها بما معك من القرآن)) ، وفي بعض الروايات ((فعلمها من القرآن)) كما في بعض روايات مسلم في المصدر السابق.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في كتاب فضائل القرآن، في باب القراءة عن ظهر قلب، وفي كتاب النكاح، في باب السلطان ولي، لقول النَّبي (إلخ، وفي باب التزويج على القرآن بغير صداق، وفي باب عرض المرأة نفسها على الرَّجل الصالح، وفي باب النظر إلى المرأة قبل التزويج.
... ومسلم في كتاب النكاح، في باب الصداق وكونه تعليم قرآن.(12/260)
قال المجيزون: إذا جاز تعليم القرآن عوضًا في باب النكاح وقام مقام المهر؛ جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة، لأنّ النَّبي (أباح لهذا الرَّجل أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضًا عن صداقها، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز، وما ردّ به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أَنَّه (زوّجه إياها بغير صداق إكرامًا لحفظه ذلك المقدار من القرآن ولم يجعل التّعليم صداقًا لها مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أَنَّه (قال له: ((انطلق فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن)) ، وفي رواية لأبي داود:
((علمها عشرين آية وهي امرأتك)) (1) .
__________
(1) أبو داود في كتاب النكاح، باب في التزويج على العمل بعمل، رقم2112، قال الخطابي: في إسناده عِسْلُ بن سفيان، وهو ضعيف.(12/261)
واحتج المجيزون أَيضًا بعموم قوله (الثابت في صحيح البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: ((إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله)) (1) ، قالوا: إنّ الحديث وإن كان واردًا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث المذكور في كتاب الإجارة: واستدل به الجمهور في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التّعليم وأجازوه في الرقى كالدواء، قالوا: لأنّ تعليم القرآن عبادة، والأجر فيه على الله، وهو القياس في الرقى، إِلاَّ أَنَّهم أجازوه فيها لهذا الخبر، وحمل بعضهم الأجر في هذا الحديث على الثواب، وسياق القصة في الحديث يأبى هذا التأويل، وادعى بعضهم نسخه بالأحاديث الواردة في الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وقد رواها أبو داود وغيره، وتعقب بأنه إثبات للنسخ بالاحتمال، وهو مردود، وبأنّ الأحاديث الَّتي ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة للتأويل لِتتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي الباب، وبأنّ الأحاديث المذكورة أَيضًا ليس فيها ما تقوم به الحجة فلا تعارِضُ الأحاديث الصحيحة. اهـ (2) .
فتحصّل أن الجمهور على جواز أخذ الأجرة على التّعليم كما صرّح به ابن حجر قريبًا، وأن الحنفية يمنعون قائلين إن ذلك عبادة، والعبادة أجرها على
الله، لكنه لا مجال للاجتهاد مع وجود النصّ الصحيح، فالله جلّ وعلا كريم يعطي لعباده الأجر معجّلاً في الدنيا ويعطيهم الأجر في الآخرة، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، لا حرج في ذلك.
__________
(1) أَخرَجه البخاريّ تعليقًا عن ابن عبّاس في كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية. وأخرجه عنه موصولاً في كتاب الطب: باب الرقيا بالفاتحة.
(2) فتح الباري: 4/453 454، ط السلفية.(12/262)
قال شيخنا الشَّيخ محمَّد الأمين رحمه الله مفصّلاً في هذه المسألة ما نصه: قال مقيّده عفا الله عنه: الَّذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنّ الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضًا على تعليم القرآن والعقائد والحلال والحرام للأدلة الماضية، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين، لأنّ الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة، والأولى لمن أغناه الله أن يتعفّف عن أخذ شيء في مقابل التّعليم للقرآن والعقائد والحلال والحرام، والعلم عند الله تعالى. اهـ (1) .
هذا وقد حاولت هنا بيان حكم هذه المسألة بحسب ما وقفت عليه من أدلة الفريقين ومن كلام العلماء ليستفيد المطلع عليه حكم هذه المسألة لا سيما الدعاة والمعلّمون ليكونوا على بصيرة مما هم فيه.
المبحث السادس: مما احتوت عليه سورة هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من شئون الدعوة إلى الله
وينقسم الكلام فيه إلى قسمين:
أحدهما: طريق إثبات النبوة، وأنها لا تثبت إِلاَّ عن طريق الوحي من الله جلّ وعلا.
وثانيهما: بيان أن الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله، وأن الرسل لا يعلمون منه إِلاَّ ما علّمهم الله، وهذا الأخير مما يجب على الدعاة التركيز عليه أثناء دعوتهم في هذا الزمن، لأنّ عوام النّاس أضلهم الدجالون والخرافيون ممن يزعمون أَنَّهم يعلمون بعض المغيبات ويخبرون بذلك عامة النّاس فيصدّقونهم ويكذبون القرآن الكريم، وسيتضح لك إن شاء الله كذبهم وتضليلهم عن طريق الاستدلال بكتاب الله تعالى. قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ((2) .
الكلام على القسم الأَوَّل
__________
(1) أضواء البيان: 3/25، المصدر السابق.
(2) الآية 49 من سورة هود.(12/263)
بيّنت هذه الآية الكريمة وأمثالها من القرآن الكريم أن نبوة محمَّد (حقّ لأَنَّه رجل أُمِّي لا يكتب ولا يقرأ، ونشأ في أمّة أميّة لا تكتب ولا تقرأ، ومع ذلك يأتي بخبر الأمم السابقين وما حصل لهم من الهلاك، وما شجر بينهم مع الأنبياء، يأتي هذا مفصّلاً، كما أَنَّه يأتي بقصص أقوام آخرين ليسوا بأنبياء، ويحكيها كما هي، كقصة أصحاب الكهف وأصحاب الأخدود، وقصة ذي القرنين وغير ذلك من القصص الَّتي قصّ القرآن الكريم على نبينا محمَّد (ولم يكن له بها هو ولا قومه علم ما تحكيه لنا آية هود هذه من قصة أوّل نبي بعث إلى أهل الأرض نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ... (، وكذلك قوله في شأن قرعة رجال بني إسرائيل أيهم يكفل مريم في قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ((1) ، ومن ذلك إخباره عن قصة أهل مدين مع نبي الله شعيب وقصة موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله:
__________
(1) الآية 44 من سورة آل عمران.(12/264)
(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ((1) . ومن ذلك قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ((2) ، ومن ذلك قوله تعالى في شأن إخوة يوسف معه: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ((3) ، ومن ذلك قوله تعالى لما ذكر قصص الأنبياء المذكورين في سورة هود: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ((4) ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت مقررًا صدق القرآن وأَنَّه من الله لا كما يزعمه الكفار أَنَّه مفترى من قبل محمَّد (واستعان بقوم آخرين غلمان من اليهود كانوا صاغة بمكة: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ((5) ، ونحو ذلك من
الآيات.
__________
(1) الآيات 44 46 من سورة القصص.
(2) الآية 3 من سورة يوسف.
(3) الآية 102 من سورة يوسف.
(4) الآية 100 من سورة هود.
(5) الآية 48 من سورة العنكبوت.(12/265)
وبعد عرض هذه الآيات نلم بأقوال العلماء حولها إلمامًا سريعًا دون تطويل لنبين بذلك موضوعيتها في إثبات النبوة الَّتي تشتد الحاجة كثيرًا إلى أدلته القاطعة لدعاة عصرنا الحاضر لأنّ الكثير من سكان المعمورة ينكرون رسالة محمَّد (سواء أكان إنكار جحود أم إنكار جهل، وعليه فلا بُدَّ من إثبات ذلك بالأدلة القطعية النقلية، ويكون الكلام عليها إن شاء الله حسب ذكري لها.
أوّلاً أية هود: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (. قال كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري عند الآية المذكورة بعد أن ساق السند إلى قتادة: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا
القرآن، وما كان علم محمَّد (وقومه ما صنع نوح وقومه لولا ما بيّن الله له في كتابه (1) . ويقول قبل ذلك بقليل: يقول تعالى ذكره لنبيه محمَّد (هذه القصة الَّتي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه من أنباء الغيب يقول: هي من أخبار الغيب الَّتي لم تشهدها فتعلمها نوحيها إليك يقول: نوحيها إليك نحن فتعرفها ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا الوحي الَّذي نوحيه إليك فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من مشركي قومك كما صبر نوح إنّ العاقبة للمتقين، يقول: إنّ الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الآخرة والظفر في الدنيا بالكلية كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله ... (2) .
__________
(1) تفسير الطبري عند الآية المذكورة.
(2) تفسير الطبري عند الآية المذكورة.(12/266)
ويقول ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه (: هذه القصة وأشباهها من أنباء الغيب يعني من أخبرا الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها أي نعلمك بها وحيًا منا إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتَّى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا ننصرك ونحوطك بعنايتنا ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم (1) .
قلت: إنّ في الآية منهجًا عظيمًا من مناهج الدعوة أمر الله نبيه محمَّدًا (إمام الدعاة به ألا وهو الصبر على الأذى من المدعوين فالأمر له (أمر لنا لأنّ الأمر للقدوة أمر للأتباع، والأمر للوجوب إِلاَّ إذا وجدت قرينة صارفة عن الوجوب ولم توجد هنا قرينة فعلى الدعاة إلى الله أن ينتهجوا هذا المنهج امتثالاً لأمرِ الله تعالى واقتداء برسوله (، كما أن في الآية وسيلة من وسائل الدعوة وهي الترغيب: س إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ش، فوظيفة الدعاة هي الترغيب والترهيب لأنّ ذلك هو وظيفة الأنبياء، قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ ... ((2) ، وقال تعالى في خصوص نبينا محمَّد (: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ... ((3) ، فالآية الكريمة اشتملت على منهج أساسي من مناهج الدعوة إلى الله وعلى وسيلة عظمى من وسائلها أَيضًا، فليفرح الدعاة المتقون بأن الله ناصرهم لا محالة وأن العاقبة لهم لأنّ إخبار الله لا يتغير ولا يتبدل ولا يدخله النسخ فهذا الوعد محتم لا محالة.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/430، ط دار الجيل، بيروت.
(2) الآية 165 من سورة النساء.
(3) الآية 45 من سورة الأحزاب.(12/267)
أمّا آية آل عمران: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ((1) ، فإليك بعض كلام العلماء فيها.
قال ابن كثير في تفسيره: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك أي نقصه عليك، وما كنت لديهم أي ما كنت عندهم يا محمَّد معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك لرغبتهم في الأجر (2) ، ثُمَّ قال: وقال ابن جرير: حدّثنا القاسم، حدَّثنا الحسين، حدّثني حجّاج عن ابن جريج، عن القاسم بن أَبي بزة أَنَّه أخبره عن عكرمة وأَبي بكر عن عكرمة قال: خرجت بها- يعني مريم - في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام (3) ، قال: وهم يومئذٍ يلون في بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإني حرّرتها وهي أنثى، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عمران يؤمهم في الصلاة، وصاحب قرباننا، فقال زكرياء: ادفعوها لي فإِنَّ خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بالأقلام الَّتي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكرياء فكلفها. بواسطة نقل ابن كثير (4) . قلت: هكذا ذكر ابن كثير، وبعد مطالعتي لابن جرير عند الآية لم أجد هذه القصة بهذا السياق والسند لكن معناها والكثير من ألفاظها موجود عند تفسير ابن جرير للآية، فلعل هذا السياق ذكره في كتاب التاريخ والله أعلم.
__________
(1) الآية 44 من سورة آل عمران.
(2) تفسير ابن كثير: 1/343، المصدر السابق.
(3) قلت: إن كان يعني أن الكاهن ابن هارون مباشرة فهذا بعيد جدًا، وإن كان يريد أَنَّه من ذريته فلا مانع.
(4) ابن كثير، المصدر السابق.(12/268)
وقال ابن جرير عند تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (يعني جلّ ثناؤه بقوله: ذلك ك الأخبار الَّتي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم وزكريا وابنه يحيى وسائر ما قصّ في الآيات من قوله:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىءَادَمَ وَنُوحًا ش، ثُمَّ جمع جميع ذلك بقوله: (ذَلِكَ (، فقال: هذه الأنباء من أنباء الغيب أي من أخبار الغيب، ويعني بالغيب أَنَّهَا من خفِيّ أخبار القوم الَّتي لم تطلع عليها أنت ولا قومك، ولم يعلمها إِلاَّ قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم، ثُمَّ أخبر تعالى ذكره نبيه محمَّدًا (أَنَّه أوحى ذلك إليه حجّة على نبوته وتحقيقًا لصدقه وقطعًا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين الَّذين يعلمون أن محمَّدًا (لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إِلاَّ بإعلام الله ذلك إياه إذ كان معلومًا عندهم أن محمَّدًا (أمي لا يكتب فيقرأ الكتب فيصل إلى علم ذلك من قبيل الكتب، ولا صاحَب أهل الكتب فيأخذ علمه من قبلهم ... إلى أن
يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم (يعني أهل الكتاب) وأنت تنبئهم هذه الأنباء ولم تشهدها ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور؟ ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم ولا جالس أهلها فسمع خبرهم، ثُمَّ ساق سنده إلى محمَّد بن جعفر بن الزبير وما كنت لديهم إذ يختصمون أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخْفَوْه منه. اهـ (1) .
ويقول ابن عطية في المحرر الوجيز: وفي هذه الآية بيان لنبوة محمَّد (إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إِلاَّ من شاهدها وهو لم يكن لديهم أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ومحمَّد (أمي من أميين أو من أعلمه الله بها وهو
__________
(1) طالع تفسير ابن جرير: 3/182 185.(12/269)
ذاك ((1) .
أمّا الكلام على الآيات الَّتي تتعلّق بنبي الله شعيب وموقف قومه من دعوته، وبقصة موسى حين ناداه ربّه لِيُحمّله عبء الرسالة إلى الطاغية فرعون فإليك بعض كلام المفسرين فيها.
(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ((2) . في الآيتين دليل واضح على أن ما فصل في هاتين القصتين من الأحوال لا يتسنى إِلاَّ بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهد وحيث انتفيا كلاهما تبيّن أَنَّه بوحي من علاّم الغيوب لا محالة أي وما كنت بجانب الجبل الغربيّ أو المكان الغربي الَّذي وقع فيه الميقات إذ قضينا إلى موسى الأمر أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة، وما كنت من جملة الشاهدين للوحي وهم السبعون المختارون للميقات حتَّى تشاهد ما جرى، وما كنت ثاويًا أي مقيمًا أَيضًا في أهل مدين قوم شعيب تتلو عليهم أي تقرأ عليهم بطريق التعلّم منهم آياتنا الناطقة بالقصة، ولكنا كنا مرسلين إياك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها وما كنت بجانب الطور إذ نادينا أي وقت نداء الله موسى وقوله له إني أنا الله ربّ العالمين وإرسالنا له إلى فرعون،ولكن رحمة من ربك أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر من هذه القصص وغيرها لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللنّاس (3) .
__________
(1) المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي: 3/117.
(2) تقدمت الإشارة إليهما.
(3) انظر أبو السعود بتصرف في النقل: 7/15 16.(12/270)
والمعنى: وما كنت يا محمَّد حاضرًا بجانب الجبل الغربي الَّذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى (فالكلام من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقامه وذلك كثير في لغة العرب، وفي القرآن الكريم كما في قوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ((1) . أي دروعًا سابغات، وقيل: إن الكلام من باب إضافة الموصوف إلى الصفة الَّتي جوزها الكوفيون كما في قولهم: مسجد الجامع، والأصل على هذا في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي، فالشاهد هنا إِمّا بمعنى الحضور أو من الشهادة والأمران منتفيان فلم يبق إِلاَّ أن تكون عرفت هذه الحقائق عن طريق الوحي (2) .
وقال القرطبي: ولكنا كنا مرسلين أي أرسلناك في أهل مكة وآتيناك كتابًا فيه هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها ... إلى أن قال: قال النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة. اهـ (3) .
الكلام على قوله تعالى:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ((4)
يخبر تعالى أَنَّه يقص على نبيه محمَّد (أخبار الأنبياء وأممهم وما جرى بينهم وهو لم يكن حاضرًا ولا قرأ عن تلك الأخبار والحوادث لأَنَّه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، فإخباره له بذلك على حاله فيه أمران:
الأمر الأَوَّل: تقرير نبوته (، إذ لا يمكن الاطلاع على هذه الأمور وحكايتها كما هي إِلاَّ عن طريق الوحي.
__________
(1) الآية 11 من سورة سبأ.
(2) طالع روح المعاني: 10/292.
(3) تفسير القرطبي: 13/291 292.
(4) تقدّمت الإشارة إليها.(12/271)
الثَّاني: تثبيت فؤاده (على الدعوة إذا علم عن طريق الوحي أن إخوانه من الأنبياء السابقين أوذوا كما أوذي وكُذِّبوا كما كُذِّب هان ذلك عليه واستمر في دعوته، فمعنى الآية: وكلّ الأخبار الَّتي نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما تحمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين كلّ هذا مما نثبت به فؤادك يا محمَّد ليكون لك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة (1) .
الكلام على آية يوسف
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ((2) ، يقول تعالى لنبيه: إنّ هذا الخبر الَّذي أخبرتك به من خبر يوسف وإخوته وسائر ما في هذه السورة من أنباء الغيب الَّذي لم تشاهده ولم تقرأ عنه في كتب الأولين، ولكننا نوحيه إليك ونعرفكه لنثبت به فؤادك ونشجع به قلبك لتصبر على ما نالك من الأذى من قومك في ذات الله وتعلم أن من قبلك من إخوانك المرسلين صبروا على ما نالهم في ذات الله وأخذوا بالعفو وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وأعرضوا عن الجاهلين لذلك فازوا بالظفر بالمطلوب وأُيّدوا بالنصر ومُكّنوا في الأرض، فالمعنى: وما كنت يا محمَّد حاضرًا مع إخوة يوسف إذ أجمعوا واتفق رأيهم على أن يلقوه في غيابة الجب، وما هناك، وسيلة يمكن أن تعرف بها ذلك إِلاَّ طريق الوحي من الله إليك فتثبت بذلك نبوتك وصدقك وقامت الحجة على خصومك (3) .
__________
(1) طالع تفسير ابن كثير عند الآية: 2/447، المصدر السابق.
(2) تقدّمت الإشارة إليها.
(3) طالع تفسير ابن جرير عند الآية مع حذف وزيادة في كلامه.(12/272)
ويقول ابن عطيّة في تفسيره: ذلك من أنباء الغيب: ذلك إشارة إلى ما تقدّم من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمَّد (وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه (1) .
ويقول المفسّر عبد الرَّحمن بن ناصر السعدي في تفسيره للآية: لما قصّ الله هذه القصة على محمَّد (، قال له: ذلك النبأ الَّذي أخبرناك به من أنباء الغيب نوحيه إليك ولولا إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل وإنك ما كنت حاضرًا لديهم إذ أجمعوا أمرهم أي إخوة يوسف وهم يمكرون به حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه في حالة لا يطّلع عليها إِلاَّ الله تعالى، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى علمها إِلاَّ بتعليم الله له إياها كما قال تعالى لما قصّ قصة موسى وما جرى له، ذكر الحال الَّتي لا سبيل للخلق إلى علمها إِلاَّ بوحيه فقال: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ... (الآيات، فهذا أدل دليل على أن من جاء بها رسول الله حقًّا (2) .
الكلام على آية هود
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ((3) ، المعنى: ذلك من أنباء القرى أي من أخبار أهل القرى نقصه عليك لتنذر به، ويكون آية على رسالتك وموعظة وذكرى للمؤمنين (4) .
فالمعنى: أن الَّذي نقصه عليك من أخبار القرى السابقة كقرى قوم لوط وقوم صالح وقرى قوم شعيب وغير ذلك نقصه عليك ليكون عبرة وعظة لقومك الَّذين كذبوك وآذوك فإِنَّ الله أهلك الأولين بسبب تكذيبهم رسل
__________
(1) المحرر الوجيز: 8/89.
(2) تيسير الكريم الرَّحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرَّحمن بن ناصر السعدي: 34/30.
(3) تقدّمت الإشارة إليها.
(4) تفسير السعدي: 3 4/216.(12/273)
الله، وأنتم يا قريش احذروا أن يحلّ بكم ما حلّ بهؤلاء إذ لا مزية لكم عليهم، وما جاز على المثل يجوز على مماثله، وفي الآية تقرير لنبوته عليه الصلاة والسلام حيث لا يتأتى له أي يقص عليهم قصص الأنبياء والأمم ولم يشاهدها ولم يكن في زمنها ولم يكن يقرأ كتب السابقين لا يتأتى له ذلك إِلاَّ عن طريق وحي من الله - سبحانه وتعالى - كما هو الواقع.
الكلام على آية العنكبوت
قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ((1) . المعنى: أَنَّه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلو قبل هذا القرآن من كتاب ولا يكتب بيمينه ولا بشماله أَيضًا أي لا تقدر على خطه كما لا تقدر على تلاوته أي ما كان من عادتك أن تتلو ولا أن تقرأ قبل إيحائنا إليك بهذا القرآن فلو كنت كاتبًا أو تاليًا ثُمَّ أتيت بهذا القرآن لارتاب قومك في شأنك، أي لكان هناك مجال للريبة، فلمّا لم تكن متّصفًا بتلك الصفتين ولا بإحداهما ثُمَّ أتيت بهذا القرآن لم يكن هناك مجال في الارتياب في شأنك، يقول أبو السعود: ... لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتابوا وقالوا: لعلّه التقطه من كتب الأوائل، وحيث لم تكن كذلك لم يبق في شأنك منشأ ريب أصلاً (2) .
القسم الثَّاني من أقسام المبحث السادس
تقدّم لنا أن هذا المبحث ينقسم الكلام فيه إلى قسمين: الأَوَّل: إثبات نبوته (، والثَّاني: الإخبار بأن الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله، وأن الرسل لا يعلمون منه إِلاَّ ما علمهم الله عن طريق الوحي، وتكلمنا على القسم الأَوَّل، والآن سأتكلم على القسم الثَّاني إن شاء الله تعالى، فأقول:
__________
(1) تقدّمت الإشارة إليها.
(2) تفسير أَبي السعود: 7/29.(12/274)
دلّت آيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية الصريحة الصحيحة أن الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله - سبحانه وتعالى -، فالغيب كلّ ما غاب عن الحواس، وكلّ ما غاب عنها لا يعلمه إِلاَّ الله جلّ، فكلّ من ادعى علم شيء من الغيب قيل له كَذّبْتَ الآيات القرآنية الصريحة، ومن كذّب القرآن متعمدًا بعدما تبين له ما دلّ عليه بالقاطع فقد كفر والعياذ بالله.
وإليك بعض الآيات الدالة على ما ذكر، قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ... ((1) . بيّن تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ((2) . والمفاتح: الخزائن، جمع مَفتح بفتح الميم بمعنى المخزن، وقيل: هي المفاتيح جمع مِفتح بكسر الميم وهو المفتاح، وتدل له قراءة ابن السميع: مفاتيح بياء بعد التاء، فهذه الآية الكريمة تدل على أنّ الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله، وهو كذلك لأنّ الخلق لا يعلمون إِلاَّ ما علّمهم خالقهم جلّ وعلا، وقد أخرج البخاريّ في صحيحه بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله (قال: ((مفاتح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير)) (3) ، وأَخْرَجَ بسنده إلى أَبي هُرَيْرة (أن رسول الله (كان يوما بارزًا للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ حديث جبريل المشهور إلى أن قال في آخره: وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله س
__________
(1) الآية 59 من سورة الأنعام.
(2) الآية 34 من سورة لقمان.
(3) صحيح البخاريّ، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام.(12/275)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ... ش (1) .
ثُمَّ أخرج بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النَّبي (: ((مفاتح الغيب خمس، ثُمَّ قرأ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ()) (2) .
وأَخْرَجَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (قال: ((مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) (3) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن رسول الله (يخبرنا بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ ... ((4) (5) .
__________
(1) صحيح البخاريّ، كتاب التفسير، تفسير سورة لقمان.
(2) صحيح البخاريّ، كتاب التفسير، تفسير سورة لقمان.
(3) صحيح البخاريّ، كتاب التفسير، تفسير سورة الرعد.
(4) الآية 65 من سورة النمل.
(5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قول الله (: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (. والترمذي في تفسير سورة الأنعام.(12/276)
قال الحافظ ابن حجر: وقال الشَّيخ محمَّد بن أَبي جمرة: عبّر بالمفاتح لتقريب الأمر على السامع، لأنّ كلّ شيء جعل بينك وبينه حجاب فقد غيب عنك، والتوصل إلى معرفته في العادة من الباب، فإذا أغلق الباب احتيج إلى المفتاح، فإذا كان الشيء الَّذي لا يطلع على الغيَّب إِلاَّ بتوصيله لا يعرف موضعه فكيف يعرف المغيب. انتهى ملخّصًا (1) . يعني أن المفاتح هي الَّتي يتوصل بها لكل غائب عنك، فإذا لم تُعلم فكيف التوصل إلى الغائب؟ وقال ابن حجر: فإِنَّ قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث، أجاب الطيبي بأن الفعل إذا كان عظيم الخطر وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية ولاسيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدّعون علم نزول الغيث، فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك واختصاصه بالله - سبحانه وتعالى - (2) .
قلت: في ختام الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (إشعار بأن هذا الأمر عظيم لا يطّلع عليه إِلاَّ من لا يشاركه أحد في ذلك كما دلّت على ذلك صفتا المبالغة: عليم خبير، والله أعلم، ومن ذلك قوله تعالى لنبيه (: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... ((3) . هكذا أمر نبينا محمَّدًا (، كما أمر بذلك نوحًا (بقوله: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... ((4) .
قلت: إن المتتبع لقصص الرسل يعلم منها علم يقين أن الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله، وأن الرسل والملائكة لا يعلمون إِلاَّ ما علّمهم الله.
__________
(1) فتح الباري: 8/514.
(2) فتح الباري: 1/124، ط السلفية.
(3) الآية 50 من سورة الأنعام.
(4) الآية 31 من سورة هود.(12/277)
فهذا نبينا محمَّد (لمّا رميت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بما رميت به وهي أحبّ النّاس إليه لم يعلم أهي بريئة أم لا؟ فكان يقول لها: ((يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)) إلخ في الحديث الطويل (1) . فالمتأمل لهذه القصة يعلم أن نبي الله (لا يعلم من الغيب إِلاَّ شيئًا علّمه ربّه عن طريق الوحي فهو يجلس شهرًا كاملاً كما في بعض روايات الحديث متجنّبًا لأحبّ النّاس إليه زوجه عائشة أمّ المؤمنين يجلس بعيدًا منها ويقول: ((كيف تيكم؟)) ولا يدري عنها هل هي بريئة أو لا؟ حتَّى أنزل الله عليه: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا
__________
(1) أَخرَجه البخاريّ في تفسير سورة النور، وفي كتاب الشهادات، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. ومسلم في كتاب التوبة، في باب حديث الإفك وقبول توبة القاذف ... إلخ، والحديث طويل جدًّا.(12/278)
يَقُولُونَ ((1) . فمن ادعى علم الغيب اليوم أو ادعى شيئًا ما من أنواعه كذّبناه بلا شك وحكمنا بأنه دجال مناقض للقرآن الكريم والسنة المطهرة، وانظر إلى قوله تعالى مخاطبًا له: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ((2) . يقول القرطبي رحمه الله: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير: المعنى: لو كنت أعلم ما يريد الله مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته، وقيل: لو كنت أعلم متى يكون النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب، وقال ابن عبّاس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني، إلى غير ذلك مما ذكره من الأقوال الَّتي تدور حول عدم علمه بالغيب (3) .
ويقول (: في الحديث الصحيح: ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة)) ... إلخ الحديث (4) .
__________
(1) الآية 26 من سورة النور.
(2) الآية 188 من سورة الأعراف.
(3) تفسير القرطبي: 7/336 337.
(4) لفظ مسلم في حديث جابر الطويل في حجة النَّبي (، كتاب الحج، باب حجة النَّبي (وأخرجه البخاريّ في كتاب الحج، وفي كتاب العمرة عن جابر أَيضًا، وفي غير ذلك من صحيحه.(12/279)
ثُمَّ ننتقل إلى نبي الله نوح، وهو من أولي العزم من الرسل، يقول الله عنه أَنَّه يخاطب قومه فيقول: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.. ((1) . وكذلك قوله (: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ... ((2) ، فهو ما كان يدري أن ابنه الَّذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتَّى قال ما قال إلى أن أخبره الله بقوله له: (يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ((3) .
ثُمَّ ننتقل إلى أَبي الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه خليل الرَّحمن فنجده لا يعلم عن الغيب شيئًا إِلاَّ ما علّمه الله، فحين أتته الملائكة في صور رجال من البشر بادر بذبح عجله وشيّه وتهيئة الطعام لهم على عادته في إكرام الضيف، فلو كان يعلم الغيب لعلم أن هؤلاء ملائكة ولم يذبح عجله ويتعب نفسه ويهيئ لهم الطعام ويقول: ألا تأكلون؟ ولم يقع في نفسه منهم خوف حتَّى قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، ثُمَّ ذهبوا من عند إبراهيم وجاءوا إلى لوط في تلك الصورة فظنّهم رجالاً من بني البشر فسيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال: هذا يوم عصيب؛ خوفًا عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة، حتَّى قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، ولم يعلم عنهم شيئًا حتَّى أخبروه أَنَّهم رسل الله فقالوا: (يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ... ((4) .
__________
(1) الآية 31 من سورة هود.
(2) الآية 45 من سورة هود.
(3) الآية 46 من سورة هود.
(4) الآية 81 من سورة هود.(12/280)
وهذا يعقوب (ابيضت عيناه من الحزن على ولده يوسف وهو في مصر ما بينه وبينه إِلاَّ مسيرة أيام تحت يده خزائن رزق مصر لا يدري عنه حتَّى أظهر الله خبره، وهذا سليمان (سخّر الله له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتَّى جاءه الهدهد: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (الآيات (1) .
ثُمَّ ننتقل من الرسل إلى الملائكة فنجد أن القرآن الكريم أخبر حاكيًا عنهم أَنَّهم لا يعلمون من الغيب إِلاَّ ما علّمهم الله، فحين قال لهم الله جلّ وعلا: ( ... أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ((2) .
ومن هذا العرض يتبيّن أن الغيب لا يعلمه إِلاَّ الله لأنّ أفضل الخلق على الإطلاق الرسل والملائكة وتبين مما تقدّم أَنَّهم لا يعلمون من الغيب إِلاَّ ما علّمهم الله تعالى، وهو تعالى يعَلّم رسله وملائكته من غيبه ما شاء كما قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ... ((3) ، وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ... ((4) (5) .
__________
(1) الآية 22 من سورة النمل.
(2) الآية 31 32 من سورة البقرة.
(3) الآية 179 من سورة آل عمران.
(4) الآية 26 27 من سورة الجن.
(5) انظر أضواء البيان: 2/127 فما بعدها، ط المدني.(12/281)
المعنى أن الله - سبحانه وتعالى - وحده هو الَّذي يعلم الغيب وأَنَّه لا يظهر عليه أحدًا من خلقه أي لا يطلعه عليه ولا ينبئه به، ووقوع الفعل (يظهر) في حيز النفي يفيد العموم، أي لا يطلع عليه أي أحد كائنًا من كان، وكذلك وقوع المفعول به: (أحدًا) نكرة في سياق النفي يفيد العموم، ثُمَّ استثنى من هذا النفي من ارتضاهم ليطلعهم على بعض غيبه فقال: إِلاَّ من ارتضى من رسول، إذا أراد الله إطلاعه على غيب أراد إظهاره بالوحي، وكذلك ما أراد أن يؤيد به رسوله (من إخبار بما سيحدث أو اطلاع على ضمائر بعض النّاس، فقوله: ارتضى مستثنى من عموم أحدًا، والمعنى: إِلاَّ أحدًا ارتضاه الله أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس، فيعلم من هذا أن الغيب الَّذي يُطلع الله عليه الرسل هو من نوع ماله تعلّق بالرسالة وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه وما له تعلّق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة أو أمور الدنيا وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيّبة كقوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ ((1) (2) .
__________
(1) الآيات: 3 4 من سورة الروم.
(2) طالع التحرير والتنوير: 14/247 248، بتصرّف يسير في النقل.(12/282)
وقال الشوكاني في تفسير سورة الجن هذه: ... أي لا يُطلع على الغيب الَّذي يعلمه وهو ما غاب عن العباد أحدًا منهم، ثُمَّ استثنى فقال: إِلاَّ من ارتضى من رسول، أي إِلاَّ من اصطفاه من الرسل أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته، ثُمَّ قال: قال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح - سبحانه وتعالى - بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أَنَّه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثُمَّ استثنى من ارتضى من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصا وينظر في الكفّ ويزجر بالطير ممن ارتضاه الله من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه، وقال سعيد بن جبير: إِلاَّ من ارتضى من رسول هو جبريل، وفيه بعد، وقيل: المراد بقوله: إِلاَّ من ارتضى من رسول فإِنَّه يطلعه على بعض غيبه وهو ما يتعلّق بالرسالة المعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما بيّنه من أحوال الآخرة لا ما لا يتعلّق برسالته من الغيوب كوقت قيام الساعة ونحوه، قال الواحدي: في هذا دليل على أن من ادعى أنّ النجوم تدلّه على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن، قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات لأنّ الَّذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال للكهانة والتنجيم لأنّ أصحابها أبد شيء عن الارتضاء وأدخله في السخط (1) .
__________
(1) انظر فتح القدير للشوكاني: 5/310 311، وكلام القرطبي الَّذي ذكره نقله عنه بالحرف في تفسير سورة الجن هذه.(12/283)
وقال عند تفسير آية آل عمران: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ (حتَّى تُميّزوا بين الطيب والخبيث فإِنَّه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحدًا إِلاَّ من ارتضى من رسول من رسله يجْتَبيه فيطلعه على شيء من غيبه فيميز بينكم كما وقع من نبينا (من تعيين كثير من المنافقين فإِنَّ ذلك كان بتعليم الله له لا بكونه يعلم الغيب، وقيل: المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب فيمن يستحق الرسالة حتَّى يكون الوحي باختياركم، ولكن الله يجتبي أي يختار من رسله من يشاء (1) .
__________
(1) فتح القدير: 1/404.(12/284)
فتحصّل من الآيات الَّتي تقدّمت صريحًا في نفي علم الغيب عن جميع المخلوقات إِلاَّ من استثنى الله من رسله أن مدّعي علم الغيب اليوم كاذب. وإِنّما بسطنا الكلام في هذه النقطة لشدّة الحاجة إلى ذلك في زمننا الَّذي نعيش فيه فأردت جمع بعض من الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء وبيان فهمهم لتفسير الآيات الَّتي نفت علم الغيب إِلاَّ عن الله أو من ارتضاه من رسله، أردت جمع ذلك ليطّلع عليه طلبة العلم لا سيما من يتعرّض للدعوة إلى الله، لأنّ الكثير من النّاس فشت فيهم الخرافة والغلو في الصالحين والأولياء والمشايخ، وفشا فيهم اتباع الدجالين ممن هم محسوبون على الإسلام والإسلام منهم بريء براءة الشمس من اللمس، مع العلم أن هناك من طلبة العلم بل من العلماء من يركن إلى هذا النوع من الضلال، ويرى أن علم الغيب المنفي إِنَّما هو الغيب كلّه لا بعضه، وبعضهم يقول: العلم المنفي هو ما ذكر في آية لقمان من المسائل الخمس حتَّى إن الرازي قال: إن قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ... ((1) ليست فيه صيغة عموم، وخفي عليه أو جهل أو تجاهل أن في الآية صيغتي عموم إحداها في قوله: (غَيْبِهِ (فإِنَّه مصدر أضيف إلى الضمير، وإضافة المصدر واسم الجنس إلى المعارف من صيغ العموم، والأخرى في قوله: (أَحَدًا (فإِنَّه نكرة في سياق النفي وتلك من صيغ العموم باتفاق، وهناك صيغة عموم ثالثة وهي وقوع الفعل س يُظْهِرُ ش في حيّز النفي، لأنّ الفعل الصناعي ينحل عن مصدر لا محالة وهذا المصدر هنا نكرة في سياق النفي أي لا يظهر إظهارًا كائنًا ما كان على غيبه أي أحد إِلاَّ من استثناهم من رسله. يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ ... ((2) . يقول تعالى آمرًا رسوله محمَّدًا (أن يقول معلّمًا
__________
(1) تقدّمت الإشارة إليها.
(2) الآية 65 من سورة النمل.(12/285)
جميع الخلائق أَنَّه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله، وقوله تعالى: (إِلا اللَّهُ (استثناء منقطع، أي: لا يعلم أحد ذلك إِلاَّ الله (فإِنَّه المنفرد بذلك وحده لا شريك له، كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ (، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... (إلى آخر السورة (1) . قال ابن كثير: قال ابن أَبي حاتم: حدّثنا عليّ بن الجعد، حدّثنا أبو جعفر الرازي، عن داود بن أَبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أَنَّه يعلم يعني النبي (ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، لأنّ الله تعالى يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ ... (. وقال قتادة: إِنَّما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلّف ما لا علم له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهنة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن ولد بنجم كذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إِلاَّ يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير من الغيب وقضى الله تعالى أَنَّه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وما يشعرون أيان يبعثون، ثُمَّ قال: رواه ابن أَبي حاتم عنه بحروفه، وهو كلام جليل متين صحيح (2) .
المبحث السابع: من محتويات الدعوة في سورة هود (
__________
(1) تقدّمت الإشارة إليها.
(2) طالع تفسير ابن كثير: 3/360، ط دار الجيل، بيروت.(12/286)
وهو يشتمل على منهج نبي الله هو وصالح وشعيب في الدعوة إلى الله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ، يَاقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ((1) ، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ((2) ، (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ((3) ، (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ((4) . (وَإِلَى
__________
(1) الآيات 50 51 من سورة هود.
(2) الآية 61 من سورة هود.
(3) الآيات 84 85 من سورة هود.
(4) الآيات 88 90 من سورة هود.(12/287)
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا (الآية ...
نبي الله هود
نسبه:
هو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن غوص بن إرم بن سام بن نوح، ومن أهل الأنساب من يزعم أن هودًا هو: عابر بن شالح بن رفخد بن سام بن نوح.
وكان قومه أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لأحدها: صداء، وللثاني: صمود، وللثالث: الهباء، فدعاهم هود إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم النّاس فكذّبوه وقالوا: من أشدّ منّا قوّة؟ فلم يؤمن به منهم إِلاَّ القليل، فاستمر في دعوتهم يعظهم وهم متمادون في طغيانهم إلى أن قالوا: ( ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ((1) (2) .
وقال ابن كثير: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وذكر النسب الَّذي ذكره الطبري، فانظره (3) .
__________
(1) الآية 136 من سورة الشعراء.
(2) انظر تاريخ ابن جرير: 1/216 217، ط الثانية، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم.
(3) البداية والنهاية لابن كثير: 1/120، ط الثانية، مكتبة المعارف، بيروت.(12/288)
إنّ منهج نبي الله هود لا يختلف عن منهج أخيه نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والتسليم، لأنّ جميع الرسل متّفقون في المبدأ على الدعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك هو المنهج الأساسي للرسل في دعوتهم الأمم، وقد أخذ نبي الله هو بحظه من ذلك المنهج فدعا قومه إلى توحيد الله وحده ونبذ عبادة الأصنام، وكان (ينذرهم بأس الله ويضرب لهم المثل بقوم نوح، ويذكرهم بنعم الله تعالى عليهم حيث زادهم في الخلق بسطة وجعلهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح، وبوأهم أرضًا مثمرة تدر عليهم الخير الكثير تنبت لهم الزرع الَّذي يعيشون به والكلأ الَّذي تعيش به دوابهم، وكان يخبرهم أن الواجب عليهم أن يستعملوا هذه القوّة الَّتي أعطاهم الله ولم يعطها لأحد سواهم في طاعة الله، وأن يستعملوا عقولهم ويفكّروا بها ليتبيّنوا بها أنّ ما يعبدونه من دون الله لا يضرّهم ولا ينفعهم، وأن الَّذي ينفع ويضر هو الله وحده الَّذي خلقهم وأعطاهم القوّة الَّتي يفتخرون بها، وهو الَّذي بيده إحياؤهم وإماتتهم، وأنهم إذا تابوا إليه مما سلف من الكفر تاب الله عليهم وأغدق عليهم نعمه بإنزال المطر وإمدادهم بقوة إلى قوّتهم وبزيادتهم عزًا إلى عزّهم، كما كان يخبرهم أَنَّه لا يطلب منهم أجرًا مقابل التبليغ، وإِنّما يطلب أجر ذلك من ربّه - سبحانه وتعالى -، فهو لا يطلب منهم مالاً ولا زعامة يتزعمها، ولكنهم سفهوه وكذّبوه وتجاهلوا الحجج الَّتي جاء بها من ربّه والبراهين القاطعة الَّتي أقامها على صدقه فقالوا: (قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيءَالِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ((1) (2) ، وقد بيّن الله هذا المنهج متكاملاً في سورة الأعراف فقال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
__________
(1) الآية 53 من سورة هود.
(2) طالع قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار: 51 52.(12/289)
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواءَالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((1) .
هذا نموذج من منهج نبي الله هود في دعوته، فيجب على كلّ داع أن يقتدي بهود (في منهجه في دعوته وسلوكه مع قومه في الصبر على دعوتهم ونصحه لهم والتوكل على الله وتبليغه لهم رسالة ربه، كما يجب على المدعوين أن يعتبروا بحال قوم هود لما أعرضوا عن دعوته وكذّبوه ولم يستجيبوا لما سمعوه من الحق والنصيحة، وأنّ الله أهلكهم بسبب ذلك بالعذاب الشديد في الدنيا؛ ولعذاب الآخرة أشدّ وأشق.
فنتيجة العقل الاعتبار بالغير، والنظر في عواقب الأمور، وإلاّ لم تكن للإنسان الَّذي خصّه الله بالعقل مزية على غيره من الحيوانات.
ومن هذا العرض السريع يتبيّن لنا أن نبي الله هودًا رسم للدعاة منهجًا يجب عليهم أن يسلكوه، بأن يأمروا المدعوين أوّلاً بعبادة الله وحده وعدم إشراك أيّ مخلوق كائنًا من كان معه في العبادة، وأن يبتعدوا من ظلم النّاس، وأن يحذّروهم بأس الله، وأن يضربوا لهم الأمثال بمن مضى، ويذكّروهم بنعم الله، وأن يبيّنوا لهم أَنَّه لا ضارّ ولا نافع إِلاَّ الله وحده، وأن لا يطلبوا أجرًا على القيام بالدعوة إِلاَّ عند الضرورة كما تقدّم. ولنرجع إلى الآية الَّتي نحن بصددها، ونذكر بعض أقوال المفسرين فيها.
__________
(1) الآيات 65 69 من سورة الأعراف.(12/290)
يقول ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا آمرًا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيًا لهم عن الأوثان الَّتي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة، وأخبرهم أَنَّه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله، إِنَّما يبغي ثوابه من الله الَّذي فطره، أفلا تعقلون من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، ثُمَّ أمرهم بالاستغفار الَّذي فيه تكفير الذنوب السالفة، وبالتوبة عما يستقبلون، ومن اتصف بهذه الصفة يسّر الله عليه رزقه وسهّل عليه أمره، وحفظ شأنه، ولهذا قال: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (، وفي الحديث: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) (1) . قلت: الحديث الَّذي ذكره ابن كثير غير معزو، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 3/490 بسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما بلفظه (2) ، ويقول أبو السعود: قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدّوه كما ينبئ عنه قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (فإِنَّه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها، والتعليل للأمر بالعبادة كأنه قيل: خصُّوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئًا إذ ليس لكم من إله سواه إن أنتم أي ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء له أو بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها إِلاَّ مفترون عليه، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/430 440، المصدر السابق.
(2) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب برقم3819. وأبو داود في كتاب الصلاة برقم1518. وأحمد في المسند برقم2234، وإسناده صحيح، أفاده الشَّيخ شاكر في تعليقه على أَبي داود.
(3) تفسير أَبي السعود: 4/216.(12/291)
فتبيّن مما تقدّم من قصة نوح وهود أن الهدف الأساسي للدعوة الَّذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الكتب هو توحيد الله جلّ وعلا بالعبادة، فهذا تتّفق فيه دعوات الرسل جميعًا، أمّا شرائعهم فإِنَّهَا تختلف؛ كما قال
تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... ((1) . أمّا في أصول الدين فإِنَّهَا تتفق تمامًا، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... ((2) . وفي الحديث المتّفق عليه: أنّ الأنبياء إخوة لعَلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وفي رواية البخاريّ: أولاد عَلات (3) .
ومعنى الحديث: أن الرسل متّفقون في أصول الدين، وعبّر عن ذلك بأنهم أولاد عَلات، وأولاد العَلات الإخوة من الأب، وأصله أنّ من تزوج امرأة ثُمَّ تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها، والعلَلُ: الشرب بعد الشرب، فأولاد العَلات الإخوة من الأب وأمهاتهم شتى، وفي بعض الروايات: أمهاتهم شتى ودينهم واحد، فكنى عن توحيد دينهم باشتراكهم في الأبوة، فأصل الدين الَّذي هو التوحيد واحد وإن اختلفت فروع الشرائع (4) .
__________
(1) الآية 48 من سورة المائدة.
(2) الآية 3 من سورة الشورى.
(3) أَخرَجه البخاريّ في كتاب الأنبياء، باب قول الله: واذكر في الكتاب مريم.
... ومسلم في كتاب الفضائل، باب فضل عيسى (.
(4) انظر فتح الباري: 6/489.(12/292)
أمّا منهج النبي صالح فإِنَّه لا يختلف عن منهج أخويْهِ نوح وهود؛ فقد دعا قومه لتنفيذ مضمون ما بعث من أجله وهو إفراد الله وحده بالعبادة دون سواه، ثُمَّ شرع يذكرهم بنعم الله جلّ وعلا عليهم بأنه أنشأ أباهم من آدم من التراب، واستعمرهم في الأرض أي جعلهم عمارها بعد من كانوا فيها وأبيدوا، وأطال أعمارهم فيها حيث كانت أعمارهم تتراوح ما بين ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة، لذلك عدلوا عن بناء الطين ونحتوا البيوت في الجبال، ثُمَّ أمرهم بالاستغفار أي طلب غفران الذنوب من الله جلّ وعلا والتوبة إلى الله لأَنَّه تواب رحيم قريب مجيب.
نبي الله صالح
من هو صالح؟(12/293)
هو صالح بن عبد الله بن ملسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح (1) ، أرسله الله إلى قومه: ثمود، وهم قبيلة مشهورة، سُمُّوا باسم جدهم ثمود أخي جديس من ذرية سام بن نوح، ومساكنهم بمدائن الحجر بين تبوك والمدينة (2) ، وكان هؤلاء بعد عاد قوم هود كما بيّن ذلك القرآن حيث يقول حاكيًا عن صالح يخاطب قومه: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ... ((3) ، وكان منهجه (في دعوته أَنَّه لما بعثه الله رسولاً إلى قومه دعاهم إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة وطرح عبادة الأوثان، لكن الكثير منهم رفض هذه الدعوة فآذوا نبي الله صالحًا وهمّوا بقتله وعقروا الناقة الَّتي جعلها الله آية على صدقه، وقد كان حذّرهم من قتلها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ((4) . وخلاصة القول أنّ نبي الله صالحًا عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده، ونصح لهم وذكّرهم بآيات الله، وأقام لهم الأدلة القاطعة على صدقه في دعوته، وهذا ما ينبغي لكلّ داع إلى الله تعالى أن يسلكه في دعوته حيث يركّز على عدم الشرك بالله لأنّ الشرك أخفى من دبيب النمل، ويقع فيه الكثير من النّاس دون أن يشعر، ويذكّر المدعوين بآيات الله أي بوقائعه الَّتي أهلكت الأمم السابقة المكذّبة للدعاة وأن يقيم الأدلة القاطعة من كتاب الله وسنّة نبيّه (على ما يدعو النّاس إليه، ولا يضرّه عدم استجابة المدعوين إذ في الرسل أسوة حسنة، فالعاقل
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير: 1/130 131، المصدر السابق.
(2) قصص الأنبياء لابن كثير: 1/145.
(3) الآية 74 من سورة الأعراف.
(4) الآية 61 من سورة هود.(12/294)
من يعتبر بغيره.
يقول رشيد رضا في المنار: وقد علمنا من سنّة القرآن وأساليبه في قصص الأنبياء مع أقوامهم أنّ المراد بها العبرة والموعظة ببيان سنّة الله تعالى في البشر وهداية الرسل عليهم الصلاة والسلام لا حوادث الأمم وضوابط التاريخ مرتبة بحسب الزمان أو أنواع الأعمال، وقد حكى هنا عن صالح (أَنَّه ذكر الآية الَّتي أيّده الله بها عقب تبليغ الدعوة، وفي قصّته من سورة هود أَنَّه ذكر لهم الآية بعد ردّهم لدعوته وتصريحهم بالشك في صدقه، وزاد في سورة الشعراء طلبهم الآية منه، وكلّ ذلك صحيح ومراد، وهو المسنون المعتاد.اهـ (1) . لكن نبي الله صالحًا كان ينادي أقوامًا عميًا عن رؤية الحق صمًا عن سماعه غلبت عليهم الشقوة فأنكروا عليه نهيه لهم عن عبادة ما كان آباؤهم يعبدونه من الأصنام، وأخبروه أَنَّهم في شك موقع لهم في الريبة من دعوته الَّتي قدّمها
إليهم، وقالوا: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُءَابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ((2) ، أي كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك فلمّا نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا منك وعلمنا أن لا خير فيك، وقيل: المعنى: كنا نرجوك أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه (3) . ولما قالوا مقالتهم هذه كان جوابه في غاية الروعة ولين الجانب، فقال: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَءَاتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ
__________
(1) تفسير المنار: 8/105.
(2) الآية 62 من سورة هود.
(3) طالع الكشاف: 2/27.(12/295)
تَخْسِيرٍ ((1) . أي يا قوم أرأيتم إن اتبعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني عذابه؟ فما تزيدونني غير تخسير أي تضليل وإبعاد من الخير، وقد ذكر الله كيفية هلاك قوم صالح في سور من القرآن كثيرة كسورة هود والأعراف والحاقة والذاريات وغير ذلك، ولشهرتها لم نتتبع الكلام عليها، فالناظر في منهج صالح وأساليبه في الدعوة يستفيد من ذلك كيف يدعو بحكمة وموعظة حسنة ومجادلة بالحسنى، فالله جلّ وعلا ما ذكر لنا قصص الأنبياء وأحوال الأمم وكيف أهلكوا، وكيف صبر الدعاة على ما يلاقونه من الأذى في سبيل الدعوة إِلاَّ لنقتفي أثر الدعاة ونتعظ بحال من دعوهم، س لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ش (2) .
نبي الله شعيب
من هو شعيب؟
قال ابن كثير: قال محمَّد بن إسحاق: هم من سلالة مدين بن إبراهيم، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر، قال: واسمه بالشَريانية: يثَرون، ثُمَّ قال: قلت: مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة ... وهم أصحاب الأيكة، قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به، ثُمَّ وعظهم في معاملتهم النّاس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبْخسوا النّاس أشياءهم في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسًا كما في قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.. (إلى قوله:
__________
(1) الآية 63 من سورة هود.
(2) الآية 111 من سورة يوسف.(12/296)
(لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ((1) . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وهذا ما تصوّره آيتا هود: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ((2) . فنبيُّ الله شعيب نهج منهج إخوانه السابقين في البدء بالدعوة إلى التوحيد لأنّ ذلك هو الأمر المهم الأساسيّ للدعوة، وشعيب قرن ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والترهيب من عاقبة ما هم مشتهرون به من تطفيف الكيل والوزن: س وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ش (3) ؛ فإني أخاف أن تُسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله يعني: إني أراكم بخير في معاشكم ورزقكم فأخاف أن تُسلبوا ذلك، ومع ذلك أخاف عليكم عذاب الآخرة الَّذي هو العذاب المحيط بكم من جميع النواحي، ثُمَّ بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر س وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ... ش (4) . فنهاهم عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا النّاس، ثُمَّ أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين، ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/221، المصدر السابق.
(2) الآيات 1 6 من سورة المطففين.
(3) الآيات 84 85 من سورة هود.
(4) تقدّمت الإشارة إليها.
(5) انظر ابن كثير بتصرف في النقل.(12/297)
وفي سورة الأعراف أشار القرآن إلى نموذج من منهجه في الدعوة فقال عنه: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ((1) ، فجمع في هذه الآية بين ثلاثة أمور: النهي عن ظلم النّاس وترصدهم على الطرق لأخذ أموالهم وتوعدهم بالقتل وغيره من أنواع الأذى، الأمر الثَّاني: تذكيرهم بنعمة الله عليهم حيث كانوا قلّة ضعفاء فكثروا وقووا، الأمر الثَّالث: أمره لهم بالنظر في عاقبة من سبقهم من الأمم المكذبة للرسل ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابهم إذ لا مزية لهم على غيرهم وعلّة الهلاك موجودة فكأنه يقول لهم: تأمّلوا في حال من سبقكم من الأمم، واعتبروا بها فما هي منكم ببعيد.
__________
(1) الآية 86 من سورة الأعراف.(12/298)
وتمثّل لنا ثلاث آيات متوالية من سورة هود ثلاثة نماذج من منهج نبي الله شعيب ينبغي لكل داع إلى الله أن يتّصف بها ويجعلها منهجًا يسلكه: النموذج الأَوَّل: إخباره لهم بأنه لا ينهاهم عن منكر ثُمَّ يخالف ويأتي ذلك المنكر حيث إِنَّه لا يريد إِلاَّ الإصلاح، وفعل المنكر ليس فيه إِلاَّ الفساد، الثَّاني: تحذيره لهم مما حلّ بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من العذاب، فقد استعمل أسلوب الترهيب لأنّ الرسل إِنَّما بعثوا مبشّرين ومنذرين، الثَّالث: أمره لهم بالاستغفار والتوبة إلى الله وإخباره لهم بأنّ الله رحيم ودود، أي عظيم الرحمة للتائبين، ودود أي محبّ لهم، فهو بمعنى فاعل، أي يود عباده ويرحمهم، وقيل بمعنى مفعول، بمعنى أنّ عباده يحبونه (1) ، وإليك نصّ الآيات، (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ((2) .
__________
(1) انظر الفتوحات الإلهية للجمل.
(2) الآيات 88 90 من سورة هود.(12/299)
النموذج الأَوَّل من مناهج نبي الله شعيب هو التزام الداعية بما يدعو إليه وابتعاده عما ينهى عنه فلا يُرى حيث نهاه الله ولا يفقد حيث أمره؛ فإذا كان كذلك كان قدوة حسنة وإلا كان متّخذًا دعوته هزؤًا بالدين وسخرية ودخل في الوعيد الشديد كما في الحديث الصحيح الَّذي أخبر به رسول الله (عن أسامة ابن زيد أنّ رسول الله (قال: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه (1) فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)) (2) .
__________
(1) قال النووي: قال أبو عبيد: الأقتاب: الأمعاء، قال الأصمعي: واحدها قتبة، وقال غيره: قِتْب، وقال ابن عيينة: هي ما استدار في البطن، وهي الحوايا والأمعاء، وهي: الأقصاب، واحدها قصب، والاندلاق: خروج الشيء من مكانه. شرح النووي لمسلم: 18/118 119، ط دار الفكر، بيروت، لبنان.
(2) أَخرَجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم في كتاب الزهد والرقاق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله.(12/300)
قال الحافظ ابن حجر بعد نقله كلامًا للطبري في شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ... وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه ضررًا منه ولو كان الآمر متلبّسًا بالمعصية لأَنَّه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولاسيما إن كان مطاوعًا، وأمّا إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذ به، وأمّا من قال: لا يأمر بالمعروف إِلاَّ من ليست فيه وصمة فإن أراد أَنَّه الأولى فجيّد وإلا فيستلزم سدّ باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره (1) ، وقال أَيضًا: قال الطبري: فإن قيل: كيف صار المأمورون في حديث أسامة المذكور في النار؟ والجواب: أَنَّهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذّبوا بمعصيتهم وعذّب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه (2) . فظهر مما نقل عن ابن حجر أن آتي المنكر لا يمنعه ذلك من النهي عنه وأنّ الأمر بالمعروف لا يمنع منه كون الآمر تاركًا له لأنّ له من فعل الخير وعليه ما عليه من فعل الشر كمن سرق في صلاته يكون له ثواب القربة إلى الله وعليه وزر السرقة، ولهذا نظائر كثيرة كمن لبس من الرجال حريرًا أو ذهبًا وصلّى فيه أو توضأ بماء مغصوب وصلّى، وهذه مسألة فيها بحوث ومناقشات للعلماء حول انفكاك الجهة وعدمه مع اتفاقهم على أن الجهة إذا انفكت صحّت العبادة وأثيب المكلّف عليها لكنهم اختلفوا في تحقيق مناط انفكاك الجهة، وليس هذا موضع بسط لذلك وإِنّما هو في الفقه وأصوله. قلت: لا شكّ أَنَّه من واجب الداعي أن يكون قدوة حسنة وأن يكون ملتزمًا شرع الله مستقيمًا في دينه وسلوكه وخلقه ومعاملته لأنّ ذلك أدْعَى إلى قبول دعوته، فإن لم يوجد ذلك وكان عالمًا بما يدعو إليه وبما ينهى عنه، وكان في حال يحتاج أهلها إلى الدعوة لا نقول إِنَّه يترك الدعوة من أجل معصية ارتكبها، ولعلّه باستمراره في الدعوة إلى ما لا يأتيه يلهمه
__________
(1) فتح الباري: 13/53، ط السلفية.
(2) الفتح، المصدر السابق نفسه.(12/301)
الله رشده فيستقيم على الحق فيعمل وفق ما يدعو، والله أعلم.
أمّا الأمر الثَّاني الَّذي هو أسلوب الترهيب في قوله: (وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ((1) ، فقد استعمل فيه شعيب أسلوب الترهيب فحذّرهم بأس الله قائلاً لهم: لا يجرمنكم شقاقي أي لا يحملنكم شقاقي أي خلافي، قاله الحسن وقتادة، وقيل: لا يكسبنكم، قاله الزجاج (2) أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من الريح، أو قوم صالح من الرجفة والصيحة. وما قوم لوط منكم ببعيد مكانًا أو زمانًا، فعلى الأَوَّل يكون المعنى: أن مكان قوم لوط قريب من مكان قوم شعيب في المسافة لأنّ مدين وقرى قوم لوط متقاربتان جدًّا لأنّ مدين قريبة من معان الَّتي في أطراف الأردن، وقرى قوم لوط حول ما يسمى بالبحر الميت الآن في الأردن، وعلى الثَّاني وهو قول قتادة أن زمان قوم لوط كان قريبًا من زمان قوم شعيب، وفي كل داع إلى الاعتبار بحالهم.
أمّا النموذج الثَّالث هو أن نبي الله شعيبًا استعمل فيه أسلوب الترغيب، حيث قال: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ((3) . قدّم لهم أوّلاً النصيحة الكاملة حيث أمرهم بالاستغفار والتوبة إلى الله مما سلف منهم من الكفر والمعاصي ورغّبهم في ذلك قائلاً: إنّ ربّي رحيم بعباده التوابين، ودود محبّ لهم، فمن تاب إلى الله توبة نصوحًا رحمه بأن يقبل توبته ويحبه هكذا ظهر من حال شعيب أَنَّه مخلص في دعوته ناصح لأمّته، باذل كلّ ما في وسعه لإنقاذهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، لكن الهداية بيد الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
__________
(1) تقدّمت الإشارة إليها.
(2) انظر النكت والعيون للماوردي.
