الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين.
وبعد.
فإنه من خلال دراسة هذا الحديث العظيم، وهذه الوصية الكريمة من رسول الله (، يتبين ما يلي:
1- ضرورة تربية الناس، وبخاصة النشء على التعلق بالله تعالى، وحفظ حقوقه.
2- أن أعظم حقوق الله تعالى توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والحرص على سلامة العقيدة مما قد يشوبها من الشرك والبدع والضلالات، إذ إن سلامة العقيدة وإخلاص العمل لله تعالى مع حسن المتابعة لرسوله (هي شروط قبول العبادة؛ التي إن تأخر أحدها حبط العمل.
3- أن من حفظ حدود الله، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات فإن الله يحفظه في دينه ودنياه.
4- أن تحقيق هذا الحديث والعمل به يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق وعن سؤالهم، واستعانتهم، ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله (بالطاعة والعبادة، وتقديم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، والحذر مما يسخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً.
5- وجوب تربية الناس وتعليمهم الإيمان بالقضاء والقدر وأن ذلك لا يناقض العمل والاجتهاد في العبادة، بل يوجبه ويدعو إليه.
6- وجوب التعرف إلى الله والالتزام بشرعه في جميع الأوقات، وبخاصة في أوقات الرخاء، الذي هو مظنة الفتور والنسيان، وأن ذلك التعرف هو سبب نصر الله وتأييده في الشدة وعند الكرب والعسر.
7- فهم هذا الحديث والعمل به من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد في سبيل الله، وذلك أن المسلم يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن العبد لا يصيبه ضر ولا نفع إلا ما قدر عليه.
الحواشي والتعليقات(10/241)
أثر الإيمان في توجيه الأخلاق
د. عبد الله الغفيلي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
ملخص البحث
... يبين هذا البحث الأثر العظيم للإيمان في توجيه الأخلاق وتطهير النفوس من قبيح الأفعال وسيئها.
وذلك لما للأخلاق في دين الإسلام من شأن عظيم ومكانة عالية حيث دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم لأنها أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام، وهناك ارتباط وثيق بين الأخلاق والإيمان، وكل عمل يقوم به العبد المسلم يحتاج إلى الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة ولاشك أن من فقد الإيمان والتقوى فقد فقد تلك الأخلاق، وكلما كان المؤمن أكمل أخلاقاً كان أكثر إيماناً.
... والالتزام بمكارم الأخلاق فيه تقوية لإرادة الإنسان وتمرينها على حب الخير وفعله والبعد عن الشر وتركه، وبذلك تتحقق سعادة القلب، وعلى رأس تلك الأخلاق: الصدق، الصبر، الأمانة، التواضع وغيرها.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (] آل عمران 102 [.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (] النساء 1 [، (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (] الأحزاب 70،71 [.(10/242)
وبعد: فإن الأخلاق في دين الإسلام عظيم شأنها عالية مكانتها، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام وهي: الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة الكبرى والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (.
بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والعقلاء يجمعون على أن الصدق والوفاء بالعهد والجود والصبر والشجاعة وبذل المعروف أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر والجبن والبخل أخلاق سيئة يذم صاحبها.
والدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإخلاص العمل له وإلى دينه تحتاج إلى الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، ويصعب توفر تلك الأخلاق فيمن يفقد الإيمان والتقوى، ورسول الله (وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين أفضل من دعا إلى الله تعالى بأخلاقهم الإسلامية الحميدة وصفاتهم الحسنة، قال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله وضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود (] محمد 29 [.
فحاجة المؤمن إلى الاقتداء بهم كحاجته إلى الطعام والشراب بل أشد، وأهداف العقيدة السليمة يرأسها دعوة العبد إلى التحلي بالأخلاق الحسنة ليفوز بسعادة الدارين، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً (] الأحزاب29 [
فالعقيدة هي التي تقود العبد، فإذا صحت العقيدة وكمل الإيمان حسنت الأخلاق والعكس يؤدي به إلى التخلق بالأخلاق السيئة والأفعال القبيحة، عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (1) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان (1/56) ، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان (1 /76) .(10/243)
وقد يتصور بعض الناس أن حسن الخلق محصور في الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة فقط، والحقيقة أن حسن الخلق أوسع من ذلك فهو يعني إضافة إلى الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، التواضع وعدم التكبر ولين الجانب، ورحمة الصغير واحترام الكبير، ودوام البشر وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة وإصلاح ذات البين والتواضع والصبر والحلم والصدق وغير ذلك من الأخلاق الحسنة والأفعال الحميدة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن منهج السلف في الأخلاق والسلوك "يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله (: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (1) ، ويندبون أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها" (2)
__________
(1) ... أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الرضاع (3/457) ، وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/3) وقال: هذا حديث صحيح.
(2) ... العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص (181، 182) .(10/244)
ويقول السفاريني (1) : حسن الخلق القيام بحقوق المسلمين، وهي كثيرة منها أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم ولا يفخر عليهم ولا يختال، فإن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا يتكبر ولا يعجب فإن ذلك من عظائم الأمور … وأن يوقر الشيخ الكبير , ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه مع طلاقة الوجه وحسن التلقي ودوام البشر ولين الجانب وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذات بين إخوانه وتفقد أقرانه وإخوانه، وأن لا يسمع كلام الناس بعضهم في بعض وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله لا لأجل غرض مع ستر عوراتهم وإقالة عثراتهم وإجابة دعواتهم … وأن يحلم عن من جهل عليه ويعفوا عن من ظلم …" (2) .
وقال الحسن البصري (3) - رحمه الله تعالى - "معالي الأخلاق للمؤمن، قوة في لين وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة، وبذل في السعة وقناعة في الفاقة، ورحمة للمجهود وإعطاء في كرم وبر في استقامة " (7)
وقال الأشعث بن قيس (يوماً لقومه: إنما أنا رجل منكم ليس في فضل عليكم، ولكن أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأقضي حقوقكم، وأحوط حريمكم. فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد علي فهو خير مني، ومن زدت عليه فأنا خير منه. قيل له: يا أبا محمد ما يدعوك إلى هذا الكلام؟ قال أحضهم على مكارم الأخلاق (4) .
__________
(1) ... هو محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، محدث، فقيه، أصولي، من مصنفاته: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، توفي سنة 1188هـ. الأعلام (6/240) ، معجم المؤلفين (8/262) .
(2) ... غذاء الألباب للسفاريني (1/362، 363) باختصار.
(3) ... هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، كان من أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد عرف بالزهد والشجاعة، توفي سنة 110هـ. سير أعلام النبلاء (4/563) ، تهذيب التهذيب (2/263) .
(4) ... المصدر السابق (1/367) .(10/245)
ويقول ابن حبان (1) – رحمه الله تعالى -: "الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها" (2) .
وليس المقصود من هذا البحث هو استقصاء الأخلاق الحسنة والفضائل الطيبة التي حث الإسلام عليها ورغب فيها، وكلام أهل العلم في الحث عليها، وإنما المقصود بيان ارتباط الأخلاق بالإيمان، وأن للإيمان أثراً في توجيه الأخلاق وتزكية النفوس وتهذيبها، وكلما كان المؤمن أكمل أخلاقاً كان أكثر إيماناً، ومن أوضح الأدلة على فضل الأخلاق وعلو منزلتها ومكانتها من الإيمان ما جاء في حديث أنس بن مالك (قال: كنا جلوساً مع رسول الله (، فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد، قال النبي (مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي (مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي (، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ، فعلتُ. قال: نعم.
__________
(1) ... هو محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي، كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، من مصنفاته: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، توفي سنة 354هـ. تذكرة الحفاظ (3/920) ، شذرات الذهب (3/16) .
(2) ... روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص (64) .(10/246)
قال أنس: وكان عبد الله يحدِّثُ أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ، وكدتُ أن أحقرَ عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجرٌ ثم، ولكن سمعت رسول الله (يقول لك ثلاث مرار: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرارٍ، فأردت أن آوي إليك، لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله (؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (1) .
وقد وفقني الله سبحانه لاختيار هذا البحث لأبين فيه ما للإيمان من أثر عظيم في توجيه الأخلاق وتطهير النفوس من قبيح الأفعال وسيئها، وجعلت عنوانه: "أثر الإيمان في توجيه الأخلاق".
وقد سلكت فيه الخطة التالية:
المقدمة، وقد اشتملت على أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: تعريف الأخلاق لغة واصطلاحاً.
المبحث الثالث: منزلة الأخلاق في الإسلام.
المبحث الرابع: الارتباط بين الأخلاق والإيمان.
المبحث الخامس: الغاية من الأخلاق الإسلامية.
المبحث السادس: بعض الأخلاق الإسلامية وأثر الإيمان عليها.
المبحث السابع: أثر الإيمان في توجيه الأخلاق.
الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث.
__________
(1) ... أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/166) ، وعبد الرزاق في مصنفه (11/287) ، وابن عبد البر في التمهيد (6/121) ، والبغوي في شرح السنة (13/112) ، وقال الهيثمي في المجمع (8/79) : ورجال أحمد رجال الصحيح.(10/247)
وكان عملي في هذا البحث عزو الآيات إلى سورها من القرآن وتخريج الأحاديث والحكم عليها من خلال كلام أهل العلم فيها إذا كانت في غير الصحيحين، والترجمة للأعلام غير المشهورين، وشرح الكلمات الغريبة، والتعريف بالفرق والمصطلحات الواردة فيه، وتوثيق النقول وعزوها إلى أصحابها وغير ذلك مما يتطلبه البحث العلمي، وعملت فهرساً للمصادر والمراجع، وآخر للموضوعات.
وفي الختام أسال الله سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به من قرأه، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يحسن أخلاقنا، إنه سميع مجيب. وصلى الله وصلى سلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الإيمان لغة
الإيمان مصدر آمن يؤمن إيماناً، فهو مؤمن، وهو مشتق من الأمن.
وأصل آمن بهمزتين لينت الثانية، وهو من الأمن ضد الخوف (1) .
قال الجوهري (2) : الإيمان: التصديق، والله تعالى المؤمن، لأنه أمّن عباده من أن يظلمهم، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية ... والأمن ضدّ الخوف (3) (
وقال ابن منظور) (4) (: الإيمان ضدّ الكفر، والإيمان بمعنى التصديق ضدَه التكذيب، يقال: آمن به قوم وكذب به قوم) (5) (.
__________
(1) ... تهذيب اللغة للأزهري (15/513) .
(2) هو إسماعيل بن حماد الجوهري، اللغوي، صاحب كتاب " الصحاح في اللغة، توفي سنة 396هـ. معجم الأدباء (6/151) ، بغية الوعاة (1/446) .
(3) الصحاح (5/2071) .
(4) هو أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الإفريقي، المعروف بابن منظور، أديب لغوي، من مصنفاته: لسان العرب، توفي سنة 711هـ. بغية الوعاة (1/248) ، شذرات الذهب (6/26) .
(5) لسان العرب (13/21) .(10/248)
وقال الراغب الأصفهاني) (1) (: آمن إنما يقال على وجهين:
أحدهما: متعدّياَ بنفسه، يقال: آمنته، أي جعلت له الأمن ومنه قيل لله مؤمن.
والثاني: غير متعدُّ، ومعناه صار ذا أمن.
وقوله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (] يوسف 17 [قيل: معناه بمصدق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن) (2) (
وقال الفيروز أبادي) (3) (: ((الإيمان الثقة، وإظهار الخضوع)) (4) (.
وخلاصة ما سبق أن الإيمان في اللغة معناه التصديق الذي معه أمن وليس مجرّد التصديق يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (تعالى: (( ... فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ... فاللفظ متضمّن مع التصديق معنى الائتمان أو الأمانة , كما يدلّ عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: (وما أنت بمؤمن لنا (] يوسف 17 [، أي لا تقرّ بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممّن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم ... )) ) (5) (.
المطلب الثاني: تعريف الإيمان اصطلاحاً
من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان.
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصبهاني المعروف بالراغب، من مصنفاته: المفردات في غريب القرآن، توفي سنة 502هـ. سير أعلام النبلاء (18/120) ، بغية الوعاة (2/297) .
(2) المفردات ص (56) .
(3) هو محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي الشافعي، اللغوي، صاحب القاموس المحيط، توفي سنة 817هـ. شذرات الذهب (7/126) ، معجم المؤلفين (12/118) .
(4) القاموس المحيط (ص 1518) .
(5) مجموع الفتاوى (7/291، 292) .(10/249)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ((ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح)) ) (1) (.
فهذه خمسة أمور اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول القلب، وعمله، وقول اللسان، وعمله، وعمل الجوارح، كما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -. والأدلة على دخول هذه الأمور في مسمى الإيمان كثيرة منها:
أولاً: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (] الزمر33، 34 [. وقال تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين (] الأنعام 75 [. وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا (] الحجرات 15 [قال تعالى في المرتابين الشاكين: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (] آل عمران 167 [.
وفي حديث الشفاعة ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (2) ، وغير ذلك من الأدلة.
__________
(1) العقيدة الواسطية بشرح الهراس ص (161) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (13/473) ، ومسلم في صحيحه (1/177) .(10/250)
ثانياً: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (] البقرة 136 [، وقال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق (] القصص 53 [وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب (] الشورى 15 [، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (] الزخرف 86 [، وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (] الأحقاف 13 [، وقال (: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله..)) (1) وما في معنى هذا من النصوص.
ثالثاً: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (] الأنعام 52 [وقال: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (] الليل 20 [وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون (] الأنفال 2 [، وقال: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (] المؤمنون 60 [وغير ذلك من النصوص الدالة على وجوب التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، وهي كثيرة جداً في الكتاب والسنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/75) ، وأخرجه مسلم (1/53) .(10/251)
رابعاً: عمل اللسان، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان، قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارة لن تبور ((فاطر 27 [، وقال تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته (] الكهف 27 [، وقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً (] الأحزاب 41 [، وقال: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (] المزمل 20 [. وغير ذلك من نصوص الشرع الدالة على أعمال اللسان والطاعات التي تؤدى به.
خامساً: عمل الجوارح، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المساجد وإلى الحج والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح، قال الله تعالى: (وقوموا لله قانتين (] البقرة 238 [، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم (] الحج 78،77 [. وقال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً (] الفرقان 64،63 [، والنصوص في هذا كثيرة جداً (1) .
__________
(1) انظر معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (2/17 وما بعدها) .(10/252)
قال محمد بن حسين الآجري (1) في باب ((القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث)) قال: ((اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.
ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين ... )) (2) .
ثم ساق من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية ما يدل على ذلك ويؤيده.
المبحث الثاني: تعريف الأخلاق لغةً واصطلاحاً
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الأخلاق لغةً
الأخلاق جمع خلق بضم الخاء المعجمة، وبضم اللام وبسكونها، والخلق يطلق في اللغة على معانٍ هي:
الدين، والطبع، والسجية والمروءة، مأخوذة من الخلق، وهو التقدير) (3) .
__________
(1) هو محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، كان عالماً صاحب سنة واتباع، من مصنفاته: كتاب الشريعة، توفي سنة 360هـ. تاريخ بغداد (2/243) ، تذكرة الحفاظ (3/936) .
(2) الشريعة للآجري ص (119) ، وانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/832) .
(3) لسان العرب، لابن منظور (10/86) ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (3/229) .(10/253)
قال ابن فارس) (1) (: ((الخاء واللام والقاف: أصلان: يدل أحدهما على تقدير الشيء والآخر على ملامسته، أما الأول: فيقال فيه: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته، ومن ذلك الخُلُق، وهي السجية؛ لأن صاحبها قد قدّر عليه، وفلان خليق بكذا، وأخلق به، وما أخلقه! أي هو ممن يُقدر فيه ذلك، والخلاق: النصيب؛ لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه ….
أما الأصل الثاني: فيقال فيه: صخرة خلقاء أي ملساء … ومن هذا الباب: أخلق الشيء وخلق وخلِق إذا بلي…)) ) (2) (.
أو هو مأخوذ من الخلق بمعنى الإبداع من غير أصل ولا احتذاء ... قال الراغب في المفردات: ((والخَلق والخُلق في الأصل واحد كالشَّرب، والشُّرب والصَّرم والصُّرم، لكن خُصَّ الخَلْق بالهيئات والأشكال، والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة)) ) (3) (.
المطلب الثاني: تعريف الأخلاق اصطلاحاً
الخُلُق: حال للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية) (4) (.
وعرفه ابن المبارك) (5) (رحمه الله تعالى بقوله: "هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى) (6) (.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه") (7) (.
__________
(1) هو أحمد بن فارس بن زكريا الرازي اللغوي الأديب، من مصنفاته: معجم مقاييس اللغة، توفي سنة 395هـ. معجم الأدباء (4/80) ، وفيات الأعيان (1/118) .
(2) معجم مقاييس اللغة (2/213214) .
(3) المفردات في غريب القرآن للراغب ص (158) .
(4) ... المعجم الوسيط (1/261) .
(5) هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي، شيخ الإسلام في زمانه، وأمير الأتقياء في وقته وأمير المؤمنين في الحديث آنذاك، توفي سنة 181هـ. سير أعلام النبلاء (8/378) .
(6) ... أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر والصلة (4/363) .
(7) ... الآداب الشرعية لابن مفلح (2/216) .(10/254)
وعرفه ابن مسكويه) (1) (بأنه: (حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب ... ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً)) (2) (.
وعرفه الغزالي) (3) (بأنه: (هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً)) (4) (.
وعرفه الأصفهاني بأنه: اسم (للهيئة الموجودة في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر)) (5) (.
وعرفه الجرجاني بقوله: (عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة سميت الهيئة خلقاً حسناً، وإذا كانت الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً)) (6) (.
__________
(1) هو أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والتاريخ، توفي سنة 421هـ، معجم الأدباء لياقوت (5/5) ، والأعلام للزركلي (1/211) .
(2) تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لابن مسكويه ص (41) .
(3) هو أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، الفقيه الشافعي الغزالي، الفقيه الأصولي، من مصنفاته: إحياء علوم الدين، توفي سنة 505هـ. وفتيات الأعيان لابن خلكان (4/216) ، والأعلام للزركلي (7/22) .
(4) الإحياء للغزالي (3/52) .
(5) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص (114) .
(6) التعريفات للجرجاني ص (152) .(10/255)
وقال القرطبي: "الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمود على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها، ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو والحلم والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك ") (1) (.
ومن أجمع التعاريف وأحسنها التي جمعت بين عناصر الخلق كلها تعريف العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: (هيئة مركبة من علوم صادقة، وإرادات زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقاً هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها)) (2) (.
المبحث الثالث: منزلة الأخلاق في الإسلام
علم الأخلاق من أشرف العلوم وأعلاها قدراً، وقيمة الإنسان تقاس بأعماله وأخلاقه، ولذا فإن للأخلاق في الإسلام منزلة عظيمة تعلم من مبلغ العناية التي عنيت بها في الكتاب والسنة، جاء في حديث أبي هريرة (أن النبي (قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (3) .
وقد كانت عناية القرآن الكريم منذ بداية نزوله على نبينا محمد (بأمرين:
الأول: تقرير الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، وغرس عقيدة التوحيد الصافية في النفوس، والتحذير من الشرك والبعد عنه، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله ءواجتنبوا الطاغوت (] الأعراف 36 [.
__________
(1) ... فتح الباري (10/456) .
(2) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص (196) .
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4/1987) .(10/256)
الثاني: غرس الأخلاق الفاضلة لتزكية القلوب وتطهير النفوس واستئصال رذائلها والأخلاق السيئة منها، ومن ذلك قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (] الأعراف 199 [قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (1) .
وقد كان من أجل غايات بعثة نبينا محمد (إتمام مكارم الأخلاق كما جاء في حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله (( (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) (2) .
قال ابن عبد البر (3) في التمهيد: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه" (4) .
ومن أجل ذلك فقد جعل الله الأخلاق مقياساً للخيرية كما قال (( (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً)) (5) .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (2/304) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/381) ، والإمام مالك في الموطأ بلاغاً (2/904) ، والحاكم في المستدرك (2/613) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/334) : هذا حديث مدني صحيح.
(3) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد الله النمري، أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث في المغرب، قال الذهبي: كان في أصول الديانة على مذهب السلف، توفي سنة 463هـ. سير أعلام النبلاء (18/153) .
(4) التمهيد (24/334) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/80) ، ومسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1810) .(10/257)
وجعلها من كمال الإيمان كما قال (( (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً)) (1) ، وأكثر ما يثقل الميزان يوم القيامة بالحسنات هو الأخلاق، قال (: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)) (2) . وقال (: ((إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)) (3) . وهي أكثر أسباب دخول الجنة، "سئل رسول الله (عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (4) . وبحسن الخلق تنال محبة المصطفى (، والقرب منه مجلساً يوم القيامة وإنها لغاية عظيمة، قال (( (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثّرثارون (5) والمتشدقون (6) والمتفيهقون (7)) (8) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص (6) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/362363) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب (5/149) ، والحاكم في المستدرك (1/60) ، وقال: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(4) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر، (4/363) ، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) الثرثار: هو كثير الكلام تكلفاً، والثرثرة: كثرة الكلام. النهاية في غريب الحديث (1/209) .
(6) المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، وقيل: أراد بالمتشدق: المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم. النهاية في غريب الحديث (2/453) .
(7) المتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره. النهاية في غريب الحديث (3/482) .
(8) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/370) ، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.(10/258)
فهذه الأحاديث العظيمة فيها حث عظيم على التحلي بمحاسن الأخلاق لما فيها من بيان لفضله ومنزلته في الإسلام، فما من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله بالإسلام.
ومن هنا يتبين لنا أن الإيمان القوي يكسب الخلق الفاضل، وأن سوء الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، والشخص المعوج في السلوك هو الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد، وقد جاء عن الرسول (في وصف حاله: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) (1) .
والذي يذكر جيرانه ويرميهم بالسوء، ضعيف الإيمان كما جاء في حديث الرسول (قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (2) .
ولقد سأل الرسول (أصحابه يوماً: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/500) ، والترمذي في كتاب البر والصلة (4/365) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب (7/78) .
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/1997) .(10/259)
يقول محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "الحض على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات كثير جداً في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (، ولذلك لما سئلت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن خلقه (قالت: "كان خلقه القرآن " (1) . لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق لأن الله تعالى يقول في نبيه (: (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 4 [. فدل مجموع الآية وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق" (2) .
المبحث الرابع: الارتباط بين الأخلاق والإيمان
الدين الإسلامي دين عظيم يشمل كل جوانب الحياة ولا يهمل شيئاً منها، فهو يربط بين العقيدة، وبين الأخلاق التي ارتضاها للمسلمين، قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (] الإسراء 9 [فمن تأمل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (، تبين له إن مقتضى الإيمان بالله تعالى أن يكون المؤمن ذا خلق محمود، وإن الأخلاق السيئة دليل على ضعف الإيمان، وبذلك يمكننا أن نعرف مدى قوة إيمان الشخص بمقدار ما يتحلى به من مكارم الأخلاق. ومدى ضعف إيمانه بمقدار ما يتصف به من ذميم الأخلاق، حيث يتبين لنا الصلة القوية بين الأخلاق والعقيدة على نحو يجعل انفصال العقيدة عن الأخلاق واستقلالها أمراً مستحيلاً، لأن الذي يحمل على التحلي بفضائل الأخلاق والتخلي عن رذائلها إنما هو الإيمان بمشرعها وهو الله سبحانه وتعالى، وبما جاء به رسولنا (، والإيمان بما يترتب عليها من ثواب عند الامتثال، وعقاب عند الترك، والإيمان بوجوب تزكية النفس وتطهيرها من دنس المعاصي.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/513) .
(2) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/411) .(10/260)
ويتضح هذا جلياً في كتاب الله عز وجل، فالأخلاق الإسلامية التي حث عليها ورغب فيها وأرشد إليها تسبق دائماً بنداء الإيمان، فعندما أمر الله عز وجل المؤمنين بالعدل، سبق الطلب وصف الإيمان للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي العدل، فيقول عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (] المائدة 8 [.
وعندما أمر بالصدق سبقه نداء الإيمان فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (] التوبة 119 [.
كما ورد الربط بين الإيمان، وبين عمل الصالحات والإحسان، فقال عز وجل (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً (] النساء 125،124 [.
كما بين الرسول (في السنة الصلة القوية بين الإيمان والأخلاق الحسنة من الصدق والوفاء والأمانة أو ضد هذه الأخلاق من جانب آخر فقال (: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (1) .
وفي روايةٍ: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كانت فيه خلة من نفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) غير أن في حديث سفيان: ((وإن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق)) (2) .
وهذا يبين لنا أن هذه الأخلاق السيئة التي حذر الإسلام منها من الكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والغدر، والفجور دليل على ضعف الإيمان بالله تعالى، إذ الأخلاق نبتة وثمرة من ثمار الإيمان.
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان (1/14) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1/78) .(10/261)
والإيمان بالله عز وجل يقتضي أن يكون المؤمن متصفاً بالأخلاق الفاضلة من الكرم والجود والسماحة وحسن الجوار، يعرف حقوق جاره عليه، فيؤديها، ولا يفعل ما يؤذيه أو يضره، ويعلم حق ضيفه عليه فيؤديه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه)) (1) .
ويقول (( (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (2) .
وعن عبد الله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)) . قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟
قال: ((غَشْمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار.
إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو بالخبيث)) (3) .
كما يقتضي أن يكون المؤمن حيياً: فقد مر رسول الله (على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله (: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) (4) .
ويقتضي أن يكون المؤمن رحيماً: يقول عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)) (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري (4/54) .
(2) سبق تخريجه ص (34) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/387) ، والحاكم في المستدرك (2/447) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (1/74) .
(5) أخرجه الترمذي في كتاب البر، (4/322) وقال: هذا حديث حسن غريب.(10/262)
وليس المقصود بالرحمة معنى ضيقاً محدوداً، يشمل شخصاً دون آخر، أو جماعة دون أخرى، أو جنساً دون غيره، بل الرحمة بمعناها العام الذي يشمل كل من يستحق الرحمة من خلق الله تعالى.
عن أبي موسى (أنه سمع النبي (يقول: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا)) قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: ((إنه ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)) (1) .
أي الرحمة الشاملة لجميع خلق الله جل في علاه.
وإن من مقتضى الإيمان أن يكون المسلم صابراً محتسباً، راضياً بما قدر الله له، فالرسول (يقول: ((ليس منا من لطم الخدود. وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) (2) .
فإذا وقر الإيمان في القلب، تقبل المؤمن كل ما يأتيه في السراء والضراء، لأنه يعلم أن أمره كله خير، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)) (3) .
فالمؤمن لا يخاف من المصائب والأقدار، إنما يخاف من الذنوب والسيئات وسوء الأخلاق. قال عبد الله بن مسعود (: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا)) قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه" (4) .
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في المسند (7/250) ، والطبراني في مكارم الأخلاق ص (55) ، وقال الهيثمي في المجمع (8/187) ، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/163) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد الرقائق (4/2295) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الدعوات (7/146) .(10/263)
كما بين الرسول (للمؤمن ميزاناً يعرف به إيمانه فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك، فأنت مؤمن) (1) . فالمؤمن دائماً يسعى إلى مكارم الخلاق يتحلى بها، وإلى محاسن السجايا يتصف بها، حتى يكتمل إيمانه، ويثقل ميزان حسناته يوم القيامة، فيدخل جنة ربه.
وقد فهم الصحابة رضوان عليه ذلك فحرصوا عليه، عن أم الدرداء قالت: قام أبو الدرداء ليلة يصلى. فجعل يبكي، ويقول: اللهم أحسنت خلقي، فحسن خلقي، حتى أصبح، فقلت يا أبا الدرداء، ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق، فقال: يا أم الدرداء إن العبد المسلم يحسن خلقه، حتى يدخله حسن خلقه الجنة، ويسئ خلقه، حتى يدخله النار، والعبد المسلم يغفر له وهو نائم. فقلت: يا أبا الدرداء، كيف يغفر له. وهو نائم؟ قال: يقوم أخوه من الليل فيتهجد، فيدعو الله عز وجل فيستجيب له، ويدعو لأخيه، فيستجيب له فيه (2) .
وعن عطاء عن ابن عباس، لما دخل رسول الله (على الأنصار، فقال: أمؤمنون أنتم؟
فسكتوا، فقال عمر: نعم يا رسول الله.
قال: وما علامة إيمانكم؟
قالوا: نشكر على الرخاء، ونصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء.
فقال (: مؤمنون ورب الكعبة (3) .
فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل هذه الأخلاق الكريمة من الشكر على النعمة، والصبر على البلوى، والرضا بما قضى الله وقدر أمارات وعلامات على الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/246) ، والطبراني في الكبير (8/137) ، والحاكم في المستدرك (1/14) ، وقال: صحيح متصل على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (1/86) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/387) .
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/123) ، وفي الأوسط (9/163) ، وسكت عنه الهيثمي في مجمع البحرين (1/195،196) .(10/264)
وبهذا يتبين لنا أن العلاقة وثيقة بين الإيمان والأخلاق في الفرد والمجتمع المسلم، وأن الرابطة الإسلامية والأخوة الإيمانية تزيد كلما التزم أفراد المجتمع بالأخلاق الفاضلة، فالصدق في الحديث والمعاملة والعدل في الحكم والأمانة في جميع الأمور، والوفاء بالعهد والحياء والصبر والحلم والرفق والتعاون على البر والتقوى توجد الثقة والمحبة وتشعر الجميع بالرضى والأمن.
المبحث الخامس: الغاية من الأخلاق الإسلامية
إن الغاية من الالتزام بالأخلاق والفضائل الإسلامية والابتعاد عن الرذائل والأخلاق السيئة هو اكتساب مرضاة الله عز وجل، فإنه سبحانه يحب فعل الخير ويكره فعل الشر، ومن رضي عنه الله سبحانه وتعالى ظفر بسعادة الدارين وعظم أجره وعلت منزلته.
والالتزام بمكارم الأخلاق التي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها فيه تقوية لإرادة الإنسان وتمرينها على حب الخير وفعله والبعد عن الشر وتركه، ويتحقق للمؤمن سعادة القلب بمقدار ما حققه بأفعاله من مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وباكتساب مرضاة الله تعالى تتحقق النجاة من الشقاوة التي يجلبها الإنسان لنفسه بفعل السيئات.
فبالالتزام بالخلق والحرص عليها تطهر النفوس وتزكو قال عز وجل: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ((الشمس 10،9) ، وبالأخلاق يسعد الفرد والمجتمع، وتنتشر الفضيلة وتختفي الرذيلة، وبالأخلاق يكثر الخير والصلاح والصالحون، ويقل الفساد وأهله، وبالأخلاق تبقى الأمم وتقوى وترقى، وجماع ذلك كله حصول مرضاة الله سبحانه وتعالى والأمن من عذابه في الدار الآخرة. وهذه هي الغاية العظمى من عناية الإسلام بالأخلاق وحرصه عليها.(10/265)
ولقد أدرك أعداء المسلمين قيمة الأخلاق الإسلامية في تكوين الأمة المترابطة القوية المتينة، فعملوا على إفساد الأخلاق للمسلمين بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وبكل ما أوتوا من وسائل مادية ومعنوية، ليبعثروا قوتهم المتماسكة، وليفتتوا وحدتهم الصلبة التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ويزيلوا جمالها وبهجتها التي هي مثل الجنة الوارفة الظلال المثمرة خضرة وبهاءً وثمراً.
إن أعداء المسلمين قد أدركوا وعرفوا أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد القوة، فجندوا جنودهم لغزو هذه المعاقل وكسرها بجيوش الفساد والفتنة، وكان غزوهم من عدة جهات، ولقد عرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان بالأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والالتزام بشرعه، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم ويسدوا عيونه، ويقطعوا شرايينه، وعرفوا أن ذلك يتم بدراسة حياتهم وإفساد المفاهيم والأفكار فوجهوا جهودهم لغمس أبناء المسلمين بالانحلال الخلقي بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى وسراية الفساد واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الأخلاق، وقد حققوا بعض ما يريدون ولكن جنود الله من الدعاة والمصلحين لهم جهد كبير في الدعوة إلى دين الله ونشر الفضيلة ودحض الرذيلة وصد كيد الأعداء مستعينين بالله عز وجل الذي كتب النصر لأوليائه كما قال تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز (] المجادلة 21 [.
وإذا عرف المسلمون الغاية من الأخلاق الإسلامية وأهميتها في حياتهم وتمسكوا بها استطاعوا أن يردوا كيد الأعداء في وجوههم ويحفظوا مجتمعاتهم من الرذيلة، والله الموفق.
المبحث السادس: بعض الأخلاق الإسلامية وأثر الإيمان عليها(10/266)
الإيمان بالله سبحانه تعالى هو مصدر الأخلاق ومنبعها، فهو الذي يزكي النفوس ويطهرها ويهذب الأخلاق ويحسنها، وله أثر عظيم في التمسك بها والحرص عليها، والبعد عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، وقد اخترت جملة من الأخلاق الفاضلة التي رأيت أنها جمعت أصول الأخلاق مع بيان أثر الإيمان عليها، ومنها:
1 الصدق:
الصدق خلق عظيم، نال أهمية بالغة في الإسلام، ومن ذلك أن الله مدح الصادقين وأمرنا بالصدق فقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (] التوبة 119 [.
كما أنه سبحانه أثنى على الأنبياء والمرسلين، وبعض عباده المتقين بالصدق، وطلب من المؤمنين اتباع الصادقين وبشرهم به فقال عز وجل: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً (] مريم 41 [.
وقال تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً (] مريم 54 [.
وقال تعالى: (رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه (] الأحزاب 23 [.
وقال تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم (] المائدة 119 [.
الصدق لغة: نقيض الكذب، وهو من صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقاً، وصِدْقاً يقال: صَدَقْتُ القومَ، أي: قلت لهم صدقاً، ومن أمثالهم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، رجل صَدُوقٌ: أي: أبلغ من الصادق، والصديق المبالغ في الصدق (1) .
عرف الماوردي الصدق بقوله: " الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه" (2) .
وعرفه الغزالي بقوله: "فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق" (3) .
وقال بعضهم: "أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصديق: من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله" (4) .
__________
(1) لسان العرب (10/193194) .
(2) أدب الدنيا والدين ص (224) .
(3) الإحياء (4/388) .
(4) المصدر السابق (4/389) .(10/267)
وإذا تأملنا النصوص الواردة في خلق الصدق، نجدها تجعل المسلم يدرك أن الصدق من متممات إيمانه ومكملات إسلامه.
وقد حث الرسول (على الصدق وأخبر أنه يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) (1) .
قال النووي: قال العلماء في هذا الحديث حث على تحري الصدق، وهو قصده الاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه، فيعرف به (2) .
وقد أخبر النبي (أن كذب الحديث من النفاق وعلاماته: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (3) .
وقد أمر الله تعالى عباده المتقين بالقول السديد فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (] الأحزاب 71،70 [.
فالصدق في الأقوال، يجعل أصحابها يصدقون في الأعمال، ويكون ثمرة ذلك الصلاح في الأحوال، وذلك الفوز العظيم.
فالمسلم حين يعامل إخوانه لابد أن يكون صادقاً في معاملاته معهم، فلا يغش ولا يخدع.
قال عليه الصلاة والسلام: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما)) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/95) ، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة (4/2012) .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي (12/253) .
(3) تقدم تخريجه ص (38) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/309) ، ومسلم في صحيحه: كتاب البيوع (3/1164) .(10/268)
وقال (أيضاً: ((الحلف منفَقَةٌ للسلعة ممحقة للبركة)) ، وفي رواية مسلم ((للربح)) (1) .
فيجب على المسلم إذا وعد أحداً أنجز له ما وعد به؛ إذ خلف الوعد من علامات النفاق كما مر ذكره في الحديث.
لهذا، فصدق الوعد من الصفات الحميدة، التي ينبغي أن يتمسك بها المسلم، لأنها سبب من أسباب النجاح في هذه الحياة.
ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، كما قال تعالى: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً (] الفرقان 72 [.
لأن شهادة الزور تعد من أكبر الكبائر، فقد قرنت بالإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال رسول الله (: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس فقال: ((ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت (2) .
وقد نهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن كتم الشهادة، وأخبر بأن الذي يكتمها آثم القلب، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (] البقرة283 [.كما أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالوفاء بالعهد فقال تعالى: (وأوفوا بالعهد إ ن العهد كان مسؤولاً (] الإسراء 34 [. وقال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (] النحل 91 [.
وأثنى على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فقال: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً (] الأحزاب 23 [.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/315) ، ومسلم في صحيحه: كتاب المساقاة (3/1228) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/70) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1/38) .(10/269)
وذم الذين أخلفوا ما عاهدوه عليه، قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (] التوبة75، 77 [.
وللصدق ثمرات طيبة يجنيها الصادقون، فهو طريق الفلاح والنجاح وفيه راحة الضمير وطمأنينة النفس، والبركة في الكسب وزيادة الخير، والنجاة من المكروه، والهداية إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، كما في الحديث المشهور المتقدم.
وقد التزم المسلمون في صدر الإسلام بهذا المبدأ العظيم، وجاء القرآن مؤكداً لهذه الحقيقة، حيث قال تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (] الزمر 33 [.
ولذا فالمسلم الحق هو الذي يصدق في كل أقواله وأفعاله، ويتجنب الكذب ومزالقه، ولا يكذب أبداً مهما نال بذلك من مكاسب.(10/270)
ومن أعظم الأمثلة على صدق الصادقين حديث كعب بن مالك (قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله (قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله (قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله (علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله (بما اعتذر إليه المتخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله (المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض(10/271)
فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله (فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو بن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله (يأتيني فقال إن رسول الله (يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله (فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربك قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله (في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا أستأذن فيها رسول(10/272)
الله (وما يدريني ما يقول رسول الله (إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله (عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله (بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله (فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنونني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله (جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله (قال رسول الله (وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله (إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله قال رسول الله (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما لقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله (أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله (إلى يومي هذا كذبا وإني(10/273)
لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله على رسوله ((لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار (إلى قوله (وكونوا مع الصادقين (فوالله ما نعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم (إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله (حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله (أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا (وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه (1) .
فالصدق من أعظم مقامات الإيمان وشعبه، فالإخلاص والمحبة والرجاء والاستقامة كلها تفتقر إلى الصدق ولا تصح إلا به، فلذا يجب التحلي بهذه الصفة العظيمة.
2- الصبر:
الصبر لغةً: هو المنع والحبس، وهو نقيض الجزع، يقال: صبر صبراً فهو صابر وصبَّار وصبِّير وصبور. وسمي الصوم صبراً، لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح (2) .
وفي الاصطلاح: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لايحسن ولا يجمل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.
وقيل: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، لا إلى الله؛ لأن الله تعالى أثنى على أيوب عليه السلام بالصبر بقوله: (إنا وجدناه صابراً ((ص 44) ، مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين (] الأنبياء 83 [.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، (4/1603) .
(2) لسان العرب (4/438، 439) .(10/274)
ولقد اهتم الإسلام بالصبر، ورفع منزلته، وأثنى على المتحلين به، وهذا يدل على عظم أمره، لأنه أساس كثير من الفضائل، بل هو أصلها، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر عن الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات. لهذا أحب الله سبحانه وتعالى الصابرين فقال عز وجل: (والله يحب الصابرين (] آل عمران 146 [
وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (] النحل 96 [.