(3) تقدّمت الإشارة إليها.(12/302)
قال الآلوسي في روح المعاني: وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته (الثلاثة يعني: (يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ ( ... إلخ، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ( ... إلخ، و (إِنْ أُرِيدُ ( ... إلخ على هذا النسق شأنًا وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كلّ ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حقّ الله تعالى فإِنَّ الجواب الأَوَّل متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته، وثانيها حقّ النفس فإِنَّ الجواب الثَّاني متضمن بيان حقّ نفسه من كفّها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره، وثالثها حق النّاس فإِنَّ الجواب الثَّالث متضمن للإشارة إلى أنّ حقّ الغير عليه إصلاحه وإرشاده ... وقال غير واحد إِنَّه قد اشتمل كلامه (على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عزّ شأنه في أموره وحَسْمِ أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم ... (1) .
__________
(1) انظر روح المعاني للآلوسي: 6/316.(12/303)
قلت: كلّ هذه الأمور الَّتي ذكرها الآلوسي يحتاج إليها الداعي دون استثناء، فكلّ ما حوته هذه الآيات من سورة هود من المعاني الَّتي تتعلّق بالداعي والمدعوين لا غنى للدعاة عنها اليوم، فلا ينبغي لداع أن يخالف ما يدعو إليه من البرّ ولا ينبغي له أن يريد إِلاَّ إصلاح نفسه وإصلاح من يدعوهم حسب استطاعته وليكن في ذهنه أنّ التوفيق بيد الله وأَنَّه هو لا يملك إِلاَّ مجرد الإرشاد والتوجيه وبيان طريق الخير وطريق الشر، أمّا الهداية الخاصة فلا يملكها إِلاَّ الله (، كما يجب عليه التوكل على الله وحده، والإنابة إليه بالتوبة النصوح، ويحذرهم من أن يحملهم خلافه إلى أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم المكذبة للدعاة، ثُمَّ يأمرهم بالاستغفار من الذنوب، والتوبة إلى الله جلّ وعلا، ويرغبهم في ذلك بأن يخبرهم بأن الله رحيم بعباده يقبل توبة من تاب إليه، ودود كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه.
المبحث الثامن: ما احتوت عليه الآيات الآتية من سورة هود
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ((1) .
__________
(1) الآيات 112 115 من سورة هود.(12/304)
لا شكّ أن هذا تعليم من الله جلّ وعلا لنبيه سيّد الدعاة أمره في هذه الآيات بالاستقامة هو ومن تاب معه من المؤمنين، ونهاهم عن الطغيان، وأخبرهم أَنَّه جلّ وعلا عليم بما يعملونه محذّرًا لهم من أن يعملوا عملاً يخالف شرعه تعالى، ثُمَّ نهاهم عن الركون إلى الظلمة وأخبرهم أن ذلك سبب في مساس النار لهم، ثُمَّ أمره تعالى بإقامة الصلاة طرفي النهار، يعني الصبح في أوّله والظهر والعصر في آخره، وزلفًا من الليل أي من ساعات من الليل أي المغرب والعشاء، وعليه تكون الآية اشتملت على التوقيت للصلوات الخمس، ثُمَّ أخبر أن الحسنات أي فعل الطاعات يكون سببًا في تكفير السيئات، ثُمَّ أمره بالصبر على تحمّل المشاق في سبيل دعوته وأخبره أَنَّه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فالله جلّ وعلا في هذه الآيات تارة يخاطب النَّبي (بصيغة الإفراد، وتارة يخاطبه مع الأمّة مع أن الخطاب له (خطاب لأمّته بلا شكّ ولا عبرة بخلاف الشافعية في ذلك وقولهم إن خطابه (لا يتناول الأمّة لاختصاص الصيغة به، أمّا الأئمة الثلاثة الآخرون فإِنَّ خطابه عليه الصلاة خطاب لأمّته عندهم مع خلاف عند المالكية في المسألة لكنه قول مرجوح، أمّا الحنابلة والحنفية فهو خطاب لهم بلا خلاف عندهم، قالوا: لأنّ أمر القدوة أمر لأتباعه عرفًا. قال صاحب مراقي السعود في أصول فقه مالك:
وما به قد خوطب النبيُّ
(
تعميمه في المذهب السنّي
فقوله: تعميمه في المذهب السني يشير إلى الخلاف الَّذي ذكرنا وأن السني هو التعميم. وتحرير المسألة في كتب أصول الفقه.(12/305)
والحاصل أنّ الناظر في هذه الآيات يتمثل الدعوة أمامه واضحة، فلو لم يوجد لمناهج الدعوة وأساليبها إِلاَّ هذه الآيات لكانت وافية بالمقصود، فكل داع دعا إلى الاستقامة وعدم الطغيان وحذّر المدعوين عذاب الله بأن الله مراقب أعمالهم بصير بها، ثُمَّ حذّرهم من الركون إلى الظلمة والرضا بفعلهم، وأخبرهم أن فاعل ذلك مستحق لدخول النار وأَنَّه لا ولي له من دون الله وأن الله لا ينصره، ثُمَّ أمر بإقامة الصلاة كما أمر (بأن تصلى كما كان يصليها ((صلّوا كما رأيتموني أصلي)) (1) ، وصبر على ما يلاقيه من الأذى في سبيل دعوته إذا التزم بهذه المناهج والأساليب كفته لدعوته طيلة حياته، وإليك بعض الكلام حول الآيات:
بدأت الآيات بالأمر بالاستقامة مخاطبًا فيها ربّ العزة والجلال أفضل خلق الله وأعظمه استقامة وأتقاه لله، فلمّا أمره بالاستقامة مع علمه تعالى أَنَّه (لن ينحرف عن الطريق المستقيم علمنا أن للاستقامة شأنًا عظيمًا فينبغي للدعاة التركيز على هذه النقطة في حالة دعوتهم للمسلمين المتّقين ليعلم كلّ النّاس أَنَّه لا غنى لأحد عن الدعوة، فالعاصي يؤمر بترك المعصية، والجاهل يؤمر بالتعلم، والعاق يؤمر بالتوبة والبرور، والقاطع للرحم يؤمر بوصلها، وهكذا، والمؤمن المتقي يؤمر بالاستقامة على ما هو عليه.
ومن هنا يتبيّن لنا أن الدعوة عامة لجميع النّاس، وأن العصاة لم يكونوا أحوج إليها من الأبرار، ومما يدلك على ذلك أنك لو تتبعت آيات الاستقامة في القرآن وجدت غالبها موجّهًا للرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
قال تعالى في آية هود: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... ((2) ، وقال تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاريّ في صحيحه في كتاب الأذان عن مالك بن الحويرث في باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة ...
(2) تقدّمت الإشارة إليها.(12/306)
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ... ((1) ، وقال تعالى مخاطبًا موسى وهارون: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ((2) ، وقال تعالى في شأن عباده المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ((3) ، وقال تعالى في شأنهم أَيضًا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ((4) ، وقال تعالى مخبرًا عن الإنس والجن: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ((5) . فاتضح من استقراء القرآن أن الاستقامة على الحق مطلوبة من الأنبياء أكمل النّاس استقامة، ومطلوبة من عباد الله المؤمنين، ومطلوبة من الإنس والجن على العموم.
__________
(1) الآية 15 من سورة الشورى.
(2) الآية 89 من سورة يونس.
(3) الآية 30 من سورة فصلت.
(4) الآية 13 من سورة الأحقاف.
(5) الآية 6 من سورة الجن.(12/307)
فيا دعاة العصر لا تنسوا عباد الله المؤمنين من دعوتكم، واعلموا أَنَّهم محتاجون إليها، فالله جلّ وعلا يخاطب أصحاب محمَّد (الَّذين هم أكمل النّاس إيمانًا فيقول: (ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ((1) ، ويقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ((2) . وهذا الأمر للمؤمنين بالإيمان هو الاستقامة بعينها، لأنّ الله حكم عليهم بالإيمان ثُمَّ أمرهم به، فمعنى ذلك: دوموا على ما أنتم عليه من الإيمان واستقيموا. قال الآلوسي عند تفسيره لآية هود هذه (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... (: والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة، وهي لزوم المنهج المستقيم، وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط، وهي كلمة جامعة لكلّ ما يتعلّق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق، فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه (وبين سائر المؤمنين، والأمور الخاصة به (من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمّل أعباء الرسالة وغير ذلك، ثُمَّ تكلّم عن شأن سورة هود ولِم ورد في الحديث أَنَّهَا شيّبته دون ذكر السور الَّتي ذكرت في أحاديث أخر معها، فقال: وذلك أن مبنى هذه السورة على إرشاده تعالى شأنه نبيّه (إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها، ولما يعتري مَن تصدّى لهذه المرتبة السَّنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد ... ) (3) .
وسأذكر إن شاء الله طرفًا من هذا في خاتمة هذا البحث.
__________
(1) الآية 7 من سورة الحديد.
(2) الآية 136 من سورة النساء.
(3) انظر تفسير الآلوسي: روح المعاني: 6/345 346، المصدر السابق.(12/308)
وفي تفسير القرطبي قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... (، الخطاب للنبي (ولغيره، وقيل: له، والمراد أمّته، قاله السُّدي، وقيل: استقم: اطلب الإقامة على الدين من الله واسْأله ذلك فتكون السين سين السؤال كما تقول: أستغفر الله: أطلب الغفران منه، والاستقامة: الاسْتمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال، فاستقم على امتثال أمر الله ... ، ومن تاب معك: أي استقم أنت وهم، يريد أصحابه الَّذي تابوا من الشرك ومن بعده ممّن اتبعه من أمته، قال ابن عبّاس: ما نزل على رسول الله (آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، قال: ((شيّبتني هود وأخواتها)) (1) .
وقد روي عن أَبي عبد الرَّحمن السلمي قال: سمعت أبا عليّ السَّري يقول: رأيت النَّبي (في المنام فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت: شيّبتني هود وأخواتها؟ فقال: نعم، فقلت له: ما الَّذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله: فاستقم كما أمرت.
ولا تطغوا، نهي عن الطغيان، والطغيان: مجاوزة الحدّ، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ... ((2) . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد. اهـ (3) .
وقال ابن عطيّة: أمر النَّبي (بالاستقامة وهو عليها إِنَّما هو أمر بالدوام والثبات، وهذا كما تأمر إنسانًا بالمشي والأكل ونحوه وهو متلبّس به، والخطاب في هذه الآية للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الَّذين تابوا من الكفر، ولسائر أمّته بالمعنى (4) .
فظهر من جميع الأقوال المتقدّمة أن الاستقامة مأمور بها (، وأصحابه مأمورون، وأمّته كذلك مأمورة بها حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) تقدّم تخريجه أوّل البحث.
(2) الآية 11 من سورة الحاقة.
(3) القرطبي: 9/71.
(4) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 7/414.(12/309)
قلت: ثبت في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، وفي رواية: غيرك، قال: ((قل آمنت بالله فاستقم)) (1) ، وفي مسند الإمام أحمد عنه أَيضًا: ((قل آمنت بالله ثُمَّ استقم)) (2) ، وأخرج السيوطي في الدر المنثور عن ابن أَبي حاتم وأَبي الشَّيخ عن الحسن (قال: لمّا نزلت هذه الآية: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ (، قال: شمّروا شمّروا، فما رؤي ضاحكًا. وأَخْرَجَ عنه أَيضًا قال: خصلتان إذا صلحتا للعبد صلح ما سواهم من أمره: الطغيان في النعمة، والركون إلى الظلم، ثُمَّ تلا هذه الآية: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ... ((3) .
ولنلق ضوءًا على آية الشورى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ ... (. يقول أبو السعود: فلذلك أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، أو فلأجل أَنَّه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، فادع أي النّاس كافة إلى إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه، فإِنَّ كلاً من كفرهم وكونهم في شكّ مريب ومن شرْع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله (سببٌ للدعوة إليه والأمر بها ... أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم عليه وعلى الدعوة إليه كما أمرت وأوحي إليك (4) .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام.
(2) المسند: 3/413.
(3) الدر المنثور: 3/636 637.
(4) تفسير أَبي السعود: 8/27.(12/310)
وقال القرطبي: قوله تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ ... (أي فتبينت شكهم فادع إلى الله أي إلى ذلك الدين الَّذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به، فاللام بمعنى إلى، كقوله تعالى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ((1) أي إليها، وذلك بمعنى: هذا، والمعنى: فلهذا القرآن فادع، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع ... ، وقال ابن عبّاس: أي إلى القرآن فادع الخلق واستقم على أمر الله، قاله قتادة، وقيل: استقم على القرآن، قاله سفيان، وقيل: استقم على تبليغ الرسالة، قاله الضحاك (2) .
وعلى كلّ حال فالواجب على الداعي أن يدعو إلى الاستقامة على الدين، وإلى الاستقامة على القرآن، وإلى الاستقامة على شرع الله، وإلى الاستقامة على تبليغ الرسالة وإن كانت هذه الأمور متقاربة في المعنى لكنها تحتاج إلى توضيح وبيان وخصوص كلّ واحد منها بعينه لشدّة الحاجة إلى ذلك في زمننا هذا الَّذي تتنازعه الأفكار الهدامة للدين ما بين ملحد وشيوعي ويهودي ونصراني ومجوسي، ولا سلاح يقف أمام هذه التيارات المعادية للإسلام والمسلمين إِلاَّ دعوة المسلمين للتسلح بكتاب الله وسنّة رسوله (والتمسك بمبادئ الدين، والثبات عليه والاستقامة، والعض عليه بالنواجذ، وتحكيم شرع الله في أرضه وبين عباده، وعليه ينبغي أن يكون تركيز الدعوة اليوم على هذه الناحية لما لها من الأهمية البالغة. أمّا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
__________
(1) الآية 5 من سورة الزلزلة.
(2) تفسير القرطبي: 16/10.(12/311)
اسْتَقَامُوا ... ((1) في فصّلت والأحقاف ففيه وعد عظيم من الله جلّ وعلا بدخول الجنة وبتنزل الملائكة عليهم وبشارتها لهم بالأمن وعدم الحزن، وهذا هو غاية كلّ مؤمن، إذ كلّ مؤمن يسعى إلى أن يكون مصيره الجنّة والأمن من أهوال يوم القيامة، فيجب على الدعاة أن يجمعوا بين الترغيب والترهيب، وفي الآيتين المذكورتين من الترغيب ما لا يعلمه إِلاَّ الله (، فالرسل بعثوا مبشّرين ومنذرين، كذلك ينبغي أن يكون الدعاة يحذون حذوهم في كلّ خطوة من خطوات الدعوة. يقول الإمام الشوكاني: إنّ الَّذين قالوا ربّنا الله، أي: وحده لا شريك له، ثُمَّ استقاموا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله، قال جماعة من الصَّحابة والتابعين: معنى الاستقامة: إخلاص العمل لله، وقال قتادة وابن زيد: استقاموا على طاعة الله، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إِلاَّ الله حتَّى ماتوا، وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله ... تتنزل عليهم الملائكة من عند الله - سبحانه وتعالى - بالبشرى الَّتي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضرّ أو رفع حزن. قال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث ... (2) .
وفي بقيّة الآيات الَّتي ذكرنا مما تجب الدعوة إليه: إقامة الصلوات الخمس المفروضة لأنّ أقامتها هي أساس الدين، وتاركها منسلخ من الإيمان بإجماع إذا كان ذلك جحودًا، وعند الإمام أحمد ولو كان تكاسلاً مع اعترافه بوجوبها، فمن ضيّع الصلاة فهو لما سواها أضيع، لأَنَّها عمود الدين.
__________
(1) تقدّمت الإشارة إليها.
(2) فتح القدير: 4/515.(12/312)
وفيها الحثّ على الصبر بأنواعه: كالصبر على الطاعات، ومن أعظمه الصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، لأنّ الله يقول: ( ... فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ((1) ، والصبر عن المعاصي، والصبر على المصائب.
وختام الآيات قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (، فيه الترغيب في فعل الخير، فالوعد من الله لا يخلف، فهو لن يضيع لعبد من عباده أجر أي عمل ولا ينقصه من ثوابه فلن يهلك على الله إِلاَّ هالك، والكلام حول هذه الآيات كثير، وفيما ذكرنا كفاية للمنصف.
* * *
خاتمة:
نسأل الله حسنها
__________
(1) الآية 195 من سورة آل عمران.(12/313)
اشتمل هذا البحث المتواضع على دعوة بعض الرسل كنوح وهود وصالح وشعيب إضافة إلى دعوة نبينا محمَّد (وذلك لأنّ هذه السورة الكريمة اشتملت على مناهج وأساليب للدعوة إلى الله جلّ وعلا، فقد بدأت بتقرير أصول الدين وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك، فأثبتت وجود الله ووحدانيته، وردت الشبه الَّتي كان أعداء الإسلام يثيرونها حول القرآن والرسالة والدعوة، ففرقت بين الأعمى عن دعوة الحق وبين من بصّره الله فأنار بصيرته فاستجاب لها، وقرّرت أَنَّه لا يعلم الغيب إِلاَّ الله (ومن استثناهم من رسله حيث أطلع بعض رسله على بعض غيبه، وقد ذكرت في هذا البحث تعريف الدعوة لغة واصطلاحًا، وبيّنت أن الدعوة إلى الله هي دعوة الحقّ، وأن دعوة الحقّ هي شهادة أن لا إله إِلاَّ الله، وأنّ الدعوة تطلق على الدعوة إلى هدى وإلى ضلالة، ثُمَّ بيّنت حكم الدعوة، وهل هي فرض عين أو فرض كفاية، وذكرت الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، وذكرت اختلاف العلماء في ذلك وسببه، وجمعت بين الأقوال في ذلك، وذكرت نماذج من الآيات الدالة على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب إِنَّما هو من أجل إقامة توحيد الله في أرضه، وبيّنت أن غالب ما يستجيب لدعوة الرسل ضعاف النّاس، وأن وجهاءهم وعظماءهم يقفون أمام الدعوة، وهذه سنّة الله الَّتي لا تتغير، وذكرنا مثالاً لذلك في حديث أَبي سفيان مع هرقل ملك الروم، ثُمَّ ذكرت نبذة عن دعوة نوح وهود وصالح وشعيب، أمّا إبراهيم ولوط فإِنَّهُما ذكرا في السورة لا لبيان الدعوة وإِنّما ذكر البشارة إبراهيم بإهلاك قوم لوط أو بولده إسحاق أو بهما معًا، وأمّا لوط فإنما ذكر في السورة من أجل إخباره بإهلاك قومه وأمره بما يفعل من وسائل النجاة من العذاب، وبيّنت أَنَّه من واجب الدعاة الصبر على الأذى في تحمّل الدعوة أسوة برسل الله وأنهم لا يضرّهم عدم الاستجابة لدعوتهم لأنّ الرسل كانوا كذلك ولم يثن ذلك عزائمهم عن الاستمرار(12/314)
في الدعوة، وبيّنت شدّة توكّل الرسل على ربهم وذكرت مثالاً لذلك وهو تحدِّي نبي الله هود لقومه، كما بيّنت أن الرسل جميعًا أخبروا أممهم بأنهم لا يطلبون منهم أجرًا مقابل تبليغ الدعوة إلى الله، وذكرت خلاف العلماء في جواز أخذ العالم الأجرة على تعليم العقائد والحلال والحرام والقرآن الكريم وذكرت أدلة الفريقين والتفصيل الَّذي ذكره شيخنا الشَّيخ محمَّد الأمين في أضواء البيان، وأثبت رسالة محمَّد (عن طريق إخبار القرآن بأنه ما كان حاضرًا نداء الله لموسى بجانب الطور ولا كان حاضرًا عندما كان زكريا وقومه يقتسمون على كفالة مريم، ولا كان حاضرًا في أهل مدين لما بعث فيهم شعيب ولكن الله أرسله وأوحى إليه ذلك كلّه، وبيّنت أن هذا النوع مما تشتد الحاجة إليه في زمننا هذا، وبيّنت أن الأوامر لرسول الله (في القرآن بالدعوة أوامر لأمّته إِمّا أن يكون الخطاب له والمراد الأمّة أو يكونوا داخلين معه في الخطاب لأنّ خطاب القدوة خطاب للأتباع إِلاَّ ما دلّ الدليل على خصوصه به كقوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ((1) ، كما بينت أن نبي الله شعيبًا رسم للدعاة منهجًا يسيرون عليه إلى يوم القيامة وهو أن الداعي لا ينبغي له أن يأمر بأمر إِلاَّ ويأتيه ولا ينهى عن منكر ويأتيه، وذكرت حديث الصحيحين المشتمل على الوعيد على ذلك، وذكرت نماذج واقعية من حال الرسل دلّت على أَنَّهم لا يعلمون من الغيب إِلاَّ ما علّمهم الله مثل قضية الإفك الَّتي ما كان (يعلم براءة أمّ المؤمنين منها شهرًا كاملاً حتَّى أتاه الوحي، ومثل ذبح إبراهيم العجل للملائكة يظنّهم رجالاً، وكضيق ذرع لوط بمجيئهم له يظنّهم بشرًا، وكقصة يعقوب الَّذي ابيضت عيناه من الحزن على يوسف وليس بينه وبينه إِلاَّ مسافة قصيرة، ونحو ذلك، كما بيّنت أن الملائكة كذلك لا يعلمون من الغيب إِلاَّ ما علّمهم الله (قَالُوا
__________
(1) الآية 50 من سورة الأحزاب.(12/315)
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ((1) ، وبيّنت أن المنهج الأساسي لدعوة الرسل واحد وهو الدعوة إلى توحيد الله وأن شرائعهم تختلف، ثُمَّ تكلّمت على الاستقامة وأنها أمر مُهِمٌّ وأن المسلمين في حاجة إلى الدعوة إلى الاستقامة لأنّ الله أمر نبيه محمَّدًا (أشد النّاس استقامة أمره بها وأمر بها موسى وهارون وبينت أن الإنس والجن لو استقاموا على الطريقة لفتح الله عليهم من بركاته وخيراته إلى غير ذلك مما احتوى عليه هذا البحث من أمور الدعوة إلى الله.
ثُمَّ إني قد وعدت أثناء البحث بالرجوع إلى علّة كون سورة هود شيّبت رسول الله (مع أني قدّمت بعض الأحاديث الَّتي نصّت على ذلك أي على أَنَّهَا شيّبته هي وأخواتها: عمّ، وإذا الشمس كوّرت، والمرسلات، إلى غير ذلك.
__________
(1) الآية 32 من سورة البقرة.(12/316)
قال القرطبي في مقدّمة تفسير سورة هود: قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب، وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد وتحت كلّ شعرة منبع ومنه يعرق فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض، وإِنّما يبيض شعر الشَّيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله وأهوال ما جاء به الخبر عن الله فتذبل وينشِفُ ماءَها ذلك الوعيد والهول الَّذي جاء به، فمنه تشيب، قال الله تعالى: س يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ش (1) ، فإنما شابوا من الفزع، وأمّا سورة هود فلمّا ذكر الأمم وما حلّ بهم من عاجل بأس الله تعالى فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه فلو ماتوا من الفزع لحقّ لهم ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتَّى يقرؤوا كلامه، وأمّا أخواتها فما أشبهها من السور مثل الحاقة، وسأل سائل المعارج، وإذا الشمس كوّرت، والقارعة، ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس، قلت: وقد قيل: إنّ الَّذي شيّب النَّبي (من سورة هود قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ((2) .
وقيل: إن سبب شيبه من سورة هود ذكر ما حلّ بالأمم السابقة فيها من العذاب فكأنّ حذره على هذه الأمّة مثل ذلك شيّبه عليه الصلاة والسلام (3)
__________
(1) الآية 17 من سورة المزمل.
(2) القرطبي: 9/3.
(3) طالع المحرر الوجيز: 7/413.
المصادر والمراجع
1 - أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق: محمد البجاوي، ط دار المعرفة، بيروت - لبنان، ت 543 هـ، 1407 هـ / 1987 م.
2 - أضواء البيان، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ط المدني المؤسسة السعودية بمصر، 1382 هـ، ت 1393 هـ.
3 - البداية والنهاية، لأبي الفداء الحافظ ابن كثير، ت 774 هـ، ط مكتبة المعارف، الناشر: دار ابن حزم، بيروت.
4 - تاريخ الأمم والملوك، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310 هـ، ط الاستقامة.
5 - تاج العروس من جواهر القاموس، للسيد محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق: محمود محمد الطناحي، ط حكومة الكويت.
6 - التحرير والتنوير، تفسير محمد بن الطاهر بن عاشور التونسي، ط الدار التونسية للنشر، ت 1982 م.
7 - تفسير ابن جرير الطبري المعروف بجامع البيان في تفسير القرآن، تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310 هـ، ط دار الحديث، القاهرة 1407 هـ / 1987 م.
8 - تفسير أبي السعود المسمّى: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لقاضي القضاة أبي السعود محمد بن محمد الحمادي، ت 951 هـ، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
9 - تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، ط دار الجيل، بيروت.
10 - تفسير المنار، تأليف محمد رشيد رضا، ط دار المعرفة للطباعة والنشر.
11 - تقريب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ط دار المعرفة، بيروت.
12 - تهذيب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ط دار الفكر.
13 - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، ت 370 هـ، ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
14 - جمع الجوامع، لتاج الدين عبد الوهاب بن السبكي مع شرحه الضياء اللامع لابن حلولو، ت 898 هـ، تحقيق الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النمله، ط مكتبة الرشد، الرياض.
15 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية.
16 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ط دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
17 - الدعوة إلى الإسلام، للدكتور أبو زكري معاصر.
18 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام جلال الدين السيوطي، ت 910 هـ، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
19 - الدعوة إلى الإسلام دعوة عالمية، محمد الراوي معاصر، ط دار الرشد، الرياض.
20 - روح المعاني، تفسير العلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، ت 1227 هـ، ط دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، توزيع دار الباز عباس أحمد الباز.
21 - سنن الترمذي: الجامع الصحيح، للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط المدني، المؤسسة السعودية بمصر، ت 279 هـ.
22 - سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني، ت 275 هـ، تعليق: عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان.
23 - السنن الكبرى، للإمام أبي أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ت 458 هـ.
24 - سنن ابن ماجه، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي ط دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ت 275 هـ.
25 - شرح الإمام النووي لصحيح مسلم هو الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ.
26 - صحيح الإمام البخاري، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ.
27 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت 261 هـ.
28 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لشيخ الإسلام قاضي القضاة أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ط دار إحياء التراث الإسلامي.
29 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، ط المصطفى البابي الحلبي وأبناؤه، مصر.
30 - الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، تأليف سليمان بن عمر الشهير بالجمل، ط دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ت 1204 هـ.
31 - قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.
32 - كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للمفسر المحدث إسماعيل محمد العجلوني، تحقيق: أحمد القلاش، ط مؤسسة الرسالة، ت 1162 هـ.
33 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم جار الله محمود الزمخشري، ت 538 هـ، ط دار الباز عباس أحمد الباز.
34 - لسان العرب، للإمام العلامة أبي الفضل جمال بن محمد بن مكرم الافريقي المصري، ت 711 هـ، ط دار صادر، بيروت - لبنان.
35 - متن مراقي السعود، لعبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي في أصول الفقه، ت 1230 هـ، ط دار المنار للنشر والتوزيع.
36 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ت 241 هـ.
37 - المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، ت 541 هـ، ط صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر.
38 - المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، ط دار المعرفة - بيروت - لبنان.
39 - مع الله، لمحمد الغزالي، دراسات في الدعوة والدعاة، ط دار الكتب الحديثة بمصر.
40 - المغني، لابن قدامة محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، تحقيق: طه بن محمد الزيني، الناشر: مكتبة القاهرة، لصاحبها علي يوسف سليمان، ت 620هـ.
41 - المحلّى، الجلال شمس الدين محمد بن أحمد المحلى على متن جمع الجوامع لتاج الدين السبكي.
42 - معالم السنن، للخطابي، شرح سنن أبي داود للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، ت 388 هـ، تخريج الأستاذ عبد السلام عبد الشافي محمد، ط دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.(12/317)
وعلى كلٍّ سورة هود ذكرت فيها أحوال الآخرة من الجنّة والنار والخلود فيهما وذُكرت فيها أحوال الأمم السابقة وما حلّ بها من الهلاك، وأمر فيها (بالاستقامة في جميع أموره، وهذا كلّه من دواعي الحزن والفزع، وذلك تشيب منه الرؤوس فهو (أرقّ النّاس فؤادًا وأخوفهم من عذابه ووعيده، وجعله الله رحيمًا بأمّته فحذره عليهم ما أصاب الأمم السابقة من الهلاك وتذكره يوم القيامة وثباته على الاستقامة كلّ ذلك من دواعي الشيب، ولا داعي لتخصيص شيبه ببعضها دون بعض والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلّم على محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(12/318)
الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر
رواية ودراية
د. محمد بن عمر بن سالم بازمول
الأستاذ المشارك بقسم الكتاب والسنة
كلية الدعوة وأصول الدين – جامعة أم القرى
ملخص البحث
يشتمل البحث على قسمين:
القسم الأول: سياق الأحاديث والآثار وتخريجها.
القسم الثاني: مسائل قنوت الوتر.
قام الباحث بجمع الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة المتعلقة بقنوت الوتر ثم خرجها مبيناً درجتها من القبول والرد، لتكون القاعدة التي يبنى عليها فقه المسائل المتعلقة بقنوت الوتر، حيث أورد مجمل ما ورد في المذاهب الفقهية المتبعة مع مذهب الظاهرية في مسائل قنوت الوتر، ثم عاد وبحث المسائل مسألة بحسب دلالة النصوص الثابتة متبعاً طريقة أهل العلم في النظر والاستدلال في الاستنباط.(12/319)
وانتهى البحث إلى نتائج منها: أن قنوت الوتر يشرع طوال العام، وأن السُّنة فعله أحياناً وتركه أحياناً. ويتأكد المداومة عليه في النصف الأخير من رمضان، من ليلة السادس عشرة، ويشرع ترك القنوت في النصف الأول من رمضان إذا صُلِّي بالناس، وهذا من السنن المهجورة، بل والمجهولة. فإن قنت في أوّله وآخره جاز. أن قنوت الوتر يجوز قبل الركوع وبعده، والأفضل فيه قبل الركوع. أن من السنن المهجورة في قنوت الوتر أن يكبر للقنوت وأن يكبر بعده، إذا قنت قبل الركوع. أن من السُّنة أن يجهر الإمام في قنوت الوتر وأن يؤمن من خلفه. أن السُّنة في دعاء القنوت أن لا يكون طويلاً، ولو اقتصر على قدر الوارد فهو أفضل، ولو أطال أحياناً بقدر ما ورد؛ جاز. أن دعاء القنوت ليس فيه شيء مؤقت، فهو يجوز بأي صيغة، والأفضل الاقتصار على الوارد. أن من السُّنة للإمام إذا صلى بالناس جماعة الوتر في رمضان أن لا يقنت في النصف الأول من رمضان، وأن يقنت في النصف الأخير منه، ويدعو على الكفرة. يشرع رفع اليدين في دعاء قنوت الوتر، ويشرع إرسالهما، ويشرع رفعهما في أوله وإرسالهما في آخره، كل ذلك جائز. لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء. يشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء قنوت الوتر. أن ابن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، من أكثر الصحابة الذين نقلت عنهم أحكام قنوت الوتر. أن من أشبه الصلوات بصلاة الوتر صلاة المغرب؛ إذ المغرب وتر النهار، فما ثبت في القنوت فيها للنازلة يثبت للقنوت في الوتر، ويؤكد هذا أن ما ثبت في الفريضة ثبت مثله في النافلة إلا لدليل.
والباحث يرجو أن يحقق ببحثه هذا تحرير هذا المسائل، وإحياء الطريقة التي كان أهل العلم يبحثون بها، بجمع المرويات في موضوع واحد، ثم تبين درجتها من القبول، ثم الاستنباط منها.
سائلاً الله التوفيق والهدى والرشاد والسداد.
* * *
المقدمة:(12/320)
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ
يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّا بعد: فهذه رسالة جمعت فيها الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم في قنوت الوتر، مع ذكر مسائله الفقهية، وقد أسميتها:
الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر رواية ودراية
وأبدأ إن شاء الله تعالى بسياق الأحاديث والآثار بحسب مساند من رويت عنه، مع بيان درجتها من القبول والرد، ثم أورد المسائل المتعلقة بقنوت الوتر، مقدماً بين يديها، مدخلاً. وذلك هو التالي:
مدخل: ويشتمل على: تعريف القنوت. ومجمل ما جاء في المذاهب الأربعة ومذهب ابن حزم من الظاهرية عن قنوت الوتر.
المسألة الأولى: هل يشرع القنوت في الوتر؟
المسألة الثانية: هل يقنت في الوتر قبل الركوع أم بعده؟
المسألة الثالثة: هل يكبر بعد القراءة للقنوت قبل الركوع؟
المسألة الرابعة: هل ترفع الأيدي في دعاء القنوت؟(12/321)
المسألة الخامسة: هل يُشرع الجهر بالقنوت وتأمين المأموم؟
المسألة السادسة: ما دعاء القنوت؟
المسألة السابعة: هل يُشرع التطويل في قنوت الوتر؟
المسألة الثامنة: هل يصلى على النبي عليه الصلاة والسلام في دعاء القنوت؟
المسألة التاسعة: ما الحكم إذا سهى عن قنوت الوتر؟
داعياً الله عزوجل أن يرزقني القبول في الدنيا والآخرة، وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وداعياً إلى سنة نبيه الرؤوف الرحيم، إن ربي سميع مجيب.
سياق الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر على المساند مع تخريجه
ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قنوت الوتر
1/1) عن عمرو بن شمر عن سلام عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبابكر وعمر وعثمان وعلياً يقولون: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك" (1) .
ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قنوت الوتر
2/1) عن عمرو بن شمر عن سلام عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبابكر وعمر وعثمان وعلياً يقولون: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك" (2) .
3/2) عن ابن جريج قال قلت لعطاء: القنوت في شهر رمضان؟ قال: عمر أول من قنت. قلت: النصف الآخر أجمع؟ قال: نعم" (3) .
__________
(1)
الحواشي والتعليقات
إسناد موضوع.
... أخرجه الدارقطني (2/32) . وفي السند عمرو بن شمر هو الجعفي الكوفي الشيعي. قال الجوزجاني: "زايغ كذاب"، وقال ابن حبان: "يشتم الصحابة، ويروي الموضوعات عن الثقات"، وقال البخاري: "منكر الحديث". انظر ميزان الاعتدال (2/228) .
(2) ... إسناده. انظر تخريجه فيما جاء عن أبي بكر الصديق.
(3) ... حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305) ، وعطاء بن أبي رباح لم يدرك عمر بن الخطاب، ومراسيله من أضعف المراسيل. لكن يشهد لروايته ما سيأتي في ما جاء عن أُبي بن كعب في قنوت الوتر، تحت رقم (13/2) ، فيرتقي بها هذا الأثر إلى درجة الحسن لغيره.(12/322)
4/3) عن أيوب عن ابن سيرين قال: "كان أُبي يقوم للناس على عهد عمر في رمضان فإذا كان النصف جهر بالقنوت بعد الركعة فإذا تمت عشرون ليلة انصرف إلى أهله وقام للناس أبو حليمة معاذ القارئ وجهر بالقنوت في العشر الأواخر حتى كانوا مما يسمعونه يقول: اللهم قحط المطر فيقولون آمين فيقول: ما أسرع ما تقولون آمين دعوني حتى أدعو" (1) .
5/4) عن عمرو عن الحسن: أن عمر حيث أمر أبيا أن يصلي بالناس في رمضان وأمره أن يقنت بهم في النصف الباقي ليلة ست عشرة [قنتوا فدعوا على الكفرة] .
قال: وكان الحسن يقول: إذا كان إماما قنت في النصف وإذا لم يكن إماما قنت الشهر كله" (2) .
__________
(1) ... إسناده ضعيف. وقصة قنوت أبي رضي الله عنه حسنة لغيرها.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/259، تحت رقم 7724) ، وأخرجه أبوداود في مسائله لأحمد بن حنبل ص99، بلفظ: "كان الإمام يدعو في النصف الباقي ... ". وسند عبد الرزاق ضعيف، ابن سيرين لم يسمع أبياً، وسند أبي داود ليس فيه التصريح بأُبي بن كعب، لكن فيه قال ابن سيرين: "أنبئت أن معاذا أبا حليمة قال في دعائه.. فذكره بنحوه"، فهذا منقطع الواسطة بين ابن سيرين وأبي معاذ مبهمة، وقصة قنوت أبي يشهد لها ما جاء عن أُبي بن كعب في قنوت الوتر.
(2) ... أثر حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/305) . في السند عمرو هو ابن عبيد، متهم. ,لكن تابعه يونس بن عبيد أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (2/77) من طريق يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن الحسن، والزيادة له، والحسن لم يدرك أبياً. لكن يشهد له ما جاء عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ في قصة جمع عمر للناس خلف أُبي بن كعب لصلاة الليل، وهو فيما جاء عن أُبي بن كعب تحت رقم 13/2.(12/323)
6/5) عن ابن جريج قال أخبرني عطاء: "أنه سمع عبيد بن عمير يأثر عن عمر بن الخطاب في القنوت [في الوتر] أنه كان يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك [الجد] إن عذابك بالكفار ملحق"
قال [عطاء] : وسمعت عبيد بن عمير يقول: القنوت قبل الركعة الآخرة من الصبح.
وذكر أنه بلغه أنهما سورتان من القرآن في مصحف ابن مسعود. وأنه يوتر بهما كل ليلة وذكر أنه يجهر بالقنوت في الصبح.
قلت: فإنك تكره الاستغفار في المكتوبة فهذا عمر قد استغفر؟ قال: قد فرغ هو في الدعاء في آخرها" (1)
__________
(1) ... إسناده صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والبلاغ في آخره عن عطاء حسن لغيره.
مصنف عبد الرزاق (3/111، تحت رقم 4969) ، وفيه: "عن عبيد بن عمير يأثر عن عمر بن الخطاب في القنوت أنه كان يقول ... "، وفي مسائل أبي داود رواه عن أحمد بن حنبل من طريقين، أحدهما من طريق عبد الرزاق، ص98، والآخر ساقه ص99، من طريق محمد بن حعفر عن ابن جريج عن عطاء أن عمر كان يقول في القنوت، قال أحمد فذكر هذا الحديث، إلا أنه قال: "بين كلمهم" قال: "وكان يقول ذلك في الصبح وفي رمضان"، وأخرجه ابن أبي شيبة (2/314) ، بنحوه مع تقديم وتأخير، من طريق حفص بن غياث عن ابن جريج به، وفيه "عن عبيد بن عمير: سمعت عمر يقنت في الفجر يقل: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك.."، وليس في رواية ابن أبي شيبة ذكر أنه كان يقوله في قنوت الوتر، ولا الزيادة التي عند أحمد، ولا ذكر هذا البلاغ عن ابن جريج أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يوتر بهما في كل ليلة، ومن طريق عبد الرزاق ابن المنذر في الأوسط (5/214، الأثر رقم 2736) ، والزيادة الأولى بين معقوفتين له، ولفظه: "عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول في القنوت في الوتر.."، وأخرجه ابن نصر المروزي (مختصر قيام الليل ص142، معلقاً عن عطاء أنه سمع عبيد بن عمير) . وساقه ابن أبي شيبة أيضاً (2/314) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/249) ، كلاهما من طريق هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: صليت خلف عمر رضي الله عنه صلاة الغداة فقنت فيها بعد الركوع، وقال في قنوته ... "، وساقه مختصراً في الدعاء، ولم يذكر البلاغ عن ابن مسعود، ولا ما جاء في آخره، وفي السند ابن أبي ليلى وهو محمد بن عبد الرحمن سيء الحفظ جداً، كما في التقريب، لكنه توبع تابعه ابن جريج كما رأيت، وتابعه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه صلى خلف عمر ففعل ذلك، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/314) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/250) ، والبيهقي (2/211) ، وهذا إسناد صحيح صححه البيهقي والألباني في الإرواء (2/171) . (تنبيه) الظاهر أن فعل (ذكر) فاعله ابن جريج، وقائل: فإنك تكره الاستغفار إلى آخره، هو عبد الرزاق قاله لشيخه ابن جريج. لأن هذا إنما ورد في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج، ولم يأت في رواية حفص بن غياث عن ابن جريج. وقوله عن عمر: "في الوتر" لم يأت كما رأيت في مصنف عبد الرزاق، إنما ذكرها ابن المنذر في روايته من طريق عبد الرزاق، وقد توبع عليها في الرواية التي أخرجها أبوداود عن أحمد في مسائله لأحمد، إذ في آخرها أنه: "كان يقول ذلك في الصبح وفي رمضان"، والبلاغ عن عطاء ضعيف، وله شواهد فيرقى إلى الحسن لغيره.(12/324)
(37/4) عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد: "أن عمر قنت في الوتر قبل الركوع" (1) .
وهناك جملة من الآثار تدخل في ما جاء عن عمر بن الخطاب، أوردتها في ما جاء عن أُبي بن كعب رضي الله عنهم.
ما جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في القنوت
7/1) عن عمرو بن شمر عن سلام عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبابكر وعمر وعثمان وعلياً يقولون: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك" (2) .
ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قنوت الوتر
8/1) عن عمرو بن شمر عن سلام عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبابكر وعمر وعثمان وعلياً يقولون: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك" (3) .
9/2) عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبيه: "أن عليا كان يقنت في الوتر بعد الركوع" (4) .
10/3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: "أنه كان يقنت في النصف من رمضان" (5) .
__________
(1) ... صحيح عن عمر بن الخطاب، على المتحرر في صواب السند عنه؛ انظر ما سيأتي فيما جاء عن ابن عمر تحت رقم (37/4) .
(2) ... إسناده موضوع. انظر تخريجه فيما جاء عن أبي بكر الصديق.
(3) ... إسناده موضوع. انظر تخريجه فيما جاء عن أبي بكر الصديق.
(4) ... إسناده ضعيف.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/302) ، وأخرجه أيضاً من طريق هشيم قال أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أن علياً كان يقنت في الوتر بعد الركوع"، والبيهقي (3/39) ، من طريق الشافعي قال حكاية عن هشيم وذكره. وفي السند عطاء بن السائب، ورواية شريك عنه بعد الاختلاط فقد ذكروا بأن كل من روى عن عطاء إنما روى في الاختلاط إلا شعبة والسفيانان والحمادان. انظر الكواكب النيرات ص319، الجوهر النقي (3/39) ، إرواء الغليل (2/166) .
(5) ... إسناده ضعيف.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/498) . وفي السند الحارث بن عبد الله الأعور. في حديثه ضعف كما في التقريب ص211.(12/325)
11/4) عن نضر بن إسماعيل عن ابن أبي ليلى عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: "انه كان يفتتح القنوت بالتكبير" (1) .
ما جاء عن أُبي بن كعب رضي الله عنه في قنوت الوتر
12/1) عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبي بن كعب: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ" (2)
__________
(1) ... إسناده ضعيف. وثبت مقيداً بالفجر.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/316) ، فيه الحارث الأعور، والنضر بن إسماعيل كلاهما في حديثه ضعف. تنبيه: وقع في المصنف (نصر) بالمهملة، وهو خطأ طبعي صوابه: (نضر) . ويلاحظ: أن ابن أبي شيبة أورده في باب التكبير في قنوت الفجر من فعله؟ وإنما أوردته في قنوت الوتر لأنه مطلق. وقد أخرج ابن أبي شيبة (2/315) عن أبي عبد الرحمن السلمي: أن علياً كبر حين قنت في الفجر، وكبر حين ركع" وإسناده حسن.
(2) ... جاء من طريق سفيان عن زبيد به؛ أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب ماجاء في القنوت قبل الركوع وبعده، (1183) ، والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أُبي بن كعب، رضي الله عنه، في الوتر. حديث رقم (1699) ، وفي الكبرى له (1/448، تحت رقم 1432) ، وقال: "قال أبو عبد الرحمن: وقد روى هذا الحديث غير واحد عن زبيد فلم يذكر أحد منهم فيه أن قنت قبل الركوع". والحديث أورده الضياء المقدسي في المختارة (3/419، تحت رقم (1217) ، وقال الألباني عن هذا الطريق: "سند جيد رجاله كلهم ثقات..".
ومن طريق مسعر عن زبيد به؛ أخرجه البيهقي في السنن (3/40) . وقال أبوداود عن هذا الطريق في سننه عقب الحديث رقم (1427) ، من كتاب الصلاة باب القنوت في الوتر: " مَا رُوِيَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ زُبَيْدٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ إِنَّهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصٍ نَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَنْ حَفْصٍ عَنْ غَيْرِ مِسْعَرٍ"اهـ
ومن طريق فطر عن زبيد به؛ أخرجه الدارقطني في السنن (2/31) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/40) . وإسناده صحيح.
ومن طريق المسيب بن واضح عن عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أُبي بن كعب به؛ أخرجه الدارقطني في سننه (2/31) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/39) . وقال الألباني عن هذا الطريق في الإرواء (2/167) : "هذا إسناد صحيح"اهـ
ومن طريق إسحاق بن إبراهيم عن عيسى بن يونس عن سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ به، أخرجه في مختصر كتاب الوتر ص118، تحت رقم (58) . وإسناده صحيح. ومرّة قال إسحاق وساق السند إلى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد ويقنت"؛ أخرجه في مختصر كتاب الوتر ص118، تحت رقم (58) . وإسناده صحيح.
وقد جاء الحديث بدون قوله: "يقنت قبل الركوع":
من طريق سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبي بن كعب قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْوِتْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"؛ أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر (مختصر كتاب الوتر ص93، تحت رقم 4) ، والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أُبي بن كعب، رضي الله عنه، في الوتر. حديث رقم (1700) ، من طريق إسحاق بن إبراهيم عن عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة به. ويُلاحظ أن روى الحديث من نفس الطريق مرّة بإثبات القنوت قبل الركوع، ومرّة بدونها. والرواية بإثباتها وبنفيها من طريق إسحاق عن عيسى بن يونس عن سعيد به.
ومن طريق سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبي بن كعب به؛ أخرجه النسائي كتاب قيام الليل وتطوع النهار، اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أُبي بن كعب، رضي الله عنه، في الوتر. حديث رقم (1701) .
ومن طريق الأعمش عن زبيد وطلحة عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أُبي بن كعب؛ أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة باب ما يقرأ في الوتر، حديث رقم (1423) ، ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، حديث رقم (1171) ، والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، حديث رقم (1730) ، والدارقطني في سننه (2/31) . وقال الدارقطني رحمه الله: "وكذلك رواه أبوحفص الأبار ويحي بن أبي زائدة ومحمد بن أنس عن الأعمش عن زبيد وطلحة. ورواه أبوعبيدة بن معن عن الأعمش عن طلحة وحده"اهـ
ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر ب سبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد؛ أخرجه النسائي في السنن الكبرى (1/448، تحت رقم 1433) .
ومن طريق يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر القنوت ولا ذكر أبيا؛ علقه أبوداود في السنن، عقب الحديث رقم (1427) من كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر. وقال: "حَدِيثُ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ الْقُنُوتَ وَلَا ذَكَرَ أُبَيًّا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الْأَعْلَى وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ وَسَمَاعُهُ بِالْكُوفَةِ مَعَ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرَا الْقُنُوتَ. وَحَدِيثُ زُبَيْدٍ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ كُلُّهُمْ عَنْ زُبَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقُنُوتَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ زُبَيْدٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ إِنَّهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصٍ نَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَنْ حَفْصٍ عَنْ غَيْرِ مِسْعَرٍ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَيُرْوَى أَنَّ أُبَيًّا كَانَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ"اهـ
ومن طريق ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أُبي بن كعب، ولم يذكر القنوت؛ أخرجه عبد بن حميد (1/198، تحت رقم 176) ، وأبوداود في كتاب الصلاة باب في الدعاء بعد الوتر، حديث رقم (1430) ، والنسائي في كتاب الصلاة باب نوع آخر من القراءة في الوتر، حديث رقم (1729) .
وقد أعلت الطرق التي جاء فيها ذكر القنوت قبل الركوع بالطرق التي لم يأت فيها ذلك، وهذا لا وجه له، إذ ثبتت بأسانيد صحيحة، فدل ذلك على أنها مروية على الوجهين.
قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (2/167) : "وهذا الإعلال ليس بشيء لاتفاق الجماعة من الثقات على رواية هذه الزيادة فهي مقبولة"اهـ.(12/326)
13/2) عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير: "أن عبد الرحمن بن عبد القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم عمر على ذلك وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هي والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل. فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.
قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد ان عذابك لمن عاديت ملحق.
ثم يكبر ويهوى ساجدا" (1) .
14/3) عن قتادة عن الحسن: "إن أبيا أم الناس في خلافة عمر فصلى بهم النصف من رمضان لا يقنت فلما مضى النصف قنت بعد الركوع فلما دخل العشر أبق وخلى عنهم فصلى بهم العشر معاذ القارئ في خلافة عمر" (2)
__________
(1) ... صحيح.
صحيح ابن خزيمة (2/155، تحت رقم 1100) . والأثر أصله في موطأ مالك في كتاب وقوت الصلاة باب ما جاء في قيام رمضان، (انظر الاستذكار 2/65) ، وفي صحيح البخاري في كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان حديث رقم (2010) ، بدون ذكر القنوت. وقد صحح إسناده الألباني رحمه الله في رسالته "صلاة التراويح" ص41_4.
(2) ... أثر حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305) ، وفي السند الحسن يروي عن أُبي بن كعب، وإنما يروي عنه بواسطة، ولم يدركه. جامع التحصيل ص165، تحفة التحصيل 75. لكن يتقوى بما في رقم (2) ، وبما جاء عن عمر بن الخطاب في قنوت الوتر، من طريق ابن سيرين، فانظره. فيرتقي إلى الحسن لغيره.(12/327)
15/4) عن يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبي بن كعب فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَإِذَا كَانَتْ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ" (1) .
16/5) عن معمر عن الزهري وعن أيوب عن ابن سيرين: "أن أُبي بن كعب قنت في الوتر بعد الركوع" (2) .
17/6) عن هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: "أَنَّ أُبي بن كعب أَمَّهُمْ يَعْنِي فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" (3)
__________
(1) ... أثر حسن لغيره.
أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة باب القنوت في الوتر تحت رقم (1428) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/498) ، وفي الصغرى له (1/287) . قَالَ أَبُو دَاوُد عقبه: "وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْقُنُوتِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ"اهـ قلت: والحسن البصري لم يدرك عمر بن الخطاب ولا أُبي بن كعب رضي الله عنهما. لكن يشهد له ما في رقم (2) .
(2) ... حسن لغيره.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/120، تحت رقم 4990) ، وأخرجه في المصنف (4/260، تحت رقم 7729) عن الزهري عن أُبي بن كعب. والزهري وابن سيرين لم يثبت لهما سماع عن من هو أصغر سناً من أُبي بن كعب. فالسند منقطع. لكن يشهد له ما ثبت من عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ الذي أخرجه ابن خزيمة، وهو هنا برقم (2) . وأثر ابن مسعود صحيح. إبراهيم مراسيله عن ابن مسعود صحيحة. وانظر التعليق الآتي تحت رقم (24) .
(3) ... حسن لغيره.
أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة باب القنوت في الوتر تحت رقم (1428) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/498) . وفي السند مبهم فالسند ضعيف. لكن يشهد لمتنه ما جاء في رقم (2) .(12/328)
18/7) عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن أُبي بن كعب:"أنه كان يقول: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك فلا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق" (1) .
ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه في قنوت الوتر
19/1) أبان بن أبي عياش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله قال: "بت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت في وتره فقنت قبل الركوع ثم بعثت أمي أم عبد فقلت تبيتي مع نسائه وانظري كيف يقنت في وتره فأتتني فأخبرتني أنه قنت قبل الركوع" (2) .
__________
(1) ... إسناده حسن.
... أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/112) . وفي السند جعفر بن برقان، قال في التقريب: "صدوق يهم في حديث الزهري"اهـ
(2) ... حديث ضعيف جداً مرفوعاً.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/120، تحت رقم 4991) مختصراً، وأخرجه ابن أبي شيبة (2/302_303) ، والدارقطني في سننه (2/32) ، وأبونعيم في الحلية (7/118) (تقريب البغية 1/412، تحت رقم 1155) مختصراً، وفي الحلية أيضاً (10/30) (تقريب البغية 1/412، تحت رقم 1156، ووقع فيه النعمان بن أبي عياش، وصوابه أبان بن أبي عياش، كما في الحلية) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/41) . وقال أبونعيم عقب سياقه للحديث في الموضع الثاني من طريق أبي النضر عن سفيان عن أبان به: "لا أعلم رواه عن الثوري إلا أبو النضر"اهـ وقال الدارقطني رحمه الله، عقب روايته للحديث: "أبان متروك"اهـ، وقال البيهقي رحمه الله: "ومدار الحديث عليه (يعني: أبان) ، وأبان متروك"اهـ، وكذا قال الحافظ في التقريب ص103، عن أبان. وأخرجه الخطيب البغدادي في كتاب القنوت له كما قال في نصب الراية (2/124) من وجه آخر عن إبراهيم عن علقمة به، وقال الحافظ في الدراية ص193، تحت رقم 244، عن هذا الوجه: "ضعيف"اهـ(12/329)
20/2) عن محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: قال عبد الله: ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الصلوات إلا في الوتر وإنه كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلهن يدعو على المشركين وما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان حتى ماتوا.
ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام وكان يقنت في الصلوات كلهن وكان معاوية يدعو عليه أيضا يدعو كل واحد منهما على الآخر" (1) .
21/ 3) عن إبراهيم عن علقمة: "إن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع" (2) .
22/4) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان يقنت في الوتر قبل الركوع" (3)
__________
(1) ... حسن لغيره.
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7/274، تحت رقم 7483) (مجمع البحرين 1/331تحت رقم 850) ، وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله إلا محمد بن جابر. ورواه الحسن بن الحر عن حمّاد عن إبراهيم عن الأسود عن عمر"اهـ، وقال في مجمع الزوائد (2/137) : "رواه الطبراني في الأوسط وفيه شيء مدرك عن غير ابن مسعود بيقين هو قنوت علي ومعاوية في حال حربهما فإن ابن مسعود مات في زمن عثمان وفيه محمد بن جابر اليمامي وهو صدوق ولكنه كان أعمي واختلط عليه حديثه وكان لقن"اهـ وقال في مجمع البحرين (1/331) : "قنوت علي ومعاوية مدرج من قول علقمة والأسود، فإن ابن مسعود مات قبل بيعة علي"اهـ. قلت: محمد بن جابر ضعيف. لكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره. ومنها ما في الصلب.
(2) ... إسناده حسن.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/302) قال: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام الدستوائي عن حماد عن إبراهيم به. قال ابن حجر رحمه الله في الدراية ص194، تحت الرقم 244: "بإسناد حسن"اهـ، قال الألباني في الإرواء (2/166) : "سند جيد، وهو على شرط مسلم"اهـ.
(3) ... حسن لغيره.
أخرجه أبو يوسف في كتاب الآثار ص70، تحت رقم (346) .(12/330)
23/5) عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال عبد الله: لا يقنت السنة كلها في الفجر ويقنت في الوتر كل ليلة قبل الركوع" (1) .
24/6) عن حماد عن أبي حمزة عن ابن مسعود: "أنه كان يقنت في الوتر قبل الركوع ولا يقنت في صلاة الفجر" (2) .
__________
(1) ... حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305-306) ، وقال عقب روايته له: " قال أبوبكر: هذا القول عندنا."اهـ، وفي السند أشعث بن سوار الكندي، قال في التقريب ص149: "ضعيف"اهـ، وإبراهيم النخعي (ت196هـ) لم يسمع من ابن مسعود، لكن مراسيله عن ابن مسعود صحيحة، قال في التقريب ص118، "ثقة إلا أنه يرسل كثيرا، فقيه"، ساق بسنده في تهذيب الكمال (صورة المخطوط دار المأمون1/68) من طريق أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الحافظ، قال: حدثنا أبوعبيدة بن أبى السفر الكوفى، قال: حدثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن سليمان الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: اسند لي عن عبد الله بن مسعود؟ فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله: فهو عن غير واحد عن عبد الله"اهـ. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود"اهـ. فالسند ضعيف لوجود أشعث، لكن توبع على ذكر القنوت للوتر قبل الركوع، وعلى ذكر الوتر في كل ليلة، بما تراه في الأصل، عن عبد الله بن مسعود، فيرتقي هذا الحديث إلى الحسن لغيره.
(2) ... حسن لغيره.
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (9/328، تحت رقم 9432) . وأبوحمزة هو ميمون الأعور القصاب مشهور بكنيته ضعيف كما في التقريب ص990، وهو من الذين عاصروا صغار التابعين ولذا قال في مجمع الزوائد (2/244) : "هو منقطع"اهـ قلت: لكن لمتنه شواهد كما ترى.(12/331)
25/7) عن المسعودي وليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: "كان ابن مسعود لا يقنت في شيء من الصلوات إلا في الوتر قبل الركوع" (1) .
عن أبي العميس [هو المسعودي] حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: "كان عبد الله لا يقنت في صلاة الغداة. وإذا قنت في الوتر قنت قبل الركعة" (2) .
__________
(1) ... أثر صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/302) ، وفي السند عنده ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن الأسود، وليث صدوق اختلط جداً فلم يتميز حديثه فترك. التقريب ص818، لكن تابعه المسعودي عند الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/253) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/272، تحت رقم 9165) . وقال في مجمع الزوائد (2/127) : "إسناده حسن"اهـ، وقال ابن حجر في الدراية ص193، تحت رقم 244: "صحيح"اهـ، وقال الألباني في الإرواء (2/166) ، عن سند الطبراني: "سنده صحيح"اهـ.
(2) حسن إن شاء الله.
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/272، تحت رقم 9166) ، وسنده رجاله ثقات، إلا شيخ الطبراني فلم أقف فيه على جرح أو تعديل، لكن ذكره ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (7/76) ، وقال: "فضيل بن محمد الملطي الامام امام مسجد ملطية أبو يحيى روى عن أبى توبة الربيع بن نافع وأبى نعيم الفضل بن دكين ومحمد بن عيسى بن الطباع وسعيد بن منصور وأبى الوليد الطيالسي وإسماعيل بن أبى أويس ومحمد بن موسى بن اعين كتب إلي بجزئين من حديثه"اهـ هذا ما في ترجمته، وهو مشعر بأنه في حيِّز القبول في الجملة، والله اعلم، إذ لو وجد في حديثه ما ينكر لم يسكت عنه، ويؤكد هذا أنه لم يرد له ذكر في كتب الضعفاء والمجروحين، وقد كان إمام مسجد كما قرأت، فالله اعلم. وقد قال في مجمع الزوائد (2/127) عن هذا الحديث: "إسناده حسن"اهـ. جرياً على قاعدته في شيوخ الطبراني على ما يبدو والله اعلم، ويتأكد أن هذا الأثر في حيز القبول بالمتابعات التي تراها في الأصل.(12/332)
26/8) عن معمر عن أبان عن النخعي: "أن ابن مسعود كان يقنت السنة كلها في الوتر" (1) .
27/9) عن ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: "كان عبد الله يقرأ في آخر ركعة من الوتر (قل هو الله أحد (، ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة".
وفي رواية عن عبد الله: "أنه كان يرفع يديه في قنوت الوتر". وعند البيهقي: "كان ابن مسعود يرفع يديه في القنوت إلى ثدييه" (2) .
28/10) عن الزهري عن حماد عن إبراهيم: "أن ابن مسعود كان يرفع يديه في الوتر ثم يرسلهما بعد" (3)
__________
(1) ... إسناده ضعيف جداً، ومتنه له شواهد.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/120، تحت رقم 4991) ومن طريقه أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/327) . وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/260، تحت رقم (7729) ، وأبهم معمر شيخه، فقال: "أخبرني من سمع إبراهيم". وفي السند أبان بن أبي عياش، ضعيف، لكن توبع عن ابن مسعود فيما ذكره، كما تراه في الصلب.
(2) ... حسن لغيره..
أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين (جلاء العينين ص173174) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/327، تحت رقم 9425) . وأخرجه مختصراً على رفع اليدين في الوتر دون ذكر قراءة (قل هو الله أحد (، ابن أبي شيبة في المصنف (2/307) ، من طريقين عن ليث بن أبي سليم، والبيهقي في السنن الكبرى (3/41) .ومدار السند عندهم على ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه به، وليث صدوق اختلط، فلم يتميز حديثه فترك، كما في التقريب ص818، لكن لذكر القنوت قبل الركوع وقراءة (قل هو الله أحد (شواهد، ولذكر رفع اليدين متابعة وهي التالية، فيرتقي إلى مرتبة الحسن لغيره. وقد قال البخاري رحمه الله في جزء رفع اليدين (جلاء العينين ص175) بعد إيراده لهذا الأثر مع أحاديث أخر فيها رفع اليدين في الدعاء: "وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً وليس فيها تضاد؛ لأنها في مواطن مختلفة"اهـ.
(3) ... إسناده صحيح.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/325، تحت رقم 7952) . وتقدّم أن مراسيل إبراهيم عن ابن مسعود صحيحة. انظر التعليق السابق تحت رقم (24) .(12/333)
29/11) عن ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: "أن عبد الله بن مسعود كان إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت فإذا فرغ من القنوت كبر ثم ركع" (1) .
30/12) عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن قال: "علمنا ابن مسعود أن نقرأ في القنوت: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجوا رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق" (2) .
ما جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قنوت الوتر
31/1) عن عبد الله بن واقد الحراني عن سفيان الثوري عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع ثم كبر وركع" (3) .
__________
(1) ... ضعيف.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/307) ، ومن طرقه ابن المنذر في الأوسط (5/212، تحت الأثر رقم 2729) . وفي السند ليث بن أبي سليم، صدوق اختلط جداً فلم يتميز حديثه فترك. التقريب ص818.
(2) ... السند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن الدعاء حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/301) . وفي السند عطاء بن السائب، اختلط بأخرة، ورواية ابن فضيل عنه بعد الاختلاط. الكواكب النيرات ص321، لكن جاء ما يشهد لهذا الدعاء عن الصحابة، انظر ما جاء عن عمر بن الخطاب، وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، وماجاء مرسلاً أو عن الصحابة دون تعيين، ماجاء عن عمرو عن الحسن البصري فقد ذكر نحو هذا الدعاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يشهد لثبوت الدعاء.
(3) ... حديث ضعيف.
أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (1/678) (زوائد تاريخ بغداد 1/395، تحت رقم 103) ، وحكم على إسناده بأنه ضعيف جداً، من أجل عبد الله بن واقد الحراني أبو قتادة، حيث قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب ص555: "متروك وكان أحمد يثني عليه وقال لعله كبر واختلط، وكان يدلس"اهـ. قلت: حديث هذا ضعيف ولا كلام، أمّا أن حديثه ضعيف جداً فلا.(12/334)
32/2) عن العلاء بن صالح عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأله عن القنوت في الوتر فقال حدثنا البراء بن عازب قال: "سنة ماضية" (1) .
__________
(1) ... إسناده شاذ؛ المحفوظ أنه سأله عن القنوت في الفجر، فقال: "سنة ماضية".
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/153) وكشف عن علته بقوله رحمه الله: "وهذا الشيخ العلاء بن صالح وهم في هذه اللفظة في قوله: "في الوتر"، وإنما هو في الفجر لا في الوتر فلعله انمحى من كتابه ما بين الفاء والجيم فصارت الفاء شبه الواو والجيم ربما كانت صغيرة تشبه التاء فلعله لما رأى أهل بلده يقنتون في الوتر وعلماؤهم لا يقنتون في الفجر توهم أن خبر البراء إنما هو من القنوت في الوتر. أخبرنا سلم بن جنادة نا وكيع عن سفيان عن زبيد اليمامي قال: سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القنوت في الفجر فقال: "سنة ماضية". فسفيان الثوري أحفظ من مائتين مثل العلاء بن صالح فخبر أن سؤال زبيد بن أبي ليلى إنما كان عن القنوت في الفجر لا في الوتر فأعلمه أنه سنة ماضية ولم يذكر أيضا البراء. وقد روى الثوري وشعبة هما إماما أهل زمانهما في الحديث عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء أن النبي قنت في الفجر. حدثناه سلم بن جنادة ثنا وكيع عن سفيان وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر".نا بندار ثنا محمد بن جعفر نا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت بن أبي ليلى حدثني البراء بن عازب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في المغرب والصبح". أخبرنا أحمد بن عبدة ثنا أبو داود نا شعبة عن عمرو بن مرة أنبأه قال سمعت بن أبي ليلى يحدث عن البراء بن عازب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب". فهذا هو الصحيح عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم لا على ما رواه العلاء بن صالح"اهـ(12/335)
33/3) عن مطرف عن أبي الجهم (هو سليمان بن الجهم مولى البراء) قال: "كان البراء يكبر قبل أن يقنت" (1) .
ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه في قنوت الوتر
34/1) عن سهل بن العباس الترمذي عن سعيد بن سالم القداح عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ويجعل القنوت قبل الركوع" (2) .
35/2) عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان لا يقنت في الفجر ولا في الوتر فكان إذا سئل عن القنوت قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن" (3) .
36/3) عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان لا يقنت إلا في النصف يعني من رمضان". وفي رواية عند البيهقي: "كان لا يقنت في الوتر إلا في النصف من رمضان" (4) .
37/4) عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد: "أن ابن عمر قنت في الوتر قبل الركوع" (5)
__________
(1) ... إسناده صحيح.
... أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/315) . لكن أخرج عقبه من طريق مطرف عن أبي الجهم عن البراء: "أنه قنت في الفجر فكبر حين فرغ من القراءة وكبر حين ركع"، وإسناده صحيح.
(2) ... إسناده ضعيف جداً، والمتن حسن لغيره.
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (8/36، تحت رقم 7885) ، (مجمع البحرين 1/332، تحت رقم 854) ، وقال عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر إلا سعيد بن سالم"اهـ. وقال ابن حجر في الدراية ص194، تحت رقم (244) : "أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف"اهـ. قلت: فيه سهل بن العباس قال في الضعفاء والمتروكين (2/28) : "قال الدارقطني: "ليس بثقة متروك"اهـ. قلت: لكن للمتن شواهد منها ما جاء عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، انظر ما جاء عنه.
(3) ... إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/306) .
(4) إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305) ، أحمد في مسائل ابنه عبد الله ص96، تحت رقم (337) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/498) .
(5) ... إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/301-302) . تنبيه: كذا الأثر في مصنف ابن أبي شيبة المطبوع، ورأيت الألباني رحمه الله في الإرواء (2/165) يذكر من طريق إبراهيم عن عمر: "أنه قنت في الوتر قبل الركوع"، ونبه إلى أن عند ابن نصر المروزي في قيام الليل (مختصر قيام الليل ص133) ، الأسود عن عمر وذكره. فجعله من مسند عمر بن الخطاب لا ابنه قلت: ولم أجد في مصنف ابن أبي شيبة المطبوع رواية عن عمر بهذا اللفظ، ولكن وجدت هذه الرواية عن ابن عمر، فإن كانت هي الرواية التي أشار إليها الألباني فقد وقع في المطبوع خلل، وبالتالي يتوقف في ثبوت ذلك عن ابن عمر، ويكون عن عمر بن الخطاب والله اعلم. ثم رأيت في مسائل عبد الله لأبيه الإمام أحمد ص92: "قال سمعت أبي يقول: خالف إبراهيم عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أن ابن مسعود قنت في الوتر قبل الركعة. قال إبراهيم: عمر، وقال عبد الرحمن: ابن مسعود"اهـ ومعنى هذا أن إبراهيم خالف رواية عبد الرحمن بن الأسود، فرواه إبراهيم عن الأسود بن يزيد عن عمر، ورواه عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن ابن مسعود: أنه كان يقنت قبل الركوع؛ فهذا يبين أن الرواية عن عمر وليست عن ابن عمر، فما وقع في المصنف لابن أبي شيبة خطأ من الناسخ أو الطابع والله اعلم. ولعل مما يؤكده أن الروايات الأخرى عن ابن عمر أنه لم يكن يرى القنوت إلا في النصف من رمضان.(12/336)
38/5) عن أيوب عن نافع: "أن ابن عمر كان لا يقنت في الصبح ولا في الوتر أيضا" (1) .
حديث ابن عباس رضي الله عنه في قنوت الوتر
39/1) عن عطاء بن مسلم قال ثنا العلاء بن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال: "أوتر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث قنت فيها قبل الركوع" (2) .
40/2) عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس: "أنه كان يقول في قنوت الوتر: لك الحمد ملأ السماوات السبع وملأ الأرَضين السبع وملأ ما بينهما من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (3) .
ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في قنوت الوتر
41/1) عن سليمان التيمي عن رجل عن أبي المحزم عن أبي هريرة قال: "نزلت عليه عشر سنين فما رأيته قنت في وتره" (4) .
__________
(1) ... إسناده صحيح.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/106، تحت رقم 4950) .
(2) ... إسناده ضعيف. والمتن حسن لغيره.
أخرجه البيهقي في الكبرى (3/41) ، وأبو نعيم في الحلية (5/62) ، (تقريب البغية 1/411، تحت رقم 1154) . قال البيهقي عقبه: "وهذا ينفرد به عطاء بن مسلم وهو ضعيف"اهـ، وقال أبونعيم رحمه الله: " غريب من حديث حبيب والعلاء تفرد به عطاء"اهـ. وهذا إسناد حسن، لولا عنعنة حبيب بن أبي ثابت فإنه مدلس انظر جامع التحصيل ص105، 158، وقال في التقريب ص218: "ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس"اهـ، وعطاء بن مسلم الخفاف قال عنه في التقريب ص678: "صدوق يخطيء كثيراً"اهـ قلت: فتفرده لا يحتمل. لكن جاء للمتن ما يشهد له عن أُبي بن كعب انظر ما جاء عن أُبي بن كعب في قنوت الوتر.
(3) ... إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/300) . بإسناد صحيح. ووقع خطأ في السند (عبيد الله بن عبيد) صوابه "عبد الله بن عبيد".
(4) ... إسناده ضعيف.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/306) . وإسناده ضعيف فيه راوٍ مبهم.(12/337)
42/2) عن الوليد بن مسلم أخبرني ابن لهيعة عن موسى بن وردان أنه كان يرى أبا هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان".
قال الوليد: وأخبرني عامر بن شبل الجرمي قال: رأيت أبا قلابة يرفع يديه في قنوته (1) .
ما جاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما في قنوت الوتر
43/1) عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ (وفي رواية: فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ) : اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" (2)
__________
(1) ... إسناده ضعيف.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/41) ، وفي السند الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بالسماع في الطبقات فوقه. وابن لهيعة ضعيف، فإن رواية الوليد عنه بعد احتراق كتبه.
(2) ... جاء الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنه.
من طريق أبي إسحاق السبيعي عن بريد به. ورواه عن أبي إسحاق السبيعي كل من شريك بن عبد الله القاضي، وأبو الأحوص، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، والثوري، وموسى بن عقبة، وزياد بن خيثمة، وأبوبكر بن عياش، وسليمان بن قرْم الضبي؛
أمّا رواية شريك فأخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (3/300) ، (10/384) ووقع خطأ طبعي في السند، فرسم (شريك عن عبد الله) وصوابه: (شريك بن عبد الله) ، وأخرجه أبويعلى في المسند (12/136، تحت رقم 6765) ، وابن ماجه، والطبراني في المعجم الكبير (3/74، تحت رقم2704) ، وفي كتاب الدعاء (2/1139، تحت رقم 737) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (1/266، حديث رقم 383) . وهي مقيدة بلفظ: "قنوت الوتر". وضعف سند هذا الطريق محقق مسند أبي يعلى لضعف شريك. قلت: لكنه توبع كما ترى فحديثه هذا من طريقه لا ينزل عن درجة الحسن لغيره.
أمّا رواية أبي الأحوص فأخرجها أبويعلى في مسنده (12/156، تحت رقم 6786) ، والدارمي في سننه تحت رقم 1634) ، وأبوداود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، حديث رقم 1425) ، والترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في القنوت في الوتر، حديث رقم (464) ، والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، حديث رقم (1745) ، والطبراني في الكبير (3/74، تحت رقم 2705) ، وفي كتاب الدعاء (2/1140، تحت رقم 739) ، والبيهقي في الكبرى (2/497) من طريق أبي داود، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/717، رقم 11761177) . وهي مقيدة بلفظ: "قنوت الوتر". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصحح محقق سنن الدارمي (2/992) إسناد هذه الرواية. قلت: وهو كما قال.
أمّا رواية زهير، فأخرجها أبوداود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، حديث رقم 1425) ، البزار في مسنده (4/176، تحت رقم 1337) ، وابن الجارود في المنتقى (273) ، والبيهقي (2/498) . وهي مقيدة بلفظ: "في قنوت الوتر". قال البزار عقب روايته للحديث: "وهذا الحديث لا نعلم يرويه عن النبي إلا الحسن بن علي، وقد رواه شعبة عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي وزاد فيه أبو إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن: علمني رسول الله أن أقول في قنوت الوتر ولم يقل شعبة في قنوت الوتر فلذلك كتبناه واسم أبي الحوراء ربيعة بن شيبان"اهـ. وصحح إسناد هذه الرواية لغيره صاحب غوث المكدود بتخريج المنتقى لابن الجارود (1/239) .
أمّا رواية إسرائيل فأخرجها الدارمي (1633) ، والدولابي في الذرية الطاهرة النبوية ص81، تحت رقم 136، وابن خزيمة (2/152، تحت رقم1095) ، والطبراني في المعجم الكبير (3/73، تحت رقم 2702) ، وفي كتاب الدعاء (2/1138، تحت رقم 736) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/209) ووقع في روايته للسند "عن الحسن أو الحسين". قال البيهقي: "كأن الشك إنما وقع في الإطلاق أو في النسبة"اهـ. قال ابن حجر في التلخيص الحبير (1/249) بعد نقله قول البيهقي: "ويؤيد رواية الشك أن أحمد أخرجه في مسند الحسين بن علي من مسنده من غير تردد ... "اهـ قلت: وكذا عند أبي يعلى في مسنده حديث رقم (6786) ، جعله في مسند الحسين بن علي دون تردد، وانظر ما جاء عن الحسين بن علي رضي الله عنه في قنوت الوتر. وهذه الرواية مقيدة بقوله: "في القنوت". وصحح إسناد هذه الرواية محقق سنن الدارمي (2/992) .
أمّا رواية الثوري فأخرجها عبد الرزاق في المصنف (3/118، تحت رقم 4985) مختصراً، بلفظ: "أن يقول في القنوت" وأحمد في المسند (الرسالة 3/247، رقم 1721) ، بلفظ: "أن يقول في الوتر"، ومن طريقه الطبراني في الكبير (3/75، رقم 2706) مطولاً، وفي كتاب الدعاء مقتصراً على دعاء القنوت، (2/1141، تحت رقم 741) ، وأبونعيم في الحلية (9/321 وقد وقع في السند عنده أخطاء طباعة صوّبتها من تقريب البغية بترتيب الحلية 1/311، رقم 836) ، بلفظ: "في الوتر".
أمّا رواية موسى بن عقبة فأخرجها الطبراني في المعجم الكبير (3/73، تحت رقم 2701) ، وفي كتاب الدعاء (2/1140، تحت رقم 740) ، والحاكم في المستدرك (علوش 4/114، تحت رقم 114) . ولفظ الرواية مقيد ب: "في الوتر".
أمّا رواية زياد بن خيثمة فقد أخرجها الطبراني في كتاب الدعاء (2/1141، تحت رقم (742) ، وحسّن إسناده محقق كتاب الدعاء.
أمّا رواية أبي بكر بن عياش فقد أخرجها الطبراني في كتاب الدعاء، (2/1141، تحت رقم 743) . وفي السند يحي الحماني عن أبي بكر بن عياش، والحماني ضعيف كما في التقريب.
أمّا رواية سليمان بن قرم الضبي عن أبي إسحاق، فأخرجها أبو علي الحسن بن محمد البكري، في كتابه الأربعين حديثاً، الحديث السادس والعشرون، ص125، وسليمان بن قرم قال ابن حجر رحمه الله في التقريب: "سيء الحفظ يتشيع"اهـ
وجاء الحديث من طريق يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن بريد به؛ أخرجه أحمد في المسند (الرسالة 3/245، رقم 1718) ، وأبوداود في مسائله لأحمد عن أحمد بن حنبل ص97، ومحمد بن نصر المروزي في مختصر قيام الليل ص117، تحت رقم (56) ، ص141 تحت رقم (62) ، وابن الجارود (272) ، وابن خزيمة (2/151، تحت رقم 1095) ، والطبراني في الكبير (3/77، تحت رقم2712) ، وفي كتاب الدعاء (2/1143، تحت رقم 747) . وقيد لفظ الراوية هنا بقوله: "في قنوت الوتر"، وفي رواية "إذا قمت في القنوت في الوتر فقل ... "، وفي رواية: "ألا أعلمك كلمات تقولهن عند القنوت" كذا ذكر هذه الروايات محمد بن نصر في كتابه. وصحح إسناد هذه الرواية صاحب غوث المكدود بتخريج المنتقى لابن الجارود (1/238) ، ومحققو مسند أحمد (الرسالة) .
وجاء من طريق الحسن بن عمارة عن بريد به؛ أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/117، تحت رقم 4984) ، ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (3/76، تحت رقم 2711) ، وفي كتاب الدعاء (2/1143، تحت رقم 746) . وهي طريق ضعيفة جداً لأن الحسن بن عمارة متروك الحديث كما في التقريب. وعند عبد الرزاق زيادة لم يذكرها الطبراني.
وجاء من طريق شعبة بن الحجاج عن بريد به؛ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/75، تحت رقم 2707) ، وفي كتاب الدعاء (2/1142، تحت رقم 744) . وقيد الدعاء في هذا الطريق بلفظ: "في الوتر"، وصحح إسناد هذا الطريق الألباني في إرواء الغليل (2/173) .
وجاء من طريق العلاء بن صالح عن بريد به؛ أخرجه الطبراني في كتاب الدعاء (2/1144، تحت رقم 748) ، وموضع الدعاء مقيد فيه بلفظ: "في قنوت الوتر". وحسّن إسناد هذا الطريق محقق كتاب الدعاء. وجاءت روايات مطلقة لم تقيد الدعاء بموضع، من طريق العلاء بن صالح أخرجها الطبراني في المعجم الكبير (3/76، تحت رقم 2709) لكنه ذكر طرف الحديث ولم يتم لفظه، والبيهقي (2/209) وساق لفظه. وسند هذا الطريق حسن لذاته،. والمتن صحيح لغيره.
فهؤلاء تابع بعضهم بعضاً في رواية الحديث عن بريد بن أبي مريم به، ووقع في روايتهم تقييد موضع الدعاء بالوتر أو القنوت، أو قنوت الوتر. والحديث من هذه الطرق صحيح.
وجاء الحديث من طريق أبي زيد الزراد عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنه؛ رواه الربيع بن ركين عن أبي (زيد) الزراد عن أبي الحوراء به، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/77، تحت رقم 2713) ، وفي كتاب الدعاء (2/1144، تحت رقم 749) ، عن الربيع بن ركين عن أبي زيد به. قال الطبراني في كتاب الدعاء (2/1144) : "أبو زيد هو عبد الملك بن ميسرة"اهـ قلت: وهو ثقة، ورسمه في كتاب الطبراني: "أو يزيد" وفي كتب التراجم "أبو زيد"، وهو ما أثبته. وضعف هذا السند الألباني في الإرواء (2/175) ، وقال: "هذا سند ضعيف علته الربيع هذا وهو ابن سهل الركين. قال الدارقطني وغيره: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بثقة". فالطريق ضعيف؛ لكن يشهد لمتنه ما جاء في طريق الحديث عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن رضي الله عنه، فيرتقي إلى درجة الحسن لغيره.
وجاء الحديث من طريق موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي رضي الله عنهما؛ أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/301، تحت رقم 415) ، وفي السنة له (1/268، تحت رقم 384) ، والطبراني في المعجم الكبير (3/73، تحت رقم 2700) ، وفي المعجم الأوسط (4/169، تحت رقم 3887) ، وفي كتاب الدعاء (2/1138، تحت رقم 735) ، وابن مندة في كتاب التوحيد (2/191، تحت رقم 343) ، والحاكم (علوش 4/164، تحت رقم 4853) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/718، تحت رقم 1178) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/38_39) . وقال الطبراني في الأوسط عقب إخراجه للحديث: "لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا موسى بن عقبة، ولا رواه عن موسى بن عقبة إلا ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم، تفرّد به: ابن أبي فديك. ولا يروى عن عائشة عن الحسن بن علي إلا بهذا الإسناد"اهـ. وقد أشار الحاكم رحمه الله إلى الاختلاف على موسى بن عقبة، فقال بعد إخراجه للحديث: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، إلا أن محمد بن جعفر بن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده"، ثم ساقه من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي به. قلت: وقد توبع محمد بن جعفر في روايته عن موسى بن عقبة عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنه، ولم يتابع إسماعيل بن إبراهيم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، وإسماعيل قال في التقريب ص135: "ثقة تكلم فيه بلا حجة"اهـ، قلت: في هذه الرواية اضطراب في تعيين مكان القنوت هل هو قبل الركوع أو بعده، كما سيأتي بعد قليل عند ذكر ألفاظ الرواية التي فيها التقييد، وقد تقدم تخريج طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق. قال ابن حجر رحمه الله في التلخيص الحبير (1/248) بعد إيراده للحديث من طريق إسماعيل بن موسى عن موسى بن عقبة هشام عن أبيه عن عائشة، عند الحاكم، قال: "تنبيه: ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: "إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود" فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبوبكر بن أبي شيبة المدني الحراني، ثنا ابن أبي فديك، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده ولفظه: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول في الوتر قبل الركوع ... فذكره، وزاد في آخره: "لامنجأ منك إلا إليك"."اهـ. وضعف هذا الطريق لعلة أخرى الألباني في ظلال الجنة (375) ، ومحقق شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وذكره في الإرواء (2/168) ، من طريق ابن منده، وحسّن إسناده، وأشار إلى أن الثابت من لفظه في تحديد محل القنوت، أنه قبل الركوع إذا فرغ من القراءة؛ وذلك لورود حديث عن أُبي بن كعب في ذلك. قلت: لكن الطريق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بأصله شاذ عندي، فلا يثبت من جهته ما تفرّد به، وتعيين أن محل القنوت في الوتر قبل الركوع، مما تفرد به هذا الطريق، نعم ثبت في الطرق الأخرى تعيين محل هذا الدعاء في قنوت الوتر، دون تعيين محله قبل الركوع أو بعده، فلا يثبت ذلك في حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، نعم ثبت من حديث غيره. (تنبيه) : وقع سند الحديث من هذا الطريق عند اللالكائي هكذا: "عن أبي المثنى الكعبي عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه ... " بإسقاط "موسى بن عقبة" وهو خطأ من الناسخ أو الطابع، فإن رواية إسماعيل بن إبراهيم لهذا الحديث هي عن عمه موسى بن عقبة، كما هو مثبت عند من خرّج الحديث غير اللالكائي، وإلا فهذا من مناكير أبي المثنى، فإنه منكر الحديث كما في التهذيب (12/221) .
وألفاظ الرواية التي فيها التقييد: جاء الحديث مقيداً بقوله: "دعاء القنوت في الوتر" عند ابن أبي عاصم في السنة، والطبراني، وبقوله: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود: اللهم اهدني ... " عند الحاكم والبيهقي، وبقوله: "إذا فرغت من قراءتي فلم يبق عليّ إلا الركوع" عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، وابن مندة في التوحيد؛ من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي رضي الله عنهما. فالطريق شاذة، وفي متنها اضطراب في تحديد محل القنوت.
وجاء الحديث مقيداً بأنه في الوتر من طريق يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي الْوِتْرِ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ"؛ أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، حديث رقم (1745) ، واللفظ له، وأخرجه النسائي في كتاب فضائل القرآن (المفرد) ص84، تحت رقم 126، بنفس السند، وليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وفي السند علتان يضعف بها، الأولى: الانقطاع؛ عبد الله بن علي هذا ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (5/325) : "روايته عن الحسن بن علي لم تثبت، وهي عند النسائي من طريق موسى بن عقبة، عن عبد الله بن علي عن الحسن بن علي؛ فإن كان هو صاحب الترجمة فلم يدرك جده الحسن بن علي، لأن والده علي بن الحسين لما مات عمه الحسن رضي الله عنه كان دون البلوغ"اهـ. العلة الثانية: الاختلاف علي موسى بن عقبة فالرواية هنا عن عبد الله بن علي عن الحسن بن علي، وفي التي قبلها عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، وتقدمت روايته عن أبي إسحاق عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي. وتفرد يحي بن عبد الله بن سالم عن موسى بن عقبة بقوله: عن عبد الله بن علي، وبزيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. انظر التلخيص الحبير (1/248) . قلت: فهذا الطريق ضعيف، وفي متنه زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لا شاهد لها في الطرق الأخرى.
وقد جاء الحديث بذكر الدعاء دون تقييد لموضعه عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنه:
من طريق شعبة عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء به؛ أخرجه أبوداود الطيالسي ص163، تحت رقم (1179) ، احمد بن حنبل (الرسالة 3/248، تحت رقم 1723، 3/252، تحت رقم 1727) ، والدارمي في سننه (1632) ، والبزار في المسند (4/175، تحت رقم 1336) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/32، تحت رقم 416) ، وأبويعلى في مسنده (12/127، تحت رقم 6759، 12/132، تحت رقم 6762) ، والدولابي في الذرية الطاهرة النبوية ص80، تحت رقم 134 وابن خزيمة (2/152، تحت رقم1096) ، وابن حبان (الإحسان 2/498 حديث رقم (722، 3/225، حديث رقم945) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/716، حديث رقم 1175) . قال البزار عقب روايته للحديث: "وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرويه عن النبي بهذا اللفظ إلا الحسن بن علي"اهـ. وصحح إسناد هذا الطريق محقق الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان (3/225) ، ومحققو مسند أحمد (3/249) ، ومحقق سنن الدارمي (2/992) . ويلاحظ أنه قد ثبت تقييد موضع الدعاء بقوله: "في الوتر"، من نفس الطريق عن شعبة عن بريد به، انظر مخرج روايات الحديث عن بريد بن أبي مريم به التي فيها تقييد الموضع.
ومن طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء به؛ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/74، تحت رقم 2704) ، وفي كتاب الدعاء (2/1139، تحت رقم 838) ، من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن رضي الله عنه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/304، تحت رقم 417) فقد أورد ابن أبي عاصم سند الحديث ثم أحال في متنه على لفظ الحديث من رواية شعبة، وليس فيه ذكر التقييد، فقال بعد أن ساق سند الحديث من طريق شريك عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن رضي الله عنه قال: "فذكر الحديث". فإن صح قولي هذا فبها، وتكون لشريك عن أبي إسحاق روايتان رواية مطلقة، وهي هذه ورواية مقيدة (انظر طرق الحديث عن أبي إسحاق السبيعي عن بريد) وإلا فإن لفظ التحويل: "وذكر الحديث"، قريب من قولهم " بنحوه" وليس كقولهم: "مثله". وعليه لا تكون رواية شريك عن أبي إسحاق في الآحاد من مخارج الرواية المطلقة. لكن يُلاحظ أنها جاءت مقيّدة بقنوت الوتر من نفس الطريق، انظر مخارج الروايات عن أبي إسحاق السبيعي.
ومن طريق العلاء بن صالح عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء به؛ أخرجها الطبراني في المعجم الكبير (3/76، تحت رقم 2709) لكنه ذكر طرف الحديث ولم يتم لفظه، والبيهقي (2/209) وساق لفظه، وفي السنن الصغرى له (1/170) . وسند هذا الطريق حسن لذاته،. والمتن صحيح لغيره. ولكن جاء تقييد موضع الدعاء بقوله: "في قنوت الوتر" من نفس الطريق، وانظر تخريجها عند ذكر مخارج الروايات عن بريد بن أبي مريم.
العلل التي أعل بها الحديث، والجواب عنها:
وقد أعل الحديث بالعلل التالية:
1) أن شعبة رواه مطلقاً، وهو أحفظ من الذين رووه مقيداً.
2) أنه ورد ما يؤيد ذلك في الروايات التي فيها أن بريداً سمع ابن عباس ومحمد بن علي في الخيف يقولان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت بهؤلاء الكلمات في قنوت الفجر والوتر".
3) أن أبا إسحاق السبيعي اختلط بأخرة.
قال أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله (صحيح ابن خزيمة 2/151153، باختصار) : "ولست أحفظ خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر. ...
وقد روي عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء يقوله في قنوت الوتر. ...
وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء ولم يذكر القنوت ولا الوتر ...
وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق.
وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه اللهم إلا أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه.
ولو ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي ولست أعلمه ثابتا"اهـ.
قال ابن حجر رحمه الله (في التلخيص الحبير (1/247248) ، باختصار وتصرف يسير) : "قلت: ويؤيده أن الدولابي رواه في الذرية الطاهرة له والطبراني في الكبير من طريق الحسن بن عبيد الله عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء به وقال فيه: وكلمات علمنيهن فذكرهن قال بريد فدخلت على محمد بن علي في الشعب فحدثته فقال صدق أبو الحوراء هن كلمات علمناهن نقولهن في القنوت وقد رواه البيهقي من طرق قال في بعضها قال بريد بن أبي مريم فذكرت ذلك لابن الحنفية فقال إنه للدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر. ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر أيضا.
وروى البيهقي أيضا من طريق عبد المجيد بن أبي رواد عن بن جريج عن عبد الرحمن بن هرمز وليس هو الأعرج عن بريد بن أبي مريم سمعت بن الحنفية وابن عباس يقولان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات.
ورواه من طريق الوليد بن مسلم وأبي صفوان الأموي عن بن جريج بلفظ يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح ورواه مخلد بن يزيد عن بن جريج فقال في قنوت الوتر.
وعبد الرحمن بن هرمز يحتاج إلى الكشف عن حاله فقد رواه أبو صفوان الأموي عن بن جريج فقال عبد الله بن هرمز والأول أقوى"اهـ.
والجواب عن هذه العلل فيما يلي:
أ) ثبت بسند صحيح عن شعبة رواية الحديث مقيداً بالقنوت في الوتر. كما تراه في مخارج طرق الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.
ب) أن هناك غير شعبة روى الحديث مرة مقيداً ومرة بغير قيد، مما يدل على أن الحديث مروي على الوجهين؛ فهناك أبوإسحاق السبيعي والعلاء بن صالح كلاهما رويا هذا الحديث عن بريد مرة مقيداً ومرة مطلقاً.
ج) أن الطرق المتعددة لهذا الحديث تثبت أن أبا إسحاق السبيعي لم يتفرد بهذا التقييد لموضع الدعاء في الحديث، فقد وافقه على ذلك: يونس بن أبي إسحاق السبيعي، الحسن بن عمارة، وشعبة بن الحجاج نفسه، والعلاء بن صالح كلهم عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي به، فيه ذكر تقييد موضع الدعاء بقنوت الوتر.
د) ويزيد الأمر وضوحاً أن الروايات التي جاءت عن ابن عباس ومحمد بن علي (ابن الحنفية) ، تؤكد أن الدعاء يقال في قنوت الوتر؛ إذ يقال تنزلاً: سلمنا أن الرواية المرفوعة جاءت بدون تقييد موضع الدعاء أو تعيينه، لكن هذه الرواية عن ابن عباس ومحمد بن علي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت بهؤلاء الكلمات في صلاة الصبح وفي الوتر بالليل"، وهي تفيد أن هذا الدعاء يقال في قنوت الوتر، فعاد أمر الدعاء إلى تقييده بقنوت الوتر. فهذه الروايات تؤيد القول بثبوت التقييد في الروايات ولا تنفيه.
هـ) وتدليس أبي إسحاق السبيعي هنا مأمون، فقد تابعه كما رأيت جماعة على رواية الحديث عن بريد بن أبي مريم. وكذا ما ذكر من أنه ساء حفظه للحديث فشك فيه فرواه "عن حسن بن علي أو حسين بن علي"؛ فإنه لا يؤثر في ثبوت الحديث لأنه توبع متابعة تامة في روايته عن بريد عن أبي الحوراء عن حسن بن علي، تابعه شعبة ويونس بن أبي إسحاق، والعلاء بن صالح والحسن بن عمارة، وتوبع متابعة قاصرة من غيرهم، في روايته عن الحسن بن علي، فدل ذلك أن روايته للحديث من مسند الحسين بن علي شاذة والمحفوظ روايته من مسند الحسن بن علي رضي الله عنه.(12/338)
44/2) عن ابن جريج قال أخبرني من سمع ابن عباس ومحمد بن علي بالخيف يقولان:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت بهؤلاء الكلمات في صلاة الصبح وفي الوتر بالليل" (1)
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/108، تحت رقم 4957) ، ومحمد بن نصر المروزي في مختصر قيام الليل ص117، تحت رقم (56) ، وهذا طريق ضعيف، فيه إبهام هذا الذي سمع ابن عباس ومحمد بن علي. وقد سمى ابن جريج هذا الذي أبهمه هنا، فأخرج البيهقي (2/210) ، من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الرحمن بن هرمز أن بريد بن أبي مريم أخبره قال سمعت ابن عباس ومحمد بن علي هو ابن الحنفية، بالخيف يقولان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح والوتر بالليل بهؤلاء الكلمات ... ، وذكرهن"، وعبد المجيد هذا فيه كلام في غير روايته عن ابن جريج، أمّا حديثه عن ابن جريج فثبت فيه، فقد كان من أعلم الناس بحديث ابن جريج، كما تراه في ترجمته في المطولات.
تابع أبو صفوان الأموي وهو من الثقات عبد المجيد، فأخرج البيهقي في السنن الكبرى (2/210) معلقاً عن أبي صفوان الأموي عن ابن جريج عن عبد الله بن هرمز وقال في حديث ابن عباس وابن الحنفية: في قنوت صلاة الصبح.
فخالف أبوصفوان رواية عبد المجيد عن ابن جريج فجعلها عنه عن "عبد الله بن هرمز" والمحفوظ عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن هرمز.
وتابع الوليد بن مسلم عبد المجيد وأبا صفوان، لكنه قال ابن هرمز، ولم يذكر مع ابن عباس محمد بن علي ابن الحنفية، أخرج البيهقي في السنن الكبرى (2/210) من طريق الوليد بن مسلم ثنا ابن جريج عن ابن هرمز عن بريد بن أبي مريم عن عبد الله بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح وذكره. والوليد بن مسلم كثير التدليس والتسوية والسند فوقه فيه عنعنة، لكنه توبع عليه كما ترى.
وابن هرمز ثقة معروف، إذا كان المقصود عبد الرحمن بن هرمز بن كيسان الأعرج؛ لكن قال ابن حجر في التلخيص الحبير (1/248) : "عبد الرحمن بن هرمز ليس هو الأعرج، يحتاج إلى الكشف عن حاله؛ فقد رواه أبوصفوان الأموي عن ابن جريج فقال: عبد الله بن هرمز، والأوّل أقوى" اهـ بتصرف.
قلت: ابن هرمز، جاء مرة اسمه هكذا، ومرّة "عبد الرحمن بن هرمز" ومرّة "عبد الله بن هرمز"، فإن كان هو ابن هرمز عبد الرحمن الأعرج فهذا ثقة معروف، وهو الذي نفى الحافظ ابن حجر أن يكون المقصود في هذا السند، ولم يذكر مستنده سوى قول أبي صفوان في روايته للحديث عن ابن جريج عن "عبد الله بن هرمز". ووجدت في الرواة راويين في هذه الطبقة يقال لكل واحد منهما: ابن هرمز؛ أحدهما لا بأس به، وهو عبد الله بن يزيد بن هرمز، (ت148هـ) وهو ممن جالسه مالك وأخذ عنه. معدود في فقهاء المدينة، من أهل الورع والديانة والتعظيم للحديث، قال أبوحاتم عنه: "ليس بقوي يكتب حديثه"اهـ. له ترجمة في الجرح والتعديل (5/199) ، سير أعلام النبلاء (6/279) . والآخر ضعيف، وهو عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، له ترجمة في التهذيب (6/30) ، والتقريب ص546. فإن كان ابن هرمز المقصود في هذا الطريق هو عبد الرحمن الأعرج؛ فالطريق لا ينزل عن درجة الحسن لذاته، وإن كان المقصود هو أحد المذكورين الآخرين فالطريق حسن لغيره فقط؛ إذ تشهد له الطريق التي بعده.
ورواه مخلد بن يزيد الحراني عن ابن جريج عن بريد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، أخرج البيهقي في السنن الكبرى (2/210) معلقاً، عن مخلد بن يزيد عن ابن جريج فذكر رواية بريد مرسلة في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أحد ابني ابنته هذا الدعاء في وتره، ثم قال بريد سمعت ابن الحنفية وابن عباس يقولان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها في قنوت الليل.". قلت: ومخلد صدوق يهم كما في التقريب ص928، جعل الرواية عن ابن جريج عن بريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أحد ابني ابنته هذا الدعاء في الوتر، ففيها إرسال.(12/339)
45/3) عن العلاء بن صالح حدثني بريد بن أبي مريم ثنا أبو الحوراء قال سألت الحسن بن علي ما عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني دعوات أقولهن: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك.
أراه قال: إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت".
قال [بريد] : فذكرت ذلك لمحمد بن الحنفية فقال إنه الدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته" (1) .
45/4) عن الحسن بن عبيد الله عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما مثل من كنت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عقلت عنه؟ قال: عقلت عنه أني سمعته يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت عنه الصلوات الخمس وكلمات أقولهن عند انقضائهن قال: قل اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت.
__________
(1) ... أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/209) . وهذا إسناد حسن.(12/340)
قال بريد بن أبي مريم: فدخلت على محمد بن علي في الشعب فحدثته بهذا الحديث عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنه فقال: صدق هن كلمات علمناهن أن نقولهن في القنوت" (1) .
__________
(1) ... أخرجها الدولابي في الذرية الطاهرة النبوية ص80، تحت رقم 135، والطبراني في المعجم الكبير (3/75، تحت رقم 2708) ، وفي كتاب الدعاء (2/1142، تحت رقم 744) ، وعن الطبراني أخرجه أبونعيم في حلية الأولياء (8/264) ، (تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية (1/133، تحت رقم 280) . وهذا الطريق ضعيف، فيه هاشم بن مرثد شيخ الطبراني، قال الخليلي في الإرشاد (2/484) : "ثقة لكنه صاحب غرائب"اهـ، وتشدد فيه ابن حبان (نقله عنه المغني في الضعفاء 2/707) ، فقال:"ليس بشيء"اهـ، وكأن الذهبي لم يقف على كلام الخليلي فقال في السير (13/270) : "ما هو بذاك المجود"اهـ قلت: فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن لذاته، ويزيده قوة الطريق المتقدمة عن ابن جريج، فالطريق يعتضد بذلك إلى مرتبة الصحيح لغيره، وقوله: "وكلمات أقولهن عند انقضائهن"، كذا في رواية الطبراني في المعجم الكبير، وعليه لفظ الرواية عند أبي نعيم في الحلية، ووقع في كتاب الدعاء بلفظ: "عند انقضاء الوتر"، قلت: ولعل معناها عند انقضاء قنوت الوتر، يعني في آخره، كما جاء في لفظ رواية الحسن بن عمارة عن بريد عند الطبراني في الدعاء (2/1143، تحت رقم 746) .(12/341)
45/5) عن الحسن بن عمارة قال أخبرني بريد ابن أبي مريم عن أبي الحوراء قال: قلت للحسن بن علي مثل من كنت يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وما تعقل عنه؟ قال: عقلت أن رجلا جاءه يوما فسأله عن شيء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشر يريبك وإن الخير طمأنينة. وعقلت منه أني مررت يوما بين يديه في جرن من جرن تمر الصدقة فأخذت تمرة وطرحتها في فيّ فأخذ بقفاي ثم أدخل يده في في فانتزعها بلعابها ثم طرحها في الجرن فقال أصحابه: لو تركت الغلام فأكلها. فقال: إن الصدقة لا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: وعلمني كلمات ادعو بهن في آخر القنوت اللهم اهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت وعافني فيمن عافيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت".
قال أبو الحوراء: فدخلت على محمد بن علي وهو محصور فحدثته بها عن الحسن فقال محمد إنهن كلمات علمناهن ندعو بهن في القنوت ثم ذكر هذا الدعاء مثل حديث الحسن بن عمارة" (1) .
ما جاء عن الحسين بن علي رضي الله عنه في قنوت الوتر
__________
(1) ... أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3/118، تحت رقم 4984) ، والحسن بن عمارة متروك الحديث، انظر تهذيب التهذيب (2/304) ، وتقريب التهذيب ص؛ فالسند ضعيف جداً، وقد جعل الحسن بن عمارة الذي دخل على محمد بن علي هو أبوالحوراء، والمعروف كما في الروايات السابقة: "بريد بن أبي مريم". وقول عبد الرزاق في آخره: "مثل حديث الحسن بن عمارة" لعله أراد حديث الحسن عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن.(12/342)
46/1) عن أبي إسحاق السبيعي عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ قَالَ: قَالَ الْحَسينُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: ربِّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّك لَا تُذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" (1) .
__________
(1) ... رجاله ثقات، وإسناده شاذ.
... أخرجه أحمد في مسنده (1/201) ، (الرسالة3/257) ، أبو يعلى في مسنده (12/156، تحت رقم 6786) . وأخرجه البيهقي (2/209) ووقع عنده: "عن حسن أو حسين". والظاهر أن هذا الاختلاف من أبي إسحاق فقد رواه عنه شريك عند أحمد وأبو الأحوص عند أبي يعلى وجعله من مسند الحسين، ورواه عنه إسرائيل وشك فيه، قال في التلخيص الحبير (2/249) : "يؤيد رواية الشك أن أحمد بن حنبل أخرجه في مسند الحسين بن علي من مسنده من غير تردد، فأخرجه من حديث شريك عن أبي إسحاق بسنده، وهذا وإن كان الصواب خلافه والحديث من حديث الحسن لا من حديث أخيه الحسين، فإنه يدل على أن الوهم فيه من أبي إسحاق، فلعله ساء فيه حفظه فنسي: هل هو الحسن أو الحسين؟ والعمدة في كونه الحسن على رواية يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم وعلى رواية شعبة عنه كما تقدم"اهـ، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (3/153) : "رواه أبو يعلى وأحمد بن حنبل بسند رجاله ثقات، وله شاهد من حديث أخيه الحسن بن علي رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم وعنه البيهقي"اهـ، قلت: حكم بشذوذ الحديث عن الحسين بن علي رضي الله عنه ابن حجر كما رأيت، ومحقق مسند أبي يعلى، ومحققو مسند أحمد، وهو الصواب، والله اعلم.(12/343)
47/2) عن حسن بن صالح عن منصور عن شيخ يكنى أبا محمد: "أن الحسين بن علي كان يقول في قنوت الوتر: اللهم إنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى وإن إليك الرجعى وإن لك الآخرة والأولى اللهم إنا نعوذ بك من أن نذل ونخزى" (1) .
ما جاء عن أنس رضي الله عنه في قنوت الوتر
48/1) عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ" (2) .
49/2) عن عَاصِمٌ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْقُنُوتِ فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ.
قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟
قَالَ: قَبْلَهُ.
قَالَ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟
__________
(1) إسناده ضعيف.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/300) ، ورجاله ثقات غير أبي محمد هذا اسمه هارون، قال في التقريب ص1016: "هارون أبومحمد شيخ للحسن بن صالح بن حي، مجهول"اهـ
(2) ... حديث صحيح.
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب رفع الإمام يده في الاستسقاء، حديث رقم (1031) ، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء حديث رقم (895) ..(12/344)
فَقَالَ: كَذَبَ إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ" (1) .
50/3) عن أبي عاتكة عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في النصف من رمضان إلى آخره" (2) .
ما جاء عن طارق بن شهاب رضي الله عنه
51/1) عن ابن عيينة عن المخارق قال سمعت طارق بن شهاب يقول: قنت عمر. قال: فأخبرني أصحابنا عن المخارق عن طارق: "أنه كبر حين قنت يقول حين فرغ من القراءة ثم كبر حين خر" (3) .
__________
(1) ... حديث صحيح، أخرجه البخاري في كتاب الوتر باب القنوت قبل الركوع وبعده، تحت الرقم (1002) ، واللفط له، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، تحت رقم (677) .
(2) ... إسناده ضعيف.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/499) . قال البيهقي قبل سياقه لهذا الحديث: " قال البيهقي رحمه الله: "وقد روي فيه حديث مسند إلا أنه ضعيف لا يصح إسناده. ثم ساقه ثم قال: أبو عاتكة طريف بن سلمان ويقال: بن سليمان منكر الحديث سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري"اهـ.
(3) ... صحيح، في قنوت الفجر.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/115) . وفي السند جهالة الواسطة بين سفيان والمخارق، حيث قال: "فأخبرني أصحابنا عن المخارق عن طارق..". ورواه ابن أبي شيبة (2/315) ، عن وكيع قال حدثنا سفيان عن مخارق عن طارق بن شهاب: أنه صلى خلف عمر بن الخطاب الفجر فلما فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم ركع"، وهذا سند صحيح، لكن الأثر صريح في أن ذلك في قنوت الفجر، إذا كان قبل الركوع.(12/345)
ما جاء مرسلا ً أو عن الصحابة دون تعيين
52/1) عن معمر عن الزهري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه بحذاء صدره إذا دعا ثم يمسح بها وجهه".
قال [عبد الرزاق] : ورأيت معمرا يفعله.
قلنا لعبد الرزاق: أترفع يديك إذا دعوت في الوتر؟
قال: نعم في آخره قليلا" (1) .
53/2) عن المهلب بن [أبي] حبيبة قال: سألت سعيد بن أبي الحسن عن القنوت فقال: "في النصف من رمضان كذلك علمنا" (2) .
54/3) عن إبراهيم عن علقمة: "إن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع" (3) .
55/4) عن حفص عن الأعمش عن إبراهيم قال: "كانوا يقولون القنوت بعد ما يفرغ من القراءة" (4) .
56/5) عن معمر وابن جريج عن الزهري قال: "لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان" (5) .
57/6) عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: دعاء أهل مكة بعدما يفزعون من الوتر في شهر رمضان؟
قال: بدعة. قال: أدركت الناس وما يصنع ذلك بمكة حتى أحدث حديثا" (6)
__________
(1) ... ضعيف.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/123، تحت رقم 5003) . وهو مرسل.
(2) ... إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/305) . ووقع عنده: "المهلب بن حبيبة" وصوابه " المهلب بن أبي حبيبة"، وهو ثقة كما يظهر من ترجمته في تهذيب التهذيب (10/292) ، وقال في التقريب ص976: "صدوق"اهـ.، وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري ثقة كما في التقريب ص375.
(3) إسناده حسن.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/302) . قال ابن حجر رحمه الله في الدراية ص194، تحت الرقم 244: "بإسناد حسن"اهـ، قال الألباني في الإرواء (2/166) : "سند جيد، وهو على شرط مسلم"اهـ.
(4) ... إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/302) . وهو في حكم الموقوف على الصحابة.
(5) إسناده صحيح.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/122، تحت رقم 4999) ولم يذكر في هذا الموطن ابن جريج، وذكره في (4/260، تحت رقم 7726) .
(6) ... إسناده صحيح.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/122، تحت رقم 5000) .(12/346)
58/7) عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: "مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ: وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ" (1) .
59/8) عن عمرو عن الحسن يقول: القنوت في الوتر والصبح: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب الكفرة والمشركين وألق في قلوبهم الرعب وخالف بين كلمتهم وأنزل عليهم رجزك وعذابك اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات اللهم أصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وتوفهم على ملة رسولك وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم.
فكان يقول هذا ثم يخر ساجدا وكان لا يزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بعض من يسأله يقول: يا أبا سعيد أيزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والتسبيح والتكبير؟ فيقول: لا أنهاكم ولكني سمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون على هذا شيئا ويغضب إذا أرادوه على الزيادة (2)
__________
(1) ... إسناده صحيح.
أخرجه مالك في الموطأ في كتاب وقوت الصلاة باب ما جاء في قيام رمضان تحت رقم (255) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/497) .
(2) إسناده ضعيف جداً، وجاء للمتن ما يشهد له.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/116، تحت رقم 4982) . وفي السند عمرو بن عبيد، من رؤوس البدع، متهم، وترك الناس حديثه، وجاء ما يشهد لثبوت مجمل هذا الدعاء عن الصحابة، كما تراه فيما جاء عن عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، والله اعلم.(12/347)
مدخل: تعريف قنوت الوتر. ومجمل ما جاء في المذاهب الأربعة ومذهب ابن حزم من الظاهرية عن قنوت الوتر.
أولاً: تعريف القنوت:
قنوت الوتر مركب إضافي، من كلمة (قنوت) مضافة إلى كلمة (الوتر) .
والقنوت في اللغة: مادة <ق. ن.ت> تدور على معنى الطاعة والخير في دين. والأصل فيها الطاعة. يقال قنت يقنت قنوتاً، ثم سمى كل استقامة في طريق الدين قنوتاً (1) .
وفي الشرع جاء القنوت بمعاني لم يخرج فيها عن معنى الطاعة؛ فمن ذلك:
القنوت: بمعنى لزوم الطاعة مع الخضوع، في قوله تبارك وتعالى: (وقوموا لله قانتين ( [البقرة:238] ، وقوله تعالى: (كل له قانتون ( [الروم:26] .
القنوت بمعنى طول القيام في الصلاة، وهو قيام القراءة، ومنه جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" (2) .
القنوت بمعنى الاشتغال بالعبادة ورفض كل ما سواه. قال تبارك وتعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا ( [النحل:120] ، وقال عزوجل: (وكانت من القانتين ( [التحريم:12] ، وقال تبارك وتعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ( [الزمر:9] ، وقوله تعالى: (اقنتي لربك ( [آل عمران:43] ، وقوله: (ومن يقنت منكن لله ورسوله ( [الأحزاب:31] ، وقوله: (والقانتين والقانتات ( [الأحزاب:35] ، وقوله: (فالصالحات قانتات ( [النساء:34] .
والقنوت بمعنى الدعاء؛ لأنه طاعة وخير في الدين. وقيل: لأنه كان يدعى به وهم قيام قبل الركوع أو بعده فسمي باسم القيام، على أساس أن الأصل في القنوت هو القيام.
وقد جمع المعاني التي يأتي بها لفظ (القنوت) زين الدين العراقي رحمه الله في قوله:
ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد
دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة
سكوت صلاة، والقيام، وطوله
مزيداً على عشر معاني مرضيه
اقامتها، اقراره بالعبوديه
__________
(1) ... معجم مقاييس اللفة (5/31) .
(2) ... أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب أفضل الصلاة طول القنوت، حديث رقم (756) .(12/348)
كذاك دوام الطاعة الرابح القنيه (1)
فالقنوت يطلق على معاني، والمراد هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام (2) .
والوِتْر الفَردْ واحداً كان ذلك أو ثلاثة أو خمسة وما فوق. ...
وفي الشرع (3) هو آخر صلاة الليل، وهي ركعات شفع ثم وتر بواحدة، أو بثلاث متصلات بدون جلوس في وسطهن، أو بخمس متصلات يجلس في آخرهن، أو بسبع متصلات يجلس في السادسة والسابعة، أو بتسع يجلس في الثامنة والتاسعة، أو يصلي مثنى ثم يوتر بواحدة.
فقنوت الوتر: هو الدعاء الذي يدعو به المصلي في آخر ركعة من صلاة الليل (الوتر) .
ويأتي القنوت بمعنى الدعاء في محل مخصوص من الصلاة غير صلاة الوتر، وهذا يصدق على القنوت في المواضع التالية:
الموضع الأول: في الصلوات الخمس بعد الرفع من الركوع في الركعة الآخرة، عند نزول نازلة بالمسلمين.
الموضع الثاني: في الفجر بعد الرفع من الركوع في الركعة الآخرة، طوال العام بدون نازلة.
ومحل البحث هنا هو الدعاء الذي يدعو به المصلي في آخر ركعة من صلاة الوتر.
ثانيا: مجمل ما جاء في المذاهب الأربعة ومذهب ابن حزم من الظاهرية عن قنوت الوتر.
أقول مستعيناً بالله:
مذاهب أهل العلم في القنوت للوتر هي التالية (4) :
مذهب الحنفية: يقنت في صلاة الوتر في جميع العام، ولا قنوت في شيء من الصلوات سوى الوتر. ويقنت فيه بعد القراءة قبل الركوع.
وذكر الطحاوي رحمه الله: أنه لا بأس بالقنوت إذا وقعت فتنة أو بلية.
__________
(1) نقلها في فتح الباري (2/491) ، وانظر زاد المعاد (1/276) . والقُنْيَة: الكسبة. كما في لسان العرب مادة (قنى) .
(2) ... فتح الباري (2/490) .
(3) ... وهذا مستفاد من الأحاديث الواردة في الوتر.
(4) ... انظر: الفقه الإسلامي وأدلته (1/809818) ، الموسوعة الفقهية الكويتيه (34/5768) .(12/349)
ومحله عندهم في الركعة الأخيرة من الصلوات الجهرية من الصلوات الخمس. ورُجِّح أن موضع القنوت في النازلة بعد الركوع (1) .
مذهب المالكية: القنوت في صلاة الصبح فضيلة، في الركعة الثانية، في جميع العام، ويخيّر في فعله قبل الركوع وبعده. ولا يسن القنوت في الوتر وفي رواية إلا في النصف الأخير من رمضان (2) . فلا قنوت للنازلة عند المالكية.
مذهب الشافعية: يقنت بعد رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح إذا فرغ من قوله: "ربنا لك الحمد" يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت ... " في جميع العام.
ويقنت بعد الركوع في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان.
ويقنت للنازلة في الصلوات الخمس (3) .
مذهب الحنابلة: يقنت في الوتر في الركعة الأخيرة، في جميع العام، بعد الركوع أو بعد القراءة قبل الركوع.
ويكره القنوت في غير الوتر، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون؛ لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا في غيره؛ فيقنت لرفع تلك النازلة (4) . وهل محل القنوت الفجر خاصة، أو الفجر والمغرب أو جميع الصلوات؟ ثلاث روايات.
__________
(1) ... انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (1/202204) ، الاختيار لتعليل المختار (1/55) ، وظاهر كلامهما أنه لا يشرع القنوت في غير الوتر. لكن نص عليه الطحاوي في مختصره ص28، وكلامه في فتح القدير (1/428435) ، محتمل الدلالة على القول به في المذهب عندهم، والله اعلم.
(2) ... انظر: المدونة (1/100، 195) ، المعونة (1/241، 246) ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/291) .
(3) ... انظر: اختلاف مالك والشافعي (ضمن الأم) (7/248) ، اختلاف الحديث ص542، مختصر الخلافيات (2/ 136،281) ، الحاوي (2/152155) ، وكلامهم مشعر بأن لا قنوت للنازلة، لكن نص عليه في المجموع (3/494، 505) ، وذكر أنه الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور.
(4) ... انظر: المغني (1/151152، 154156) ، الشرح الكبير (2/7677) ، نيل المآرب (1/108 110) .(12/350)
وقال ابن حزم رحمه الله: "القنوت فعل حسن، وهو بعد الرفع من الركوع في آخر ركعة من كل صلاة فرض الصبح وغير الصبح، وفي الوتر؛ فمن تركه فلا شيء عليه في ذلك.
وهو أن يقول بعد قوله: "ربنا ولك الحمد": اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت ... ويدعو لمن شاء ويسميهم بأسمائهم أن أحب فإن قال ذلك قبل الركوع لم تبطل صلاته بذلك وأمّا السُّنة فالذي ذكرنا"اهـ (1) .
وبعد هذا العرض المجمل لمذاهب أهل العلم في قنوت الوتر، إليك ذكر مسائل القنوت بالتفصيل، وبالله التوفيق؛
المسألة الأولى: هل يشرع القنوت في الوتر؟
الذي يترجح في هذه المسألة أن قنوت الوتر مشروع طوال العام، ويدل عليه حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وحديث أُبي بن كعب رضي الله عنه، وهو الثابت عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما. بل وهو الثابت عن جمهور الصحابة، فقد جاء عن إبراهيم عن علقمة: "إن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع" (2) .
عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال عبد الله: لا يقنت السنة كلها في الفجر ويقنت في الوتر كل ليلة قبل الركوع" (3)
__________
(1) ... المحلى (4/138) .
(2) ... إسناده حسن. سبق تخريجه.
(3) ... حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة (2/305-306) ، وفي السند أشعث بن سوار الكندي، قال في التقريب ص149: "ضعيف"اهـ، وإبراهيم النخعي (ت196هـ) لم يسمع من ابن مسعود، لكن مراسيله عن ابن مسعود صحيحة، قال في التقريب ص118، "ثقة إلا أنه يرسل كثيرا، فقيه"، ساق بسنده في تهذيب الكمال (صورة المخطوط دار المأمون1/68) من طريق أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الحافظ، قال: حدثنا أبوعبيدة بن أبى السفر الكوفى، قال: حدثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن سليمان الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: اسند لي عن عبد الله بن مسعود؟ فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله: فهو عن غير واحد عن عبد الله"اهـ. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود"اهـ. فالسند ضعيف لوجود أشعث، لكن توبع على ذكر القنوت للوتر قبل الركوع، وعلى ذكر الوتر في كل ليلة، بما تراه في الأصل، عن عبد الله بن مسعود، فيرتقي هذا الحديث إلى الحسن لغيره.(12/351)
وقال أبوبكر ابن أبي شيبة عقب هذا الأثر: "هذا القول عندنا"اهـ
فإن قيل: جاء عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان لا يقنت في الفجر ولا في الوتر فكان إذا سئل عن القنوت قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن" (1) .
فالجواب: ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه القول بمشروعية القنوت في الوتر فيما جاء عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان لا يقنت إلا في النصف يعني من رمضان". وفي رواية عند البيهقي: "كان لا يقنت في الوتر إلا في النصف من رمضان" (2) . وكذا ما جاء عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد: "أن ابن عمر قنت في الوتر قبل الركوع" (3) .
وعليه؛ فإن ما جاء عنه من ترك القنوت إنما المراد به ترك المداومة عليه، وإنما كان يداوم عليه كل ليلة في النصف من رمضان.
وما جاء عن هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبي بن كعب فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَإِذَا كَانَتْ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ" (4) .
__________
(1) ... إسناده صحيح. وسبق تخريجه.
(2) ... إسناده صحيح. وسبق تخريجه.
(3) ... إسناده صحيح. إذا صح ما في المطبوع من أن السند عن ابن عمر، وإلا فالصواب أنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وسبق تخريجه.
(4) ... أثر حسن لغيره. سبق تخريجه.(12/352)
أقول: هذا يُحمل على أنه لم يكن يداوم على القنوت في كل ليلة إلا في النصف الباقي، أو أنه لم يكن يذكر في قنوته لعن الكفرة إلا في قنوت النصف كما يشعر به ما جاء عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير: "أن عبد الرحمن بن عبد القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم عمر على ذلك وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هي والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل. فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.
قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد إن عذابك لمن عاديت ملحق. ثم يكبر ويهوى ساجدا" (1) .
أو يُحمل ذلك على القنوت في صلاة الوتر جماعة، لا لمن قنت منفرداً.
عن إبراهيم النخعي رحمه الله: "لا وتر إلا بقنوت" (2) .
الحاصل أن القنوت في الوتر يشرع طوال العام، والسُّنّة فيه فعله أحياناً وتركه أحياناً، ويتأكد المداومة عليه كل ليلة في صلاة الوتر في النصف الآخر من رمضان. ويُسن تركه في النصف الأول من رمضان إذا صلى الوتر إماماً.
__________
(1) ... صحيح. وسبق تخريجه.
(2) ... أخرجه ابن أبي شيبة (2/308) بسند صحيح.(12/353)
عن عمرو عن الحسن: أن عمر حيث أمر أبيا أن يصلي بالناس في رمضان وأمره أن يقنت بهم في النصف الباقي ليلة ست عشرة [قنتوا فدعوا على الكفرة] .
قال: وكان الحسن يقول: إذا كان إماما قنت في النصف وإذا لم يكن إماما قنت الشهر كله" (1) .