وأخبر سبحانه وتعالى أنهم ينالون مزيداً من الفضل والرحمة والثواب في الدنيا والآخرة، فقال: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (] الزمر 10 [.
كما أخبر الله تعالى أن الصبر من الخصال العظيمة التي يجب أن يتصف بها المؤمنون فقال عز وجل: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (] آل عمران 186 [. وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال تبارك وتعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (] البقرة 157 [.
فالصبر وحده هو الذي يعصم من التخبط، ويجعل المسلم يسير متزناً وفق منهج الإسلام في كل شؤون الحياة، فلابد أن يوطن المسلم نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، وكان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ممن برز في هذه الفضيلة، وفي مقدمتهم أولوا العزم من الرسل، ولذلك خاطب الله نبيه الخاتم صاحب الخلق العظيم (، وأمره بالصبر، فقال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (] الأحقاف 35 [.
فنبينا محمد (، أوذي أذىً شديداً ولقي من قومه ما لقي من البلاء، فصبر، واحتمل، وبلّغ رسالة ربه، حتى أتاه اليقين.
يقول الماوردي: "فقد لقي بمكة من قريش وغيرهم ممن كان يدعوهم إلى الله أو يطلب منهم حمايته ليؤدي رسالة الله ما يشيب النواصي، وهو مع ذلك صابر صبر المستعلي، وثابت ثبات المستولي" (1)
__________
(1) أعلام النبوة للماوردي ص (283) .(10/275)
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، وذلك هو الحياة كلها، لذلك كان الصبر نصف الإيمان؛ لأنه ما من مقام من مقامات الإيمان إلا ويلازمه الصبر.
فالمؤمن يحتاج إلى الصبر على الطاعة لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، وهي شاقة على النفس مطلقاً، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل، كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.
ومن أنواع الصبر الصبر عن المعاصي وهي مقتضى باعث الهوى، وما أحوج العبد إلى الصبر عنها. وقد جمع الله أنواع المعاصي في قوله تعالى: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (] النحل 90 [. وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي أصبحت مألوفة بالعادة.
وأما النوع الثالث من أنواع الصبر فهو الصبر على المصائب والأقدار، مثل موت الأعزة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة بالمرض. فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر.
والمؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهة المصائب التي تجري عليه بأن يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط؛ لأن الصبر على المصائب ثمرة من ثمار الإيمان بالقدر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.
والصبر من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، والمؤمن حين يتقي ويصبر ويغفر ويشكر، يوفى أجره بغير حساب، ويكتب له النجاح والفلاح والظفر، في شؤون حياته كلها، وذلك هو الخير كله.
قال الله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (] الشورى 43 [.
وقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (] آل عمران 186 [.
وقال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (] الزمر 10 [.(10/276)
وقال رسول الله (: ((عجباً لأمر المؤمن: إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)) (1) .
والمؤمن يبتلى في هذه الحياة، والفائز من المؤمنين من حسن عمله وصبر واتقى قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (] الملك 2 [.
وهذه نصوص من الكتاب والسنة تبين لنا أنواع الابتلاء وتبشر الصابرين عليه بأعظم المثوبة في الدارين.
وقال الله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (] البقرة 155، 157 [.
وقال تعالى: (والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (] البقرة 177 [.
وقال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين (] محمد 31 [.
وقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 127 [.
وقوله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (] لقمان 17 [.
وفي السنة عن أنس بن مالك (أن رسول الله (قال: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه)) (2) .
وفي رواية الترمذي قال:: قال رسول الله (: ((إن الله تعالى يقول: إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا، لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة)) (3) .
وعن أبي هريرة (قال: قال النبي (: ((يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبته فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة)) (4) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص (43) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرضى (7/116) .
(3) سنن الترمذي (4/602) .
(4) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد (4/603) . وقال: حديث حسن صحيح.(10/277)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: ((إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيِّه (1) من أهل الأرض فصبر واحتسب وقال ما أمر به بثواب دون الجنة)) (2) .
وعن أبي هريرة (قال: إن رسول الله (قال: ((يقول الله ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (3) .
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي (فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) ، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) (4) .
وما عند الله من الجزاء والمثوبة للصابرين هو خير حافز يدعو المؤمن إلى الصبر والمصابرة، حتى يكون من المفلحين.
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (] آل عمران 200 [.
على ما يصيبه ابتغاء مرضاة الله ومن ذلك قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (] البقرة 155، 156 [.
وقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 127 [.
وقوله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (] لقمان 17 [.
__________
(1) بصفيه: بمحبه الخاص من الولد وغيره، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (11/242) : صفيه: بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت.
(2) أخرجه النسائي في سننه: كتاب الجنائز (4/23) . وصححه السيوطي في الجامع الصغير (1/73)
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق (7/173) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: (4/1994) .(10/278)
ومن السنة ما رواه أنس بن مالك (قال: قال رسول الله (: ((الصبر عند الصدمة الأولى)) وفي رواية: (أنه أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال: ((اتقي الله، واصبري)) فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله (فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك. قال: ((إنما الصبر عند أول الصدمة)) أو قال: ((عند أول الصدمة)) .
وفي أخرى نحوه، أنها قالت: (إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، وأنه قال (: لما جاءته وقالت: لم أعرفك: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) ) (1) .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت بنت النبي (إليه: أن ابناً لي قبض، فائتنا وفي رواية: ابني احتضر فأشهدنا وفي أخرى: إن ابنتي قد حضرت فأرسل يقري السلام، ويقول: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمىً، فلتصبر ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه تقسم بالله ليأتينها) (2) .
فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، فلابد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، الاستعانة بالله، والرجوع إلى الله (3) .
وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في مقدمة من أوذي في الله، وقد لقي الرسول (وصحبة الكرام أنواعاً كثيرة من الأذى.
قال تعالى عن قول الرسل لأقوامهم: (ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (] إبراهيم 12 [.
وقال تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (] المزمل 10 [.
وقال تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصبرين واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 126، 127 [
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز (3/171) ، ومسلم في صحيحه (2/637) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/151) ، ومسلم في صحيحه (2/635) .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/445) .(10/279)
وعن ابن مسعود رحمه الله تعالى قال: كأني أنظر إلى رسول الله (، يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)) (1) .
وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله (قال: قال رسول الله (: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)) أخرجه الترمذي، وقال: وكان شعبة يرى أنه ابن عمر (2) .
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله (وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (3) .
ولقد صبر النبي (على الاضطهاد والتعذيب والإيذاء والسخرية. وتحمل كل ذلك (بصبر جميل وعزيمة قوية، ولم يقتصر الأمر عليه (، بل لحق ذلك الأذى كل أتباعه وأقاربه. ففي يوم الخندق حوصرت المدينة ذلك الحصار الشديد الذي لم يعرف المسلمون فيه نوماً ولا راحة، وطالت الفترة، وتعب المسلمون، وكانوا كما وصفهم الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصر وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (] الأحزاب 10،11 [.
__________
(1) أخرجه البخاري (7/249) في ومسلم في صحيحه (3/1417) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة (4/663) . وابن ماجه في سننه: كتاب الفتن (2/1338) . وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (10/512) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب (4/180) .(10/280)
فالصبر له مكانة عظيمة في الإسلام ومنزلة رفيعة في الإيمان؛ لأن أكثر أخلاق الإيمان لا تتم إلا بالصبر، وقد أدرك السلف رحمهم الله تعالى هذه المنزلة العظيمة للصبر من الإيمان حتى قال عبد الله بن مسعود (: "الصبر نصف الإيمان" (1) ، وهذا يبين لنا أهمية خلق الصبر ومكانته العظيمة من الإيمان.
3 الحلم والأناة
الحلم بالكسر: الأناة والعقل، وجمعه: أحلام، وحلوم، والحلم: ترك العجلة (2) .
وفي الاصطلاح: إمساك النفس عن هيجان الغضب.
والأناة: التثبيت وترك العجلة (3) . والحلم بالكسر هو الأناة والتثبت في الأمور (4) ، والحلم: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب (5) .
ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى الحليم، قال تعالى: (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (] آل عمران 155 [، وقال تعالى: (والله شكور حليم (] التغابن 17 [.
والحلم من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يحبها الله تعالى، ويدل على ذلك قوله (للأشج عبد القيس: ((إن فيك لخصلتان يحبهما الله، الحلم والأناة)) (6) .
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/34) ، والبيهقي في شعب الإيمان حديث رقم (48) .
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة (2/93) ، القاموس المحيط (4/99) .
(3) انظر شرح صحيح مسلم للنووي ص (1/155) .
(4) النهاية في غريب الحديث (1/434) .
(5) المفردات للراغب ص (129) .
(6) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان (1/48) .(10/281)
وهو من صفات المؤمنين، ومن كان له عقيدة سليمة إذ هي التي تقود الإنسان وتؤثر في جميع تصرفاته فيغضب في مقام الغضب، ولا يتسرع إلى الانتقام، ولذا كان الحلم من أبرز صفات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فلا ينتقمون من الكفار بأفعالهم السيئة تجاههم، قال الله عز وجل في حق نبيه إبراهيم عليه السلام: (إن إبراهيم لأواه حليم (] التوبة 114 [ونبي الله هود عليه السلام دعا قومه إلى توحيد الله عز وجل وقالوا له: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (] الأعراف 66 [فرموه بالحماقة، وخفة العقل، ولكن بحلمه عليه الصلاة والسلام لم يرم بهم بالقول أو الفعل بل (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (] الأعراف 67 [وهذا الصفات التي يتصف بها الرسل من البلاغ والنصح والأمانة والحلم مما ينبغي أن يتصف بها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (.] الأعراف68 [وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة (1) .
وقوة الإيمان لها تأثير كبير على اكتساب الفضائل الخلقية والسلوكية ومنها صفة الحلم، فالمؤمن الذي يعلم فضل الحلم يجد في نفسه اندفاعاً قوياً لاكتساب فضيلة الحلم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/208) .(10/282)
وهنالك ارتباط وثيق بين الحلم والعقل، وقد سبق تفسير الحلم بالعقل؛ لأن العقل السوي هو الذي يعقل صاحبه عن الاندفاع وراء عواطفه وغرائزه، أو وراء انفعاله وشهواته، أو وراء طبائعه النارية، أو وراء كل ما يميل به إلى الجنوح والانحراف، وإن الإنسان الذي يتحكم في انفعالاته يعد إنساناً قوياً. يقول رسول الله (: ((ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (1) .
ومما يدل على فضل الحلم وبيان أهميته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) (2) .
ومن حلمه (ما جاء في حديث أبي هريرة (قال: بال أعرابي في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي (: ((دعوه، واهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (3) .
فقد علّم الرسول (في هذا الحديث أصحابه كيف يكون الحلم بالجاهلين، وكيف يكون الرفق بهم، وكيف يجب أن يكون الدعاة إلى الله والحق والخير والفضيلة وأنهم ميسرين لا معسرين.
وفي رواية أخرى عن أنس (قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله (إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله (: مه مه!! حتى بال، ثم إن رسول الله (دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) ، قال أنس: ((وأمر (أي رسول الله () رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فسنّه عليه)) (4) . (أي فصبه على المكان الذي بال فيه الأعرابي) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/2014) .
(2) تقدم تخريجه ص (81) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوضوء (1/61) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الطهارة (1/236) .(10/283)
وهذا يدل على حلم الرسول (وعلى رفقه وحسن سياسته وهذا الخلق العظيم هو الذي ملك به قلوب أصحابه وفرض به احترامه على أعدائه.
ومن حلمه (عدم دعائه على الذين آذوه من قومه، وكان باستطاعته أن يدعو عليهم فيهلكهم الله، ولكنه (حلم عليهم رجاء صلاحهم، وصلاح من يخرج من ذريتهم.
فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن النبي (قال لملك الجبال لما جاءه عارضاً عليه أن يطبق على قومه الجبلين المحيطين بمكة فقال النبي (: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) (1) .
وهكذا كان الرسول (حليماً في أحلك الأوقات وأقسى الحالات شدة.
فالحلم أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد؛ وقد قال علي بن أبي طالب (: أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره (2) .
يقول صاحب بهجة الناظرين: الحلم منزلة بين رذيلتين الغضب والبلادة، وهو تأني وسكون عند الغضب أو مكروه مع قدرة وقوة وصفح وعقل؛ فالحليم لا يستفزه الذين لا يعلمون ولا يستخفه الذين لا يعقلون وإنما يضبط نفسه عند هيجان الغضب. وهو يبدأ بكظم الغيظ ثم النظر في عواقب الأمور وبوضع الشيء في موضعه مما يدل على صحة العقل وكماله وعلم صاحبه وإرادته القوية التي تبصره في اتخاذ رد الفعل السليم باتباع أيسر الأمور وأرشدها، وقد ينتهى الأمر بالعفو والإحسان (3) ، ولذلك يقول الله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (] آل عمران 134 [. (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم (] فصلت 34، 35 [.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق (4/83) ، ومسلم في صحيحه: كتاب الجهاد (3/1421) .
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي ص (245) .
(3) بهجة الناظرين ص (678679) ، بتصرف.(10/284)
ويقول الرسول (: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)) (1) .
ويقول (: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) (2) . ويقول (: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) (3) .
أما عن أسباب الحلم التي تؤدي إلى ضبط النفس، فيقول الماوردي:
"وأسباب الحلم الباعثة على ضبط النفس عشرة:
أحدها: الرحمة للجهال وذلك من خير يوافق رقة …
والثاني: القدرة على الانتصار وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة ...
والثالث: الترفع عن السباب وذلك من شرف النفس وعلو الهمة ...
والرابع: الاستهانة بالمسيء وذلك عن ضرب من الكبر والإعجاب …
والخامس: الاستحياء من جزاء الجواب وهذا يكون من صيانة النفس وكمال المروءة…
والسادس: التفضل على الساب فهذا يكون من الكرم وحب التألف…
والسابع: استكفاف الساب وقطع السِّباب وهذا يكون من الحزم…
والثامن: الخوف من العقوبة على الجواب وهذا يكون من ضعف النفس وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم …
والتاسع: الرعاية ليد سالفة وحرمة لازمة، وهذا يكون من الوفاء وحسن العهد ...
والعاشر: المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا يكون من الدهاء…" (4) .
والمؤمن الذي يعلم فضل الحلم عند الله، والثواب العظيم الذي أعده الله للحلماء، لابد أن يجد في نفسه اندفاعاً قوياً لاكتساب فضيلة الحلم، والتحلي بها.
وكما رغب الإسلام بالحلم وحث عليه حذّر من الأخلاق المنافية له، والتي منها الغضب، والغضب مناف للحلم، جاء في حديث أبي هريرة (أن رجلاً قال للنبي (: أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، فردد ذلك مراراً، فقال: ((لا تغضب)) (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر (4/2004) .
(2) المصدر السابق (4/2004) .
(3) المصدر السابق (4/2003) .
(4) أدب الدين والدنيا ص (245249) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب (7/99) .(10/285)
وفي حديث عبد الله بن مسعود أن النبي (قال: ((ما تعدون الصُّرعة فيكم؟)) قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، فقال الرسول (: ((ليس بذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)) (1) .
فبين الرسول (أن الذي يملك نفسه عند الغضب هو القوي وهي تدل على صفة الحلم العظيمة عند هذا الإنسان.
يقول أبو حاتم: "الواجب على العاقل إذا غضب واحتد أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعديه حرماته، ثم يحلم ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي" (2) .
فالحلم من صفات رب العالمين، وصف الله به أنبياءه وبعض عباده الصالحين فحري بالمؤمن التحلي به والحرص عليه.
4 الأمانة
الأمانة لغةً: ضد الخيانة (3) .
وحقيقتها: أن يعف الإنسان عن أخذ ما ليس له بحق.
وعرفها صاحب البحر المحيط بقوله: "كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، والشرع كله أمانة" (4) .
والأمانة من الأخلاق الإسلامية العظيمة التي دعا إليها الإسلام، وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تحث على الأمانة والوفاء بالعهود وتدعو كل مؤمن بالله بالمحافظة عليها، قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ((النساء 58) .
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (] الأنفال 27 [.
ولا يمتثل بهذا الأمر إلا من كان يعتقد أن الله تعالى يسمع ويبصر ومن ثم تؤثر فيه هذه العقيدة، وتزجره عن الخيانة (إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً (] النساء 58 [.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/2014) .
(2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم ص (212) .
(3) القاموس المحيط للفيروزآبادي (4/178) .
(4) البحر المحيط (7/253) .(10/286)
وقد بين الله تعالى الجزاء الذي يستحقه المتصف بالأمانة فقال عز وجل: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (] المؤمنون 1، 11 [.
وعلق ابن كثير رحمه الله تعالى على هذه الآية قائلاً: (هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في الآيات هم المفلحون السعيدون) (1) .
فالأمانة فضيلة من الفضائل وخلق اجتماعي لا يستطيع أي مؤمن أن يستغني عنها إن كان يرجو الله واليوم الآخر والثواب العظيم.
فقد قال رسول الله (: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)) (2) .
ويتضح معنى الأمانة من خلال قوله سبحانه وتعالى: (إنا عرضا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً (] الأحزاب 72 [.
فالأمانة فسّرها ابن عمر بالنية التي يعتقدها الإنسان، فيما يظهره باللسان من الإيمان، ويؤديه من الفرائض في الظاهر (3) .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أقوال المفسرين في معنى الأمانة في هذه الآية، وذكر منها الفرائض، والطاعة، والدين، والحدود، قال ابن كثير: (وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي) (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/232) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (2/441) . برقم (893) مع الفتح.
(3) انظر: لسان العرب (13/22) .
(4) تفسير ابن كثير (3/530) .(10/287)
وقال ابن منظور في اللسان: الأمانة: تقع على الطاعة، والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان. وقال ابن التين: (الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف) (1) .
وعليه فطاعة الله وأداء الفرائض التي شرعها الله للناس أمانة، وبهذا تكون شاملة لجميع التكاليف، والالتزامات الدينية والدنيوية، التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها.
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تتناوشه الشهوات، والنزاعات، والميول والأطماع، وتخلت عن حملها السموات والأرض والجبال.
فالأمانة تنتظم الاستقامة في شؤون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة، وتكافل اجتماعي، وخلق حسن كريم.
والأمانة بهذا المعنى، وهذه الحدود، سر سعادة الأمم، أو شقائها، ويوم كانت أمة الإسلام صادقة في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت خير أمة أخرجت للناس.
والأمانة بهذا المعنى تشمل الدين كله فعن أنس بن مالك، (قال: ما خطبنا نبي الله (، إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (2) .
وعن ابن مسعود (قال: ((إن الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والغسل أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدوها، وأشد ذلك الودائع)) (3) .
__________
(1) لسان العرب (12/22) .
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/135) ، وابن حبان في صحيحه (1/208) ، والبغوي في شرح السنة (1/75) ، وقال: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن أبي شيبة ص (18) .
(3) ذكره المنذري في الترغيب (4/5) ، وقال رواه أحمد والبيهقي مرفوعاً، وذكر عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال: إسناده جيد، وقال ابن كثير في تفسيره (3/488) : إسناده جيد ولم يخرجاه.(10/288)
فكل ما أوجبه الشرع، وأمر به الإسلام، حفاظاً على مصالح الناس الدينية والدنيوية، من دين وعقل ومال ونفس ونسل، يدخل في معنى الأمانة التي يجب المحافظة عليها.
والأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، فالولايات والأعمال العامة أمانة لدى الولاة، وهذا أمر قدره الإسلام، فقد جاء في حديث أبي ذر (قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر.. إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)) (1) .
لذا نجد أن النبوة التي نالها نبي الله يوسف عليه السلام انضاف إليها الحفظ والعلم وقال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (] يوسف 55 [
وتقتضي الأمانة أن نختار للأعمال الأكفاء، فإذا عدلنا عنهم إلى غيرهم لهوى أو رشوة أو قرابة فقد وقعنا في خيانة، حيث أبعدنا الكفؤ، ومكنا من هو دونه، قال رسول الله (: ((من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين)) (2) . وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم)) (3) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) فقال السائل عن قيامها: وكيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة (3/1407) .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/9293) ، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/93) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم (1/21) .(10/289)
ومن الأمانة حفظ الحواس والمواهب التي أنعم الله بها على الإنسان وخصه بها، وكذلك رعاية الأهل والذرية والمال، إذ هي بمثابة ودائع الله الغالية عند الإنسان، فينبغي أن يسخرها في مرضاة الله.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (] الأنفال 27، 28 [.
وقال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً (] الكهف 46 [.
ومن الأمانة حفظ أسرار العلاقات الزوجية، فما يضمه البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته، يجب أن يطوى، ولا يطالع عليه أحد مهما كان قريباً إلى أحد الزوجين، لأنه خلاف أدب الإسلام.
تقول أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها بأنها كانت عند رسول الله (والرجال والنساء قعود عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فأرم (1) القوم، فقلت: إي والله، يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن!!! قال: ((فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة، فغشيها والناس ينظرون)) (2) .
وقال رسول الله (: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (3) .
فالأمانة من مكارم الأخلاق التي يحث عليها الإسلام.
__________
(1) سكتوا وجلين، أرم القوم: أي سكتوا ولم يجيبوا. النهاية في غريب الحديث (2/267) .
(2) أخرجه أحمد في المسند (6/457) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/294) رواه أحمد والطبراني وفيه شهر بن خوشب وحديثه حسن وفيه ضعف، قال العلامة الألباني بعد ذكره لشواهد هذا الحديث: فالحديث بهذه الشواهد صحيح أو حسن على الأقل: انظر آداب الزفاف في السنة المطهرة ص (144) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب النكاح (2/1061) .(10/290)
والأمانة أمر جامع لكل ما كلف به الفرد أو استؤمن عليه، وهي تشمل حقوق عدة، منها حقوق الله تعالى ومنها حقوق العباد.
والأمانة هي صفة المؤمنين المصلين لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذلك يقول تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون … والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (] المؤمنون 1، 8 [. وقال تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين (إلى قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (] المعارج 19، 32 [.
كما حذرنا الله سبحانه وتعالى من الخيانة فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (] الأنفال 27 [، وعن الحث والأمر بأدائها يقول تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (] النساء 58 [.
ويقول (: ((أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) (1) .
ولذلك فالأمانة تنقسم إلى عدة حقوق واجبة على الإنسان.
منها: حقوق الله تعالى ومنها حقوق العباد.
أما حقوق الله تعالى على العباد فتتمثل في أداء كل ما كلف به العباد من تكاليف وهي العبادات بمعناها الشامل والتي خلق الله الإنسان من أجلها يقول تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون … (] الذاريات 56، 58 [.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/414) ، وأبو داود في سننه، كتاب البيوع (3/805) ، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب البيوع (3/564) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/46) ، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(10/291)
وأما حقوق العباد فتتمثل في حسن معاملتهم وعدم فعل ما يضرهم وينطبق ذلك على أقرباء الفرد بحسب قربهم، وعلى الجيران، وعلى الناس والمجتمع كله، فيؤدي الفرد ما عليه نحو المجتمع من عطاء ووفاء بحيث يرقى بمجتمعه ويحفظ كيانه ومرافقه، ويخلص في عمله، ويكون أميناً في معاملة الناس في أية مهنةٍ يمتهنها أو عمل يقوم به.
ومن الأمانة إخلاص الفرد في عباداته، ومن الأمانة حسن الانتفاع بالوقت خاصة وأننا سوف نسأل عن العمر فيما أفنيناه.
ومن الأمانة إخلاص الفرد في عمله والدارس في درسه، ولذلك ذهب بعض المفسرين أن قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (] النساء 58 [تضمنت جميع الدين والشريعة وآدابها.
وخيانة الأمانة تشمل الكذب وعدم الوفاء بالوعد، لأنها تجمع كل الخصال السيئة، ومن ثم يصبح خائنها منافقاً كما جاء في الحديث السابق.
فينبغي على كل مؤمن الاتصاف بها والحرص على ذلك حتى يكمل إيمانه ويحسن إسلامه.
5 الرحمة
الرحمة: هي الرفق والمغفرة والتعطف (1) .
والرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء المؤمن بالله تعالى يشعر بآلام الآخرين، ويسعى لعلاجها فيعرف أخطاءهم ويدعو لهم بالهدى والصلاح. لأن الرحمة خلق من أخلاقه، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (] غافر 7 [.
أي أن رحمة الله وعلمه وسعت كل شيء حيث إنه يغفر الشرك الذي هو أعظم الذنوب عنده ويعفو عنه إذا تاب منه إلى الله وأناب.
والرحمة صفة كريمة وعاطفة إنسانية نبيلة تبعث على بذل المعروف وإغاثة الملهوف وإعانة المحروم وكف العسف والظلم ومنع التعدي على الضعفاء والمساكين والبغي عليهم (2) .
__________
(1) انظر: الصحاح للجوهري (5/1929) ، ومجمل اللغة (2/424) .
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/192) .(10/292)
والرحمة صفة من صفات رب العالمين وصف سبحانه وتعالى به نفسه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة (] الأنعام 54 [، وقال سبحانه وتعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (] الأعراف 156 [.
وقد جعل سبحانه وتعالى إرسال نبينا محمد (رحمة للعالمين، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (، ووصفه بالرحمة فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (] التوبة 128 [.
وهي خلق من أخلاق المؤمنين والسلف الصالحين، بها يكمل الإيمان، ويسود الحب والمودة بين الناس، وقد حث عليها رسول الله (في أحاديث كثيرة.
منها قوله (: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)) (1) .
ولهذا فإن المؤمن يحب الرحمة ويبذلها ويوصي بها ويدعو إليها مصداقاً لقوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة (] البلد 17، 18 [.
وقوله (: ((إنه من لا يرحم لا يُرحم)) (2) .
وقد كان رسول الله (رحيماً عطوفاً. قال أنس بن مالك (: ((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ()) (3) .
وديننا دين الإسلام دين الرحمة، ولذلك نجد النصوص الكثيرة في القرآن والسنة تحث على الرحمة وتوصي بالتحلي بها.
منها: أمر الله للعباد بطلب المغفرة والرحمة من الرحمن الرحيم أرحم الراحمين، يقول تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (] المؤمنون 118 [.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (41) .
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1808) .
(3) المصدر السابق (4/1708) .(10/293)
ومنها: وصف من يتخطون العقبة يوم القيامة بصفة الرحمة والتواصي بها يقول تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذي آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة (] البلد 11، 18 [.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدعو إلى الرحمة وتحث عليها:
منها: حديث جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله (: ((لا يرحم الله من لا يرحم)) (1) .
ومنها حديث عياض (قال: قال رسول الله (: ((… وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربي ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)) (2) .
ومنها حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق (يقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)) (3) .
ومنها حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (4) .
ولذلك كان الإصلاح بين الإخوة المؤمنين بدافع الرحمة بهم جالباً لرحمة الله، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (] الحجرات 10 [.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الفضائل (4/1809) .
(2) المصدر السابق: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2198) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/442) ، والترمذي: كتاب البر والصلة (4/323) ، وقال: هذا حديث حسن.
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/17 18) ، وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/324) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.(10/294)
ومن رحمة الرسول (بأمته تطبيقاً لوصف الله له بالرحمة، قوله عن نفسه (: ((إنما أنا رحمة مهداة)) (1) ، وجعل نفسه مثل الوالد لولده، فعن أبي هريرة (قال: قال رسول الله (: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده)) (2) .
وعن معاوية بن الحكم السلمي (قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله (إذ عطس رجل من القوم أي المصلين فقلت له: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت لهم: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله (فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن…)) (3) .
وقد حث الإسلام على معاملة الحيوان بالرفق والرحمة، ونهى عن إيذائه وتعذيبه، ومما ورد في ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله (قال: ((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر (4/2025) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/247، 250) ، وأبو داود في سننه: كتاب الطهارة (1/18) ، وابن ماجه في سننه: كتاب الطهارة (1/114) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/381) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام (4/1760) .(10/295)
وعن أبي هريرة (عن النبي (قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: ((في كل ذات كبد رطبة أجرٌ)) (1) .
وعن أنس بن مالك (قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) (2) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله (لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً (3) .
فالرحمة من الصفات العظيمة التي ندب الله عباده إلى التحلي بها وحثهم عليها فينبغي الاتصاف بها، فبها يحسن الإسلام ويزداد الإيمان.
6 التواضع
التواضع: التذلل. ويقال: تواضع الرجل: إذا تذلل (4) ، وقيل: التواضع سلم الشرف، وسئل الفضيل عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته، وقال ابن المبارك: رأس التواضع: أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل (5) .
والتواضع: تجمل النفس بالخضوع لله تعالى ومنع النفس من الترفع على الناس والاستخفاف بهم وحملها على احترامهم وهو لين الجانب للناس والخشوع وخفض الجناح.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المساقاة (3/77) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة (3/1189) .
(3) المصدر السابق: كتاب الصيد (3/1550) .
(4) لسان العرب (8/397) ، والقاموس المحيط (3/25) .
(5) إحياء علوم الدين (3/342) ، مدارج السالكين (2/329) .(10/296)
وهو من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يكتسبها المؤمن من إيمانه بالله عز وجل، ولذا وصف الله تعالى عباده الصالحين بالتواضع وخصهم بذلك دون غيرهم فتأثير الإيمان في هؤلاء جعلهم يتميزون عن غيرهم، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً (] الفرقان 63 [.
قال ابن كثير: هذه صفات عباد الرحمن المؤمنين الذين يمشون في الأرض بسكينة ووقار وتواضع دون استكبار وجبرية، وإذا خاطبهم الجاهلون بكلام سيئ سفيه لا يردونهم بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً (1) .
ولذا ينبغي على المؤمن أن لا يفتخر على الآخرين ولا يتكبر عليهم، لأن المتكبر يرى نفسه في مكان لم يصل إليه غيره ويظن أنه أفضل وأحسن من الناس، قال تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين (] الحجر 88 [.
والتواضع يزيد المؤمن عزة وكرامة كما جاء في حديث المصطفى (: ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (2) .
والكبر لا يأتي إلا من جهل الإنسان بربه الذي خلقه وبنفسه التي بين جنبيه والمتكبر يضع نفسه في مكانة ليست له، فهو ينازع المولى تبارك وتعالى في صفة من صفاته، جاء في الحديث القدسي أن الله سبحانه وتعالى يقول: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (3) . فالكبر عاقبته الذل والهوان والخسران، والمتكبر عقابه العذاب الأليم، قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً (] الأعراف 146 [.
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/314) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة (4/2001) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/414) ، وأبو داود في سننه (4/350) وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة (2/79) حديث رقم 541(10/297)
وقال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (] غافر 70 [.
يقول ابن حبان: الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره، والتواضع تواضعان: أحدهما محمود، والآخر: مذموم، والتواضع المحمود: ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم، والتواضع المذموم: هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها (1) .
وفي القرآن الكريم حث على التواضع، بل فيه الأمر الصريح كما قال تعالى مخاطباً رسوله (: (واخفض جناحك للمؤمنين (] الحجر 88 وفي الشعراء يقول تعالى 0 واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (] الآية 315 [
والخفض في اللغة: نقيض الرفع، وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع لفقراء المسلمين. ونظيره قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (] المائدة 54 [.
ويمتدح الله رسوله (فيقول: (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 14 [.
ويثني على عباد الرحمن بقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً (] الفرقان 63 [. وقال في جزاء المتواضعين: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين (] القصص 83 [.
وفي ذم الكبر يقول تعالى مخاطباً رسوله (: (ولا تصعِّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختار فخور (] لقمان 18 [.
__________
(1) روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء ص (59) .(10/298)
وتوعد سبحانه وتعالى المتكبرين فقال: (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم الله عذاباً أليماً (] النساء 173 [. وقال: (إنه لا يحب المستكبرين (] النحل 23 [. وقال: (فلبئس مثوى المتكبرين ((النحل 29) .
ويقول في شأنهم أيضاً: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرو ن في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (] الأعراف 146 [.
وفي السنة النبوية دعوة إلى التواضع وحث عليه، فعن عياض بن حمار (قال: قال رسول الله (: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ ولا يبغي أحد على أحدٍ)) (1) .
وعن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ولا تواضع لله أحد إلا رفعه الله)) (2) . وفي الترغيب في التواضع يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)) فقال له أصحابه: وأنت؟ قال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (3) .
وقال: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت)) (4) .
وفي السنة النبوية ذم للكبر ودعوة إلى التنفير منه، قال رسول الله (: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) (5) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)) (6) .
__________
(1) تثدم تخريجه ص (115) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة (4/2001) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإجارة (3/48) .
(4) المصدر السابق، كتاب النكاح (6/144) .
(5) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان (1/102) .
(6) المصدر السابق (4/2023) .(10/299)
وقال عليه الصلاة والسلام: ((بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبراده؛ إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة)) (1) .
مما تقدم تبين لنا أن التواضع خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وقد كان سمة بارزة للرسول (، ولهذا فينبغي للمسلم أن يتواضع في غير مذلة ولا مهانةٍ، بحيث يكون التواضع من أخلاقه المثالية، وصفاته العالية؛ إذ المسلم يتواضع ليرتفع.
وبالتواضع يرفع الإنسان، وبالكبر يخفض، إذ سنة الله جارية في رفع المتواضعين له، ووضع المتكبرين، والمسلم عندما يصغي بأذنه وقلبه إلى مثل هذه الأخبار الصادقة، من كلام الله وكلام رسوله في الثناء على المتواضعين مرة، وفي ذم المتكبرين أخرى، يحرص على ألا يكون من المتكبرين أسوة في ذلك برسول الله (، إذ لابد أن يتواضع الإنسان لعظمة الله وكبريائه، وسيظهر هذا التواضع في كلمته التي ينطق بها، وفي حركته التي يدب بها فوق ظهر الأرض، كما وصف الحق تبارك وتعالى عباده فقال: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً (] الفرقان 63 [.
وعن تواضع رسول الله (جاءت الأخبار الصحيحة والآثار الشهيرة، حيث تواترت الأخبار عمن اجتمع معه من أصحابه عليه الصلاة والسلام أنه كان يبدأهم بالسلام، وينصرف بكليته إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي بأصحابه المجلس، وكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، وشارك في بناء مسجده (، وفي حفر الخندق، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم في مهنة أهله، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، ويجلس على الأرض، وكان متواضعاً في ملبسه ومسكنه (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء (4/153) ، ومسلم في صحيحه كتاب اللباس والزينة (3/1653) .
(2) انظر مدارج السالكين (2/328، 329) .(10/300)
وكان (بين أصحابه مثلاً أعلى للخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات (.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي (لما قدم إلى مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه (1) ، وقال معاذ: كنت رديف رسول الله (على حمار، يقال له عفير، وكان مرة في سفر مع صحبه. فأرادوا أن يهيؤوا له طعاماً فقسّم العمل بينهم، فقام بجمع الحطب، فأرادو أن يكفوه ذلك فأبي، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه. ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية، قال له (: "هون عليك فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (2) . وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا فقاموا له، فقال ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً)) (3) . وعن أنس ابن مالك (قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله (فتنطلق به حيث شاءت (4) . وكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يرَ مقدما ركبتيه بين يدي جليس له (5) .
وسئلت عائشة (ما كان رسول الله (يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ، فيخرج إلى الصلاة (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب العمرة (2/204) ،.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الأطعمة (2/3312) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: 1141 إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/352) ، وأبو داود في سننه: كتاب الأدب (5/398) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه الكتاب الأدب (7/90) .
(5) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب القيامة (4/654) وقال: هذا حديث غريب.
(6) أخرجه البخاري (2/160) .(10/301)
وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله (1) .
فقد كان (يتواضع في كل حال من أحواله، فهو سهل الطبع، لين الجانب، دائم البشر، ليس بفظ ولا غليظ، ولا فاحش، ولا عتاّب، ولا مدّاح.
قال عكرمة بن أبي جهل (عندما أسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبر الناس، وأصدق الناس، وأوفي الناس) ، قال عكرمة: أقول ذلك، وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه. وقال أنس بن مالك: خدمت رسول الله (عشر سنين والله ما قال لي: أُفا قط، ولا قال لي لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا (2) .
وقال أنس بن مالك (: (كان رسول الله (يعود المريض ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة على حمار) (3) . وقد ضرب الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة والتابعين أروع الأمثلة في التواضع أسوة برسول الله ((4) .
فالتواضع من صفات المؤمنين التي يكمل بها الإيمان وترتفع به الدرجة عند الرحمن سبحانه وتعالى.
المبحث السابع: أثر الإيمان في توجيه الأخلاق
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/601) وقال: حسن غريب.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1804) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الجنائز (3/337) وابن ماجه في سننه: كتاب الزهد (2/1398) .
(4) انظر عن تواضع الخلفاء، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص (61، 94، 120، 140) .(10/302)
للإيمان أثر كبير في توجيه الناس إلى الأخلاق الفاضلة، وقد يظن بعض الناس أن حسن الخلق من الصفات الجبلِّية التي لا مجال للتغيير فيها، ولا يمكن اكتسابها، فإن كان الإنسان مجبولاً على سوئها أو فقدها فإنه يبقى سيئ الخلق وهذا مفهوم خاطئ يحتاج إلى تصحيح، لأنه لو كانت الأخلاق لا تكتسب ولا تقبل التغيير لم يكن للخطب والمواعظ والإرشاد قيمة، ولم يكن للتربية والتهذيب معنىً، والحق أن لذلك أثراً في تهذيب الطباع والتربية على الأخلاق.
صحيح أن الإنسان إذا كان مجبولاً على حسن الخلق فإنه يبقى حسن الخلق، وخاصة إذا سعى إلى تحقيق ما جُبِل عليه في واقع حياته.
ولكن الشخص الذي لم يجبل على حسن الخلق فإنه يمكن أن يكتسب شيئاً بل أشياء من الأخلاق الحسنة، وإن لم يكن مجبولاً عليها، وهذا هو أثر الإيمان في توجيه الأخلاق، ومن الأدلة على ذلك:
1 إن الشرع الحكيم دعا الناس إلى الأخلاق الحسنة وأمرهم بها ورغبهم فيها، ولو لم يمكن اكتسابها لم يكن لدعوة الشرع إلى ذلك معنىً، ولم يكن فيه فائدة للوعظ والوصايا في ذلك، وقد سبقت أدلة كثيرة تحث على الأخلاق وترغب فيها.
يقول الراغب الأصبهاني: " ولو لم يكن كذلك لبطلت فائدة المواعظ والوصايا والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولما جوز العقل أن يقال للعبد: لم فعلت؟ ولم تركت؟ وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعاً وقد وجدناه في بعض البهائم ممكناً" (1) .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص (115، 116) .(10/303)
2 أننا نرى بعض الحيوانات تعلم وتدرب على بعض الأمور فتتعلمها ومن ذلك أن الفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد فتتعلم وهي من قبل على خلاف ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للكلب المعلم، يُعلم ترك الأكل فيتعلم وهو على خلاف ذلك من قبلُ، والحمار الوحشي يستأنس بعد توحشه. فهذا دليل على أنه يمكن تغيير الصفات الجبلية أو بعضها، وإذا كان الحيوان يستطيع أن يتعلم فابن آدم أولى بذلك وأقدر، وهذا لا يحصل إلا بعد كثرة المراس والتعلم والاستفادة.