عن معمر عن الزهري قال: "لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الآخر من رمضان". قال معمر: "وإني لأقنت السنة كلها إلا النصف الأول من رمضان فإني لا أقنته وكذلك كان يصنع الحسن وذكره عنه قتادة وغيره" (2) .
__________
(1) ... أثر حسن لغيره.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/305) . في السند عمرو هو ابن عبيد، متهم. ,لكن تابعه يونس بن عبيد أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (2/77) من طريق يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن الحسن، والزيادة له، والحسن لم يدرك أبياً. لكن يشهد له ما جاء عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ في قصة جمع عمر للناس خلف أُبي بن كعب لصلاة الليل.
(2) ... أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/120) بسند صحيح.(12/354)
عن هشام عن الحسن: "أنه كان يقنت السنة كلها في الوتر إلا النصف الأول من رمضان" قال: "وكان ابن سيرين لا يقنت من السنة شيئا إلا النصف الآخر من رمضان" (1) .
وقال مالك رحمه الله في الحدث الذي يذكره: "ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان"، قال رحمه الله: "ليس عليه العمل، لا أرى أن يعمل به، ولا يقنت في رمضان لا في أوله ولا في آخره، ولا في غير رمضان، ولا في الوتر أصلاً" (2) .
قال محمد بن نصر المروزي (ت294هـ) رحمه الله: "وسئل مالك عن القنوت في الوتر في غير رمضان؟ فقال: ما أقنت أنا في الوتر في رمضان ولا في غيره.
وسئل عن الرجل يقوم لأهله في رمضان أيقنت بهم في النصف الباقي من الشهر؟ فقال: لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من أولئك قنت. وما هو من الأمر القديم، وما أفعله أنا في رمضان، ولا أعرف القنوت قديماً.
وفي رواية: لا يقنت في الوتر عندنا" (3) .
__________
(1) ... أخرجه عبد الرزاق (3/121) ، وسنده صحيح عن ابن سيرين، أمّا عن الحسن فحسن لغيره، إذ في السند هشام بن حسان الأزدي، قال في التقريب: " ثقة، من أثبت الناس فى ابن سيرين، وفى روايته عن الحسن وعطاء مقال لأنه قيل كان يرسل عنهما"اهـ، وقد توبع في روايته عن الحسن تابعه عمرو بن عبيد في الرواية المذكورة قبل قليل، وتابعه قتادة، جاء في (مختصر قيام الليل ص127) : "قال سعيد عن قتادة: كان يقنت السنة كلها في وتره، إلا النصف الأول من رمضان، فإنه كان لا يقنت. وكان يحدث عن الحسن أنه كان يقنت في السنة كلها إلا النصف الأول من رمضان إذا كان إماماً إلا أن يصلي وحده، فكان يقنت في رمضان كله [و] في السنة كلها" ما بين معقوفتين زيادة من عندي ليستقيم بها الكلام.
(2) ... المدونة (1/195) .
(3) ... مختصر قيام الليل ص129.(12/355)
قلت: ونقل عنه رحمه الله خارج المدونة: القول بمشروعية قنوت الوتر في النصف من رمضان (1) .
عن العباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال: سئل الأوزاعي عن القنوت في شهر رمضان قال أما مساجد الجماعة فيقنتون من أول الشهر إلى آخره وأما أهل المدينة فإنهم يقنتون في النصف الباقي إلى انسلاخه (2) .
وقال الزعفراني عن الشافعي رحمه الله: "أحب إليّ أن يقنتوا في الوتر في النصف الآخر، ولا يقنت في سائر السنة، ولا في رمضان إلا في النصف الآخر"
قال محمد بن نصر المروزي (ت294هـ) رحمه الله: "وكذلك حكى المزني عن الشافعي" (3) .
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن القنوت في الوتر كل ليلة أفضل؟ أم في السنة كلها؟ أو النصف من شهر رمضان؟ قال: لا بأس إن يقنت كل ليلة. ولا بأس إن قنت السنة كلها. قال: وإن قنت في النصف من شهر رمضان فلا بأس. حدثنا قال: حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن نافع أن ابن عمر كان لا يقنت إلا في النصف الثاني من رمضان" (4) .
وعن عبد الله قال: سألت أبي عن القنوت في أي صلاة؟ قال: في الوتر بعد الركوع، وإن قنت رجل في الوتر اتباع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فدعا للمستضعفين فلا بأس.
__________
(1) ... انظر: المعونة (1/241، 246) ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/291) . ويلاحظ هنا: أن الإمام مالكاً رحمه الله في المدونة (1/100) يقول بمشروعية القنوت في صلاة الصبح، قبل الركوع وبعده، ويختار لنفسه قبل الركوع، ويقول: ليس في القنوت دعاء معروف ولا وقوف مؤقت، ويقول من نسي القنوت في صلاة الصبح لا سهو عليه.
(2) ... السنن الكبرى للبيهقي (2/499) ، بسند حسن.
(3) ... مختصر قيام الليل ص124125.
(4) ... مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص90، المسألة رقم 320، بدون ذكر أثر ابن عمر، وذكره ص96، المسألة رقم (337) .(12/356)
قلت: إن قنت في الصلوات كلها؟ قال: لا، إلا في الوتر والغداة، فإذا كان يستنصر ويدعو للمسلمين" (1) .
وقال عبد الله: سألت أبي عن القنوت في الوتر؟ فقال: إن شاء قنت، وأختار أن يقنت بعد الركوع" (2) .
قال أبوداود: قلت لأحمد (يعني: ابن حنبل) : القنوت في الوتر السنة كلها؟ قال: إن شاء. قلت: فما تختار أنت؟ قال: أمّا أنا ما أقنت إلا في النصف الباقي، إلا أن اصلي خلف إمام يقنت فأقنت معه.
قال أبوداود: قلت لأحمد: إذا كان يقنت النصف الآخر متى يبتديء؟ قال: إذا مضى خمس عشرة، ليلة سادس عشرة.
قال أبوداود: وكذلك صلى به إمامه في مسجده في شهر رمضان" (3) .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ سألت أبا عبد الله (يعني: أحمد بن حنبل) عن الرجل يقنت السنة أجمع؟ قال: كنت أرى أن يقنت نصف السنة وإذا هو دعاء يقنت السنة أجمع لا بأس به"
وقال مرة: "قد كنت أرى هذا، ولكن هو دعاء أرى أن يقنت السنة أجمع" (4) .
وقال محمد بن نصر المروزي (ت294هـ) رحمه الله: "وكان إسحاق بن راهوية يختار القنوت في السنة كلها" (5) .
قلت: والأدلة قائمة على مشروعية القنوت في الوتر طوال العام، وأنه يفعل أحياناً ويترك أحياناً، وأنه يداوم عليه في النصف الثاني من رمضان كل ليلة، ويترك في أوله.
المسألة الثانية: هل يقنت في الوتر قبل الركوع أم بعده؟
سبق أن مذهب الحنفية أن موضع قنوت الوتر هو قبل الركوع، من الركعة الأخيرة في الوتر، ومذهب المالكية والحنابلة التخير في القنوت قبل الركوع أو بعده في الركعة الأخيرة من الوتر، ومذهب الشافعية أنه بعد الركوع.
__________
(1) ... مسائل عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه ص92، المسألة رقم (324) .
(2) ... مسائل عبد الله لأبيه ص98، المسألة رقم (344) .
(3) ... مسائل أبي داود لأحمد ابن حنبل ص95.
(4) ... مسائل إسحاق ابن هانئ لأحمد بن حنبل (1/99،100) .
(5) ... مختصر قيام الليل ص125.(12/357)
والراجح في ذلك جوازه بعد القراءة قبل الركوع، وبعد الركوع، والأفضل قبل الركوع، فإنه المنقول عن جمهور الصحابة.
ويدل على جوازه قبل الركوع ما جاء عن عَاصِمٌ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْقُنُوتِ فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ. قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟
قَالَ: قَبْلَهُ. قَالَ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟
فَقَالَ: كَذَبَ إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ" (1) .
__________
(1) ... حديث صحيح. سبق تخريجه.(12/358)
ووجه الدلالة أن جواب أنس رضي الله عنه بأن موضع القنوت قبل الركوع إنما مراده به في قنوت الوتر، بدليل أنه بيّن في تمام كلامه أن قنوت النازلة بعد الركوع. (1) .
__________
(1) ... وهذا ما أشار إليه البخاري رحمه الله حينما أورد هذا الحديث مبوباً عليه باب القنوت قبل الركوع أو بعده، ضمن الأبواب المتعلقة بالوتر، وما ذاك إلا إشارة منه إلى هذا المعنى والله اعلم. وقد جنح ابن حجر إلى استلماح معنى آخر يلتقي في نتيجته مع ما ذكرت، والمناسبات على كل حال لا تتمانع مالم تتناقض. حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، في بيان مناسبة تبويب البخاري لأحاديث الباب، (فتح الباري2/490) : "ويظهر لي أنه أشار بذلك إلى قوله في الطريق الرابعة كان القنوت في الفجر والمغرب لأنه ثبت أن المغرب وتر النهار فإذا ثبت القنوت فيها ثبت في وتر الليل بجامع ما بينهما من الوترية مع أنه قد ورد الأمر به صريحا في الوتر، الوتر فروى أصحاب السنن من حديث الحسن بن علي قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر اللهم أهدني فيمن هديت الحديث وقد صححه الترمذي وغيره لكن ليس على شرط البخاري "اهـ، وقد أشار ابن قتيبة في (غريب الحديث1/17) إلى أن صلاة الوتر تشبّه بصلاة المغرب، وتقاس عليها، فقال رحمه الله: "ولّا كانت المغرب وتر النهار واختلف الناس في وتر الليل كان أحسن الأشياء أن يُشبه بها"اهـ(12/359)
وفي حديث أُبي بن كعب: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ" (1) .
عن علقمة: "إن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع" (2) .
وثبت القنوت في الوتر بعد الركوع، فقد جاء عن ابن سيرين: "أن أُبي بن كعب قنت في الوتر بعد الركوع" (3) .
عن قتادة عن الحسن: "إن أبيا أم الناس في خلافة عمر فصلى بهم النصف من رمضان لا يقنت فلما مضى النصف قنت بعد الركوع فلما دخل العشر أبق وخلى عنهم فصلى بهم العشر معاذ القارئ في خلافة عمر" (4) .
عن هشام بن حسان: "أن الحسن وابن سيرين كانا يقنتان في الوتر قبل الركعة" (5) .
عن علي الباشاني قال: كان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر وكان يرفع يديه" (6) .
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: ومن قنت في الوتر يركع قبل القنوت أو بعده؟ قال: بعد الركوع إذا رفع رأسه".
وقال مرّة: "وأختار أن يقنت بعدما يرفع رأسه من الركوع" (7) .
__________
(1) ... حديث صحيح. سبق تخريجه.
(2) إسناده حسن. سبق تخريجه.
(3) حسن لغيره. سبق تخريجه.
(4) أثر حسن لغيره. سبق تخريجه.
(5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/120، تحت رقم 4994) . وسنده صحيح عن ابن سيرين، أمّا عن الحسن فحسن لغيره، إذ في السند هشام بن حسان الأزدي، قال في التقريب: " ثقة، من أثبت الناس فى ابن سيرين، وفى روايته عن الحسن وعطاء مقال لأنه قيل كان يرسل عنهما"اهـ.
(6) سنن البيهقي الكبرى (2/212) .
(7) مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص90، المسألة رقم (320) .(12/360)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سألت أبي عن القنوت في صلاة الصبح أحب إليك قبل الركوع أم بعد الركوع؟ وفي الوتر أحب إليك أم تركه؟
قال أبي: أمّا القنوت في صلاة الغداة فإن كان الإمام يقنت مستنصراً لعدو حضره فلا بأس بذلك، على معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه دعا لقوم على قوم"، فلا بأس بالقنوت في الفجر. وأمّا غير ذلك فلا يقنت، ويقنت بعد الركعة في الفجر، وفي الوتر بعد الركعة إذا هو قنت.
قال سمعت أبي يقول: اختار القنوت بعد الركعة لأن كل شيء يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركعة فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام" وقنوت الوتر أيضاً أختاره بعد الركوع.
قال أبي: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قنت في الوتر بعد الركوع، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء" (1) .
وقال ابن أبي شيبة (ت235هـ) رحمه الله بعد روايته عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال عبد الله: لا يقنت السنة كلها في الفجر ويقنت في الوتر كل ليلة قبل الركوع". قال أبوبكر: "هذا القول عندنا" (2) .
قال محمد بن نصر المروزي (ت294هـ) رحمه الله: "سئل أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال: القنوت بعد الركوع ويرقع يديه، وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة. ...
وكان إسحاق يختار القنوت بعد الركوع في الوتر.
__________
(1) مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص9192، المسألة رقم (323) .
(2) المصنف لابن أبي شيبة (2/305-306) . والأثر حسن لغيره. سبق تخريجه.(12/361)
قال محمد بن نصر: وهذا الرأي أختاره" (1) .
والمقصود: أن القنوت في الوتر يشرع بعد القراءة قبل الركوع في الركعة الأخيرة، ويشرع بعد الركوع فيها، والأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع، لثبوت النص به عنه صلى الله عليه وسلم، وثبوت ذلك عن جمهور الصحابة، والله اعلم.
المسألة الثالثة: هل يكبر بعد القراءة للقنوت قبل الركوع؟
الذي ورد في قنوت الوتر عن الصحابة جميعه لا يصح، وهو ما جاء عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: "انه كان يفتتح القنوت بالتكبير" (2) .
وما جاء عن ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: "أن عبد الله بن مسعود كان إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت فإذا فرغ من القنوت كبر ثم ركع" (3) .
لكن ثبت عن بعض التابعين في قنوت الوتر:
عن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: "إذا أردت أن تقنت فكبر للقنوت وكبر إذا أردت أن تركع".
وفي رواية عنه: "إذا فرغت من القراءة فكبر ثم إذا فرغت فكبر واركع" (4) .
عن شعبة قال: "سمعت الحكم وحماداً وأبا إسحاق يقولون: في قنوت الوتر إذا فرغ كبر ثم قنت" (5) .
__________
(1) مختصر قيام الليل ص134. قلت: والقياس في أحكام القنوت على صلاة الغداة، يؤيده أن ما جاز فعله في صلاة الفرض جاز في صلاة النفل، فإذا تذكرنا أن الدليل قائم على مشروعية القنوت في الصلوات الخمس، ومنها المغرب، وهي وتر النهار، فأشبه شيء هي بوتر الليل، وقنت الرسول في صلاة المغرب، فأحكام القنوت في وتر النهار هي أشبه شيء بأحكام القنوت في وتر الليل، والعكس صحيح. وليلاحظ أن هذا ليس بقياس مجرد، إذ معه من فعل الصحابة ما له حكم الرفع.
(2) إسناده ضعيف. سبق تخريجه.
(3) حسن لغيره، بدون ذكر التكبير بعد القراءة للقنوت. سبق تخريجه.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/307) بسند صحيح.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (2/307) بسند صحيح.(12/362)
وعن سفيان قال: كانوا يستحبون إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة من الوتر أن يكبر ثم يقنت (1) .
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة" (2) .
قلت: نعم ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3) ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن البراء رضي الله عنه (4) ، في قنوت النازلة في صلاة الفجر.
وعليه فإنه يُشرع في قنوت الوتر إذا فرغ من القراءة وأراد القنوت قبل الركوع أن يكبر قبل القنوت وبعده. وهذه من السنن المهجورة اليوم إلا ما رحم ربي.
المسألة الرابعة: هل ترفع الأيدي في دعاء القنوت؟
يشرع في دعاء القنوت رفع اليدين، وإرسالهما، ورفعهما في أوله وإرسالهما في آخره.
هذا هو ما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ فكل ذلك جائز.
عن ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: "كان عبد الله يقرأ في آخر ركعة من الوتر (قل هو الله أحد (، ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة".
وفي رواية عن عبد الله: "أنه كان يرفع يديه في قنوت الوتر". وعند البيهقي: "كان ابن مسعود يرفع يديه في القنوت إلى ثدييه" (5) .
عن الزهري عن حماد عن إبراهيم: "أن ابن مسعود كان يرفع يديه في الوتر ثم يرسلهما بعد" (6) .
فإن قيل: جاء عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ" (7) ؛ وهذا دليل على أنه لا يشرع رفع اليدين في غير دعاء الاستسقاء.
__________
(1) مختصر قيام الليل ص136.
(2) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص101.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (2/315) بإسناد صحيح.
(4) انظر ما جاء عن علي بن أبي طالب والبراء رضي الله عنهما في قنوت الوتر.
(5) حسن لغيره. سبق تخريجه.
(6) إسناده صحيح. سبق تخريجه.
(7) حديث صحيح. سبق تخريجه.(12/363)
فالجواب: ليس مراد أنس رضي الله عنه نفي رفع اليدين في الدعاء مطلقاً، إنما مراده أنه لم يرفع يديه في الدعاء على الصفة التي رآه عليها في غير دعاء الاستسقاء فقد رفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.
ويدل على هذا أنه صح عن أنس رضي الله عنه، ذكر رفع الرسول صلى الله عليه وسلم، في دعاء قنوت النازلة؛
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: "حَدَّثَنَا هَاشِمٌ وَعَفَّانُ الْمَعْنَى قَالَا حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَكَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ أَهْلِهِ فَقَالَ: اشْهَدُوا يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ.
قَالَ ثَابِتٌ: فَكَأَنِّي كَرِهْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ لَوْ سَمَّيْتَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ.(12/364)
قَالَ: وَمَا بَأْسُ ذَلِكَ أَنْ أَقُلْ لَكُمْ قُرَّاءُ أَفَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ إِخْوَانِكُمْ الَّذِينَ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرَّاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ فَكَانُوا إِذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ انْطَلَقُوا إِلَى مُعَلِّمٍ لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَيَدْرُسُونَ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحُوا فَإِذَا أَصْبَحُوا فَمَنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ اسْتَعْذَبَ مِنْ الْمَاءِ وَأَصَابَ مِنْ الْحَطَبِ وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ سَعَةٌ اجْتَمَعُوا فَاشْتَرَوْا الشَّاةَ وَأَصْلَحُوهَا فَيُصْبِحُ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِحُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُصِيبَ خُبَيْبٌ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَفِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ فَقَالَ حَرَامٌ لِأَمِيرِهِمْ دَعْنِي فَلْأُخْبِرْ هَؤُلَاءِ أَنَّا لَسْنَا إِيَّاهُمْ نُرِيدُ حَتَّى يُخْلُوا وَجْهَنَا وَقَالَ عَفَّانُ فَيُخْلُونَ وَجْهَنَا فَقَالَ لَهُمْ حَرَامٌ إِنَّا لَسْنَا إِيَّاكُمْ نُرِيدُ فَخَلُّوا وَجْهَنَا فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِالرُّمْحِ فَأَنْفَذَهُ مِنْهُ فَلَمَّا وَجَدَ الرُّمْحَ فِي جَوْفِهِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ فَانْطَوَوْا عَلَيْهِمْ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ وَجْدَهُ عَلَيْهِمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَبُو طَلْحَةَ يَقُولُ لِي هَلْ لَكَ فِي قَاتِلِ حَرَامٍ قَالَ قُلْتُ لَهُ مَا لَهُ(12/365)
فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ قَالَ مَهْلًا فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ" وَقَالَ عَفَّانُ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وقَالَ أَبُو النَّضْرِ رَفَعَ يَدَيْهِ" (1) .
فقوله في هذا الحديث: "فَقَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ وَجْدَهُ عَلَيْهِمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ"؛ دليل على مشروعية رفع اليدين في دعاء القنوت للنازلة.
وهذا فيه بيان أن مراد أنس في الحديث الذي نفى فيه رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء إنما مراده صفة رفع اليدين التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فقد رفعها حتى يُرى بياض إبطيه، وليس مراده رضي الله عنه نفي أصل رفع اليدين في الدعاء، لأنه رواه كما ترى في قنوت النازلة، وثبت عن غيره كذلك، حتى عُدّت أحاديث رفع اليدين في الدعاء من المتواتر المعنوي (2) .
فإن قيل: فقد جاء عن معمر وابن جريج عن الزهري قال: "لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان" (3) ، وهذا دليل أن الصحابة لم يكونوا يرفعون أيديهم في الدعاء لقنوت الوتر.
__________
(1) حديث صحيح.
... أخرجه أحمد في المسند (3/137) (الرسالة 19/393، تحت رقم 12402) ، وعبد بن حميد في المتتخب (3/137، تحت رقم 1274) ، والطبراني في المعجم الصغير (الروض الداني 1/324، تحت رقم 536، اسم شيخ الطبراني علي بن صقر السكري) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3/349) ، وفي السنن الكبرى (2/211) مختصراً.
... والحديث قال الألباني في الإرواء (2/181) : "ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وصحح اسناده محققو مسند أحمد.
... فائدة: قال الألباني في الإرواء (2/181) : "ثبت مثله عن عمر وغيره في قنوت الوتر"اهـ يعني رفع اليدين.
(2) ذكر ذلك في نظم المتناثر ص113.
(3) إسناده صحيح. سبق تخريجه.(12/366)
فالجواب: بل في هذا الأثر بدلالة مفهوم المخالفة أنهم كانوا يرفعون أيديهم في قنوت الوتر في غير رمضان. والذي يظهر في معنى هذا الأثر بالنظر إلى جميع ما ورد في المسألة، أن يقال: إن مراد الزهري بيان أنهم لم يكونوا يرفعون أيديهم في دعاء قنوت الوتر جميعه، بل كانوا يرفعونها في أوله ثم يرسلونها، كما ورد عن ابن مسعود، أو أن مراده أنهم ماكانوا يرفعون أيديهم في أوّل دعاء القنوت إنما كانوا يرفعونها في آخره، كما هو اختيار عبد الرزاق الصنعاني، فقد قيل له: أترفع يديك إذا دعوت في الوتر؟ قال: نعم في آخره قليلا" (1) ، أو فيه أنهم رضي الله عنهم كانوا أحياناً يرفعونها في قنوت الوتر وأحياناً لا يرفعونها، وترك الرفع في دعاء القنوت كان يحصل منهم في قنوت الوتر في رمضان.
عن مغيرة عن إبراهيم قال: "ارفع يديك للقنوت" (2) .
وقال الوليد: أخبرني عامر بن شبل الجرمي قال: رأيت أبا قلابة يرفع يديه في قنوته (3) .
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي عن رفع اليدين في قنوت الوتر؟ فقال: لا ترفع يديك وإن شئت فأشر بإصبعك.
قال: ورأيته يقنت في شهر رمضان ولا يرفع يديه ويشير بإصبعه" (4) .
وعن سفيان قال: "كانوا يستحبون أن تقرأ في الثالثة من الوتر قل هو الله أحد، ثم تكبر وترفع يديك ثم تقنت" (5) .
وكان عبد الله بن المبارك يقنت بعد الركوع في الوتر وكان يرفع يديه (6) .
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله: "سألت أبي عن الرجل إذا أراد أن يوتر في الصلاة يرفع يديه؟ فقال: إذا قنت الرجل يرفع يديه حذو صدره، ورفع يديه في قنوته في الوتر" (7) .
__________
(1) المصنف (3/123، تحت رقم 5003) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/307) ، بإسناد صحيح عنه.
(3) السنن الكبرى للبيهقي (3/41) .
(4) مختصر قيام الليل ص140.
(5) مختصر قيام الليل ص140.
(6) السنن الكبرى للبيهقي (2/212) .
(7) مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص90، المسألة رقم (319) .(12/367)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن القنوت ترفع يديك؟ قال: نعم" (1) .
وقال عبد الله: سألت أبي عن رفع اليدين في القنوت؟ قال: لا بأس به، رواه ليث عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أن ابن مسعود كان يرفع يديه في القنوت" (2) .
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن رفع اليدين في الوتر في رمضان؟ فقال: إنما أرفع يدي في الوتر وأنا أقنت في النصف الأخير من رمضان. وإن قنت الرجل الشهر كله لم أر به بأساً، وإن قنت رجل السنة لم أر به بأساً في الوتر، وإن قنت في الفجر إذا دعا دعا على الكفرة ويدعو للمسلمين لم أر به بأساً" (3) .
وقال عبد الله قال أبي: "مذهبي في القنوت في شهر رمضان أن يقنت في النصف الأخير، وإن قنت في السنة كلها فلا بأس، وإذا كان إمام يقنت قنت خلفه" (4) .
وقال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يصلي خلف من يقنت؟ قال: لا بأس بالصلاة خلفه إذا كان يقنت على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على المشركين إلا أن يكون رافضياً فلا يصلي خلفه.
قال: قلت لأبي: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبابكر وعمر" (5) .
وقال أبوداود رحمه الله: "سمعت أحمد سئل يرفع يديه في القنوت؟ قال: نعم يعجبني، ورأيت أحمد يرفع يديه في القنوت وكنت أكون خلفه أليه، فكنت أسمع نغمته في القنوت فلم أسمع شيئاً.
وقال أبوداود: سمعت أحمد سألته عن الرفع في القنوت؟ قلت: هكذا أو هكذا؟ فبسطت يدي ووجهت بأطراف الأصابع إلى القبلة، وجعلت مرة بعضها إلى بعض، فلم نقف منه على حد، وكان يقنت إمامه بعد الركوع" (6) .
__________
(1) مسائل عبد الله بن أحمد بن حنبل ص91، المسألة رقم (322) .
(2) مسائل عبد الله لأبيه ص95، المسألة رقم (332) .
(3) مسائل عبد الله لأبيه ص9899، المسألة رقم (347) .
(4) مسائل عبد الله لأبيه ص99، المسألة رقم (348) .
(5) مسائل عبد الله لأبيه ص99، المسألة رقم (349) .
(6) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص96.(12/368)
قال البيهقي رحمه الله: "والحديث في الدعاء جمله إلا أن عددا من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم"اهـ (1) .
والحاصل: أنه يشرع رفع اليدين في دعاء قنوت الوتر، ويشرع إرسالهما فيه وخاصة في دعاء القنوت في النصف من رمضان، ويشرع رفعها في أوّله وإرسالها في آخره. ويكون موضع اليدين حذو الثديين، ولا يبالغ في رفعهما عن هذا الموضع.
تنبيه: لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، لعدم ثبوت ذلك.
سئل مالك رحمه الله، عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء؛ فأنكر ذلك، وقال: ما علمت.
عن علي الباشاني قال: سألت عبد الله يعني بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه؟ قال:لم أجد له ثبتا قال علي: ولم أره يفعل ذلك" (2) .
وسئل عبد الله رحمه الله عن الرجل يبسط يديه فيدعو ثم يمسح بهما وجهه، فقال: كره ذلك سفيان (3) .
قال أبوداود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيده إذا فرغ في الوتر؟ قال: لم أسمع به، وقال مرّة: لم اسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله" (4) .
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله: "سئل أبي وأنا أسمع عن رفع الأيدي في القنوت يمسح بها وجهه؟ قال: الحسن يروى عنه أنه كان يمسح بها وجهه في دعا" (5) .
وقال عبد الله بعد أن سأل أباه عن رفع اليدين في القنوت، فقال له: لا بأس به: قلت لأبي: يمسح بهما وجهه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس.
قال راوية المسائل عن عبد الله: قال لنا أبوعبد الرحمن: لم أر أبي يمسح بهما وجهه" (6) .
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى (2/211) .
(2) سنن البيهقي الكبرى (2/212) .
(3) مختصر قيام الليل ص152.
(4) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص102.
(5) مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص91، المسألة رقم (322) .
(6) مسائل عبد الله لأبيه ص95، المسألة رقم (332) .(12/369)
قال البيهقي رحمه الله: "وروينا رفع اليدين في قنوت الوتر عن ابن مسعود وأبي هريرة فأما مسح اليدين الوجه بعد الفراغ من دعاء القنوت فإنه من المحدثات"اهـ (1) .
قال البيهقي رحمه الله: "فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة.
وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق"اهـ (2) .
المسألة الخامسة: هل يُشرع الجهر بالقنوت وتأمين المأموم على دعاء الإمام في القنوت؟
ظاهر الأحاديث والآثار أن المشروع الجهر بالقنوت في الصلاة جماعة في النصف من رمضان، وكذا سائر العام إذ لا فرق والله اعلم.
ولم يأت في الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الوتر ما يدل على مشروعية قول المأموم آمين، عند دعاء الإمام بالقنوت؛ لكن ورد ذكر تأمين المأموم على تأمين الإمام في قنوت النازلة.
عن ابن سيرين قال: "كان أبي يقوم للناس على عهد عمر في رمضان فإذا كان النصف جهر بالقنوت بعد الركعة فإذا تمت عشرون ليلة انصرف إلى أهله وقام للناس أبو حليمة معاذ القارئ وجهر بالقنوت في العشر الأواخر حتى كانوا مما يسمعونه يقول: اللهم قحط المطر فيقولون آمين فيقول: ما أسرع ما تقولون آمين دعوني حتى أدعو" (3) .
__________
(1) السنن الصغرى للبيهقي (1/172) .
(2) سنن البيهقي الكبرى (2/212) .
(3) إسناده ضعيف. سبق تخريجه.(12/370)
عن عروة بن الزبير: "أن عبد الرحمن بن عبد القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم عمر على ذلك وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هي والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل. فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.
قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد ان عذابك لمن عاديت ملحق.
ثم يكبر ويهوى ساجدا" (1) .
قلت: فهذا ظاهر في أنهم كانوا يجهرون في قنوت الوتر، في النصف من رمضان. وهل يختص هذا فقط في قنوت النصف من رمضان في جماعة هو الذي يشرع الجهر فيه، وفي غير النصف إذا قنت المسلم لا يجهر؟ الذي يظهر أن المقصود أن في النصف من رمضان يجهرون بالقنوت في كل ليلة، أمّا في القنوت في غير النصف فلا يلزمون الجهر بالقنوت في كل ليلة.
__________
(1) صحيح. سبق تخريجه.(12/371)
ويدل على مشروعية الجهر بالقنوت في غير رمضان والتأمين على دعاء الإمام فيه، ما جاء في قنوت النازلة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ" (1) .
فهذا الحديث نص في القنوت للنازلة، ولمّا كان قنوت النازلة يشرع في الصلوات الخمس، ومنها المغرب، التي هي وتر النهار، فإذا شرع في قنوت النازلة الجهر من الإمام والتأمين من المأموم، وذلك في صلاة الفرض، فمثله القنوت في صلاة الوتر (2) ، ولأن ما جاز في الفرض جاز في النفل، فكذا يشرع في قنوت الوتر، الذي هو وتر صلاة الليل: أن يجهر الإمام بالدعاء ويؤمن المأموم على دعاء الإمام.
عن الأوزاعي رحمه الله: "ليس في القنوت رفع، ويكره رفع الصوت في الدعاء" (3) .
عن مالك رحمه الله: "يقنت في النصف من رمضان يعني الإمام ويلعن الكفرة ويؤمن من خلفه" (4) .
__________
(1) حديث حسن.
... أخرجه أحمد في المسند (1/301) ، (الرسالة 4/475، تحت رقم 2746) ، وأبوداود في كتاب الصلاة باب القنوت في الصلوات، حديث رقم (1443) ، واللفظ له، وابن خزيمة تحت رقم (618) ، والحاكم في المستدرك (1/225) ، والبيهقي في الكبرى (2/200) .
... والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وحسّن إسناده محقق زاد المعاد (1/273) ، والألباني في الإرواء (2/163) ، وصحح إسناده محققو مسند أحمد.
(2) انظر ما تقدّم في المسألة الثالثة حول ثبوت أحكام قنوت النازلة على أحكام قنوت الوتر.
(3) مختصر قيام الليل ص150.
(4) مختصر قيام الليل ص150. وهذه الرواية الثانية عن مالك رحمه الله وهي خارج المدونة.(12/372)
قال أبوداود رحمه الله: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن القنوت؟ فقال: الذي يعجبنا: أن يقنت الإمام ويؤمن من خلفه. قيل لأحمد: قال: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك" يقول من خلفه: آمين؟ قال: يؤمن في موضع التأمين" (1) . وقال أبوداود: "قلت لأحمد: إذا لم أسمع قنوت الإمام أدعو؟ قال: نعم" (2) .
وقال إسحاق بن راهوية رحمه الله: "يدعو الإمام ويؤمن من خلفه.
قال محمد بن نصر: وهذا الذي أختار، أن يسكتوا حتى يفرغ الإمام من قراءة السورتين، ثم إذا بلغ بعد ذلك مواضع الدعاء أمّنوا" (3) .
المسألة السادسة: هل دعاء القنوت توقيفي؟
الظاهر من الأدلة أنه ليس في دعاء قنوت الوتر توقيف، فيجوز أن يدعو فيه المسلم بما شاء، وأفضل ذلك ما ورد؛ فمن ذلك ما جاء عن الْحَسَنُِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ (وفي رواية: فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ) : اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" (4) .
__________
(1) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص96.
(2) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص102.
(3) مختصر قيام الليل ص150. ويقصد بالسورتين: سورتي أبي، عن الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم: "كان يستحب أن يقول في قنوت الوتر بهاتين السورتين: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/121، تحت رقم 4997) ، بسند صحيح.
(4) حديث صحيح. سبق تخريجه.(12/373)
وما جاء عن عطاء: "أنه سمع عبيد بن عمير يأثر عن عمر بن الخطاب في القنوت [في الوتر] أنه كان يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسملين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكفار ملحق" (1) .
وما ورد عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس: "أنه كان يقول في قنوت الوتر: لك الحمد ملأ السماوات السبع وملأ الأرَضين السبع وملأ ما بينهما من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (2) .
وما ورد عن عروة بن الزبير: "أن عبد الرحمن بن عبد القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم عمر على ذلك وأمر أُبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان فخرج عمر عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هي والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل. فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة في النصف:
__________
(1) إسناده صحيح. سبق تخريجه.
(2) إسناده صحيح. سبق تخريجه.(12/374)
اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.
قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد ان عذابك لمن عاديت ملحق.
ثم يكبر ويهوى ساجدا" (1) .
وما ورد عن معمر عن عمرو عن الحسن يقول: القنوت في الوتر والصبح:
اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب الكفرة والمشركين وألق في قلوبهم الرعب وخالف بين كلمتهم وأنزل عليهم رجزك وعذابك اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات اللهم أصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وتوفهم على ملة رسولك وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم.
فكان يقول هذا ثم يخر ساجدا وكان لا يزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بعض من يسأله يقول: يا أبا سعيد أيزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والتسبيح والتكبير؟ فيقول: لا أنهاكم ولكني سمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون على هذا شيئا ويغضب إذا أرادوه على الزيادة (2) .
__________
(1) صحيح. سبق تخريجه.
(2) حسن لغيره. سبق تخريجه.(12/375)
عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن قال: "علمنا ابن مسعود أن نقرأ في القنوت: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجوا رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق" (1) .
عن الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم: "كان يستحب أن يقول في قنوت الوتر بهاتين السورتين: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق" (2) .
فهذا هو ما ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستحب قوله في قنوت الوتر، فإن زاد عليه جاز، إذ الظاهر من النصوص ذلك، كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله: "ليس في قنوت الوتر شيء مؤقت، إنما هو دعاء واستغفار" (3) .
قيل لأحمد بن حنبل: تختار من القنوت شيء؟ قال: كل ما جاء فيه الحديث لا بأس به" (4) .
المسألة السابعة: هل يُشرع التطويل في قنوت الوتر؟
الذي يظهر من النصوص أنه لا يشرع تطويل القنوت؛ إذ الوارد ليس فيه تطويل:
فمرّة جاء أنه يدعو ب "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ".
__________
(1) السند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن الدعاء حسن لغيره. سبق تخريجه.
(2) إسناده صحيح.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/121، تحت رقم 4997) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (2/301) . بسند صحيح عنه..
(4) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص101.(12/376)
ومرّة جاء أنه يدعو ب "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسملين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكفار ملحق".
ومرّة جاء أنه يدعو ب "لك الحمد ملأ السماوات السبع وملأ الأرَضين السبع وملأ ما بينهما من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد".
ومرّة جاء أنه يدعو ب "اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.
اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد ان عذابك لمن عاديت ملحق".(12/377)
ومرّة جاء أنه يدعو ب "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب الكفرة والمشركين وألق في قلوبهم الرعب وخالف بين كلمتهم وأنزل عليهم رجزك وعذابك اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات اللهم أصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وتوفهم على ملة رسولك وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم"
ومرّة جاء أنه يدعو ب "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجوا رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق".
بل لو جمعت الدعاء الذي ورد أنه يقال في قنوت الوتر، وضممت بعضه على بعض، تجده لا يزيد عن قدر سورة الأعلى، وذلك بعد حذف المكرر؛ تجده على هذا القدر:
"اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ".
"لك الحمد ملأ السماوات السبع وملأ الأرَضين السبع وملأ ما بينهما من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.(12/378)
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسملين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكفار ملحق".
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
هذا مجمل ماورد بحذف المكرر في اللفظ والمعنى، وكما ترى ليس بالدعاء الطويل، فلو لاحظت أنه لم يرد أنه دعي بمجموع هذا الدعاء في قنوت واحد، كما سبق تقريره، تأكدت من أن القنوت في الوتر لا يشرع المداومة على تطويله.
عن إبراهيم قال: "يقام في قنوت الوتر قدر (إذا السماء انشقت (" (1) .
فإن أطال لسبب عارض أو أحياناً الظاهر جوازه:
عن إبراهيم النخعي قال: "دخلت على الأسود ذات ليلة وهو مريض فصلى الوتر ورجل مسند إليه قال فقنت فأطال القنوت حتى ظننت أنه قد زاد على ما كان يصنع [مخافة أن يقصر عما كان يقنت] " (2) .
وقد سُئل أبو عثمان النهدي عن قنوت عمر بن الخطاب في الفجر فقال: "كان يقنت بقدر ما يقرؤ الرجل مائة آية" (3) .
وقد "سُئل أحمد بن حنبل عن قول إبراهيم في القنوت قدر (إذا السماء أنشقت (قال: هذا قليل يعجبني أن يزيد" (4) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/122، تحت رقم 5001) ، وابن أبي شيبة في المصنف (2/308) ، بسند صحيح.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/122، تحت رقم 5001) ، وابن أبي شيبة في المصنف (2/307) ، بسند صحيح. والأسود هو ابن يزيد النخعي من كبار التابعين الثقات.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/308) بسند صحيح.
(4) مسائل أبي داود ص96.(12/379)
وقد كان الحسن البصري يقول في قنوته بعضاً من هذا الدعاء الوارد، وهو: " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب الكفرة والمشركين وألق في قلوبهم الرعب وخالف بين كلمتهم وأنزل عليهم رجزك وعذابك اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات اللهم أصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وتوفهم على ملة رسولك وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم"
فكان يقول هذا ثم يخر ساجدا وكان لا يزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بعض من يسأله يقول: يا أبا سعيد أيزيد على هذا شيئا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والتسبيح والتكبير؟ فيقول: لا أنهاكم ولكني سمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون على هذا شيئا ويغضب إذا أرادوه على الزيادة" (1) .
فالحسن البصري رحمه الله، ما كان ينهى عن الزيادة، لكن كان يحرض على الاتباع، ويكره الحدث، حتى إنه كان لا يزيد الصلاة والدعاء والتسبيح والتكبير لأنه لم يسمع الصحابة يزيدون.
وهذا من الحسن بحسب علمه، وإلا فقد ثبت عن الصحابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، وهي المسألة التالية.
المسألة الثامنة: هل يصلى على النبي عليه الصلاة والسلام في دعاء القنوت؟
ثبتت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر.
__________
(1) حسن لغيره. سبق تخريجه.(12/380)
عن عروة بن الزبير: "أن عبد الرحمن بن عبد القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ ... وفيه: قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنه الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد ان عذابك لمن عاديت ملحق. ثم يكبر ويهوى ساجدا" (1) .
فثبتت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، في قنوت الوتر بفعل الصحابة رضوان الله عليهم.
المسألة التاسعة: ما الحكم إذا سها عن قنوت الوتر؟
عن الحسن البصري رحمه الله: "إذا نسي القنوت في الفجر فعليه سجدتا السهو" (2) .
عن شريك عن ابن أبي ليى قال: سئل عن رجل سها فقنت فقال: هذا سهى فأصاب" (3) .
عن ابن جريج عن عطاء قال: "من رأى القنوت فلم يقنت فعليه سجدتا السهو" (4) .
قال أبوداود رحمه الله: "سمعت أحمد سئل عن رجل نسي القنوت؟ قال: إن كان ممن تعوّد القنوت فليسجد سجدتي السهو"
وقال أبوداود: "سمعت أحمد قال: سألت ابن علية عن الرجل ينسى القنوت في الوتر؟ فقال: لاشيء عليه.
قال أحمد: وسألت هشيماً قال: يسجد سجدتي السهو" (5) .
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "قرأت على أبي، قلت: من ترك القنوت ساهياً؟ قال يسجد إذا كان ممن يقنت." (6) .
__________
(1) صحيح. سبق تخريجه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/318) ، في السند هشيم ثقة كثير التدليس والإرسال، وقد عنعن.
(3) المصنف ابن أبي شيبة (2/318) . وإسناده حسن.
(4) المصنف لابن أبي شيبة (2/318) ، في السند ابن جريج ثقة يدلس ويرسل، وقد عنعن.
(5) مسائل أبي داود لأحمد بن حنبل ص102
(6) مسائل عبد الله لأبيه أحمد بن حنبل ص94، المسألة رقم (330) .(12/381)
قلت: حكم المسألة هو هذا فمن أراد أن يقنت أو كان الغالب على صلاته الوتر أن يقنت فنسي القنوت سجد للسهو استحباباً، والله اعلم.
* * *
خاتمة:
خلصت هذه الرسالة إلى نتائج مهمة وهي التالية:
1 أن قول من قال من الأئمة: لم يصح في قنوت الوتر قبل الركوع أو بعده شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكذا قول ابن عبد البر رحمه الله: "لا يصح عن النبي عليه السلام في القنوت في الوتر حديث مسند"اهـ (1)
__________
(1) 173) الاستذكار (2/77) .
المصادر والمراجع
القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
الآثار / لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت182هـ) / تحقيق: أبوالوفاء/ عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية/ حيدر آباد الدكن/ الهند/ صورة عن دار الكتب العربية/ بيروت.
الآحاد والمثاني / لابن أبي عاصم (ت287هـ) / تحقيق: فيصل الجوابرة/ دار الراية/ الطبعة الأولى 1411هـ.
اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة/ لأحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت840هـ) / تحقيق: أبي عبد الرحمن عادل بن سعد، وأبي إسحاق السيد بن محمود بن إسماعيل/مكتبة الرشد/ الرياض/ الطبعة الأولى 1419هـ.
الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما/ لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت643هـ) / تحقيق د. عبد الملك بن دهيش/ يطلب من مكتبة النهضة بمكة/ الطبعة الأولى 1410هـ.
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان / لعلاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت739هـ) / تحقيق شعيب الأرنؤوط/ مؤسسة الرسالة/ الطبعة الأولى 1412هـ
اختلاف الحديث / لمحمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) / ومعه اختلاف مالك والشافعي/ وكتب أخرى للشافعي/ وفي آخره مختصر المزني/ وذلك ضمن مجموع كتاب الأم / تصحيح محمد زهري النجار/ دار المعرفة/ بيروت.
اختلاف مالك والشافعي = اختلاف الحديث.
الاختيار لتعليل المختار/ عبد الله بن محمود الموصلي (ت683هـ) / تعليق محمود أبودقيقة/ دار المعرفة.
الأربعين حديثاً (الأربعين من أربعين عن أربعين) / لصدر الدين أبي علي الحسن بن محمد البكري (ت656هـ) / تحقيق وتعليق: محمد محفوظ/ دار الغرب الإسلامي/ 1400هـ
الإرشاد في معرفة علماء الحديث/ لأبي يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (ت446هـ) / تحقيق د. محمد سعيد بن عمر إدريس/ مكتبة الرشد/ الرياض/ الطبعة الأولى 1409هـ.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1399هـ.
الإشراف على نكت مسائل الخلاف/ لأبي محمد عبد الوهاب بن علي البغدادي المالكي (ت422هـ) / قارن بين نسخه وخرّج أحاديثه وقدّم له: الحبيب بن طاهر/ دار ابن حزم/ بيروت/ الطبعة الأولى 1420هـ.
الأوسط = الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف.
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف/ لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت318هـ) / تحقيق الدكتور: أبوحماد صغير أحمد بن محمد حنيف/ دار طيبة/ الطبعة الأولى 1405هـ.
تاريخ بغداد / لأبي بكر أحمد البغدادي (الخطيب البغدادي) (ت463هـ) / دار الكتب العلمية.
تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل / لولي الدين أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين أبي زرعة العراقي/ ضبط نصه وعلّق عليه: عبد الله نوّاره/ مراجعة مكتب السنة للبحث لعلمي/ مكتبة الرشد/ الرياض/ الطبعة الأولى 1419هـ
تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية/ لنور الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) / وأتمه الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) / تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل/ دار الكتب العلمية/ الطبعة الأولى 1420هـ.
تقريب التهذيب / لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) / تحقيق أبو الأشبال صغير أحمد شاغف/ دار العاصمة/ الرياض/ النشرة الأولى 1416هـ.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير / لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، المطبعة العربية باكستان، المكتبة الأثرية باكستان.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد / لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري (ت463هـ) / تحقيق سعيد أحمد اعراب/ توزيع مكتبة الأوس/ المدينة المنورة.
تهذيب التهذيب / لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) / طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف بحيدر أباد - الدكن/ الطبعة الأولى - نشر دار صادر.
تهذيب الكمال/ لأبي الحجاج يوسف المزي (ت742هـ) / قدم له عبد العزيز رباح، وزميله/ صورة المخطوطة/ دار المأمون للتراث.
التوحيد ومعرفة أسماء الله عزوجل وصفاته على الاتفاق والتفرد/ لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحي بن مندة (ت395هـ) / حققه وعلق عليه وخرّج أحاديث: الدكتور: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي/ مطابع الجامعة الإسلامية/ الطبعة الأولى.
الثقات / لمحمد بن حبان (ت354هـ) / مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية/ حيدر آباد الدكن/ الطبعة الأولى.
الجامع الصحيح/ لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي/ مع شرحه فتح الباري/ المطبعة السلفية.
الجامع الصحيح/ لمسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ) / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي/ دار إحياء التراث.
الجرح والتعديل/ لعبد الرحمن بن محمد إدريس الرازي (ت327هـ) / تحقيق عبد الرحمن بن يحي المعلمي/ (وتقدمة الجرح والتعديل في أول الكتاب) / مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية/ حيدر آباد الدكن/ الهند 1271هـ.
جزء رفع اليدين / لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) / ومعه جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء رفع اليدين/ لأبي محمد بديع السندي الراشدي السندهي/ إدارة العلوم الأثرية/ فيصل آباد/ باكستان/ الطبعة الأولى 1403هـ.
جلاء العينين = جزء رفع اليدين.
الجوهر النقي/ لابن التركماني/ مطبوع في ذيل السنن الكبرى للبيهقي = السنن الكبرى.
الحاوي (شرح مختصر المزني) ، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (ت450هـ) ، تحقيق علي محمد معوّض وزميله، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1414هـ.
حلية الأولياء/ لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (ت430هـ) / دار الكتب العلمية/ دار الفكر.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية/ لابن حجر العسقلاني (ت852هـ) / صححه وعلّق عليه عبد الله هاشم اليماني/ توزيع عباس الباز/ دار المعرفة.
الدعاء / سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) ، تحقيق محمد سعيد بخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ.
دلائل النبوة / لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت854هـ) ، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 5041هـ.
الذرية الطاهرة النبوية/ لأبي بشر محمد بن أحمد الدولابي (ت310هـ) / حققه وخرّج أحاديثه سعد المبارك الحسن/ الدار السلفية/ الكويت/ الطبعة الأولى 1401هـ.
الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني/ لمحمد شكور محمد الحاج امرير/ المكتب الإسلامي، بيروت، دار عمّار، الطبعة الأولى 1405هـ.
زاد المعاد في هدي خير العباد/ لابن قيم الجوزية (ت751هـ/ تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط/ مؤسسة الرسالة/ مكتبة المنار/ الطبعة السابعة 1405هـ.
زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة/ للدكتور خلدون الأحدب/ دجار القلم/ دمشق/ الطبعة الأولى 1417هـ.
السنة، لأبي بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد، (ابن ابن أبي عاصم) (ت287هـ) ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة، بقلم محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1400هـ. (تنبيه) : ينسب ابن أبن أبي عاصم إلى جده غالباً فيقال: (ابن أبي عاصم) ، وسقط من الاسم على غلاف المطبوعة (أحمد) فجاء الكتاب منسوباً إلى عمرو بن الضحاك، وسبب هذا سقوط اسم (أحمد) وهو على الصواب داخل الكتاب، وفي سند النسخة. ومما يؤكد وقوع خطأ مطبعي ذكر كنية أحمد (أبي بكر) وتاريخ وفاته على الغلاف، فهو مجرد خطأ مطبعي، لا أكثر، وانظر ترجمة أحمد بن عمر بن الضحاك بن مخلد في طبقات الحفاظ ص285.
سنن الدارقطني / لعلي بن عمر الدارقطني (ت385هـ) / وبذيله "التعليق المغني" للآبادي/ عني بتصحيحه وتنسيقه وترقيمه وتحقيقه عبد الله هاشم يماني المدني (ت 1386هـ) / دارالمحاسن للطباعة/ القاهرة.
سنن أبي داود/ لسليمان بن الأشعث السجستاني أبوداود (ت275هـ) / إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس/ دار الحديث الطبعة الأولى 1388هـ.
سنن البيهقي = السنن الكبير (الكبرى)
سنن الترمذي/ لمحمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ) / تحقيق أحمد شاكر ج1/2 ومحمد فؤاد عبد الباقي ج3وإبراهيم عطوة ج4/ 5 وفي آخره العلل الصغير للترمذي أيضاً/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
سنن الدارمي / لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي (ت255هـ) / تحقيق: حسين سليم أسد الداراني/ دار المغني/ الرياض/ الطبعة الأولى 1421هـ.
السنن الكبرى / لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) / تحقيق د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن/ دار الكتب العلمية/ الطبعة 1411هـ.
السنن الكبير (الكبرى) / لأحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) / وفي ذيله "الجوهر النقي"/ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية/ الهند 1344هـ.
سنن النسائي/ لأحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) / وبهامشه زهر الربى على المجتبى/ لحلال الدين السيوطي (ت911هـ) / وحاشية السندي لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندي (ت1138هـ) / دار إحياء التراث. كما رجعت إلى سنن النسائي طبع دار المعرفة/ بتحقيق وترقيم مكتب تحقيق التراث الإسلامي/ الطبعة الثالثة 1414هـ/ وعند العزو إليها بذكر رقم الحديث.
سير أعلام النبلاء، لشمس الدين أحمد بن محمد بن عثمان قيماز الذهبي، (ت748هـ) ، أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1402هـ
شرح معاني الآثار/ لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (ت321هـ) / حققه وضبطه ونسقه وصححه محمد زهري النجار/ دار الكتب العلمية/ الطبعة الأولى 1399هـ.
شرح اصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم / لأبي القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري اللالكائي (ت418هـ) / تحقيق الدكتور: أحمد سعد حمدان/ نشر دار طيبة/ الرياض/ الطبعة الثانية 1411هـ.
شرح الزركشي على مختصر الخرقي في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل/ لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت772هـ) / تحقيق وتخريج عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين/ بدون معلومات نشر.
صحيح ابن حبان = الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان.
صحيح ابن خزيمة/ لمحمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311هـ) / حققه وعلق عليه وخرّج أحاديثه وقدّم له الدكتور محمد مصطفى الأعظمي/ المكتب الإسلامي/ 1390.
صحيح البخاري = الجامع الصحيح للبخاري
صحيح مسلم = الجامع الصحيح لمسلم
صلاة التراويح / لمحمد ناصر الدين الألباني/ المكتب الإسلامي.
الضعفاء والمتروكين / لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي (ت597هـ) / حققه أبوالفداء القاضي/ دار الكتب العلمية/ الطبعة الأولى 1406هـ.
ظلال الجنة = السنة لابن أبي عاصم.
غريب الحديث / لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ) / صنع فهارسه نعيم زرزور/ دار الكتب العلمية/ الطبعة الأولى 1408هـ.
غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود / لأبي إسحاق الحويني/ دار الكتاب العربي/ الطبعة الأولى 8041هـ.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري/ لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) / تحقيق عبد العزيز بن باز إلى كتاب الجنائز (ج1-3) / ترتيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي/ المكتبة السلفية.
فتح القدير على بداية المبتدي / لكمال الدين محمد ابن الهمام (ت186هـ) / ومعه شرح العناية على الهداية للبابرتي/ وحاشية سعدي جلبي/ ويليه تكملة فتح القدير المسماة» نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار «لقاضي زاده/ دار الفكر/ الطبعة الثانية 7931هـ.
فضائل القرآن / لأبي عبد الرحمن النسائي (ت303هـ) / تحقيق سمير الخولي/ مؤسسة الكتب الثقافية/ الطبعة الأولى 1405هـ.
الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر، الطبعة الثالثة 1409هـ
الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات/ لأبي البركات محمد بن أحمد المعروف بابن الكيال (ت939هـ) / تحقيق ودراسة د. عبد القيوم عبد الرب النبي/ المكتبة الإمدادية/ الطبعة الثانية 1420هـ.
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب/ لأبي محمد علي بن زكريا المنبجي (ت686هـ) / تحقيق الدكتور: محمد فضل عبد العزيز المراد/ دار الشروق الطبعة الأولى 1403هـ.
المتروكين = الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي
مجمع البحرين في زوائد المعجمين/ لنور الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) / تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل/ دار الكتب العلمية/ الطبعة الأولى 1419هـ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / لعلي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) / دار الكتاب العربي/ الطبعة الثالثة 1402هـ.
مختصر الخلافيات للبيهقي/ لأحمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الشافعي (ت699هـ) / تحقيق الدكتورذياب عبد الكريم العقل، وإبراهيم صالح الخضيري/ مكتبة الرشد/ الرياض/ شركة الرياض/ الطبعة الأولى 1417هـ.
مختصر كتاب الوتر/ لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي/ لأحمد بن علي المقريزي (ت845هـ) / خرّج أحاديثه: إبراهيم محمد العلي ومحمد عبد الله أبوصعيليك/ مكتبة الدار/ الطبعة الأولى 1413هـ.
مختصر قيام الليل = مختصر كتاب الوتر
مسائل ابن هانئ = مسائل أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ
مسائل أبي داود = مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية أبي داود.
مسائل عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل = مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله.
مسائل أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ/ تحقيق زهير الشاويش/ المكتب الإسلامي/ الطبعة الأولى 1400هـ.
مسائل أحمد بن حنبل / رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل / تحقيق زهير الشاويش - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى 1041هـ.
مسائل الإمام أحمد / لأبي داود السجستاني (ت 275هـ) ، تحقيق أبي معاذ طارق بن عوض الله محمد/ نشر مكتبة ابن تيمية/ الطبعة الأولى 1420هـ.
المستدرك على الصحيحين/ لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ) / ومعه مختصر المستدرك للذهبي بالهامش/ نشر دار الكتاب العربي/ بيروت. ورجعت إلى طبعة أخرى للمستدرك معه تلخيص المستدرك وزوائد المستدرك على الكتب الستة، والاستدراك على المستدرك، والمدخل لمعرفة المستدرك/ صنعه أبي عبد الله عبد السلام بن محمد بن عمر علوش/ دار المعرفة/ بيروت/ الطبعة الأولى 1418هـ، وتتميز الإحالة إلى هذه الطبعة بذكر رقم الحديث، مع الجزء والصفحة.
المسند/ لأبي يعلى الموصلي (ت307هـ) / تحقيق حسين أسد/ دار المأمون للتراث/ الطبعة الأولى 1404هـ
مسند أحمد بن حنبل/ لأحمد بن محمد بن حنبل (ت241هـ) / الطبعة الميمنية/ وبهامشه المنتخب من كنز العمال/ المكتب الإسلامي/ بيروت/ الطبعة الثانية 1398هـ. وإذا رجعت إلى الطبعة التي أصدرتها دار الرسالة بتحقيق جماعة أشرف على التحقيق: شعيب الأرنؤوط/ الإشراف العام للدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي/ الطبعة الأولى 1413هـ أنبه على ذلك بقولي: (الرسالة مع ذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث) .
مسند أبي داود الطيالسي/ لسليمان بن داود بن الجارود الطيالسي (ت204هـ) / دار المعرفة/ بيروت.
مسند البزار / لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار (ت292هـ) / تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله/ مؤسسة علوم القرآن / مكتبة علوم القرآن/ بيروت/ المدينة/ الطبعة الأولى 1409هـ.
مسند الدارمي = سنن الدارمي.
المعجم الأوسط / لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) / قسم التحقيق بدار الحرمين/ أبومعاذ طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني/ منشورات دار الحرمين بالقاهرة/ 1415هـ
المعجم الصغير = الروض الداني.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذيل بالإملاء / لعبد الغني الدقر/ دار القلم/ دمشق/ الطبعة الأولى 1406هـ
معجم مقاييس البلاغة بين الأدباء والعلماء/ للدكتور حامد صالح خلف الربيعي/ مطبوعات معهد البحوث العلمية وإحياء التراث/ سلسلة بحوث اللغة العربية/ 1416هـ.
معجم مقاييس اللغة / تأليف أبي الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ) ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، إسماعيليان نجفي، إيران.
المغني في الضعفاء/ لشمس الدين الذهبي (ت748هـ) / حققه نور الدين عتر.
مقدمة تحقيق توضيح المشتبه لابن ناصر الين محمد بن عبد الله القيسي (ت842هـ) / لمحمد نعيم العقسوسي/ مؤسسة الرسالة/ الطبعة الثانية 1414هـ.
الموسوعة الفقهية / وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/ الكويت/ مطبعة الموسوعة الفقهية/ الطبعة الأولى 1404هـ.
موطأ مالك / لمالك بن أنس الأصبحي (ت179هـ) / رواية يحي بن يحي الليثي/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار إحياء التراث العربي 1406هـ.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال/ لأحمد بن محمد عثمان قايماز الذهبي (748هـ) / تحقيق على محمد البجاوي/ دار المعرفة/ بيروت/ الطبعة الأولى 1382هـ.
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية / جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت762هـ) / مع حاشيته "بغية الألمعي"/ نشر المكتبة الإسلامية/ الطبعة الثانية 1393هـ.
نظم المتناثر من الحديث المتواتر / لأبي الفيض جعفر الحسني/ طبع بالمطبعة المولوية بفاس العليا المحمية سنة 1382هـ
نيل المآرب بشرح دليل الطالب/ لعبد القادر بن عمر التغلبي (ت1135هـ) / حققه وخرّج أحاديثه إبراهيم أحمد عبد الحميد الأثري/ مكتبة الفيصلية/ مكة.(12/382)
؛ فيه نظر، وأنه غير مسلم. فقد ثبت في قنوت الوتر مسنداً حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وحديث أُبي بن كعب رضي الله عنه، والله أعلم. كما ثبت عن الصحابة كعمر بن الخطاب، وابن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهم، ومثله لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، إذ المقام مقام عبادة، والأصل فيها التوقيف، فلولا أن لديهم توقيف في ذلك ما فعلوه.
2 أن قنوت الوتر يشرع طوال العام، وأن السُّنة فعله أحياناً وتركه أحياناً بدليل ماورد من الاختلاف في مشروعيته طوال العام، مما يدل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتركه أحياناً. ويتأكد المداومة عليه في النصف الأخير من رمضان، من ليلة السادس عشرة، ويشرع ترك القنوت في النصف الأول من رمضان إذا صُلِّي بالناس، وهذا من السنن المهجورة، بل والمجهولة. فإن قنت في أوّله وآخره جاز.