يقول الغزالي: "كيف ننكر هذا يشير إلى تغير الخلق في حق الآدمي، وتغير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغير للأخلاق" (1)
ويقول ابن قدامة (2) رحمه الله تعالى:
وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه.
وقد قال تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم (] الفتح 29 [، ولا تصدر الشدة إلا من الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقد قال تعالى: (والكاظمين الغيظ (] آل عمران 134 [ولم يقل الفاقدين الغيظ.
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/48) .
(2) هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي، أبو العباس، الفقيه المحدث، توفي سنة 689هـ.ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/322) .(10/304)
واعلم أن الاعتدال تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخالق، فكم من صبي يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارةً يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهي حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب. فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجواد من البذل ليصير ذلك طبعاً له، وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة، فإن للعادة أثراً في ذلك" (1) .
فإذا كان الإنسان المؤمن مجبولاً على حسن الخلق فذاك فضل من الله تعالى، فما عليه إلا أن يستغل ما وهبه الله تعالى من حسن الخلق بإصلاح الناس والنهي عن الفساد، وإن لم يكن كذلك فعليه أن يكتسب حسن الخلق بأحواله، فإن حسن الخلق من الأمور التي دعا إليها الإسلام، ومن صفات عباد الله المؤمنين.
ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد (لما جبله عليه من الأخلاق العظيمة (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 4 [.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية وخلقاً تطبعه، وترك طبعه الجبلي فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل (2) .
فالله سبحانه وتعالى أثنى على رسوله (بهذه الآية الكريمة وبين أنه على خلق عظيم في عبادته وتعامله وامتثال أمر ربه. ويفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يحب صاحب الخلق، بدليل ثنائه على رسوله (لاتصافه بالخلق العظيم وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يتسابق المسلمون للاتصاف بهذه الصفة المحبوبة إلى الله تعالى.
وعن أنس بن مالك (قال: كان رسول الله (أحسن الناس خلقاً (3) الحديث.
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص (191192) باختصار.
(2) تفسير ابن كثير (4/402) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (4/128) .(10/305)
فهذا أنس (الذي لازم رسول الله (طويلاً وكثيراً، يصف رسول الله (بأنه أحسن الناس خلقاً.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (قال: لم يكن رسول الله (فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: " إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " (1) .
ففي هذا الحديث الصحيح , تصريح من الرسول الله (أن من خيار الأمة من كان خلقه حسناً. وأي واحد من المسلمين لا يرغب أن يكون من خيار هذه الأمة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سمع النبي (يقول: ((ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ فسكت القوم فأعادها مرتين أو ثلاثاً)) قال القتوم: نعم يا رسول الله. قال ((أحسنكم خلقا)) (2) .
فأخبر (أن أحب الناس إليه وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة أحسنهم أخلاقاً. وهذه منزلة عظيمة يجب على المؤمن أن يبذل كل غال ورخيص للحصول عليها لأن ذلك حصل بسبب الخلق الحسن.
وعن النواس بن سمعان (قال: ((سألت رسول الله (عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (3) .
وعن عبد الله بن مسعود (أن رسول الله كان يقول: ((اللهم أحسنت خلقي فحسن خلقي)) (4) .
وعن أبي الدرداء (عن النبي (قال: ((ليس شيء أثقل في الميزان من خلق حسن)) (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب المناقب (4/518) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/185) والإمام البخاري في الأدب المفرد ص (272) .، قال الهيثمي في المجمع (8/21) : رواه أحمد، وإسناده جيد.
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة (4/1980) .
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 403) ، وقال الهيثمي في المجمع: (10/173) : رواه أحمد وأبو يعلى … ورجالهما رجال الصحيح.
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 448) .(10/306)
أخرجه أبو داود بلفظ ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق (1) زاد الترمذي ((فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)) (2) .
وعن عائشة (قالت: سمعت رسول الله (يقول ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) (3) .
وعن أبي هريرة (قال: سئل رسول الله (عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (4)
__________
(1) سنن أبي داود كتاب الأدب (4/253) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه. أبواب البر والصلة (4/363) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) تقدم تخريجه ص (32) .
(4) أخرجه الترمذي في سننه. أبواب البر والصلة (3/244) ، وقال: ((هذا حديث غريب)) () .
المصادر والمراجع
آداب الزفاف في السنة المطهرة للعلامة / محمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية – عمان – الأردن – الطبعة الأولى للطبعة الجديدة 1409 هـ
إحياء علوم الدين للغزالي المتوفى سنة 505هـ دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.
الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني الطبعة الرابعة دار القلم دمشق 1417هـ.
أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري دار الكتاب العربي.
أخلاق النبي (وآدابه لأبي الشيخ عبد الله بن جعفر الأصفهاني ت 369هـ تحقيق: عصام الدين سيد/ الطبعة الأولى سنة 1411هـ الدار المصرية القاهرة.
الأخلاق والسير في مداوة النفوس لابن حزم الطبعة الثانية دار الكتب العلمية بيروت.
أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي ت 450هـ تحقيق / مصطفى السقا دار الفكر العربي.
الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي دار ابن تيمية للطباعة والنشر القاهرة.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، الناشر مكتبة ابن تيمية مصر عام 1408 هـ الرياض المملكة العربية السعودية سنة 1403هـ.
الإيمان لابن أبي شيبة (ت 235) ن المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1403 هـ.
بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية الطبعة الثانية مكتبة القاهرة القاهرة سنة 1392هـ.
بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادى المكتبة العلمية بيروت.
التبيان في أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ت 751هـ دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الأولى 1415هـ.
الترغيب والترهيب للحافظ المنذري المتوفى سنة 656هـ الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي بيروت.
التمهيد لما جاء في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري ت 463هـ. طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب سنة 1397هـ الطبعة الأولى.
تهذيب الأخلاق لابن مسكويه المتوفى سنة 421هـ دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
التعريفات للجرجاني الطبعة الأولى 1403هـ بيروت لبنان.
تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774هـ دار المعرفة بيروت.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار إحياء التراث العربي.
جامع البيان عن تأويل القرآن لأبي جعفر الطبري، مكتبية مصطبة مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الثالثة.
الجواب الكافي عن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزيه المطبعه للسلفيه الطبعة الأولى سنة 1394هـ.
روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان تحقيق حامد الفقي دار الكتب العلمية لبنان
روضة المحبين نزهة المشتاقين لابن قيم الجوزية مطبعة السعادة مصر.
سنن الترمذي لأبي عيسى الترمذي الناشر المكتبة الإسلامية.
سنن أبي داود للإمام أبي داود السجستاني إعداد وتعليق / عزت عبيد الدعاس وعادل السيد دار الحديث للطباعة والنشر بيروت لبنان.
سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي / مجموعة من المحققين / مؤسسة الرسالة لبنان.
شرح السنة للبغوي المتوفى سنة 516 هـ تحقيق / شعيب الأرناؤوط المكتب الإسلامي 1394 هـ.
شرح صحيح مسلم للنووي المطبعة المصرية.
الشمائل المحمدية لأبي عيسى الترمذي ت 279هـ تخريج وتعليق عزت عبيد الدعاس الطبعة الثانية 1396هـ الناشر: مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر بيروت.
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري دار العلم للملايين بيروت.
صحيح البخاري للإمام البخاري المتوفى سنة 256 هـ المكتب الإسلامي إستانبول تركيا.
صحيح مسلم للإمام مسلم المتوفى سنة 261 هـ / تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي.
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية المطبعة السلفية القاهرة سنة 1375 هـ.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ المطبعة السلفية.
القاموس المحيط للفيروزآبادي الطبعة الثانية مؤسسة الرسالة بيروت.
قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام دار الباز مكة المكرمة.
لسان العرب لابن منظور المصري دار صادر بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبي بكر الهيتمي دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثانية.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن حاكم طبع مجمع الملك فهد الطباعة المصحف الشريه.
مدارج السالكين لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ دار الكتب العلمية بيروت.
مساوئ الأخلاق ومذموها للخرائطي المتوفى سنة 327 هـ مكتبة السوادي الطبعة الأولى سنة 1412هـ.
المسند لأبي عبد الله الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ المكتب الإسلامي بيروت.
المستدرك لأبي عبد الله الحاكم دار الفكر بيروت 1398 هـ.
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 هـ دار المعرفة بيروت.
مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا المتوفى سنة 281 هـ دار المكتب الطبعة بيروت لبنان الطبعة الأولى سنة 1409 هـ.
مكارم الأخلاق ومعاليها للخرائطي المتوفى سنة 327 هـ مكتبة السلام العالمية.
الموطأ للإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 170 هـ تصحيح وتعليق / محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي.
النهاية في غريب الحديث الأثر لابن الأثير الجزري تحقيق / طاهر أحمد الزاوي ومحمد الطناحى المكتب الإسلامي.(10/307)
الحديث.
فهذه الأحاديث الشريفة - وغيرها كثير - تبين فضل حسن الخلق وتدعو إليه. فليحرص كل مؤمن ومؤمنة أن يكون حسن الأخلاق، طيب الأفعال حتى ينال هذه المنزلة والدرجة الرفيعة فإذا كان الإيمان يطهر النفوس ويزكيها ويكسبها الأخلاق الفاضلة، فإن التزم المؤمن بالأخلاق الفاضلة يجذب الناس إلى الإيمان ويحببهم فيه فيدخلون في دين الله أفواجاً، وهذه مرتبة عالية وميزة عظيمة فيها ثواب عظيم وأجر كبير وعاقبة حميدة.
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أحمد الله وأشكره على أن من عليّ بإتمام هذا البحث، وفيما يلي أهم نتائج هذا البحث:
1 الإيمان بالله سبحانه وتعالى يدفع صاحبه إلى الخلق الكريم والفعل الحسن لأن الإيمان إذا استقر في القلب انعكس ذلك على أفعال الإنسان وأقواله.
2 أن المؤمن يدرك بحسن الخلق المنازل والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، وإن الأخلاق لها منزلة عالية فهي تحقق السعادة لمن كرمت أخلاقه، تأسياً بالرسول (، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً.
3 الرسول (خير قدوة لنا في الأخلاق الكريمة والصفات الحسنة من الصدق والبر والرحمة والحلم والصبر والصدق والتواضع وغير ذلك.
4 أن الأخلاق تبوأت في الإسلام مكانة رفيعة فمن أهم رسالة هذا الدين إتمام مكارم الأخلاق، لأنه ما من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله عز وجل بهذا الدين.
5 إن غاية الأخلاق الإسلامية تحقيق السعادة الدنيوية الممتثلة في جوانبها الروحية والعقلية والنفسية والحسية، وتحقيق السعادة في الآخرة بوصفها السعادة الحقيقية الأبدية.
6 أن التزام الأخلاق الفاضلة له أثر في تقارب المؤمنين وصلاحهم وقربهم من الله، فتسود المحبة والألفة بينهم، ويتعاملون بالمودة والتراحم والتعاون فيسود بينهم الرضى والأمن.(10/308)
7 أن التحلي بالأخلاق الكريمة يعود نفعه على كل من الفرد والمجتمع والأمة.
وفي الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحواشي والتعليقات(10/309)
مرض القلوب وشفاؤها عند شيخ الإسلام ابن تيمية
وابن القيم جمع ودراسة
د. سعود بن حمد الصقري
استاذ مشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم
ملخص البحث
تضمن البحث موضوع " مرض القلوب وشفاؤها عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما اللَّه "، وقد جمعت أقوالهما المتعلقة بهذا الموضوع.
وقد اشتمل البحث على مقدمة، وترجمة موجزة لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة.
أما المقدمة فقد احتوت على بيان أهمية الموضوع وأسباب الكتابة فيه، والمنهج الذي سلكته في كتابة هذا البحث. وأما التمهيد فقد اشتمل على ثلاثة مباحث هي وجوب الاعتناء والاهتمام بحياة القلب، وذكر الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة على مرض القلوب وشفائها، وبيان المقصود بالقلب.
وأما الفصل الأول: فهو أقسام القلوب والألة على ذلك من الكتاب والسنة.
وأما الفصل الثاني: فهو حياة القلوب ويشتمل على مبحثين: الأول: حقيقة حياة القلب وصحته، والثاني: ذكر أسباب حياة القلب وصحته.
وأما الفصل الثالث: فهو أمراض القلوب ويشتمل على مبحثين:
الأول: أنواع مرض القلوب وعلامة ذلك، الثاني: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية، وأما الفصل الرابع: فقد ذكرت آثار الذنوب والمعاصي على القلوب. وأما الخاتمة فقد بينت فيها نتائج البحث.
والله الموفق وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا إله إلا اللَّه إله الأولين والآخرين، الذي لا فوز إلا في طاعته القائل في كتابه العزيز: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاه ((1) ، والصلاة والسلام على إمام المتقين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) ... سورة الأنعام، الآية: 122.(10/310)
وبعد: فقد ذكر الله " مرض القلوب وشفاءها " في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله (كقوله تعالى عن المنافقين: (فِي قُلُوِبِهم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ((1) ، وقوله تعالى: (وَيَشفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤمِنِين *ويُذْهِبَ غَيْظَ قُلُوبِهِم ((2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وما ذكر الله من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها، لكن المقصود معرفة مرض القلوب ... إلى أن قال: فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه أعظم من مرض الجسم وشفائه، فتارة يكون من جملة الشبهات، كما قال تعالى: (فَيَطْمَع الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ((3) ... ففي قلوب المنافقين: المرض من هذا الوجه، ومن هذا الوجه: من جهة فساد الاعتقادات، وفساد الإرادات) (4) .
ولما كان مرض القلب بهذه الخطورة أحببت أن أجمع كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم للأسباب التالية:
1 - أنه قد انتشر في هذا الوقت من أمراض القلوب الكثير بين الناس كالحسد، والبخل، والظلم، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات وغيرها.
ولكن لفساد القلب قد لا يحُس بالألم، قال ابن القيم رحمه الله لما ذكر بعض هذه الأمراض: " ... ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم ... " (5) .
2 - لما للشيخين من مكانة في العلم ورسوخ قدمهما فيه وتأصيل عبارتهما واعتمادهما في التأليف على الأدلة من الكتاب والسنة، مع السعة والشمول، والجاذبية في الأسلوب والبيان، مع حسن الترتيب والسياق. فكان حرياً بنا أن نتتبع نصحهما وتوجيههما.
__________
(1) ... سورة البقرة، الآية: 10.
(2) ... سورة التوبة، الآيتان: 14، 15.
(3) ... سورة الأحزاب، الآية: 32.
(4) ... مجموع الفتاوى (10/139-141) .
(5) ... انظر: إغاثة اللهفان (1/18) .(10/311)
3 - أن لهما اهتماماً خاصاً بحياة القلوب ومرضها، وأسباب ذلك كما سيتبين إن شاء الله في ثنايا البحث.
4 - أن كثيراً من الناس لم ينتبهوا إلى أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه، وأن القلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولقد كان لهذين الإمامين أجوبة مفيدة حول هذا الموضوع مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية..
فكانت هذه المحاولة جمعاً لأقوالهما المتعلقة بهذا الموضوع، وترتيباً لها والتنسيق فيما بينها، وقد اشتملت خطة البحث - بعد هذه المقدمة - على ترجمة موجزة لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة، ثم الفهارس.
وتفصيل ذلك كما يلي:
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله.
التمهيد ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: بيان المقصود بالقلب.
المبحث الثاني: وجوب الاعتناء والاهتمام بحياة القلب.
المبحث الثالث: ذكر الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية على مرض القلوب وشفائها.
الفصل الأول: بيان أقسام القلوب والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة ويشتمل على ثلاثة مباحث:
... المبحث الأول: القلب الصحيح.
... المبحث الثاني: القلب المريض.
... المبحث الثالث: القلب القاسي.
الفصل الثاني: حياة القلوب، ويشتمل على مبحثين:
... المبحث الأول: بيان حقيقة حياة القلب وصحته.
... المبحث الثاني: ذكر أسباب حياة القلب وصحته.
الفصل الثالث: أمراض القلوب، ويشتمل على مبحثين:
... المبحث الأول: أنواع مرض القلوب وعلامة ذلك.
... المبحث الثاني: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية.
الفصل الرابع: آثار الذنوب والمعاصي على القلوب.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
الفهارس: وتتضمن ما يلي:
1 - فهرس الآيات القرآنية.(10/312)
2 - فهرس الأحاديث والآثار.
3 - فهرس الأعلام.
4 - فهرس المصادر والمراجع.
5 - فهرس الموضوعات.
منهجي في البحث:
أما عن المنهج الذي سلكته في كتابة هذا البحث، فيمكن إجماله فيما يأتي:
1 - قمت بجرد كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من كتبهم المطبوعة ما أمكن.
2 - قمت بترتيب النقول حسب ما وقع عندي أنه الأحسن في نظري، وحذفت ما كان متكرراً من كلامهما، وأكتفي بالنقل من موضع، وإن كان لهما كلام بالمعنى نفسه في أكثر من موضع، ولا أذكر الأمرين إلا إذا كان لأحدهما معنى واحتمال غير الآخر.
3 - حاولت الاقتصار من كلامهما على ما يفي بالغرض منه في المبحث أو المطلب.
4 - لم أحاول الإكثار من التدخل في أثناء ذكر كلامهما إلا بقدر ما يربط بين النقول فقط، أو ما يهيء القاريء للدخول في الموضوع مباشرة.
5 - قدمت من كلامهما ما كان أوضح وأتم وأخصر واستغنيت به عن غيره مع الإشارة إلى ذلك في الهامش.
6 - لم أذكر من كلامهما شيئاً بالمعنى وذلك للأمانة العلمية في نقل كلامهما ولأمن الخطأ فإن التدخل في كلامهما لابد فيه من الإحاطة بالمعنى وأخشى أن أدرك شيئاً وأنسى غيره فنقلت نص كلامهما رحمهما اللَّه.
7 - ما كان من عبارة غامضة بينتها وما كان من نص خرجته، وما كان من علم ترجمت له في الحاشية.
8 - لم أطل في التراجم والتعريفات، وإنما اكتفيت بما يدل على الموضوع حرصاً على عدم إثقال البحث بالحواشي.
10 - عزوت الأحاديث والآثار إلى من أخرجها، أو من نقلها عنهم، وإذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما، أنقل حكم العلماء على الحديث إن وجد.
11 - فيما يتعلق بالمراجع حرصت كل الحرص على أن أوحد النسخة والطبعة لكل مرجع ليسهل على القاريء والباحث الرجوع إلى المراجع التي عزوت إليها عند الحاجة، لذلك لم أشر إلى الطبعات في الهامش تفادياً للتطويل، واكتفاء بفهرس المراجع.(10/313)
وفي الختام أشكر اللَّه عز وجل الذي أمدني بالعافية حتى أتممت هذا العمل، مع علمي أنني لم أوف هذا العمل حقه، إذ الكمال لله وحده فما كان فيه من حق وصواب فبفضل اللَّه ورحمته، وما كان فيه من زلل فأستغفر اللَّه منه، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه
اسمه وكنيته ونسبه:
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد اللَّه بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد اللَّه ابن تيمية الحراني.
مولده ونشأته:
ولد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة (661هـ) ، ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق هرباً من وجه الغزاة التتار، وقد نشأ في بيت علمٍ وفقه ودين فآباؤه وأجداده وأخوانه كانوا من العلماء الأجلاء، وقد بدأ رحمه اللَّه بحفظ القرآن الكريم حتى أتمه ثم اتجه إلى السنة النبوية، واللغة العربية والفقه وأصوله، وتعلم الحساب.
علومه:
تبحر شيخ الإسلام في علم العقيدة، والتفسير والحديث وعلومهما والفقه وأصوله ... وقد ذكر تلميذ شيخ الإسلام ابن عبد الهادي رحمه اللَّه كلام للذهبي رحمه اللَّه في سعة علوم شيخ الإسلام فقال: (وقال الذهبي (1) : وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه، وتأهَّل للتدريس والفتوى، وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها.. إلى أن قال: وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي. فإن سيرته وعلومه ومعارفه، ومحنه وتنقلاته تحتمل أن ترصع في مجلدتين ... ) (2) .
__________
(1) ... هو الإمام الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي مؤرخ الإسلام وناقد المحدثين، وإمام المعدلين والمجرحين، توفي سنة 748هـ رحمه اللَّه.
... انظر: البداية والنهاية (14/221) ، وشذرات الذهب (6/153) .
(2) ... انظر: العقود الدرية ص23-25.(10/314)
جهاده:
تميزت حياة شيخ الإسلام بميزة عظيمة وهي الجهاد في سبيل اللَّه بالسيف والقلم واللسان، فلقد كان للشيخ مواقف عظيمة في جهاده التتار والرافضة، والصوفية والباطنية وغيرهم، وقد فضح هذه الطوائف بقلمه ولسانه وجاهدهم بيده.
قال البزار (1) : " ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل اللَّه بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في اللَّه لومة لائم " (2) .
إنتاجه العلمي:
ترك الشيخ رحمه اللَّه للأمة تراثاً ضخماً لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه، طبع كثير من هذه الرسائل والفتاوى والمؤلفات، وبقي مجهولاً أو مكنوزاً في عالم المخطوطات كثير.
يقول ابن عبد الهادي (3) : "ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريباً من ذلك.." (4) .
وفاته:
لما أخرجت الكتب والأوراق والمداد والقلم من عند شيخ الإسلام في القلعة في يوم الاثنين تاسع جمادى الآخر سنة (728هـ) تفرغ الشيخ للعبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة (728هـ) ، وقد كانت وفاته على أثر مرض ألم به أياماً يسيرة وعمره سبع وستون سنة.
__________
(1) ... هو عمر بن علي البزار، كان من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولد سنة (688هـ) ، وتوفي سنة (749هـ) .
... انظر: الدرر الكامنة (3/256) ، وشذرات الذهب (6/163) .
(2) ... انظر: الأعلام العلية ص43.
(3) ... هو محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي، المحدث الحافظ الناقد النحوي، ولد سنة (705هـ) ، من الملازمين لشيخ الإسلام ولأبي والحجاج المزي، توفي سنة (744هـ) .
... انظر: البداية والنهاية (14/221) ، وشذرات الذهب (6/141) .
(4) ... العقود الدرية ص26.(10/315)
وقد كانت جنازته مشهودة ومشهورة واعتبرها المؤرخون من الجنائز النادرة فيشبهونها بجنازة الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه في بغداد.. (1)
ترجمة موجزة للإمام ابن القيم الجوزية رحمه اللَّه
اسمه ونسبه ومولده:
هو أبو عبد اللَّه شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز بن مكي زين الدين الزُّرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية، ولد سنة (691هـ) .
عبادته وزهده:
قال ابن رجب رحمه اللَّه: " وكان رحمه اللَّه ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى اللَّه والانكسارله ... ولا رأيت أوسع منه علماً ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم ولكن لم أر في معناه مثله" (2) .
علومه ومدى تأثره بشيخه ابن تيمية رحمه اللَّه:
درس ابن القيم رحمه اللَّه التوحيد، وعلم الكلام والتفسير والحديث، والفقه وأصوله والفرائض واللغة والنحو، وغيرهما على علماء عصره المتفننين في علوم الإسلام، وبرع هو فيها وفاق الأقران، وقد لازم ابن القيم شيخه ابن تيمية ستة عشر عاماً أخذ عنه علماً جماً وفوائد كثيرة.
مؤلفاته:
__________
(1) ... مصادر الترجمة: العقود الدرية لابن عبد الهادي، وتذكرة الحفاظ لذهبي (4/1496) ، والأعلام العلية للبزار ص8 وما بعدها، والوافي بالوفيات للصفدي (7/15) ، والبداية والنهاية لابن كثير (13/255) ، و (14/141) وما بعدها، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2/387) ، والدرر الكامنة لابن حجر (1/154) ، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص516) ، وطبقات المفسرين للداوودي (1/45) ، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (6/80) .
(2) ... انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2/448) .(10/316)
كان ابن القيم رحمه اللَّه مكثراً من التصنيف، ولهذا فالحديث عن تعداد مؤلفات ابن القيم رحمه اللَّه تعالى على وجه الدقة والسلامة من الغلط والتكرار أمر فيه كلفة وعناء، وقد أحصى الشيخ بكر أبو زيد حفظه اللَّه مصنفات ابن القيم المخطوطة والمطبوعة فبلغت (96) مصنفاً وقد ذكر أسماء هذه الكتب على وجه التفصيل المخطوط منه والمطبوع (1) .
وفاته:
كانت في ليلة الخميس الثالث عشر من رجب، وقت أذان العشاء الآخرة سنة (751هـ) ، وبه كمل له من العمر ستون سنة رحمه اللَّه تعالى (2) .
التمهيد
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: بيان المقصود بالقلب.
المبحث الثاني: وجوب الاعتناء والاهتمام بحياة القلب.
المبحث الثالث: ذكر الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية على مرض القلوب وشفائها.
المبحث الأول: بيان المقصود بالقلب
القلوب: جمع القَلْب، وهو أخص من الفؤاد في الاستعمال، ولذلك قالوا: أَصَبْتُ حَبَّة قلبه، وسُوَيْداء قلبه، وقيل: هما قريبان من السَّواء، وكرّر ذكرهما لاختلاف لفظيهما تأكيداً، وقلب كل شيء: لُبّهُ وخالِصه.
وقيل: القلب: الفؤاد وقد يُعَبَّر به عن العقل. قال الفراء في قوله تعالى: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ((3) أي: عقل.
__________
(1) ... انظر: التقريب لفقه ابن القيم (القسم الأول ص168) .
(2) ... مصادر الترجمة: الوافي بالوفيات للصفدي (2/270-272) ، والبداية والنهاية لابن كثير (14/246-247) ، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2/447-452) ، والدرر الكامنة لابن حجر (4/21) ، والنجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لابن تغري بردي (10/249) ، وطبقات المفسرين للداوودي (2/91) ، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني (2/143-147) ، وكتاب ابن قيم الجوزية حياته وآثاره للشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد.
(3) ... سورة ق، الآية: 37.(10/317)
وقيل القلب: مضغة من الفؤاد معلّقة بالنِّياط (1) .. (2) .
وعرفه أبو حامد الغزالي (3) بقوله: (لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته؛ إذ يتعلق به غرض الأطباء، ولا يتعلق به الأغراض الدينية. وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت..
والمعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب ولها علاقة مع القلب الجسماني) (4) .
وقد سمي القلب قلباً لتقلبه (5) في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوباً (6) .
__________
(1) ... النياط: عرق علق به القلب من الوتين، فإذا قطع مات صاحبه. انظر: لسان العرب (7/418) .
(2) ... انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (4/96) ، ومختار الصحاح ص547، ولسان العرب (11/271) ، والقاموس المحيط ص162-163، مادة (قلب) ، والمصباح المنير (2/512) .
(3) ... هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، الطوسي المعروف بالغزالي، الملقب بحجة الإسلام من أئمة الصوفية ولد سنة (450هـ) ، وقد تفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة من أشهرها: إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة، توفي سنة (505هـ) .
... انظر: سير أعلام النبلاء (9/322) ، والبداية والنهاية (12/185) .
(4) ... انظر: إحياء علوم الدين (3/6) .
(5) ... انظر: لسان العرب (11/271) .
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر (1/171) .(10/318)
وقد ورد ذكر القلب في آيات كثيرة من كتاب اللَّه عز وجل منها قوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ((1) ، وقوله جل وعلا: (إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ ((2) .
والقلب قد يعبر عنه بالفؤاد، قال اللَّه تعالى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ((3) ، وقد يعبر بالقلب عن العقل كما قال تعالى: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ((4) ، قال ابن عباس: أي عقل. (5)
قال أبو حامد الغزالي: (وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها الأول وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها) (6) .
المبحث الثاني: وجوب الاعتناء والاهتمام بحياة القلب
يجب على كل مسلم ومسلمة الاعتناء والاهتمام بحياة القلب لأنه إذا صلح القلب صلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله.
قال ابن رجب (7)
__________
(1) ... سوة ق، الآية: 33.
(2) ... سورة ق، الآية: 37.
(3) ... سورة الفرقان، الآية: 32.
(4) سورة ق، الآية: 37.
(5) انظر: تفسير البغوي (4/226) .
(6) ... إحياء علوم الدين (3/7) .
(7) ... هو الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن السَّلامي الشهير بابن رجب وهو لقب جده عبد الرحمن ولد سنة (736هـ) في بغداد، كان فقيهاً ومحدثاً وواعظاً شهيراً، قال ابن مفلح: الشيخ العلامة الحافظ الزاهد شيخ الحنابلة من مؤلفاته: جامع العلوم والحكم، أهوال القبور، توفي سنة (795هـ) بدمشق، رحمه اللَّه.
... انظر: شذرات الذهب (6/339) ، والتاج المكلل للقنوجي ص333.(10/319)
رحمه اللَّه: " القلب مَلِكُ الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدةً، ولا ينفع عند اللَّه إلا القلب السليم، كما قال تعالى: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون. إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ((1) " (2) .
والقلب محل الإيمان كما قال تعالى: (يَا أيُّها الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهم ((3) ، وقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَان ((4) .
فدلت هذه الآيات على أن أصل الإيمان في القلب، وأن الإيمان لا يثبت لأحد حتى يدخل القلب ويقوم به..
والأدلة أيضاً كثيرة من السنة على أن أصل الإيمان في القلب منها: قوله (: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (5) .
__________
(1) ... سورة الشعراء، الآية: 88-89.
(2) جامع العلوم والحكم (1/210) .
(3) سورة المائدة، الآية: 41.
(4) ... سورة المجادلة، الآية: 22.
(5) متفق عليه، فقد رواه البخاري في صحيحه (1/19) كتاب الإيمان، باب 39 فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في صحيحه (3/1219-1220) كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (ح1599) عن النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه وهذا جزء منه، وقوله "مضغة " يعني القلب؛ لأنه قطعة لحم من الجسد والمضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (4/339) .(10/320)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: (فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبيّاً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق ... ) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه لما ذكر هذا الحديث: (ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره فهو فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها، لأن كل راع مسؤول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهم ما تنسك به الناسكون) (1) .
وقال ابن رجب رحمه اللَّه لما ذكر هذا الحديث: (فيه إشارةٌ إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتِّقاءه للشُّبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة اللَّه ومحبة مايحبه اللَّه وخشية اللَّه وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرّمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتَّباع هواه، وطلب ما يحبّه، ولو كرهه اللَّه، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتّباع هوى القلب) (2) .
وقال ابن حجر رحمه اللَّه (3)
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/5) .
(2) جامع العلوم والحكم (1/210)
(3) هو الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المحدث المؤرخ له مؤلفات كثيرة، منها فتح الباري شرح صحيح البخاري والإصابة في تمييز الصحابة وغيرها. توفي سنة (852هـ) .
... انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي ص552، شذرات الذهب (7/270-273) .(10/321)
: (وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه ... ) (1) .
مما تقدم تبين لنا أهمية القلب، وأنه إذا صلح صلح الجسد كله.. وأن صلاح هذا القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين الكتاب والسنة كما قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ((2) ، فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه اللَّه والرسول من العلم والإيمان فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك (3) .
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ((4) .
__________
(1) فتح الباري (1/171) .
(2) ... سورة الأنفال، الآية: 24.
(3) ... انظر: إغاثة اللهفان (1/22) .
(4) ... سورة الأنعام، آية: 122.(10/322)
لذلك ذكر اللَّه حياة القلوب ونورها وموتها وظلمتها في غير موضع كقوله تعالى: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيحِقَّ الْقَوْل عَلَى الكَافِرِين ((1) ، وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (ثم قال تعالى: (واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه وأنَّهُ إِليْهِ تُحْشَرُون ((2) ، وقال تعالى: (يُخرْجَ الحَيَّ مِنَ المَيّت ويُخْرِج الْمَيّت مِنَ الحَيّ ((3) ... إلى أن قال: وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها وفي الدعاء المأثور: " اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا " (4)
__________
(1) ... سورة يس، آية: 70.
(2) ... سورة الأنفال، آية: 24.
(3) ... سورة الروم، آية: 19.
(4) ... هو جزء من حديث رواه عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: " ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك ... " فذكر الحديث إلى: " أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري.. " إلخ.
... أخرجه أحمد في مسنده (1/391، 452) ، وابن أبي شيبة في المصنف (10/253) (ح9367) ، وأبو يعلى في مسنده (9/198) ، (ح5297) ، وابن حبان في صحيحه (2/230) كتاب الرقائق - باب ذكر الأمر لمن أصابه حزن (ح959) ، والبزار كما في كشف الأستار (4/31) ، (ح3122) ، والطبراني في المعجم الكبير (10/209-210) ، (ح10352) . وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/136) وقال رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، إلا أنه قال: وذهاب غمي مكان همي، والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان. وقال الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/13) : حديث حسن، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (5/266) (ح3712) : إسناده صحيح، وقد ذكر الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/336-341) ، (ح199) هذا الحديث وقال: (وجملة القول أن الحديث صحيح من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى رضي اللَّه عنهما. وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ... ) .(10/323)
(1) .
ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب، تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح - سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولما كان الحزن والهمّ والغمّ يضاد حياة القلب واستنارته - سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى أن لا تعود، وأما إذا ذهبت بغير القرآن: من صحة، أو دنيا، أو جاه، أو زوجة، أو ولد - فإنها تعود بذهاب ذلك" (2) .
وسيأتي في أسباب حياة القلب وصحته في الفصل الثاني من هذه الرسالة مزيد تقرير لهذا إن شاء اللَّه.
المبحث الثالث: ذكر الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية
على مرض القلوب وشفائها
ذكر اللَّه " مرض القلوب وشفاءها " في مواضع كثيرة من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله (وسأذكر بعضاً منها:
قال اللَّه تعالى عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضَاً ((3) ، وقال تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ والْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ((4) .
__________
(1) ... انظر: مجموع الفتاوى (10/100، 103) .
(2) ... انظر: الفوائد ص49.
(3) ... سورة البقرة، الآية: 10.
(4) ... سورة الحج، الآية: 53.(10/324)
وقال تعالى: (لَئِن لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُنَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً ((1) . وقال تعالى: (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ والْكَافِرُونَ مَاذَا أرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ((2) .وقال تعالى: (قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ ((3) . وقال تعالى: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ. ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ((4) .
وقال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهم ((5) ، وقال تعالى: (ولاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَع الَّذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ((6) ، وقال تعالى: (وإذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلا غُرُوراً ((7) .
وأما الأدلة من السنة النبوية فكثيرة منها: قول النبي (في الحديث الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (8) .
__________
(1) ... سورة الأحزاب، الآية: 60.
(2) ... سورة المدثر، الآية: 31.
(3) سورة يونس، الآية: 57.
(4) ... سورة التوبة، الآية: 14-15.
(5) ... سورة المائدة، الآية: 52.
(6) ... سورة الأحزاب، الآية: 32.
(7) ... سورة الأحزاب، الآية: 12.
(8) ... متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص10.(10/325)
وعن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه (يقول: "ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (1) .
__________
(1) ... أخرجه أحمد في مسنده (5/183) وابن أبي عاصم في السنة (2/504) ، (ح1087) وقال محققه الشيخ الألباني: إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات.
... قال ابن القيم رحمه اللَّه في مدارج السالكين (2/101) أي لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غِلّه وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً، ودواء هذا الغل، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة..(10/326)
وقال حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه: سمعت رسول اللَّه (يقول: " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً (1) ، فأي قلب أشربها (2) نكت فيه نكتة (3) سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا (4)
__________
(1) ... قال الإمام النووي رحمه اللَّه في شرح صحيح مسلم (2/171-172) : "عوداً عوداً" هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها بضم العين والدال المهملة، والثاني بفتح العين وبالدال المهملة أيضاً، والثالث بفتح العين وبالذال المعجمة، ولم يذكر صاحب التحرير غير الأول، وأما القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم واختار الأول، قال: واختار شيخنا أبو الحسين بن سراج فتح العين والدال قال: ومعنى "تعرض" أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به. قال: ومعنى " عوداً عوداً " أي تعاد وتكرر شيئاً بعد شيء، قال ابن سراج: ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال " غفراً غفراً " و"غفرانك"، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا، وقال الأستاذ أبو عبد اللَّه ابن سليمان: معناه تظهر على القلوب. أي تظهر لها فتنة بعد أخرى، وقوله "كالحصير" أي كما ينسج الحصير عوداً عوداً وشظية بعد أخرى. قال القاضي: وعلى هذا يترجح رواية ضم العين، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عوداً أخذ آخر ونسجه، فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحداً بعد واحد. وانظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (1/453) .
(2) ... " أشربها " أي دخلت فيه دخولاً تاماً وألزمها وحلت منه محل الشراب.
(3) ... النكتة: بالضم النقطة. القاموس المحيط ص207.
(4) " مثل الصفا " قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء ". انظر: إكمال المعلم (1/453) .(10/327)
فلا تضره فتنة ما دامت السماوت والأرض، والآخر أسود مرباداً (1) كالكوز مجخياً (2) ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه " (3) .
__________
(1) ... " مرباداً " قال النووي: " كذا هو في روايتنا وأصول بلادنا، وهو منصوب على الحال، وذكر القاضي عياض رحمه اللَّه خلافاً في ضبطه وأن منهم من ضبطه كما ذكرناه، ومنهم من رواه "مربئدّ" بهمزة مكسورة بعد الياء؛ قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا، وأصله أن لا يهمز، ويكون " مربد ". والربدة: شيء من بياض يسير يخالط السواد) . انظر: إكمال المعلم (1/454) ، وصحيح مسلم بشرح النووي (2/172-173) .
(2) ... " كالكوز مجخياً " أي: مائلاً. القاموس المحيط ص1638.
... وقال القاضي عياض: قال لي ابن سراج: ليس قوله " كالكوز مجخياً " تشبيهاً لما تقدم من سواده، بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قُلِب ونُكِس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، ومثله بالكوز المجخّى وبيّنه بقوله " لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً " ... وشبه القلب الذي لا يعي الخير بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه، وقال صاحب التحرير: معنى الحديث: أن الرجل إذا اتبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام. والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك) . انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/454) ، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/173) .
(3) ... صحيح مسلم (1/128-129) ، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (ح144) .(10/328)
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (فشبه عرض الفتن على القلوب شيئاً فشيئاً كعرض عيدان الحصير، وهي طاقاتها شيئاً فشيئاً، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أُشربها، كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسودّ وينتكس، وهو معنى قوله " كالكوز مجخياً " أي مكبوباً منكوساً، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً، الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى اللَّه تعالى عليه وآله وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته) (1) .
الفصل الأول: بيان أقسام القلوب والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: القلب الصحيح.
المبحث الثاني: القلب المريض.
المبحث الثالث: القلب القاسي.
المبحث الأول: القلب الصحيح
القلب الصحيح: هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى اللَّه به كما قال تعالى: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون. إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ((2) .
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/11-12) .
(2) سورة الشعراء، الآيتان: 88-89.(10/329)
ومما ورد من أدعية رسول اللَّه (قوله: " أسألك قلباً سليماً " (1) .
وقد عرف العلماء رحمهم اللَّه القلب السليم بعدة تعريفات أذكر بعضاً منها:
فقال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وهذا هو " القلب السليم " الذي قال اللَّه فيه: (إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك ... ) (2) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (هو السليمُ من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشبهة التي توجب إتباع الظن، ومرضِ الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلبُ السليمُ الذي سَلِمَ من هذا وهذا) (3) .
__________
(1) ... رواه أحمد في مسنده (4/125) ، والترمذي في سننه (5/476) ، كتاب الدعوات، باب (23) (ح3407) ، والنسائي في سننه (3/54) ، كتاب السهو، باب (61) نوع آخر من الدعاء (ح1304) ، وابن حبان كما في الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (3/329) ، كتاب الصلاة، باب ذكر جواز دعاء المرء في صلاته بما ليس في كتاب اللَّه جل وعلا (ح1965) عن شداد بن أوس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقول في صلاته: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم " واللفظ للنسائي.
(2) ... مجموع الفتاوى (10/337) .
(3) ... الروح لابن القيم (ص544) .(10/330)
وقد عرفه أيضاً ابن القيم رحمه اللَّه في موضع آخر فقال: (وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر اللَّه ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة اللَّه مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير اللَّه فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى؛ إرادة ومحبة، وتوكلاً، وإنابة، وإخباتاً، وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في اللَّه، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب، وهي العقائد، وأقوال اللسان. وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب، وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دِقِّه وجِلِّه، هو ما جاء به الرسول صلى اللَّه تعالى عليه وآله وسلم ... ) (1) .
وقال ابن رجب رحمه اللَّه: (القلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة اللَّه وما يحبه اللَّه، وخشية اللَّه، وخشية ما يُباعد منه) (2) .
وقال محمد بن سيرين رحمه اللَّه: (القلب السليم هو الذي يعلم أن اللَّه حق، وأن الساعة قائمة، وأن اللَّه يبعث من في القبور) (3) .
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/7-8) .
(2) جامع العلوم والحكم (1/211) .
(3) ... انظر: الجامع لأحكام القرآن (15/91) .(10/331)
وقال الطبري رحمه اللَّه في معنى قوله تعالى: (إذْ جاء ربه بقلب سليم (يقول تعالى ذكره: إذْ جاء إبراهيم ربه بقلب سليم من الشرك مخلص له التوحيد (1) .
وقيل: صاحب القلب السليم هو الذي لم يلعن شيئاً قط (2) .
كما قيل: إنه القلب الخالص، أو هو الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة.
وأختم أقوال العلماء رحمهم اللَّه في تعريفهم للقلب السليم بقول ابن القيم رحمه اللَّه: (وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى اللَّه تعالى على خليله عليه السلام بسلامة القلب فقال: (وإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمْ. إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلَيمٍ ((3) ، وقال حاكياً عنه أنه قال تعالى: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون. إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ((4) ، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن اللَّه، وسلم من كل شبهة تعارض خبر اللَّه، ومن كل شهوة تعارض أمر ربه، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن اللَّه، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفي جنة البرزخ، وفي جنة يوم المعاد.
ولا يتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعم) (5) .
وهناك أخي الكريم فرق بين سلامة القلب والبَلَه.
__________
(1) ... جامع البيان (23/69) .
(2) انظر: جامع البيان (23/70) ، وتفسير ابن كثير (4/14) .
(3) سورة الصافات، الآيتان: 83، 84.
(4) سورة الشعراء، الآية: 88.
(5) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص183) .(10/332)
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (والفرق بين سلامة القلب والبَله والتغفل، أنّ سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف البَلَه والغفلة فإنها جهلُ وقلّة معرفة، وهذا لا يحمدُ إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه، والكمال أن يكون القلبُ عارفاً بتفاصيل الشر سليماً من إرادته) (1) .
المبحث الثاني: القلب المريض
المَرَضُ في القلب: يَصْلُح لكل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين، ويقال قلب مريض من العداوة وهو النفاق، وقيل المرض في القلب فُتُور عن الحق ... (2) .
وقيل: المَرض، بالفتح للقلب خاصة، وبالتحريك أو كلاهما: الشك، والنفاق، والفتور، والظلمة، والنقصان (3) .
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وكذلك " مرض القلب " هو نوع فسادٍ يحصل له، يفسد به تصوره، وإرادته. فتصوره: بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته: بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار، فلهذا يفسر المرض تارةً بالشك والريب، كما فسر مجاهد (4) ، وقتادة (5)
__________
(1) ... الروح لابن القيم (ص544) .
(2) ... انظر: لسان العرب (13/80) .
(3) انظر: القاموس المحيط ص843.
(4) مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي، مولى بني مخزوم، تابعي جليل، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، مات سنة إحدى - أو اثنتين أو ثلاث أو أربع - ومائة، وله (83) سنة.
... انظر: تقريب التهذيب ص520، وسير أعلام النبلاء (4/499) .
(5) ... قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، كان أحفظ أهل البصرة، مات في واسط بالطاعون سنة (118هـ) ، وقيل سنة (117هـ) .
... تقريب التهذيب ص453، والكاشف للذهبي (2/341) .(10/333)
قوله: (فِي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ ((1) ، أي شك (2) . وتارة يُفسر بشهوة الزنا كما فُسِّر به قوله تعالى: (فَيَطْمَع الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ((3) ... (4)
إلى أن قال رحمه اللَّه: والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض، وحياة وشفاء، وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه، فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه ... ) (5) .
__________
(1) ... سورة البقرة، الآية: 10.
(2) انظر: تفسير ابن جرير الطبري (1/121-122) ، وتفسير ابن كثير (1/51) . وقد فسر هذا المرض أيضاً بالنفاق وبالرياء.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 32.
(4) انظر: جامع البيان (22/3) ، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه اللَّه في تيسير الكريم الرحمن ص24، 25: (وقوله (في قلوبهم مرض (المراد بالمرض هنا: مرض الشك، والشبهات، والنفاق وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع، كلها من مرض الشبهات والزنا، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها، من مرض الشهوات كما قال تعالى: (فيطمع الذي في قلبه مرض (وهو شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين.
(5) ... انظر: مجموع الفتاوى (10/93-95) .(10/334)
وقد ذكر ابن القيم رحمه اللَّه تعريف القلب المريض فقال: (هو قلب له حياة وبه علة. فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى. وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة اللَّه تعالى والإيمان به والإخلاص له، والتوكل عليه: ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى اللَّه ورسوله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة. وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدناهما إليه جواراً ... ) (1) .
المبحث الثالث: القلب القاسي
ورد ذكر قسوة القلب في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها: قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ((2) . وقوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ((3) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه في معنى هذه الآية: (فأخبر أن قسوة قلوبهم كانت عقوبة لهم على نقضهم ميثاق اللَّه وهي مخالفتهم لأمره وارتكابهم لنهيه بعد أن أخذت عليهم مواثيق اللَّه وعهوده ألا تفعلوا ذلك.. إلى أن قال رحمه اللَّه: فإن من تفقه لغير العمل يقسو قلبه فلا يشتغل بالعمل بل بتحريف الكلم وصرف ألفاظ الكتاب والسنة عن مواضعها ... الثاني: نسيان حظ مما ذكروا به من العلم النافع فلا تتعظ قلوبهم بل يذمون من تعلم ما يبكيه ويرق به قلبه ويسمونه قاصاً) (4) .
__________
(1) ... انظر: إغاثة اللهفان (1/9) .
(2) ... سورة البقرة، الآية: 74.
(3) ... سورة المائدة، الآية: 13.
(4) انظر: بيان فضل علم السلف على علم الخلف (ص99-101) .(10/335)
وقد حذر اللَّه من قسوة القلب لمن ابتعد عن ذكر اللَّه، كما في قوله تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ((1) .
وقد أخرج الإمام مسلم بسنده قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولنّ عليكم الأمد فَتَقْسُوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ... " الحديث (2) .
والقسوة في القلب: ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه، وقَسا قلبه قَسْوة وقساوة وقَسا، بالفتح والمد: وهو غلظ القلب وشدَّته، وأَقْساه الذنب (3) .
وقد عرف شيخ الإسلام رحمه اللَّه القلب القاسي فقال: (هو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلاً ليناً قابلاً) (4) .
__________
(1) ... سورة الزمر، الآية: 22.
(2) ... صحيح مسلم (2/726) ، كتاب الزكاة، باب (39) لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً (ح1050) .
(3) ... انظر: مختار الصحاح ص535، ولسان العرب (11/168) .
(4) مجموع الفتاوى (13/271) .(10/336)
وقال ابن القيم رحمه اللَّه في تعريف القلب الميت: (هو الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط، فهو متعبد لغير اللَّه: حباً، وخوفاً، ورجاء، ورضا وسخطاً، وتعظيماً، وذلاً. إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه. فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه. فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور. ينادَى إلى اللَّه وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، ولا يتسجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا تسخطه وترضيه. والهوى يُصِمّه عما سوى الباطل ويعميه ... فمخالطة صاحب هذا القلب سَقَم. ومعاشرته سُمّ، ومجالسته هلاك) (1) .
وقد جمع اللَّه سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة، قلب المؤمن السليم، والقلب المريض، والقلب القاسي في قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ((2) .
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه لما ذكر هذه الآية: (جعل اللَّه القلوب ثلاثة أقسام: قاسية، وذات مرض، ومؤمنة مخبتة، وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافاً، وإذعاناً، أو لا تكون يابسة جامدة.
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/9) .
(2) ... سورة الحج، الآيتان: 53، 54.(10/337)
ف " الأول " هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلاً.
و" الثاني " لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتاً فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض، والأول هو القوي اللين.
وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلاً، فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكن باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم، فبالرحمة خرج عن القسوة، وبالعلم خرج عن المرض، فإن المرض من الشكوك والشبهات، ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات ... ) (1) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه لما ذكر هذه الآيات: (فجعل اللَّه سبحانه وتعالى القلوب في هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلباً ناجياً. فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي. والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه. وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد.
وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحاً سليماً لا آفة به، يتأتى منه ما هُيىء له وخلق لأجله، وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته، وعدم التأتي لما يراد منه، كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذكر العِنِّين، والعين التي لا تبصر شيئاً، وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد، فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة.
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (13/270-271) .(10/338)
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي. وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ، وفي القلوب من الشبه والشكوك: فتنة لهذين القلبين، وقوة للقلب الحي السليم، لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق في خلافه، فيخبت للحق ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيماناً بالحق ومحبة له وكفراً بالباطل وكراهة له. فلا يزال القلب المفتون في مِرْية من إلقاء الشيطان، وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبداً) (1) .
وقد رُوي في بعض الأحاديث أن القلوب أربعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه (: " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر "، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المِدَّتَيْنِ غَلَبَتْ على الأخرى غَلَبَتْ عليه " (2) .
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/10) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/17) ، والطبراني في الصغير (ح1075) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/385) ، وقال أبو نعيم: غريب من حديث عمرو، تفرد به شيبان عن ليث. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/63) وقال: رواه أحمد والطبراني في الصغير، وفي إسناده ليث بن أبي سُلَيم.
... وذكره ابن كثير في تفسيره (1/59) وقال: وهذا إسناد جيد حسن.
... وقال محققو مسند الإمام أحمد (17/208-209) : إسناده ضعيف لضعف ليث، وهو ابن أبي سُليم، ولانقطاعه، أبو البختري وهو سعيد بن فيروز لم يدرك أبا سعيد الخدري، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين.(10/339)
وقد بيّن ابن القيم رحمه اللَّه معنىهذه القلوب فقال: (وقوله " قلب أجرد " أي متجرد مما سوى اللَّه ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق. و"فيه سراج يزهر" وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان، وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر، لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى، حاكياً عن اليهود: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ((1) وهو جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه، كقُلْف وأقلَف، وهذه الغشاوة هي الأكِنّة التي ضربها اللَّه على قلوبهم، عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله. فهي أكِنَّة على القلوب وَوَقرٌ في الأسماع، وعمىً في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: (وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ((2) . فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة، ولَّى أصحابها على أدبارهم نفوراً.
وأشار بالقلب المنكوس -وهو المكبوب- إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ((3) . أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة. وهذا شر القلوب وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، والحق باطلاً ويعادي أهله، فاللَّه المستعان.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 88.
(2) سورة الإسراء، الآيتان: 45، 46.
(3) سورة النساء، الآية: 88.(10/340)
وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث اللَّه به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر. والحكم للغالب وإليه يرجع) (1) .
وقال رحمه اللَّه في موضع آخر: (القلوب ثلاثة: قلب قاسٍ غليظ بمنزلة اليد اليابسة وقلب مائع رقيق جداً. فالأول: لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص وأصحُّ القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحق من الباطل بصفائه ويقبله ويُؤْثِره برقّته ويحفظه، ويحارب عدوه بصلابته ... وأبغض القلوب إلى اللَّه القلب القاسي، قال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللَّه ((2) (3) .
الفصل الثاني: حياة القلوب
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: بيان حقيقة حياة القلب وصحته.
المبحث الثاني: ذكر أسباب حياة القلب وصحته.
المبحث الأول: بيان حقيقة حياة القلب وصحته
تقدم في المبحث الأول من التمهيد الحديث عن وجوب الاعتناء والاهتمام بحياة القلب وأن القلب مَلِكُ الأعضاء، وبقيُّة الأعضاءِ جنوده.. كما ورد في الحديث الصحيح " ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (4) .
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/12-13) .
(2) سورة الزمر، الآية: 22.
(3) انظر: الروح (ص539) .
(4) متفق عليه وهذا جزء من الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه، وقد تقدم تخريجه في صفحة (10) .(10/341)
قال ابن رجب رحمه اللَّه: (وأن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتِّقاءه للشّبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلاَّ محبة اللَّه ومحبة ما يحبه اللَّه، وخشية اللَّه وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرّمات كلها وتوقى الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتِّباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه اللَّه، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب ... ) (1) .
مما سبق يتبين لنا أهمية حياة القلب وصحته وأن الجوارح تابعة له، فما المقصود بحياة القلب وصحته؟
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية، أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة من النظار في علم اللَّه وقدرته، كأبي الحسين البصري، قالوا: إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر، بل الحياة صفة قائمة بالموصوف، وهي شرط في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية، وهي أيضاً مستلزمة لذلك، فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة، وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري، فهو حي.
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/210) .(10/342)
والحياء مشتق من الحياة (1) : فإن القلب الحي يكون صاحبه حياً فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب، ولهذا قال النَّبِيّ (: " الحياء (2) من الإيمان " (3) ، وقال: "الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق" (4) .
__________
(1) ... انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/471) .
(2) جَعل الحَياء، وهو غريزة، من الإيمان وهو اكتساب، لأن المستحيي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم تكن له تقيّة، فصار كالإيمان الذي يقطع بينها وبينه، وإنما جعل بعضه لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر اللَّه به، وانتهاء عما نهى اللَّه عنه فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (1/470) .
(3) متفق عليه، فقد رواه البخاري في صحيحه (1/11) كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان، ومسلم في صحيحه (1/63) كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان (ح59) من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول اللَّه (مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول اللَّه (: "دعه فإن الحياء من الإيمان ".
(4) هذا الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي اللَّه عنه عن النَّبِيّ (فذكر الحديث.
... وقد أخرجه أحمد في مسنده (5/269) ، والترمذي في سننه (4/375) ، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في العِيّ (ح2027) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، والحاكم في المستدرك (1/8-9) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(10/343)
فإن الحي يدفع ما يؤذيه: بخلاف الميت الذي لا حياة فيه فإنه يسمى وقحا، والوقاحة الصلابة (1) وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحاً يابساً صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام، بخلاف الأرض الخضرة.
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح، وله إرادة تمنعه عن فعل القبح، بخلاف الوقح الذي ليس بحي فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك، فالقلب إذا كان حياً فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن، ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها.
ولهذا قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ((2) ، وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ((3) ، مع أنهم موتى داخلون في قوله: (كل نَفْس ذَائِقَةُ المَوْت ((4) وفي قوله: (إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُون ((5) ، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ((6) فالموت المثبت غيرا لموت المنفي، المثبت هو فراق الروح البدن، والمنفي: زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن..) (7) .
__________
(1) انظر: المصباح المنير (2/667) ، والقاموس المحيط ص316.
(2) سورة البقرة، الآية: 154.
(3) سورة آل عمران، الآية: 169.
(4) سورة آل عمران، الآية: 185.
(5) سورة الزمر، الآية: 30.
(6) سورة الحج، الآية: 66.
(7) مجموع الفتاوى (10/109-110) .(10/344)
وقد بين ابن القيم رحمه اللَّه أيضاً حقيقة حياة القلب وسعادته وفلاحه وذلك بأن يكون اللَّه وحده هو غاية طلبه ونهاية قصده فقال: (وإنما كان جمع القلب على اللَّه والخواطر على السير إليه: حياة حقيقية؛ لأن القلب لا سعادة له، ولا فلاح ولا نعيم، ولا فوز ولا لذة، ولا قرة عين إلاَّ بأن يكون اللَّه وحده هو غاية طلبه ونهاية قصده، ووجهه الأعلى هو كل بغيته، فالتفرقة المتضمنة للإعراض عن التوجه إليه، واجتماع القلب عليه: هي مرضه، إن لم يمت منها) (1) .
وذكر ابن القيم رحمه اللَّه في موضع آخر أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر فيه وأن حقيقة حياة القلب الصحيح أنها إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها فقال:
__________
(1) مدارج السالكين (3/317) .(10/345)
(أصل كل خير وسعادة للعبد، بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة الخير كله، قال اللَّه تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ((1) فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوته، وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات؛ وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الصحيح الحي إذا عُرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها، ولم يلتفت إليها؛ بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: " هلك من لم يكنْ له قلبٌ يعرفُ به المعروف وينكر به المنكر" (2)) (3) .
وذكر ابن القيم رحمه اللَّه علامات كثيرة لصحة القلب، فقال: (ومن علامات صحته أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه ...
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 122.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/112) (ح8564) من طريق سفيان، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، قال جاء عتريس بن عرقوب الشيباني إلى عبد اللَّه فقال: هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، فقال: بل هلك من لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/275) ، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(3) إغاثة اللهفان (1/20) .(10/346)
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى اللَّه ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلاَّ برضاه وقربه والأنس به، فيه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكره قوته، وغذاؤه، ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى اللَّه تعالى أبداً، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائماً يضرب على صاحبه، حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذٍ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلاَّ نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.
قال بعض العارفين: " مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها؛ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة اللَّه والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته ...
إلى أن قال: ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره؛ إلاَّ بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
ومن علامات صحته: أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب.
ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرت عينه وسرور قلبه.(10/347)
ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً، وأن يكون في اللَّه.
ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله.
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنَّة اللَّه عليه فيه وتقصيره في حق اللَّه.
فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلاَّ القلب الحي السليم.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همَّه كله في اللَّه، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث. وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه: الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلاَّ حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قُرَّة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه) (1) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه في قصيدته المسماة الكافية الشافية:
فالقلب مضطر إلى محبوبه الأعلى فلا يغنيه حب ثان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن فإذا تخلى منه أصبح حائرا ويعود في ذا الكون ذا هيمان (2)
المبحث الثاني: ذكر أسباب حياة القلب وصحته
لما علمنا أن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب، وأن القلب الصحيح الحيَّ إذا عُرضت عليه القبائح نفَر منها بطبعه، وأبغضها ولم يَلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرّق بين الحسن والقبيح ...
وجب علينا معرفة أسباب حياة القلب وصحته، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1 - قراءة القرآن الكريم وتدبره:
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/70-73) .
(2) انظر: شرح القصيدة النونية (2/447) .(10/348)
قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ((1) ، فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه اللَّه والرسول من العلم والإيمان، فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك (2) .
قال شيخ الإسلام: (وفيه من الحكمة والموعظة لحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محباً للرشاد مبغضاً للغي، بعد أن كان مريداً للغي مبغضاً للرشاد.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما يُنَميّه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن.
و" الزكاة في اللغة " النماء والزيادة في الصلاح. يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح (3) ، فالقلبُ يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يُرَبّى بالأغذية المصلحة له، ولابد مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلاَّ بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره. كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلاَّ بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلاَّ بهذا) (4) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك. وانفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء) (5) .
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 24.
(2) انظر: إغاثة اللهفان (1/22) .
(3) انظر: لسان العرب (6/64-65) ، ومختار الصحاح ص273.
(4) مجموع الفتاوى (10/95-96) .
(5) إغاثة اللهفان (1/70) .(10/349)
وقد بين ابن القيم رحمه اللَّه أن القلب يتغذى من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه فقال: (فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه، ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه، وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى فينمو ويزيد، حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلاَّ بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلاَّ بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلاَّ من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير، لا يحصل له به تمام المقصود) (1) .
وبين رحمه اللَّه في موضع آخر أن القرآن هو الروح التي تحيا به القلوب فقال: (وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضيء وتشرق به، كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ((2)
أي أومن كان كافراً ميت القلب، مغموراً في ظلمة الجهل: فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيا بعد موته، مشرقاً مستنيراً بعد ظلمته ...
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/46) .
(2) سورة الأنعام، الآية: 122.(10/350)
إلى أن قال: والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين. قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ((1) فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب، كما قال في موضع آخر: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ((2) (3) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه لما ذكر هذه الآية: (فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن، والمحل القابل، وهو القلب الحيّ، ووُجد الشرط، وهو الإصغاء، وانتفى المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر - حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر....) (4) .
2 - من أسباب حياة القلب ترك الفواحش والمعاصي:
حياة القلب بدوام ذكر اللَّه، وترك الذنوب والمعاصي؛ لأن الذنوب أمراض القلوب وأدواؤها، ولا دواء إلاَّ تركها.
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب، وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، ومثل الدَّغل في الزرع، فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغاً من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإراداته للأعمال الصالحة، واستراحَ القلبُ من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه) (5) .
__________
(1) سورة يس، الآيتان: 69، 70.
(2) سورة ق، الآية: 37.
(3) انظر: إغاثة اللهفان (1/21-22) ولمزيد من الفائدة انظر مدارج السالكين (3/286-287) .
(4) انظر: الفوائد ص16-17
(5) مجموع الفتاوى (10/96-97) .(10/351)
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (وحياة القلب بدوام الذكر، وترك الذنوب كما قال عبد اللَّه ابن المبارك رحمه اللَّه (1) :
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يُورث الذّل إدمانهاوترك الذُّنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها (2)
إلى أن قال: وكما أن اللَّه سبحانه جعل حياة البدن بالطعام والشراب، فحياة القلب: بدوام الذكر، والإنابة إلى اللَّه، وترك الذنوب، والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت) (3) .
3- من أسباب حياة القلب: الصدقة وتزكية القلب:
زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، والتوحيد: شهادة أن لا إله إلاَّ اللَّه والإيمان هما اللذان يزكو بهما القلب.
__________
(1) هو عبد اللَّه بن المبارك المروزي، مولى بني حنظلة، ثقة ثبت فقيه عالم، جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، مات سنة 181هـ، وله ثلاث وستون سنة.
... تقريب التهذيب لابن حجر 320، الكاشف للذهبي (2/110) .
(2) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/165) .
(3) انظر: مدارج السالكين (3/292) .(10/352)
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: " والصدقة " لما كانت تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار صار القلب يزكو بها، وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب. قال اللَّه تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ((1) ... إلى أن قال: فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل. قال تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ((2) ... فالتزكية وإن كان أصلها النّماء والبركة (3) وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا. وقال: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ((4) وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وإثبات إلهية الحق في القلب، وهو حقيقة لا إله إلاَّ اللَّه. وهذا أصل ما تزكو به القلوب.
والتزكية جعلُ الشيء زكياً: إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر، كما يقال عَدَّلته، إذا جعلته عدلاً في نفسه، أو في اعتقاد الناس، قال تعالى: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ((5) أي تخبروا بزكاتها (6) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلاَّ بزكاته وطهارته لم يكن بد من ذكر هذا وهذا، فنقول:
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 103.
(2) سورة النور، الآية: 21.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/307) .
(4) سورة فصلت، الآيتان: 6، 7.
(5) سورة النجم، الآية: 32.
(6) انظر: مجموع الفتاوى (10/96-97) .(10/353)
الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح، وكمال الشيء، يقال: زكا الشيء إذا نما، قال اللَّه تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ((1) ، فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغَل (2) في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة زكا ونما وقوى واشتد ... إلى أن قال:
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 103.
(2) أصل الدَّغَل: الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه، وقيل: هو من قولهم أدغلت في هذا الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه ويفسده. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/123) .(10/354)
وقال تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ((1) ، قال أكثر المفسرين من السلف (2) ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلاَّ اللَّه، والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء، فإن التزكي - وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة - فإنه إنما يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعاً. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح: هو التوحيد، والتزكية جعل الشيء زكيا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال: عَدَّلته وفسَّقته، إذا جعلته كذلك في الخارج، أو في الاعتقاد والخبر ... ) (3) .
4 - من أسباب حياة القلب وصحته: الأعمال الصالحة:
فالعمل الصالح له أثر في صحة القلب ونفعه، قال مطرف بن عبد اللَّه رحمه اللَّه (4) : (صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية) (5) .
__________
(1) سورة فصلت، الآيتان: 6، 7.
(2) كابن عباس وعكرمة. انظر: تفسير ابن جرير الطبري (24/92-93) ، وتفسير ابن كثير (4/99) .
(3) انظر: إغاثة اللهفان (1/46-49) .
(4) هو مطرف بن عبد اللَّه بن الشّخِّير، أبو عبد اللَّه البصري، ثقة عابد فاضل مات سنة (195هـ) . انظر: حلية الأولياء (2/198) ، وتقريب التهذيب ص534.
(5) حلية الأولياء (2/199) .(10/355)
وقال شيخ الإسلام: والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج، فصلاحها عدل لها، وفسادها ظلم لها، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ((1) ، وقال تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ((2) . قال بعض السلف: إن للحسنة لنوراً في القلب، وقوة في البدن، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسواداً في الوجه ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق (3) (4) .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: (فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيماناً من العلم النافع والعمل الصالح فتلك أغذية له) (5) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (فكذلك القلب لا تتم حياته إلاَّ بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة تحفظ قوته) (6) .
5 - من أسباب حياة القلب وصحته: العدل:
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (و " العدل " هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل فلم يعدل على نفسه؛ بل ظلمها، فصلاح القلب في العدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر. قال تعالى: (مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ((7) ...
__________
(1) سورة فصلت، الآية: 46.
(2) سورة الإسراء، الآية: 7.
(3) رواه أبو نعيم بنحوه في حلية الأولياء (2/161) عن أنس رضي اللَّه عنه.
(4) مجموع الفتاوى (10/98-99) .
(5) مجموع الفتاوى (10/136) .
(6) الجواب الكافي (ص167) .
(7) سورة البقرة، الآية: 286.(10/356)
إلى أن قال رحمه اللَّه: كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل: قد اعتدل مزاجه، والمرض إنما هو بإخراج المزاج، مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه، لكن الأمثل، فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل، ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف. والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً. ولكن الأمثل فالأمثل ... ) (1) .
6 - من أسباب حياة القلب وصحته: أن يستقرّ فيه معرفة اللَّه وعظمته، ومحبته وخشيته والإنابة إليه ومهابته والتوكل عليه:
قال سعيد بن إسماعيل رحمه اللَّه (2) : (صلاح القلب من أربع خصال: التواضع لله، والفقر إلى اللَّه، والخوف من اللَّه، والرجاء لله ... ) (3) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح؟ وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فرح ولا حياة إلاَّ بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها ... بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه إلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح، وهذا الأمر لا يصدق به إلاَّ من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام) (4) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (10/98-99) .
(2) هو أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد الحيري، قال أبو نعيم: كان حميد الأخلاق، مديد الأرفاق، مات سنة (298) هـ. حلية الأولياء (10/244) ، وصفة الصفوة (2/939) .
(3) حلية الأولياء (10/244) .
(4) انظر: الجواب الكافي ص330.(10/357)
وقال ابن القيم رحمه اللَّه في موضع آخر: (فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلاَّ بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلاَّ فاقة وقلقاً حتى يظفر بما خُلق له وهُيّيء له: من كون اللَّه وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه.... وكلما تمكنت محبة اللَّه من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهُّه لما سواه وعبوديته له) (1) .
وقال ابن رجب رحمه اللَّه: (فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة اللَّه وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلىء من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى " لا إله إلاَّ اللَّه "، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو اللَّه وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى اللَّه، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَاءَالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ((2) (3) .
7 - من أسباب حياة القلب وصحته: أن يكون القلب مدركاً للحق مريداً له، مؤثراً له على غيره:
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق، ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو مُنعَم عليه.
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (2/198) .
(2) سورة الأنبياء، الآية: 22.
(3) جامع العلوم والحكم (1/211) .(10/358)
وقد أمرنا اللَّه سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم اللَّه عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخصَّ بالضلال، لأنهم أمة جهل. واليهود أخص بالغضب، لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم، ولهذا قال سفيان بن عيينة (1) " من فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود" (2) ؛ لأن النصارى عبدوا بغير علم، واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه..
إلى أن قال رحمه اللَّه: وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده) (3) .
8 - من أسباب حياة القلب وصحته: جمع القلب على اللَّه:
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (وإنما كان جمع القلب على اللَّه والخواطر على السير إليه: حياة حقيقية؛ لأن القلب لا سعادة له، ولا فلاح ولا نعيم، ولا فوز ولا لذة، ولا قُرَّة عين إلاَّ بأن يكون اللَّه وحده هو غاية طلبه، ونهاية قصده، ووجهه الأعلى: هو كل بغيته. فالتفرقة المتضمنة للإعراض عن التوجه إليه، واجتماع القلب عليه: هي مرضه، إن لم يمت منها) (4) .
9 - ومن أسباب حياة القلب وصحته: مخالفة اليهود والنصارى في الأعمال والأقوال:
__________
(1) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، مات سنة (198هـ) ، وله إحدى وتسعون سنة. تقريب التهذيب (245) ، الكاشف للذهبي (1/301) .
(2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية (1/79) .
(3) انظر: إغاثة اللهفان (1/24-25) .
(4) مدراج السالكين (3/317) .(10/359)
قال شيخ الإسلام: (وكلما كان القلب أتمَّ حياة، وأعرف بالإسلام - الذي هو الإسلام، لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً، أو باطناً بمجرد الاعتقادات، من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد) (1) .
وأختم هذا المبحث بقول ابن الجوزي رحمه اللَّه (2) : (من رزق قلباً طيباً، ولذة مناجاة، فليراع حاله، وليحترز من التغيير، وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى) (3) .
الفصل الثالث:أمراض القلوب
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: أنواع مرض القلوب وعلامة ذلك.
المبحث الثاني: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية.
المبحث الأول:أنواع مرض القلوب، وعلامة ذلك
تقدم في المبحث الثاني من الفصل الأول تعريف مرض القلب وأنه نوع فسادٍ يحصل له، يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره: بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته: بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار..
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/94) .
(2) جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي، الإمام الحافظ، المفسر، الفقيه، الواعظ، الأديب، مات سنة (597هـ) ، وله مصنفات كثيرة مشهورة.
... انظر: تذكرة الحفاظ (4/1342) ، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (1/399-433) .
(3) صيد الخاطر ص508، ولابن الجوزي رحمه اللَّه أيضاً كلام جيد في بيان الطريق إلى صلاح القلب. انظر: صيد الخاطر ص80-81.(10/360)
وقد بين شيخ الإسلام رحمه اللَّه مرض القلب وأن سببه ضعف الإيمان فقال: (والمرض في القلب كالمرض في الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته وذلك - كما فسروه- هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وأما بضعف عمله وحركته. فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع، فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض، وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه ... ) (1) .
وقال رحمه اللَّه في موضع آخر: (وإذا حصل في القلب مرض من الشبهات والشهوات أزيل ذلك بضده، ولا يحصل المرض إلاَّ لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض بالشهوات والشبهات إلاَّ لنقص إيمانه وعبادته لربه ... ) (2) .
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه اللَّه في موضع آخر أنواعاً من أمراض القلوب كالغيظ، والشك، والجهل، ومرض الشهوة، ومرض الشبهة ...
فقال: (و " مرض القلب " ألمٌ يَحصلُ في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب. قال اللَّه تعالى: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ((3) فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم، ويقال: فلان شفي غيظه، وفي القود استشفاء أولياء المقتول، ونحو ذلك. فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن، وكل هذه آلام تحصل في النفس.
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/448) .
(2) رسالة في تزكية النفس لابن تيمية (ص56) تحقيق محمد سعيد القحطاني.
(3) سورة التوبة، الآيتان: 14، 15.(10/361)
وكذلك " الشك، والجهل " يؤلم القلب ... والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه، حتى يحصل له العلم واليقين، ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق: قد شفاني بالجواب ... وقال: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ((1) ، كما قال تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ((2) لم تمت قلوبهم، كموت الكفار والمنافقين، وليست صحيحة صالحة كصلاح قلوب المؤمنين، بل فيها مرض شُبهة وشهوات، وكذلك (فَيَطْمَع الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ((3) وهو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض ... ) (4) .
وقد بين ابن القيم رحمه اللَّه أيضاً حقيقة مرض القلب ... وأنواعه كمرض الشبهات والشكوك والجهل، ومرض الشهوات ... فقال: مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع من أعظم النوعين ألماً ولكن لفساد القلب لا يُحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما ...
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهمِّ والحَزَنِ والغيظ) (5) .
وقال في موضع آخر: (ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن ... ) (6) .
هذا مجمل أمراض القلوب وسأذكر بعضاً منها بشيء من التفصيل.
مرض الحسد:
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 60.
(2) سورة المدثر، الآية: 31.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 32.
(4) انظر: مجموع الفتاوى (10/94-95) .
(5) انظر: إغاثة اللهفان (1/17-18) .
(6) زاد المعاد 3/63.(10/362)
قال أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه: (اعلم أنه لا حسد إلاَّ على نعمة، فإذا أنعم اللَّه على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسداً فالحسد حدّه كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.
الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهى لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة. وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني) (1) .
وقال ابن رجب رحمه اللَّه: (والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيءٍ من الفضائل ... ) (2) .
وقيل الحسد: أن يرى الرجل لأخيه نعمه فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه.
والغَبْط: أن يتمنّى أن يكون له مثلها ولا يتمنَّى زوالها عنه (3) .
وقال ابن منظور: (الحسد: معروف، حَسَدَه يَحْسِده ويَحْسُدُه حسداً وحَسَّدَه إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو) (4) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (والحسد خُلُق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لوفاته كسبُها حتى يساويها في العدم كما قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ((5) ، فالحسود عدو النعمة، متمنٍّ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو ... والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان) (6) .
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/181) .
(2) جامع العلوم والحكم (2/260-263) وقد ذكر رحمه اللَّه أقسام الناس في الحسد بتوسع فأجاد وأفاد فلتراجع.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/383) .
(4) لسان العرب (3/166) .
(5) سورة النساء، الآية: 89.
(6) انظر: الروح ص559.(10/363)
وقال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (ومن أمراض القلوب " الحسد " كما قال بعضهم في حده: إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء، فلا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقد قال طائفة من الناس إنه تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة، فإنه تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط.
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
أحدهما: كراهة للنعمة عليه مطلقاً، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضاً في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه، ولكن ذلك الألم لم يزل إلاَّ بمباشرة منه، وهو راحة فاسدة كالمريض الذي عُولج بما يسكّن وجعه والمرض باقٍ؛ فإن بُغضه لنعمة اللَّه على عبده مرض، فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها، وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود.
والحاسد ليس له غرض في شيء معين؛ لكن نفسه تكره ما أنعم به على غيره. ولهذا قال من قال: إنه تمني زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.(10/364)
والنوع الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه، فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم حسداً في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال: " لا حَسَد إلاَّ في اثنتين: رجل آتاه اللَّه الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه اللَّه مالاً وسلطه على هلكته في الحق " هذا لفظ ابن مسعود (1) .
ولفظ ابن عمر " رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه اللَّه مالاً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار " (2) .
فهذا الحسد الذي نهى عنه النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم إلاَّ في موضعين هو الذي سماه أولئك: الغبطة، وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه.
فإن قيل: إذاً لِمَ سُمي حسداً وإنما أحب أن ينعم اللَّه عليه؟ قيل: مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسداً؛ لأنه كراهة تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم اللَّه عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيء.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (1/26) ، كتاب العلم، باب (15) الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم في صحيحه (1/559) ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها (ح816) .
(2) رواه البخاري في صحيحه (8/209) كتاب التوحيد، باب (45) قول النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار..، ومسلم في صحيحه (1/558) ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.. (ح815) .(10/365)
ولهذا يبتلى غالب الناس بالقسم الثاني وقد تسمى: المنافسة (1) ، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر، والتنافس ليس مذموماً مطلقاً، بل هو محمود في الخير. قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ((2) .
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم، لا ينافس في نعيم الدنيا الزائل، وهذا موافق لحديث النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم فإنه نهى عن الحسد إلاَّ فيمن أوتي العلم، فهو يعمل به ويعلمه، ومن أوتي المال، فهو ينفقه. فأما من أوتي علماً ولم يعمل به ولم يعلمه، أو أوتي مالاً ولم ينفقه في طاعة اللَّه فهذا لا يُحسد ولا يُتمنى مثل حاله، فإنه ليس في خير يرغب فيه، بل هو معرض للعذاب ... والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم، فلهذا لم يذكره ...
__________
(1) قال ابن القيم رحمه اللَّه في كتابه الروح ص558، المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهد من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر، قال تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( [المطففين:26] ثم ذكر رحمه اللَّه كلاماً جيداً في الفرق بين المنافسة والحسد فليراجع لأهميته..
(2) سورة المطففين، الآيات: 22-26.(10/366)
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يُحسدان كثيراً، ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا ...
إلى أن قال: وأما الحسد المذموم كله فقد قال تعالى في حق اليهود: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ((1) يودون: أي يتمنون ارتدادكم حسداً، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق، لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل؛ بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم ...
فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم اللَّه عليه بها ظالم معتدٍ، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهي عن ذلك إلاَّ فيما يقربه إلى اللَّه، فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطى مما يقربه إلى اللَّه فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل.
ثم هذا الحسد إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالماً معتدياً مستحقاً للعقوبة إلاَّ أن يتوب، وكان المحسود مظلوماً مأموراً بالصبر والتقوى، فيصبر على أذى الحاسد، ويعفو ويصفح عنه، كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ((2) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 109.
(2) سورة البقرة، الآية: 109.(10/367)
إلى أن قال رحمه اللَّه: والمقصود أن " الحسد " مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلاَّ قليل من الناس، ولهذا يقال: ما خلا جسدٌ من حسدٍ، لكن اللئيم يبديه والكريم يخُفيه. وقد قيل للحسن البصري (1) : (أيَحسدُ المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبالك؟ ولكن غمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً) (2) (3) .
والحسد المذموم له أسباب كثيرة وقد ذكر جملة منها أبو حامد الغزالي مع شرح هذه الأسباب فقال:
(السبب الأول: العداوة والبغضاء وهذا أشدّ أسباب الحسد.
السبب الثاني: التعزز وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره.
السبب الثالث: الكبر، السبب الرابع: العجب، السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد المحبوبة، السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد اللَّه تعالى ... ) (4) .