3 أن قنوت الوتر يجوز قبل الركوع وبعده، والأفضل فيه قبل الركوع.
4 أن من السنن المهجورة في هذا العصر قنوت الوتر أن يكبر للقنوت وأن يكبر بعده، إذا قنت قبل الركوع.
5 أن من السُّنة أن يجهر الإمام في قنوت الوتر وأن يؤمن من خلفه.
6 أن السُّنة في دعاء القنوت أن لا يكون طويلاً، ولو اقتصر على قدر الوارد فهو أفضل. ولو أطال أحياناً بقدر ما ورد؛ جاز.
7 أن دعاء القنوت ليس فيه شيء مؤقت، فهو يجوز بأي صيغة، والأفضل الاقتصار على الوارد.
8 أن من السُّنة للإمام إذا صلى بالناس جماعة الوتر في رمضان أن لا يقنت في النصف الأول من رمضان، وأن يقنت في النصف الأخير منه، ويدعو على الكفرة.
9 يشرع رفع اليدين في دعاء قنوت الوتر، ويشرع إرسالهما، ويشرع رفعهما في أوله وإرسالهما في آخره، كل ذلك جائز.
10 لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء.
11 يشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء قنوت الوتر.
12 يسجد للسهو من كان من عادته القنوت في الوتر فسهى عنه، أمّا من لم يكن من عادته القنوت أو تعمد تركه فلا سهو عليه.(12/383)
13 أن ابن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، من أكثر الصحابة الذين نقلت عنهم أحكام قنوت الوتر.
14 أن من أشبه الصلوات بصلاة الوتر صلاة المغرب؛ إذ المغرب وتر النهار، فما ثبت في القنوت فيها للنازلة يثبت للقنوت في الوتر، ويؤكد هذا أن ما ثبت في الفريضة ثبت مثله في النافلة إلا لدليل.
15 أن أغلب أحكام قنوت الوتر ثابتة بفعل الصحابة رضوان الله عليهم، والمقام مما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، إذ مثل ذلك لا يكون بالرأي، فله حكم الرفع، واختلافهم في هذا من باب اختلاف التنوع ما أمكن الجمع، والله الموفق.
هذا ما تيسر لي جمعه وتخريجه، في هذا الموضوع، أسأل الله بأن له الحمد لا إله إلا هو الحنان المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، أسأله العفو والعافية، وأن يتقبل جميع عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله داعياً إلى سنة نبيه الكريم محمد عليه أفضلا الصلوات وأزكي التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وسبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(12/384)
التوبة وشروطها
د. سليمان بن إبراهيم بن عبد الله اللاحم
الأستاذ المشارك بكلية الشريعة وأصول الدين،
فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فقد تضمن هذا البحث بيان فضل الله عز وجل على العباد في إيجابه سبحانه التوبة على نفسه تكرماً منه عز وجل وامتناناً، وأهمية التوبة، ووجوب المبادرة بها حال الحياة قبل الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة. والتحذير من الاستمرار على المعصية والتسويف بالتوبة وتأخيرها، لأن ذلك قد يكون من أسباب عدم التوبة أو عدم قبولها.
وذكر شروط التوبة وأنها تصح من كل ذنب إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها، وتتلخص شروطها: بالإخلاص لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على ألا يعود إليها، وأن تكون في وقتها قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
المقدمة:
الحمد لله الجواد الكريم البر الرؤوف الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(12/385)
فإن الله عز وجل خلق الإنسان وفطره على الإيمان ومنحه من السمع والبصر والعقل ما ميزه عن سائر الحيوان، ولم يجعله معصوماً عن الزلل والخطأ والعصيان، بل ابتلاه بما قد يوقعه في المخالفة والعصيان؛ من النفس الأمارة بالسوء والهوى ومكائد الشيطان، لهذا فتح له باب التوبة لتمحيص الذنوب والآثام، فقال عز وجل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ( [الزمر: 53، 54] ، وقال عز وجل: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ( [طه: 82] ، يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار (1) ، يوفق عبده للتوبة، ويقبلها منه كما قال عز وجل في سورة التوبة: (ثم تاب عليهم ليتوبوا ( [التوبة: 118] ، أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا، وقال عز وجل: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ( [الشورى: 25] .
ويفرح عز وجل بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح رجل ضلت عنه راحلته التي عليها طعامه وشرابه، فلما أيس منها نام تحت شجرة ينتظر الموت فبينما هو كذلك إذا هي واقفة بين يديه ولجامها في يده (2) .
بل إنه عز وجل وهو الخالق الملك المدبر المنعم المتفضل الذي لا يجب عليه شيء لخلقه أوجب على نفسه التوبة تفضلاً منه وكرماً وامتناناً، فقال عز وجل في سورة النساء: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ( [النساء: 17] .
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() سيأتي تخريجه في الحاشية رقم (86) .
(2) سيأتي تخريجه في الحاشية رقم (63) .(12/386)
وإذا صدق العبد ربه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه تاب عليه، بل وبدل سيئاته حسنات كما قال عز وجل: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ( [الفرقان: 70] ، فلله الحمد والمنة على فضله وكرمه ولطفه ورحمته وجميل عفوه.
وسأتناول في هذا البحث: الكلام عن التوبة وشروطها، وممن تقبل؟ ومتى؟ وذلك من خلال الكلام على قوله تعالى في سورة النساء: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيما (إلى قوله: (أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (.
وسأتكلم أولاً عن تفسير هتين الآيتين وبيان مفرداتهما ومعناهما، ثم أتبع ذلك باستنباط ما فيهما من الفوائد والأحكام مع تفصيل القول في ذلك.
والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
قال الله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً (.
صلة الآية بما قبلها:
لما بين الله عز وجل في الآية السابقة أنه يقبل التوبة ممن تاب وأناب إليه في قوله: (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً (ذكر في هذه الآية من تقبل منهم التوبة وهم الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب (كقوله تعالى: (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( [النحل: 119] . وكقوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( [الأنعام: 54] .(12/387)
قوله: (إنما التوبة على الله (إنما أداة حصر (1) . ويقال لها: كافة ومكفوفة.
لأن "ما" دخلت على "إنَّ" التي تنصب الاسم وترفع الخبر، فكفتها عن العمل، ف "ما" كافة، و"إنّ" مكفوفة.
(التوبة) :مبتدأ مرفوع.
(على الله) "على" حرف جر، ولفظ الجلالة مجرور، متعلق بمحذوف خبر، تقديره: مستحقة على الله أو واجبة على الله.
(للذين) : متعلق بما تعلق به "على الله" (2) ويحتمل أن يكون هو الخبر.
والتوبة من الله تنقسم إلى قسمين:
توفيقه لعبده أن يتوب.
كما قال تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا ( [التوبة: 118] ، أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا (3) .
والثاني قبولها منه، كما قال تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ( [الشورى: 25] ، وقال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ( [طه: 82] ، ويجمعهما قوله تعالى: (وأنا التواب الرحيم ( [البقرة: 160] .
وهي من العبد: الرجوع والإنابة إلى الله عز وجل، والإخلاص له مع الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة إليها، وأن تكون في وقتها المناسب (4) .
ومعنى (على الله) أي: التزم بها عز وجل وأوجبها على نفسه (5) ، تفضلاً منه ورحمة، ومنَّةً منه وكرماً (6) .
كما قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( [الأنعام: 54] .
وقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيءٍ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( [الأعراف: 156] .
__________
(1) انظر "المحرر الوجيز" 4/51. والحصر هو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
(2) انظر: "البحر المحيط" 3/198.
(3) انظر: "مدارج السالكين" 1/349 350.
(4) انظر: "مدارج السالكين" 1/342 343.
(5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/91، "بدائع الفوائد" 2/161 162.
(6) انظر "التفسير الكبير" 10/6.(12/388)
وقال سبحانه في الحديث القدسي: "إن رحمتي تغلب غضبي" وفي رواية «سبقت غضبي» (1) .
قوله (يعملون السوء) صلة الموصول "الذين" أي: يعملون العمل السيء القبيح الذي يسوء صاحبه، وربما يسوء غيره إذا كان مما يتعدى إلى الغير.
قال تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً ( [الإسراء: 7] .
والمعنى: يعملون الأعمال السيئة من ترك الواجبات، وفعل المحظورات فهو عام لجميع المعاصي (2) ، لأن المعاصي كلها تسوء مرتكبها وتسوء غيره.
تسوء مرتكبها عاجلاً بظهور آثارها عليه في حياته ظلمة في الوجه وضيقاً في الصدر والخلق والرزق (3) .
فيفقد من السعادة، في الحياة بقدر ما عمل من السوء. قال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ( [الأنعام: 125] .
وقال تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ( [الزمر: 22] .
وتسوؤه آجلاً بعد مماته بمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه.
وهي أيضاً تسوء غيره إما بتعديها إلى الغير مباشرة كالإساءة إليهم بالأذية لهم في دينهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم أو غير ذلك.
وإما بتأثيرها على حياتهم بما تسببه هذه الأعمال السيئة من محق البركات وقلة الخيرات، قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ( [الروم: 41] .
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد 7404، ومسلم في التوبة 2751، والترمذي في الدعوات 3543، وابن ماجه في المقدمة 189، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/92.
(3) وبضد ذلك الطاعة فهي نور في الوجه وسعة في الصدر والخلق والرزق.(12/389)
وفي الحديث: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» (1) .
وإنما أفرد السوء والله أعلم إشارة إلى أن الأولى بالتوفيق للتوبة وقبولها من لم يكثر من الأعمال السيئة.
قوله (بجهالة) جار ومجرور، متعلق بمحذوف وقع حالاً (2) ، أي: حال كونهم جاهلين.
فهو قيد لقوله (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء (، أي: لمن يعملون ذلك بجهالة. والباء في قوله (بجهالة) للمصاحبة أو للسببية، أي: مصحوبين بالجهالة، أو بسبب الجهالة (3) .
ومعنى "بجهالة" بسفاهة (4) ، ثم يرشدون، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث (5) ، أي: أن إيمانه يضعف عند ارتكابه لهذه الفاحشة، فكذا من عمل أي معصية، فإنه في حال ارتكابه المعصية يرتفع أو يضعف عنده الرشد ويصير سفيهاً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الفتن 4019 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وحسنه الألباني. انظر: «الأحاديث الصحيحة» 106، «صحيح سنن ابن ماجه» 3246.
(2) انظر: «الكشاف» 1/256 257» ، «مدارك التنزيل» 1/301، «البحر المحيط» 3/197، «الدر المصون» 2/332.
(3) انظر: «البحر المحيط» 3/197.
(4) انظر: «المحرر الوجيز» 4/53، «الكشاف» 1/257، «التسهيل لعلوم التنزيل» ص134، «تفسير المنار» 4/440 442.
(5) أخرجه البخاري في المظالم والغصب 2475، ومسلم في الإيمان 57، وأبوداود في السنة 4689، والنسائي في قطع السارق 4870، والترمذي في الإيمان 2625،وابن ماجه في الفتن 3936، والدارمي في الأشربة 2106 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/390)
ولهذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن كل ذنب عُصِيَ الله به فهو جهالة، عمداً كان أوجهلاً (1) .
وقال الطبري (2) : «عملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها» يقال: أتاه بجهالة: أي فعل فعل الجهال» . وكما قيل:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا (3)
وليس المراد بالجهالة الجهل ضد العلم، لأن من يعمل السوء وهو جاهل، غير عالم، غير مؤاخذ، ولا ذنب له، بل هو معذور، قال الله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( [البقرة: 286] . وفي صحيح مسلم: «قال الله: قد فعلت» (4) .
وأما الذي يجب عليه التوبة فهو من عمل السوء عالماً.
قال ابن عطية (5) : «وليس المعنى أن تكون الجهالة أن ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعاً» .
__________
(1) انظر «جامع البيان» 8/98 90، «النكت والعيون» 1/372، «المحرر الوجيز» 4/53، «الجامع لأحكام القرآن» 5/92، «دقائق التفسير» 2/387، «شفاء العليل» 171 172، «بدائع التفسير» 2/11 12، «البحر المحيط» 3/197، «تفسير ابن كثير» 2/205 206.
(2) في «جامع البيان» 8/91.
(3) البيت لعمرو بن كلثوم وهو في ديونه ص91 جمع وتحقيق إميل يعقوب طبعة دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الأولى 1991م.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان 126، والترمذي في التفسير 2992 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) في «المحرر الوجيز» 4/53، وانظر «تيسير الكريم الرحمن» 2/39.
... وهناك أقوال أخرى قيلت في معنى «بجهالة» فقيل هي العمد، وقيل في الدنيا، وقيل عن غير علم، وقيل بجهل بكنه العقوبة، وقيل غير ذلك، والصحيح القول الأول، انظر: «جامع البيان» 8/90 91، «النكت والعيون» 1/372، «المحرر الوجيز» 4/53، «الجامع لأحكام القرآن» 5/92.(12/391)
قوله: (ثم يتوبون (أي: ثم بعد رشدهم وزوال السفه عنهم يتوبون، أي: يرجعون إلى الله وينيبون إليه بترك العمل السيء مع الندم على فعله والعزم على عدم العودة إليه والإخلاص لله تعالى.
قوله: (من قريب) «من» تبعيضية، أي: في وقتٍ وحالٍ تقبل فيهما التوبة. وذلك قبل حضور الموت ومعاينة علاماته من حضور الملائكة وغلبة المرء على نفسه، وبلوغ الروح الحلقوم (1) ، لقوله تعالى بعد هذه الآية: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ( [النساء: 18] (2) ، لأنه لابد أن تكون التوبة في حالٍ يعقل فيها المرء معنى التوبة، ويصح منه الندم على فعل السوء والعزم على عدم العودة إليه (3) .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (4) .
__________
(1) انظر: «جامع البيان» 8/96 97، «المحرر الوجيز» 4/54، «الجامع لأحكام القرآن» 5/92، «مدارج السالكين» 1/317 320، «بدائع التفسير» 2/12 13، «التفسير الكبير» 10/5، «البحر المحيط» 3/199.
(2) انظر: «جامع البيان» 8/93 95، «تفسير ابن كثير» 2/206.
(3) انظر: «جامع البيان» 8/96 98، «الجامع لأحكام القرآن» 5/92.
(4) أخرجه من حديث ابن عمر الترمذي في الدعوات 3537،وابن ماجه في الزهد 4253، وأحمد 2/132، وابن حبان في «موارد الظمآن» 2449، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/249، وصححه أحمد شاكر في المسند 6160، والألباني في «صحيح الجامع الصغير» 1/386، «مشكاة المصابيح» الحديث 2343.
... وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي هريرة فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» 2/207.
... ومعنى: «ما لم يغرغر» ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. وانظر: «الجامع لأحكام القرآن» 5/92.(12/392)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. قال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» (1) .
وقوله «من قريب» فيه إشارة إلى أن الأجل آت، وكل آت قريب، وتنبيه على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة (2) .
وقد أحسن محمود الوراق في قوله:
قدم لنفسك توبة مرجوة ... قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ... ذخر وغنم للمنيب المحسن (3)
ويدخل تحت الآية أيضاً قول من قال: (ثم يتوبون من قريب (، أي: عن قرب عهد بالمعصية من غير إصرار عليها (4) ، لأن من استمر على المعصية وأصر عليها قد تعسر عليه التوبة، وقد لا يوفق لأسبابها، وقد تحول ذنوبه ومعاصيه بينه وبين التوبة، كما قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( [المطففين: 14] ، وقال تعالى: (فلما زاغوا أزاع الله قلوبهم ( [الصف: 5] ، وقال تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ( [الأنعام: 110] .
وإذا كانت التوبة تقبل قبل حضور الموت ولو بزمن قليل فقبولها قبل ذلك من باب أولى (5) .
قوله تعالى: (فأولئك يتوب الله عليهم (الفاء عاطفة.
أولئك: إشارة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.
__________
(1) أخرجه أحمد 3/29، وأبو يعلى 2/458، والحاكم في «المستدرك» 4/290 حديث 7672، وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة رقم 104.
(2) انظر: «التفسير الكبير» 10/5.
(3) انظر «ديوانه» ص152، «الجامع لأحكام القرآن» 5/92.
(4) وتكون «من» في قوله «من قريب» ، لابتداء الغاية، أي تكون التوبة من زمان قريب من المعصية. انظر: «التفسير الكبير» 10/5، «البحر المحيط» 3/198.
(5) انظر: «البحر المحيط» 3/198، «تفسير المنار» 4/440 441.(12/393)
وأشار إليهم بإشارة البعيد: «أولئك» إشارة إلى علو منزلتهم بالتوبة. و «أولئك» مبتدأ، وخبره جملة «يتوب الله عليهم» .
وهذه الجملة توكيد لما قبلها، فقد حصر سبحانه التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، والتزم بذلك لهم، ثم أكده بقوله (فأولئك يتوب الله عليهم (فهذا وعد من الله بأن يفي لهم، ويقبلها منهم بعد أن وفقهم إليها (1) .
قوله تعالى: (وكان الله عليماً حكيماً (.
كان: مسلوبة الزمن، تفيد تحقيق اتصاف اسمها بخبرها، أي: أنه سبحانه متصف بالعلم والحكمة أزلاً وأبداً.
عليماً: خبر كان منصوب، وهو اسم من أسماء الله تعالى على وزن «فعيل» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وهو مشتق من العلم وهو إدراك الأشياء على ما هي عليه إدراكاً جازماً.
أي: أنه عز وجل ذو علم تام، كامل، كما قال كليمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عندما سئل عن القرون الأولى: (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( [طه: 52] .
فنفى عن ربه الضلال وهو الجهل السابق، والنسيان وهو الضلال اللاحق.
وعلمه عز وجل علم واسع شامل للأشياء كلها في أطوارها الثلاثة قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم.
كما قال تعالى: (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ( [الطلاق: 12] .
وقال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولايابس إلا في كتاب مبين ( [الأنعام: 59] .
وقال تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( [يونس: 61] لا يعتري علمه شك ولا ظن، بل هو علم يقين.
__________
(1) انظر: «جامع البيان» 8/98، «التفسير الكبير» 10/6.(12/394)
حكيماً: خبر ثان لكان. وهو اسم من أسماء الله، مشتق من الحكم والحكمة، على وزن «فعيل» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، يدل على أنه عز وجل ذو الحكم التام وذو الحكمة التامة البالغة (1) .
له الحكم بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني القدري والحكم الشرعي، والحكم الجزائي. وله الحكمة بقسميها: الحكمة الغائية والحكمة الصورية (2) .
وقد ختم الله هذه الآية بقوله: (إن الله كان عليماً حكيماً (.
بعد أن ذكر أنه التزم بقبول التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، ليبين أن توبته على هؤلاء عن علم وحكمة، فهو عز وجل أعلم بمن يستحق التوبة ممن توفرت فيهم شروطها ممن لا يستحقها.
وهو سبحانه يوفق للتوبة برحمته من اقتضت حكمته توفيقه لها، ويخذل بعدله من اقتضت حكمته عدم توفيقه، فهو سبحانه حكيم يضع الأمور مواضعها (3) .
قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (.
صلة الآية بما قبلها:
حصر الله عز وجل في الآية السابقة التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، ومفهوم هذه الآية أن من عداهم ممن يستمرون على عمل السيئات حتى حضور الموت ليس لهم توبة، وقد صرح بهذا المفهوم في الآية الثانية توكيداً لذلك، فقال تعالى: (وليست التوبة للذين يعلمون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (.
أي: لما بين من تقبل منهم التوبة أتبع ذلك ببيان من لا تقبل منهم التوبة (4) .
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات (.
__________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 14/180.
(2) انظر: «شرح ابن عيسى للنونية» لابن القيم 2/226، وكتابنا «تفسير آيات الأحكام في سورة النساء» 1/275 279.
(3) انظر: «جامع البيان» 8/98.
(4) انظر: «التفسير الكبير» 10/6.(12/395)
الواو: عاطفة.
و «ليس» نافية، وهي فعل ماض ناقص جامد.
«التوبة» اسم ليس مرفوع بها.
قوله (للذين) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ليس.
«يعملون السيئات» : الجملة صلة الموصول.
والسيئات: جمع سيئة، ويحتمل أن يراد بها جنس السيئات، أي: يعملون جنس السيئات، ويحتمل أن يراد به الجمع نفسه، أي: جمع السيئات، وجمعت إشارة إلى أن كثرتها وتراكمها سبب لعدم التوبة. والأول أولى وأظهر وأشمل، والثاني هو ظاهر اللفظ. وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا وهذا، فالعموم أولى (1) .
قوله تعالى: (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن (.
«حتى» : لابتداء الغاية، وما بعدها غاية لما قبلها.
«إذا» ظرفية شرطية.
«حضر» فعل الشرط، وجوابه (قال إني تبت الآن) .
«والموت» : هو خروج الروح عن البدن ومفارقتها له، الذي كتبه الله على جميع الخلق، قال تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( [الرحمن: 26، 27] ، وقال تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون ( [الزمر: 30] ، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد عش ما شئت فإن ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه» (2) .
ومعنى حضور الموت: أي: حضور أسبابه وعلاماته من رؤية الملائكة وغلبة المرء على نفسه وبلوغ الروح الحلقوم (3) .
__________
(1) انظر «تفسير المنار» 4/448.
(2) أخرجه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الحاكم في «المستدرك» 4/360 حديث 7921، وأبونعيم في «الحلية» 3/253، والبيهقي في «شعب الإيمان» 7/349 حديث 10541. وأخرجه البيهقي أيضاً في «الشعب» 7/348 حديث 10540 من حديث جابر رضي الله عنه. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في «الحلية» 3/202 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» حديث 89، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» حديث 73، وفي «الأحاديث الصحيحة» حديث 829.
(3) انظر: «جامع البيان» 8/98، «شرح صحيح مسلم» 1/164، «مدارك التنزيل «1/302، «تفسير ابن كثير» 2/208.(12/396)
قوله (قال إني تبت الآن) .
أي: قال في هذه الحال حال حضور الموت واليأس من الحياة: إني تبت الآن. فهؤلاء لا تنفعهم التوبة في هذه الحال (1) ، لأن توبتهم توبة اضطرار لا اختيار، كما قال تعالى عن فرعون: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ( [يونس: 90، 91] .
وقال تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ((2) [غافر: 84، 85] ، وقال تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ( [المؤمنون: 99، 100] .
قال الحافظ ابن كثير (3) : «فأما متى وقع الإياس من الحياة وعاين الملك، وحشرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم (4) فلا توبة متقبلة حينئذ ولات حين مناص ... كما قال تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده (الآيتين. وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها، كما قال تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً (] الأنعام:158 [. قوله تعالى: (ولا الذين يموتون وهم كفار (الواو حرف عطفو «لا» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة من حيث المعنى.
__________
(1) انظر: «جامع البيان» 8/98، «الجامع لأحكام القرآن» 5/93.
(2) انظر: «التفسير الكبير» 10/6 7، «مدارج السالكين» 1/317 320.
(3) في «تفسيره» 2/208.
(4) الغلاصم: جمع غلصمة وهي رأس الحلقوم والموضع الناتئ في الحلق، وقيل: اللحم بين الرأس والعنق. انظر: «لسان العرب» مادة «غلصم» .(12/397)
«الذين» اسم موصول معطوف على اسم الموصول الذي قبله في قوله: (للذين يعملون (أي: وليست التوبة أيضاً للذين يموتون وهم كفار، أي: تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم مازالوا على الكفر (1) . وفي عطف هؤلاء على من تيئيس لمن يحضرهم الموت وهم يعملون السيئات من قبول التوبة، فكما لا تقبل التوبة ممن يموتون على الكفر لا تقبل ممن يحضرهم الموت وهم يعملون السيئات.
والكفر في الأصل: الستر، ومنه يقال للزارع كافر؛ لأنه يستر البذر في الأرض، قال تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته ( [الحديد: 20] ، أي: الزرّاع.
وهو نوعان: كفر أكبر مخرج من الملة موجب للخلود في النار، وكفر أصغر لا يخرج من الملة وهو موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» (2) .
والكفر الأكبر خمسة أنواع: كفر تكذيب وجحود، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق (3) .
والمراد بالتوبة بالنسبة للذين يموتون وهم كفار: ندمهم بعد الموت وتقطع قلوبهم حسرات على تفريطهم أيام الحياة، لأن من مات انقطع عمله، فلا توبة تقبل منه ولا عمل، لأن دار العمل هي الدنيا. أما الآخرة فهي دار الجزاء. قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ( [محمد:34] .
__________
(1) وقيل: المراد الذين يحضرهم الموت وهم كفار فلا تقبل توبتهم في هذه الحال عند حضور الموت، والظاهر أن هؤلاء يدخلون تحت قوله: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن (أما قوله: (ولا الذين يموتون وهم كفار (فالمراد بهم الذين يموتون على الكفر. انظر: «المحرر الوجيز» 4/57، «الجامع لأحكام القرآن» 5/93.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان 67.
(3) انظر: «مدارج السالكين» 1/376 379.(12/398)
قال ابن عطية (1) : «والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما ندمه على سالف كفره» .
وقال ابن كثير (2) : «يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه، لا ينفعه ندمه وتوبته، ولا يقبل منه فدية، ولو بملء الأرض» .
قال تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( [الأنعام: 27، 28] .
وقال تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( [الزمر، 56 58] .
قوله تعالى: (أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (الإشارة للذين يموتون وهم كفار (3) ، لأن عذابهم محقق، أما من مات على ما دون الكفر من المعاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وغفر له.
قوله (أعتدنا لهم) أي: أعددنا وهيأنا وجهزنا لهم، ومنه العتاد (4) ، وهو ما يعد للضيف، وما يعده المسافر لسفره، ومنه العتيد قال تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( [ق:23] ، أي: حاضر.
وقد عبر عز وجل عن نفسه بضمير العظمة «نا» ، لأنه سبحانه هو العظيم ذو العظمة التامة.
قوله: (عذاباً أليماً) :
أليماً: «فعيلاً» بمعنى: «مفعلاً» أي: مؤلماً موجعاً غاية الإيلام والإيجاع (5) حسيًّا، ومعنويًّا.
الفوائد والأحكام:
__________
(1) انظر: «المحرر الوجيز» 4/52، 57.
(2) في «تفسيره» 2/208.
(3) انظر: «جامع البيان» 8/102، «التفسير الكبير» 10/8 9، «الجامع لأحكام القرآن» 5/93، «البحر المحيط» 3/202.
(4) انظر: «مجاز القرآن» 1/120، «جامع البيان» 8/103.
(5) انظر: «جامع البيان» 8/103، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج 2/28، «الجامع لأحكام القرآن» 5/93، «تفسير ابن كثير» 2/208.(12/399)
1 فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، وامتنانه عليهم في إيجابه التوبة على نفسه، والتزامه بها لهم لقوله: (إنما التوبة على الله (، فهو سبحانه الذي منّ بالتوبة على من شاء من عباده، وهو الذي قبلها منهم.
2 أن لله عز وجل أن يوجب على نفسه ما شاء، وهذا من كماله عز وجل لقوله تعالى: (إنما التوبة على الله (، كما قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( [الأنعام: 54] .
وقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( [الأعراف: 156] ، وقال تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ( [الشورى: 25] ، وقال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب ( [طه: 82] ، وقال تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ( [الروم: 47] .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» قلت الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد ألا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير 2856، ومسلم في الإيمان 30، والترمذي في الإيمان 2643، وابن ماجه في الزهد 4296، وانظر «التوسل والوسيلة» ص55.(12/400)
فهو سبحانه الذي مَنّ على من شاء من عباده، فوفقهم للعمل، ومنَّ عليهم بقبوله منهم وإثابتهم عليه، ولهذا يسمي سبحانه جزاء الأعمال وثوابها «أجراً» (1) ، كما يسمي سبحانه الصدقة «قرضاً» (2) ، تفضلاً منه وامتناناً وإحساناً، وأنه سبحانه ألزم نفسه بالثواب لمن عمل صالحاً، ولقد أحسن القائل (3) :
ما للعباد عليه حق واجب ... ... كلا ولا عمل لديه ضائع
إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا ... ... فبفضله وهو الكريم الواسع
وأحسن من هذا قول ابن القيم في «النونية» (4) مضمناً مقاله هذين البيتين، ومبيناً أنه لا واجب على الله للعباد إلا ما أوجبه على نفسه بفضله ومنه، وأنه لا يضيع لديه عمل اشتمل على الإخلاص لله والإحسان في المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (5) . قال:
ما للعباد عليه حق واجب ... ... هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه ضائع ... ... إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... ... فبفضله والفضل للمنان
كما أن له عز وجل أن يحرِّم على نفسه ما شاء، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (6) .
فله عز وجل إن يوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء. كما قال سبحانه وتعالى: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ( [الأنبياء: 23] .
__________
(1) كقوله تعالى: (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (سورة آل عمران، الآية: (179) ، والآيات في هذا كثيرة جداً.
(2) كقوله تعالى: (إن المصدّقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً (سورة الحديد الآية (18) والآيات في هذا كثيرة.
(3) انظر: «الوابل الصيب» ص138، «شرح الطحاوية» 1/296.
(4) ص149 150.
(5) كما قال تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن (سورة النساء الآية (125) .
(6) أخرجه مسلم في البر والصلة 2577، والترمذي في صفة القيامة 2495، وابن ماجه في الزهد 4257 من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(12/401)
وليس للعباد أن يوجبوا عليه شيئاً، كما تقول المعتزلة ومن سلك مسلكهم في أن قبول التوبة واجب على الله بطريق العقل، ويرون أن الأعمال عوض عن دخول الجنة، وأن من عمل صالحاً وجب على الله أن يدخله الجنة بطريق العقل (1) .
والصحيح عند أهل السنة أن العمل الصالح إنما هو سبب لدخول الجنة، ودخولها إنها هو برحمة الله، الذي كتب على نفسه الرحمة شرعاً وسمعاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (2) .
وكيف يجب على الله واجبات لخلقه بطريق العقل، علماً بأنه ينبغي أن يكون الموجِب فوق الموجَب عليه، والله جل وعلا فوق الجميع وربهم وخالقهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً (3) .
__________
(1) انظر: «التفسير الكبير» 10/3، «التوسل والوسيلة» ص 54 55.
(2) أخرجه البخاري في المرضى 5673، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار 2816، وابن ماجه في الزهد 4201 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر: «التوسل والوسيلة» ص54 57.
(3) انظر: «المحرر الوجيز» 4/52 54، «الجامع لأحكام القرآن» 5/91.(12/402)
3 الترغيب في التوبة، لأن الله أوجبها على نفسه، ويحب من اتصف بها، كما قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( [البقرة: 222] ، وهي واجبة على جميع العباد، قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( [النور: 31] (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم مائة مرة» (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالته إذا وجدها بعد أن أيس منها وعليها طعامه وشرابه» (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) «كل مؤمن لابد له من التوبة، ولا يكمل أحد إلا بها» وقال أيضاً (5) : «وليست التوبة نقصاً بل هي من أفضل الكمالات والله قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم» . وقد قيل: «رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً» (6) .
4 أن كل عامل للسوء فإنما يعمله بجهالة وسفه وعدم رشد، وأن كل ذنب عُصِيَ الله به فهو جهالة، سواء كان فاعله عالماً أو جاهلاً، ذاكراً أو ناسياً، متعمداً أو مخطئاً، مختاراً أو مكرهاً، لقوله: (للذين يعملون السوء بجهالة (.
__________
(1) انظر: «المحرر الوجيز» 4/52، «الجامع لأحكام القرآن» 5/90، «مجموع الفتاوى» 15/403.
(2) أخرجه مسلم في الذكر 2702 من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري في الدعوات 6309، ومسلم في التوبة 2747 من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة وابن مسعود والنعمان بن بشير والبراء رضي الله عنهم 2675، 2744 2746. وانظر «مدارج السالكين» 1/240 241.
(4) انظر: «مجموع الفتاوى» 15/55.
(5) انظر: «مجموع الفتاوى» 15/51.
(6) انظر: تفسير المنار» 5/399.(12/403)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) : «فمن عصى الله فهو جاهل أيا كان، ومن أطاعه فهو عالم، ولهذا قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء (فكل عالم يخشاه، فمن لم يخش الله فليس من العلماء، بل من الجهال قال ابن مسعود: «كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً» وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: إنما العالم من يخشى الله» .
5 أن من معاني الجهل: السفه وعدم الرشد في الدين، لأن المراد بقوله (بجهالة) بسفه وعدم رشد، كما قال تعالى: (ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( [البقرة: 130] .
وقال تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ( [الأنعام: 140] .
وليس معنى الجهالة في الآية الجهل ضد العلم، لأن التوبة تقبل ممن عمل السوء عالماً بالإجماع (2) ، كما قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ( [الزمر: 53 55] .
بل إن من شرط المؤاخذة على الذنب كون مرتكبه عالماً بأنه ذنب ومعصية، لأن الجاهل غير مؤاخذ كما قال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا (قال الله في الحديث القدسي: «قد فعلت» (3) .
__________
(1) في «مجموع الفتاوى» 16/178 179.
(2) انظر: «التفسير الكبير» 10/4.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان 126، والترمذي في التفسير 2992 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(12/404)
فإن كانت المعصية التي فعلها جهلاً أوخطأً من باب الإخلال بالمأمور، فعليه أن يأتي بما أخل به أو بما يجبره، فمن ترك التشهد الأول في الصلاة مثلاً فعليه أن يأتي به ما لم يستتم قائماً، وإلا جبره بسجود السهو، ومن أخل بالطمأنينة في الصلاة فعليه أن يعيدها بطمأنينة، كما قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» (1) .
وإن كانت المعصية التي ارتكبها جهلاً أو خطأً، من باب ارتكاب المحظور كحلق الشعر بالنسبة للمحرم فلا شيء عليه إلا في القتل خطأ فإن القاتل تلزمه الكفارة حقاً لله تعالى، وإن كان غير آثم، كما يجب عليه التوبة، وكذا كل من عمل معصية من ترك مأمور أو انتهاك محظور، وإن كان ذلك خطأ لقوله في كفارة القتل الخطأ: (فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً ( [النساء: 92] ، أما ما كان من حقوق الآدميين فلا يسقط بحال، بل يجب عليه أداؤه وإن كان إتلافه له جهلاً منه أو خطأ (2) .
6 وجوب المبادرة إلى التوبة لقوله: (ثم يتوبون من قريب (أي: قبل حضور الموت، وإذا كان الإنسان لا يدري متى يحضره الموت، ويفجأه الأجل، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة حتى لا يأتيه الموت على غرة، وهو مقيم على المعصية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» .
وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك» (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان 757، ومسلم في الصلاة 397 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظر: «مجموع الفتاوى» 18/258 259.
(3) أخرجه البخاري في الرقاق 6416، والترمذي في الزهد 2333، وابن ماجه في الزهد 4114، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.(12/405)
7 أن من شرط قبول التوبة أن يتوب الإنسان من قريب أي في الحياة، وقبل حضور الموت، لقوله: (ثم يتوبون من قريب (لكن ليس من شرط قبول التوبة أن تكون عقب الذنب مباشرة، لأن «ثم» للتراخي، لكن الواجب كما سبق المبادرة إليها.
8 التحذير من الإصرار على المعصية والتسويف، وتأخير التوبة لقوله: (ثم يتوبون من قريب (لأن الإصرار على المعصية قد يكون سبباً لعدم التوفيق للتوبة وعدم قبولها وسبباً لقسوة القلب وانطماس البصيرة والعياذ بالله، قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( [المطففين: 14] .
وفي الحديث: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء» (1) .
والإصرار على الصغائر يجعلها كبائر.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» (2) .
وكما قيل:
لا تحقرن من الذنوب صغيرة ... ... إن الصغير غداً يكون كبيراً
وقال الآخر:
لا تحقرن صغيرة ... ... إن الجبال من الحصا (3)
9 أن من تاب عن قرب عهد بالمعصية فهو أحرى من غيره بقبول التوبة، لقوله: (ثم يتوبون من قريب (.
10 قبول التوبة ممن تاب من قريب، لأن الله حصر التوبة فيهم، فقال: (إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب (، ثم أكد ذلك بقوله: (فأولئك يتوب الله عليهم (.
11 إثبات اسم الله تعالى «العليم» وما يدل عليه من إثبات صفة العلم التام الشامل لله عز وجل، لقوله: (وكان الله عليما (.
12 إثبات اسم الله تعالى «الحكيم» وما يدل عليه من إثبات صفة الحكم والحكمة لله عز وجل: الحكم الشرعي والكوني والجزائي، والحكمة بقسميها: الغائية والصورية.
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير 3334، وابن ماجه في الزهد 4244، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه الألباني. انظر: «صحيح سنن ابن ماجه» 3422.
(2) أخرجه الطبري 8/245 الأثر 9207.
(3) البيت لابن المعتز، انظر: «ديوانه» 2/376.(12/406)
13 أن الله عز وجل شرع التوبة لعباده عن علم منه وحكمة، وذلك لضعفهم أمام نوازع الشر، ووفق بعلمه وحكمته للتوبة من شاء منهم، وخذل من شاء فلم يوفقه لها لقوله: (وكان الله عليماً حكيماً (.
14 أن الكمال في اجتماع العلم والحكمة. فالعلم وحده لا يكفي، بل قد يضر إذا صاحبه طيش وعجلة، والحكمة وحدها لا تكفي بدون العلم، بل قد تضر إذا صاحبها الجهل. ولهذا وصف الله عز وجل نفسه بأكمل الكمالين، وهو اجتماع العلم والحكمة، وكمال كل منهما وتمامه، فقال: (وكان الله عليماً حكيماً (.
15 بلوغ القرآن الكريم الغاية في الإيضاح والبيان، لأن الله عز وجل حصر التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب. ومفهوم هذا أن من استمر على عمل السوء حتى حضره الموت ليس له توبة، وتوكيداً لذلك وزيادة في البيان والإيضاح جاء التصريح بهذا المفهوم بقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن (.
16 أن التوبة تنقطع بحضور الموت، لقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ((1) .
__________
(1) وما جاء في حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» الحديث أخرجه البخاري في التفسير 4675، ومسلم في الإيمان 24، والنسائي في الجنائز 2035، وأحمد 5/433.
... فالمراد بقوله: لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي: قربت وفاته، وحضرت دلائلها، وذلك قبل المعاينة وقبل النزع، ولهذا كان أبو طالب يحاور النبي صلى الله عليه وسلم. أما بعد رؤية الملائكة والشروع في النزع فلا تقبل التوبة. انظر: «شرح صحيح مسلم» 1/164.(12/407)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (1) .
لأن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا اختيار، فلا تنفع صاحبها. كما تنقطع التوبة بطلوع الشمس من مغربها كما قال عز وجل: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً (.
قال ابن القيم (2) : «وأما إذا وقع في السياق، فقال: إني تبت الآن لم تقبل توبته، ذلك لأنها توبة اضطرار، لا اختيار، فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ويوم القيامة، وعند معاينة بأس الله» .
فتجب المبادرة إلى التوبة والحذر من التسويف مادامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً، قبل غلق الباب وطي الكتاب، وهذا هو أحد شروط التوبة، وهو أن تكون في وقتها الذي تصح فيه، وذلك أن شروط التوبة خمسة:
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى، بأن تكون التوبة صادقة نصوحاً، ابتغاء وجه الله، وطلب مرضاته ومحبته، والخوف من عذابه، لا رياءً، ولا سمعةً، ولا خوفاً من مخلوق، ولا لغرض دنيوي ونحو ذلك، قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( [التحريم: 4] ، والإخلاص شرط في جميع الأعمال، قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً ( [الكهف: 110] .
وقال تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات 3537، وابن ماجه في الزهد 4253 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وحسنه الألباني.
(2) في «مدارج السالكين» 1/283 284، وانظر: «مدارك التنزيل» 1/302.
(3) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق 2985، وابن ماجه في الزهد 4202 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/408)
الشرط الثاني: الإقلاع عن المعصية، وتركها والبعد عنها، فإن كان فيها حق لآدمي من دم أو مال أو غير ذلك، وجب رده إليه أو استحلاله منه. قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاته فطرحت عليه» (1) . وإن كان حق عرض من غيبة أو نميمة استحله منه إن أمكنه ذلك ولم يخشَ شراً بسبب ذلك، فإن لم يمكنه ذلك أو خشي أن يحصل شر بسبب إعلامه بذلك خاصة إذا عرف أنه لم يعلم بذلك؛ استغفر له، وأثنى عليه بخير في المواضع التي اغتابه فيها.
ومن هنا يعلم أن رد حقوق الآدميين لا يعتبر شرطاً مستقلاً كما يذكره بعض أهل العلم بل إنه داخل ضمن شرط الإقلاع عن المعصية، إذ كيف يعد مقلعاً عن المعصية من كانت حقوق الناس عنده.
فإذا كان صاحب الحق قد مات رد ذلك الحق إلى ورثته فإن لم يمكن رده تصدق به عنهم واستغفر للميت، ومن الإقلاع عن المعصية الاعتراف والإقرار، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إن كنت ألممت بشيء فأقري، فإن الاعتراف توبة» (2) .
الشرط الثالث: الندم على فعل المعصية بحيث يحس بحرقة وحزن وأسى في نفسه على ارتكابه هذه المعصية، ويود أنه لم يفعل ذلك، ولا يكون تائباً من كان عديم المبالاة بما ارتكب من معصية الله.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة» (3) .
الشرط الرابع: العزم الأكيد في نفسه على ألا يعود إلى تلك المعصية بحيث يصمم ويعزم على ألا يرتكب تلك المعصية مرة ثانية.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق 6534، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في التفسير 4750.
(3) أخرجه ابن ماجه 4252، وأحمد 1/376، وصححه أحمد شاكر برقم 3568، وصححه الألباني. انظر: «صحيح الروض» 644، «صحيح سنن ابن ماجه» 3429.(12/409)
فإن أضمر في نفسه أنه سيعود إليها فلا يعد تائباً، لأن فعله هذا استهزاء ومخادعة لمن يعلم السر وأخفى، لكن لو تاب وعزم على ألا يعود إلى المعصية لكن غلبه شيطانه وهواه ونفسه الأمارة بالسوء فعاود المعصية مرة ثانية فتوبته الأولى صحيحة لكن عليه أن يجدد التوبة من معاودته للمعصية، وهكذا كلما وقع في المعصية فعليه تجديد التوبة ما لم يضمر العودة إليها فلا توبة له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولو تاب العبد، ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضاً، ولا يجوز للمسلم إذا تاب، ثم عاد، أن يصر، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة» (1) .
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقتها قبل حضور الموت وغلبة المرء على نفسه وبلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها. أما الأول فلقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن (. وقوله: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( [غافر: 84، 85] . وقال تعالى: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ( [يونس: 90، 91] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (2) .
وأما الثاني: وهو طلوع الشمس من مغربها فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (3) .
__________
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» 16/58.
(2) سبق تخريجه في الحاشية رقم (77)
(3) أخرجه أبوداود في الجهاد 2479، والدارمي في السير 2513.(12/410)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (1) .
وجعل بعض أهل العلم من شرط التوبة أن يتوب عن جميع المعاصي، لأن هذا هو مقتضى تعظيم التائب لربه أن ينزع عن جميع المعاصي، وجعل بعضهم هذا شرطاً سادساً من شروط التوبة، واستدلوا بقوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( [الفرقان: 70. وبقوله تعالى: (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ( [النساء: 16] . وبقوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ( [المائدة: 39] .
وقال بعضهم: إنما يشترط للتوبة أن لا يصر على ذنب من جنس الذنب الذي تاب منه فيشترط فيمن تاب من الزنا أن يتوب عن دواعيه من النظر المحرم، والخلوة المحرمة واللمس المحرم، ونحو ذلك. ولا يشترط لها أن يتوب عما ليس من جنسه فتقبل توبته عن الزنا، وإن كان مرتكباً لمعصية الإسبال مثلاً.
__________
(1) أخرجه مسلم في التوبة 2759، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(12/411)
والصحيح أن التوبة من ذنب تقبل وإن كان مصرًّا على غيره، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون لا يعتبر تائباً من أقام على ذنب وذلك لأن من تاب من ذنب يقال له تائب مطلق توبة. ومن عدل الله عز وجل أن يجازيه على توبته من ذلك الذنب، كما قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( [الزلزلة: 7، 8] ، لكن لا يستحق الوصف بالتوبة المطلقة إلا من تاب من جميع الذنوب وأصلح جميع أعماله. فهذا هو التائب التوبة المطلقة من جميع الذنوب (1) .
17 أن جميع إقرارات المحتضر على نفسه أو ماله وتبرعاته وسائر تصرفاته في هذه الحال لا اعتبار لها، لقوله: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن (فلو تصدق في هذه الحال لم ينفعه ذلك بل ولا تنفذ صدقته إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ( [المنافقون: 10] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (2) .
18 أن الذين يموتون وهم كفار لا توبة لهم ولا ينفعهم ندمهم يوم القيامة، لقوله: (ولا الذين يموتون وهم كفار (.
__________
(1) انظر: «المحرر الوجيز» 4/52، «الجامع لأحكام القرآن» 5/91، «الاختيارات الفقهية» ص297، «مجموع الفتاوى» 16/58، «مدارج السالكين» 1/212، 306 310، 325 326، 342 343، 375، 429، 434، «تفسير ابن كثير» 7/364، «شرح الطحاوية» 2/451، وانظر كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذه الآية في دروس التفسير.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة 1419، ومسلم في الزكاة 1032، وأبوداود في الوصايا 186، والنسائي في الزكاة 2542، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/412)
19 تيئيس من يحضرهم الموت وهم مصرون على عمل السيئات في عدم قبول توبتهم، وذلك بقرنهم مع الذين يموتون وهم كفار، مع أن هؤلاء ماتوا على الكفر ولا توبة لهم.
20 أن النار موجودة الآن، لقوله (أعتدنا) أي: أعددنا وهيأنا. خلافاً لمن قال: إنها لم تخلق بعد (1) .
21 أن الله أعد للذين يموتون وهم كفار عذاباً مؤلماً موجعاً حسيًّا ومعنويًّا، لقوله: (أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (.
22 تعظيم الله عز وجل لنفسه لقوله: (أعتدنا) بضمير العظمة «نا» .
23 أن أهل النار المعذبين بها يتألمون على الدوام بما فيها من العذاب ألماً حسيًّا ومعنويًّا لقوله (عذاباً أليماً (.
وفي هذا إبطال لقول من يقول إنهم يكونون جهنميين ويتكيفون فيها ويتأقلمون، فلا يضرهم حرها ولا يحسون بألم العذاب فيها، أو تكون طبيعتهم طبيعة نارية فيتلذذون بالنار لموافقتها لطبعهم (2)
__________
(1) انظر: «التفسير الكبير» 10/9، «شرح الطحاوية» 2/614، وما بعدها.
(2) انظر: «شرح الطحاوية» 2/624 625. وانظر: كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذه الآية في دروس التفسير.
المصادر والمراجع
الاختيارات الفقهية لابن تيمية، 728هـ تحقيق: محمد حامد الفقي.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، 754هـ مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
بدائع الفوائد لابن القيم، 751هـ - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزيّ الكلبي، الطبعة الثانية 1392هـ 1973، دار الكتاب العربي، بيروت.
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) لمحمد رشيد رضا، طبعة 1414هـ 1993م، دار المعرفة بيروت.
تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير م 774هـ، طبعة دار الشعب، مصر.
التفسير الكبير للرازي، 604هـ، الطبعة الأولى 1411هـ 1990م، بيروت.
تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، 1376هـ، تحقيق: محمد زهدي النجار، الطبعة الأولى 1408هـ 1998م.
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 671هـ، طبعة 1387هـ 1967م.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 310هـ، تحقيق: شاكر، طبعة دار المعارف، والطبعة الثالثة 1388هـ 1968م، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
الجامع الصغير للسيوطي، 911 هـ، الطبعة الأولى 1401هـ 1981م، دار الفكر.
حلية الأولياء، لأبي نعيم، 430هـ، الطبعة الرابعة 1405هـ، دار الكتاب العربي.
دقائق التفسي، ر لابن تيمية، تحقيق: محمد السيد الجليد، الطبعة الثانية 1404هـ 1984م، مؤسسة علوم القرآن.
ديوان ابن المعتز، تحقيق: محمد بديع شريف طبع دار المعارف، مصر.
ديوان محمود الوراق،جمع وتحقيق: د. وليد قصاب، الطبعة الأولى 1412هـ.
سنن ابن ماجه م 275هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة 1372هـ 1952م، دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي.
سنن أبي داود م 275هـ، تعليق: عزت الدعاس، الطبعة الأولى 1388هـ 1969م.
سنن الترمذي، 279هـ، تحقيق: أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي المكتبة الإسلامية.
سنن الدارمي، 255هـ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
سنن النسائي، 303هـ، تحقيق: أبي غدة الطبعة الرابعة نشر دار البشائر الإسلامية.
شرح ابن عيسى للنونية نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الدمشقي، الطبعة الأولى 1408هـ 1988م، مؤسسة الرسالة.
شعب الإيمان للبيهقي، 458هـ، الطبعة الأولى 1410هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
صحيح البخاري مع فتح الباري، تصحيح وتحقيق: بإشراف الشيح عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئاسة البحوث العملية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
صحيح الجامع الصغير، للسيوطي، 911، تحقيق: الألباني، الطبعة الأولى 1388هـ، نشر المكتب الإسلامي.
صحيح مسلم، 261هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي الطبعة الثانية 1398هـ 1978م، دار الفكر العربي، بيروت.
الكشاف للزمخشري، 538 هـ، دار المعرفة، بيروت.
مجاز القرآن، لأبي عبيدة، 210هـ الطبعة 1401هـ 1981م.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام، لابن تيمية، الطبعة الأولى 1398هـ.
المحرر الوجيز، لابن عطية الأندلسي، 546هـ، تحقيق: المجلس العلمي بفاس 1397هـ 1977م.
مدارج السالكين، لابن القيم، 751هـ، الطبعة الأولى 1412هـ 1991م، دار الجيل، بيروت.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي م 701هـ المكتبة الأموية بيروت دمشق.
المستدرك للحاكم النيسابوري م 405هـ، نشر دار الفكر، وطبعة 1411هـ، تحقيق عبد القادر عطا نشر دار الكتب العلمية.
مسند الإمام أحمد، الطبعة الثانية 1398هـ 1978م، المكتب الإسلامي، بيروت.
معالم التنزيل للبغوي، 516هـ، الطبعة الأولى 1406هـ 1986م، دار المعرفة، بيروت.
معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت.
النكت والعيون، للماوردي، 450هـ تحقيق: خضر محمد خضر، الطبعة الأولى 1402هـ.
النونية، لابن القيم، 751هـ، طبعة سنة 1344هـ، مطبعة التقدم العلمية بمصر.
الوابل الصيب، لابن القيم، 751هـ، تحقيق وتعليق: الشيخ إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية.(12/413)
قال تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ( [النساء: 56] .
وقال تعالى: (ولهم عذاب مقيم ( [المائدة: 37] ، [التوبة: 68] .
وقال تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبسلون ( [الزخرف: 75] .
* * *
الخاتمة:
الحمد لله الذي بمنه وفضله تتم الصالحات والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فمن خلال هذا البحث الموجز في موضوع التوبة وشروطها من خلال قول الله عز وجل في سورة النساء (إنما التوبة على الله (الآية، والآية بعدها ظهرت لنا النتائج التالية:
أ – فضل الله عز وجل على عباده في إيجابه التوبة على نفسه منة منه وتكرماً، وأنه سبحانه يوجب على نفسه ما شاء.
ب – الترغيب في التوبة، بل ووجوبها على العباد لأن الله أوجبها على نفسه ويحب من اتصف بها، ولهذا أوجبها على العباد.
ج - أن كل عامل للسوء إنما يعمله بجهالة وسفه وعدم رشد وإن كل ذنب عصى الله به فهو جهالة أياً كانت حال فاعله.
د - وجوب المبادرة إلى التوبة، وأن من شرط قبولها أن يتوب الإنسان من قريب في الحياة قبل بلوغ الروح الحلقوم، والتحذير من الإصرار على المعصية وتأخير التوبة لأن الإصرار على المعصية قد يكون سبباً لعدم التوبة أو عدم قبولها.
هـ - علم الله التام وحكمته البالغة ولهذا شرع سبحانه وتعالى التوبة لعباده.
إلى غير ذلك من النتائج التي تظهر جلية خلال هذا البحث.
والله أسأل أن يوفق الجميع لجميع ما يحبه ويرضاه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/414)
الأوقاف في العصر الحديث كيف نوجهها
لخدمة الجامعات وتنمية مواردها
د. خالد بن علي بن محمد المشيقح
الأستاذ المشارك بقسم الفقه بكلية الشريعة وأصول الدين
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم
ملخص بحث
اشتمل البحث على تمهيد وثلاثة مباحث:
أما التمهيد فتناول تعريف الوقف لغة واصطلاحاً، وأدلة مشروعية الوقف وأقسام الوقف وأهدافه، ونبذة تاريخية عن الوقف.
وأما المبحث الأول: فتناول الوقف على العلم، وفيه بيان شرعيته، والوقف على دور العلم، ومصادره.
وأما المبحث الثاني: فتناول الإفادة من الأوقاف الواقعة في نشر العلم، وفيه البحث في شرط الواقف، وحكم تغييره، وأقسام ذلك، وإمكانية الإفادة من الوقف إذا كان مصرفه طرق الخير، ونقل الوقف من محلة إلى أخرى، والإفادة من الوقف المنقطع.
وأما المبحث الثالث: فتناول السبل الشرعية للحث على تحبيس الأموال على دور العلم سواء كان ذلك في ميدان الدعوة، أو السياسة والحكم، أو الاقتصاد ثم بعد ذلك ختم البحث بأبرز النتائج، وبعض التوصيات.
* * *
المقدمة
إن الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((1) .
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ((2) .
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() ... سورة آل عمران: 102.
(2) ... سورة النساء: 1.(12/415)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ((1) .
أما بعد:
فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على عمل الخير، والإنفاق في سبيل الله، ومن ذلك توقيف الأموال وتحبيسها على أبواب البر والإحسان، فإن الوقف من الصدقات الجارية في حياة المتصدق وبعد وفاته، يعم خيرها، ويكثر برها، وتتضافر بها الجماعة في مد ذوي الحاجات، وإقامة المساجد، وإنشاء دور الخير من مستشفى جامع يطب أدواء الناس، ومدارس ومعاهد تنشر العلم وترفع الجهل، ونزل تؤي أبناء السبيل، وملاجىء تؤوي اليتامى، ولذا تكاثرت أبواب البر بأوقاف الصحابة، ثم التابعين، ثم من جاؤوا من بعدهم واتبعوا هديهم بإحسان، ولم يكن ذلك مقصوراً على الإنفاق على الفقراء، والمساجد، والمدارس والوقف عليها، بل أوقفوا الأموال على الحيوانات والبهائم المريضة والمسنة، إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره، كل ذلك يتم برغبة خالصة ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
وقد ظل الوقف طول تاريخ الإسلام يؤدي دوره على وجه التمام وخصوصاً فيما يتعلق بالعلم ودوره من حلقات في المساجد، وكتاتيب، ومدارس.
ومن هنا أحببت أن أجلي هذه المسألة، وأن أكتب في دور الوقف في نشر العلم؛ لما يترتب على ذلك من فائدة عظيمة تظهر في الحث على التحبيس على العلم وأهله، وتنشيط الهمم على ذلك أو بيان أثر الوقف في ذلك، فكانت الكتابة في: " الأوقاف في العصر الحديث كيف نوجهها لدعم الجامعات وتنمية مواردها ".
وقد رأيت جعل ما كتبته في تمهيد، وثلاثة مباحث:
- التمهيد، ويشتمل على أربعة مطالب:
... المطلب الأول: تعريف الوقف لغة.
... المطلب الثاني: تعريف الوقف في الاصطلاح.
... المطلب الثالث: أدلة مشروعيته.
__________
(1) ... سورة الأحزاب: 70-71.(12/416)
.. المطلب الرابع: أقسام الوقف، وأهدافه.
... المطلب الخامس: نبذة تاريخية عن الوقف.
المبحث الأول: الوقف على العلم، وفيه مطالب:
... المطلب الأول: شرعيته.
... المطلب الثاني: الوقف على دور العلم، وفيه أمور:
... الأمر الأول: الوقف على الأزهر، ودور الوقف في دعمه.
... الأمر الثاني: الوقف على الكتاتيب.
... الأمر الثالث: الوقف على المدارس.
... المطلب الثالث: الوقف على المكتبات.
المبحث الثاني: الإفادة من الأوقاف الواقعة في نشر العلم:
... المطلب الأول: إمكانية الإفادة بتغيير شرط الواقف، وفيه أمران:
... الأمر الأول: قول العلماء شرط الواقف كنص الشارع.
... الأمر الثاني: أقسام تغيير شرط الواقف، وخلاف العلماء في ذلك.
... المطلب الثاني:الإفادة من الوقف إذا كان مصرفه في سبيل الله، أو طرق الخير، والثواب.
المطلب الثالث: الإفادة من نقل الوقف من محلة إلى محلة أخرى.
المطلب الرابع: الإفادة من الوقف المنقطع.
المبحث الثالث: السبل الشرعية للحث على تحبيس الأموال على دور العلم، ومنها الجامعات:
وفيه مطالب:
... المطلب الأول: في ميدان الدعوة.
... المطلب الثاني: في ميدان السياسة والحكم.
... المطلب الثالث: في ميدان الاقتصاد.
وقد سلكت في كتابة هذا البحث المنهج العلمي في كتابة البحوث العلمية.
فقمت بترقيم الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة -رضي الله عنهم-.
وتحرير مذاهب الأئمة، وتوثيق أقوال العلماء من مصادرها المعتبرة حسب المستطاع، وبيان أدلتهم، وما ورد عليها من مناقشات (1) .
ثم ختمت البحث بأبرز النتائج التي توصلت إليها.
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
***
التمهيد:
__________
(1) ... لم أترجم لشيء من الأعلام خشية الإطالة.(12/417)
المطلب الأول: معنى الوقف لغة
قال ابن فارس: " الواو والقاف والفاء: أصل واحد يدل على تمكُّث في شيء ثمّ يقاس عليه، والوقف مصدر ... " (1) .
وقال الفيومي: " وقفت الدابة تقف وَقْفاً ووقوفاً: سكنت، ووقفتها يتعدى، ولا يتعدى ... " (2) .
" أما أوقف فهي لغة رديئة " (3) .
وقيل للموقوف " وقف " تسمية بالمصدر، ولذا جمع على " أوقاف " كوقت وأوقات (4) .
والوقف هو: الحبس، والتسبيل (5) ، يقال: وقفت الدابة وقفاً حبستها في سبيل الله.
والحبس: المنع (6) . وهو يدل على التأبيد، يقال: وقف فلان أرضه وقفاً مؤبداً، إذا جعلها حبيساً لا تباع ولا تورث (7) .
المطلب الثاني: تعريف الوقف في الاصطلاح
اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفهم للوقف شرعاً، وذلك تبعاً لاختلافهم في لزوم الوقف وعدم لزومه، ومصير العين الموقوفة بعد الوقف، وغير ذلك. وهذه طائفة من هذه التعريفات:
التعريف الأول:
هو تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة برّ تقرباً إلى الله تعالى.
__________
(1) ... انظر: معجم مقاييس اللغة، مادة (وقف) 6/135.
(2) ... المصباح المنير 2/696، مادة (وقف) .
(3) ... لسان العرب 9/359، مادة (وقف) ، والمصباح المنير 2/669، مادة (وقف) .
(4) ... انظر: تهذيب اللغة 9/333.
(5) ... ينظر: الصحاح 4/1440، ولسان العرب 9/359، والمطلع ص285.
(6) ... انظر: المغرب 1/176، مادة (حبس) .
(7) ... انظر: اللسان ص63، مادة (أبد) .(12/418)
وإلى هذا التعريف ذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، على أن بعضهم يترك بعض القيود للعلم بها، ولهذا عرّفه بعض أصحاب هذا القول بقوله: "تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة" (3) .
قال المرداوي: أراد من حدّ بهذا الحدّ مع شروط الوقف المعتبرة، وأدخل غيرهم الشروط في الحدّ (4) .