مرض الشُّحُّ والبخل:
__________
(1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري ويكنى أبا سعيد، من علماء التابعين، جمع بين العلم والعمل والعبادة، وهو إمام البصرة، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وتوفي سنة 110هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7/156) ، وحلية الأولياء (2/131) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (3/180) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (10/111-125) .
(4) انظر: إحياء علوم الدين (3/184-185) . وقد ذكر رحمه اللَّه في موضع آخر أدوية نافعة جداً لعلاج مرض الحسد وقد بين أن الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا ... وأنه لا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم النافع والعمل الصالح ... إلخ، انظر: إحياء علوم الدين (3/187-190) .(10/368)
قال ابن الأثير - رحمه اللَّه -: الشُّحُّ: أشد البخل وهو أبلغ في المنع من البخل وقيل هو البخل مع الحرص، وقيل البُخل في أفراد الأمور وآحادها، والشحُّ عام، وقيل البُخل بالمال، والشُّحُّ بالمال والمعروف ... ) (1) .
وقيل: البُخل والبَخَل: لغتان وقرى بهما، والبَخْل والبُخول: ضد الكرم (2) .
وقيل البخل: هو المنع من مال نفسه، والشح هو بخل الرجل من مال غيره، وقيل: البخل ترك الإيثار عند الحاجة (3) .
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (والشح مرض، والبخل مرض، والحسد شر من البخل ... وذلك أن البخيل يمنع نفسه، والحسود يكره نعمة اللَّه على عباده، وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه، وحسد لنظرائه، وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره. والشح أصل ذلك.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/448) ، ومختار الصحاح ص331.
(2) لسان العرب (1/332) ، والقاموس المحيط ص1247.
(3) انظر: كتاب التعريفات للجرجاني ص42-43.(10/369)
وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ((1) ، وفي الصحيحين عن النَّبِيّ (أنه قال: " إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا" (2) .
__________
(1) سورة الحشر، الآية 9، وسورة التغابن، الآية: 16.
(2) لم اقف عليه في الصحيحين بهذا اللفظ، وقد أخرجه أحمد في مسنده (2/159، 191، 195) ، والطيالسي في مسنده (ح2272) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/243) ، والحاكم في المستدرك (1/11، 415) كلهم من طريق عمرو بن مُرّة، عن عبد اللَّه بن الحارث عن ابي كثير عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: " الظلم ظلمات يوم القيامة وإياكم والفحش فإن اللَّه لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ... " إلى آخر الحديث واللفظ لأحمد.
... وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقد ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/539) وقال: إسناده صحيح.
... وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد ص106-107 (ح490) ، ومسلم في صحيحه (4/1996) ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (ح2578) عن جابر بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".(10/370)
وكان عبد الرحمن بن عوف (1) يكثر من الدعاء في طوافه يقول: اللهم! قني شح نفسي، فقال له رجل: ما أكثر ما تدعو بهذا؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة، والحسد يوجب الظلم.
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها، ولهذا يُقرن الحسد بالحقد والغضب) (2) .
وبعد أن تبين لنا أن الشح مرض من أمراض القلوب وأنه أشد البخل لابد أن تعلم أن هناك فرقاً بين الاقتصاد والاعتدال في الإنفاق والشح..
قال ابن القيم رحمه اللَّه: وأما الفرق بين الاقتصاد والشحّ، فإن الاقتصاد خُلُق محمودٌ، يتولّد من خُلُقين: عدل وحكمة، فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولّد من بينهما الاقتصاد وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال الله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ((3) .
وأما الشح فهو خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمدّه وعد الشيطان حتى يصيره لمعتاد الهلع، والهلع شدّة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ((4) (5) .
__________
(1) عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث القرشي الزهري، أحد العشرة، أسلم قديماً، ومناقبه شهيرة، مات سنة (32هـ) وقيل غير ذلك. البداية والنهاية لابن كثير (7/170) ، والإصابة (4/176) .
(2) انظر: مجموع الفتاوى (10/128-129) . وقد ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين (3/247) أن البخل سببه حب المال ولحب المال سببان: أحدهما: حب الشهوات ... والثاني: أن يحب عين المال ... إلخ، ثم ذكر علاج ذلك..
(3) سورة الإسراء، الآية: 29.
(4) سورة المعارج، الآية: 19-21.
(5) انظر: الروح ص529-530.(10/371)
مرض الشهوة والعشق:
الشّهوة: شَهِي الشيء وشَهاهُ يَشْهاه شَهْوَةً واشتهاه وتَشَهّاهُ: أحبَّه ورَغِب فيه (1) ، وقيل: الشَّهوةُ: اشتياق النفس إلى الشيء والجمع شهواتِ (2) .
والعِشْقُ: فرط الحب، وقيل: هو عجب المحب بالمحبوب يكون في عَفافِ الحبّ ودعارته. وقيل: العَشَقُ والعَسَقُ بالشين والسين المهملة: اللزوم للشيء لا يفارقه، وقيل: (العِشْقُ الإغرام بالنساء، والعشق الإفراد بالمحبة) (3) .
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها، وقد يقترن به بغضها لما ينفعها، والعشق مرض نفساني، وإذا قوى أثَّر في البدن فصار مرضاً في الجسم، إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه: هو مرض وسواسي (4) شبيه بالماليخوليا، وأما من أمراض البدن كالضعف والنُّحول ونحو ذلك.
والمقصود هنا " مرض القلب " فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهي ما يضره، وإذا لم يُطعَم ذلك تألم، وإن أُطعم ذلك قوى به المرض وزاد.
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعاً، بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك، فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب، وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه، وكان سبباً لزيادة الألم..
والناس في العشق على قولين:
قيل أنه من باب الإرادات، وهذا هو المشهور.
وقيل: من باب التصورات، وإنه فساد في التخييل، حيث يتصور المعشوق على ما هو به، قال هؤلاء: ولهذا لا يوصف اللَّه بالعشق، ولا أنه يعشق؛ لأنه منزه عن ذلك، ولا يحمد من تخيل فيه خيالاً فاسداً.
وأما الأولون، فمنهم من قال: يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة واللَّه يُحِب ويحب ...
__________
(1) لسان العرب (7/230) .
(2) المصباح المنير (1/326) .
(3) المصباح المنير (2/412) .
(4) انظر: القاموس المحيط ص1174.(10/372)
والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق اللَّه؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي، واللَّه تعالى محبته لا نهاية لها فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته.
قال هؤلاء: والعشق مذموم مطلقاً لا يمدح لا في محبة الخالق ولا المخلوق لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود و (أيضاً) فإن لفظ (العشق) إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي، لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والوطن والجاه، ومحبة الأنبياء والصالحين، وهو مقرون كثيراً بالفعل المحرم: إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي، يقترن به النظر المحرم، واللمس المحرم، وغير ذلك من الأفعال المحرمة ...
إلى أن قال رحمه اللَّه: فكيف عشق الأجنبية والذكران من العالمين؟!! ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلاَّ رب العباد وهو من الأمراض التي تُفسد دين صاحبها وعرضه، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه. قال تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ((1) (2) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه في تعريف العشق: (هو الإفراط في المحبة، بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق، حتى لا يخلو من تخيله وذكره والتفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعسر دواؤه ويعتذر، أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك فيعجز البشر عن صلاحه ... والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم، وآخره عطب وقتل، إن لم تتداركه عناية من اللَّه) (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 32.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (10/129-132) .
(3) انظر: الجواب الكافي ص305، وقد ذكر ابن القيم رحمه اللَّه في كتابه الجواب الكافي ص302-310 كلاماً جيداً طويلاً في آفات العشق ومضاره ومفاسده الدينية والدنيوية لم أذكره هنا مخافة الإطالة فليراجع لأهميته.(10/373)
وقال ابن القيم رحمه اللَّه في موضع آخر: (فصل في هديه (في علاج العشق هذا مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه وأعي العليل داؤه وإنما حكاه اللَّه سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس من النساء وعشاق الصبيان المردان فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف وحكاه عن قوم لوط ... ) (1) .
وقد بين ابن القيم رحمه اللَّه أن الفتن التي تعرض على القلوب من أسباب مرضها فقال: (والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل. فالأولى توجب فساد القصد والإرادة والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد) (2) .
وقال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال وهي الأهواء التي قال اللَّه فيها: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ((3) ... فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم: يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته وبترك ما تكرهه نفسه مما هو لا يصلح له، فيعقبهم ذلك من الألم والعقوبات إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم ((4) .
وفي ختام هذا المبحث أذكر بعضاً من علامات مرض القلب لعلها تكون سبباً إن شاء اللَّه في الابتعاد عن هذه الأمراض.
__________
(1) زاد المعاد (3/151) .
(2) إغاثة اللهفان (1/12) .
(3) سورة القصص، الآية 50.
(4) انظر: مجموع الفتاوى (10/143-144) .(10/374)
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب ... ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة اللَّه ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة، فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئاً، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة اللَّه، والشوق إليه، والأنس به؛ فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خالياً عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذاباً له ولابد، فيصير معذباً بنفس ما كان منعماً به من جهتين: من جهة حسرة فَوْته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فَوْت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف اللَّه أحبه، وأخلص العبادة له ولابد، ولم يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوّضت بمحبة غيره. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك انه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته..
إلى أن قال رحمه اللَّه: والمقصود: أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها، النافع إلى دائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك.(10/375)
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء..) (1) .
المبحث الثاني: انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية
بعد أن عرفنا في المبحث الأول بعضاً من أمراض القلوب سواء أمراض الشبهات أو أمراض الشهوات لابد أن نعرف دواءها؛ لأن اللَّه عز وجل ما أنزل من داءٍ إلاَّ له دواء، فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن النَّبِيّ (قال: " ما أنزل اللَّه داءً إلاَّ أنزل له شِفاءٍ" (2) .
وسأذكر بعضاً من أدوية أمراض القلوب التي ذكرها شيخ الإسلام وابن القيم لعل اللَّه أن يعافي قلوبنا من كل داء، ونعوذ باللَّه من منكرات الأخلاق والأهواء.
1 - القرآن الكريم:
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغبُ القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محباً للرشاد، مبغضاً للغي، بعد أن كان مريداً للغي، مبغضاً للرشاد، فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما يُنَمّيه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن) (3) .
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/68-70) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (7/11-12) ، كتاب الطب، باب ما أنزل اللَّه داء إلاَّ انزل له شفاء، وابن ماجة في سننه (2/1138) ، كتاب الطب، باب ما انزل اللَّه داء إلاَّ أنزل له شفاء (ح3439) .
(3) مجموع الفتاوى (10/95-96) .(10/376)
وقال ابن القيم رحمه اللَّه لما ذكر حديث أبي هريرة السابق: (وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها، وقد جعل النَّبِيّ (الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء.. وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء فقال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْءَايَاتُهُءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ((1) ، وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ((2) و " من " هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء كما قال في الآية المتقدمة، فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل اللَّه سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن ...
ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها، هي في نفسها، وإن كانت نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه، يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول. فكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء ... ) (3) .
__________
(1) سورة فصلت، الآية 44.
(2) سورة الإسراء، الآية 82.
(3) انظر: الجواب الكافي ص21-23.(10/377)
وقال في موضع آخر: (وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات. والقرآن شفاء للنوعين. ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشُّبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوّات، ورد النِّحَل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتمّ الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بياناً. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك؛ ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه اللَّه تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عياناً بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم: بين علوم لا ثقة بها، وإنما هي آراء وتقليد، وبين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئاً، وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها؛ وبين علوم صحيحة قد وعّروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها، مع قلة نفعها.(10/378)
إلى أن قال: وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محباً للرشد، مبغضاً للغي. فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فيصير بحيث لا يقبل إلاَّ الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلاَّ اللبن، فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه ... ) (1) .
2 - ومن أدوية أمراض القلوب:
الإيمان وأوراد الطاعات، واجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات.
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (وهكذا أمراض الأبدان: فإن الصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيماناً من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذية له ... ويضم إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه من استغفر اللَّه ثم تاب إليه متعه متاعاً حسناً إلى أجل مسمى.
وليتخذ وِرداً من "الأذكار" في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده اللَّه بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه.
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/44-46) وقد ذكر ابن القيم رحمه اللَّه في عدة مواضع أهمية قراءة القرآن وإنه شفاء لما في الصدور. انظر: إغاثة اللهفان (1/15، 22، 70، 92) .(10/379)
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة وظاهرة فإنها عمود الدين، وليكن هجيراه (1) " لا حول ولا قوة إلاَّ باللَّه " فإنها بها تُحمل الأثقال وتُكابَد الأهوال وينال رفيع الأحوال.
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يعجل (2) . فيقول: قد دعوتُ ودعوتُ فلم يُستجب لي، وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولم ينل أحد شيئاً من ختم الخير نبي فمن دونه إلاَّ بالصبر) (3) .
__________
(1) هجيره: الهَجير والهاجرة: اشتداد الحر نصف النهار، وقيل الهِجِّيرُ والهِجِّيرى: الدّابُ والعادة والدَّيدن. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/246) .
(2) يشير بذلك رحمه اللَّه إلى الحديث الذي في الصحيحين فقد روى البخاري في صحيحه (7/153) كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، ومسلم في صحيحه (4/2095) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي (ح2735) عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي ".
... وقال ابن القيم رحمه اللَّه في الجواب الكافي ص28-29: (ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطىء الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو ما بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله) .
(3) انظر: مجموع الفتاوى (10/136-137) .(10/380)
وقال شيخ الإسلام رحمه اللَّه في موضع آخر: (وكما أن الواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله، وإزالته بعد حصوله، فهكذا أمراض يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها - بأن عرض له المرض دواماً، والصحة تحفظ بالمثل، والمرض يزول بالضد، فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما فيها، أو هو ما يقوي العلم والإيمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد، فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق ... إلى أن قال: فهذه الأمراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النَّبِيّ (: " لا يقضي اللَّه للمؤمن قضاء إلاَّ كان خيراً له أن إصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له" (1)) (2) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذى الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي، وأنواع المخالفات؛ وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات ...
إلى أن قال رحمه اللَّه: والصحة تحفظ بالمثل والشبه، والمرض يدفع بالضد والخلاف، وهو يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده.
__________
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد روى نحوه الإمام مسلم في صحيحه (4/2295) ، كتاب الزهد والرقائق باب المؤمن أمره كل خير (ح2999) ، وأحمد في مسنده (4/332) ، والطبراني في الكبير (8/47) (ح7316، 7317) ، والبيهقي في السنن (3/375) عن صهيب قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير وليس ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له" واللفظ لمسلم.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (10/145-148) .(10/381)
ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح: من يسير الحر، والبرد، والحركة، ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء: من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته.
وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف، مالم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه) (1) .
وأمراض القلوب التي تقدم ذكر بعضها في المبحث الأول كمرض الجهل ومرض الشهوات ومرض الشبهات، وأمراض الهمّ والغمّ والغيط والجهل والشك كل هذه الأمراض وغيرها من أمراض القلوب لها أدوية طبيعية وشرعية.
قال ابن القيم رحمه اللَّه: مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال؛ وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات. وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهمّ والغمّ والحَزَنِ والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب؛ وما يدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيراً بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه.
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/17-18) .(10/382)
فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، وأما أمراضه التي لا تزول إلاَّ بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال " شفى غيظه " فإذا استولى عليه عدوه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ((1) فأمر بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ست فوائد.
فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضاً من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك يزيد مرضه، ويوجب له أمراضاً أُخر أصعب من مرض العشق، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى، وكذلك الغمّ والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور، فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرىء من مرضه، وإن كان بباطل توارَى ذلك واستتر، ولم يزل، وأعقب أمراضاً هي أصعب وأخطر.
وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضاً إلى مرضه؛ لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة، التي هي شرط في صحته وبُرْئه ...
وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره وحصل له بَرْد اليقين ...
__________
(1) سورة التوبة، الآيتان 14،15.(10/383)
والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلاَّ بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن) (1) .
3 - ومن الأدوية الناجحة لعلاج مرض الحسد وغيره التقوى والصبر.
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود، فلا يعينون من ظلمه، ولكنهم أيضاً لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحسد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك؛ لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضاً في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب ومن أتقى وصبر فلم يدخل في الظالمين نفعه اللَّه بتقواه ... ) (2) .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه: (وجمع سبحانه بين الصبر واليقين (3) إذ هما سعادة العبد، وفَقدُهما يُفقِده سعادته، فإن القلب تطرقه طوارق الشهوات المخالفة لأمر اللَّه، وطوارق الشبهات المخالفة لخبره فبالصبر يَدفعُ الشهوات، وباليقين يدفع الشبهات (4) ، فإن الشهوة والشبهة مُضادّتان للدّين من كل وجهٍ، فلا ينجو من عذاب اللَّه إلاَّ من دفع شهواته بالصبر وشبهاته باليقين ... ) (5) .
4 - ومن أدوية أمراض القلوب كمرض العشق وغيره إخلاص الدين لله وحده لا شريك له ومحبته سبحانه وحده والخوف منه.
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/18-20) .
(2) مجموع الفتاوى (10/125) .
(3) كما في قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ( [سورة السجدة: 24]
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/120) .
(5) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص16، 17.(10/384)
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: والرسل صلى اللَّه عليهم وسلم بُعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها، وإذا كان القلب محباً لله وحده مخلصاً له الدين لم يُبْتَل بحب غيره [أصلاً] ، فضلاً أن يُبتلى بالعشق وحيث ابتلي بالعشق فلنقص محبته لله وحده. ولهذا لما كان يوسف محباً لله مخلصاً له الدين لم يُبتل بذلك، بل قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ((1) . وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلي بالعشق أحد إلاَّ لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى اللَّه الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق:
(أحدهما) : إنابته إلى اللَّه، ومحبته له، فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء، فلا تبقى مع اللَّه محبة مخلوق تزاحمه.
و (الثاني) : خوفه من اللَّه، فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه، وكل من أحب شيئاً بعشق أو غير عشق فإنه يُصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه، إذا كان يزاحمه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب، فإذا كان اللَّه أحب إلى العبد من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء، لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلاَّ عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما فعل العبد الطاعة محبة للَّه وخوفاً منه وترك المعصية حباً له وخوفاً منه قوي حبه له وخوفه منه، فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره) (2) .
__________
(1) سورة يوسف، الآية 24.
(2) مجموع الفتاوى (10/135-136) .(10/385)
وبين ابن القيم رحمه اللَّه أن عشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من حب اللَّه والإخلاص له، وأن الإخلاص له سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء فقال: (وهذا إنما تبتلى به القلوب الفارغة من حب اللَّه والإخلاص له، فإن القلب لابد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن اللَّه وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلابد أن يتعبد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ((1) فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصاً لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شاباً عزباً غريباً مملوكاً) (2) .
ولابن القيم رحمه اللَّه أيضاً كلامٌ طويلٌ في علاج داء العشق أذكر بعضاً منه حيث قال: (والكلام في دواء هذا الداء من طريقين أحدهما: حسم مادته قبل حصولها، والثاني: قلعها بعد نزولها، وكلاهما يسير على من يسره اللَّه عليه، ومتعذر على من لم يعنه اللَّه، فإن أزمة الأمور بيديه.
__________
(1) سورة يوسف، الآية 24.
(2) إغاثة اللهفان (1/47) ، وانظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/151) ، وإغاثة اللهفان (2/152) .(10/386)
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء، فأمران: أحدهما: غض البصر كما تقدم، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته، الثاني: اشتغال القلب بما يبعده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه ... إلى أن قال: وإذا عرفت هذه المقدمة فلا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور أبداً، بل هما ضدان لا يجتمعان، بل لابد أن يخرج أحدهما صاحبه، فمن كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن محبة ما سواه، وإن أحبه لم يحبه إلاَّ لأجله، أو لكونه وسيلة إلى محبته، أو قاطعاً له عما يضاد محبته وينقصها، والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك معه محبة غيره، ويمقته لذلك، ويبعده ولا يحظيه بقربه، ويعده كاذباً في دعوى محبته، مع أنه ليس أهلاً لصرف كل قوة المحبة إليه فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تبتغى المحبة إلاَّ له وحده، وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال؟ ولهذا لا يغفر اللَّه سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ... ) (1) .
5 - ومن أدوية أمراض القلوب اليأس من حصول المطلوب من عشق أو شهوة أو غيرها.
__________
(1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص259، 262، 263، 264، وقد عقد ابن القيم رحمه اللَّه فصلاً في هديه صلى اللَّه عليه وسلم في علاج العشق في أكثر من أربع صفحات ذكر فيه كلاماً مفيداً في علاج هذا المرض لم أذكره مخافة الإطالة. انظر: زاد المعاد (3/151-154) .(10/387)
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: (ومن في قلبه مرض الشهوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض، والطمع الذي يقوي الإرادة والطلب، ويقوي المرض بذلك، بخلاف ما إذا كان آيساً من المطلوب، فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب، فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه، فلا يكون مع الإرادة عمل أصلاً، بل يكون حديث نفسٍ إلاَّ أن يقترن بذلك كلام أو نظر ونحو ذلك فيأثم بذلك ... ) (1) .
6 - ومن أدوية أمراض القلوب:
دوام الاستعانة باللَّه تعالى والتعرض لأسباب مرضاته والتجاء القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته. قال ابن القيم رحمه اللَّه: (ولما علم عدو اللَّه إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق وأمدّه من أسباب الغَيّ بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما أن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلاَّ بدوام الاستعانة باللَّه تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمان (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ((2) ، فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولها سبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند اللَّه من المقربين وشمله استثناء (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ((3) (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/132) .
(2) سورة الحجر، الآية 42.
(3) سورة ص، الآية 83.
(4) إغاثة اللهفان (1/5-6) .(10/388)
7 - ومن أدوية أمراض القلوب: الاستعاذة باللَّه من الشيطان عند قراءة القرآن. قال ابن القيم رحمه اللَّه: (فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يُذْهِب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويُخلى منه القلب ليصادف الدواء محلا خالياً، فيتمكن منه ويؤثر فيه ... فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومُضادّ له فينجع فيه.
ومنها أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ باللَّه عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله، أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها ... ) (1) .
وأمَّا قسوة القلب فقد ذكر القرطبي رحمه اللَّه لعلاجه عدة أمور فقال:
(قال العلماء رحمة اللَّه عليهم: ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور:
أحدها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكر، والتخويف والترغيب، وأخبار الصالحين. فإن ذلك مما يلين القلوب وينجع فيها.
الثاني: ذكر الموت، فيكثر من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات ومُيَتِّم البنين والبنات.
قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/92) ومن أراد الاستزادة من ذلك فقد خصص ابن القيم رحمه اللَّه الباب الثاني عشر في كتابه إغاثة اللهفان (1/90-102) كله في علاج مرض القلب بالاستعاذة من الشيطان.(10/389)
الثالث: مشاهدة المحتضرين، فإنّ في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب.
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبُهُ، ولزمه ذنبُهُ، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وإغوائه، فإن انتفع بها فذاك، وإن عظم عليه ران القلب واستحكمت فيه دواعي الذنب، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول، والثاني والثالث ... ) (1) .
الفصل الرابع:آثار الذنوب والمعاصي على القلوب
للمعاصي والذنوب من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلاَّ اللَّه (2) .
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (فمما ينبغي أن يعلم: أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلاَّ سببه الذنوب والمعاصي ... ) (3) .
__________
(1) انظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/27-28) .
(2) قال الغزالي رحمه اللَّه في إحياء علوم الدين 3/14: (وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن اللَّه تعالى، وهو الطبع وهو الرين قال اللَّه تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( [المطففين: 14]
... ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها، فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك ... ) .
(3) الجواب الكافي ص80.(10/390)
ثم ذكر رحمه اللَّه كلاماً جيداً في آثار المعاصي والذنوب على القلوب أذكر بعضاً من هذه الآثار لعل اللَّه أن ينفع بالتدبر بها قلوبنا إنه على كل شيء قدير، حيث قال: (وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلاَّ الله.
1 - فمنها (أي من آثار الذنوب والمعاصي على القلب) حرمان العلم. فإن العلم نور يقذفه اللَّه في القلب، والمعصية تطفىء ذلك النور، ولما جلس الإمام الشافعي (1) بين يدي مالك (2) ، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية ... ) (3) .
واللَّه تبارك وتعالى وعد عباده المتقين البعيدين عن المعاصي بوفرة العلم فقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ((4) .
2 - ومنها: (وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين اللَّه لا يوازنها ولا يقارنها لذة ترك الذنوب إلاَّ حذراً من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حرياً بتركها ... وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب، فاللَّه المستعان) (5) .
__________
(1) هو محمد بن إدريس بن العباس المطلبي، أبو عبد اللَّه الشافعي، المكي، نزيل مصر الإمام ناصر الحديث وهو المجدد لأمر الدين على رأس المائتين، ثقة مات سنة (204هـ) ، وله أربع وخمسون سنة. الكاشف (3/16) ، وتقريب التهذيب ص467.
(2) مالك بن أنس الأصبحي، أبو عبد اللَّه المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، مات سنة (179هـ) ، وكان مولده سنة (93هـ) .
... الكاشف (3/99) ، وتقريب التهذيب ص516.
(3) الجواب الكافي ص97-98.
(4) سورة البقرة، الآية 282.
(5) انظر: الجواب الكافي ص98.(10/391)
قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ((1) .
3 - (ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً في الوجه حتى يراه كل أحد.
قال عبد اللَّه بن عباس (2) : " إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق " (3) .
وقد أوضح اللَّه في كتابه هذه الظلمة قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ((4) .
__________
(1) سورة الأنعام، آية 125.
(2) عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسمى البحر، والحِبْر، لسعة علمه، مات سنة (68هـ) بالطائف وهو أحد العبادلة من فقهاء الصحابة. حلية الأولياء (1/314) ، والإصابة (4/90) .
(3) انظر: الجواب الكافي ص98-99.
(4) سورة الأنعام، آية 39.(10/392)
4 - ومنها: (أن المعاصي توهن القلب والبدن، أما وهنها للقلب: فأمر ظاهر، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية.
وأما وهنها للبدن: فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوى قلبه قوى بدنه، وأما الفاجر فإنه - وإن كن قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم) (1) .
5 - ومنها: (وهو من أخوفها على العبد - أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوى فيه إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى اللَّه، فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان لشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك) (2) .
6 - ومنها: (أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يكن يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا، وهذا الضرب من الناس لا يتعافون، وتسد عليهم طريق التوبة وتغلق عنهم أبوابها في الغالب ... ) (3) .
__________
(1) الجواب الكافي ص99.
(2) الجواب الكافي ص101-102.
(3) الجواب الكافي ص102.(10/393)
7 - ومنها: (أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف (1) في قوله تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ((2) قال: هو الذنب بعد الذنب (3) ، وقال الحسن (4) : هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب (5) ، وقال غيره (6) : لما كثر ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم (7)) (8) .
ثم بيّن ابن القيم رحمه اللَّه عقوبات الذنوب والمعاصي وسأذكر منها ما يختص بالقلب، حيث قال رحمه اللَّه:
(1) (ومن عقوباتها: أنها تطفىء من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فإن الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم قدراً وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس، ولهذا كان النَّبِيّ (أغير الخلق على الأمة، واللَّه سبحانه أشد غيرة منه، كما ثبت في الصحيح عنه (أنه قال: " أتعجبون من غيرة سعدٍ؟ لأنا أغير منه واللَّه أغير منيّ" (9) ....
__________
(1) كابن عباس رضي اللَّه عنه ومجاهد والكلبي رحمهما اللَّه.
(2) سورة المطففين، الآية 14.
(3) انظر: جامع البيان (30/98، 99) ، وتفسير القرطبي (19/259 -260) .
(4) هو: البصري رحمه اللَّه. تقدمت ترجمته.
(5) انظر: جامع البيان (30/98) ، وتفسير البغوي (4/460) ، وتفسير ابن كثير (4/518) .
(6) كالفراء ومجاهد وابن جرير الطبري رحمهم اللَّه.
(7) جامع البيان (30/97-99) ، وتفسير القرطبي (19/259) .
(8) الجواب الكافي ص105.
(9) رواه البخاري في صحيحه (6/156) كتاب النكاح، باب الغيرة، ومسلم في صحيحه (2/1136) ، كتاب اللعان (ح1499) .(10/394)
إلى أن قال رحمه اللَّه: والمقصود: أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك، وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له، ويدعوه إليه ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة يميت القلب فتموت له الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلاً، ولم يجد دافعاً، فتمكن منها الهلاك) (1) .
(2) ومن عقوباتها: (ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه كل خير بأجمعه ... ) (2) .
(3) ومن عقوباتها (أنها تضعف القلب من تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولابد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار اللَّه وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، وربما اغتر المغتر وقال: إنما يحملني على المعاصي حسن الرجاء، وطمعي في عفوه، لأضعف عظمته في قلبي، وهذا من مغالطة النفس، فإن عظمة اللَّه تعالى وجلاله في قلب العبد يقتضي تعظيم حرماته وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب والمتجرئون على معاصيه ما قدروه حق قدره ... ) (3) .
(4) ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى اللَّه والدار الآخرة، وتعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى اللَّه خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه.
__________
(1) انظر: الجواب الكافي ص115-117.
(2) الجواب الكافي ص118.
(3) الجواب الكافي ص119-120.(10/395)
فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى اللَّه بقوته فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره. فإن زالت بالكلية انقطع عن اللَّه انقطاعاً يبعد تداركه، فاللَّه المستعان.
فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ النَّبِيّ (منها وهي: " الهم، والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال " (1) ... ) (2) .
(5) (ومن عقوباتها: ما يلقيه اللَّه سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلاَّ خائفاً مرعوبا، فإن الطاعة حصن اللَّه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع اللَّه انقلبت المخاوف في حقه أمانا، ومن عصاه انقلبت مآمنه مخاوف، فلا تجد العاصي إلاَّ وقلبه كأنه بين جناحي طائر، إن حركت الريح الباب قال: جاء الطلب، وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيراً بالعطب، يحسب كل صيحة عليه وكل مكروه قاصداً إليه، فمن خاف اللَّه آمنه من كل شيء، ومن لم يخف اللَّه أخافه من كل شيء) (3) .
__________
(1) فقد أخرجه البخاري في صحيحه (7/159) ، كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل، ومسلم في صحيحه (4/2079) ، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره (ح2706) من طريق أنس رضي اللَّه عنه قال: كان النَّبِيّ (يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال " واللفظ للبخاري.
(2) الجواب الكافي ص124.
(3) الجواب الكافي ص126.(10/396)
(6) (ومن عقوباتها: أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشاً، وقد وقعت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة وأمر العيش عيش المستوحشين الخائفين، وأطيب العيش عيش المستأنسين، فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما تولده فيه من الخوف والوحشة لعلم سوء حاله وعظيم غبنه، إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف ... ) (1) .
(7) (ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وأداؤها ولا دواء إلاَّ تركها، وقد أجمع السائرون إلى اللَّه على أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها، فيصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلاَّ بمخالفة هواها، وهواها مرضها، وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أوكاد) (2) .
(8) (ومن عقوباتها: أن العاصي دائماً في أسر شيطانه وسجن شهواته، وقيود هواه ... إلى أن قال: فكيف يسير إلى اللَّه والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده، ومثل القلب مثل الطائر، كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات ... إلى أن قال رحمه اللَّه:
__________
(1) الجواب الكافي ص127.
(2) الجواب الكافي ص127.(10/397)
وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد من اللَّه كانت الآفات إليه أسرع، وكلما كان أقرب من اللَّه بعدت عنه الآفات، والبعد من اللَّه مراتب، بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد العبد عن اللَّه، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق، والشرك أعظم من ذلك كله) (1) .
(9) ومن عقوبات الذنوب والمعاصي على القلب أنه قد يخونه قلبه ولسانه إذا وقع في شدة أو كربة أو عند الاحتضار والانتقال إلى اللَّه تعالى.
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (والمقصود: أن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على اللَّه تعالى والإنابة إليه، والحمية عليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر، ولا ينحبس اللسان والقلب على المذكور بل إن ذكر أو دعا بقلب غافل لاه ساه، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي ...
هذا، وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى اللَّه تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين من أصابهم ذلك، ... ثم ذكر رحمه اللَّه قصصاً كثيرة في المحتضرين بعضهم يهذي بالغناء وبعضهم بالكفر وبعضهم بالمال إلى أن قال رحمه اللَّه: فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل اللَّه سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه، وكان أمره فرطاً؟ فبعيد من قلبه بعيد من اللَّه تعالى غافل عنه متعبد لهواه مذلل لشهواته، ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصية ربه - بعيد عن هذا أن يوفق لحسن الخاتمة) (2) .
__________
(1) انظر: الجواب الكافي ص131.
(2) انظر: الجواب الكافي ص144-146.(10/398)
(10) ومن عقوبات المعاصي على القلب أنها تعميه فلا يدرك الحق كما ينبغي، وتضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه ...
قال ابن القيم رحمه اللَّه: (فمعلوم أن المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي، وتضعف قوته وعزيمته، فلا يصبر عليه، بل قد تتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه كما ينعكس سيره. فيدرك الباطل حقاً والحق باطلاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، فينتكس في سيره ويرجع عن سفره إلى اللَّه والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة، التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها، وغفلت عن اللَّه وآياته، وتركت الاستعداد للقائه، ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلاَّ هذه وحدها لكانت كافية داعية إلى تركها والبعد منها، واللَّه المستعان.
وهذا كما أن الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله، وتقويه وتثبته، حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيتلألأ نوراً، فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الأسد. أفيستوي هذا القلب وقلب مظلمة أرجاؤه، مختلفة أهواؤه، قد اتخذه الشيطان وطنه، وأعده مسكنه، إذا تصبح بطلعته حياه، وقال: فديت من قرين لا يفلح في دنياه ولا في أخراه) (1) .
(11) وقال ابن القيم رحمه اللَّه في موضع آخر: (والمقصود: أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم. ومنها: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر ... ثم ذكر رحمه اللَّه علامة الخسف به ...
__________
(1) انظر: الجواب الكافي ص148.(10/399)
وقال: ومنها مسخ القلب، فيمسخ كما تمسخ الصورة ... ثم ذكر أمثلة لذلك.. إلى أن قال رحمه اللَّه: فسبحان اللَّه كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر؟ وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به؟ وكم من مفتون بثناء الناس عليه؟ ومغرور بستر اللَّه عليه؟ ومستدرج بنعم اللَّه عليه؟ وكل هذه عقوبات وإهانات، ويظن الجاهل أنها كرامة. ومنها: نكس القلب حتى يرى الباطل حقاً، والحق باطلاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، ويصد عن سبيل اللَّه وهو يرى أنه يدعو إليها، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على كل الهدى، ويتبع هواه، وهو يزعم أنه مطيع لمولاه، وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلوب) (1)
__________
(1) انظر: الجواب الكافي ص178-180.
المصادر والمراجع
إحياء علوم الدين. للغزالي: صحح بإشراف عبد العزيز عز الدين السّيروان، ط. الثالثة، دار القلم - بيروت.
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. ترتيب علاء الدين الفارسي: ضبط: عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الأولى، 1390هـ، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
الأدب المفرد. للإمام محمد بن إسماعيل البخاري: ط. الأولى 1406هـ، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت.
الأعلام. للزركلي: ط. السادسة 1984م، دار العلم للملايين - بيروت.
الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية. للإمام عمر بن علي البزار: حققه الشيخ إسماعيل الأنصاري، طبع في مطابع القصيم، 1390هـ.
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. تأليف ابن قيم الجوزية: تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة حميدو – الإسكندرية.
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. لشيخ الإسلام ابن تيمية: تحقيق وتعليق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ط. السابعة 1419هـ، توزيع وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
إكمال المعلم بفوائد مسلم. للقاضي عياض: طبعة دار الوفاء، المنصورة بمصر، 1419هـ.
البداية والنهاية. لابن كثير: تحقيق د. أحمد أبو ملحم، والدكتور علي نجيب عطوي، والأستاذ فؤاد السيد، والأستاذ مهدي ناصر الدين، والأستاذ علي عبد الساتر، ط. 4 1408هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. للشوكاني: ط. الأولى 1348هـ، بمطبعة السعادة بمصر.
بيان فضل علم السلف على علم الخلف. للحافظ ابن رجب الحنبلي: حققه محمد بن ناصر العجمي، ط. الثالثة 1412هـ، دار الصميعي، الرياض.
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول. للعلامة صديق بن حسن القنوجي: ط. الأولى 1416هـ، مكتبة دار السلام للنشر والتوزيع - الرياض.
تذكرة الحفاظ. للذهبي: صحح عن النسخة المحفوظة في مكتبة الحرم المكي، مطبعة أم القرى للطباعة والنشر - مصر.
التعريفات. للجرجاني: دار الكتب العلمية - بيروت، 1416هـ.
تفسير القرآن العظيم. لابن كثير: قدم له د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي، ط. الأولى 1406هـ، دار المعرفة - بيروت.
تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل. للإمام الحسين بن مسعود البغوي: ط. الأولى 1406هـ، دار المعرفة - بيروت.
تقريب التهذيب. لابن حجر العسقلاني: قدم له محمد عوامة، ط. الأولى 1406هـ، دار البشائر الإسلامية - بيروت.
جامع بيان العلم وفضله. للحافظ ابن عبد البر: دار الكتب العلمية - بيروت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن. لمحمد بن جرير الطبري: ط. الثالثة 1388هـ، مكتبة مصطفى الحلبي - مصر.
جامع العلوم والحكم. للحافظ ابن رجب: تحقيق شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، ط.5، 1414هـ/1994م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد اللَّه محمد بن أحمد القرطبي: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي. لابن القيم: دار الكتاب العربي - بيروت، ط.2، 1414هـ/1994م.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. لأبي نعيم الأصفهاني: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لابن حجر العسقلاني: حققه وقدم له: محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة - مصر.
الذيل على طبقات الحنابلة. لابن رجب: وقف على طبعه وصححه محمد حامد الفقي، 1372هـ، مطبعة السنة المحمدية - القاهرة.
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه. لابن القيم: تحقيق عبد اللَّه بن محمد المديفر، ط. الأولى 1420هـ، مطابع الشرق الأوسط.
الروح. تأليف ابن القيم الجوزية: حقق نصوصه وخرجه يوسف علي بديوي، ط. الأولى 1414هـ، دار ابن كثير للطباعة والنشر - دمشق.
زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم: ط. الثانية 1392هـ، دار الفكر - بيروت.
سلسلة الأحاديث الصحيحة. للألباني: ط. الجزء الأول والثاني المكتب الإسلامي، والثالث الدار السلفية، الكويت، والرابع دار المعارف - الرياض.
سنن الترمذي: الجزء الأول والثاني بتحقيق أحمد محمد شاكر، والجزء الثالث تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، والجزء الرابع والخامس بتحقيق إبراهيم عطوة عوض، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
السنن الكبرى. للبيهقي: دار المعرفة، بيروت - لبنان.
سنن ابن ماجة: حققه ورقمه محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، الناشر: دار الحديث - القاهرة.
سنن النسائي: اعتنى به ورقمه وصنع فهارسه عبد الفتاح أبو غدة، ط. الثانية 1406هـ، دار البشائر الإسلامية - بيروت.