شرح التعريف:
قولهم: "تحبيس مالك": سواء بنفسه أو نائبه.
وقولهم: "مطلق التصرف": ومَنْ له مطلق التصرف هو: المكلف، البالغ العاقل، الحرّ، الرشيد (5) .
وهذان القيدان لم يذكرهما الشافعية في تعريفاتهم للعلم بهما، ولاشتراطهما لكل تصرف يرتب عليه الشارع أثراً شرعياً، فهم يشترطون في الواقف " صحة عبارته، وأهلية التبرع " (6) .
وقولهم: "تحبيس " إشارة إلى الصيغة.
وقولهم: "ماله ": أي الشرعي، فخرج ما ليس شرعياً كالمحرم، وما كان مختصاً ككلب الصيد، ولهذا جاء في مطالب أولي النهى (7) : " وعلم منه: أنه لا يصح الوقف من نحو مكاتب، ولا سفيه، ولا وقف نحو الكلب والخمر ... ".
وقولهم: "المنتفع به ": أي سواء كان الانتفاع به في الحال، أم لا كعبد صغير، وخرج بذلك: ما لا يمكن الانتفاع به نحو الحمار الزمن الذي لا يرجى برؤه.
وقولهم: " مع بقاء عينه ": أي ولو مدة قصيرة أقلها زمن يقابل بأجرة، وخرج به: ما لا ينتفع به إلا بذهاب عينه كشمعة للوقود وريحان مقطوع للشم وطعام للأكل، فلا يصح وقف شيء من ذلك؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا مع ذهاب عينه (8) .
__________
(1) ... الإقناع للشربيني 2/26، وفتح الوهاب 2/256، وتحفة المحتاج 6/235.
(2) ... انظر: المطلع 285، التنقيح 185، وشرح المنتهى للبهوتي 2/489.
(3) ... المغني 8/184.
(4) ... الإنصاف 7/3.
(5) ... ينظر: مطالب أولي النهى 4/270.
(6) ... ينظر: منهاج النووي مع مغني المحتاج 2/376.
(7) ... 4/271.
(8) ... ينظر: حاشية الباجوري على الغزي 2/69، وفتح الوهاب 2/256.(12/419)
وقولهم: " بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته ": متعلق بتحبيس على أنه تبيين له، أي: إمساك المال عن أسباب التملكات بقطع تصرف واقفه وغيره في رقبته بشيء من التصرفات (1) .
وقولهم: "بصرف ريعه": أي غلّة المال وثمرته ونحوها، بسبب تحبيسه (2) .
وقولهم: " إلى جهة برّ ": هذا معنى قولهم " وتسبيل المنفعة " أي إطلاق فوائد العين الموقوفة من غلّة وثمرة وغيرها للجهة المعينة (3) .
والمراد بجهة البرّ: ما عدا الحرام، ولذلك عبر بعض الفقهاء بقولهم: "على مصرف مباح " (4) ، فيخرج به المصرف الحرام، وزاد بعضهم كلمة "موجود" فقال " على مصرف مباح موجود" (5) ، واشتراط كونه موجوداً مسألة خلافية (6) ، ولهذا ذكر أبو الضياء: أن الأولى حذف كلمة " موجود " ليتأتى التعريف على كلا القولين (7) .
__________
(1) ... ينظر: مطالب أولي النهى 4/271.
(2) ... المصدر السابق.
(3) ... انظر: كشاف القناع 4/241.
(4) ... انظر: تحفة المحتاج 6/235، قليوبي وعميرة 3/97، أسنى المطالب 2/457، فتح الجواد 1/613.
(5) ... انظر: نهاية المحتاج 5/358، مغني المحتاج 2/376، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/26.
(6) ... انظر: روضة الطالبين 5/327.
(7) ... حاشية أبي الضياء على نهاية المحتاج 5/358.(12/420)
وقولهم: " تقرباً إلى الله تعالى "، أي لأجل التقرب إلى الله تعالى، وإن لم يظهر فيه قصد القربة كالوقف على الأغنياء (1) تودداً، أو على أولاده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه من غير أن يخطر القربة بباله، بل قد يخطر بباله القصد المحرم كأن يستدين حتى يستغرق الدين ماله، وهو مما يصح وقفه فيخشى أن يحجر عليه ويباع ماله في الدين فيقفه، ليفوت على رب الدين، ويكون وقفاً لازماً، لكونه قبل الحجر عليه مطلق التصرف في ماله لكنه آثم بذلك، ومنهم مَنْ يقف على ما لا يقع عليه غالباً إلا قربة كالمساكين والمساجد، قاصداً بذلك الرياء، فإنه يلزم ولا يثاب عليه؛ لأنه لم يبتغ به وجه الله تعالى" (2) .
التعريف الثاني:
هو حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته على العباد، فيلزم ولا يباع، ولا يوهب، ولا يورث.
وإلى هذا التعريف ذهب أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، وهو المذهب عند الحنفية (3) .
والمعوّل والفتوى على قولهما (4) .
التعريف الثالث:
هو حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعتها، أو صرف منفعتها على من أحب.
وإلى هذا القول ذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- (5) .
قوله: " على ملك الواقف ": إذ عند أبي حنيفة: أن الرقبة ملك الواقف حقيقة في حياته، وملك لورثته بعد وفاته بحيث يباع ويوهب، بخلاف ما عليه الصاحبان (6) .
التعريف الرابع:
إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه، ولو تقديراً.
__________
(1) ... انظر: حاشية الباجوري 2/70.
(2) ... انظر: مطالب أولي النهى 4/271.
(3) ... انظر: الهداية مع فتح القدير 6/203.
(4) ... انظر: حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3/325.
(5) ... انظر: الهداية مع فتح القدير 6/203.
(6) ... ينظر: حاشية الطحطاوي 2/528. وص(12/421)
وهذا تعريف ابن عرفة، وعليه كثير من المالكية (1) .
فقوله: "إعطاء منفعة" قيد أخرج عطية الذات، فإنها إما هبة، أو صدقة (2) .
قوله: " مدة وجوده " أي الموقوف.
وفي الفواكه الدواني (3) : " خلاف المعتمد، أو أنه بنى تعريفه على الغالب، فلا ينافي أنه يصح الوقف مدة من الزمان، ويصير الذي كان موقوفاً ملكا".
قوله: " لازماً بقاؤه في ملك معطيه " قيد خرج به العبد المخدم حياته يموت قبل موت ربه، لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه؛ لجواز بيعه برضاه مع معطاه.
قوله: " ولو تقديرا " يحتمل: ولو كان الملك تقديرا كقوله: إن ملكت دار فلان فهي حبس.
ويحتمل: ولو كان الإعطاء تقديرا كقوله: داري حبس على من سيكون (4) .
وأقرب التعاريف هو الأول؛ إذ هو أجمع التعاريف وأمنعها.
وأما التعريف الثاني: ففيه زيادة حكم الوقف.
وأما الثالث: ففيه الرجوع عن الوقف، وهو مخالف لمقتضى الوقف.
وأما التعريف الرابع: فقد تطرق إليه الاحتمال في قوله: " ولو تقديراً ".
المطلب الثالث: أدلة مشروعية الوقف
دل على شرعية الوقف: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن القرآن:
قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ((5) .
فإن أبا طلحة (6) لما سمعها بادر إلى وقف أحب أمواله إليه، وهي بيرحاء - حديقة مشهورة -.
قوله تعالى: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ((7) ، ويدخل في ذلك الوقف.
__________
(1) ... ينظر: مواهب الجليل 6/18، وشرح الخرشي على خليل 7/78.
(2) ... ينظر: مواهب الجليل 6/18.
(3) ... 2/225.
(4) ... شرح الخرشي على خليل 7/78.
(5) ... آل عمران: 92.
(6) ... أخرجه البخاري في الزكاة، باب الزكاة على الأقارب (1461) ، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين.. (998) عن أنس رضي الله عنه.
(7) ... آل عمران: 115.(12/422)
وقوله تعالى: (إنا نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ((1) .
ومن آثارهم الوقف بعد مماتهم (2) .
ومن السنة:
1 - ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: " أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي (فقال: " أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها. فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه " (3) .
2 - ما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول الله (قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (4) .
... والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، دون نحو الوصية بالمنافع المباحة لندرتها.
قال النووي -رحمه الله تعالى-: " وفيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه " (5) .
أما الإجماع:
فقد قال القرطبي -رحمه اللَّه-: " إن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وعائشة، وفاطمة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابراً، كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة " (6) .
__________
(1) ... سورة يس: 12.
(2) ... ينظر: تفسير القرآن العظيم 3/566.
(3) ... أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في الوقف (ح2737) ، ومسلم في الوصية، باب الوقف (ح1632) .
(4) ... الحديث أخرجه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (ح1631) .
(5) ... شرح صحيح مسلم للنووي 11/85.
(6) ... تفسير القرطبي 6/339.
... وانظر: آثار الصحابة رضي الله عنهم: مخرجة في المستدرك 4/200، وسنن الدارقطني 4/200، وسنن البيهقي 6/160، والمحلى 9/180.(12/423)
وقال جابر -رضي الله عنه-: " لم يكن أحد من أصحاب النبي (ذو مقدرة إلا وقف " (1) .
وقال ابن هبيرة -رحمه اللَّه-: " اتفقوا على جواز الوقف " (2) .
وقال الشافعي -رحمه اللَّه- في القديم: " بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات ".
والشافعي -رحمه اللَّه- يسمي الأوقاف: الصدقات المحرمات (3) .
وقال الترمذي -رحمه اللَّه-: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي (وغيرهم لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك " (4) .
وقال البغوي -رحمه اللَّه-: " والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي (ومن بعدهم من المتقدمين لم يختلفوا في إجازة وقف الأرضين وغيرها من المنقولات، وللمهاجرين والأنصار أوقاف بالمدينة وغيرها، لم ينقل عن أحد منهم أنه أنكره، ولا عن واقف أنه رجع عما فعله لحاجة وغيرها " (5) .
وقال ابن حزم -رحمه اللَّه-: " وسائر الصحابة جملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس لا يجهلها أحد " (6) .
المطلب الرابع: أقسام الوقف، وأهدافه
أقسام الوقف:
لم يكن المتقدمون يفرقون في التسمية بين ما وقف على الذرية، وما وقف على غيرهم من جهات البر، بل الكل يسمى عندهم وقفاً، أو حبساً، أو صدقة.
إلا أن المتأخرين مالوا إلى التمييز بين ما وقف على الذرية والأهل، وبين ما وقف ابتداءً على جهة من جهات البر، كالفقراء، أو طلبة العلم، أو المشافي، أو دور العلم.
فأطلقوا على الأول: وصف الوقف الذري - أو الأهلي - وعلى الثاني: وصف الوقف الخيري (7) .
__________
(1) ... أورده ابن قدامة في المغني 8/185، والزركشي 4/269، ولم أقف عليه مسنداً.
(2) ... الإفصاح 2/52.
(3) ... ينظر: مغني المحتاج 2/376.
(4) ... سنن الترمذي 5/13، بعد حديث (1375) .
(5) ... شرح السنة 8/288.
(6) ... المحلى 9/180.
(7) ... محاضرات في الوقف لأبي زهرة ص4، 36، وأحكام الوقف للكبيسي 1/42.(12/424)
وحقيقة الأمر أن الوقف شامل لكلا المسميين شمول النوع لأفراده، فالوقف سواء كان على الأهل، أو على سائر جهات البر، فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة، لا فرق.
أهداف الوقف:
يحقق الوقف باعتباره عملاً من أعمال البر والخير التي يؤديها المسلم بمحض إرادته واختياره هدفين، أحدهما عام، والآخر خاص.
أما الهدف العام: فإن الشارع قد أوجب على المسلمين التعاون، والتكاتف والتراحم، وقد شبه النبي (المسلمين " في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم بالجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (1) .
ولا شك أن من أهم نواحي اختبار المسلم في هذا المجال، جانب الإنفاق في سبيل الله، خدمة للجماعة، وقياماً بواجب النصرة.
وأوجه الإنفاق كثيرة ومتنوعة، ولا شك أن من أهمها تحبيس عين ذات نفع دائم، وتسبيل هذا النفع.
إذ يمتاز عن غيره من أوجه البر بميزة الديمومة التي بها يحفظ لكثير من الجهات العامة حياتها، ويساعد كثيراً من زوايا المجتمع على استمرارها، مما يضمن لكثير من طبقات الأمة لقمة العيش عند انصراف الزمن.
قال الدهلوي في مجال تبيان محاسن الوقف: " ... وفيه من المصالح التي لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله " (2) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين (ح2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) ... حجة الله البالغة 2/116.(12/425)
وقال أبو زهرة: " وإن الوقف الذي يكون فيه حبس العين على حكم الله تعالى والتصرف بالثمرة على جهات البر، هو نوع من الصدقات الجارية بعد وفاة المتصدق، يعم خيرها ويكثر برها، وتتضافر بها الجماعات في مد ذوي الحاجات، وإقامة المعالم، وإنشاء دور الخير، من مستشفى جامع يطب أدواء الناس، ونزل يؤوي أبناء السبيل، وملاجيء تؤوي اليتامى، وتقي الأحداث شر الضياع، فيكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا قوة هادمة (1) .
أما الهدف الخاص: فإن الوقف يؤدي دوراً مهماً في تحقيق رغبة خاصة، مما هو مغروس في الطبيعة البشرية، فإن الإنسان يدفعه إلى فعل الخير دوافع عديدة، لا تخرج في مجملها عن مقاصد الشريعة وغاياتها. ومن أهم ذلك ما يلي:
1 - الدافع الديني: للعمل لليوم الآخر، فيكون تصرفه بهذا الشكل نتيجة من نتائج الرغبة في الثواب، أو التكفير عن الذنوب.
2 - الدافع الغريزي: حيث تدفع الإنسان غريزته إلى التعلق بما يملك، والاعتزاز به، والحفاظ على ما تركه له آباؤه وأجداده، فيخشى على ما وصل إليه من ذلك، من إسراف ولد، أو عبث قريب، فيعمل على التوفيق بين هذه الغريزة، وبين مصلحة ذريته بحبس العين عن التملك والتمليك، وإباحة المنفعة، ولا يكون ذلك إلا في معنى الوقف أو ما في معناه.
3 - الدافع الواقعي: المنبعث من واقع الواقف، وظروفه الخاصة حين يجد الإنسان نفسه في وضع غير مسؤول تجاه أحد من الناس، كأن يكون غريباً في مواطن ملكه، أو غريباً عمن يحيط به من الناس، أو يكون منهم إلا أنه لم يخلف عقباً، ولم يترك أحداً يخلفه في أمواله شرعاً، فيضطره واقعه هذا إلى أن يجعل أمواله في سبيل الخير بالتصدق بها في الجهات العامة.
4 - الدافع العائلي: حيث تغلب العاطفة النسبية على الرغبة والمصلحة الشخصية، فيندفع الواقف بهذا الشعور إلى أن يؤمن لذريته مورداً ثابتاً، صيانة لهم عند الحاجة والعوز.
__________
(1) ... محاضرات في الوقف ص3.(12/426)
5 - الدافع الاجتماعي: الذي يكون نتيجة لشعور بالمسؤولية تجاه الجماعة، فيدفعه ذلك إلى أن يرصد شيئاً من أمواله على هذه الجهة مسهماً في إدامة مرفق من المرافق الاجتماعية (1) .
... على أن تحقيق هذه الأغراض إنما يجيء تبعاً لوضع الشارع وغرضه، فهذه الأهداف تحث على فعل الخير، والتصدق في وجوه البر، وهذا داخل في إطار المطلب الشرعي العام.
المطلب الخامس: نبذة تاريخية عن الوقف
جعل الإمام الشافعي - رحمه الله - بداية تاريخ الأوقاف من بعد بعثة محمد (، وأن المسلمين أول من عرف الأوقاف، ولذلك قال -رحمه اللَّه تعالى-: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً ولا أرضاً تبررا، وإنما حبس أهل الإسلام (2) .
وقال في موضع آخر: ما علمنا جاهلياً حبس داراً على ولد ولا في سبيل اللَّه ولا على مساكين، وحبسهم كانت ما وصفنا من البحيرة (3) والسائبة (4) والوصيلة (5) والحام (6) ، فجاء رسول اللَّه (بإطلاقها، واللَّه أعلم (7) .
وقبل أن نقف مع كلام الإمام الشافعي - رحمه اللَّه تعالى - لابد من الرجوع إلى تأريخ الأمم قبل الإسلام لنقف على مدى معرفتهم لفكرة الوقف.
__________
(1) ... أحكام الوقف للكبيسي 1/141.
(2) ... الأم 4/52.
(3) ... البحيرة: بنت السائبة، وهي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث سيبت، فإذا نتجت بعد ذلك أنثى بحرت: أي شقت أذنها وخليت مع أمها. انظر: المغرب، مادة (بحر) 1/57
(4) ... السائبة: أم البحيرة، وقيل كل ناقة كانت تسيب لنذر، أي: تهمل ترعى أنى شاءت. انظر: المغرب، مادة (سيب) 1/425.
(5) ... الوصيلة: الشاة إذا أتأمت عشر أناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، فيقال: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون البنات. انظر: المغرب، مادة (وصل) 2/357.
(6) ... الحامي: الفحل إذا ألقح ولد ولده، لا يركب ولا يمنع من مرعى. انظر: المغرب، مادة (حمي) 1/229.
(7) ... الأم 4/58.(12/427)
فالوقف هو " حبس الأصل وتسبيل المنفعة "، والأمم عرفت فكرة الوقف بهذا المعنى - على اختلاف اتجاهاتهم في تحديد مفهوم التسبيل - منذ أمد بعيد- وإن كان لايسمى بهذا الاسم الذي عرف به في الإسلام -، وذلك لأن المعابد كانت قائمة ثابتة وما رصد عليها من عقار ينفق من غلاته على القائمين على هذه المعابد كان قائماً ثابتاً، ولا يمكن تصور هذا إلا على أنه في معنى الوقف، أو هو على التحقيق وقف (1) .
فعلى سبيل المثال في تأريخ مصر القديم ما يدل على أن مساحات كبيرة من الأرض كانت ترصد على ما زعموه من الآلهة والمعابد والمقابر، وتكون غير قابلة للتصرف التمليكي من بيع أو هبة أو وصية، أما غلاتها فتصرف على إصلاحها وإقامة الشعائر الدينية والإنفاق على القائمين بخدمتها (2) .
كذلك حبس " بنوت " - وهو أحد حكام بلاد النوبة في عهد "رمسيس" الرابع - كما دلت الآثار المصرية أرضاً له؛ ليشترى بريعها كل سنة عجلاً يذبح على روحه.
وفي تأريخ اليونان دلت آثارهم على أن امرأة اسمها "أريتي" وقفت حديقتها على مدينة "أوجوستينس" لتقام فيها شعائر دينية، وأن قائدا يونانيا اسمه "نسياس" وقف أرضا له لإقامة الشعائر للإله "أبولون" - كما يزعمون" (3) .
وفي القانون الروماني القديم يظهر لنا بجلاء أن الوقف كان معروفاً عندهم، فقد قال جوستينيان: " الأشياء المقدسة والأشياء الدينية والأشياء الحرام لا يمتلكها أحد، لأن ما كان من حقوق اللَّه لا يمتلكه الإنسان، ومن دفن ميتاً بأرض فقد جعلها بمحض إرادته مكاناً دينياً " (4) .
__________
(1) ... ينظر: محاضرات في الوقف، لمحمد أبو زهرة ص5.
(2) ... ينظر: تيسير الوقف على غوامض أحكام الوقوف للمناوي خ/3ب، أحكام الوقف للكبسي 1/23.
(3) ... ينظر: المصدر السابق.
(4) ... مدونة جسوتينيان ص381، بواسطة المصدر السابق.(12/428)
ويقول في موضع آخر: الأشياء المقدسة هي التي جعلت لله بحسب الطقوس والأوضاع الارتسامية التي يقوم بها الكهنة، وذلك كالمعابد وكالنذور والهدايا وغيرها من الأشياء المخصصة بحسب الأصول لإقامة الشعائر الدينية، وهذه بمقتضى مرسومنا لا يجوز أن تباع، ولا أن ترهن إلا لافتداء الأسرى (1) .
ونقل المناوي عن بعض المؤرخين أن الروم تزعم أن بلاد مقدونية بأسرها -من إسكندرية إلى الصعيد الأعلى - وقف في القديم على الكنيسة العظمى التي بالقسطنطينية، "ومقدونية" باللسان العبراني: مصر (2) .
وذكر المناوي أن مما يدل على أن الوقف ليس من خصوصياتنا: تصريح بعضهم بأن أوقاف الخليل عليه السلام باقية إلى الآن (3) . ولعلها هي الموقوفات المعروفة الآن بوقف الخليل التي ما زالت موجودة حتى اليوم، فقد ذكر بعض الباحثين أنها من أوقاف أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام (4) .
ومن أوقاف العرب في الجاهلية بناء قريش الكعبة، وحفر بئر زمزم (5) . وهذه الأوقاف التي ذكرتها كلها أوقاف عامة وهي ما تعرف اليوم في بعض البلدان العربية بالأوقاف الخيرية.
أما بالنسبة للأوقاف الخاصة والتي تعرف اليوم باسم الوقف الأهلي أو الذري فقد وجدت - أيضاً - قبل الإسلام.
فقد قرر بعض الباحثين أن القانون المصري القديم عرف معنى الوقف على الأسرة، فقد وجد فيه صورة عقد هبة من شخص لابنه الأكبر وأمره بصرف الغلات لإخوته على أن تكون الأعيان غير قابلة للتصرف فيها.
وهذا هو حقيقة الوقف في الإسلام (6) .
__________
(1) ... المصدر السابق ص57.
(2) ... انظر: تيسير الوقوف خ/ق3أ، مكتبة الأزهر، رقم (2081) فقه شافعي.
(3) ... تيسير الوقوف خ/ق3ب.
(4) ... انظر: الوقف والوصايا ص40.
(5) ... انظر: منح الجليل 4/35.
(6) ... انظر: محاضرات في الوقف، لأبي زهرة ص6.(12/429)
وكذلك كان للرومان مثل هذه التصرفات، كما كان لليهود ما يشبه ذلك (1) .
بعد هذا العرض السريع لبعض حالات الوقف قبل الإسلام نعود لمناقشة الأثر المروي عن الإمام الشافعي في تخصيصه الوقف بالإسلام، ففي الحقيقة أنني لم أستطع أن أفسر ما نقل عن الشافعي إلا بأنه - رحمه اللَّه - لم يطلع على حالات الأوقاف قبل الإسلام، وإن كان بعض العلماء - رحمهم اللَّه - حاولوا أن يجدوا مبرراً لقول الشافعي إلا أن هذه المبررات ضعيفة جداً يعارضها الواقع.
فمثلاً قال أبو الضياء: قوله: "لم تعرفه الجاهلية ": لعل المراد بهم هنا من لم يتمسك بكتاب كعبدة الأوثان (2) .
وهذا القول مندفع بما ذكرناه من الأوقاف المرصودة على الأصنام والمعابد والمقابر.
وقال الدسوقي: " ولا يرد على الشافعي بناء قريش الكعبة وحفر بئر زمزم، لأنه لم يكن تبرراً بل فخراً " (3) .
المبحث الأول: الوقف على العلم وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: شرعيته
الوقف على العلم، وما يتعلق به من إنشاء المدارس، والمعاهد، والجامعات، والمكتبات، وصرف الرواتب على الطلبة والمعلمين مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
فالإنفاق على العلم من الإنفاق في سبيل اللَّه وطرق الخيرو البر، إذ هو من أعظم جهات البر، وقد جعل بعض العلماء الإنفاق على العلم يعدل الإنفاق على الجهاد في سبيل اللَّه، لما روى أنس رضي اللَّه عنه أن النبي (قال: " من خرج في طلب العلم فهو في سبيل اللَّه حتى يرجع " (4) ، ولأن الجهاد جهادان: جهاد بالعلم والبيان، وكان هذا جهاده (في المرحلة المكية.
وجهاد بالسيف والسنان، وهذا جهاده (في المرحلة المدنية مع الجهاد السابق.
__________
(1) ... انظر: الوقف والوصايا، للخطيب ص40.
(2) ... حاشية أبي الضياء على نهاية المحتاج 5/359.
(3) ... حاشية الدسوقي 4/75.
(4) ... أخرجه الترمذي في العلم، باب فضل العلم (ح2649) وحسنه.(12/430)
قال ابن نجيم -رحمه اللَّه-: " ... فعلى هذا إذا وقف على طلبة علم بلدة كذا يجوز ... " (1) .
قال ابن عابدين -رحمه اللَّه-: " مطلب في حكم الوقف على طلبة العلم ... قوله: وإن على طلبة العلم: ظاهره: صحة الوقف عليهم ... " (2) .
وقال الخرشي -رحمه اللَّه-: " ويتأبد الوقف إذا قال تصدقت على الفقراء والمساكين، أو على المساجد، أو طلبة العلم وما أشبه ذلك ... " (3) .
وقال النووي -رحمه اللَّه-: " وإن وقف على جهة معصية كعمارة الكنائس فباطل، أو جهة قربة كالفقراء، والعلماء، والمساجد، والمدارس صح " (4) .
وفي مغني المحتاج: " والمراد بالعلماء: أصحاب علوم الشرع " (5) .
وفي كشاف القناع: " الشرط الثاني: أن الوقف على بر ... كالفقراء والمساكين والغزاة والعلماء والمتعلمين وكتابة القرآن ... والمساجد والمدارس ... " (6) .
المطلب الثاني: الوقف على دور العلم
وفيه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الوقف على الأزهر
يعتبر الأزهر من أهم المدارس العلمية الشرعية في تاريخ الإسلام، إذ عاش الأزهر يؤدي رسالته في نشر العلم وخدمة العلماء وطلاب العلم أكثر من ألف عام (7)
__________
(1) ... البحر الرائق 5/199.
(2) ... حاشية ابن عابدين 3/387.
(3) ... شرح الخرشي على مختصر خليل 7/89.
(4) ... المنهاج مع مغني المحتاج 2/381.
(5) ... 2/381.
(6) ... 4/245.
(7) ... دخلت الجيوش الفاطمية مدينة الفسطاط في 17 من شعبان سنة 358هـ وفي نفس الليلة التي دخلت فيها الجيوش الفسطاط أسس الفاطميون حاضرة جديدة لملكهم سموها القاهرة تفاؤلاً بالنصر، ثم بنى الفاطميون بعاصمتهم الجديدة مسجداً جامعاً سموه بالأزهر نسبة إلى فاطمة الزهراء، وبدأوا في إنشائه في 24 جمادى الأولى سنة 359هـ (أبريل 970م) وتم بناؤه وافتتح للصلاة والدراسة في 7 من رمضان سنة 361هـ (972م) .
... انظر: صبح الأعشى 392-410.(12/431)
، والذي ضمن للأزهر هذا الاستمرار بتوفيق من اللَّه هو الوقف الإسلامي الذي دعمه اقتصادياً، وحماه من انقلابات الدول، وكفاه شر المحن المتعاقبة على مدى تاريخه الطويل.
فالعامل الاقتصادي الذي شكل قاعدة اقتصادية ارتكز عليها الأزهر طوال تاريخه الطويل، اعتماداً على الأوقاف الإسلامية التي يرصدها أهل البذل من الحكام والأثرياء، كان ضامناً للاستمرارية في أداء رسالته.
ففي العصر الفاطمي توجد عدة وثائق ونصوص تُلقي ضوءاً على الموارد الأولى للأزهر، وأولى هذه الوثائق وأهمها سجل صدر عن الحاكم بأمر اللَّه بن العزيز باللَّه في رمضان سنة 400هـ ويوقف فيه بعض أملاكه من دور وحوانيت ومخازن، لينفق من ريعها على الجامع الأزهر، والجامع الحاكمي، وجامع براشدة، وجامع المقدس، ودار العلم بالقاهرة، ويفرد فيه لكل منها نصيباً خاصاً ويفصل وجوه النفقة فيها.
ومن ذلك فيما يختص بالجامع الأزهر، رواتب الخطيب والمشرف والأئمة، وما ينفق على فرش الجامع وتأثيثه وإنارته من الحصر والقناديل والزيت، وعلى إصلاحه وتنظيفه، وإمداده بالماء وغير ذلك من وجوه الإنفاق، وقد فصل ذلك تفصيلاً شاملاً في وثيقة كاملة أثبتها المقريزي بنصها في خططه (1) .
وتعد هذه أول وثيقة لوقفية صدرت عن أحد خلفاء الفاطميين ورتبت للأزهر بعض النفقات، وينقل المقريزي عن المسبحي (مؤرخ الدولة الفاطمية) في حوادث سنة 405هـ في عصر الحاكم بأمر اللَّه أيضاً أنه قُرىء في شهر صفر سجل بتحبيس عدة ضياع وغيرها على القرّاء والفقهاء والمؤذنين بالجامع، وأرزاق المستخدمين " ويفهم من الشطر الأول من هذا النص بأن القرّاء والأساتذة بالأزهر كانوا من المنتفعين بموارد الأعيان المحبوسة في هذا السجل" (2) .
أنواع الأوقاف على الأزهر:
__________
(1) ... المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/274.
(2) ... المصدر السابق.(12/432)
كانت الأوقاف التي تحبس على الأزهر إما أن تكون للأزهر بصفة عامة، وذلك مثل الوقفية السالفة التي أوقفها الحاكم بأمر اللَّه في سنة 400هـ، وإما أن تخصص للأروقة المختلفة بالأزهر أو لأساتذة المذاهب الأربعة، أو للإنفاق على تدريس مادة معينة، ولا سيما علوم القرآن والحديث.
وقد ظلت هذه الموارد الخاصة تنمو على مر العصور، وتوالت أوقاف أهل البذل من السلاطين والأمراء والكبراء على الجامع الأزهر خلال العصور، وكان الحكام يعززونها جيلاً بعد جيل.
وقد استمرت هذه الموارد تزداد شيئاً فشيئاً حتى تضخمت وبلغت الأوقاف المصرية العامة طبقاً لإحصاء سنة 1812م (1227هـ) 600.000 فدان أي أنها كانت تزيد على خمس جميع الأراضي المصرية، لأن إحصاء جميع الأراضي المصرية سنة 1813م بلغت فيه مساحة الأراضي المصرية كلها (2.500.000فدان) (1) .
وكانت الدولة تُعيّن ناظراً على أوقاف الأزهر من المماليك يتولى الإشراف على أوقاف الأزهر وإدارتها والصرف على الأزهر في العصر المملوكي والعصر العثماني وشيئاً فشيئاً تدخل العلماء إلى أن أصبحوا يتولون النظارة على أوقاف الأزهر، وعلى كثير من الأوقاف الخاصة بالمساجد والمدارس والأسبلة وخاصة في نهاية العصر العثماني.
وكانت تلك الأوقاف مصدر قوة للجامع الأزهر وقد حققت له استقلالاً ذاتياً عن التأثرات السياسية، والمذهبية. فلم يعرف عنه طوال عصوره شيئاً من ذلك، بل عاش علماء الأزهر وطلابه معززين مكرمين، بمنأى عن الخضوع لأحد، ومارس علماؤه حرية مطلقة في اختيار الدراسات والبحوث والموضوعات التي تلقى على الطلاب، وفي انتقاء الكتب التي يقرؤها المشايخ عليهم دون إشراف من أحد، أو توجيه منه.
جهود العلماء في الحفاظ على موارد الأزهر:
__________
(1) ... عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي 3/344.(12/433)
تصدى علماء الأزهر لكل من أراد المساس بأوقاف الأزهر وأرزاق العلماء، فعندما كثرت الأوقاف أراد بعض الحكام الاستيلاء عليها، فقد أراد السلطان (الظاهر برقوق) نقض كل ما أرصده الملوك على المساجد والمدارس والأسبلة وغيرها من وجوه البر، وقال إن هذه الأراضي أخذت بالحيلة من بيت المال، وقد استوعبت نصف أراضي الدولة، وعقد لذلك مجلساً حافلاً من العلماء لأخذ الرأي والفتوى في هذا الأمر، وحضر هذا المجلس الشيخ (أكمل الدين) شيخ الحنفية في عصره، والشيخ (سراج الدين عمر البلقيني) ، والشيخ (البرهان ابن جماعة) وغيرهم من علماء العصر. فاتفقوا على أن ما أرصده الملوك والأمراء من رزق يخرج من بيت المال لا سبيل إلى نقضه " وانفصل المجلس على هذا (1) .
وفي سنة 1121هـ تصدى علماء المذاهب الأربعة للوالي التركي إبراهيم باشا القبودان، لأنه أراد نقص ما أرصده أكابر مصر على الزوايا والمساجد والمدارس، وأعلنوا فتواهم في جرأة بأنه لا يجوز نقض ما حبسه أهل البر من الأراضي والعقارات والأرزاق حيث كان المُرصد عليهم من العلماء، والفقراء والأيتام وطلبة العلم.
وفي الفتوى: أن العالم والفقيه وطالب العلم يستحقون أرزاقاً من بيت المال، وإن كانوا أغنياء؛ لأنهم فرغوا أنفسهم لنفع المسلمين في المستقبل، وكذلك من يعلم الناس القرآن لتفريغه نفسه لتعليم الناس.
وكان في مقدمة هؤلاء العلماء الذين تصدوا لهذه الفتوى الشيخ علي بن السيد علي الحسيني الحنفي، والشيخ علي العقدي الحنفي والشيخ أحمد النفراوي المالكي، والشيخ محمد شنن المالكي، والشيخ أحمد الشرقي شيخ رواق المغاربة بالأزهر، والشيخ محمد الزرقاني شارح الموطأ، والشيخ عبد الباقي القليبي المالكي، والشيخ عبد ربه الديوي الشافعي، والشيخ منصور المنوفي، والشيخ محمد الأحمدي الشافعي، والشيخ أحمد المقدسي الحنبلي.
__________
(1) ... دور الأوقاف في دعم الأزهر ص125.(12/434)
وقد كتب هؤلاء العلماء السالفين فتواهم على طريقة السؤال والجواب، وعقدوا اجتماعاً في بيت "قيطاس بك الغفاري" حينئذٍ وحضر الاجتماع جمع غفير من أكابر مصر وحكامها وعلمائها وغيرهم، وقرأ عليهم هذه الفتاوى الشيخ عيسى الصفتي فاستحسنها الحاضرون، ثم أرسلوها إلى الوالي التركي إبراهيم باشا المذكور فعاند في ذلك، فكتب العلماء والأكابر عريضة إلى السلطان وأرسلوا معها هذه الفتاوى إلى السلطان أحمد خان الخليفة العثماني، فأمر بكتابة خط شريف بإبقاء الإرصادات والمرتبات على ما هي عليه من غير نقض ولا إبرام، وأرسلت تلك الأوامر السلطانية إلى مصر، وانتصر العلماء في الدفاع عن حقوقهم (1) .
وقد تولى بعض العلماء النظارة على الأوقاف وعلى الأخص قبل استيلاء محمد علي باشا عليها.
فالشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الأزهر (ت1227هـ) تولى النظر على الأوقاف الآتية:
- وقف كل من عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه، وإبراهيم بن سعد الحبال في 19 من شوال سنة 1213هـ.
- وقف علي باشا في 26 ذي القعدة 1213هـ.
- النظر على وقف إسماعيل المعاجني في 16 جمادي الأولى سنة 1220هـ.
- النظر على وقف شقرون المغربي في 26 من ربيع الأولى سنة 1224هـ.
والشيخ محمد المهدي (ت1230هـ) الذي عاصر فترة ما قبل الحملة الفرنسية وما بعدها، تذكر تقارير النظار أنه تولى النظارة على الأوقاف التالية:
- النظر على وقف نفيسة خاتون بنت حسين جروبجي في ذي القعدة سنة 1205هـ.
- النظر على أوقاف السلطان الغوري في أول ذي الحجة سنة 1213هـ.
- النظر على وقف السلطان برقوق وولده فرج وأتباعه في 27 من جمادى الآخر سنة 1214هـ.
- النظر على أوقاف الإمامين الشافعي والليث في 6 رجب سنة 1224هـ.
والشيخ محمد الأمير (ت1232هـ) تولى النظر على الأوقاف التالية:
- النظر على أوقاف الجامع الأزهر في 13 رمضان سنة 1220هـ.
__________
(1) ... ينظر: عجائب الآثار للجبرتي 3/262.(12/435)
- النظر على أوقاف الحرمين الشريفين في 16من جمادى الآخرة سنة 1207هـ.
- النظر على وقف القاضي عبد الكريم بن غنام، وعلى زاويته المعروفة بالغنامية في 17 من جمادي الأولى سنة 1221هـ.
والشيخ محمد أبو الأنوار وفا السادات (ت1228هـ) تولى النظر على:
- وقف الحسين رضي لله عنه، وابنته زينب في جمادي الآخرة سنة 1202هـ.
- النظر على وقف طومان باي في 25 جمادي الآخرة سنة 1214هـ.
والشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ (1168-1240هـ) تولى النظر على وقف زاوية الشيخ عبد الكريم المعروفة بزاوية الأحمدية في 24 من محرم سنة 1220هـ.
- النظر على وقف السلطان إنيال وأحمد بن إنيال في 6 من جمادي الآخرة سنة 1207هـ.
والشيخ عبد الرحمن السجيني كان يتولى النظر على وقف المدرسة الصالحية (مدرسة الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة) في 10رمضان سنة 1208هـ (1) .
الأمر الثاني: الوقف على الكتاتيب
"الكُتَّاب": أقيم لتعليم الصبيان القراءة، والكتابة، والقرآن وبعض العلوم العربية، والرياضيات، وقد وجدت هذه الكتاتيب قديماً في الإسلام، وقد ذكر بعض المؤرخين أنها وجدت في عصر الصحابة رضي اللَّه عنهم، وكانت من الكثرة بحيث عد ابن حوقل ثلاثمائة كتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية (2) .
وكان "الكُتَّاب" في بعض البلدان من السعة بحيث يضم مئات وآلافاً من الطلاب، ومما يروى عن أبي القاسم البلخي أنه كان له كتاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كتابه فسيحاً جداً ولذلك كان أبو القاسم يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم (3) .
وكانت هذه الكتاتيب تمول بأموال الأوقاف.
الأمر الثالث: الوقف على المدارس
__________
(1) ... دور الأوقاف في دعم الأزهر ص129-131.
(2) ... ينظر: معجم البلدان 3/417، 418، ومجلة الوعي الإسلامي، عدد (382) ص37.
(3) ... ينظر: معجم البلدان 1/479-480، ومجلة الوعي الإسلامي عدد (382) ص37.(12/436)
بدأ إنشاؤها بعد أن استقرت حركة الفتوحات الإسلامية نسبياً، وبعد أن تضاعف إقبال طلاب العلم على حلقات المساجد، وكثر بناء هذه المدارس حتى ملأت مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ويذكر التاريخ نفراً من أمراء المسلمين كانت لهم اليد الطولى في إنشاء المدارس في مختلف الأمصار: منهم صلاح الدين الأيوبي الذي أنشأ المدارس في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر، ودمشق، والموصل، وبيت المقدس، ونور الدين الشهيد الذي أنشأ في سورية وحدها أربعة عشر معهداً، ومنهم نظام الملك الوزير السلجوقي الذي ملأ بلاد العراق وخراسان بالمدارس حتى قيل: إنه في كل مدينة في العراق وخراسان مدرسة، وكان هذا الوزير كلما وجد في بلدة عالماً تميز وتبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفاً، وجعل فيها دار كتب.
وبجانب هؤلاء العظماء كان الأمراء والأغنياء، والتجار يتسابقون في بناء المدارس والوقوف عليها بما يضمن استمرار وإقبال الطلاب على الدراسة فيها وكثيرون جداً هم الذين جعلوا بيوتهم مدارس وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وقفاً على طلاب العلم الدارسين فيها (1) .
حتى إن ابن جبير الرحالة الأندلسي هاله ما رأى في المشرق من كثرة المدارس والغلات الوافرة التي تغلها أوقافها، فدعا المغاربة أن يرحلوا إلى المشرق لتلقي العلم (2) .
وما يؤكد ما قاله ابن جبير ما جاء من قصيدة عن مدارس دمشق، قال فيها ناظمها:
ومدارس لم تأتها في مشكل
مَا أَمَّها مَرء يكابد حيرة
وبها وقوف لا يزال مغلها
وأئمة تلقي الدروس وسادة
إلا وجدت فتى يحل المشكلا
__________
(1) ... ينظر: البداية والنهاية 16/16، 19، 74، 102، 176، 217، 233، 341، و17/85، 106، 159، 465، ط. دار هجر، والمواعظ والاعتبار للمقريزي 2/233، وطبقات الشافعية للأسنوي 2/26، ورحلة ابن جبير ص16، ومقدمة ابن خلدون 1/88.
(2) ... ينظر: رحلة ابن جبير ص15-16.(12/437)
وخصاصة إلا اهتدى وتحولا
يستنقذ الأسرى ويغني العيلا
شفى النفوس وداؤها قد أعضلا (1)
ويكفي برهاناً على كثرة أوقاف المدارس والمساجد في دمشق أن النووي لم يكن يأكل من فواكه دمشق طيلة حياته؛ لأن أكثر غوطتها وبساتينها أوقاف (2) .
وإذا كانت دمشق قد اشتهرت بكثرة مدارسها والأوقاف التي حبست عليها، فإن غيرها من الحواضر الإسلامية كبغداد، وقرطبة، والكوفة، والبصرة، والقيروان، والقاهرة كثرت فيها المدارس. وكل ذلك جاء ثمرة من ثمرات الأموال الموقوفة التي خصصت للدراسة العلمية.
ويتحدث ابن خلدون عما شاهده في القاهرة من التطور العلمي والحضاري فيذكر أن هذا التطور مرده إلى الأموال الموقوفة من أراض زراعية ومبان وبيوت وحوانيت، وأن هذه الأموال التي حبست على المؤسسات التعليمية في القاهرة أدت إلى أن يفد إلى هذه المدينة طلبة علم وعلماء من مغرب العالم الإسلامي ومن مشرقه في سبيل الحصول على العلم المجاني، وبذلك نما العلم وازدهر في مختلف الفروع والتخصصات (3) .
وكانت الدراسة في تلك المدارس تشبه الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر، وكان التعليم فيها لجميع أبناء الأمة دون تفرقة بين فئة وأخرى، وكان الطلاب الذين يدرسون فيها نوعين:
النوع الأول: الغرباء الذين وفدوا من بلاد نائية ويدخل مع هؤلاء الذين لا تساعدهم أحوالهم المادية أن يعيشوا على نفقات آبائهم، وكان لهذا النوع من الطلاب غرف خاصة للنوم ومكتبة ومطبخ وحمام، وهو قسم داخلي.
والنوع الثاني من الدارسين: يمثلون الطلاب الذين يرغبون في أن يرجعوا في المساء إلى أهليهم وذويهم وهؤلاء في قسم خارجي.
__________
(1) ... مجلة الوعي الإسلامي عدد (382) ، ص37.
(2) ... انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 4/253.
(3) ... ينظر: مقدمة ابن خلدون 1/88، والعبر لابن خلدون ص279.(12/438)
وكلا النوعين يدرس مجاناً، وكانت بعض المدارس بالإضافة إلى ما تقدمه لطلابها من علم ترعاهم صحياً، فقد كان بجوار بعض المدارس مستشفى لعلاج المرضى من الطلاب بالمجان.
وعرفت المدارس التخصص العلمي في إنشائها، حيث كانت تقام المدارس لنوع واحد من فروع العلم، ومن ثم كانت هناك مدارس لتدريس القرآن وتفسيره وحفظه وقراءاته، ومدارس للحديث خاصة، ومدارس- وهي أكثرها- للفقه لكل مذهب فقهي مدرسة خاصة به، ومدارس للطب، وأخرى في كل مجال من مجالات التخصص العلمي.
يقول ابن كثير في حوادث سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة: فيها كَمُلَ بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيهاً، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد (1) .
والدراسة في تلك المدارس مفتوحة لكل راغب في العلم دون قيد أو شرط، وكان طلاب هذه المدارس يتمتعون بكل الرعاية من طعام وشراب وعلاج وإقامة للغرباء والفقراء، وكان الأساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها ينتخبون ممن شهد لهم الشيوخ بالكفاءة العلمية، وكان المتخرجون من هذه المدارس يمنحون إجازة علمية باسم شيخ المدرسة، وما كان يسمح للأطباء بممارسة مهنة الطب إلا بعد نيل هذه الشهادة أو الإجازة من كبير أطباء المدرسة.
__________
(1) ... انظر: البداية والنهاية 13/139.(12/439)
ومن العلماء الذين درسوا في بعض المدارس أو كانوا شيوخاً لها: النووي، وابن الصلاح، وتقي الدين السبكي وغيرهم كانوا يدرسون في دار الحديث في دمشق، والغزالي، وإمام الحرمين الجويني، والفيروزابادي صاحب القاموس المحيط، وأبو إسحاق الشيرازي، وغيرهم كانوا يدرسون في المدرسة النظامية في بغداد (1) .
وقد ألفت في تاريخ المدارس مصادر عدة حاولْت استقراء أعدادها وما يدرس فيها، ومنها:
- المواعظ والاعتبار للمقريزي (ت845هـ) .
- الأعلاق الخطيرة لابن شداد (ت684هـ) .
- العقود اللؤلؤية للخزرجي (ت812هـ) .
- الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي (ت927هـ) .
- تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي (ت723هـ) (2) .
المطلب الثالث: الوقف على المكتبات
أدرك كل الواقفين للمدارس، وزوايا العلم، وحلقات الدرس في المساجد أهمية الكتاب لنشر العلم، وأن الاقتصار على تشييد الأبنية وتوفير جهاز للتدريس غير كاف فاهتموا بوقف الكتب عليها لتكون وسيلة ميسرة للتحصيل والمراجعة، توفر مادة علمية يستند إليها المعلم والمتعلم في وقت واحد، فأصبح من المعتاد وجود مكتبة في كل مدرسة، أو جامع، أو رباط وقف على طلبة العلم وغيرهم (3) .
وكان وقف الكتب بمكة في القرن الهجري الأول كما في مكتبة عبد الحكيم ابن عمرو الجمحي (4) .
وفي القرن الثاني ظهرت بيت الحكمة ببغداد وكان من بين أقسامها مكتبة حظيت بعناية مجموعة من خلفاء بني العباس وبخاصة المأمون.
__________
(1) ... ينظر: البداية والنهاية 16/13، 86، 118، 198، 275، 336، 383، 490، 532، 716، و17/5، 47، 61، 78، 169، 221، 258، 314 349، ط. دار هجر.
(2) ... ينظر: الوقف وبنية المكتبة العربية ص19.
(3) ... انظر: الوقف وبنية المكتبة العربية للدكتور يحيى محمود ساعاتي ص21.
(4) ... الأغاني للأصبهاني 4/51.(12/440)
ومكتبة بيت الحكمة كان الهدف من وراء إنشائها مساعدة العلماء والباحثين بتوفير أكبر قدر من مصادر المعلومات لهم لتسهيل سبل الدرس والمطالعة والتأليف والترجمة لمن يرغب في ذلك (1) .
وانتشرت خزائن الكتب الوقفية منذ القرن الرابع الهجري، بحيث يمكن القول بأنه قلما تخلو مدينة من كتب موقوفة.
وبلغ من انتشار هذه الخزائن وتوافرها في الأندلس أن أبا حيان التوحيدي النحوي كان يعيب على مشتري الكتب، ويقول: اللَّه يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف (2) .
ويذكر ياقوت الحموي عن مدينة مرو: أنه كان فيها عشر خزائن للوقف وذلك في القرن السابع الهجري ويقول عنها: " لم أر في الدنيا مثلها كثرة، وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية، وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني ... وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعيد محمد بن منصور في مدرسته، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرستها والضميرية في خانكاه هناك وكانت هذه الخزائن سهل التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد، وأكثره من غير رهن " (3) .
وقال ابن جبير في رحلته إلى مصر بعد أن اطلع على أحوال مكتباتها ودور العلم فيها وعاش في بعضها، واستفاد من أموالها الموقوفة: ومن مناقب هذا البلد ومفاخره "أي مصر" أن الأماكن في هذه المكتبات خصصت لأهل العلم فيهم، فهم يعتبرون من أقطار نائية فيلقى كل واحد منهم مأوى إليه ومآلاً يصلح أحواله به جميعاً (4) .
__________
(1) ... الوقف وبنية المكتبة العربية ص32.
(2) ... انظر: الوقف وبنية المكتبة العربية ص33.
(3) ... انظر: معجم البلدان 5/114.
(4) ... ينظر: رحلة ابن جبير ص15.(12/441)
وكانت هذه المكتبات بكتبها الوقفية إضافة إلى المكتبات الخاصة مثل مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء، وراء حركة الازدهار العلمي التي شهدها العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة، فقد اعتمد عليها العلماء وطلاب العلم في دراستهم ومراجعاتهم، ووضع مصنفاتهم.
المبحث الثاني: الإفادة من الأوقاف الموجودة وتوجيهها في تعليم العلم
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: إمكانية الإفادة بتغيير شرط الواقف
وفيه أمران:
الأمر الأول: قول الفقهاء: نص الواقف كنص الشارع
هذا الضابط الذي ذكره الفقهاء ليس على إطلاقه، وإلا فلا يجوز العمل بموجبه إذا خالف نص الواقف مقتضيات الشريعة، ولذلك حكى العلامة قاسم الحنفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية: إجماع الأمة على أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يعمل به، ومنها ما ليس كذلك (1) .
ولذلك فسّر كثير من العلماء قول الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع: بأنها كالنصوص في المفهوم والدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها (2) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفاق المسلمين على تكفير جاعل نصوص الواقف كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فقال: وإما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين، إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول اللَّه (-، والشروط إن وافقت كتاب اللَّه كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب اللَّه كانت باطلة (3) .
__________
(1) ... ينظر: البحر الرائق 5/245، ومجموع فتاوى ابن تيمية 31/47.
(2) ... ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص195، وحاشية ابن عابدين 4/433، ومجموع فتاوى ابن تيمية 31/47، والمبدع 5/333.
(3) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/48.(12/442)
فلم يجز أحد من أهل العلم العمل بنصوص الواقف إذا خالفت شرع اللَّه تعالى، سواء في ذلك الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وغيرهم من أهل العلم.
قال الكمال ابن الهمام الحنفي -رحمه اللَّه-: شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك. له أن يجعل ملكه حيث شاء ما لم يكن معصية (5) .
وقال الدردير المالكي -رحمه اللَّه-: واتبع وجوباً شرطه إن جاز شرعاً. ومراده بالجواز: ما قابل المنع (6) .
وقال ابن حجر الهيثمي الشافعي -رحمه اللَّه-: إن قلت شرائط الواقف مراعى كنص الشارع. قلت: محل مراعاته حيث لم يخالف غرض الشارع (7) .
وقال: أما ما خالف الشرع كشرط العزوبة في سكان المدرسة - مثلاً - فلا يصح (8) .
وقال البلباني الحنبلي -رحمه اللَّه-: "ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع" (9) .
__________
(1) ... انظر: فتح القدير 6/200، والبحر الرائق 5/245.
(2) ... انظر: الشرح الصغير 2/305، والشرح الكبير 4/88، ومواهب الجليل 6/33.
(3) ... انظر: نهاية المحتاج 5/376، وتحفة المحتاج 6/256.
(4) ... انظر: أعلام الموقعين 3/96، والإنصاف 7/56، وأخصر المختصرات ص198.
(5) ... فتح القدير 6/200.
(6) ... الشرح الكبير 4/88.
(7) ... الإتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف ضمن فتاوى ابن حجر 3/342.
(8) ... تحفة المحتاج 6/256.
(9) ... أخصر المختصرات ص198.(12/443)
وقال ابن القيم -رحمه اللَّه-: " وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحاً، وما كان فيه جنف (1) ، أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب اللَّه بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام، بل قد قال إمام الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله: " كل شرط ليس في كتاب اللَّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب اللَّه أحق، وشرط اللَّه أوثق " (2) .
فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع اللَّه ودينه ... والمقصود: أن اللَّه تعالى رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجانفة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى اللَّه ورسوله وأنفع للميت، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى اللَّه الأنفع لعبده واعتبار ضده" (3) .
وعلى كل حال: فإن ما يختلف فيه العلماء من اعتبار بعض الشروط أو ردها، فإنما هو ناتج عن اختلافهم هل هي من الشروط المخالفة لأمر اللَّه تعالى، أو من الشروط المرغوبة عند الشارع، أو من الشروط المباحة، فالجميع متفقون على عدم اعتبار ما خالف الشرع - وإن اختلفوا في ضابط ما خالف الشرع-، كما أن الجميع متفقون على مراعاة ما وافق الشرع، واختلفوا في اعتبار ما ليس بمكروه ولا مستحب. واللَّه أعلم.
الأمر الثاني: أقسام تغيير شرط الواقف
__________
(1) ... الجنف: الميل المتعمد. انظر المصباح المنير، مادة (جنف) 1/111.
(2) ... أخرجه البخاري في المكاتب، باب استعانة المكاتب (ح2563) ، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (ح1504) عن عائشة رضي اللَّه عنها.
(3) ... إعلام الموقعين 3/96.(12/444)
الأصل: وجوب العمل بشرط الواقف؛ لقول اللَّه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ((1) ، والإيفاء بالعقد يتضمن الإيفاء بأصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه، ولما رواه أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن النَّبِيّ (قال: "المسلمون على شروطهم" (2) ، ولأن عمر رضي اللَّه عنه "وقف وقفاً واشترط فيه شروطاً " (3) ، فلو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة.
تغيير شرط الواقف ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تغييره من أعلى إلى أدنى:
فهذا محرم ولا يجوز بالاتفاق (4) ؛ لما تقدم من الدليل على وجوب العمل بشرط الواقف.
مثل: أن يقفه على فقراء أقاربه، فيصرف إلى فقراء الأجانب ونحوذلك.
القسم الثاني: تغييره من مساوٍ إلى مساوٍ:
وهذا أيضاً محرم ولا يجوز بالاتفاق (5) ؛ إذ الاصل: وجوب العمل بشرط الواقف، لما تقدم من الدليل على ذلك.
مثل: أن يقف على فقراء بلد، فيصرفه إلى فقراء بلد آخر، ونحو ذلك.
القسم الثالث: تغييره من أدنى إلى أعلى:
مثل أن يقفه على العُبَّاد، فيصرفه إلى العلماء، ونحو ذلك، فاختلف العلماء في حكم ذلك على قولين:
القول الأول: جواز ذلك.
وهو ظاهر مذهب الحنفية (6) ، والمالكية (7) ، وهو قياس اختيار شيخ الإسلام (8) في إبدال الوقف عند ظهور المصلحة.
جاء في البحر الرائق: " والحاصل أن تصرف الواقف في الأوقاف مقيد بالمصلحة، لا أنه يتصرف كيف شاء، فلو فعل ما يخالف شرط الواقف فإنه لا يصح إلا لمصلحة ظاهرة ".
__________
(1) ... سورة المائدة: 1.
(2) ... أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (ح451) فتح الباري.
(3) ... تقدم تخريجه ص13.
(4) ... المصادر السابقة ص44.
(5) ... المصادر السابقة.
(6) ... البحر الرائق 5/277، والأشباه والنظائر ص195، وحاشية ابن عابدين 3/387.
(7) ... ينظر: الفواكه الدواني 2/225.
(8) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/253، والاختيارات الفقهية ص182.(12/445)
وجاء في الفواكه الدواني: " ويجوز عندنا لناظر أن يفعل في الوقف كل ما كان قريباً لغرضه، وإن خالف شرطه كما لو وقف ماء على الغسل والوضوء، فيجوز للناظر أن يمكن العطشان يشرب منه؛ لأنه لو كان حياً لما منع منه ... ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته:" ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله وبلا حاجة يجوز بخير منه؛ لظهور المصلحة. وهو قياس الهدي. وهو وجه في المناقلة، ومال إليه أحمد، ونقل صالح ينقل المسجد لمنفعة الناس. ولا يجوز أن يبدل الوقف بمثله لفوات التعيين بلا حاجة " (1) .
وقال في فتاويه: " وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه: مثل أن يقف داراً، أو حانوتاً، أو بستاناً أو قرية يكون مغلها قليلاً فيبدلها بما هو أنفع للوقف: فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء: مثل أبي عبيد بن حربويه قاضي مصر، وحكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة ... وهو قياس قوله في إبدال الهدى بخير منه " (2) .
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
1 - ما روته عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه (: " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " (3) .
__________
(1) ... الاختبارات الفقهية ص182.
(2) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/253.
(3) ... الحديث أخرجه البخاري في الحج، باب فضل مكة وبنيانها (ح1586) ، ومسلم في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها (ح1333) ، واللفظ لمسلم.(12/446)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: " ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه (واجباً لم يتركه، فعلم أنه كان جائزاً، وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام، وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر، فعلم أنه جائز في الجملة، وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال " (1) .
وقال ابن قاضي الجبل: " هذا الحديث دل على مساغ مطلق الإبدال في الأعيان الموقوفات للمصالح الراجحات " (2) .
وإذا كان هذا في أصل الوقف، ففي وصفه، وهو الشرط فيه من باب أولى.
2 - ما رواه جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه: " أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول اللَّه، إني نذرت لله إن فتح اللَّه عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: " صلّ هاهنا " ثم أعاد عليه، فقال: " صلّ هاهنا" ثم أعاد عليه، فقال: " شأنك إذن " (3) .
__________
(1) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 31/244.
(2) ... المناقلة بالأوقاف ص100.
(3) ... الحديث أخرجه أبو داود في الإيمان والنذور، باب من نذر أن يصلي ببيت المقدس (ح3305) ، وأحمد 3/363، وأخرجه الحاكم في المستدرك في النذور 4/76، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، وصححه أيضاً ابن دقيق العيد. انظر: التلخيص الحبير 4/178.(12/447)
3 - ما رواه أبي بن كعب رضي اللَّه عنه قال: بعثني النبي (مصدّقاً، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أدّ ابنة مخاض، فإنها صدقتك، فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر، وهذا رسول اللَّه (منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت عليّ فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن ردّه عليك رددته، قال: فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول اللَّه (، فقال له: يا نبي اللَّه، أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وأيم اللَّه ما قام في مالي رسول اللَّه (ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي فزعم أن علي فيه ابنة مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى عليّ، وها هي ذِهْ قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول اللَّه (: " ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك اللَّه فيه وقبلناه منك "، قال: فها هي ذه يا رسول اللَّه قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول اللَّه (بقبضها ودعا له في ماله بالبركة" (1) .
وجه الدلالة: دل هذان الحديثان: على جواز إبدال جنس المنذور بخير منه من نوعه، وكذلك الأعيان الراجحة التي تعينت كالهدايا والضحايا، وكذلك في الزكوات إذا وجب بنت مخاض فأدى بنت لبون، أو وجب بنت لبون فأدى حقة، قال ابن قاضي الجبل: "ويتناول بمعناه الأعيان الموقوفات إذا ظهرت مصلحة الاستبدال بها على غيرها " (2) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد 5/142، وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة (ح1583) ، والحاكم في المستدرك في الزكاة 1/399. والحديث صححه الحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص 1/400.
(2) ... المناقلة بالأوقاف ص102.(12/448)
وإذا ثبت هذا في أصل الوقف، ففي وصفه وهو الشرط فيه من باب أولى.
4 - ما رواه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: "حملت على فرس في سبيل اللَّه، فأضاعه الذي كان عليه، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي (فقالت: " لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كلكلب يعود في قيئه " (1) .
فوله: " فأضاعه ": يقتضي أن الذي كان عنده قصّر في حقه حتى ضعف فبيع، لضياعه وضعفه، ولم ينكر الرسول (ذلك، وإنما نهى عمر رضي اللَّه عنه عن شرائه، لكونه تصدق به.
والظاهر من الحمل في سبيل اللَّه: أن المراد بذلك حقيقة الحبس، بل هو المتبادر من السبيل خصوصاً وقد سماه صدقة في قوله: " ولا تعد في صدقتك"، ولفظ الصدقة من ألفاظ الوقف، كما في حديث عمر في الوقف " فتصدق بها عمر " (2) ، فالتمسك بذكر الهبة، لمشابهة ارتجاع الوقف للهبة، لما في ذلك من الارتجاع في العين بعد خروجها (3) ، فإذا جاز الإبدال في أصل الوقف، فكذا في شرطه.