سير أعلام النبلاء. للذهبي: حققه عدد من الباحثين، خرج أحاديثه وأشرف عليه شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت.
شرح القصيدة النونية (المسماة الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) لابن القيم، شرحها وحققها: د. محمد خليل هراس، ط2، 1415هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
صحيح البخاري. طبع المكتبة الإسلامية باستانبول - تركيا، 1979م.
صحيح مسلم بشرح النووي: ط. الثانية 1392هـ/1972م، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
صحيح مسلم: تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. 1400هـ، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
طبقات الحفاظ. لجلال الدين السيوطي: دار الكتب العلمية - بيروت، ط الأولى، 1403هـ، راجع النسخة لجنة من العلماء، بإشراف الناشر.
الطبقات الكبرى. لابن سعد: دار صادر - بيروت، 1405هـ/1985م.
طبقات المفسرين. للداوودي: ط. الأولى سنة 1392هـ، بمطبعة الاستقلال بمصر.
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. تأليف الإمام محمد بن أحمد بن عبد الهادي: ت. محمد حامد الفقي، مكتبة المؤيد - الرياض.
فتح الباري شرح صحيح البخاري. للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: ط. الأولى 1410هـ، عن الطبعة التي حقق أصلها الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز، ورقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية - بيروت.
الفوائد. لابن القيم: ت. محمد عثمان الخشت، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت، 1413هـ.
القاموس المحيط. لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي: ط. 5، 1416هـ/ 1996م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
القلب ووظائفه في الكتاب والسنة. سلمان بن زيد اليماني: ط. الأولى 1414هـ، دار ابن القيم للنشر - الدمام.
كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة. لنور الدين الهيثمي: تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر مؤسسة الرسالة، ط. الثانية 1404هـ.
لسان العرب. لابن منظور: ط. الأولى 1416هـ/1995م، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للهيثمي: ط. الثالثة 1402هـ، منشورات دار الكتاب العربي - بيروت.
مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم ومساعدة ابنه محمد، تصوير الطبعة الأولى 1398هـ، مطابع الرياض، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
مختار الصحاح. لحمد بن أبي بكر الرازي: طبعة دار الجيل، بيروت - لبنان.
مدارج السالكين. لابن القيم الجوزية: ت. أحمد فخري الرفاعي، عصام فارس الحرستاني، ط. الأولى 1412هـ، دار الجيل - بيروت.
المستدرك على الصحيحين. للإمام أبي عبد اللَّه محمد بن الحاكم النيسابوري: ط. الأولى 1406هـ، دار المعرفة - بيروت.
مسند الإمام أحمد: مصورة الطبعة الأولى ومعها فهرس الألباني، المكتب الإسلامي، دار صادر - بيروت، طبعة أخرى، ت. أحمد شاكر، دار المعارف بمصر.
مسند أبي داود الطيالسي: ط. دار المعرفة، بيروت - لبنان.
مسند الإمام أحمد: المشرف على تحقيقه الشيخ شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1418هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
مشكاة المصابيح. لمحمد بن عبد اللَّه الخطيب التبريزي: تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ط. الثالثة 1405هـ، المكتب الإسلامي - بيروت.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي: تأليف أحمد بن محمد المقريء الفيومي: ط. الأولى 1414هـ/1994م، دار الكتب العلمية - بيروت.
المصنف. للإمام محمد بن عبد اللَّه بن أبي شيبة: اعتنى بتحقيقه ونشره مختار أحمد الندوي، الدار السلفية - الهند.
المعجم الكبير. للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني: حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي، ط. الأولى 1400هـ / 1980م، مطبعة الوطن العربي.
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان. للهيثمي: ت. محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية -بيروت.
النجوم الزاهرة في ملوك ومصر والقاهرة. لابن تغري بردي: نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية - القاهرة.
الوافي بالوفيات. لصلاح الدين خليل الصفدي: اعتناء: س. ديدرينغ، يطلب من دار النشر فرانز شتايز بفيسبادن 1389هـ.
النهاية في غريب الحديث والأثر. لابن الأثير: تحقيق محمود محمد الطناحي، الناشر: المكتبة الإسلامية.(10/400)
الخاتمة
نسأل اللَّه حسنها، وهي تشتمل على خلاصة البحث ونتائجه وهي ما يلي:
أن القلب مَلِك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهي المنفذة لما يأمرها به، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها.
بينت أهمية القلب، وأنه إذا صلح صلح الجسد كله.. وأن صلاح هذا القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين الكتاب والسنة.
أن القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، وقد يعبر عنه بالعقل.
ذكرت أقسام القلوب الثلاثة وهي: القلب الصحيح، والقلب المريض، والقلب القاسي.
أن القلب الصحيح هو القلب السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس.
أن القلب المريض هو القلب الذي له حياة وبه علة، فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، فإن ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه..
أن القلب القاسي هو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم، لأن ذلك يستدعي محلاً ليناً قابلاً.
أن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب، وأن القلب الصحيح الحيّ إذا عُرِضَت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها، ولم يَلْتفِتْ إليها.
أن من أسباب حياة القلب وصحته قراءة القرآن وتدبره، والأعمال الصالحة، وأن يستقر فيه معرفة اللَّه وعظمته ومحبته وخشيته والإنابة إليه، والابتعاد عن الفواحش والمعاصي.
أن مرض القلب هو نوع فسادٍ يحصل له، يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته: بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار..(10/401)
ذكرت أنواع مرض القلوب وعلامة ذلك وتناولت بشيء من التفصيل بعضاً من هذه الأمراض كمرض الحسد، والشحّ والبخل، ومرض الشهوة والعشق.
أن من أهم أدوية القلوب القرآن الكريم فهو متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه.
أن للذنوب والمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة للقلب في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلاَّ اللَّه، ومن هذه الآثار: حرمان العلم، والوحشة التي يجدها العاصي في قلبه بينه وبين اللَّه، وأن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين، نسأل اللَّه بكرمه ومنه ألا يجعلني ووالدي وإخواني المسلمين من الغافلين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحواشي والتعليقات(10/402)
دعاوى النصارى في مجيء المسيح
د. سعود بن عبد العزيز الخلف.
أستاذ مشارك - قسم العقيدة - كلية الدعوة وأصول الدين- الجامعة الإسلامية
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن بحث " دعاوى النصارى في مجيء المسيح (يكشف عن اضطراب النصارى في هذه الدعوى، كسائر تقريراتهم الدينية، فقد كانوا بعد رفع المسيح (على أمل في مجيئه وعودته قريباً.
وكثر كلامهم في هذا الموضوع، حتى ظن بولس أن المسيح سيعود وهو حي، وأنه سيرتفع معه إلى السماء، ولا زال هذا هاجساً لهم، إلى أن ارتفع الاضطهاد عنهم، فزالت عنهم حالة الترقب، التي يقويها في الغالب الخوف والضعف، فأعرض الجمهور الأعظم منهم عن هذه الدعوى، وزعموا أن مجيئه إنما يكون للقيامة، وخالفهم في ذلك طوائف أخرى، جعلوا جل نشاطهم في إظهار ذلك الأمر، وادعوا أن المسيح سيعود قريباً، ويقيم حكماً لمدة ألف سنة على الأرض، بعدها تكون القيامة بعد أن يقضى على الدجال ويأجوج ومأجوج والشيطان.
وبدراسة اقوالهم يتبين أن النصارى ينطلقون في دعاويهم من أمرين:
أولاً: نصوص ليست ثابتة في أصلها، وليست واضحة في مدلولها، بل ربما تكون ألغازاً مستغلقة، لا يمكن فك رموزها إلا بضرب من التخمين.
ثانياً: فهوم خاصة تنبع من الأهواء المستحكمة.
وقد قمت في هذه الدراسة بتفصيل هذا كله، ليكون المسلم أكثر حمداً وشكراً لله تعالى، بما أنعم على المسلمين من الهداية إلى دينه القويم،وصراطه المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.(10/403)
فإن نزول المسيح (في آخر الزمان كما هو الاعتقاد الحق لدينا نحن المسلمين، من العقائد التي يشاركنا فيها من وجه كلٌ من النصارى واليهود، وهو من الموضوعات - بالنسبة للنصارى واليهود - القديمة المعاصرة، بمعنى أن الاعتقاد بنزوله (لمَّا صار مستقراً في أذهانهم ولم يتحدد له وقت معين بصورةٍ مؤكدة، صار أصحاب كل من الديانتين في ترقبٍ شبه دائم، مع بروز الدعوات عن قرب مجيئه وأنه وشيك، حيث تسمع المناداة بقرب مجيئه في كثيرٍ من شوارع الغرب التي يجوبها بعض متحمسيهم، بل إنني أذكر أن أحد الإخوة في فرنسا كان يسكن في بيت عجوزٍ فرنسية، فسألته مرةً عن حالها، فأخبرني أنها امرأة متمسكة بدينها وأنها لم تتزوج قط، وأخبرني أنه من الغريب في شأن هذه المرأة أنها تعتقد أنها لن تموت؟! وإنما سيأتي المسيح قريباً فيأخذها إليه، وهي في انتظارٍ دائمٍ لهذا الحدث السعيد. فقلت: سبحان الله كيف تَزيَّن الباطل لأهله فصاروا يرونه حسناً وصدق الله القائل: (كذلك زينا لكل أمةٍ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( [الأنعام108] .
وقوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( [فاطر 8] .
واليهود كذلك ينتظرون المسيح بلهفٍ شديدٍ وترقبٍ دائم، حتى إن من حاخاماتهم من كان يقول لأهله إذا أراد النوم: إذا جاء المسيح المخلص وأنا نائمٌ فأيقظوني دون تردد، ومنهم من جعل غرفةً خاصةً في بيته ووضع فيها كل غالٍ وثمين، ولا يسمح لأحدٍ بدخولها يسميها ((غرفة المسيح)) (1) ، بل إن بعض الكَّتاب يرى أن من أكبر دوافع الغرب وخاصةً أمريكا في دعم اليهود للتجمع في فلسطين وحماسهم للدفاع عنهم، هو اعتقادهم أنهم بهذا يمهدون الطريق لسرعة مجيء المسيح. (2)(10/404)
هذه التصورات والأعمال مبنية على اعتقاداتٍ لدى القوم، فأحببت أن أكتب في هذا الموضوع بالنسبة للنصارى أولاً، فأجلّيَ موقفهم الديني من مجيء المسيح (وأبين بالتالي أن كثيراً مما ادعوه باطلٌ بناءً على بطلان مصادرهم وبطلان مفهومهم لها.
وقد قسمت هذا البحث إلى فصلين وخاتمة:
الفصل الأول: في دعاوى النصارى في مجيء المسيح (.
وفيه مقدمة وثلاثة مباحث:
المقدمة وفيها: أدلة النصارى على المجيىء.
المبحث الأول: الذين قالوا بمجيئه بعد وقت قصير من ارتفاعه.
المبحث الثاني: الذين قالوا بمجيئه قبل القيامة، وأنه يؤسس ملكاً على الأرض مدته ألف سنة. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: كيفية مجيئه.
المطلب الثاني: علامات مجيئه.
المطلب الثالث: الحوادث التي تقع بعد الألف سنة.
المبحث الثالث: من يرى أن مجيء المسيح إنما هو للقيامة والحساب وأنه لايؤسس ملكاً على الأرض.وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العلامات التي يتفقون عليها.
المطلب الثاني: العلامات التي يختلفون فيها.
الفصل الثاني: الرد على النصارى في دعاوى المجيء. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بطلان المصادر المعتمدة إجمالاً. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العهد القديم، وإنكار طائفة من اليهود والنصارى لقدسيته.
المطلب الثاني: العهد الجديد، وإقرار كثير من النصارى بجهالة كتاب تلك الكتب.
المبحث الثاني: في بطلان مااستدلوا به على دعاويهم في المجيء سنداً ومتناً. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول:سفر دانيال.
المطلب الثاني: رسائل بولس.
المطلب الثالث: سفر رؤيا يوحنا.
ثم الخاتمة: وفيها أهم نتائج البحث.
هذا وأسأل الله (أن يهدينا سواء السبيل، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، إنه جوادٌ كريم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفصل الأول: دعاوى النصارى في مجيء المسيح (
مقدمة:(10/405)
يعتقد النصارى أن المسيح (قد صلبه اليهود، ومات على الصليب، ثم أُنزل من الصليب، وبعد دفنه فيما يقولون بثلاثة أيام (3) قام من قبره، ثم ظهر للتلاميذ، وزعموا أنه بقي معهم أربعين يوماً، ثم ارتفع إلى السماء، وهم ينظرون، وهم يستندون في ذلك على نصوص تدل على عودته ونزوله مرة أخرى. من هذه النصوص:
ما ورد في ((إنجيل يوحنا)) (14/2-3) أن المسيح قال لهم: ((في بيت أبي منازل كثيرة وإلا فإني كنت قد قلت لكم أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً)) .
وفي ((سفرأعمال الرسل)) (1/11) بعد ارتفاع المسيح (ذكروا أن ملكين قالا لتلاميذه: ((أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء)) .
وفي ((إنجيل متى)) (16/28) ذكروا عن المسيح أنه قال لهم: ((الحق أقول لكم إن من القيام هاهنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته)) .
وقد ركز ((بولس)) كثيراً على دعوى مجيء المسيح وقربها جداً، حتى زعم أن المسيح سيأتي وهو حي فقال في رسالته إلى ((كورنثوس الأولى)) (15/51-52) ((هو ذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا نتغير في لحظة في طرفة عينٍ عند البوق الأخير، فإنه سيبوق فيُقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير)) .
وهكذا زعم أيضاً في رسالته إلى ((تسالونيكى)) (4/15-17) حيث قال: ((فإننا نقول لكم بكلمة الرب إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين، لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة، وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب)) .(10/406)
كما تكرر في ((سفر الرؤيا)) تأكيد المجيء الثاني وأنه مجيءٌ سريع حيث يقول: ((ها أنا آتي سريعاً)) (3/11، 12) (7/12،20) .
فهذه النصوص يقرر من خلالها النصارى أن المسيح (سيأتي مرةً ثانية، إلا أنهم اختلفوا في وقت مجيئه إلى أقوالٍ عديدةٍ نذكرها في المباحث التالية ونبين ما في تلك الأقوال من الأخطاء والانحرافات: -
المبحث الأول: الذين قالوا بمجيئه بعد ارتفاعه بوقتٍ قصير
بعض النصوص السابقة فيها الإيحاء بأن المسيح (سيعود بعد وقت قصير من وقت ارتفاعه، لهذا برز عند النصارى في وقتٍ مبكرٍ من تاريخهم دعوى عودته ومجيئه مرة أخرى.
وممن كان على هذا الاعتقاد ((بولس)) فقد صرح بأن مجيء المسيح مرةً أخرى سيكون في الفترة الزمنية التي هو يعيش فيها، كما في قوله السابق لأهل ((تسالونيكى)) ((إنَّا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين.. والأموات في المسيح سيقومون أولاً ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء وهكذا نكون كل حين مع الرب)) .
وقوله في ((كورنثوس الأولى)) (15/51-53) ((لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عينٍ عند البوق الأخير فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير)) . هكذا زعم. ولا شك أن هذا لم يتحقق فلم يأت المسيح - عليه السلام -، ولم يخطف ((بولس)) ، وبان بهذا أن قوله السابق غير صحيح وهو كاذب فيه، ولعله بسبب هذا القول لم يحرر تاريخ مؤكد لوفاته، فإن النصارى لا يعلمون على اليقين أين تُوفي، ومتى كان ذلك، وإنما يعلمون أنه وصل حسب المعلومات المتوفرة إلى روما، ثم منهم من يقول إنه قُتل في اضطهادات ((نيرون)) (4) عام 64م، ومنهم من يقول إنه لم يُقتل وإنما أطلق سراحه، وسافر إلى المشرق، وربما إلى إسبانيا ويقال أنه قتل سنة 67م (5) .(10/407)
المهم هنا أن هذا القول منه خطأ بيِّن، فيكون كلامه كله مطعوناً فيه، خاصةً وأنه نسب الكلام السابق إلى الله (حيث قال قبله: ((فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب)) .كما أن اعتقاد المجيء السريع للمسيح كان منتشراً بين أناسٍ كثيرين من النصارى في تاريخهم المبكر بعد رفع المسيح (. (1) وفي نهاية القرن الثاني الميلادي ادعت امرأتان اسم احداهما ((بريسكلا)) والأخرى ((ماكسيميلا)) النبوة، وأعلنتا عن قرب نهاية العالم، ورجوع المسيح (وأن بيت المقدس الجديد سوف ينزل على القرية الصغيرة ((بيبوزا)) وأمرتا أتباعهما بالاستعداد لهذا المجيء بالكف عن الزواج، وزيادة أوقات الصيام، والامتناع عن شرب الخمر والأطعمة الشهية، واجتمع جمعٌ غفيرٌ منهم في ((فريجيا)) انتظاراً لرجوع المسيح، حتى إن أسقفاً من سوريا قاد كل أعضاء كنيسته ليقابلوا المسيح في الصحراء، ولكنهم ضلوا الطريق، وكانوا على شفا الموت جوعاً لولا أن أنقذتهم السلطات. (7)
المبحث الثاني: الذين قالوا بمجيئه قبل القيامة وأنه يؤسس مُلكاً على
الأرض مدته ألف سنة
طائفةٌ من النصارى يرون أن المسيح - عليه السلام - سيأتي إلى الأرض، ويؤسس بذلك مُلكاً مدته ألف سنة، يسمون " الألفيين "، وعلى هذا الرأي من المتقدمين: ((جاستن مارتر)) (8) و ((إيريانوس)) ، (9) و ((ترتليان)) (10) .
يقول ((دين الفورد)) : ((إن الكنيسة كلها في الثلاثمائة سنة الأولى من العصر المسيحي تفهم ملك الألف سنة في معناه الواضح، بأنه ملك حرفي على الأرض)) (11) ، وعليه أيضاً ((ناشد حنا)) ، صاحب كتاب ((شرح سفر الرؤيا)) ، وكذلك أخذ به من النصارى من يُسمّون ب ((لأصوليين)) (12) ، وهي فرق انبثقت من "البروتستانت" (13) ،مثل: ((السبتيين)) (14) ، و ((شهود يهوه)) (15) ، و ((المورمون)) (16) .(10/408)
ومن أقوالهم في هذا: قول صاحب كتاب ((يسوع على الأبواب)) : ((سيأتي المسيح ثانيةً، ويقيد الشيطان ألف سنة، ويؤسس مملكته على الأرض، وسيملك معه القديسون)) (17) .
ويقول ((إبراهيم صبري)) صاحب كتاب ((خطوة خطوة نحو نهاية العالم)) : ((لابد للمسيح أن يعود مرةً ثانيةً ليسترد كرامته التي أُهينت في نفس المكان الذي أهين فيه، فإذا كان قد جاء في المرة الأولى إلى الأرض في صورة الضعف والاتضاع كالحمل الوديع من أجل تحقيق هدفٍ سامٍ هو رفع خطيئة العالم ... فلابد أن يأتي مرةً أخرى إلى الأرض نفسها ... كالأسد لكي يسود ويملك وتوضع أعداؤه موطئاً لقدميه)) (18) .
ويستدلون لهذا المجيء بنصوصٍ وردت في ((العهد القديم)) و ((الجديد)) فمما ورد في ((سفر دانيال)) (7/13-14) ((كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه، فأُعطي سلطاناً، ومجداً، وملكوتاً، لتتعبد له كل الشعوب، والأمم، والألسنة، سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته مالا ينقرض)) .
ومما جاء في ((العهد الجديد)) ما ورد في ((إنجيل متى)) (24/30) ((قال الرب: وحينئذٍ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحابٍ السماء بقوةٍ ومجدٍ كثير)) .
وفي ((سفرالأعمال)) (1/11) ((إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء)) .
المطلب الأول: وقت وكيفية مجيئه:
اهتم النصارى فيما قبل بتحديد وقت مجيء المسيح بزمنٍ معين، فالأمريكي ((وليام ميلر)) ، مؤسس فرقة السبتيين، أوصلته دراسته للنصوص الواردة في المجيء أن المسيح سيأتي عام 1843م، فأعلن عن ذلك، إلا أن نظره خاب لعدم مجيء المسيح (، ثم أعلن أتباعه من بعده أن مجيئه سيكون عام 1890م، إلا أنهم خاب رجاؤهم أيضاً.(10/409)
ثم أعلن من بعده التاجر الأمريكي الراهب ((شارل رسل)) المتوفى سنة 1916م، مؤسس مذهب شهود يهوه: أن المسيح سيأتي عام 1874م، وذلك بعد دراسةٍ شاملةٍ للنصوص المتعلقة بالمجيء مع مجموعةٍ من أصدقائه، إلا أنه مني بخيبة أملٍ لعدم مجيء المسيح في تلك السنة.
ولإخفاء فشله أعلن سنة 1876م أن المسيح جاء فعلاً إلا أنه أخفى نفسه. ثم ادعى أن نهاية العالم ستكون 1914م، وبعدها سيكون الحكم الألفي السعيد، إلا أن ذلك لم يتحقق، بل وقعت الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها الحرب العالمية الثانية (19) .
إلا أن الأكثر منهم لم يحددوا لمجيئه وقتاً معيناً.
وجميع "الألفيين" يصرحون بأن للمسيح (مجيئين:-
المجيء الأول: ويسمى ((الاختطاف)) .
وذلك أن المسيح فيما يزعمون يأتي فيختطف صنفين من الناس:
الصنف الأول: الصالحون من الأموات من اليهود السابقين لمجيء المسيح، وكذلك الصالحون من أموات النصارى.
أما الصنف الثاني فهم: الصالحون من النصارى الأحياء، فيلاقيه الجميع في الهواء، وتتغير أجساد الأحياء إلى أجساد قابلة للبقاء، ومستندهم في ذلك قول ((بولس)) في رسالته لأهل ((تسالونيكى الأولى)) (4/15- 17) ((فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين.....)) . (20)
وهذا المجيء عندهم سرى، وليس له أية علامات تسبقه، ولا يُعرف من ناحيةٍ تاريخيةٍ متى وقوعه، وإنما يأتي فجأةً بدون مقدمات، حتى يكون ذلك أدعى للاستعداد الدائم من الراغبين في الاشتراك مع المسيح (21) فيما يدعون.
وهنا ملاحظة، وهي أن للنصارى تعبيرات غير لائقة في لقاء المسيح المزعوم، فيصفون المسيح ب ((الخروف)) والكنيسة بأنها ((عروسه)) والالتقاء ((حفل عرس الخروف)) (22) .(10/410)
ومن عباراتهم في ذلك ((العريس آت)) ((العريس والعروس معاً)) وقالوا: ((إن الرب - العريس - سوف ينزل بنفسه من السماء يخطف عروسه)) ((أما عن المجيء فسوف ينزل الرب بنفسه من السماء لاختطاف واستقبال عروسه في السحب في الهواء)) ((إن المؤمنين هم عروس المسيح، ولا شيء يعزيهم في هذا العالم الشرير مثل الوعد بمجيئه الثاني)) ((إن الكنيسة هي عروس المسيح ويشبهها بولس بعذراء عفيفة مخطوبة للمسيح)) (23) .
ولاشك أن هذا التعبير مما لا يليق استخدامه بالنسبة للمسيح (، فتسميته خروفاً حطٌ من قدره، وداعٍ للاستهزاء به (، ومع اعتقادهم أن المسيح هو الإله، وابن إله، فيكون التعبير السابق أدهى وأشنع، فكيف يصفون إلههم بصفة حيوانٍ بهيم؟!
كما أن وصفهم له بالعريس، ووصفهم لأنفسهم بالعروس يتنافى مع ذوق الرجال، ويشعر الرجل بالدونية وإن كانوا ليسوا حقيقة عرائس، ولا هو حقيقة عريساً لهم - وحاشاه - (.
المجيء الثاني: ويسمى الظهور.
ويقصدون به أن المسيح سيعود مرةً أخرى فيظهر للناس، ويرونه بأمِّ أعينهم.
يقول ((إبراهيم صبري)) : ((يقصد بالظهور هنا مجيء المسيح مرةً ثانيةً إلى أرضنا، ليس بصورةٍ سريةٍ هذه المرة، كما سيجيء لاختطاف الكنيسة، ولكن بصورةٍ علنيةٍ ظاهرةٍ للعالم أجمع، وليس مع جندٍ سماوي فقط ولكن بصحبة كنيسته - عروسه - التي ستكون قد زُفت إليه من فترةٍ وجيزة)) (24)
المطلب الثاني:علامات المجيئ:
هذا المجيء المسمى ((الظهور)) له عند النصارى علامات عديدة تكون بين ما يسمونه ((الاختطاف)) و ((الظهور)) وتكون المدة بين الاختطاف والظهور سبع سنين، ويعتبرونه الأسبوع الأخير من الأسابيع الواردة في ((رؤيا دانيال)) (1) ومدته سبع سنوات، وتحدث فيه أمورٌ عظيمة يقولون إنها من أشد ما ابتلى به الناس من الضيق والتعب منها:-
ظهور مسحاء كَذَبَة، وأدعياء للنبوة كاذبين.
حروب كثيرة تنتشر هنا وهناك ومجاعات وزلازل.(10/411)
تقييد الشيطان وطرحه إلى الأرض.
وذلك أن النصارى، أصحاب هذا القول يزعمون أن الشيطان له سلطانٌ على الهواء، وفي منتصف هذا الأسبوع الأخير ستقوم حربٌ بين ((ميخائيل)) وملائكته، والشيطان وأتباعه من الجن - ويسمون الشيطان هنا بالتنين - وأتباعه بملائكته، ويُهزم في تلك الحرب الشيطان، ويُطرح إلى الأرض، وتتخلص السماء من شره، ويستدلون لهذا بما ورد في ((رؤيا يوحنا)) (12/7-17) ((وحدثت حرب في السماء، ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته، ولم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء، فطرح التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته..من أجل هذا افرحي أيتها السموات والساكنون فيها، ويل لساكن الأرض والبحر، لأن إبليس نزل إليكم، وبه غضبٌ عظيمٌ عالماً أن له زماناً قليلاً)) .
وبعد تلك الحرب وذلك الطرح، يكشِّر الشيطان عن أنيابه، ويكثر شره، ويتسلط على الناس، ويثير شراً عظيماً من أهم صوره:
المسيح الكذاب، أوالمتنبيء الكذاب، أو المسيح الدجال، أو ضد المسيح.
هذه مسمياتٌ كلها لرجلٍ واحدٍ من اليهود، يخرج في الثلاث سنوات والنصف الأخيرة قبل ظهور المسيح (فيما يزعمون، ويأتي معه آيات وعجائب ليضل الناس، ويسكن في بيت المقدس، ويدَّعي لنفسه الألوهية، ويأمر الناس أن يسجدوا للشيطان (26) ، ويصنع صورة ((للوحش)) وهو أحد الملوك الجبابرة، ويأمر بالسجود لها، كما يضع علامةً على اليد اليمنى لاتباعه على صورة الوحش، ويكثُر أتباعه، ويسلطهم على من عداهم من الناس ممن لم يقبل دعوته، فيأخذون أملاكهم، ويضيقون عليهم في معيشتهم (27) .
ويستدلون لذلك بنصين، أحدهما: في ((سفر دانيال)) (11/36-39) ، وفيه:(10/412)
((ويفعل الملك كإرادته، ويرتفع ويتعظَّم على كل إله، ويتكلم بأمورٍ عجيبةٍ على إله الآلهة، ويتبجح إلى إتمام الغضب، لأن المقضي به يجري ولا يبالي بآلهة آبائه، ولا بشهوة النساء، وبكل إله لا يبالي لأنه يتعظَّم على الكل، ويكرّم إله الحصون في مكانه، وإلهاًلم تعرفه اّباؤه، يكرمه بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس ويفعل في الحصون الحصينة بإلهٍ غريبٍ منْ يعرفه يزيده مجدا، ً ويسلطهم على كثيرين، ويقسِّم الأرض أجرة" (28) .
والنص الآخر في ((رؤيا يوحنا)) (13/11-18) وفيه:
((ثم رأيت وحشاً آخر طالعاً من الأرض، وكان له قرنان شبه خروف، وكان يتكلم كتِنِّين، ويعمل بكل سلطان الوحش الأول أمامه، ويجعل الأرض والساكنين فيها يسجدون للوحش الأول الذي شُفي من جرحه المميت، ويصنع آياتٍ عظيمة، حتى أنه يجعل ناراً تنزل من السماء على الأرض قدام الناس، ويضل الساكنين على الأرض بالآيات التي أعطى أن يصنعها أمام الوحش، قائلاً للساكنين على الأرض أن يصنعوا صورةً للوحش الذي كان به جرح السيف، وعاش وأعطى أن يعطي روحاً لصورة الوحش حتى تتكلم صورة الوحش، ويجعل الذين لا يسجدون لصورة الوحش يُقتلون، ويجعل الجميع الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد، تصنع لهم سمة على يدهم اليمنى أو على جبهتهم، وأن لا يقدر أحد أن يشتري، أو يبيع إلا من له السمة، أو اسم الوحش، أو عدد اسمه)) .
مجيء ملك الشمال مع ((يأجوج ومأجوج)) .
هكذا يصف بعض النصارى أحد الملوك ممن سيغزوا فلسطين، وزعموا أنه سيأتي بجنود لا عدد لها كثرة، وبعضهم يصفه ب ((الوحش)) ، ويُخضِع مع المسيح الدجال الناسَ، ويقتل أناساً كثيرين ممن لا يخضعون له، وسيحتفي به اليهود ويفرحون به، باعتبار أنه حاميهم ويقبلونه بفرحٍ عظيم (29) ، ويستدلون لذلك بما ورد في ((رؤيا يوحنا)) (13/1-8)(10/413)
"ثم وقفت على رمل البحر، فرأيت وحشاً طالعاً من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون.. وأُعطي سلطاناً أن يفعل اثنين وأربعين شهراً. ففتح فمه بالتجديف على الله ليجدف على اسمه وعلى مسكنه وعلى الساكنين في السماء، وأُعطي سلطاناً على كل قبيلة ولسان أمة فيسجد له جميع الساكنين على الأرض)) .
مجيء المسيح علناً وإقامة الملك الألفي.
بعد اكتمال ثلاث سنوات ونصف من ظهور المسيح الدجال والوحش ينزل المسيح عيسى (ويتوافق مع مجيئه علامتان:
إحداهما: سقوط بعض النجوم، وإظلام الشمس والقمر فلا ينبعث منهما نور.
ثانيهما: ظهور علامة الصليب في السماء بحيث يراها الناس.
ويستدل النصارى لهاتين العلامتين بما ورد في ((إنجيل متى)) (24/29) :
((وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لايعطي ضوءاً، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السموات تتزعزع، وحينئذٍ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء)) .
وينزل المسيح (، ويرافقه في نزوله الملائكة، ويكون نزوله على جبل الزيتون الذي قبالة بيت المقدس من الشرق، وحسب ادعائهم أن أول ما يقوم به هو القبض على مدعي النبوة، أو المسيح الدجال، وكذلك الملك الأممي أو الوحش، فيقضي عليهما بنفخةٍ من فمه، ثم يلقيهما في النار، ليكونا بذلك أول الداخلين إليها، ويُعذبان فيها عذاباً أبدياً، ثم يقتل أتباعهما بالسيف، ويقبض على الشيطان ويطرحه في الهاوية، التي هي مقر الأرواح، ويقيد فيها مدة ألف سنة.
ثم يبدأ حكم المسيح للأرض، والذي يمتد ألف سنة، ويكون حُكماً سعيداً ترتفع فيه اللعنة من الأرض (30) ، ويبني الهيكل في بيت المقدس (31) ، ويُعيد بني إسرائيل من تشردهم، وتُكتب الشريعة على قلوب الناس فلا يحتاجون لمعلِّم (32) ، وترتفع الوحشية من الحيوانات فلا يعتدي بعضها على بعض (33) ، ويطول عمر الناس (34) ، وتختفي الحروب (1) ، ويؤخذ الحق من الأشرار فيبادون في كل صباح (2) .
المطلب الثالث: الحوادث التي تقع بعد الألف سنة(10/414)
بعد انتهاء الألف سنة يكون هناك حادثتان:
الأولى: حرب هَرمجدون
"هرمجدون" اسم عبري معناه ((جبل مجدو)) ويقع في ((مرج بن عامر)) على خط المواصلات بين القسمين الشمالي والجنوبي من فلسطين، وفيه تقع في زعم هذه الطائفة من النصارى (37) الحرب الأخيرة بين المسيح وأعدائه من ((يأجوج)) و ((مأجوج)) ، فإنهم يقولون:بعد انتهاء الألف سنة يُحل الشيطان من قيوده ويبدأ بإضلال الناس وإغوائهم، ويجمع يأجوج ومأجوج وعددهم مثل رمل البحر، فيأتون فيحيطون ببيت المقدس، وفيه المسيح (وأتباعه فيحاصرونهم، فينزل الله (ناراً من السماء فتحرقهم، ثم يقبض على إبليس ويطرح في النار حيث يعذب العذاب الأبدي، وبذلك يتم القضاء على الشر نهائياً (38) .
ويستدلون لذلك بما جاء في ((رؤيا يوحنا)) (16/16) ((مجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون)) ، ثم ذكرتفصيل تلك الحرب في السفر نفسه (20/7) : ((ثم متى تمت الألف سنة يُحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليُضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض يأجوج ومأجوج ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر، فصعدوا على عرض الأرض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة، فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين)) .
ثانياً: القيامة
بعد هذه المعركة تبدأ القيامة ومحاسبة الناس، وفي زعمهم أن المتولي لذلك هو المسيح (. هذا هو قول هذه الطائفة من النصارى، والذين يسمون "الألفيين".
المبحث الثالث: من يرى أن مجيء المسيح (إنما هو للقيامة
والحساب وأنه لا يؤسس ملكاً على الأرض.
الطائفة الأخرى من النصارى وهم الذين يشكلون غالبية النصارى حيث هو قول الأرثوذكس الأقباط (39) والأرثوذكس اليونان (40) والكاثوليك (41) وطائفة من البروتستانت:-(10/415)
يرون أن المسيح (إنما يكون مجيئه ليوم القيامة والحساب، وأنه لا يؤسس مُلكاً على الأرض، وإن ملكه كان قد ابتدأ من يوم صلبه وقيامته من قبره في زعمهم، وهو ملك روحي، وأن الألف سنة المذكورة في ((رؤيا يوحنا)) (20/7) المقصود بها المدة التي تكون من مجيئه الأول إلى مجيئه الثاني، وأن الشيطان قُيِّد جزئياً منذ صلب المسيح، وقام من قبره وارتفع إلى السماء، ويرون أن المسيح (إذا جاء فإنه يرتفع إليه الأبرار الأحياء، ويقوم الأموات من قبورهم للكرامة، ثم تتغير الأرض والسماء،ويقف الناس أمام عرش المسيح، الذي سيحاسب الناس على أعمالهم (42) .هكذا زعموا.
ويعتبر أصحاب هذا القول أن دعوى الملك الألفي خرافة وفكر يهودي دخل على النصارى في القرون الثلاثة الأولى، ثم تجدد في العصور المتأخرة (43) .
ويتفق أصحاب هذا القول في أشياء، ويختلفون في أشياء متعلقة بمجيء المسيح (، نجملها في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: العلامات التي يتفقون عليها:
يتفق أصحاب هذا القول على بعض العلامات التي تسبق مجيء المسيح وهي:-
1) انتشار الإنجيل
يزعم أصحاب هذا القول أنه لابد أن ينتشر الإنجيل في كل مكان قبل أن يأتي المسيح ((44) ويعتمدون في ذلك على نص ((إنجيل متى)) (24/14) وفيه ((ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنُتهى)) .
أن الشمس والقمر يظلمان وتسقط النجوم وتتزعزع السماوات (45)
ظهور علامة ابن الإنسان في السماء وهي الصليب في زعمهم والتي يعقبها نزول المسيح والقيامة.
المطلب الثاني: الأشياء التي يختلفون فيها:
يختلف أصحاب هذا القول في أمرين:
أحدهما- العلامات الأخرى التي تسبق مجيء المسيح:-
مثل: المسيح الدجال، والوحش أو ملك الشمال، ويأجوج ومأجوج، وهرمجدون، ونحوها، فهم يختلفون فيها إلى قولين:(10/416)
القول الأول: من يرى أن هؤلاء ليسوا أشخاصاً حقيقيين ولا أحداثاً تاريخية ستقع بالصورة التي وردت في النصوص، وإنما هي صور مجازية، تعني انتشار أفكار فاسدة، وكذلك كثرة الشرور الموجهة للكنيسة، وأنه سيتساعد كل من السلطة المدنية والعسكرية للدولة التي تكون فيها الكنيسة مع إبليس، ويتعاونون ضد الكنيسة قبل مجيء المسيح، وهذا هو الذي يرمز إليه ب ((الوحش)) و ((يأجوج ومأجوج)) و ((هرمجدون)) .
كما ستساعدهم السلطة الدينية التي يرمز إليها ب"النبي الكذاب"أو"المسيح الدجال"، ويشددون جميعاً وطأتهم على الكنيسة بالترغيب والترهيب حتى يأتي المسيح وتقوم القيامة (1) .
القول الثاني: من يرى أن تلك العلامات هي لأشخاصٍ حقيقيين ولأحداثٍ تاريخية ستقع قبيل مجيء المسيح (على الكيفيات التي ذُكرت بالنصوص، ويتفقون في هذا مع الألفيين من النصارى، إلا أن الألفيين يرون أن هذه العلامات تكون في الفترة الواقعة بين ما يسمى بالاختطاف والظهور.
أما هؤلاء فيرون أن ذلك قبيل مجيء المسيح (للقيامة (2)
ثانيهما- تحديد وقت المجىء والقيامة:-
يختلف المنكرون للملك الألفي في تحديد وقت لمجيء المسيح (وبالتالي القيامة إلى قولين أيضاً:
القول الأول: إنكار تحديد وقتٍ أو تاريخ معين لمجيء المسيح أو القيامة، بل يعتبرون ذلك خطأ (48) مخالفاً لما ورد في ((إنجيل متى)) (24/36) ((وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السموات إلا أبي وحده)) .
القول الثاني: وهم من يحددون تاريخاً معيناً لمجيء المسيح والقيامة:-
أصحاب هذا القول وإن كانوا لا يرون أن المسيح سيملك دنيوياً على الأرض قبل القيامة، إلا أنهم يحددون تاريخ مجيئه والقيامة بستة آلاف سنة منذ خلق أدم (.
__________
(1)(10/417)
ويستدلون لذلك بنصٍ في ((رسالة برنابا)) (49) يقول فيها: ((إن الله أتم عمل يديه في ستة أيام، هذا يعني أن الله سيقود خلال ستة آلاف سنة كل شيء إلى تمامه كل يوم عنده ألف سنة (50) ، ثم يزعمون أنه مضى من خلق آدم إلى ولادة المسيح أربعة آلاف سنة فيبقى ألفا سنة، هي المدة الباقية حتى يجيء مرةً أخرى، ويكون مجيئه في نفس الليلة التي ولد فيها، وهي على حسابهم ليلة 24/25 ديسمبر سنة 4000 من خلق آدم (.