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري في الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (ح2623) ، ومسلم في الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به (ح1621) .
(2) ... سبق تخريجه ص13.
(3) ... الأثر أخرجه الفاكهي 5/231. ينظر: فتح الباري 3/458.(12/449)
5 - ما ورد " أن عمر رضي اللَّه عنه كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلّ " (1) وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إذا كان يجوز في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه، وعينه محترمة شرعاً، أن يبدل به غيره للمصلحة، فلأن يجوز الإبدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحرى (3) .
قال ابن قاضي الجبل: " هذا الأثر كما أنه يدل على مساغ بيع الوقف عند تعطل نفعه فهو دليل أيضاً على جواز الاستبدال عند رجحان المبادلة؛ لأن هذا المسجد لم يكن نفعه متعطلاً، وإنما ظهرت المصلحة في نقله لحراسة بيت المال الذي جعل في قبلة المسجد الثاني " (4) . وإذا جاز في أصل الوقف، ففي شرطه أولى.
__________
(1) ... هذا الأثر اشتهر في كتب الفقهاء كالمغني 8/212، والمبدع 5/353، وقد أورده شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 31/215، نقلاً عن الشافي لأبي عبد العزيز قال: حدثنا الخلال، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون ... إلخ. وهو إسناد حسن إلاَّ أنه مرسل.
(2) ... شرح الزركشي 4/288.
(3) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/229.
(4) ... المناقلة بالأوقاف ص93.(12/450)
6 - أن الصحابة رضي اللَّه عنهم غيروا كثيراً من بناء مسجد النبي (بأمكن منه للمصلحة الراجحة في ذلك (1) ، فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناءه، أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع، وأما عثمان فبناه بمادة أعلى من تلك كالساج (2) . وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفاً أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها. وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر. ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة إذا اقتضت المصلحة ذلك (3) .
... وإذا جاز في أصل الوقف ففي شرطه أولى.
7 - أن بعض الصحابة رضي اللَّه عنهم سوغ نقل الملك في أعيان موقوفة تارة بالتصدق بها، وتارة ببيعها، فقد ورد عن عمر " أنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج " (4) .
... وقالت عائشة رضي اللَّه عنها لشيبة الحجبي في كسوة الكعبة القديمة: "بعها واجعل ثمنها في سبيل اللَّه والمساكين " (5) .
... قال ابن قاضي الجبل: وهذا ظاهر في مطلق نقل الملك عند رجحان المصلحة (6) ، فكذا مع شرطه.
__________
(1) ... المناقلة بالأوقاف ص101.
(2) ... أخرجه في الصلاة، باب بنيان المسجد (ح446) عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما.
(3) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 31/244.
(4) ... الأثر أخرجه الفاكهي في أخبار مكة 5/231، وانظر: فتح الباري 3/458.
(5) ... الأثر أخرجه الفاكهي 5/231، والبيهقي في الحج، باب ما جاء في مال الكعبة وكسوتها 5/159.
... قال ابن حجر العسقلاني في الفتح 3/458: في إسناد البيهقي راو ضعيف وإسناد الفاكهي سالم منه.
(6) ... المناقلة بالأوقاف ص113.(12/451)
8 - إلحاق محل النزاع بموقع الإجماع، حيث جوز الأئمة الكبار، بل أجمع العلماء على جواز بيع دواب الحبس الموقوفة إذا لم تعد صالحة لما وقفت له، فالفرس الحبيس ونحوه إذا عاد عاطلاً عن الصلاحية للجهاد يجوز بيعه إجماعاً، وإن كان فيه نفع من وجه آخر من أنواع الانتفاع من الحمل والدوران ونحوه، ومن المعلوم أن الفرس الحبيس ونحوه لو لم يبق فيه نفع مطلقاً لما أمكن بيعه إذ لا يجوز بيع ما لا نفع فيه فعلم أن منفعته ضعفت وجاز الاستبدال بأرجح منه، فعلم أن ذلك دائر مع رجحان المصلحة في جنس الاستبدال (1) . وإذا كان التغيير في أصل الوقف للمصلحة، فكذا في شرطه.
9 - أن الأعيان الموقوفة كالدور والمزارع والمنقولات إنما وقفت؛ ليعود ريعها على مستحقيه جرياً على مناهج المعروف وطلباً لاتصال الريع إلى مستحقية فالمطلوب من ذلك حصول النماء إلى أهله ووقوعه في أيدي مستحقيه مع زيادته واستنمائه، فإذا ظهرت المصلحة في زيادة الريع وتنمية المغل ولم يعارض معارض ظهرت مصلحة الاستبدال طلباً لتنمية المصالح وتكميلاً للمقاصد، ومثل هذا يقال في شرط الوقف (2) .
القول الثاني: عدم جواز ذلك.
وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
جاء في الإقناع للشربيني: " وهو أي الوقف على ما شرطه الواقف من تقديم وتأخير، وتسوية وتفضيل، وجمع وترتيب، وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بصفة".
وجاء في كشاف القناع: " ويُرجع - بالبناء للمفعول - عند التنازع في شيء من أمر الوقف إلى شرط واقف ... ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع، ... واستثناء كشرط فيرجع إليه ... وكذا مخصص من صفة كما لو وقف على أولاده الفقهاء أو المشتغلين بالعلم، فإنه يختص بهم فلا يشاركهم من سواهم ".
__________
(1) ... المناقلة بالأوقاف ص107.
(2) ... المناقلة بالأوقاف ص113.
(3) ... الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1/30.
(4) ... كشاف القناع 4/258، وشرح المنتهى 2/501.(12/452)
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - ما تقدم من أدلة وجوب العمل بشرط الواقف (1) .
... ونوقش هذا الاستدلال: بأن تغيير شرط الواقف من أدنى إلى أعلى عمل بشرط الواقف، وزيادة.
2 - قول الرسول (لعمر رضي اللَّه عنه: " تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره" (2) . وإذا منع من تغيير الأصل فكذا الفرع، وهو الشرط فيه.
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: أن المراد ببيع الوقف الممنوع إنما هو البيع المبطل لأصل الوقف، وعلى افتراض أن المراد به عموم بيع الوقف فإنه يخص منه حالة التعطل، وكذا حالة رجحان المصلحة لما تقدم من الدليل على ذلك.
ثانياً: قياس الموقوف على الحر المعتق، فكما أن العتيق الحر لا يقبل الرق بعد عتقه، فكذلك العين الموقوفة لا تقبل الملك بعد صحة الوقف (3) .
... وكذا شرط الوقف.
مناقشة الدليل:
أن هذا القياس قياس مع الفارق فلا يعتد به؛ لأن المعتق خرج عن المالية بالاعتاق بخلاف الوقف فلم يخرج عن المالية.
وقال القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى الفراء: احتجوا بأنه بالوقف زال ملكه على وجه القربة، فلا يجوز التصرف فيه كإزالته على وجه العتق.
والجواب أن الهدي الواجب بالنذر قد زال ملكه عنه، ويجوز التصرف فيه بالذبح قبل محله، وكذلك إذا نذر أن يتصدّق بدراهم بعينها جاز إبدالها بغيرها، وكذلك إذا جعل داره هدياً إلى الكعبة جاز بيعها وصرف ثمنها إلى الكعبة، فأما العبد إذا أعتقه فلا سبيل إلى إعادة المالية فيه بعد عتقه؛ لأنه إتلاف للمالية بخلاف مسألتنا، فإن المالية فيه ثابتة، وإنما المنافع هي المقصودة فتوصل بماليته إلى حصول فائدته بإبداله وبيعه، فصار شبهه بالهدى إذا عطب أولى من العبد إذا أعتق (4) .
__________
(1) ... ص48.
(2) ... الحديث سبق تخريجه ص13.
(3) ... ينظر: المناقلة بالأوقاف ص118.
(4) ... انظر: المصدر السابق.(12/453)
ثالثاً: ما رواه ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: " أهدى عمر بن الخطاب نجيباً (1) فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي (فقال: يا رسول اللَّه إني أهديت نجيباً، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها واشترى بثمنها بدناً؟ قال: "لا، انحرها إياها" (2) .
وجه الدلالة: أن النبي (منع عمر بن الخطاب من تغيير الهدي، فيقاس عليه تغيير الوقف، وشرطه.
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول:
أن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به لأمرين:
أحدهما: أن فيه الجهم بن الجارود. قال الذهبي: فيه جهالة (3) .
الثاني: أن الحديث فيه انقطاع، فقد ذكر البخاري في تاريخه. أنه لا يعرف لجهم سماع من سالم (4) .
الوجه الثاني:
لو فرض صحة الحديث، فإنه يقال: إن فرض المسألة كون العين التي وقع الاستبدال بها أرجح من الوقف وأولى. والعين التي أراد عمر الاستبدال بها ليست أرجح من النجيبة بالنسبة إلى التقرب إلى اللَّه تعالى، بل النجيبة كانت راجحة على ثمنها، وعلى البدن المشتراة به، وذلك لأن خير الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها،والمطلوب أعلى ما يؤخذ فيما يتقرب به إلى اللَّه تعالى وتجنب الدون (5) .
الوجه الثالث:
لو فرض صحة الحديث، ولو سلمنا كون الاستبدال بالهدي والأضحية ممنوعاً منه، لم يلتزم عدم جواز الاستبدال في الأوقاف عند رجحان المصالح، وذلك أن الوقف مراد لاستمرار ريعه ودوام غلته بخلاف الهدي والأضحية (6) .
الترجيح:
__________
(1) ... النجيب: الفاضل من كلّ حيوان. انظر: النهاية في غريب الحديث، مادة (نجب) 5/17.
(2) ... الحديث أخرجه أبو داود في المناسك، باب تبديل الهدى (ح1756) ، وأحمد 2/145، وابن خزيمة في صحيحه، في المناسك، باب استحباب المغالاة في ثمن الهدى وكرائمه (ح2911) .
(3) ... ميزان الاعتدال 1/426.
(4) ... التاريخ الكبير 2/230.
(5) ... انظر: المناقلة بالأوقاف ص121.
(6) ... انظر: المصدر السابق.(12/454)
من خلال هذا العرض تظهر قوة أدلة القول الأول القائل بجواز تغيير شرط الواقف عند رجحان المصلحة، لما تقدم من الأدلة على جواز تغيير الأصل، ففي الشرط من باب أولى، وعلى هذا يمكن الإفادة مما حبس من الأموال على غير العلم بصرفها إلى العلم وما يتعلق به إذا كان هذا أصلح، بحيث لا يخل بقصد الواقف، واللَّه أعلم.
المطلب الثاني: الإفادة من الوقف إذا كان في سبيل اللَّه، أو في طرق الخير
إذا قال الواقف: هذا وقف في سبيل البر، أو الخير، أو الثواب، اختلف العلماء في تعيين مصرف ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يصرف إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر (1) ، وسد الثغور (2) ، ودفن الموتى، وغيرهم، كنشر العلم.
وبه قال بعض الشافعية (3) .
حجة هذا القول:
احتج لهذا القول بما يلي: أن سبيل الخير، والبر، والثواب يشمل كل ما تقدم كما في قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللَّه أموات بل أحياء عند ربهم ولكن لا تشعرون ((4) فالمراد هنا الجهاد في سبيل اللَّه (5) .
وقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ((6) ، فالمراد هنا: كل ما يتعلق بطاعة اللَّه عز وجل (7) .
__________
(1) ... القنطرة: ما يبنى على الماء للعبور، والجسر عام. المغرب 2/185، مادة: (قنطر) .
(2) ... الثغر من البلاد: الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو، فهو كالثلمة في الحائط يخاف هجوم السارق منها، والجمع ثغور. المصباح 1/81، مادة (ثغر) .
(3) ... روضة الطالبين 5/320.
(4) ... سورة البقرة، آية: 154.
(5) ... المغني 8/209.
(6) ... سورة البقرة، آية: 261.
(7) ... تفسير الطبري 3/62، وتفسير ابن كثير 1/316.(12/455)
وقوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل اللَّه ويبغونها عوجاً ((1) ، أي: يردون الناس عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى اللَّه عزوجل ... (2) وهذا شامل لجميع أبواب الطاعات.
وقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ((3) ، المراد: طاعة اللَّه وتقواه (4) .
وقوله تعالى: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن اللَّه كان عفواً قديراً ((5) . أي: إن تظهروا أيها الناس خيراً، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند اللَّه، ويجزل ثوابكم لديه (6) .
وقوله تعالى: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ... ((7) ، أي: من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره اللَّه له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه اللَّه منها، وما قسم له في الدنيا (8) .
القول الثاني: أنه يصرف على أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا فإلى أهل الزكاة.
وهو قول الشافعية (9) .
وحجة هذا القول:
__________
(1) ... سورة هود، آية: 19.
(2) ... تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/441.
(3) ... سورة البقرة، آية: 44.
(4) ... تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/85.
(5) ... سورة النساء، آية: 149.
(6) ... جامع البيان للطبري 4/343، وتفسير القرآن العظيم 1/571.
(7) ... سورة آل عمران، آية: 145.
(8) ... تفسير القرآن العظيم 2/410.
(9) ... روضة الطالبين 5/321.(12/456)
1 - أن أقارب الميت أكثر الجهات ثواباً؛ لما رواه سلمان بن عامر رضي اللَّه عنه أن النبي (قال: " الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنان: صدقة وصلة " (1) .
2 - أنه إذا لم يوجد أقارب للواقف، فيصرف إلى أهل الزكاة؛ لأن أهل الزكاة أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن، فكان من نصّ اللَّه تعالى في كتابه أولى من غيره، وإن ساواه في الحاجة (2) .
القول الثالث: أنه يشمل القُرب كلها.
... كالغزو، وطلب العلم، والمساكين، والمساجد، وغيرها.
وهذا هو الصحيح من المذهب عند الحنابلة.
قال القاضي: ولو وقف على سبيل الخير يستحقه من أخذ الزكاة (3) .
وحجة هذا القول: ما تقدم من حجة الرأي الأول.
وحجة ما ذهب إليه القاضي: ما تقدم من حجة الرأي الثاني، إذا لم يوجد أقارب للميت.
الترجيح:
الراجح - واللَّه أعلم - هو القول القائل بصرف ريع الوقف المحبس على الخير والثواب، وفي سبيل البر على المصالح كلها ويدخل في ذلك العلم وتعليمه.
المطلب الثالث: الإفادة من نقل الوقف من مكانه إلى محله أو بلد آخر
الوقف المراد نقله لا يخلو من حالتين:
الحال الأولى: أن يكون منقولاً.
الحال الثانية: أن يكون عقاراً.
ولكل حال تفصيل خاص، ذلك أن الوقف المنقول يمكن نقله من مكانه بعينه دون استبداله، في حين أن الوقف غير المنقول لا يمكن نقله إلا باستبدال عينه بعين أخرى. وإليك بيان ذلك:
الحال الأولى: حكم نقل الوقف المنقول:
__________
(1) ... أخرجه الإمام أحمد 4/18، 214، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (ح658) ، والحميدي (ح823) ، والدارمي (ح1687) ، وابن خزيمة (ح2385) ، وابن حبان (ح3344) إحسان، والطبراني (ح6206) ، و (ح6207) ، و (ح6210) ، والحاكم 1/407، والبيهقي 4/174 عن سلمان بن عامر رضي اللَّه عنه.
(2) ... المغني 8/210.
(3) ... الإنصاف مع الشرح الكبير 16/511.(12/457)
إذا كان الوقف منقولاً جاز نقله عند الحاجة عند عامة أهل العلم.
فهو قول كثير من الحنفية (1) ، وهو قول المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
قال الحصكفي الحنفي: " إن وقف كتبا على طلبة العلم، وجعل مقرها خزانته التي في مكان كذا، ففي جواز النقل تردد " (5) .
قال ابن عابدين عن هذا التردد: " إنه ناشيء مما قدمه عن الخلاصة من حكاية القولين، من أنه لو وقف المصحف على المسجد أي بلا تعيين أهله. قيل: يقرأ فيه. أي يختص بأهله المترددين إليه، وقيل: لا يختص به. أي فيجوز نقله إلى غيره ".
وقال بعد ذلك: "لكن لا يخفى أن هذا إذا علم أن الواقف نفسه شرط ذلك حقيقة، أما مجرد كتابة ذلك على ظهر الكتب - كما هو العادة - فلا يثبت به الشرط " (6) .
فقول ابن عابدين - هذا - يفيد أنه إذا لم يشترط الواقف عدم النقل، فلا بأس به.
وقال الكمال بن الهمام الحنفي عن محمد بن الحسن: "ولو جعل جنازة ومغتسلاً وقفاً في محله، ومات أهلها كلهم لا يردّ إلى الورثة: بل يحمل إلى مكان آخر " (7) .
وقال الدسوقي المالكي: "وأما كتب العلم إذا وقفت على من لا ينتفع بها كأمي أو امرأة، فإنها لا تباع وإنما تنقل لمحل ينتفع بها فيه كالكتب الموقوفة بمدرسة معينة فتخرب تلك المدرسة وتصير الكتب لا يتفع فيها فإنها تنقل لمدرسة أخرى ولا تباع " (8) .
__________
(1) ... ينظر: فتح القدير 6/237، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/366.
(2) ... ينظر: مواهب الجليل 6/32، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/91.
(3) ... ينظر: روضة الطالبين 5/359، ومغني المحتاج 2/392، وتيسير الوقوف ق82أ.
(4) ... ينظر: فتاوى ابن تيمية 31/267، وكشاف القناع 4/324، ومطالب أولي النهى 4/368.
(5) ... الدر المختار مع ابن عابدين 4/366.
(6) ... حاشية ابن عابدين 4/366.
(7) ... فتح القدير 6/237.
(8) ... حاشية الدسوقي 4/91.(12/458)
وذكر الحطاب المالكي مثلاً لذلك فقال: "وقعت بتونس حبس الأمير أبو الحسن كتبا لمدرسة ابتدأها بالقيروان وأخرى بتونس، وجعل مقرها بيتا بجامع الزيتونة، فلما أيس من تمامها قسمت الكتب على مدارس تونس (1) .
وقال الشربيني الخطيب الشافعي: "لو وقف على قنطرة، وانحرف الوادي وتعطلت القنطرة واحتيج إلى قنطرة أخرى جاز نقلها إلى محل الحاجة " (2) .
وسئل السيوطي الشافعي عن نقل الكتب من الخزانة المحمودية - مع أن الواقف شرط أن لا تخرج من المدرسة- فأجاب: "الذي أقول به: الجواز" (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي: "إن الوقف لو كان منقولاً: كالنور والسلاح، وكتب العلم، وهو وقف على ذرية رجل بعينهم جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا بل كان هذا هو المتعين، بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينهم " (4) .
وقال الحجاوي الحنبلي: "إذا وقف على الغزاة في مكان فتعطل فيه الغزو صرف إلى غيرهم من الغزاة في مكان آخر " (5) .
من خلال هذه النصوص يتضح أن نقل الوقف من مكانه أمر مقرر عند عامة أهل العلم، لكن بعض العلماء أجاز النقل لمجرد ظهور المصلحة الراجحة، وبعضهم إنما أجازه عند تعذر الانتفاع بها في مكانها وعلى كل حال، فإنهم قد أجازوا نقلها في الجملة.
وحجة هذا القول:
أن الواقف إنما وقف العين الموقوفة، ليستفاد منها ما أمكن على الدوام، وفي نقل العين الموقوفة عند الحاجة تحصيل لغرض الواقف في الجملة حسب الإمكان (6) .
__________
(1) ... مواهب الجليل 6/32.
(2) ... مغني المحتاج 3/392.
(3) ... انظر: تيسير الوقوف ق82أ.
(4) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/267.
(5) ... الإقناع مع شرحه 4/293.
(6) ... انظر: كشاف القناع 4/324.(12/459)
وذهب بعض الحنفية: إلى أنه لا يجوز نقل الوقف من مكانه، ولذلك قال ابن عابدين في تعليقه على الدر المختار: " الذي تحصّل من كلامه أنه إذا وقف كتبا وعين موضعها، فإن وقفها على أهل ذلك الموضع، لم يجز نقلها منه لا لهم ولا لغيرهم " (1) .
ولكن لا يخفى أن القول الأول: هو القول الراجح، وذلك أن منع نقل العين من مكانها دون استبدالها لمكان إقامة الموقوف عليهم فيه مخالفة لمقصد الواقف وتعطيل للعين الموقوفة عن الانتفاع بها، والوقف إنما شرع ليستمر الانتفاع منه على الدوام، لقول الرسول (:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (2) .
والصدقة الجارية هي الوقف كما بينه الفقهاء وسبق توضيحه في مقدمة الرسالة (3) .
وعلى هذا يمكن الإفادة بنقل ما حُبِّس من المنقولات عند الحاجة والمصلحة إلى أمكنة العلم، ومنها الجامعات، وخصوصاً ما يتعلق بكتب العلم.
وتقدم جواز تغيير شرط الواقف من أدنى إلاَّ أعلى للمصلحة.
الحالة الثانية: حكم نقل عقار الوقف:
من المعلوم أن كل من قال بعدم جواز إبدال الأوقاف منع نقل عقار الوقف من مكانه؛ لأن من لازم نقله استبداله بخلاف الوقف المنقول فكل من منع استبدال عقار الوقف هو مانع ضمنياً نقل عقار الوقف من مكانه، أما الذين أجازوا استبدال الأوقاف وهم بعض الحنفية، وبعض الحنابلة، فقد اختلفوا في نقل البدل من محلة الوقف الأول والبلد الذي كان فيه.
__________
(1) ... حاشية ابن عابدين 4/366.
(2) ... الحديث سبق تخريجه ص13.
(3) ... ينظر: ص13.(12/460)
فذهب بعضهم إلى جواز نقله للمصلحة (1) ، ومنعه آخرون إلا إذا كانت المحلة الأخرى خيراً من محلة الوقف (2) .
قال ابن نجيم الحنفي: "لو أطلق الاستبدال فباعها بثمن ملك الاستبدال بجنس العقار من دار أو أرض في أي بلد شاء " (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما علمت أحداً اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف.
قال: وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز في أظهر الروايتين عنه: أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجداً آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولى " (4) .
وفي المقابل قال الزاهدي الحنفي: "مبادلة دار الوقف بدار أخرى إنما يجوز إذا كانتا في محلة واحدة، أو محلة الأخرى خيراً، وبالعكس لا يجوز - وإن كانت المملوكة أكثر مساحة وقيمة وأجرة، لاحتمال خرابها في أدون المحلتين لدناءتها، وقلة الرغبة فيها " (5) .
وعلى كل حال فإن جواز نقل عقار الوقف للمصلحة هو الراجح الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ذلك أقرب إلى مقصد الواقف وهو نفع الموقوف عليهم، وليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي، ولا مصلحة لأهل الوقف، وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب.
__________
(1) ... انظر: فتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3/307، والإسعاف ص36، والبحر الرائق 5/222، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/266.
(2) ... انظر: البحر الرائق وحاشيته منحة الخالق 5/223، وحاشية ابن عابدين 4/386.
(3) ... البحر الرائق 5/222.
(4) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/266.
(5) ... انظر: حاشية ابن عابدين 4/386.(12/461)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز، وقد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً إذا تعينت المصلحة فيه ". واللَّه أعلم (1) .
وعلى هذا يمكن نقل الأوقاف المنقطعة، أو التي حبست على طرق الخير والثواب، أو أمكن تغيير الشرط فيها كما تقدم (2) ، للمصلحة للإفادة منها في العلم.
المطلب الرابع: الإفادة من صرف منافع الوقف إذا انقرض الموقوف عليهم
هذه المسألة مبنية على مسألة حكم الوقف منقطع الآخر. فمن قال ببطلانه وهو أبو حنيفة ومحمد، ومن تبعهم من الحنفية (3) ، وبعض الشافعية (4) . فإن الموقوف عليه ينقرض عندهم حيث لو انقطع لم يصح الوقف.
ومن قال بصحة الوقف المنقطع الآخر وهم: جمهور العلماء من المالكية (5) ، والحنابلة (6) ، وجمهور الشافعية (7) ، وأبو يوسف ومن تبعه من الحنفية (8) . فقد ينقرض الموقوف عليه عندهم، كأن يقول: وقفت على ولدي، أو على زيد فيهلك، أو على ذريتي فينقرضوا، ومنه قوله: وقفت على المحتاج من ذريتي فلم يوجد فيهم محتاج.
وفي مصرف ريع الوقف إذا انقرض الموقوف عليه خلاف بين العلماء الذين قالوا بصحة الوقف منقطع الآخر على النحو التالي:
القول الأول: أنه يصرف إلى أقارب الواقف، ثم من بعدهم الفقراء والمساكين.
__________
(1) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/268.
(2) ... ينظر: ص60، 64.
(3) ... ينظر: المبسوط 12/41، والبحر الرائق 5/196، وحاشية سعدي حلبي مع الفتح 6/213.
(4) ... انظر: روضة الطالبين 5/326، ومغني المحتاج 2/384.
(5) ... انظر: الشرح الصغير 2/305، والخرشي 7/89.
(6) ... انظر: المغني 8/210، والكافي 2/452، والإنصاف 7/34.
(7) ... ينظر: روضة الطالبين 5/326.
(8) ... ينظر: مختصر القدوري مع اللباب 2/182، والهداية 3/15.(12/462)
وهو قول جمهور أهل العلم (1) . وعند الشافعية على الأظهر: بعد الأقارب يصرف في مصالح المسلمين.
وخص الحنفية، والشافعية: الأقارب بالفقراء، وخصهم المالكية، والحنابلة: بورثة الواقف نسباً.
قال القدوري الحنفي: " إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز، وصار بعدها للفقراء ... " (2) .
وقال النفراوي المالكي: " وإن انقرض من حبست عليه الدار ونحوها رجعت حبساً على فقراء أقرب الناس بالمحبّس يوم المرجع ... وإن لم يوجد له قريب يوم المرجع فإنه يصرف للفقراء " (3) .
وقال الرملي الشافعي: " فإذا انقرض المذكور فالأظهر أنه يبقى وقفاً ... والأظهر: أن مصرفه أقرب الناس رحماً إلى الواقف يوم انقراض المذكور ... ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الريع لمصالح المسلمين، كما نص عليه البويطي في الأولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي، وابن الصباغ، والمتولي وغيرهم ... " (4) .
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
1 - أن الفقراء والمساكين أعم جهات الخير، ومصرف الصدقات وحقوق اللَّه تعالى من الكفارات ونحوها الفقراء دون الأغنياء، وأولى الناس بصدقته فقراء أقاربه (5) .
2 - أن أقارب المتصدق أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، وكذلك صدقته الموقوفة (6) ، يدل على ذلك:
... قول الرسول (: " الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة " (7) ، فإذا لم يوجد للوقف مستحق تعين الصرف للمحتاج من أقرباء الواقف دون غيرهم من المحتاجين، رعاية لجانب الواقف في زيادة الثواب (8) .
__________
(1) ... المصادر السابقة.
(2) ... مختصر القدوري مع اللباب 2/182.
(3) ... الفواكه الدواني 2/226-227.
(4) ... نهاية المحتاج 5/373-374.
(5) ... ينظر: المغني 8/212، والمبدع 5/327.
(6) ... ينظر: المغني 8/212.
(7) ... سبق تخريجه ص63.
(8) ... ينظر: المغني 8/212.(12/463)
3 - أن الرسول (قد حث على إغناء الأقارب بقوله: " إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " (1) . وفي صرف منافع الوقف إذا انقطع المستحق لها إلى المحتاج من الأقارب إغناء وصلة أرحامهم (2) .
4 - أن الأقارب ممن حث الشارع عليهم في جنس الوقف؛ لقوله (لأبي طلحة -رضي اللَّه عنه- لما أراد أن يقف بيرحاء: " أرى أن تجعلها في الأقربين " (3) . فهذا الحديث نص في محل النزاع، وهو أن الوقف خاصة يقدم فيه أقرباء الواقف (4) .
القول الثاني: أنه يصرف في مصالح المسلمين، فيرجع إلى بيت المال.
وهذا القول قال به بعض الشافعية (5) ، وهو رواية عند الحنابلة (6) .
وقال المرداوي الحنبلي: "وعنه رواية رابعة: يصرف إلى المصالح. جزم به في المنور، وقدمه في المحرر، والفائق وقال: نص عليه. قال: ونصره القاضي، وأبو جعفر ".
دليل هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول:
... قياس ريع الوقف منقرض الموقوف عليه على حال من لا وارث له بجامع أن كلا منها مال لا مستحق له، فيجعل في بيت المال (7) .
مناقشة الدليل:
... أن ريع الوقف إذا انقرض الموقوف عليه انتقل استحقاقه إلى أقارب الواقف المحاويج، ولا يقال إنه لا مستحق له، وذلك أن الوقف صدقة أراد بها واقفها دوام الثواب، فإذا انعدم الموقوف عليه تعين صرفها لقريب الواقف الفقير استدامة للثواب والأجر المضاعف لكونها على القريب. بخلاف مال من لا وارث له فهو ليس بصدقة ولم يقصد به دوام الأجر. واللَّه أعلم.
__________
(1) ... الحديث أخرجه البخاري في الجنائز باب رثاء النبي سعد بن خولة (ح1295) ، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (ح1628) .
(2) ... ينظر: المغني 8/212.
(3) ... سبق تخريجه ص12.
(4) ... انظر: تحفة المحتاج 6/253، والفواكه الدواني 2/227.
(5) ... روضة الطالبين 5/326.
(6) ... ينظر: المحرر 1/369، والفروع 4/590، والمبدع 5/327.
(7) ... ينظر: المغني 8/213.(12/464)
القول الرابع: أنه يصرف إلى مستحقي الزكاة.
... وهذا وجه عند الشافعية (1) .
قال النووي الشافعي في بيان أقوال الشافعية في مصرف ريع الوقف إذا انقرض الموقوف عليه: وفي مصرفه أوجه.... الرابع: إلى مستحقي الزكاة (2) .
دليل هذا القول:
استدل لهذا القول بقوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين (الآية (3) ، والوقف صدقة وقد أطلقها الواقف من غير تقييد.
مناقشة الدليل:
إن الآية محمولة على الفرض، والألف واللام فيها للعهد لا للعموم، أما صدقة التطوع فإن مصرفها الأقربون، بدليل أن أبا طلحة لما أطلق صدقته قال له النبي (: " أرى أن تجعلها في الأقربين " (4) .
القول الخامس: أن الوقف يرتفع ويرجع ملكاً للواقف.
وهو ضعيف للحنفية (5) ، وقول عند الشافعية (6) ، ورواية عند المالكية (7) ، والحنابلة (8) .
قال ابن عابدين الحنفي: " لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة فهي وقف بلا خلاف إذا لم يعين إنساناً، فلو عين وذكر مع لفظ الوقف لفظ صدقة بأن قال: صدقة موقوفة على فلان جاز ويصرف بعده إلى الفقراء، ثم ذكر بعده عن المنتقى أنه يجوز ما دام فلان حياً، وبعده يرجع إلى ملك الواقف، أو إلى ورثته بعده " (9) .
وقال النووي الشافعي: " إذا انقرض المذكور فقولان: أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكاً للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات " (10) .
__________
(1) ... انظر: روضة الطالبين 5/326.
(2) ... روضة الطالبين5/326.
(3) ... التوبة: 60.
(4) ... سبق تخريجه ص12.
(5) ... ينظر: البحر الرائق 5/214، وحاشية ابن عابدين 4/349.
(6) ... ينظر: روضة الطالبين 5/326.
(7) ... ينظر: الكافي لابن عبد البر 2/1014.
(8) ... ينظر: الفروع 4/590، والإنصاف 7/33.
(9) ... حاشية ابن عابدين 4/349.
(10) ... روضة الطالبين 5/326.(12/465)
وقال ابن عبد البر المالكي: من حبس على رجل بعينه ولم يقل على ولده ولا على عقبه، ولا جعل له مرجعاً مؤبداً فقد اختلف في ذلك قول مالك وأصحابه على قولين: أحدهما: أن ذلك كالعمرى تنصرف إلى ربها إذا انقرض المحبس عليه، وعلى هذا المدنيون من أصحابه ... وكذلك من قال مالي حبس في وجه كذا ليس من وجوه التأبيد، فعن مالك فيه روايتان.. الرواية الثانية: أنه إذا انقرض الوجه الذي جعل فيه رجع إليه ملكاً في حياته ولورثته بعده كالعمرى " (1) .
وقال شمس الدين ابن مفلح: "إذا وقف على جهة منقطعة ولم يزد صح، ويصرف بعدها إلى ورثته نسباً بقدر إرثهم منه ... وعنه يرجع إلى ملك واقفه الحي " (2) .
دليل هذا القول:
أن إبقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يتعرض له الواقف بعيد فتعين ارتفاعه (3) .
مناقشة الدليل:
أن الوقف لا يبقى بلا مصرف، فإذا انقرض الموقوف عليه سعينا لتحقيق غرض الواقف ما أمكن، ومعلوم أن من أعظم أغراض الوقف استدامة الثواب والاستكثار منه ولا أعظم أجراً من صرفه الصدقة إلى القريب الفقير فتصرف إليه، ومن بعده المصالح، ومن ذلك نشر العلم.
الترجيح:
__________
(1) ... الكافي لابن عبد البر 2/1014.
(2) ... الفروع 4/589-590.
(3) ... المغني 8/212.(12/466)
بعد هذا العرض يظهر لي - واللَّه أعلم - أن القول الأول القائل بصرف ريع الوقف للفقراء من أقارب الواقف، فإن لم يكن فعلى مصالح الواقف هو القول الراجح. وذلك أن القصد بالوقف الثواب الجاري على الواقف على وجه الدوام فيجب علينا مراعاة جانب الواقف في صرف وقفه في أفضل القربات، فتعين اعتبار الحاجة والمصلحة، لأن سد الحاجات، والقيام بالمصالح أهم الخيرات، فإذا كان من أقاربه من هو من أهل الحاجة تعين تقديمه، لأن أقارب الشخص أولى الناس بزكاته وصلاته (1) ، لما سبق من الأحاديث، ثم على المصالح إذا لم نجد مصرفاً من جهة شرط الواقف ولا من جهة إرادته، ومن المصالح صرفها على العلم، وما يتعلق بنشره، واللَّه أعلم.
المبحث الثالث: السبل الشرعية للحث على تحبيس الأموال على دور العلم، ومنها الجامعات (2)
إعادة الوقف إلى سابق عهده من تحبيس الأموال على العلم، وأربطته، ومشايخه وطلابه، وكل ما يتعلق بنشره، فإني أرى أن لذلك عدة طرق، منها ما هو في ميدان الدعوة، ومنها ما هو في ميدان السياسة والحكم، ومنها ما هو في ميدان الاقتصاد.
المطلب الأول: في ميدان الدعوة:
ولبلوغ ذلك في ميدان الدعوة، سبل منها ما يلي:
السبيل الأولى: نشر الوعي الديني بين أفراد الأمة:
فمن أهم السبل في سبيل عودة الأمة للاهتمام بالوقف على العلم، وما يتعلق به نشر الوعي الديني بين عامة الناس في فضل الإنفاق في سبيل اللَّه، والتنافس في ذلك طلباً لمرضاة اللَّه، ثم تخصيص الوقف على العلم بمزيد من ذلك، إحياءً لهذه السنة، وبيان ما يجتمع في الوقف على العلم من أنواع الأجر، وما يتميز به من ميزة الديمومة، وبيان فضل الإنفاق حال الصحة، وأن لا يمهل الإنسان حتى إذا أعياه المرض، وأعجزه الكبر قال: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا.
__________
(1) ... انظر: المغني 8/213.
(2) ... ينظر: أسباب انحسار الوقف في العصر الحاضر وسبل معالجته ص26-34.(12/467)
وقد توفر في وقتنا من وسائل التبليغ ما لم يكن في حسبان أحد، وعلى علماء الأمة الوفاء بهذا الجانب استنهاضاً للهمم، وقياماً بواجب التكليف الذي كلفوا به.
السبيل الثانية: إيقاظ الشعور الديني بوجوب التكافل والتساند:
ذلك أن الوقف على العلم سبيل من سبل الإنفاق في سبيل اللَّه، وما التقصير في الإنفاق في هذا الجانب إلا نتيجة من نتائج ضعف الشعور الديني بوجوب التكافل بين أفراد المجتمع المسلم، الذي شبهه (بالجسد الواحد فقال: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى" (1) .
وشبهه بالبنيان، فقال (في حديث أبي موسى رضي اللَّه عنه: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" (2) .
فالواجب على علماء الأمة، وولاة أمورها العمل على إيقاظ الأمة من هذه الغفلة، والعمل ابتداءً على تربية الأمة على التعاليم الإسلامية، التي تربي في المسلم الإحساس بمجتمعه، أفراداً وجماعات، والقيام بشيء من حقوق المجتمع، ومن ذلك رفع الجهل عن أفراده، ونشر العلم بينهم، وتذكي فيه روح التنافس في ذلك طلباً لمرضاة اللَّه.
السبيل الثالثة: نهضة المجامع الفقهية بما يخص الوقف على العلم، ومن ذلك الوقف على الجامعات:
__________
(1) ... سبق تخريجه ص16.
(2) ... أخرجه البخاري في المظالم، باب نصر المظلوم (ح2443) ، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين (ح2585) .(12/468)
تتابع المسلمون في أزمان طويلة إلى المسارعة في البذل قياماً بواجب التكافل والتآزر، وسد خلة المحتاج ونشر العلم، ورفع الجهل عن الأمة، إلا أنه ظهر من خلال التطبيق لهذه السنة الحسنة بعض المعوقات، وقد وجد لها في كل عصر ومصر، جهابذة وفوا للأمة حقها في حل تلك المشكلات، مراعين حال أزمانهم، وأهل أزمانهم، مقدمين مافيه جلب المصالح، ودفع المفاسد، فعلى هذه المجامع أن تنظر فيما يخص الوقف على العلم وكيف الإفادة من الأوقاف الموجودة، وسبل دفع الناس على التحبيس على العلم.
وقد وجدت للأوقاف مشاكل كثيرة، ومسائل شائكة، وأمور تحتاج إلى تجديد بما يناسب حال الناس اليوم، ويجد من الأقضية، فعلى المجامع الفقهية القيام بما يمليه التكليف الشرعي.
وأن تتولى المبادرة إلى بحث هذه المشكلات، وإيجاد المخرج الشرعي لها.
السبيل الرابعة: بث سير أهل الخير من أهل المسارعة:
ومما هو مفيد في نظري في بعث هذا الجانب بث سير أهل الخير ممن عرف عنهم المبادرة في الإنفاق ابتغاء وجه اللَّه، من الصحابة، والتابعين وأتباعهم، وخصوصاً ما يتعلق بالإنفاق على العلم، وقد تقدم شيء من نماذج ذلك (1) . رفعاً لذكرهم، وشحذاً للهمم في اللحاق بهم.
المطلب الثاني: في ميدان السياسة والحكم
السبيل الأولى: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية:
تمنع الأنظمة الوضعية المعمول بها في أكثر البلاد الإسلامية من إنشاء الوقف بصورته المعهودة في الشرع.
وقد كان هذا سبباً جوهرياً لانحسار الوقف، وخصوصاً الوقف على العلم، وكان من نتيجة ذلك أن حرمت تلك البلدان خيراً وفيراً، ونبعاً زلالاً، ورافداً مهماً من روافد العطاء.
ولا مخرج من هذا إلا بالعودة إلى تحكيم شرع العزيز الحكيم، والعودة إلى ذلك كفيلة بإعادة الوقف إلى سالف عهده المجيد؛ إذ هو أحد روافد العطاء في سائر المجالات، وخصوصاً مجالات العلم.
السبيل الثانية: فتح باب القدوة:
__________
(1) ... ص28-42.(12/469)
ومما له الأثر البيّن في حث الناس، ومسارعتهم في هذا الجانب، فتح باب القدوة في هذا الموضوع، فعلى ولاة الأمر والعلماء ووجهاء المجتمع البدء بالمسارعة إلى هذا الخير وتحبيس الأوقاف على دور العلم وإنشاء الأربطة، وطبع الكتب ونشرها، وقد تقدم شيء من نماذج ذلك (1) ، تحقيقاً لمبدأ التعليم بالقدوة.
السبيل الثالثة: ترك الحرية للواقف في إدارة وقفه إذا رغب:
أقدمت بلدان إسلامية عديدة على حصر إدارة الأوقاف الخيرية على نفسها، ومنعت الواقفين من تولي ذلك بأنفسهم أو بناظر ينصبه الواقف. بل سنت لأنفسها حق التغيير في مصارف الوقف، وغالباً ما يخالف التغيير مقاصد الواقفين، وكان هذا سبباً في إحجام الناس عن الوقف إحجاماً كلياً، وبذلك سد باب كبير من أبواب الخير.
المطلب الثالث: في ميدان الاقتصاد
السبيل الأولى: الاهتمام بالأوقاف الموجودة:
مع ما ذكرنا فيما سبق من ضياع أوقاف كثيرة في بلاد إسلامية عديدة، فقد سلمت أوقاف كثيرة وهي في مواضع مثمنة جداً، وهي بقيمها كافية لسد ثغرة عظيمة من حاجات الأمة، والواجب فيما نحن فيه المحافظة على هذه الأوقاف، والنظر في شروط الواقفين، ومدى الإفادة منها في صرف ريعها على دور العلم، ومنها الجامعات (2) .
__________
(1) ... ينظر: ص28-38.
(2) ... وقد سبق البحث في إمكانية الإفادة من الوقف على دور العلم إذا انقرض الموقف عليه، أو إذا جعل الواقف ريع الوقف في طرق الخير والبر والثواب، ومدى إمكانية تغيير شرط الواقف لما هو أصلح.(12/470)
وعلى الجهات المسؤولة أن تجتهد فيما فيه وفرة الإنتاج منها، وأن تعمل على إشراك العلماء فيما يعرض من إشكال عند وجود الغبطة في المشاركة، أو المناقلة، أو البيع عند التهدم، ونقل الوقف إلى موضع آخر، والنظر في شرط الواقف، وإمكان تغييره إلى ما هو أصلح مما لا يخل بغرضه وقصده، وغير ذلك مما يقتضيه الفقه، وتحتمه المصلحة، ويتحقق معه قصد الواقف، ويبتعد بذلك عن الوقوع في إضاعة المال.
السبيل الثانية: العمل على إعادة الضائع من أصول الوقف:
ضياع كثير من أعيان الوقف لأسباب كثيرة، ومن الواجب على الأمة وولاة الأمر فيها خاصة بذل الجهد العظيم في العمل على إعادة هذه الأوقاف، وقد يزع اللَّه بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والنظر في إمكانية الإفادة من هذه الأوقاف وصرف ريعها على دور العلم، ومنها الجامعات (1) .
فللسلطان بهيبته وأعوانه، ما يستطيع به أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يجعل من عمله هذا باعثاً للأحياء على الاقتداء بالأموات، وذلك لما يشاهده الأحياء من وفرة الحرمة لوقفهم بعد الممات.
السبيل الثالثة: وضع خطة اقتصادية ترعى حاجات الأمة فيما يتعلق بالوقف على الجامعات:
رأينا فيما سبق كيف كان الوقف رافداً مهماً في دعم العلم، والدور الذي كان يقوم به في تخفيف العبء عن بيت المال، وذلك بتكفله بجوانب مهمة، الاهتمام بها كفيل بإعادة الهيبة للأمة، وسبب لتنزل الرحمة.
ولهذا فإني أرى أن من أهم السبل في الوقف على الجامعات أن تتولى الجهات المسؤولة عن الوقف أمر القيام بوضع خطة اقتصادية ترعى حاجات الأمة في هذا الجانب، وعليها في ذلك أن تستقطب الخبراء من أهل الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، والتخطيط والإدارة، وبلاد الإسلام مليئة منهم، حتى إذا تم إعداد هذه الخطط طرحت هذه المشاريع، وعرضت على أثرياء الأمة، بتكلفتها، والمردود المرجو منها.
__________
(1) ... ينظر الحاشية من هذا البحث ص83.(12/471)
فهذا أفضل في نظري من الدعوة المجردة للبذل، أو للوقف، وفي ظني ومن واقع ما نشاهده من انبعاث جانب البذل والإنفاق في سبيل اللَّه من نفر غير قليل من أثرياء الأمة، أن هذا من أنجح السبل، وأنجع الدواء.
السبيل الرابعة: قيام مؤسسات اقتصادية ترعى الأوقاف على العلم، ومن ذلك الجامعات:
تقدمت في وقتنا علوم الاقتصاد، وقننت أنظمة الإدارة، والمحاسبة، وشؤون المال، فحسماً لباب الاسترخاء، وقطعاً للظنون المثبطة - أن تكون الجهة الناظرة، هي المحاسبة- ينبغي العمل على إيجاد مؤسسات متخصصة، تقوم على إدارة الوقف، فتتسلمه من وزارة الأوقاف، أو من صاحبه إذا رغب، بجزء معلوم من ريعه، على أن تخضع هذه المؤسسات لرقابة قضائية مشتركة، وتخضع لنظام محاسبي واضح، ومنشور.
وبهذا تحل عقدة كبيرة، منعت كثيراً من أهل البذل من المشاركة في هذا الباب من البر.
السبيل الخامسة: الاستفادة من التجارب المعاصرة:
قامت في بلدان عديدة، في الآونة الحاضرة، جهود عديدة، فردية وجماعية، للدعوة إلى إحياء سنة الوقف، وقد أثمرت هذه الجهود عن نواة لمشاريع وقفية عديدة، منها ما هو في طور البناء والتشييد، ومنها ما أينعت ثماره وبدأ في إتيان أكله.
ولا شك أن هذه الجهود قد مرت بتجربة، واستفادت من أخطاء، فحبذا لو تم التخاطب، وتبادل الزيارات بين الجهات المختصة في كل بلد مع أصحاب تلك الجهود، تلافياً للأخطاء المستقبلية، ومنعاً للتكرار.
السبيل السادسة: فتح باب المساهمة في الوقف الجماعي:
وذلك تطبيقاً لقاعدة: ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وقاعدة: القليل من الكثير كثير.
فتعم بذلك المشاركة في الخيرات، ولا يحرم من قصد الثواب والمبرات، وتجتمع فيه نيات المشاركين، وأموالهم، وتوجهاتهم إلى اللَّه بالإخلاص في أعمالهم.(12/472)
وقد قال (فيما رواه عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه: " من بنى مسجداً لله بنى اللَّه له في الجنة مثله " (1) . وفي لفظ: " ولو كمفحص قطاة" (2)
__________
(1) ... أخرجه مسلم في الزهد، باب فضل بناء المساجد (ح533) .
(2) ... أخرجه الإمام أحمد 1/241.
المصادر والمراجع
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: ترتيب علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت739هـ) ، ط: مؤسسة الرسالة، الأولى 1408هـ.
أحكام الوقف: لهلال بن يحيى الرأي (ت245هـ) : ط. الأولى سنة 1355هـ، دار المعارف العثمانية، الهند.
أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية: محمد بن عبيد الكبيسي، مطبعة الإرشاد بغداد 1397هـ.
الاختيار لتعليل المختار: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، علق عليه: الشيخ محمود أبو دقيقة، دار الدعوة.
الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: علاء الدين علي بن محمد البعلي (ت803هـ) ، المؤسسة السعيدية - الرياض.
الإسعاف في أحكام الأوقاف: إبراهيم بن موسى الطرابلسي، ط. دار الرائد العربي، بيروت.
الأشباه والنظائر: لابن نجيم، دار الفكر - بيروت.
إعلام الموقعين عن رب العالمين: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت751هـ) ، دار الجيل - بيروت.
الإفصاح عن معاني الصحاح: لأبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي (ت560هـ) ، الناشر: المؤسسة السعيدية - بالرياض.
الإقناع: لأبي النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي (ت968هـ) ، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: لمحمد الشربيني الخطيب، الناشر: دار المعرفة - بيروت 1398هـ. بهامشه تحفة الحبيب.
الأم: لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) ، دار الفكر، الطبعة الثانية 1403هـ.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: علاء الدين أبي الحسن علي ابن سليمان المرداوي الحنبلي (ت885هـ) ، مطبعة السنة المحمدية، الطبعة الأولى 1376هـ.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق: زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن نجيم، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت587هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
البداية والنهاية: ابن كثير (ت774هـ) ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت595هـ) ، دار القلم - بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، نشر دار الكتاب الإسلامي، مطبعة الفاروق الحديثة - القاهرة، الطبعة الثانية.
تحفة المحتاج بشرح المنهاج: لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، دار الفكر، بهامش حاشيتي الشرواني والعبادي.
تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت774هـ) ، دار الفكر - بيروت.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني (ت582هـ) ، الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، دار الفكر، تاريخ الطبع 1405هـ.
الجامع الصحيح: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) ، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية - القاهرة، الطبعة الأولى 1400هـ.
الجامع الصحيح (سنن الترمذي) : لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت279هـ) ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة الثانية 1398هـ.
الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي (ت671هـ) ، صححه أحمد عبد العليم البردوني، دار الفكر، الطبعة الثانية.
الجوهر النقي: لعلاء الدين بن علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني (ت745هـ) ، دار الفكر، مع السنن الكبرى للبيهقي.
حاشية إبراهيم الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي: ط. دار المعرفة، بيروت.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر.
حاشية رد المحتار على الدر المختار: محمد أمين الشهير بابن عابدين، دار الفكر 1399هـ.
حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح: أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي (ت1231هـ) ، دار الإيمان - بيروت.
الخرشي على مختصر خليل: محمد الخرشي المالكي، دار الكتاب الإسلامي - القاهرة.
رحلة ابن جبير (ت614هـ) : دار صادر، بيروت.
روضة الطالبين وعمدة المفتين: لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت676هـ) ، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1405هـ.
سنن أبي داود: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت275هـ) ، ط. دار الحديث للطباعة والنشر - بيروت، الأولى 1388هـ.
سنن ابن ماجه: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) ، دار الفكر - بيروت.
سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني (ت385هـ) ، تحقيق: عبد الله هاشم يماني المدني، دار المحاسن - القاهرة.
سنن الدارمي: لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي (ت255هـ) ، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ.
السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت458هـ9، دار الفكر.
سنن النسائي (المجتبى) : لأحمد بن شعيب النسائي، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
سير أعلام النبلاء: لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) ، أشرف على تحقيقه وخرج أحاديثه شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الرابعة 1406هـ.
شرح الزركشي على مختصر الخرقي: محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي (ت772هـ) ، تحقيق الشيخ / عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين، شركة العبيكان للطباعة والنشر.
الشرح الصغير: أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1372هـ، بهامش بلغة السالك للصاوي.
الشرح الكبير: لأبي البركات أحمد الدردير، دار الفكر، بهامش حاشية الدسوقي.
الشرح الكبير: شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد ابن قدامة المقدسي (ت682هـ) ، دار الكتاب العربي - بيروت، 1403هـ مع المغني لموفق الدين عبد الله بن قدامة.
الشرح الكبير مع الإنصاف: المؤلف السابق، ت: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط. دار هجر، الأولى 1417هـ.
شرح منتهى الإرادات: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت1051هـ) ، دار الفكر.
صبح الأعشى في صناعة الإنشا: أحمد بن علي القلقشندي (ت821هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الأول 1407هـ.
الصحاح: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الثانية 1399هـ.
صحيح ابن خزيمة: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (ت311هـ) ، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1412هـ.
صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت261هـ) دار إحياء التراث العربي.
صحيح مسلم بشرح النووي: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت.
فتاوى قاضي خان: لحسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني الحنفي (ت295هـ) ، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثالثة 1400هـ مع الفتاوى الهندية.
الفتاوى الهندية، المسماة بالفتاوى العالمكيرية: جماعة من علماء الهند، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثالثة.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد الدين الخطيب، ترقم: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية - القاهرة، الطبعة الرابعة 1408هـ.
فتح القدير: لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي ثم السكندري (ابن الهمام) (ت681هـ) ، دار الفكر، الطبعة الثانية.
فتح الوهاب: لأبي يحيى زكريا الأنصاري (ت925هـ) ، ط. دار المعرفة - بيروت.
الفروع: لشمس الدين المقدسي أبي عبد الله محمد بن مفلح (ت763هـ) ، الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة.
الفواكه الدواني: أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي المالكي (ت1120هـ) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة 1374هـ.
الكافي في فقه أهل المدينة: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ.
الكتاب: لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري البغدادي الحنفي (ت428هـ) ، المكتبة العلمية - بيروت 1400هـ، مع اللباب في شرح الكتاب للميداني.
كشاف القناع عن متن الإقناع: منصور بن يونس إدريس البهوتي، دار الفكر - بيروت 1402هـ.
اللباب في شرح الكتاب: لعبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي، المكتبة العلمية - بيروت 1400هـ.
لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت711هـ) ، دار صادر - بيروت، الطبعة الأولى.
المبدع في شرح المقنع: لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد ابن مفلح (ت884هـ) ، المكتب الإ سلامي 1980م.
المبسوط: محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة - بيروت 1406هـ
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: لعبد الرحمن بن محمد الحنفي (ت1078هـ) ط. الأولى 1317هـ، دار إحياء التراث العربي.
مجموع فتاوى شيخ الإ سلام أحمد بن تيمية: جمع / عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، طبع بإدراة المساحة العسكرية بالقاهرة 1404هـ.
المحرر في الفقه: مجد الدين أبو البركات، عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية الحراني (ت652هـ) ، مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الثانية 1404هـ.
المحلى: لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت456هـ) ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار التراث - القاهرة.
المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ.
المسند: للإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الخامسة 1405هـ.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (ت770هـ) ، دار الفكر.
مطالب أولي النهى بشرح غاية المنتهى: لمصطفى السيوطي الرحيباني، ط. الأولى 1380هـ، المكتب الإسلامي.
المطلع على أبواب المقنع: لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي المفلح البعلي الحنبلي (ت709هـ) ، المكتب الإسلامي - بيروت 1401هـ.
معجم البلدان: ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، دار صادر، بيروت، 1404هـ.
المعجم الكبير: للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) ، مكتبة ابن تيمية، ط. الأولى، ت: حمدي السلفي.
معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر 1399هـ.
المغني: لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت620هـ) ، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1409هـ.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: لمحمد الشربيني الخطيب، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار نهضة مصر للطباعة، القاهرة.
المناقلة والاستبدال بالأوقاف: ابن قاضي الجبل (ت771هـ) ، ط. الأولى 1409هـ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: أحمد بن علي المقريزي (ت845هـ) ، دار صادر، بيروت.
مواهب الجليل: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب (ت954هـ) ، دار الفكر، الطبعة الثانية 1398هـ.
النهاية في غريب الحديث: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري (ابن الأثير) (ت606هـ) ، المكتبة العلمية - بيروت.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي (ت1004هـ) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، طبع سنة 1386هـ.
بحوث ومجلات:
أسباب انحسار الوقف في العصر الحاضر، وسبل معالجته: د. صالح بن عبد الله اللاحم، بحث مقدم لوزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
التصرف في الوقف: د. إبراهيم بن عبد العزيز الغصن، رسالة دكتوراه.
مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، عدد (382) .
دور الأوقاف في دعم الأزهر: د. محمد بن سعيد رمضان، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.(12/473)
وهذا المثال من النبي (يدل على أن من ساعد على عمارة المسجد ولو بشيء قليل بحيث تكون حصته من المسجد هذا المقدار - وهو مفحص القطاة- استحق هذا الثواب الجزيل.
وفي ظني أن هذا السبيل من أنجح الوسائل، بل هي أفضلها على الإطلاق، وقد جربت في عدد من المشاريع الخيرية، ونجحت نجاحاً باهراً، مع مافيها من التحرر من قيود الواقفين، وإخفاء من يرغب في إخفاء صدقته من المحسنين.
السبيل السابعة: الاستفادة من الجمعيات الخيرية الموجودة:
ذكرنا فيما سبق أن من أولويات العمل على بعث الوقف على العلم، ومن ذلك الجامعات من جديد، وضع خطة اقتصادية متينة مدروسة، وأن يتولى أمر ذلك نخبة منتقاة من علماء الاقتصاد، والتخطيط والإدارة، كما ذكرنا فتح الباب للوقف الجماعي.
ومما يفيد جداً في هذا الجانب الاستعانة بخبرة الجمعيات الخيرية، فقد عملت في أوساط الحاجة، وتلمست مواطن الإنفاق، وتجمع لديها خبرة في هذا الجانب لا يمكن الحصول عليها من غيرها.
السبيل الثامنة: العمل على الاستفادة من التجارب الحالية للدول غير المسلمة على أن توضع في إطار إسلامي.
* * *
الخاتمة:
النتائج والتوصيات
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبعد العرض السابق لبحث " الأوقاف في العصر الحديث، كيف نوجهها لدعم الجامعات وتنمية مواردها "، تظهر النتائج التالية:
أن الوقف في الاصطلاح: تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً لله تعالى.
ثبوت شرعية الوقف بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم.
أن للوقف هدفاً عاماً يتمثل من القيام بما أوجبه اللَّه على المسلمين من التعاون والتكافل والتراحم، وهدفاً خاصاً يتمثل في تحقيق رغبة خاصة قائمة في نفس المسلم يدفعه إلى تحقيقها دوافع دينية وغريزية وواقعية واجتماعية.
وجود فكرة الوقف في الأمم قبل الإسلام.(12/474)
تسابق المسلمين حكاماً ومحكومين منذ القرن الأول على تحبيس الأموال على العلم وما يتعلق بنشره، من مدارس ومعاهد، مكتبات، وغير ذلك.
إمكانية الإفادة من الأوقاف الموجودة في دعم الجامعات، بتغيير شرط الواقف عند المصلحة إذا كان تغييره من أدنى إلى أعلى، واتفق مع غرض الواقف، وكذا نقل الوقف من محلة إلى أخرى، عند المصلحة، واتفق مع غرض الواقف.
الإفادة من الأوقاف المنقطعة في دعم العلم بعد أقارب الواقف، وكذا الوقف المطلق.
السبل الشرعية لتوجيه الأوقاف في دعم الجامعات كثيرة، منها ما هو في ميدان الدعوة، ومنها ما هو في ميدان السياسة والحكم، ومنها ما هو في ميدان الاقتصاد.
وأما التوصيات:
فمن خلال العرض السابق يظهر لي الأخذ بالتوصيات الآتية:
أولاً: العمل على ترسيخ فكرة عدم حصر الخيرية فقط في بناء المساجد، والإنفاق على الفقراء ونحوها، وتنشيط مبدأ الوقف الثقافي، وإحياؤه، وإعادته إلى الأذهان، وتشجيع الموسرين عليه، وبيان حاجة المجتمع إلى الوقف الثقافي الذي يخدم شريحة كبيرة منه.
ثانياً: العمل على قيام مؤسسات وقفية ثقافية، ووجود نظام لها متكامل من الجوانب الشرعية، والاقتصادية، والإدارية، تستطيع كسب ثقة الموسرين الخيرين، وتحقق شروط الواقفين.
ثالثاً: طباعة الأبحاث المقدمة للمجلة؛ لتكون مرجعاً هاماً في هذا الباب.
أسأل اللَّه عز وجل التوفيق والسداد، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(12/475)
من أحكام مس القرآن الكريم
دراسة فقهية مقارنة
د. عمر بن محمد السبيل (رحمه الله) *
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى
ملخص البحث
هذا البحث استكمال لبحث سابق أوضحت فيه حكم الطهارة لمس القرآن الكريم، وفي هذا البحث أوضحت بقية الأحكام المتعلقة بالمس، ببيان ما يصدق عليه اسم المصحف فيحرم مسُّه على غير طهارة، وما لا يدخل في مسمى المصحف فيجوز مسُّه، ثم أوضح البحث أن المس المحرم للمصحف على المحدث إنما هو المس المباشر من غير حائل سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسم، ثم يبين البحث حكم مس ما كتب فيه قرآن من كتب العلم، وغيرها كالدراهم ونحوها، وحكم مس ما نسخت تلاوته من آيات القرآن ونحوها كالأحاديث القدسية، وحكم مس الكتب السماوية الأخرى غير القرآن، وحكم مس الأشرطة التي سجل فيها قرآن، ثم بيان حكم كتابة القرآن بغير اللغة العربية، وحكم كتابته للمحدث والكافر، ثم بيان جواز مس القرآن الكريم على المحدث عند الضرورة، وانتهى البحث ببيان أهم النتائج المستخلصة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
_______________
(*) توفي –رحمه الله – يوم الجمعة غرة شهر الله الحرام من عام 1423هـ، وصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر من يوم السبت، وقد تبع جنازته خلق من طلاب العلم ومحبي الشيخ –رحمه الله – وقد كان معروفاً بالتواضع، ولين الجانب، وحسن الخلق، وأمّ المصلين في المسجد الحرام لسنواتٍ.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق وأن كتبت بحثًا بعنوان (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم) وقد توصلت من خلاله إلى أن الراجح من قولي العلماء تحريم مس المصحف على البالغ (1)
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() أما الصغير فقد توصلت من خلال ذلك البحث إلى أن الراجح من أقوال أهل العلم جواز مسه للمصحف لضرورة التعلم فقط وهو مذهب الأئمة الأربعة إلا الحنابلة في الصحيح من مذهبهم فإنهم يرون جواز مسه للوح المكتوب فيه شيء من القرآن فقط.(12/476)
المحدث حدثًا أصغر إذ هو المنقول عن الصحابة وجل التابعين، وبه قال جمهور الأئمة المجتهدين، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهو الذي عليه العمل والفتوى في مختلف العصور والأمصار، كما قال ابن عبد البر: (أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر) (1) ، ثم رأيت إتمامًا للفائدة بحث بقية ما يتعلق بمس القرآن الكريم من أحكام ومسائل، لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل في ذلك، فتم إعداد هذا البحث بعنوان (من أحكام مس القرآن الكريم دراسة فقهية مقارنة) وقد انتظم في مقدمة وثمانية مطالب وخاتمة.
وقد سلكت فيه المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا، بذكر آراء العلماء في كل مسألة من مسائله وأدلتها، مع بيان الراجح من تلك الآراء، مبينًا وجه الترجيح.
فأسأل الله عز وجل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المطلب الأول: في بيان ما يشمله اسم المصحف
أولاً: نص فقهاء المذاهب الأربعة على أن اسم المصحف يشمل المكتوب منه، وما بين سطوره، وحواشيه، وغلافه المتصل به؛ لأنه يتبعه في البيع. وعلى هذا فقد صرحوا: بأنه لا يجوز للمحدث أن يمس شيئًا من ذلك كله في الصحيح من مذاهبهم، وأن حكم البعض من المصحف، والجزء منه كحكمه كله في تحريم مس شيء منه على البالغ (2) ودونك أقوالهم المصرحة بذلك:
__________
(1) الاستذكار، 8/10.
(2) وكذا الصغير على القول بأن حكمه حكم الكبير في تحريم مس المصحف عليه، أما على القول بجواز مسه للمصحف لحاجة التعليم، فالحكم ظاهر.(12/477)
قال في الهداية شرح البداية: (وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه ... وغلافه ما يكون متجافيًا عنه، دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح) (1) .
وقال في البحر الرائق: (لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره) (2) .
وقال في الذخيرة: (ومس المصحف، أو جلده، أو حواشيه، أو بقضيب، لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفًا للاتصال) (3) .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (عن ابن حبيب سواء كان مصحفًا جامعًا أو جزءً، أو ورقة فيها بعض سورة، أو لوحًا، أو كتفًا مكتوبة اهـ ولجلد المصحف قبل انفصاله منه حكمه، وأحرى طرف المكتوب، وما بين الأسطر) (4) .
وقال في المجموع: (وسواء مس نفس الأسطر، أو ما بينها، أو الحواشي، أو الجلد، فكل ذلك حرام، وفي مس الجلد وجه ضعيف: أنه يجوز، وحكى الدارمي وجهًا شاذًا بعيدًا: أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي، ولا ما بين الأسطر، ولا يحرم إلا نفس المكتوب. والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع) (5) .
وقال في معونة أولي النهى: (ويحرم بالحدث أيضًا مس مصحف أو بعضه ... والحكم شامل لما يسمى مصحفًا من الكتاب، والجلد، والحواشي، والورق الأبيض، فلهذا قلت: (حتى جلده وحواشيه، بدليل: البيع) (6) .
__________
(1) 1/31 وقال ابن عابدين في حاشيته، 1/315: (فالمراد بالغلاف ما كان منفصلاً كالخريطة، وهي الكيس ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف منه حتى يدخل في بيعه بلا ذكر) .
(2) 1/211 وانظر أيضًا: بدائع الصنائع، 1/33-34؛ فتح القدير، 1/169.
(3) 1/237.
(4) 1/125 وكذا نحوه في حاشية الصاوي على الشرح الصغير، 1/222.
(5) 1/74، وانظر: المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/190، مغني المحتاج، 1/37.
(6) 1/374-375 وانظر: الإنصاف، 1/223، كشاف القناع، 1/134.(12/478)
وذهب بعض الحنفية (1) ، وبعض الشافعية (2) ، وبعض الحنابلة (3) : إلى أن المحرم إنما هو مس المكتوب منه فقط، فلا يدخل في التحريم مس مواضع البياض منه معللين لذلك: بأن الماس له لم يمس القرآن.
قال بعض الحنفية: وهذا مقتضى القياس، وإن كان القول بالتحريم أقرب إلى إجلال القرآن وتعظيمه (4) .
قال في بدائع الصنائع: (وقال بعض مشايخنا: إنما يكره (5) له مس الموضع
المكتوب دون الحواشي؛ لأنه لم يمس القرآن حقيقة، والصحيح أنه يكره مس كله؛ لأن الحواشي تابعة للمكتوب، فكان مسها مسًا للمكتوب) (6) .
وقال ابن مفلح في الفروع: (وقيل- يعني إنما يحرم – كتابته، واختاره في الفنون – يعني ابن عقيل – لشمول اسم المصحف له فقط، لجواز جلوسه على بساط على حواشيه كتابة) (7) .
ورجحان القول الأول وهو تحريم المس لكل ما يشمله اسم المصحف أمر ظاهر لقوة دليله، ووجاهة تعليله.
ثانيًا: واختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس غلاف المصحف المنفصل عنه كالخريطة والعلاقة التي يحفظ بها المصحف سواء كانت من ثوب أو جلد، وكذا الصندوق الخاص بحفظ المصحف فيه هل يحرم مس شيء من ذلك في حالة كون المصحف فيها أم لا يحرم؟ في ذلك قولان مشهوران للفقهاء:
القول الأول: أنه لا يحرم مس شيء من ذلك.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع، 1/34، البحر الرائق، 1/211، حاشية ابن عابدين، 1/488.
(2) انظر: المجموع، 1/74.
(3) انظر: الفروع، 1/188، الإنصاف، 1/223، معونة أولي النهى، 1/375.
(4) انظر: البحر الرائق، 1/211، حاشية ابن عابدين، 1/488 وقال: (والصحيح المنع) .
(5) قوله: (يكره) أي كراهة تحريم كما نص عليه كثير من فقهاء الحنفية، وانظر: فتح القدير 1/169.
(6) 1/34.
(7) 1/188.(12/479)
وبه قال الحنفية (1) ، والشافعية في قول (2) ، والحنابلة في الصحيح من المذهب (3) .
وروي القول به عن الحسن البصري، وعطاء، وطاووس، والشعبي، والقاسم بن محمد، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان وغيرهم (4) مستدلين لذلك بما يأتي:
1 - أن الماس لغلاف المصحف المنفصل ونحوه لم يباشر مس المصحف والنهي إنما يتناول مس المصحف مباشرة من غير حائل (5) .
2 - أن انفصال الغلاف ونحوه عن المصحف، وعدم اتصاله به دليل على عدم شمول اسم المصحف له فلا يأخذ حكمه في تحريم المس، بدليل: أنه لا يأخذ حكمه في البيع، فلا يتبع المصحف في البيع إلا بشرط (6) .
القول الثاني: أنه يحرم مس شيء من ذلك.
وبه قال المالكية (7) ، والشافعية في أصح الوجهين (8) ، والحنابلة في قول (9) ، وبه قال الأوزاعي (10) .
وعللوا لذلك: بأن الغلاف ونحوه متخذ للمصحف، ومقصود له، فيكون كجلد المصحف المتصل به في التحريم (11) ، تكرمة للقرآن وتعظيمًا له (12) .
__________
(1) انظر: الهداية، 1/31؛ الجوهرة، 1/35؛ البحر الرائق، 1/211.
(2) انظر: روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/37.
(3) انظر: الإنصاف، 1/224، الإقناع، 1/41.
(4) انظر: المصاحف لأبي داود، ص، 215؛ شرح السنة، 2/48؛ المغني، 1/147.
(5) انظر: المغني، 1/148، مغني المحتاج، 1/37.
(6) انظر: المغني، 1/148، بدائع الصنائع، 1/34، البناية شرح الهداية، 1/649.
(7) انظر: الذخيرة، 1/237؛ الشرح الصغير، 1/223.
(8) انظر: روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/37.
(9) انظر: الفروع، 1/189، الإنصاف، 1/224.
(10) انظر: المغني، 1/147.
(11) انظر: المجموع، 1/74، مغني المحتاج، 1/37.
(12) انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.(12/480)
والذي يظهر لي أن الراجح من هذين القولين: هو القول بعدم التحريم، لقوة ما استدل به أصحابه، ووجاهة ما عللوا به، وللفرق الظاهر بين الغلاف المنفصل والمتصل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ترجيحه لهذا القول: (والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه إنما تراد لتعليقه وهو مقصود زائد على مقصود المصحف، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه) (1) .
المطلب الثاني: في بيان المراد بالمس المحرم
أولاً: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم على أن مس المصحف للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر باليد، أو بغيرها، من أعضاء الوضوء، أو سائر أجزاء البدن، كتقبيله أو مسه بصدر أو ظهر ونحوها مباشرة من غير حائل يعتبر محرمًا، وذلك لصدق اسم المس عليه، فيدخل في عموم النهي عن مس القرآن على غير طهارة؛ لأن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه (2) ؛ ولأن من اللائق بتعظيم المصحف وتكريمه تحريم المس في أعضاء البدن وأجزائه كلها (3) .
وذهب الحكم بن عتبة، وحماد بن أبي سليمان إلى جواز مس القرآن بظاهر الكف وسائر أجزاء البدن، وأنه لا يحرم إلا المس بباطن اليد فقط.
معللين لذلك: بأن آلة المس هي باطن الكف، فينصرف إليها النهي دون غيرها من أعضاء البدن وأجزائه.
وقد ضعف ابن قدامة هذا القول، ورده بقوله: (وقولهم إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح، فإن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه) (4) .
__________
(1) شرح العمدة، ص، 385.
(2) انظر: المغني، 1/147، الشرح الكبير، 1/95.
(3) انظر: مطالب أولي النهى، 1/154.
(4) انظر: المغني، 1/147، الشرح الكبير، 1/95، معونة أولي النهى، 1/375.(12/481)
وذهب الحنفية والحنابلة في قول في كلا المذهبين: إلى أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف بغير أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث لا يحل فيها، وإلى جواز مس المصحف بما غسل من أعضاء الوضوء، قبل إكماله، لارتفاع الحدث عنها (1) .
ولا شك في رجحان القول الأول وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم لقوة ما استدلوا به، ووجاهة ما عللوا به، ودونك أقوالهم المصرحة بذلك:
قال في حاشية البحر الرائق: (قال العلامة الزيلعي: ولا يجوز له مس المصحف بالثياب التي يلبسها؛ لأنها بمنزلة البدن ... وهذا يفيد: أنه لا يجوز حمله في جيبه، ولا وضعه على رأسه مثلاً بدون غلاف متجاف، وهذا مما يغفل عنه كثير، فتنبه) (2) .
وقال الدردير في الشرح الكبير: (ومَنَعَ حدثٌ أصغر، وكذا أكبر ... صلاة، وطوافًا، ومس مصحف كتب بالعربي، لا بالعجمى إن مسه بعضو، بل وإن مسه بقضيب أي عود) (3) .
وقال في مغني المحتاج: (ويحرم بالحدث ... وحملُ المصحف، ومسُّ ورقه المكتوب فيه، وغيره بأعضاء الوضوء، أو بغيرها، ولو كان فاقدًا للطهورين، أو مسه من وراء حائل، كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه) (4) .
__________
(1) انظر: الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/316، الفتاوى الهندية، 1/39، الإنصاف، 1/225.
(2) 1/212، وانظر: فتح القدير، 1/169.
(3) 1/125، وانظر: جواهر الإكليل، 1/21.
(4) 1/36-37، وانظر: المهذب حيث قال: (لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهره وإن كانت الطهارة تجب في غيره ... ) ؛ حاشية البيجوري 1/221، وقال: (والمراد مسه بأي جزء لا بباطن الكف فقط، كما توهمه بعضهم) .(12/482)
وقال في مطالب أولي النهى: (ويحرم أيضًا مس مصحف وبعضه ... بيد وغيرها كصدر، إذ كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه، ويتجه: أنه يحرم مسه حتى بظفر، وشعر، وسن قبل انفصالها عن محلها، تعظيمًا له واحترامًا، وهو متجه) (1) .
ثانيًا: اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس أو حمل المحدث للمصحف من وراء حائل، وكذا تقليب أوراقه بعود ونحوه، أو حمله ضمن أمتعة، وبيان أقوال كل مذهب في هذه المسائل بالتفصيل على النحو التالي:
مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية في الصحيح من المذهب إلى أنه يكره كراهة تحريم أن يمس المصحف بكم أو غيره من ثيابه المتصلة ببدنه، دون ما انفصل عنه، معللين لذلك: بأن الكم تابع ليد الماس، فكما يحرم المس باليد، يحرم بالكم بحكم التبعية، وكذا سائر الثوب المتصل به.
__________
(1) 1/154، وانظر: الإقناع، 1/40؛ منتهى الإرادات، 1/27، والشرح الكبير، 1/95، حيث قال: (لا يجوز مسه بشيء من جسده، قياسًا على اليد) ، وقال الزركشي في شرح الخرقي، 1/211: (وقول الخرقي رحمه الله: لا يمس، يشمل مسه بيده، وسائر جسده) .(12/483)
والقول الآخر في المذهب: أن ذلك لا يكره، لعدم مباشرة اليد ونحوها للمس؛ لأن التحريم خاص بالمس مباشرة من غير حائل، وبهذا قال محمد بن الحسن واختاره صاحب الكافي، وغيره (1) ، قال في البناية شرح الهداية: (ويكره مسه بالكم أي مس المصحف بكم الماس هو الصحيح؛ لأنه تابع له أي كون مسه بالكم مكروهًا هو الصحيح، وفي المحيط: لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد؛ لأن المحرم هو المس، وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ... وفي الذخيرة عن محمد: أنه لا بأس بالمس بالكم، وقيل عنه روايتان) (2) .
ويجوز للمحدث عندهم تقليب أوراق المصحف بقلم، أو عود، أو سكين، ونحوها لعدم صدق المس عليه (3) .
مذهب المالكية:
نص المالكية على أنه لا يجوز للمحدث حمل المصحف الكامل من وراء حائل، كثوب، أو وسادة، أو حمله بخريطة، أو علاقة، أو بصندوق مقصود لحفظ المصحف به تعظيمًا للمصحف وتكريمًا، لكن لا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره كأن يحمله ضمن أمتعة قصدت بالحمل، فإن قصد حمل المصحف والأمتعة معًا، فإنه يحرم، وكذا يحرم حمل المصحف في الكرسي الخاص به، لكن لا يُمنع المحدث من مس الكرسي فقط، حالة كون المصحف عليه، لكن من غير حمل له، لانفصال الكرسي عن المصحف.
__________
(1) انظر: الهداية شرح البداية، 1/31، فتح القدير، 1/169؛ البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/315، وقال: (وفي الهداية: أنه يكره، هو الصحيح؛ لأنه تابع له، وعزاه في الخلاصة إلى عامة المشايخ، فهو معارض لما في المحيط، فكان هو أولى) .
(2) 1/649.
(3) انظر: البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/316.(12/484)
كما يحرم عندهم مس المصحف بعود، أو قضيب، ونحوه، معللين لذلك: بأنه بمنزلة اللمس باليد عرفًا، لاتصال العود ونحوه باليد فيأخذ حكم اليد ذاتها (1) .
واشتد نكير المالكية على تقليب أوراق المصحف الكامل، أو بعضه بأطراف الأصابع المبللة بالريق والبصاق، حتى قال ابن العربي عن ذلك: (إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر) (2) .
والذي يظهر لي أن هذا محل نظر؛ لأن المقلب لأوراق المصحف بشيء من ريقه إنما قصد الاستعانة بالريق على سهولة التقليب لا إهانة المصحف بتلطيخه بالبصاق والريق، فإن قصد ذلك فهو محل التحريم الذي قد يبلغ بصاحبه الكفر عياذًا بالله.
ولذا نص فقهاء الحنفية والشافعية على جواز محو كتاب القرآن من المصحف أو اللوح بالريق إن لم يقصد الإهانة. فقال في الدر المختار: (ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز) (3) .
وقال القليوبي: (ويجوز ما لا يشعر بالإهانة كالبصاق على اللوح لمحوه؛ لأنه إعانة) (4) .
مذهب الشافعية:
ذهب الشافعية إلى أنه يحرم تقليب أوراق المصحف بعود، أو خشبة ونحوها على الأصح معللين بأنه نقل للورقة فهو كحملها.
والقول الآخر: أنه يصح. وبه قطع العراقيون، ورجحه النووي في الروضة وذلك لأنه غير مباشر للمس، ولا حامل للمصحف (5) .
__________
(1) انظر: عقد الجواهر الثمينة، 1/62، الذخيرة، 1/237، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ الشرح الصغير، 1/223، أسهل المدارك، 1/100.
(2) حاشية البناني على الزرقاني على خليل، 1/93، حاشية العدوي على الخرشي، 1/160.
(3) الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/322.
(4) حاشية قليوبي وعميرة على شرح منهاج الطالبين، 1/36؛ تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/327.
(5) انظر: المجموع، 1/74؛ روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/38.(12/485)
قال في المهذب: (ويجوز أن يتركه بين يديه، ويتصفح أوراقه بخشبة؛ لأنه غير مباشر له، ولا حامل له) (1) .
قال الأذرعي: والقياس أنه إن كانت الورقة قائمة فصفحها بعود جاز، وإن احتاج في صفحها إلى رفعها حرم، لأنه حامل لها (2) .
كما ذهب الشافعية إلى أنه يحرم مس المصحف، وتقليب أوراقه من وراء حائل ككم يده، ونحوه، وذلك لأن الكم متصل به، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه، ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، بخلاف تقليب الأوراق بالعود على القول بجوازه.
لكن لو قلب أوراق المصحف بكمه فقط، دون يده، كأن يفتل الكم ويقلب به الورق، فهو كالعود في الحكم (3) .
وقال في المهذب: (ويحرم عليه حمله في كمه؛ لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله – وهو في الهتك أبلغ - أولى) (4) .
وأما حمل المصحف ضمن متاع، ففيه وجهان: أصحهما، وبه قطع صاحب المهذب، وهو قول جمهور فقهاء المذهب، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي: أنه يجوز؛ لأنه غير مقصود بالحمل لذاته، فعفي عما فيه من القرآن، كما لو كتب كتابًا إلى كافر، وفيه آيات من القرآن.
والثاني: أنه يحرم؛ لأنه حامل للمصحف حقيقة، ولا أثر لكون غيره معه، فهو كما لو حمل متاعًا فيه نجاسة، فإن صلاته تبطل.
قال الماوردي: وصورة المسألة: أن يكون المتاع مقصودًا بالحمل، فإن كان غير مقصود بالحمل لم يجز (5) .
مذهب الحنابلة:
ذهب الحنابلة في الصحيح من المذهب: إلى أنه لا يحرم على المحدث حمل المصحف ضمن أمتعة، أو في كيس، أو حمله بعلاقته، أو غلافه، أو في كمه.
__________
(1) 1/32.
(2) انظر: مغني المحتاج، 1/38.
(3) انظر: المجموع، 1/74؛ مغني المحتاج، 1/38.
(4) 1/32، وانظر: حاشية البيجوري، 1/221.
(5) انظر: المهذب، 1/32، المجموع، 1/74، مغني المحتاج، 1/37.(12/486)
معللين: بأن النهي عن مس المصحف إنما يتناول المس، والحمل ليس بمس فيبقى الحكم على أصل الإباحة.
كما لا يحرم في الصحيح من المذهب تصفح أوراق المصحف بكمه، أو تقليب أوراقه بعود، أو خشبة، أو خرقة، وذلك لأن النهي إنما يتناول المس من غير حائل، ومع وجود الحائل يكون المس للحائل، فلا يحرم لعدم مباشرة المس باليد، بدليل: عدم انتقاض الوضوء بالمس من وراء حائل، بخلاف مباشرة المس، فإنه ينقض الوضوء.
والقول الآخر في المذهب: وهو رواية عن الإمام أحمد، أن ذلك كله يحرم على المحدث، تعظيمًا للقرآن، وتكرمة له.
وقيل: إنما يحرم ما تقدم على غير ورَّاق، لحاجته المتكررة للمس. فيباح له ذلك دفعًا للحرج والمشقة (1) .
قال في الإنصاف: (وعنه – أي الإمام أحمد- المنع من تصفحه بكمه، وخرجه القاضي، والمجد، وغيرهما إلى بقية الحوائل. وأبى ذلك طائفة من الأصحاب منهم المصنف في المغني، وفرق بأن كمه وعباءته متصل به، أشبهت أعضاءه، وأطلق الروايتين في حمله بعلاقته، أو في غلافه، وتصفحه بكمه، أو عود ونحوه، في المستوعب، والمحرر، وابن تميم، والرعايتين، والحاويين، ومجمع البحرين، والفائق) (2) .
المطلب الثالث: مس ما فيه شيء من القرآن
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: مس كتب العلم المشتملة على شيء من القرآن، ككتب التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
وقد اختلف العلماء في حكم مس المحدث لشيء من هذه الكتب على الأقوال التالية:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث مس كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن، سواء أكانت كتب تفسير، أو غيرها.
__________
(1) انظر: المغني، 1/147-148؛ شرح العمدة، ص، 385، معونة أولي النهى، 1/375، كشاف القناع، 1/135.
(2) 1/224.(12/487)
وبهذا قال بعض الحنفية (1) ، وهو الصحيح في المذاهب الثلاثة: المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) . واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 - ما ثبت في الصحيحين (5) أن النبي (بعث إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وفيه قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ((6) .
وكان (يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آية من كتاب الله تعالى (7) .
فإذا جاز للكافر أن يمس كتابًا فيه آيات من القرآن، فإنه يدل على جواز ذلك للمحدث من باب أولى (8) .
2 - أن النهي عن المس على غير طهارة إنما ورد في المصحف خاصة، وكتب العلم لا يصدق عليها اسم المصحف، فلا تثبت لها حرمته (9) ، لعدم قصد القرآن بالمس، وإنما المقصود غيره (10) .
القول الثاني:
__________
(1) حاشية ابن عابدين، 1/320.
(2) الذخيرة، 1/237؛ الزرقاني على خليل، 1/94؛ الشرح الصغير، 1/225.
(3) غير أن الشافعية قيدوا الجواز في كتب التفسير خاصة في الأصح من مذهبهم: بأن لا يكون القرآن أكثر من التفسير، فإن كان أكثر من التفسير حرم مسه؛ لأنه في معنى المصحف.
انظر: المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191، مغني المحتاج، 1/37.
(4) الإقناع، 1/41، منتهى الإرادات، 1/27؛ الروض المربع، 1/126.
(5) صحيح البخاري، 1/9، صحيح مسلم، 5/165.
(6) آل عمران، آية، 64.
(7) انظر: شرح العمدة، ص، 386.
(8) انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(9) انظر: المجموع، 1/75-76؛ مغني المحتاج، 1/37، المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(10) انظر: الذخيرة، 1/237، الشرح الصغير، 1/225، المهذب، 1/32، الكافي، 1/48.(12/488)
أنه يحرم مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن سواء أكانت كتب تفسير أو غيرها.
وهو قول في مذهب الشافعية (1) ، وفي مذهب الحنابلة (2) ، وذلك صيانة لما في هذه الكتب من القرآن، وتكرمة له وإجلالاً (3) .
القول الثالث:
أنه يكره مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن تكرمة للقرآن وتعظيمًا.
وبهذا قال الحنفية (4) ، وبعض الشافعية (5) .
القول الرابع:
تحريم مس كتب التفسير (6) ، دون غيرها من كتب العلم.
وهو قول في المذاهب الأربعة: الحنفية (7) ،والمالكية (8) ، والشافعية (9)
__________
(1) المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191.
(2) الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/376.
(3) انظر: المهذب، 1/32.
(4) غير أن بعض الحنفية قصر الكراهة على كتب التفسير خاصة لكثرة ما فيها من القرآن، بخلاف غيرها من كتب العلم. انظر: فتح القدير، 1/169؛ البناية شرح الهداية، 1/650، البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/320.
(5) المجموع، 1/75.
(6) ومثله فيما يظهر وإن لم ينص عليه الفقهاء كتب القراءات، بل ربما تكون أولى بالتحريم من كتب التفسير على هذا القول؛ لكثرة ما فيها من القرآن.
(7) وقيد بعض الحنفية التحريم بمس مواضع الآيات منها فقط.
انظر: بدائع الصنائع، 1/33؛ الجوهرة، 1/36؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/319-320.
(8) إلا أن المالكية قيدوا التحريم على القول به فيما إذا كان التفسير مشتملاً على آيات كثيرة وقصدت بالمس.
انظر: الزرقاني على خليل، 1/94، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125؛ جواهر الإكليل، 1/21.
(9) ... إلا أن الأصح عند الشافعية أنه إذا كان القرآن أكثر من التفسير، فإنه يحرم قطعًا، بل حكاه بعضهم وجهًا واحدًا، وما عدا ذلك فالتحريم على قول في المذهب.
انظر: المجموع، 1/76؛ روضة الطالبين، 1/191، مغني المحتاج، 1/37.(12/489)
، والحنابلة (1) .
معللين لذلك: بأن ما في كتب التفسير من القرآن كثير، فتكون في معنى المصحف، فيحرم مسها على المحدث، تعظيمًا للقرآن وإجلالاً، بخلاف غيرها من كتب العلم، فإن ما فيها من القرآن يسير غير مقصود بالمس (2) .
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح من هذه الأقوال هو القول بجواز مس كتب العلم كلها، تفسيرًا كانت أو غيرها، لقوة أدلته، ورجحانها على استدلالات القولين الآخرين، ولما في اشتراط الطهارة لذلك مع عدم النص الموجب، من مشقة وحرج.
ومع هذا فإن الأولى والمستحب للمحدث أن لا يمس كتب العلم المتضمنة لآيات من القرآن إلا على طهارة، كما نص على ذلك كثير من العلماء (3) .
الفرع الثاني: مس ما كُتِبَ فيه شيء من القرآن مما لا يقصد للقراءة كالدرهم، والدينار، والخاتم، والثوب، والحائط، ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في حكم مس المحدث لشيء من هذه الأشياء المذكورة إذا اشتملت على آية من القرآن فأكثر، على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث مس الدرهم ونحوه مما ذكر، إذا كتب فيه شيء من القرآن.
وبهذا قال: المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) في الصحيح من مذاهبهم (7)
__________
(1) الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/376.
(2) انظر: فتح الجواد، 1/56، مغني المحتاج، 1/33.
(3) انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/344، شرح السنة، 2/50، بدائع الصنائع، 1/34؛ البحر الرائق، 1/212، المجموع، 1/76، مغني المحتاج، 1/37.
(4) ويجوز مس هذه الأشياء عندهم حتى للجنب والحائض.
انظر: الذخيرة، 1/237، عقد الجواهر، 1/62؛ الشرح الكبير للدردير، 1/125؛ أسهل المدارك، 1/100.
(5) روضة الطالبين، 1/191؛ مغني المحتاج، 1/38؛ فتح الجواد، 1/56.
(6) الكافي، 1/48؛ الإنصاف، 1/224، الإقناع، 1/41.
(7) وبه قال من التابعين الحسن البصري، والقاسم بن محمد، وقتادة.
انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/343، مصنف ابن أبي شيبة، 1/113.(12/490)
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 - أن الدرهم ونحوه إذا تضمن شيئًا من القرآن فإنه لا يسمى مصحفًا، ولا هو في معنى المصحف، والنهي عن المس للمحدث إنما يتناول المصحف خاصة (1) .
2 - أن القرآن المكتوب في الدرهم ونحوه لا يقصد بالمس، وإنما المقصود بالمس غيره، فلذا جاز مسه وحمله (2) .
3 - أنه كما يجوز للمحدث مس كتب العلم، والرسائل المشتملة على شيء من القرآن، فإنه يجوز له مس الدرهم ونحوه، قياسًا عليها، بل هي أولى بجواز المس (3) .
4 - أن في منع المحدث من مس ذلك حرجًا ومشقة، وقد جاء الشرع برفع الحرج والمشقة، كما جاز للصبيان مس الألواح التي فيها قرآن دفعًا للحرج والمشقة عنهم (4) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس الدرهم ونحوه إذا تضمن آية من القرآن فأكثر.
وبهذا قال الحنفية (5) ، وهو قول في المذاهب الثلاثة: المالكية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8) .
__________
(1) انظر: المغني، 1/148؛ المجموع، 1/75؛ مغني المحتاج، 1/38.
(2) انظر: المهذب، 1/32؛ مغني المحتاج، 1/38.
(3) انظر: الكافي، 1/48، المغني، 1/148.
(4) انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(5) بدائع الصنائع، 1/33، مجمع الأنهر، 1/26؛ الجوهرة، 1/36.
(6) الذخيرة، 1/237.
(7) المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191؛ مغني المحتاج، 1/38.
(8) الكافي، 1/48، الإنصاف، 1/224، معونة أولي النهى، 1/377.
وقال بهذا من التابعين إبراهيم النخعي، وابن سيرين.
انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/344، مصنف ابن أبي شيبة، 1/113.(12/491)
واستدلوا على ذلك: بأن مس الدرهم ونحوه مما فيه آية من القرآن فيه إخلال بتعظيم كلام الله، فيحرم مسه تعظيمًا لكلام الله تعالى، كما حرم مس المصحف. وكما حرم أيضًا مس الورقة واللوح إذا تضمنا شيئًا من القرآن (1) .
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح - والله أعلم- هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث للدرهم ونحوه إذا اشتمل على شيء من كلام الله تعالى، وذلك لقوة أدلة هذا القول، ورجحانها.
ويمكن الإجابة عن دليل المانعين: بأن جواز مس المحدث للدرهم ونحوه، ليس فيه إخلال بتعظيم كلام الله تعالى؛ لأن القرآن المكتوب في هذه الأشياء غير مقصود بالمس والحمل فجاز مس هذه الأشياء، ويدل على الجواز ويرجحه أنه (ضمَّن الكتاب الذي أرسله إلى هرقل آيتين من كتاب الله تعالى مع علمه قطعًا بمس الكافر له، كما أنه لم يأمر حامله بالطهارة لمسه، فدل ذلك على جواز مس الكتاب والورقة المتضمنة لشيء من كلام الله، ومن باب أولى بالجواز مس الدرهم والدينار والخاتم، والثوب، والحائط، ونحوها (2) والعلم عند الله.
المطلب الرابع: حكم مس المحدث للقرآن المنسوخ تلاوته والكتب السماوية الأخرى
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس المحدث للقرآن الذي نسخت تلاوته (3)
__________
(1) انظر: الذخيرة، 1/237؛ بدائع الصنائع، 1/33، مغني المحتاج، 1/38، المغني، 1/148.
(2) انظر: مغني المحتاج، 1/37.
(3) مثال ما نسخت تلاوته وبقي حكمه قوله عز وجل: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج (فنسخ قوله سبحانه: (في مواسم الحج (رواه البخاري في صحيحه 3/105. قال ابن حجر في فتح الباري، 3/594: وأخرج الحاكم في مستدركه عن عبيد ابن عمير، أنه كان يقرؤها في المصحف.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكر الزركشي في البرهان، 2/35 بقوله: ((روي أنه كان يقال في سورة النور: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالاً من الله)) ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي. رواه البخاري في صحيحه معلقًا)) وانظر أيضًا: النواسخ لابن الجوزي، ص، 115.
ومن أمثلته أيضًا: ما روى البخاري في صحيحه، 3/215 أن رسول الله (كان يقرأ ((والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى)) قال أبو الدرداء: وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ: ((وما خلق الذكر والأنثى)) والله لا أتابعهم)) .
قال في فتح الباري، 8/707: ((ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه)) .(12/492)
والأحاديث القدسية، ومس الكتب السماوية الأخرى: كالتوراة والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث أن يمس ما نسخت تلاوته من القرآن الكريم والأحاديث القدسية، وكذا يجوز له مس الكتب السماوية الأخرى، وإن علم أنها غير مبدلة.
وبهذا قال بعض الحنفية (1) ، وهو مذهب المالكية (2) ، وبه قال الشافعية في الصحيح من مذهبهم (3) ، وكذا الحنابلة في الصحيح أيضًا (4) .
ووجه هذا القول: أن المنسوخ لفظه، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى ليست قرآنًا، والنهي إنما ورد عن مس المحدث للقرآن فيختص الحكم به (5) .
ومن وجه آخر: أن ما نسخ لفظه من القرآن قد زالت حرمته بالنسخ، والأحاديث القدسية، وأما الكتب السماوية الأخرى، فمع كونها منسوخة، فإن الغالب عليها التبديل والتحريف، فلا يقطع بكونها كلام الله تعالى (6) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن المنسوخ التلاوة والأحاديث القدسية، ولا شيئًا من الكتب السماوية.
وبهذا قال الحنفية (7)
__________
(1) الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/315؛ منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211.
(2) شرح الزرقاني، 1/93؛ حاشية العدوي على الخرشي، 1/160؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(3) روضة الطالبين، 1/191، المجموع، 1/76.
(4) شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212، الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/377، كشاف القناع، 1/135.
(5) انظر: منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211، المبدع شرح المقنع، 1/174؛ كشاف القناع، 1/135.
(6) انظر: المجموع، 1/76؛ مغني المحتاج، 1/37.
(7) لكن قال ابن عابدين: ينبغي أن يخص الحكم بما لم يبدل.
انظر: حاشية ابن عابدين، 1/314-315، 488، منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211-212.(12/493)
، والشافعية في وجه (1) ،والحنابلة في قول ضعيف (2) .
ووجه هذا القول: إلحاق ما نسخت تلاوته، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى بالقرآن في تحريم المس، بجامع الاشتراك في وجوب التعظيم والتكريم في كلٍّ.
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث لما نسخت تلاوته من القرآن، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى، لوجاهة ما علل به القائلون بالجواز، ورجحانه على ما علل به أصحاب القول الثاني، والعلم عند الله تعالى.
المطلب الخامس: حكم مس الأشرطة التي سجل عليها قرآن
إذا سجل القرآن الكريم على أشرطة بمختلف أنواعها كأشرطة الكاسيت أو الفيديو، أو أقراص الدسك التي تستخدم في الكمبيوتر، أو نحوها، فإنه يجوز مسها للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر فيما يظهر، وذلك لأن هذه الأشرطة ونحوها لا تسمى مصحفًا، لأنه لا يمكن قراءة القرآن منها مباشرة، وإنما يستمع للقرآن منها، أو يقرأ بواسطة آلاتها الخاصة بتشغيلها، لذا فإن هذه الأشرطة لا تأخذ حكم القرآن الكريم في تحريم مسه على غير طهارة، وبهذا أفتى أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز دون أن يعللوا للحكم، ونص الفتوى: (لا حرج في حمل أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن عليه جنابة ونحوها وبالله التوفيق) (3) .
__________
(1) روضة الطالبين، 1/191، المجموع، 1/76.
(2) شرح الزركشي على مختصر الخرقي؛ 1/212،الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى،1/377.
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 4/73.(12/494)
كما أرى أن يلحق بهذا في الحكم أيضًا ما لو كتب القرآن الكريم بطريقة برايل للمكفوفين، فإنه لا يأخذ حكم المصحف، فيجوز مسه مع الحدث، لأن المصحف إنما هو لما كتب باللغة التي نزل بها، وهي اللغة العربية التي يقرؤها كل متعلم لها كما قال سبحانه: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ((1) . أما طريقة برايل فليست حروفًا وإنما هي طريقة يتعرف من خلالها على الحروف من خلال اللمس، فلذا فإنه إذا كتب بها المصحف إن قيل بجوازه (2) ، فإنه يجوز مسه للمحدث وإن كان حدثه أكبر، هذا ما يظهر لي والعلم عند الله تعالى.
المطلب السادس: حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية وحكم مسه إذا كتب بغير اللغة العربية
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية:
اختلف العلماء – رحمهم الله – في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية، قال الزركشي في البرهان: ((هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربي؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلامًا. ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ... )) (3) ونقله السيوطي في الإتقان (4) ولم يزد عليه، وللفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول:
أنه يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، كأن يكتب بالفارسية، أو الهندية، أو التركية، ونحوها.
__________
(1) سورة الشعراء، آية رقم (192-195) .
(2) يمكن أن يخرج حكم كتابة المصحف بطريقة (برايل) على حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك في المطلب السادس، والعلم عند الله.
(3) البرهان في علوم القرآن، 1/380.
(4) الإتقان في علوم القرآن، 2/376.(12/495)
وبهذا قال الحنفية (1) والشافعية (2) وبعض الحنابلة (3) .
معللين للحكم: بأنه قد يحسن كتابته بغير اللغة العربية من يقرؤه باللغة العربية، فيكون في ذلك تيسير وتسهيل على غير العرب، لكن لا يجوز لهم أن يقرؤوه بغير اللغة العربية وإن كتب بغيرها؛ لحرمة قراءة القرآن بغير لسانه المنزل به (4) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، وبهذا قال المالكية.
مستدلين للحكم: بأن الكتابة أحد اللسانين، فكما لا تجوز قراءته بغير العربية بدليل قوله تعالى: (بلسان عربي مبين ((5) فإنه لا يجوز كتابته بغيرها؛ لأن الكتابة أحد اللسانين، فلا يجوز تغييره عن اللسان المنزل به (6) .
والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح لقوة دليلهم، وظهور حجتهم، وهو المناسب لصيانة القرآن والحفاظ عليه عن التغيير والتبديل، والعلم عند الله.
الفرع الثاني: حكم مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية:
ذهب الحنفية والشافعية إلى المنع من مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، فيمنع المحدث من مسه وحمله حتى يتطهر من الحدثين، كمنعه من مس المصحف المكتوب باللغة العربية؛ لعموم الأدلة الدالة على ذلك (7) .
__________
(1) البحر الرائق، 1/212؛ الفتاوى الهندية، 1/39.
(2) حاشية قليوبي على منهاج الطالبين، 1/36، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329.
(3) البرهان في علوم القرآن، 1/380.
(4) انظر: البرهان في علوم القرآن، 1/380؛ الإتقان في علوم القرآن، 2/376، الفتاوى الهندية، 1/39، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329.
(5) سورة الشعراء، آية رقم (195) .
(6) انظر: الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ حاشية البناني على الزرقاني، 1/93.
(7) انظر: البحر الرائق، 1/212، الفتاوى الهندية، 1/39؛ حاشية قليوبي على منهاج الطالبين، 1/36، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329، الموسوعة الفقهية، 38/10.(12/496)
وذهب المالكية إلى جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية.
معللين: بأن المصحف المكتوب بغير اللغة العربية ليس بقرآن، وإنما هو في الحقيقة تفسير للقرآن، وكتب التفسير وغيرها من كتب العلم المتضمنة للقرآن أو لشيء منه لا يشترط لمسها الطهارة (1) .
والذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه المالكية من جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، لوجاهة ما عللوا به، والعلم عند الله.
المطلب السابع: حكم كتابة المحدث والكافر للقرآن
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: حكم كتابة المحدث للقرآن:
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم كتابة المسلم للقرآن، من غير مس المكتوب إذا كان عليه حدث على الأقوال التالية:
القول الأول:
أنه يجوز لمن عليه حدث أصغر أو أكبر أن يكتب القرآن، لكن من غير مس للمكتوب فيه.
وبهذا قال الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) في الراجح من مذاهبهم. مستدلين على ذلك بما يأتي:
1 - أن النهي إنما ورد عن مس المصحف، والكتابة لا تعد مسًا له (5) .
2 - أن المباشر للمس هو القلم، وليست يد الكاتب، فهو بمنزلة مس المصحف من وراء حائل (6) .
3 - أن الكاتب للقرآن إنما يكتب حرفًا حرفًا، والحرف الواحد لا يعد قرآنًا (7) .
__________
(1) انظر: الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ حاشية البناني على الزرقاني، 1/93.
(2) فتح القدير، 1/169، البناية شرح الهداية، 1/647؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/317.
(3) روضة الطالبين، 1/191؛ المجموع، 1/77.
(4) انظر: الإنصاف، 1/226، الإقناع، 1/41، معونة أولي النهى، 1/383.
(5) انظر: كشاف القناع، 1/135، مطالب أولي النهى، 1/155.
(6) انظر: فتح القدير، 1/169؛ حاشية ابن عابدين، 1/317.
(7) انظر: البناية شرح الهداية، 1/648.(12/497)
4 - أن الصحابة رضوان الله عليهم استكتبوا أهل الحيرة المصاحف وهم نصارى، فدل ذلك على الجواز (1) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يكتب القرآن.
وبهذا قال المالكية في الصحيح من مذهبهم (2) ، وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
ووجه هذا القول: أن كتابة القرآن في حكم المس له، فتحرم، كما يحرم المس؛ لاتصال القلم بيد الكاتب (6) .
القول الثالث:
جواز كتابة القرآن لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر.
وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: المالكية (7) ، والشافعية (8) ، والحنابلة (9) .
ووجه هذا القول ما يأتي:
1 - رفع الحرج والمشقة عن صاحب الحدث الأصغر لتكرره، بخلاف الحدث الأكبر لقلته (10) .
2 - قياس كتابة القرآن على تلاوته، فإنها تجوز لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر (11) .
الترجيح:
__________
(1) روي ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وعن عدد من التابعين.
انظر: مصنف ابن أبي شيبة، 6/66، المصاحف لأبي داود، ص، 148، شرح العمدة، ص، 385، شرح الزركشي، 1/212.
(2) إلا أنهم أجازوا للمحدث وإن كان جنبًا كتابة الآيات ضمن رسائل ونحوها.
انظر: شرح الزرقاني، 1/94؛ الشرح الكبير للدردير، 1/125، الشرح الصغير، 1/223.
(3) وبه قال محمد بن الحسن الشيباني وغيره من علماء الحنفية.
انظر: فتح القدير، 1/169؛ البناية شرح الهداية، 1/648، رد المحتار مع حاشيته لابن عابدين، 1/317.
(4) روضة الطالبين، 1/191؛ المجموع، 1/77.
(5) الإنصاف، 1/226، معونة أولي النهى، 1/383.
(6) انظر: فتح القدير، 1/169.
(7) شرح الزرقاني، 1/94، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(8) المجموع، 1/77.
(9) الإنصاف، 1/226.
(10) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(11) شرح العمدة، ص، 385.(12/498)
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بجواز كتابة المحدث مطلقًا للقرآن لوجاهة ما استدل به القائلون بالجواز ورجحانه على ما علل به أصحاب القولين الآخرين والعلم عند الله.
الفرع الثاني: حكم كتابة الكافر للقرآن:
والمراد هنا حكم كتابة الكافر للقرآن من غير مس للمكتوب؛ لأنه يحرم عليه مس القرآن (1) .
ولم أر من نص على هذه المسألة من أصحاب المذاهب الأربعة سوى الحنابلة، ولهم فيها قولان:
القول الأول:
أنه يجوز للكافر أن يكتب القرآن.
وهو الصحيح في المذهب (2) . قال في الإنصاف: ((له نسخه على الصحيح من المذهب، وقال ابن عقيل: بدون حمل ولا مس. قال القاضي في التعليق وغيره: قال ابن عقيل في التذكرة: يجوز استئجار الكافر على كتابة المصحف إذا لم يحمله. قال أبو بكر: لا يختلف قول أحمد: أن المصاحف يجوز أن يكتبها النصارى..)) (3) .
والقول بهذا هو مقتضى مذهب الظاهرية؛ لإجازتهم للكافر أن يمس القرآن (4)
__________
(1) حيث ذهب فقهاء المذاهب الأربعة إلى تحريم مس المصحف على الكافر؛ لأن ذلك يحرم على المسلم إذا كان محدثًا، أو جنبًا، فالكافر من باب أولى بالتحريم، والمقصود هنا: أنه يحرم على المسلم أن يمكن الكافر من مس المصحف؛ لأن الكافر لا يتوجه إليه الخطاب.
انظر: البناية شرح الهداية، 1/650؛ البحر الرائق، 1/212؛ حاشية العدوي على الخرشي، 1/161؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/126؛ المجموع شرح المهذب، 2/78؛ أسنى المطالب، 1/62؛ شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212؛ الإنصاف، 1/227.
(2) شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212، الإقناع، 1/41، غاية المنتهى، 1/44.
(3) 1/226.
(4) المحلى، 1/83.
وبه قال محمد بن الحسن الشيباني أيضًا إذا اغتسل الكافر كما في البحر الرائق، 1/212
واحتج ابن حزم على جواز مس الكافر للمصحف بتضمين النبي (الكتاب الذي كتبه لقيصر آيات من القرآن، وهي قوله سبحانه: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.. (الخ الآيات. رواه البخاري في صحيحه، 1/9، ومسلم في صحيحه، 5/165.
قال ابن حزم: ((فهذا رسول الله (قد بعث كتابًا، وفيه هذه الآية إلى النصارى، وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب)) .
وأجاب الجمهور عن استدلال ابن حزم بما ذكره ابن حجر في فتح الباري، 1/408، بقوله: ((إن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد: أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل، كالآية والآيتين)) .(12/499)
، فكتابته من باب أولى. وقد استدل الحنابلة على ذلك بما يأتي:
1 - ما روي عن بعض الصحابة والتابعين: أنهم استكتبوا النصارى المصاحف، حيث روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ((أنه استكتب رجلاً نصرانيًا مصحفًا، فأعطاه ستين درهمًا)) (1) . وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ((أنه كتب له نصراني مصحفًا من أهل الحيرة بتسعين درهمًا)) (2) . وروي نحو ذلك عن علقمة، وعن غيرهما من التابعين (3) .
2 - أن النهي إنما ورد عن مس القرآن، لا عن كتابته (4) .
3 - أن مس القلم للحرف كمس العود للحرف، وذلك جائز، فدل على جواز كتابة الكافر للمصحف إذا لم يمسه بيده (5) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للكافر أن يكتب القرآن.
قال في الإنصاف: ((قيل لأحمد: يعجبك أن تكتب النصارى المصاحف، قال: لا يعجبني. قال الزركشي: فأخذ من ذلك رواية بالمنع ... )) (6) .
ولعل وجه هذا القول: صيانة القرآن، وإجلاله عن أن يمسه الكافر؛ لأن الكاتب لا يسلم غالبًا من مس المكتوب، فلا يؤمن الكافر أن يمس القرآن أثناء كتابته له، وذلك محرم عليه.
الترجيح:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب المصاحف، ص، 148.
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، 6/66، وأبو داود في كتاب المصاحف نحوه، ص، 149.
(3) رواه أبو داود في كتاب المصاحف، ص، 149.
(4) انظر: كشاف القناع، 1/135؛ مطالب أولي النهى، 1/155.
(5) انظر: الإنصاف، 1/226، معونة أول النهى، 1/360.
(6) 1/226.(12/500)
والذي يظهر لي أن القول الثاني أرجح؛ لأنه أليق بتعظيم القرآن وتكريمه، فينبغي أن يصان كلام الله عن كل من يخشى أن ينتهك حرمته، ويدل عليه نهيه (أن يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدو إذا خيف أن يقع بأيديهم وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله (( (أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو)) (1) .
وأما ما روي من استكتاب بعض الصحابة والتابعين الكافر لكتابة المصحف، فهذا على تقدير صحته، محمول على اضطرارهم إليه لقلة من يحسن الكتابة في زمنهم من المسلمين، فيكون ذلك من باب الضرورات، وللضرورة أحكامها؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. والعلم عند الله تعالى.
المطلب الثامن: حكم مس المحدث للقرآن عند الضرورة
إذا خشي المحدث على المصحف من غرق أو حرق، أو نجاسة تصيبه، أو مس كافر له، أو سرقة، أو غصب، ولم يتمكن من الطهارة بالماء أو التيمم قبل وقوع ما يخشاه على المصحف فإنه يجوز له في هذه الحالة أن يمسه، ويحمله، وإن كان محدثًا حدثًا أكبر، لأن مسه أو حمله، والحالة هذه من باب الضرورة (والضرورات تبيح المحظورات) (2) كما هي القاعدة الفقهية المشهورة.
وقد نص على هذه المسألة المالكية (3) ، والشافعية (4)
__________
(1) صحيح مسلم، 6/30. وفي لفظ آخر له: ((فإني لا آمن أن يناله العدو)) وأصله عند البخاري، 2/168.
(2) انظر هذه القاعدة في: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص، 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص، 85.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125؛ حاشية الصاوي على الشرح الصغير، 1/223.
(4) روضة الطالبين، 1/192؛ مغني المحتاج، 1/37.
المصادر والمراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، بيروت: دار الكتب العلمية.
3 - أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا الأنصاري، المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
4 - أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك، أبي بكر بن حسن الكشناوي، بيروت: دار الفكر.
5 – الاستذكار، تصنيف: الإمام يوسف بن عبد الله بن عبد البر الأندلسي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت: دار قتيبة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م.
6 - الأشباه والنظائر، زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، بيروت: دار الكتب العلمية، 1400هـ – 1980م.
7 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مصور عن الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية، 1399هـ – 1979م.
8 - الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي، تصحيح وتعليق: عبد اللطيف محمد السبكي، مصر: المكتبة التجارية الكبرى.
9 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، علي بن سليمان المرداوي، صححه وحققه: محمد حامد الفقي، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1376هـ/1957م الطبعة الأولى.
10 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن نجيم الحنفي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر الطبعة الثانية، طبعة بالأوفست.
11 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، بيروت: دار الكتاب العربي، 1402هـ/1982م الطبعة الثانية.
12 - البرهان في علوم القرآن، بدر الدين بن محمد الزركشي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر.
13 - البناية في شرح الهداية، أبي محمد محمود بن أحمد العيني، تصحيح: محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري، بيروت: دار الفكر، 1401هـ / 1981م الطبعة الأولى.
14 - تحفة الحبيب على شرح الخطيب، تأليف: سليمان بن عمر البجيرمي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 1398هـ – 1978م.
15 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، تأليف: صالح عبد السميع الآبي، بيروت: دار الفكر.
16 - الجوهرة النيرة على مختصر القدوري، أبي بكر بن علي بن محمد الحداد اليمني، ملتان، باكستان: المكتبة الإمدادية.
17 - حاشية البيجوري على الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (بهامس الإقناع) ، إبراهيم البيجوري، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
18 - حاشية البناني على شرح الزرقاني على مختصر خليل، الشيخ محمد البناني، بيروت: دار الفكر، 1398هـ – 1978م.
19 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد عرفة الدسوقي، بيروت: دار الفكر.
20 - حاشية الصاوي على الشرح الصغير (بهامش الشرح الصغير) ، أحمد بن محمد الصاوي، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، طبع على نفقة راشد بن سعيد المكتوم.
21 - حاشية العدوي على شرح الخرشي (بهامش شرح الخرشي) ، تأليف: علي العدوي، بيروت: دار صادر.
22 - حاشية قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين، تأليف: الشيخ شهاب الدين القليوبي، والشيخ عميرة، مصر: مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
23 - رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، تأليف: محمد أمين الشهير بابن عابدين، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي1386هـ/1966م الطبعة الثانية
24 - الدر المختار شرح تنوير الأبصار (مع حاشيته لابن عابدين) ، محمد علاء الدين الحصكفي، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي1386هـ/1966م الطبعة الثانية.
25 - الذخيرة، تأليف: أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد بوخبزه، بيروت: دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى عام 1994م.
26 - روضة الطالبين، يحيى بن شرف النووي، دمشق: المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
27 - الروض المربع شرح زاد المستقنع، تأليف: منصور بن يونس البهوتي، القاهرة: المطبعة السلفية، الطبعة السادسة.
28 - شرح الزرقاني على مختصر خليل، تأليف: عبد الباقي الزرقاني، بيروت: دار الفكر، 1398هـ/1978م.
29 - شرح الزركشي على مختصر الخرقي، تأليف: محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي، تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، الرياض: شركة العبيكان للطباعة والنشر.
30 - شرح السنة، الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403هـ – 1983م.
31 - الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، طبع على نفقة راشد بن سعيد المكتوم.
32 - شرح العمدة في الفقه (كتاب الطهارة) ، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق د. سعود بن صالح العطيشان، الرياض: مكتبة العبيكان 1413هـ/1993 م.
33 - الشرح الكبير، عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود كلية الشريعة.
34 - الشرح الكبير لمختصر خليل (بهامش حاشية الدسوقي) ، أحمد بن محمد الدردير، بيروت: دار الفكر.
35 - صحيح البخاري (مع حاشية السندي) ، محمد بن إسماعيل البخاري، مصر: مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
36 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر.
37 - عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس، تحقيق: د. محمد أبي الأجفان – أ. عبد الحفيظ منصور، بيروت: دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى: 1415هـ – 1995م.
38 - غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، مرعي بن يوسف الحنبلي، تصحيح: محمد زهير الشاويش، دمشق: مؤسسة دار السلام للطباعة والنشر، 1378هـ.
33 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الرياض: دار أولي النهى. الطبعة الأولى: 1411هـ.
34 - الفتاوى الهندية (العالمكيرية) ، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1400هـ – 1980م.
35 - فتح الجواد شرح الإرشاد، أحمد بن حجر الهيتمي، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1391هـ /1971م الطبعة الثانية.
36 - فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام، مصر: المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، 1316هـ، مصور عن الطبعة الأولى.
37 - الفروع، شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، راجعه: عبد الستار أحمد فراج.
القاهرة: دار مصر للطباعة، 1381هـ /1962م الطبعة الثانية.
38 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، الطبعة الثانية، بيروت: المكتب الإسلامي، 1399هـ/1979م.
39 - كتاب المصاحف، تصنيف: أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، بيروت: دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م.
40 - كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي،القاهرة: مطبعة أنصار السنة المحمدية، 1366هـ/1947م.
41 - المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح، بيروت: المكتب الإسلامي.
42 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي،القاهرة: دار الطباعة العامرة، 1316هـ،تصوير: بيروت: دار إحياء التراث العربي.
43 – المجموع شرح المهذب، يحيى بن شرف النووي،مصر: مطبعة الإمام.
44 - المصنف في الأحاديث والآثار، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة،تحقيق: مختار أحمد الندوي، بومباي – الهند: الدار السلفية، 1401هـ/1981م الطبعة الأولى.
45 - المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني،تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى.
46 - مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، مصطفى السيوطي الرحيباني، دمشق: المكتب الإسلامي.
47 - معونة أولي النهى شرح المنتهى، تصنيف: تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار، تحقيق: د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، بيروت: دار خضر الطبعة الأولى 1416هـ – 1995 م.
48 - المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة.
49 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد الشربيني الخطيب، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
50 - منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات، محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي المصري، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، الناشر: عالم الكتب.
51 - منحة الخالق على البحر الرائق (بهامش البحر الرائق) ، محمد أمين الشهير بابن عابدين بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، طبعة بالأوفست.
52 - المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي الشيرازي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، مصور عن الطبعة الثانية 1379هـ/1959م.
53 - النواسخ لابن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، تحقيق ودراسة: محمد أشرف المليباري، المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى: 1404هـ.
54 - الهداية شرح بداية المبتدي، برهان الدين بن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
* * *(13/1)
، ولم أجد للحنفية والحنابلة نصًا عليها، إلا أن هذا مما لا يختلف فيه، والعلم عند الله.
* * *
خاتمة البحث:
توصلت من خلال هذا البحث إلى عدة نتائج وأحكام فقهية من أهمها ما يأتي:
1 - أن اسم المصحف الذي لا يجوز للمحدث مس شيء منه يشمل المكتوب منه، وما بين سطوره، وحواشيه، وغلافه المتصل به، فكل ذلك لا يجوز مس شيء منه في الصحيح من مذاهب الأئمة الأربعة، سواء كان مصحفًا كاملاً أو بعض مصحف.
2 - اتفقت المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم على أن المراد بالمس المحرم على المحدث البالغ هو المس باليد أو بغيرها من أعضاء الوضوء، أو أي جزء من أجزاء البدن مباشرة من غير حائل، واختلفوا فيما عدا ذلك كمسه من وراء حائل، أو تقليبه بعود ونحوه.
3 - أن الراجح من أقوال أهل العلم استحباب الطهارة لمس كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن الكريم ككتب التفسير والحديث والفقه ونحوها، وأنه لا يشترط لمسها الطهارة، وكذا في الحكم أيضًا ما كتب عليه آيات من غير الكتب، كالدراهم والثياب وما في حكمها.
4 - أنه يجوز للمحدث مس منسوخ التلاوة من القرآن الكريم في الراجح من قولي العلماء.
5 - أنه يجوز للمحدث مس الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور في الراجح من قولي العلماء.
6 - أنه يجوز مس الأشرطة التي سجل فيها القرآن الكريم بمختلف أنواعها، وكذا ما كتب من القرآن بطريقة (برايل) للمكفوفين فيما يظهر.
7 - أنه لا يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية في الراجح من قولي أهل العلم، وأنه لا يحرم مسه إذا كتب بذلك.
8 - أنه يجوز للمحدث ولو كان حدثه أكبر أن يكتب القرآن الكريم، لكن من غير مس للمكتوب في الراجح من أقوال أهل العلم.
9 - أنه لا يجوز للكافر أن يكتب القرآن الكريم، ولو لم يمس المكتوب في الراجح من قولي أهل العلم.(13/2)
10 - أنه يجوز للمحدث ولو كان حدثه أكبر أن يمس القرآن الكريم عند الضرورة، لأن الضرورات تبيح المحظورات.
وبهذا انتهى ما أردت جمعه، وما قصدت بيانه وحكمه من هذه المسائل المهمة المتعلقة بأعظم كلام، وأشرف كتاب، فما كان فيه من حق وصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ وزلل فمني، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
* * *(13/3)
التوكيل في الخصومة في الفقه الإسلامي
د. محمد بن إبراهيم بن علي الغامدي
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة
كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة الملك خالد
ملخص البحث
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده
أما بعد:فيتكون البحث من مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة
بينت في المقدمة أهمية الموضوع والأسباب الداعية للكتابة فيه، وفي التمهيد عرفت بالوكالة، والخصومة، وبينت حكم الوكالة بوجه عام
أما في الفصل الأول: فقد بينت حكم التوكيل في الخصومة.
وفي الفصل الثاني تحدثت عن شروط التوكيل بالخصومة وقد جعلت كل شرط في مبحث مستقل.
وفي الفصل الثالث: تحدثت عن تصرفات وكيل الخصومة،ما يجوز منها بلا نزاع،ومالا يجوز بلا نزاع وما فيه خلاف أوضحت فيه آراء الفقهاء وأدلتهم ورجحت ما يقتضيه الدليل.
أما الفصل الرابع: فقد تحدثت فيه عن العوض في الوكالة.
وفي الفصل الخامس: تحدثت عن صفة عقد الوكالة وأسباب الفسخ.
وفي الخاتمة أوردت نتائج البحث، وذيلت البحث بفهارس للمراجع وآخر للموضوعات
والله أسأل أن يجعل عملي فيه خالصاً لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين
* * *
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين، أمَّا بعد:(13/4)