وحسب حساب الأقباط: فإن تاريخ ولادة المسيح يتأخر عن التاريخ المعمول به حالياً وهو التاريخ الغربي ثمان سنوات، حيث الميلاد عند الغرب في سنة 754 لتأسيس مدينة ((رومية)) ، أما حسب التقويم القبطي فهو سنة 746 لتأسيس مدينة رومية، أما الميلاد الفعلي فيقولون:إنه وقع متقدماً على ذلك بخمس سنوات، حيث هو في 741 لتأسيس مدينة ((رومية)) ، فيكون الفارق بين التاريخ الفعلي والتاريخ الحالي المعمول به ثلاثة عشر عاماً، فعليه يكون مجيء المسيح (في حدود منتصف ليلة 24/25 ديسمبر سنة 2013 أو 2014م.
وأصحاب هذا القول هم ممن يقول بخروج المسيح الدجال والوحش ونحو ذلك من العلامات، وأنهم أشخاص حقيقيون سيخرجون قبيل مجيء المسيح (1) .
الفصل الثاني: الرد على النصارى في دعاوى المجيء
مما لاشك فيه أن المسيح عيسى (سينزل قبل يوم القيامة، وهو من علامات الساعة الكبرى (2) ، إلا أن الفرق واسعٌ، والبون شاسعٌ بين عقيدتنا في المسيح (وكذلك مصادرنا، وبين عقيدة النصارى فيه ومصادرهم.
فمن هنا نرد في هذا المبحث على الانحرافات في دعاوى المجيء، والمبنية إما على نصوصٍ خاطئةٍ، أو غير صحيحةٍ، أو فهومٍ باطلة فاسدة.
المبحث الأول: بطلان المصادر المعتمدة إجمالاً(10/418)
المصادر التي اعتمد عليها النصارى في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل لايصح اعتمادها مصادر، لعدم ثبوتها من ناحية تاريخية، وإقرار كثيرٍ من النصارى بجهالة كُتَّابها، وسنذكر بشيء من الإيجاز ما يتعلق بكلٍ من العهد القديم والعهد الجديد.
المطلب الأول: العهد القديم،وطعن طائفة من اليهود والنصارى فيه:
العهد القديم (53) ؛هو الكتاب المشترك بين كل من اليهود والنصارى، ويعتقد كلٌ منهما أنه موحى به من الله تعالى.
فاليهود الأرثوذكس (54) يعتقدون أن أسفار موسى بصفةٍ خاصةٍ هي كلام الإله الذي أوحي إلى موسى حرفاً بحرفٍ وأملاه عليه حينما صعد إلى جبل سيناء، وهو كلام أزلي لا يتغير، والكتب الأخرى في العهد القديم هي نتاج الروح القدس، تلك الروح في قولهم التي تغمر روح الإنسان فيتحدث باسم الإله (1) .
والنصارى كذلك يعتقدون أن العهد القديم موحى به من الله، فقد جاء في ((وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني)) ما نصه ((الكتاب المقدس كله بجميع أجزائه موحى به من الله)) ، ثم ذكروا أن الروح القدس هو الذي كان يساند عمل الكُتَّاب وينير عقولهم حتى يكتبوا كل ما يريد الله إعلانه، ثم قالوا ما نصه: ((لذا يحق القول – بكل صدق – إن الله تعالى نفسه هو المؤلف الأصلي للكتب المقدسة وأنها كلمة الله)) (2) .
كما يزعم طائفة من النصارى موافقين في ذلك دعوى اليهود في التلمود: أن موسى هو الكاتب للتوراة، وأن جُل أسفار العهد القديم كتبها الأشخاص الذين وضعت أسماؤهم عليها (57) .
هذا اعتقاد المتدينين من اليهود، واعتقاد جُل طوائف النصارى الكبار مثل: الكاثوليك والأرثوذكس اليونان والأرثوذكس الأقباط والبروتستانت ونحوهم. إلا أن ذلك كله دعوى لا دليل عليها ولا تصمد أمام التحقيق العلمي، إلا أنا هنا لا يمكن أن نستوعب الكلام والأدلة التي تبين بطلان ذلك، إلا أننا سنذكر فيما يلي بعض الحقائق التي تبين بطلان دعواهم:(10/419)
أولاً: إنكار طائفةٍ كبيرةٍ من اليهود والنصارى للوحي والإلهام في التوراة.
قام كل من اليهود والنصارى بنقد التوراة والكتب الأخرى معها، وكان من أوائل نقادها اليهودي القرَّائي (58) ((حيوى البلخي)) ممن عاش في القرن التاسع الميلادي، ومن أظهر النقاد المتأخرين الفيلسوف اليهودي ((سبينوزا)) الذي أنكر أن يكون موسى هو كاتب التوراة وأن كاتبها هو ((عزرا)) .
والإصلاحيون من اليهود (1) ينكرون أن العهد القديم موحى به من الله ويعتبرونه من صنع الإنسان. كما أن الصهاينة (60) من اليهود يعتبرون التوراة تراثاً يهودياً شعبياً (61) .
ومما يؤكد أن التوراة لا يمكن أن تكون من كتابة موسى، هو أن جمهور النصارى يرون أن التوراة فقدت من بنى إسرائيل خاصةً عند مهاجمة الملك البابلي ((بختنصر)) بيت المقدس وتدميره له، وأن الموجود الآن بين أيديهم إنما كتبه ((عزرا)) الذي كان في زمن السبي البابلي (62) ، إلا أن السؤال هو: من أين وصلت التوراة إلى عزرا وبينه وبين موسى (أكثر من ثمانية قرون؟
اليهود والنصارى يقولون: إن الله أو الروح القدس ألهمه التوراة، إلا أن هذه الدعوى لا يوجد ما يدل عليها في ((سفر عزرا)) ولافي ((سفر نحميا)) اللذين حكيا جمع عزرا للتوراة، وإنما ورد في ((سفر عزرا)) ما يدل على أن ((عزرا)) قد اجتهد في جمع التوراة وتعليمها فقد قالوا: ((لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلٍّم إسرائيل فريضة وقضاء)) (63) .
وليس في هذا دلالةً على أن الله أوحى إليه التوراة كما يزعم اليهود والنصارى، ولو كان الله أوحى إليه التوراة لذكر ذلك لأنه مفخرة عظيمة له، وفيه تأييد له وبرهان على صحة ما كتب، فلما لم يذكر ذلك دل على أن الله لم يوح إليه شيء.(10/420)
وأظهر ما يكون في الأسفار الخمسة التي يزعمون أنها ((التوراة)) أنها بشكلها العام من وضع ((عزرا)) ، وقد يكون ((عزرا)) استفاد من أصولٍ أقدم كانت بين يديه لايعلم على التحقيق أصولها ولا كُتَّابها ولا تواريخها، مما يعطي عمل عزرا قيمةً أدبيةً ونوعاً ما تاريخية، لكنه لا يمكن بحالٍ أن يرتقي إلى درجة الكتب المقدسة الموحى بها من الله المعصومة عن الخطأ والزلل.
ثانياً: إقرار كثير من النصارى أن كتاب تلك الكتب مجهولون.
كما أفاد كثيرٌ من كُتَّاب النصارى التشكيك في كُتَّاب تلك الكتب، والتشكيك في أن يكون موسى (هو كاتبها، ومن هؤلاء: هيئات كنسية معتبرة، من ذلك أصحاب كتاب ((مدخل إلى الكتاب المقدس)) وهم مجموعة من المؤلفين أفادوا عن كُتَّاب العديد من الأسفار أنهم مجهولون. من ذلك: أنهم قالوا عن ((سفر التكوين)) :إن كاتبه مجهول، لكن ((العهد الجديد)) يدل ضمناً على أن كاتبه هو ((موسى)) ، ولم يعترض أحدٌ على هذا المفهوم حتى العصر الحديث.
وقالوا: إننا لا نعرف كيف كتب هذا السفر، لكن من المعقول أن نرى موسى كمحرر استطاع أن يضم معاً عدداً كبيراً من القصص والحقائق، التي قد يكون بعضها قد أصبح شائعاً قبل تاريخ تدوينه (64) .
وذكروا نحو هذا عن ((سفر التثنية)) ، و ((سفر يشوع)) ، و ((سفر القضاة)) و ((راعوث)) ، و ((صموئيل الأول والثاني)) ، و ((الملوك الأول والثاني)) ، و ((أخبار الأيام الأول والثاني)) ، و ((عزرا)) ، و ((أيوب)) ، و ((المزامير)) ، و ((الجامعة)) ، و ((نشيد الإنشاد)) ، و ((أشعيا)) ، و ((أرميا)) ، و ((مراثي أرميا)) ، و ((حزقيال)) ، و ((دانيال)) ، و ((يونان)) (1) .
فهذه المجموعة الكبيرة من كتب ((العهد القديم)) طُعن فيها بما يؤكد أن كُتَّابها مجهولون، أو غير متحقق من شخصية كاتبيها، وكذلك تاريخ كتابتها مجهول، بل جميعها كتبت بعد أزمانٍ من تاريخ حياة من نسبت إليه.(10/421)
ثالثاً: اكتشاف علماء النصارى أن لكتب العهد القديم عدة مصادر:
ومما يدل على أن التوراة الموجودة بين أيدي اليهود والنصارى ليست هي التي أنزلت على موسى: أن النقاد من النصارى اكتشفوا أنها جمعت من مصادر عديدة، يقول ((صموئيل يوسف)) في كتابه ((المدخل إلى العهد القديم)) بعد أن ذكر أن المحافظين من علماء الكتاب يرون أن موسى (هو كاتب الأسفار الخمسة، قال: ((ويرى التقدميون بأنه لا يمكن أن يكون موسى كاتب ((الأسفار الخمسة)) ومنها ((سفر التكوين)) ، ومنهم ((جان ستروك إيكهورن)) والكاهن ((الكسندر جديس)) ، و ((فيلهوزن)) ، و ((يوديه)) و ((أدتويشفيلد)) ، والعالم اللاهوتي ((جيرهارد فون راد)) ، وغيرهم كثير، يعتقدون أن ((الأسفار الخمسة)) كتبت بواسطة كاتب غير معروف استعان على كتابته لها بمصادر العديدة.
ثم ذكروا أن أولئك العلماء وغيرهم اكتشفوا ما يسمى "نظرية المصادر" وهي: أن جامع ((الأسفار الخمسة)) استعان على كتابته وجمعه لها بمصادر عديدة، وفَّق بينها، وأخرج من مجموعها النص الموجود، واستطاعوا اكتشاف أربعة مصادرٍ أساسيةٍ وهي:
1- اليهوية التي يرمز إليها بحرف "J " وتاريخ كتابته ما بين 950 - 850 ق. م.
2- ((الألوهيم)) التي يرمز إليها بحرف " E " وتاريخ كتابته في حدود 850 - 750 ق0م
وهذان المصدران يميزهما استخدام الأولى منها لاسم الإله ((يهوه)) والأخرى تستخدم اسم الإله ((إلوهيم)) .
3- ((سفر التثنية)) وهو خاص بذلك السفر ويرمز إليه بحرف "D "، وتاريخ كتابته في حدود ما بين القرن الثامن إلى القرن السادس قبل الميلاد.
4- ((النص الكهنوتي)) ويرمز له بحرف " P " وتاريخه القرن الخامس إلى الرابع قبل الميلاد.
وتشير التواريخ المذكورة أن تلك المصادر كتبت بعد موسى (بفترة طويلة، تصل إلى تسعة قرون في بعضها.(10/422)
كما اكتشفت مصادر أخرى لكل مصدر من هذه المصادر بحيث صار المصدر الواحد يتوزع في أصله بين عدة مصادر (1) .
والمقصود بذلك أن جامع ((الأسفار الخمسة)) الموجودة الآن جمعها من مصادر عدة كُتبت قبله، فأخذ من هذا المصدر شيئاً وأخذ ما بعده من مصدرٍ آخر، وكمَّل بعضها من بعض، وقد يكون قد تصرف في ألفاظها حتى يوجد بينها الترابط المناسب، وأخرج من مجموع ذلك ما يسمى ب ((الأسفار الخمسة)) أو ((التوراة)) .
إلا أن هذا العمل بما فيه من أخطاء موجودة في المصادر، وأخطاء أخرى وقع فيها الجامع والناسخ، تبين أن تلك الكتب لا يمكن أن تكون وحياً من الله تعالى، وأنها تضمنت وضع وتصرفات البشر. (2) .
لعل في هذا كفايةً من ناحية أن مجموعةً كبيرةً من اليهود والنصارى نقدوا العهد القديم بما يفيد أن كاتبه ليس هو موسى (، وليس واحداً من الأنبياء الذين نُسبت إليهم تلك الكتب، بل هم مجهولون، بل إن كُتَّابها عاشوا في فترة زمنية متأخرة جداً عن زمن وتأريخ وقوع الأحداث التي تحكيها تلك الكتب بعضها يقارب الثلاثمائة سنة وأكثر.
وبها نعلم عدم دقة وانضباط القول الذي يشيعه المحافظون من اليهود والنصارى من أن كاتب التوراة هو موسى (وأن كُتَّاب الكتب الأخرى هم الأشخاص الذين نسبت إليهم.
المطلب الثاني: العهد الجديد وإقرار النصارى بجهالة كُتَّاب تلك الكتب:
العهد الجديد هو الكتاب الخاص بالنصارى، ويتكون من الأناجيل الأربعة ((متى)) و ((مرقص)) و ((لوقا)) و ((يوحنا)) ، ثم ((سفر أعمال الرسل)) ثم إحدى وعشرين رسالة ثم ((رؤيا يوحنا)) .(10/423)
ويعتقد النصارى أن العهد الجديد مثل العهد القديم موحى به من الله، جاء في وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قولهم: ((إن ما تتضمنه وتعرضه الكتب المقدسة من حقائق موحاة مكتوبٌ كله بوحي من الروح القدس، وتؤمن أمنا الكنيسة المقدسة بموجب الإيمان الرسولي أن كتب العهدين القديم والجديد كلها وبجميع اجزائها مقدسة وقانونية، فالله هو مؤلفها مكتوبةٌ بوحيٍ من الروح القدس)) (68) .
إلا أن ذلك كله مجرد دعاوى فلا يستطيع النصارى إثبات صحة كتبهم أو أنها بوحي من الله، بل الأدلة تدل على خلاف قولهم، وهذا ما سنبينه في النقاط التالية:
أولاً: أن كُتَّاب الكتب مجهولون ولا يصح نسبتها إلى من نسبت إليهم:
إن كتب النصارى وخاصةً الأناجيل الأربعة ((متى)) و ((مرقص)) و ((لوقا)) و ((يوحنا)) كتبٌ مجهولٌ كُتَّابها، ومما يبين ذلك عدة أشياء:
1- أن الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال لم يذكر في أي واحد منها في بدايته أو نهايته اسم كاتبه، وكذلك أكثر الرسائل، ما عدا رسائل ((بولس)) .
2- أن ((بولس)) صاحب أكبر مجموعة من الرسائل في ((العهد الجديد)) لم يشر ولا مرةً واحدةً لواحدٍ من تلك الأناجيل، ولم يذكر واحداً منها البتة، و ((بولس)) يعتبر من أكثر المتقدمين الذين وصلت كتاباتهم الدينية إلى أيدي النصارى، ومع ذلك لم يذكر ولا مرةً واحدةً في جميع رسائله إنجيلاً واحداً من تلك الأناجيل الأربعة باسمه، وإنما ذكر ما أطلق عليه "الإنجيل" أو "إنجيل الله" (69) ، الذي لا وجود له بين الأناجيل المعتبرة لدى النصارى، بل إن أياً من أصحاب الأناجيل أو الرسائل الأخرى لم يشر إلى إنجيلٍ من تلك الأناجيل، مما يدل دلالةً واضحةً أن تلك الأناجيل لم تكن معروفةً وليس لها وجود في تلك الأزمان وإلا وجب الإشارة إليها.(10/424)
3- أن الدراسات تثبت أنه إلى سنة 140م لم يُعرف أن أحداً أشار إلى شيء من الأناجيل الأربعة أو ذكرها بالاسم (70) ،وهذا التاريخ متأخرٌ جداً عن وفاة آخر من تنسب إليهم تلك الكتب بنحو 70 سنة، فإذا كانت تلك الكتب لم تعرف إلا بعد وفاة المنسوبة إليهم بأكثر من نصف قرن فكيف يمكن إثبات صحة نسبتها إلى أولئك الكُتَّاب.
4- أن اللغة التي كتبت بها تلك الكتب في الأصل إما الآرامية أو العبرية، إلا أنها لم تُعرف إلا باليونانية ولا يعرف من هو مترجمها.
ثانياً - أن أصحاب الأناجيل مجهولون تماماً:
لا يوجد لدى النصارى أي معلومات محققة عن شخصيات كُتَّاب كتبهم، بل كل المعلومات المتوفرة هي تلك التي تشير إلى شيءٍ قليلٍ جداً من الحوادث ضمن أحداث مع المسيح (وهي لا تعطي تعريفاً بشخصيات كُتَّاب تلك الكتب.
ثالثاً - لا يوجد لدى النصارى أي دليل موثق لكتابة أحد من الذين نسبت إليهم تلك الأناجيل:
يمكننا أن نقول: إنه لا يوجد معلومة صحيحة عند النصارى تؤكد أن ((متى)) الذي زعموا أنه حواري كتب إنجيلاً، أو ((مرقص)) الذي زعموا أنه من تلاميذ الحواريين، أو ((لوقا)) الذي هو تلميذ ((بولس)) ، أو ((يوحنا)) الذي زعموا أنه من الحواريين كتبوا تلك الأناجيل بالطريقة التي يحتاج إليها لإثبات صحة الكتب، كما هو الحال مثلاً لدى المسلمين، فإن الشيخ يكتب الكتاب وينقله عنه تلاميذه بالسند المتصل، ويأخذه عنهم تلاميذهم، وهكذا حتى تصبح نسبة الكتاب إلى مؤلفه مشهورةً مؤكدةً لا يشك أدنى طالب علمٍ بصحة النسبة إلى ذلك المؤلف.
أما النصارى فلا يوجد عندهم أي معلومة من هذا القبيل، ويمكن أن نضرب مثلاً بإنجيل ((متى)) و ((مرقص)) .
فأقدم معلومة معتمد عليها في ذلك وربما هي الوحيدة في ذلك هي ما نقله ((يوسابيوس القيصري)) في كتابه ((تاريخ الكنيسة)) عن رجل مجهول الحال يسمى ((بابياس)) كان أسقفاً ((لهيرابولس)) سنة 130 م.(10/425)
قال ((بابياس)) : ((إن متى كتب الأقوال باللغة العبرانية)) .
وقال عن ((مرقص)) صاحب الإنجيل:
((إن مرقص الذي صار مفسراً ((لبطرس)) قد كتب بكل دقة كل ما نذكره من أقوال وأعمال الرب. ولكن ليس بالترتيب لأنه لم يسمع الرب ولم يتبعه، ولكن كما قلت قبلاً عن ((بطرس)) الذي ذكر من تعاليم السيد ما يوافق حاجة السامعين بدون أن يهدف إلى كتابة كل ما قاله الرب وعمله، وهكذا فصل ((مرقص)) أنه لم يعمل خطأً واحداً في كل ما ذكره وكتبه)) (71) .
فهذان النصان يعتمد عليهما النصارى في نسبة هذين الكتابين إلى ((متى)) و ((مرقص)) ، وهذان نصان لا يمكن اعتبارهما دليلاً وعمدةً لقضيةٍ خطرةٍ وعظيمةٍ كهذه القضية، وهي إثبات أن هذا الكتاب صحيح صادق موحى به من الله من عدة أوجه:
1- أن ((بابياس)) سيئ الفهم ومحدود الإدراك فقد قال عنه ((يوسابيوس)) المؤرخ، إنه أساء فهم الكتابات الرسولية، ويبدو أنه محدود الإدراك جداً كما يتبين من أبحاثه.
وكان قد قال عنه ((يوسابيوس)) : أنه كتب روايات يقول إنها وصلته من التقليد غير المكتوب، وأمثالاً وتعاليم غريبة للمخلص وأموراً خرافية (1) . فبهذا يكون الشخص منكر الحديث، وغير مقبول الرواية، فكيف يمكن اعتبار شهادته وجعلها أصلاً لأمرٍ خطيرٍ كهذا 0
2- إن عبارته عن ((متى)) لا تفيد شيئاً، فلم يعين من هو ((متى)) ، ولم يعين الأقوال ما هي.(10/426)
كما أنه ذكر أن متى كتب كتابه باللغة العبرية، والكتاب لم تُعرف له أصولٌ عبرية البتة، وإنما وجد باللغة اليونانية، وهذا إما أن يدل على أن ((بابياس)) عنى كتاباً آخر غير الموجود عند النصارى، وإما أن يكون ترجم من العبرية إلى اليونانية فينشأ من هذا إشكال آخر وهو: من هو مترجمه؟ وما مدى علمه واستقامته وتدينه؟ وكذلك مامدى معرفته بالعبرية التي ترجم منها ومعرفته باليونانية التي ترجم إليها؟ إذ لابد من الاطمئنان على معرفته باللغتين للتأكد من صحة ترجمته، وهذا مهمٌ جداً لأن النسخة اليونانية صارت هي الأصل، أما العبرية فمفقودة، فلابد من التأكد من علم مترجمها وأمانته وإلا فقدت قيمتها.
وكذلك قوله عن ((مرقص)) : فإنه لم يحدد من هو ((مرقص)) هذا الذي صار مفسراً ((لبطرس)) وقال: إنه كتب ما تذكر، مما يدل على أن الكتابة ليست موثقة، وإنما هي كتابة من الذاكرة التي لا يمكن اعتبارها شاهداً موثوقاً، ثم قال أيضاً: إن ((بطرس)) إنما ذكر حاجة السامعين بدون أن يهدف إلى ذكر ما قاله الرب، مما يعنى محدودية المعلومات المذكورة وأن هناك أشياء كثيرة لم يذكرها، مما يدل على ضياع التعاليم ولعدم شمولها لكل أقوال المسيح أو على الأقل أكثرها، بل الأكثر هو الذي لم يذكر.
فمن هنا يمكننا القول إنه لا يوجد لدى النصارى الإثباتات اللازمة لتأكيد صحة نسبة الأناجيل إلى من نسبت إليهم.
وأن كل دعاويهم التي يدعون: مثل أن تلك الكتب وحي من الله أو الروح القدس، أو أنها صحيحةٌ وصادقةٌ، لا دليل عليها ألبتة سوى مجرد الدعوى.
المبحث الثاني: في بطلان ما استدلوا به من دعاويهم في المجيء
سنداً ومتناً.
استدل النصارى بنصوصٍ عديدةٍ على المجيء بالكيفيات التي ادعوها، وجُل النصوص التي استدلوا بها تعود إلى ثلاثة كتب:
1- ((سفر دانيال)) 2- ((رسائل بولس)) 3- ((سفر رؤيا يوحنا)) .(10/427)
وقد سبق أن بينا بطلان الاستدلال بكتبهم لعدم الثقة بها إجمالاً، وسنبين هنا بشيء من التفصيل ما يتعلق بالكتب التي استدلوا بها سنداً، وكذلك نبين عدم صحة فهمهم للنصوص التي استدلوا بها.
المطلب الأول: ((سفر دانيال)) :
((سفر دانيال)) من أهم الكتب التي اعتمدوا عليها في دعوى المجيء، و ((سفر دانيال)) هو سفر تاريخي ورؤى، فجزؤه الأول (1-6) يحكي قصصاً مختلفةً وقعت ل ((دانيال)) مع ملوك بابل، أما الإصحاحات من (7 –12) ففيها رؤى متعلقة بما سيحدث لبني إسرائيل بعد ذلك.
أما ((دانيال)) المنسوب إليه السفر، فهو عند بعض النصارى حكيم ورجل سياسة وذو بصيرة بتفسير الأحلام، وهو عند الكاثوليك والأرثوذكس الذين يأخذون بالنسخة اليونانية من الأنبياء الكبار (1) .
وتعتبر الرؤى الواردة في ((سفر دانيال)) وخاصةً في ((الإصحاح السابع)) و ((التاسع)) وآخر ((الحادي عشر)) و ((الإصحاح الثاني عشر)) هي أساس من الأسس التي ترتكز عليها دعاوى المجيء الثاني للمسيح والأحداث المرافقة، بل ويعتبر بعضها الأساس لما ورد في ((رؤيا يوحنا)) من ذلك،كما سيأتي، لهذا نشير إلى ما يتعلق بهذا السفر من ناحية صحة سنده وكذلك متنه:
1-كاتب السفر:
ينسب التقليد اليهودي والكنسي ((سفر دانيال)) إلى ذلك الشاب الذي عاش في زمن ((بختنصر)) بعد السبي البابلي أي بعد عام 586ق0م في ((بابل)) ، إلا أن هذا الأمر لم يقم على إثباته أي دليلٍ معتبرٍ يمكن الاعتماد عليه.
بل إن المقدمة التي كتبت عن ((سفر دانيال)) في طبعة ((دار الكتاب المقدس)) في الشرق الأوسط لعام 1992م، بعناية ((الآباء اليسوعيين)) والأديب ((إبراهيم اليازجي)) (74) قالوا ما نصه: ((ليس دانيال مؤلف السفر الذي يحمل اسمه إن هو إلا شخصه الرئيسي… إن مؤلفاً ملهماً (75) لم يترك لنا اسمه قد ضم إلى هذه الصورة الشهيرة عن الماضي عدة رؤى ذات إنشاءٍ روائي)) (76) .(10/428)
ويقول أصحاب كتاب ((المدخل إلى العهد الجديد)) :"التقليد اليهودي يقول: إن رجال مجمع اليهود هم الذين كتبوا ((سفر دانيال)) ، ويعزوه ((برثولد)) و ((فون لينجرك)) من ألمانيا إلى كاتبٍ مجهول كتبه زمن الملك السلوقي اليوناني ((انتيخس أبيفانس الرابع)) وذهب ((تورى)) وكذلك ((كنت)) و ((مونتجمري)) و ((اينسفيلد)) وغيرهم، إلى أن الجزء الأول من السفر كتب في القرن الثالث ق. م، أي بعد وفاة من تنسب إليه بما يقارب قرنين ونصف، أما الجزء الأخير منه وهو الإصحاحات من (7-12) فيرجع إلى زمن ((المكابيين)) ، أي قبل الميلاد بقرنٍ ونصف " (1) .
والإصحاحات الأخيرة من ((سفر دانيال)) هي التي ورد فيها ما يتعلق بالمجيء الثاني الذي يستدل به أصحاب هذه الدعاوى، وهو يعود كما سبق بيانه إلى فترة ((المكابيين)) ، حيث ورد في ((الإصحاح الحادي عشر)) منه تفصيلاً دقيقاً للأحداث الكبرى التي أوقعها الملك السلوقي اليوناني ((انتيخس ابيفانس الرابع)) باليهود، واضطهاده لهم، وقتاله للمصريين، مما يؤكد أن كاتبه قد وجد في تلك الفترة المتأخرة عن وجود ((دانيال)) بما يقارب ثلاثة قرون ونصف القرن (2) .
2- لغة السفر:
لغة السفر تعتبر مشكلة لدى اليهود والنصارى، لأنه من المتفق عليه أنه كُتب في أصله بلغتين هما: الآرامية والعبرية، بمعنى أن بعض أجزائه وخاصة الأولى منه كتبت باللغة الآرامية، والأجزاء الأخيرة منه كتبت باللغة العبرية، مما جعل علماء النصارى ينسبونه إلى أكثر من شخص (79) .
3- متن سفر دانيال:
((سفر دانيال)) يمكن تقسيمه إلى قسمين:
القسم الأول: فيه جزء من قصة دانيال مع ملوك زمانه.(10/429)
القسم الثاني: أربع رؤى تعود في مضمونها إلى موضوعٍ واحد، وهو الإخبار عن الدول التي ستقوم في منطقة ما يسمى في العصر الحاضر ب ((الشرق الأوسط)) ، فأولها ((مملكة بابل)) ، ثم تخلفها في أملاكها ((مملكة مادى)) ، ثم ((مملكة فارس)) ، ثم ((مملكة اليونان)) ، التي تنقسم إلى أربعة ممالك، وهذه الرؤى مكررة في نفس الموضوع. ويفرد ((السفر الحادي عشر)) تفصيلاً دقيقاً لتحركات ملوك اليونان في سوريا وخاصةً ((انتيخس ابيفانس الرابع)) ، وما فعل باليهود، وتدميره لهيكلهم وتنكيله بهم، ولم يذكر السفر شيئاً البتة عن الدولة الرومانية التي خلفت هؤلاء جميعاً وطال حكمها أكثر منهم، مما يعطي الناظر والفاحص دليلاً على أن كاتب السفر أو جزء كبير منه كان في زمن ((انتيخس ابيفانس الرابع)) اليوناني وهو في الفترة من 175-163ق0م (80) ، مع أن الدولة الرومانية التي خلفت اليونانية فعل ملوكها باليهود الأفاعيل ودمروا هيكلهم واستباحوا بلادهم مرتين، الأولى على يد ((تيطس)) القائد الروماني سنة 70م، والأخرى بأمر الإمبراطور ((هادريان)) سنة 135م بكيفيةٍ أعظم بكثير مما فعل اليونان باليهود، بل إن الأمبراطور ((هادريان)) شتت اليهود في الأرض، وشردهم تشريداً استمر عليهم إلى زماننا هذا الذي بدأوا يتجمعون فيه في فلسطين أي ما يقارب 18 قرناً من الزمان.
وهذا كما ذكرتُ يؤكد بأن كاتب السفر ليس هو ((دانيال)) ، وإنما هو رجلٌ آخر عاصر الأحداث التي كتب عنها السفر وذلك بعد دانيال بما يقارب أربعة قرون، وهذا يعني أن السفر ليس موثوقاً به، إذ كاتبه مجهول، وبالتالي معلوماته لا يصح الاعتماد عليها.
4- مغالطات النصارى بما استدلوا به من نص سفر دانيال:(10/430)
يستدل النصارى للمدة الزمنية المرتبطة بمجيء المسيح بنصٍ من النصوص الواردة في ((سفر دانيال)) وهو قولهم (9/24- 27) ((سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة…إنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعاً يقطع المسيح وليس له، وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس، وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها، ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب)) (1) .
هذا النص هو من أهم النصوص عندهم في تحديد التاريخ الذي يأتي فيه المسيح، فإن النصارى بناءً على هذا النص قد قسموا ما ورد فيه إلى قسمين:
القسم الأول: 69 أسبوعاً، والأسبوع سبعة أيام، وكل يوم يعدونه بسنةٍ واحدةٍ، فيكون مجموع ذلك 69 × 7 = 483 سنة، ويعتبرون أن هذه المدة هي التي كانت بين صدور الأمر بتجديد بناء بيت المقدس وصلب المسيح في زعمهم.
وبناءً على حسابهم، حيث يقولون: أن المسيح عاش ثلاثاً وثلاثين سنة وارتفع سنة 33م، فمعنى ذلك 483 ينقص منها 33 سنة مدة بقاء المسيح وهي بعد الميلاد، فيكون الباقي 450 سنة، بمعنى أن صدور الأمر لبناء بيت المقدس كان في سنة 450ق0م، وهذا يوافق زمن الملك الفارسي ((أرتحشتا)) الذي ملك من سنة 465 – 425 ق0م، ويعينون بداية المدة التي يحسبون من صدور الأمر بتجديد بناء سور مدينة بيت المقدس وبنائها، وذلك حين أخذ ((نحميا)) إذناً من الملك ((أرتحشتا)) بذلك بعد عشرين سنة من حكم الملك ((أرتحشتا)) أي في حدود 445ق0م، وتم بناء السور في 52 يوماً (2) ، إلا أن الملاحظ أن في ذلك مغالطات عديدة وهي:(10/431)
أولاً: أن بناء بيت المقدس المرة الثانية ابتدأ حسب كلامهم بأمر الملك الفارسي ((كورش)) وذلك في 529 ق0م، ثم توقف البناء إلى زمن الملك ((دارا)) ، حيث جدد الأمر بالبناء سنة 520 ق0م، وفرغ من بناء الهيكل سنة 516ق0م تقريباً (1) ، فيكون بين بناء الهيكل ورفع المسيح (516+33 = 549 سنة، وعلى حساب الأسابيع التي يعدونها تكون 549 ÷ 7 = 78.3 أسبوعاً، ففيها فرق يوازي أكثر من خمسين سنة إذا أغفلنا الاختلاف المشهور في تاريخ مولد المسيح، وهذا يدل على أن النص المعتمد في ذلك غير صحيح ولا دقيق، أي أنهم فهموا من النص فهماً خاطئاً وحملوه على ما لا يدل عليه.
القسم الثاني: الأسبوع الأخير من السبعين أسبوعاً، فإنهم كما سبق يجعلون 69 أسبوعاً قبل مجيء المسيح ورفعه، ثم الأسبوع الأخير والذي هو كمال السبعين أسبوعاً لا يربطونه بوقت، بل يجعلونه مفتوحاً إلى نهاية الحياة أو هو عند الألفيين الأسبوع الأخير الذي يعقب المجيء السري للمسيح أو الاختطاف وقبل الظهور المعلن له.
ولا يتضح من النص أي دليل على هذا الفاصل، لأن الأسبوع الأخير حسب النص تابع للأسابيع التي قبله، وجاء الفاصل فيه لأن ضيقاً شديداً وحرباً وتدميراً سيحصل على اليهود، وهذا قد حصل عليهم مراراً، فقد تسلط عليهم حكام اليونان بالتنكيل، واستمر عذابهم وبلاؤهم يخف حيناً ويشتد حيناً، إلى أن شردوا زمن ((تيطس)) الروماني في 70م، ثم زمن ((هادريان)) سنة 135م.(10/432)
والذي يؤكد ويوضح أن الأسابيع المذكورة تعني مدة زمنية تنتهي قبل ولادة المسيح (بأكثر من خمسين سنة، أن ((الإصحاح الحادي عشر)) هو تفسير لما ورد في آخر ((الإصحاح التاسع)) لأن الملك قال ل ((دانيال)) حسب (10/14) : ((جئت لأفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى أيام بعد)) ، ثم شرحها في ((الإصحاح الحادي عشر)) ، ومجملها متعلق بملوك اليونان في سوريا وحربهم مع ملوك مصر من اليونان أيضاً، وما يوقعه ((انتيخس ابيفانس الرابع)) باليهود كما سبق ذكره.
أما قولهم في الرؤيا السابقة ((وبعد اثنين وستين أسبوعاً يقطع المسيح وليس له)) وتفسيرهم بأن ذلك يعني نهاية المسيح (، فإن ذلك غير صحيح، لأن ((الإصحاح الثاني عشر)) يفسرها بأن المقصود به الملك ((ميخائيل)) ، حيث قالوا فيه بعد الأحداث التي تقع على اليهود والضيقة الشديدة التي تصيبهم (12/1) ((وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت)) .
فعليه المراد بالمسيح حسب النص السابق هو الملك ((ميكائيل)) ، ولكن لا يتضح من النص أن له دوراً في دفع تلك النكبة لا بالإعانة ولا بالدفع عنهم، فلذا لا يتضح المراد من ذلك إلا أن يكون تعزيةً بوجود ناظرٍ معين.(10/433)
كما أن في النص بعده خطأً تاريخياً واضحاً، حيث يقولون في (12/1) : ((إلى ذلك الوقت ينجى شعبك كل من يوجد مكتوباً في السفر)) ، فهذا لم يتحقق لليهود، لأن البلاء استمر عليهم من بعد اليونان بواسطة الرومان، ثم وجدوا فترة من الهدوء النسبي زمن ((المكابيين)) ، لكن الرومان كانوا أشد على اليهود من اليونان،فقد نكلوا بهم نكالاً شديداً حتى قضوا سنة 135م على دولتهم قضاءً نهائيا وإن كانوا بقوا كشعب مشردين إلى الزمن الحديث حيث بدأوا يتجمعون في فلسطين وأنشاوا لهم دولة فيها، فكل عالم بالتاريخ يعلم أن القول بنجاتهم بعد ذلك خطأ لأنه لم يتحقق لليهود لا أيام اليونان، ولا أيام الرومان، ولا حتى بعد رفع المسيح (، بل زاد عليهم البلاء كما ذكرنا.
وبهذا كله نتبين عدم صحة الاستدلال بنص ((سفر دانيال)) لأنه لم تثبت صحته ولا عصمته، بل ثبت كذبه وعدم صحته،كما ان النصارى قد أخطأوا في فهم نصوصه، وغالطوا فيها، وحملوها ما لا تحتمل.
المطلب الثاني: ((رسائل بولس)) :
((رسائل بولس)) تشكل الجزء الأكبر والأهم من ((العهد الجديد)) حيث توازي من ناحية الحجم الأناجيل الثلاثة ((متى)) و ((مرقص)) و ((لوقا)) مجتمعة، كما أن فيها تنوعاً في الموضوعات، وتوجيهات كثيرة لأتباعه. وارتباط الديانة النصرانية بها أكثر من ارتباطها بالأقوال المنسوبة إلى المسيح (في الأناجيل، كما أن دعوى المجيء وردت فيها صريحةً. فمن هنا نشير إلى بعض النقاط المهمة المتعلقة بها:
أولاً: عدم أهلية بولس لأن يكون وسيطاً في الأمور الدينية:
بولس ليس من تلاميذ المسيح (ولم يلقه، كما أنه لم يتعلم من أحد من ((الحواريين)) ، ولم يأخذ منهم شيئاً (84) ، وهو الذي حرف رسالة المسيح (وقد خالف المسيح مخالفةً صريحةً في عدة نقاط أساسية،منها:
1- ادعاؤه أن المسيح ابن الله. (85)
2- دعواه أن الغاية من مجيء المسيح هي الصلب وتكفير الخطايا. (86)(10/434)
3- دعوته إلى إلغاء العمل بشريعة موسى (. (87)
4- ادعاؤه بأن رسالة المسيح عامة لجميع بنى البشر. (88)
5- إلغاؤه الختان. (89)
فلهذا وغيره مما لا يمكن تفصيله في مثل هذا البحث يُعلم أن ((بولس)) ليس أهلاً أن يعتمد وسيطاً للأمور الدينية ولا داعياً موثوقاً.
ثانياً: عدم ثبوت الرسائل إليه بدليل أكيد:
إن نسبة الرسائل إلى ((بولس)) هو من الأمور المشكوك فيها والتي لم يقم عليها أدلة كافية، يدل على ذلك عدة أشياء:
أ- أن مما يجمع عليه النصارى أن ((رسائل بولس)) لم تُعرف إلا في حدود عام150م، حيث بدأت تبرز وتشتهر ((رسائل بولس)) (90) ، مع أن ((بولس)) كان قد اختفى وانطفأت أخباره في حدود عام 64م على الأرجح حيث وصل إلى روما (91) ، وذلك يعني أن هناك انقطاعاً طويلاً بين وفاة ((بولس)) وبين ظهور ((الرسائل)) واشتهارها يقارب قرناً من الزمان، مما يجعل المجال واسعاً للتحريف والكذب وافتراء رسائل ونسبتها إليه.
ب - أن ((يوسابيوس)) المؤرخ نقل عن ((أوريجانوس المصري)) المتوفى في حدود عام 253م، وهو أحد كبار آباء الكنيسة النصارى أنه قال عن ((بولس)) : إنه لم يكتب إلى كل الكنائس التي عملها، ولم يرسل سوى أسطر قليلة لتلك التي كتب إليها (1) ، وأكد هذا أيضاً ((يوسابيوس)) نفسه المتوفى سنة 340م، حيث يقول عن ((بولس)) ورسائله: ((فبولس مثلاً الذي فاقهم جميعاً في قوة التعبير وغزارة التفكير لم يكتب إلا أقصر الرسائل)) (93) .
فهذان النصان لهما أهمية كبرى في الدلالة على أن بولس لم يكتب إلا شيئاً قليلاً، وذلك بخلاف الموجود بين أيدي النصارى الآن، فإنه يوازي في حجمه الأناجيل الثلاثة " متى، مرقص، لوقا" مجتمعة، مما يدل على أن الرسائل الموجودة ليست هي رسائل ((بولس)) الأصلية، أو أنها تعرضت هي الأخرى للتحريف والإضافات المطولة.(10/435)
ج - أن النصارى يشكون في صحة نسبة عدة رسائل إلى ((بولس)) من ضمنها الرسالة إلى ((كولوسي)) و ((أفسس)) ورسالته الأولى والثانية إلى ((تيموثاوس)) ورسالته إلى ((تيطس)) ، فهذه كلها مشكوك في صحة نسبتها إليه، وبعضهم يرى أن كاتبها أحد اتباع ((بولس)) ، وأن كاتبها اعتمد في ذلك على أفكاربولس. أما الرسالة إلى ((العبرانيين)) فقد رفضت وكان الشك فيها قديماً واستمر وقتا طويلاً (1) .
ثالثاً: بطلان النصوص التي استدل بها النصارى من ((رسائل بولس)) :
سبق أن ذكرنا أن النصارى يستدلون على المجيء بدعوى ((بولس)) في رسالته إلى ((كورنثوس)) (15/51) ((هو ذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير (95) في لحظةٍ في طرفة عيٍن عند البوق الأخير فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير)) ، وكذلك النص الآخر في ((تسالونيكى الأولى)) (4/15) ((فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة، وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف معهم فى السحب لملاقاة الرب في الهواء)) .
النص الأول الوارد في ((كورنثوس)) ليس فيه صراحةً ما يتعلق بمجيء المسيح (، وإنما هو في بعث الأموات وتغير الأحياء، ويتضح منه قناعة بولس من أنه لن يموت، بل ستقوم القيامة وهو حي، وأنه سيتغير إلى جسدٍ غير قابل للفساد. هكذا زعم.
أما النص الثاني الوارد في ((تسالونيكى)) فهو صريح في موضوع المجيء، إلا أنه يلاحظ عليه عدة ملاحظات:
1- أنه ادعى أن ما يقول بكلمة الله، أي بوحي من الله وليس من عنده، وليس على ذلك أي برهان.(10/436)
2- أن دعواه أن الموت سيخص طائفةً دون طائفةً، وأن البعث سيكون للأموات، أما الأحياء فسيتغيرون فقط دعوى لا دليل عليها، ولاوجود لها في العهد القديم، وهي مخالفة للسنة العامة في البشر بأن الموت سيدركهم جميعاً، ولم تظهر إلا في دعوى ((بولس)) هنا.
3- أن ((بولس)) ادعى لنفسه على سبيل القطع أنه سيبقى حياً إلى مجيء المسيح، وأكد ذلك في كلامه في ((كورنثوس)) بقوله: ((فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير)) .
وتكرر هذا بتأكيدٍ واضحٍ في ((تسالونيكى)) حيث يقول: ((إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب)) ، ثم أكد هذا أيضاً بقوله بعده ((ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف معهم في السحاب)) ، وهو قد مات من زمنٍ بعيد ولم يتحقق شيء مما ادعاه مما يدل على كذبه.
4- أن دعوى خطف الأحياء هي من الدعاوى التي ليس لها أي مستند كتابي آخر لدى النصارى، وإنما هي من بنات أفكار ((بولس)) وهي من تحريفاته العديدة وادعاءاته الباطلة الكثيرة، التي حرف بها رسالة المسيح (.
وعليه فهذا النص لا يصح الاعتماد عليه، بل إن ((بولس)) لا يجوز بحالٍ اعتباره مصدراً لشيء من المعلومات الدينية، وكذلك رسائله، لما سبق أن بينا من جهله برسالة المسيح وتحريفه المتعمد لها، وكذلك عدم الثقة بصحة نسبة الرسائل إليه.
المطلب الثالث: سفر ((رؤيا يوحنا)) :
((رؤيا يوحنا)) هو السفر الأخير من أسفار ((العهد الجديد)) ، وهو عبارة عن رؤى ذات رموز غامضة وصور عجيبة غريبة، يفسر النصارى بعضها على أنها إشارات لما سيحدث آخر الزمان.
والسفر منسوب إلى ((يوحنا)) ، الذي يزعمون أنه أحد الحواريين.وسنبين عدم صحة الاستناد على هذا السفر من ناحية سنده ومتنه:
أولاً - من ناحية سنده:(10/437)
1- إن النصارى اختلفوا في كاتبه من هو، فالتقليد الكنسي يضيف الكتاب إلى من يزعمون أنه ((يوحنا الحواري)) ، إلا أن هناك اعتراضات على ذلك، فمن ذلك أن الكاهن الروماني ((غايس)) نسب الكتاب إلى شخص يُسمى ((سيرنيثوس)) كما أن ((ديونسيوس)) أسقف الإسكندرية المتوفى 264م نسبه إلى شخصٍ آخر وليس هو ((يوحنا)) ، وكذلك كثير من كتاب العصر الحديث ينكرون نسبته إلى ((يوحنا)) .
والأقوال في نسبة السفر إلى من يزعمون أنه ((يوحنا الحواري)) وإنكار ذلك متقابلة، والآراء متضادة، والأدلة متكافئة، كما يقول القس ((فهيم عزيز)) ويضيف: ((وفي الحقيقة لا يوجد عالم واحد يمكنه أن يؤكد هذا الرأي أو نقيضه تأكيداً تاماً إنما الأمر نسبي)) (96) .
ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن الكنيسة المصرية ترددت في قبوله وشككت في أصله، أما الكنيسة اليونانية فلم تقبله أول الأمر وظل خارج الكتب القانونية حتى عام 500م.
كما شكك في نسبته إلى ((يوحنا)) ((يوسابيوس القيصري)) ، المؤرخ الكنسي،المتوفى 340م، ولم يضعه ((كيرلس الأورشليمي)) (97) ضمن الكتب القانونية.
أما الكنيسة السريانية فلم تعترف به ولم تضعه ضمن الكتب المقدسة إلا في القرن الثاني عشرالميلادي، ومدرسة إنطاكية لم تعترف بالكتاب (98) .
فإذا كان الكتاب بهذه المثابة من ناحية ثبوت نسبته إلى من يزعمون أنه ((يوحنا الحواري)) ، والبعض من الكنائس بناءً على ذلك ترددت في قبوله، فمعنى ذلك أنه لا يوجد لدى النصارى الذين ينسبونه إلى من يزعمون أنه ((يوحنا الحواري)) دليل قاطع يحسم المسألة، وما لم يقم الدليل القاطع، فإن الواجب عدم اعتبار الكتاب وعدم قبول أقواله، لأن الكتب المقدسة يجب أن تكون موثقةً تمام التوثيق حتى يمكن الاعتماد على صدقها وإقامة الدين عليها.
ثانياً - من ناحية متنه:
إن النصوص المأخوذة من هذا السفر لا يصح الاستدلال بها لعدة أسباب:(10/438)
1- إن نص كتاب ((سفر الرؤيا)) يعتبر من أعقد النصوص وأصعبها، وهو في أكثره وأغلبه رؤى تحتاج إلى تفسير، ولم يتفق النصارى على مسلك معين في تفسيرها.
يقول أصحاب المقدمة في طبعة ((دار الكتاب المقدس)) في الشرق الأوسط في حاشيةٍ على السفر - بعد أن ذكروا أن بعض أسفاره واضحة لا إشكال فيها:- ((وبقي في خلال ذلك ستة عشر فصلاً تقف عندها بصائر المتأملين، ذُكرت فيها حوادث مبهمةً، مستغلقة المعاني، بعيدة التأويل، ذهب فيها أهل التفسير طرائق شتى)) ، ثم ذكروا من ذلك قولين:
القول الأول: رأى الآباء الكنسيين والعلماء المتقدمين منهم: أن ذلك إشارةً إلى زمان المسيح الدجال والدينونة الأخيرة.
القول الثاني: المتأخرون من علمائهم: إن ما ذُكر هو إشارة لحوادث وقعت ومضى زمانها، وإن المراد بالأرض المملكة الرومانية،وبالوحش ذي السبعة الرؤوس: القياصرة السبعة الذين اضطهدوا الكنيسة، وبالجامات السبعة المصائب التي نزلت بالمملكة الرومانية ولا سيما عقب اضطهاد ((ديوكلسيانس)) (99) .
ثم قال الكاتب: ((لا جرم أن الترجيح بين هذين الرأيين مع صرف النظر عن بقية الأقوال يُقْضي بالدليل القاطع وذلك مالا يتأتى لأحدٍ اليوم)) (100) .
ومن علماء النصارى من ذكر أربعة أنماطٍ لتفسيره، منها الأولان المذكوران، ويضاف إليهما:
أ- أن ((السفر)) يحكي تخطيطاً طويلاً يبدأ من القرن الأول الميلادي حتى يومنا هذا حتى النهاية.
ب- أن ((السفر)) مملوءٌ بالرموز التي يجب أن يُؤخذ كلٌ منها على حدة (101) .
فهذا الاختلاف في تفسير السفر لا يصح معه اعتبار النص دليلاً على الدعوى، حتى يتم ترجيح واحد من الأنماط التي تؤيد الدعوى، والمرجح غير موجود كما سبق ذكره من كلامهم.(10/439)
2-يلاحظ على ((سفر الرؤيا)) ارتباطه الوثيق ب ((سفر دانيال)) ، فإنه فصَّل ما أجمل في ((سفر دانيال)) ، وأعطاه معنى يتلاءم مع وضع النصارى في الدولة الرومانية، بخلاف ((دانيال)) الذي يحكي وضع اليهود في الدولة اليونانية، ويمكن ملاحظة ذلك في نقاط:
أ- إن الرؤى في كلا السفرين بناءً على حالة اضطهادٍ واقعةٍ علىالأمة، والمراد منها التصبير والتشجيع وإعطاء الرجاء بالنصر. وهذا كان حال اليهود، وهو كذلك حال النصارى قبل أن يدخل أباطرة الرومان النصرانية.
ب- إن ((سفر دانيال)) جعل النصر حليف الأمة اليهودية،وهم من يسميهم ((قديسو العلى)) بسبب سماوي (102) .
وكذلك فعل ((سفر الرؤيا)) بالنسبة للنصارى، إلا أنه فصَّل في كيفية تحقيق النصر وأنواع العذاب الذي يقع على أهل الأرض الذين لا يعبدون المسيح أو يضطهدون أتباعه، وذلك بواسطة الملائكة (103) .
ج- إن ((سفر دانيال)) ذكر عبارةً غامضةً عن ((ميكائيل)) في نهاية الاضطهاد فقال: ((وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت)) .
فهذا نقله صاحب ((سفر الرؤيا)) ووسعه وأعطاه معنىً خرافياً، وهو قوله بعد ذكر الاضطهاد الواقع على الأمة الذي رمز لها ((بالمرأة)) (12/7) ((وحدثت حرب في السماء بين ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته ولم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء)) والمقصود بالتنين هنا الشيطان، وقد ذكروا بعد ذلك كيف أن الشيطان سيصب جام غضبه على أهل الأرض (1) .
3- أن ((السفر)) يحكي عن حالة اضطهاد ورجاء بالنصر، وهنا ملاحظة مهمة، وهي: إن كان ذلك حديثاً عن أمورٍ قد وقعت وانتهت، فدعوى النصارى بأنها ستحدث في المستقبل خلطٌ وخبطٌ غير مقبول.(10/440)
أما إن قالوا -كما يظهر من أقوال كثيٍر منهم ممن يرون مجيء المسيح:- إن ذلك لأحداثٍ ستأتي، فإن هذا يخالف الواقع، وذلك أن النصارى توقف الاضطهاد الديني بالنسبة لهم منذ رفع ((قسطنطين)) (105) في القرن الرابع الميلادي الاضطهاد عنهم، ثم دخل في ديانتهم،وبدأوا هم يضطهدون الناس المخالفين لهم، كالاضطهاد الذي وقع على اليهود من النصارى، والذي وقع على الموحدين أتباع المسيح من النصارى أتباع بولس.
وفي هذه الأزمنة التي نحن فيها أصبحت القوة المادية بأيديهم، والكنيسة في غايةٍ من القوة والتمكن من ناحية عدد الأتباع وكثرة الأموال وكثرة المناصرين، فلا يوجد أي توافقٍ بين الصورة الواقعية لحال النصارى الآن وبين السمة الظاهرة لهم في ((سفر دانيال)) و ((سفر الرؤيا)) ، وهي الاضطهاد والضعف وتسلط الأعداء عليهم.
ويزداد بطلان استدلال النصارى بهذين السفرين وضوحاً ويتأكد إذا علمنا أن كثيراً من النصارى يرى أن مجيء المسيح قد أزف وقرب جداً جداً، ولم يبق على مجيئه في زعمهم إلا سنوات قلائل، فمن ذا الذى يستطيع من ناحية القوة المادية في هذا الزمان أن يقاتل النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع المسيح والذين يعدون العدة لنصره واستقباله، مع ما يدعون من أن المسيح سينزل بقوات سماوية. لا شك أنه لا يوجد أي تجانس بين الصورتين والحالين: الماضية والحاضرة.(10/441)
ولقد رأينا فيما سبق أن كثيراً من رجال الكنيسة المتقدمين كانوا يرون أن مجيء المسيح قريبٌ جداً من زمانهم، لأنهم يرون أن بمجيئه تنتهي متاعبهم ويتوقف اضطهادهم ويُكتب النصر لهم، إلا أن هذا اختلف لما تغيرت أحوال النصارى بدخول ولاة الرومان في ديانتهم، فصار غالب فِرَق النصارى الكبار يرون أن مجيء المسيح إنما هو للقيامة ومحاسبة الناس وينكرون الملك الأرضي الألفي، أما ماورد في ((سفر الرؤيا)) فإنهم يعتبرونه رموزاً غامضة تُفسر حسب ما تمليه العقيدة الكنسية، وإما أنها عبارة عن إخبار بأحداث قد انتهت وفرغ منها.
ومن هذا يتبين أن سفر الرؤيا لا يصح اعتماده مرجعاً لعدم كفاية الأدلة لصحة إسناده، وكذلك لما في نصه من الغموض الذي لا يتمكن معه الإنسان من تحديد مراد كاتبه، بل يجعل المجال مفتوحاً وواسعاً أمام جميع التخرصات، وبه ينتهي بيان ما يتعلق ببطلان دعاوى النصارى في مجيء المسيح (، وبه يتبين أن دعوى النصارى في مجيء المسيح كباقي دعاويهم الدينية، ليس فيها شيء من الحق، وإنما هي دعوى باطلة كافرة، بل هي من أشد الكفر وأظهره وأبطله والله تعالى أعلى وأعلم.
الخاتمة
الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد،
ففي ختام هذا البحث أجمل أهم النتائج التي توصلتُ إليها وهي:
أولاً - أن النصارى يقرون بأن المسيح (ارتفع إلى السماء، وأنه سينزل آخر الزمان.
ثانياً - أن دعوى النصارى في مجيء المسيح تختلف عن عقيدة المسلمين، حيث يعتقد المسلمون أنه صعد نبياً وسينزل نبياً، أما النصارى فيدَّعون أنه صعد إلهاً وسيعود إلهاً.
ثالثاً - أن النصارى اختلفوا في وقت نزول المسيح إلى قولين: فمنهم من كان يرى أن نزوله سيكون قريباً جداً من وقت صعوده، وعلى هذا مضى متقدمو النصارى، أما المتأخرون فصاروا يرون أن نزوله سيكون آخر الزمان.(10/442)
رابعاً - أن النصارى منقسمون في الأحداث المرافقة لنزوله،فمنهم من يعتقد أن المسيح سيكوِّن مملكةً له على الأرض تدوم ألف سنة، ومنهم من يرى أنه لن يفعل ذلك، وأن ملكه سيكون في السماء بعد القيامة ومحاسبة الناس، ويفسرون الأحداث بأنها رموز للشر، ومنهم من يرى أن مُلكه في السماء، ويرى أن الأحداث الواردة في النصوص أحداث حقيقية لأشخاص حقيقيين سيكونون آخر الزمان.
خامساً - إن مصادر النصارى المعتمدة في دعاويهم الدينية غير موثقة فلا يمكن الاعتماد عليها، كما أن فهمهم للنصوص فيه مغالطات واضحة، وهو فهمٌ تمليه الأهواء، فلا يمكن بالتالي أن تقوم لأحدٍ منهم حجة واضحة ودليل قاطع في دعوى من الدعاوى الدينية.
سادساً - وخلاصة ذلك كله هو أن دعوى النصارى في مجيء المسيح على الكيفيات التي ذكروا وزعموا هي دعاوى عارية عن الدليل الصحيح فهي بالتالي باطلة.
وفي الختام نحمد الله عز وجل أولاً وآخراً على أن هدانا لهذا الدين، وحفظ لنا كلامه وكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وحفظ لنا سنة نبينا محمدٍ (، وأقام لنا ديننا محجةً بيضاء وطريقاً واضحاً ومسلكاً منيراً وأظهر ديننا على الدين كله، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على الحق إلى يوم نلقاه، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحواشي والتعليقات
() اليهود الحسيديم ص175، وانظر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية ص123.
(2) انظر: الأصولية الإنجيلية. محمد السماك ص63،94.(10/443)
(3) الواقع أن المسيح لم يمت ولم يصلب، كما أن دعواهم أنه دفن ثلاثة أيام فيه خطأ واضح من ناحية أن المسيح فيما زعموا مات آخر نهار الجمعة ودفن ليلة السبت، وبقي في قبره تلك الليلة، ثم نهار السبت، ثم ليلة الأحد، ولما جاءوا عند أول نهار الأحد لم يجدوه في القبر، وقيل لهم إنه قام. انظر: متى (26-28) وهذه إذا حُسبت وجدت نهاراً واحداً وليلتين أي يوماً وليلةً فقط وليس ثلاثة أيام كما يزعمون، والذي اضطرهم للقول بذلك أنهم ذكروا عن المسيح أنه قال حسب إنجيل متى (12-40) ((لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال)) ، فبناءً على ذلك ادعوا أنه بقي في القبر ثلاثة أيام، ثم قام، مع أن ما ذكروه في قصة صلبه وقيامته يخالف ذلك كما سبق0
(4) نيرون: امبراطور روماني وثني، اضطهد النصارى واتهمهم بإحراق روما، انتحر في 68م. المنجد في الأعلام- ص 720.
(5) انظر: قاموس الكتاب المقدس ض 199، تفسير العهد الجديد لوليام باركلي (3/135) ، تاريخ سوريا للمطران الدبس (3/38) .
(6) تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/86) .
(7) تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/122) .
(8) جاستن مارتر او يوستينوس: ولد في نابلس حوالي 100م، ودرس الفلسفة، واتبع الديانة النصرانية، وقتل في روما سنة 165م. تاريخ الفكر المسيحي (1/431) .
(9) إيريانوس: أسقف ليون في فرنسا، قتل سنة 202م. تاريخ الفكر المسيحي (1/431) ، المنجد في الاعلام، ص 100.
(10) ترتليان أو ترتوليانس: كان من المدافعين عن الديانة النصرانية ضد الوثنيين الرومان، توفي نحو 200م. تاريخ الفكر المسيحي (1/514) ، المنجد في الأعلام، ص 185.
(11) نقلاً عن هامش شرح سفر الرؤيا. ناشد حنا ص 427.(10/444)
(12) االمجيء الثاني للمسيح ونهاية التاريخ ص 139- 57، المسيحية عبر العصور ص87 في كلامه عن بابياس، وانظر: شرح سفر الرؤيا لناشد حنا ص 416،419،421، مدخل إلى العهد الجديد ص65، تفسير العهد الجديد لوليام باركلي (3/135) ، تاريخ سوريا للمطران الدبس (3/378) .
(13) البروتستانت: هم طائفة انشقت عن الكاثوليك، وهم أتباع مارتن لوثر الألماني الذي ظهر في القرن السادس عشر الميلادي في ألمانيا، ونادى بإصلاح الكنيسة، ويتميزون بإنكارهم لصكوك الغفران، وينكرون أن الغفران من حق البشر، ويحرمون الصور والتماثيل، وليس لكنائسهم رئيسٌ عامٌ يتبعونه، وإنما لكل اقليم رئيس يعظمونه ويجلونه إلا أنهم لايلقبونه بالبابا. انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص 240، دراسات في الأديان ص 239.
(14) السبتيون: نسبةً إلى السبت الذي يقدسونه، ويسمون أيضاً ب" الأدفنتست"، وهي كلمة لاتينية تعني ((المجيء)) ، ويعتقدون بمجيء المسيح والملك الألفي، وقد اسسها ((وليام ميلر)) وهو معمداني أمريكي توفي عام 1844م، وكان يشيع أن المسيح سيعود إلى العالم في عام 1843م، ولهم فروعٌ منتشرة في أماكن متعددة من العالم النصراني وغير النصراني. الموسوعة الميسرة (2/1080) .(10/445)
(15) شهود يهوه: طائفة دينية نصرانية تقوم على سرية التنظيم، ظهرت في أمريكا على يد مؤسسها التاجر الأمريكي ((شارل رسل)) (1852-1916م) ، وكان أعلن عام 1874م عن مجيء المسيح، إلا أنه لم يأت، فزعم أنه جاء ولكن بكيفيةٍ غير منظورة، وهم ينكرون التثليث، والبعض يقول عنهم إنهم يقرون بالتثليث ولكن بفهمٍ خاص، وينكرون ألوهية المسيح، ويعتبرونه إنساناً من شكلٍ آخر يزعمون أنه مات على الصليب، وينكرون كفارة المسيح للخطايا، وينكرون بدعة الصليب والتماثيل والصور، وينكرون الاديان كلها ما عدا ديانتهم، ولا يؤمنون بالآخرة، ولا بالجنة والنار ويزعمون أن الجنة هي الملك الأرضي للمسيح،وهم يأخذون بشعار اليهود، ويقدسون كتب اليهود، ولا يعترفون بالحكومات سوى حكومة المسيح الخالدة.انظر: (بدعةشهود يهوه ص 10، 43، 117، 130) ، شهود يهوه والتطرف المسيحي في مصر ص 44، 70، شهود يهوه ص 31، الموسوعة الميسرة (2/658) .
(16) المورمون: طائفة دينية نصرانية أسسها الأمريكي ((يوسف سميث)) (1805-1844م) . يعتقدون بكتب النصارى المقدسة إضافة إلى صحفٍ يزعم يوسف سميث أنه أعطيها من الملاك ((مورمن)) ، وأن المسيح بعد صلبه المزعوم وقيامته، ذهب إلى أمريكا وأسس بها كنيسةً، وعندهم أن الإله على شكل إنسانٍ من لحمٍ وعظام، ويعتقدون بتجمع اليهود، وأن دولة صهيون ستكون في الأرض في القارة الأمريكية، وستكون هناك عاصمتان للعالم: الأولى في أورشليم في فلسطين، والثانية في أمريكا، وهم يعتقون بالملك الألفي للمسيح. انظر: الموسوعة الميسرة (2/649) .
(17) يسوع على الأبواب ص 32.
(18) خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص107، وانظر أيضاً: ملكوت الله - د0 فهيم عزيز ص 250 حقائق أساسية في الإيمان المسيحي للقس فايز فارس ص 29، إيماني للقس إلياس ص 538.
(19) انظر: بدعة شهود يهوه ومشايعيهم ص 10-21.
(20) رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي (4/15-17) .(10/446)
(21) خطوةخطوة نحو نهاية العالم ص15 الرجاء المبارك ص 19-20
(22) الرجاء المبارك ص 78
(23) انظر تباعاً في: خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص 14، 15، 16.
(24) خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص79، وانظر: الرجاء المبارك ص79.
(25) سفر دانيال (9/24) ، وقد ورد فيه تفسير الملك جبريل لرؤيا رآها دانيال متعلقة بما يحدث على بني إسرائيل وجاء فيها ((سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين، فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعاً يقطع المسيح وليس له، وشعب رئيس آتٍ يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة والى نهاية حرب وخرب قضى بما يثبت عهداً مع كثيرين في أسبوعٍ واحد، وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة، وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب)) فهذا النص يقسمه النصارى إلى ثلاث حقب:
الحقبة الأولى: مدتها سبعة أسابيع وهي بالسنين 49 سنة، فيجعلون اليوم بسنة تبدأ من صدور الأمر بتجديد بناء بيت المقدس أيام الملك أرتحشتا الفارسي0
الحقبة الثانية: مدتها (62) أسبوعاً وهي بالسنين (434) سنة تبدأ بعد الحقبة الأولى، وتنتهي بصلب المسيح فيما يزعمون بعدها فترة اعتراضية إلى مجيء المسيح (الثاني آخر الزمان، لأنه بالفترتين الأولين ينتهي تاريخ بني إسرائيل بكفرهم بالمسيح0
الحقبة الثالثة: وهي الأخيرة ومدتها أسبوع أي سبع سنين وهي الفترة الواقعة عندهم بين الاختطاف والظهور)) . انظر: خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص35، وانظر: الرجاء المبارك ص 39.
(26) الرجاءالمبارك ومستقبل العالم ص 58 –59
(27) خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص 69 – 70.(10/447)
(28) يلاحظ أن هذا النص من سفر دانيال من ضمن رؤياه كأنها شاهد عيان يحكي قصة تسلط الحاكم اليوناني انطيوكس أو أنتيخس الذي نكل باليهود وهو الذي يفسر به النصارى ممن لا يقولون بالقول السابق هذا النص، انظر: تاريخ سوريا للمطران الدبس ص (70) .
(29) خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص 42-44.
(30) انظر: عاموس (9/13-14) .
(31) انظر: زكريا (6/12- 139.
(32) أرميا (31/33- 34) .
(33) أشعيا (11/6-8) .
(34) أشعيا (65/20) .
(35) زكريا (9/10) .
(36) المزامير (101/8) .
(37) شرح سفر الرؤيا ص 428-433.
(38) الذين ينكرون الملك الألفي من النصارى كثير منهم يعتقد ويؤمن بحرب هرمجدون إلا انهم يعتقدون وقوعها قبيل مجيىء المسيح للقيامة، وسيأتي بيان ذلك.
(39) الأقباط الأرثوذكس: هم نصارى مصر، ويتميزون بأنهم يزعمون أن المسيح له طبيعةٌ واحدةٌ لاهوتية وناسوتية،وهو رأي مجمع أفسس سنة 431م، ويخالفهم في ذلك الكاثوليك والأرثوذكس اليونان، الذين يقولون بأن المسيح له طبيعتان وهو قرار مجمع خلقيدونيه سنة 451م ويسمون الخلقيدونيين والملكانيين أما الأقباط الأرثوذكس ومن وافقهم فيسمون اللاخلقيدونيين. انظر: نشأة الطوائف المسيحية ص 49، تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (3/213-247) .
(40) الكاثوليك: وهم عامة نصارى الغرب الذين ينتمون إلى البابا في الفاتيكان، ويتميزون عن الأرثوذكس بأنهم يزعمون بأن روح القدس انبثق من الأب والابن معاً. انظر: محاضرات في النصرانية ص 165، وتحريف رسالة المسيح ص 312.
(41) الأرثوذكس اليونان: وهم عامة نصارى الروم الشرقيين، ويزعمون أن المسيح له طبيعتان ويتميزون عن الكاثوليك بأنهم يرون أن الروح القدس انبثق من الأب وحده دون الابن. انظر: محاضرات في النصرانية ص 164، وكتاب "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء" ص 262، وتحريف رسالة المسيح ص 312.(10/448)
(42) انظر: نهاية العالم وموعد مجيء السيد المسيح ص 124- 128، المجيء الثاني للمسيح ونهاية التاريخ ص 162-166، ملكوت الله ص 276 –286، إيماني ص 542، هل يملك المسيح على الأرض ص 32 – 33
(43) نهاية العالم وموعد مجيىء المسيح ص 19.
(44) هل يملك المسيح على الأرض ص 27.
(45) انظر النص في: متى (24/29)
(46) انظر: ملكوت الله ص270 – 271، هل يملك المسيح على الأرض ص57 - 63، المجيء الثاني للمسيح ونهاية التاريخ ص180–186،حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 303-306.
(47) انظر: المجيء الثاني هل هو على الأبواب ص 128- 131.
(48) انظر: كتاب: إيماني ص 532.
(49) رسالة برنابا إحدى الرسائل الغير معترف بها، وهي منسوبة إلى برنابا،الذي يزعم النصارى أنه أحد أتباع المسيح الذين عاصروه، وهو صاحب إنجيل برنابا الذي ينسب إليه، انظر: المجيء الثاني هل هو على الأبواب ص 119.
(50) انظر: المجيء الثاني هل هو على الأبواب ص 119.
(51) انظر: المجيء الثاني هل هو على الأبواب ص 128 – 131، نهاية العالم وموعد مجيء السيد المسيح ص 97 –111، نهاية العالم وأزمنة الأمم ص 67 – 77.
(52) الأدلة على نزول المسيح كثيرة جداً نذكر منها حديثين مما ورد فيه التصريح بالنزول:
الأول: عن أبي هريرة (أن النبي (قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) م- الإيمان (1/135) .والثاني حديث جابر بن عبد الله (أن النبي (قال: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة- قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة " م. الإيمان (1/37) .(10/449)
(53) العهد القديم: تسمية يطلقها النصارى على الكتب التي كانت قبل المسيح (، أولها الأسفار الخمسة التي يدعي اليهود والنصارى أنها توراة موسى مضموماً إليها 34 سفراً أخرى ويضيف طائفة منهم سبعة أسفار أخرى ليكون المجموع عندهم ستة وأربعين سفراً، يشكل مجموعها ما يسمى ب " العهد القديم "، أما اليهود فيسمونها "الكتب المقدسة" أو "توراة" ونحوها. انظر: موسوعة اليهود واليهودية 5/84 الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف ص15-16.
(54) الأرثوذكس: تعني قويم الرأي، أصولي متشدد. انظر: القاموس إنجليزي -عربي.
(55) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ص 586.
(56) وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ص 395.
(57) انظر: موسوعة اليهود واليهودية (5/101) ، المدخل إلى العهد القديم ص 41.
(58) نسبة إلى فرقة القرَّائين من اليهود اتباع رجل من اليهود يسمى ((عنان بن داؤد)) من أهل بغداد، ظهر زمن أبي جعفر المنصور في القرن الثاني الهجري وأنكر التلمود وسائر الروايات التي يقول بها الغربيون. انظر: فرقة القرائين اليهود ص9، دراسات في الأديان اليهودية والنصرانيةص 120
(59) الإصلاحيون: فرقة معاصرة من فرق اليهود تنكر التلمود وتنكر الوحي في العهد القديم وتنكر تشديدات الحاخاميين، ومن أوائل من دعا إلى هذا المذهب موسى مندلسون المتوفى 1776م في برلين، وأتباعهم الآن ينتشرون في أمريكا حيث يبلغون قرابة المليونين. انظر: الملل المعاصرة في الدين اليهودي ص 36، دراسات في الأديان ص 124.(10/450)
(60) الصهاينة هم أتباع الصهيونية، وهي حركة يهودية سياسية عنصرية ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين، أنشأها اليهودي هرتزل، والصهاينة في الأصل علمانيون ملاحدة لهم أهداف سياسية واقتصادية واستطاعوا بوسائل كثيرة إدخال جل اليهود المتدينين معهم، فصار لا فرق بين اليهودي المتدين واليهودي العلماني الملحد في الانتساب للصهيونية، والسعي في تحقيق أهدافها، مع محافظة كل واحد منهم على معتقداته ومرئياته، بعد الاتفاق على الأهداف العليا بالنسبة لهم، وهي: الاستيلاء على فلسطين و، وإقامة دولتهم فيها، وما وراءها من أطماع. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب 1/521 " بتصرف"، موسوعة اليهود واليهودية 0/51.
(61) انظر: موسوعة اليهود واليهودية ص 104- 105.
(62) المدخل إلى العهد الجديد ص85.
(63) سفر عزرا (7/10) .
(64) مدخل إلى الكتاب المقدس ص23.
(65) انظر: مدخل إلى الكتاب المقدس ص61، 69، 76، 86، 92، 108، 127، 145 169، 179، 216، 224، 234، 254، 275، 283، 294، 338، انظر: المدخل إلى العهد الجديد ص 85، علم اللاهوت النظامي ص 99.
(66) انظر في ذلك: المدخل إلى العهد القديم ص 84- 88، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 28 – 30.
(67) انظر: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 9.
(68) وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ص 408.
(69) انظر: قوله في رسالته إلى تسالونيكى الأولى (2/2) ((جاهرنا في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله …..بل كما استحسنا من الله أن نؤتمن على الإنجيل..)) .(10/451)
(70) النصارى يعترفون بأن أناجيلهم لم تعرف إلا في وقت متأخر، فهذا القس فهيم عزيز في كتابه " المدخل إلى العهد الجديد" يؤرخ ظهور الأناجيل وكتب العهد الجديد ما بين 100-170م، ويقول:" كانت أول مجموعة عرفتها الكنيسة من العهد الجديد هي مجموعة رسائل بولس، فهي أول ما جمع من كل كتب العهد الجديد.. ثم يقول: أما المجموعة الثانية فهي مجموعة الأناجيل ألأربعة، وقد ظهرت هذه المجموعة متأخرة بعض الوقت عن مجموعة كتابات بولس ". المدخل إلى العهد الجديد، ص146-147.وقال أصحاب " المدخل إلى العهد الجديد، والمطبوع مع العهد الجديد، الطبعة العاشرة من منشورات دار المشرق، في بيروت 1985م ما نصه:" ومهما يكن من أمر فليس هناك قبل 140م أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، ولا يذكر أن لمؤلف من تلك المؤلفات صفة ما يلزم، فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني شهادات ازدادت وضوحاً على مر الزمن، بأن هناك مجموعة من الأناجيل، وأن لها صفة ما يلزم، وقد جرى الاعتراف بتلك الصفة على نحو تدريجي، فيمكن القول: إن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة 170م بمقام الأدب القانوني..". نقلاً عن اختلافات في تراجم الكتاب المقدس ص 89،وانظر أيضاً كلام موريس بوكاي عن ذلك في كتابه القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 98- 103.
(71) تاريخ الكنيسة ص 177، وانظر: كتاب المدخل إلى العهد الجديد ص 218.
(72) انظر: المدخل إلى العهد القديم ص 478، قاموس الكتاب المقدس ص 357.
(73) انظر: المدخل إلى العهد القديم ص 478، قاموس الكتاب المقدس ص 357.
(74) إبراهيم بن ناصيف اليازجي، عالمٌ بالأدب واللغة، أصله من حمص، ولد في لبنان، ثم سكن القاهرة، وفيها توفي سنة 1324هـ، اشتغل في إصلاح ترجمة أسفار النصارى، وقضى في ذلك تسعة أعوام. انظر: الأعلام (1/77) .
(75) زعموا أنه ملهم، وما أدراهم بذلك؟(10/452)
(76) الكتاب المقدس – مقدمة سفر دانيال ص 648.
(77) انظر: المدخل إلى العهد القديم ص 472 – 473.
(78) انظر: المقارنات والاقتباسات لتلك الأحداث في تاريخ سوريا للدبس ص 3، 18، 160، 112، 113، 114.
(79) انظر: المدخل إلى العهد القديم ص 489.
(80) انظر: تاريخ سوريا للمطران الدبس (3/109-129) .
(81) انظر: طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط 1992م وما فيها من الاختلافات التي فيها عن الطبعة المنقول منها النص، وهي طبعة دار الكتاب المقدس بالقاهرة.
(82) انظر: سفر نحميا (1-6) ، وانظر: خطوة خطوة نحو نهاية العالم ص35.
(83) تاريخ سوريا الدنيوي والديني للمطران الدبس (2/500 – 505) .
(84) انظر قوله في غلاطيه (1/15) عن نفسه ((ثم بعد ثلاث صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يوماً ولكنني لم أر غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب)) .
(85) انظر: رسالته إلى رومية (4/16) .
(86) انظر: رسالته إلى رومية (11/3) .
(87) انظر: رسالته إلى رومية (4/28) .
(88) انظر: رسالته إلى رومية (3/23) .
(89) انظر: أعمال الرسل (9/20) ، رسالته إلى غلاطية (4/4) .
(90) المدخل إلى العهد الجديد ص144، إختلافات في تراجم الكتاب المقدس ص76.
(91) تاريخ الكنيسة ليوسابيوس ص108.
(92) تاريخ الكنيسة ص 317. .
(93) تاريخ الكنيسة ص 148.
(94) انظر في ذلك: المدخل إلى العهد الجديد ص 470، 532، وتفسير العهد الجديد لوليام باركلي، الرسالة إلى تيموثاوس ص 9-24.
(95) طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط 1992م ورد فيها النص هكذا: ((إنا سنقوم كلنا ولكن لا نتغير كلنا)) ففي هذه الطبعة ينفي فيها التغير للكل، وتلك يثبته للجميع.(10/453)
(96) المدخل إلى العهد الجديد ص 652-654. ونحن نضيف إلى قوله: إن أي كتاب مقدس لا يصح اعتباره مقدساً حتى يكون سليماً من الاعتراضات القادحة في صحته، خاصةً من ذوي الاختصاص، فإذا قدح في بعض كتبهم رجالٌ من كبار رجال دينهم، فهذا كافٍ في عدم اعتبار صحتها.
(97) كيرلس الأورشليمي: أحد معلمي النصارى المتقدمين، وكان من المعارضين الأشداء لدعوة آريوس، توفي 386م. المنجد في الأعلام ص 604.
(98) المدخل إلى العهد الجديد ص 640-641، تاريخ الكنيسة ص 151،373.
(99) " دبوكلسيانس " أو " دقلديانوس " (245-313م) . امبراطور روماني. اضطهد النصارى في عهده اضطهاداً شديداً. اعتزل الحكم سنة 305م. انظر: الموسوعة العربية الميسرة (1/798) .
(100) الكتاب المقدس، حاشية عليه في آخره ص 504،طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط 1992م، وانظر أيضاً: المدخل إلى العهد الجديد ص 659 -661.
(101) المدخل إلى الكتاب المقدس ص 617
(102) سفر دانيال (7/13-28) .
(103) سفر الرؤيا- الإصحاحات 16، 17، 18.
(104) إن الواضح من سفر دانيال أنه يتحدث عن أحداثٍ تاريخية، قد وقعت وانتهت، فالاقتباس منه لأحداثٍ لم تقع، أو لأحداثٍ وقعت،إلا أن الزمان غير الزمان والأمة غير الأمة دليل على عدم صحة القول.
(105) قسطنطين الأول ابن قسطانش، وهو الذي رفع الاضطهاد عن النصارى، وأقر بحريتهم الدينية، وأعاد بناء مدينة بيزنطة، وسماها " القسطنطينية ". توفي سنة 337م. انظر: الموسوعة العربية الميسرة (2/1380) .
المصادر والمراجع
1- اختلافات في تراجم الكتاب المقدس. اللواء أحمد عبد الوهاب. ط1. القاهرة. مكتبة وهبة -1417هـ.
2- الأصولية الإنجيلية. محمد السماك.ط1. مركز دراسات العالم الإسلامي -1991م.
3- الأعلام. خير الدين الزركلي. ط8. بيروت. دار العلم - 1989م.
4- إيماني. إلياس مقار. القاهرة. دار الثقافة. بدون تاريخ.(10/454)
5- بدعة شهود يهوه ومشايعيهم. اسكندر جديد. (بدون بيانات نشر) .
6- تاريخ سورية. المطران/يوسف الدبس. راجعه / د. مارون رعد. دار نظير عبود - 1994م.
7- تاريخ الفكر المسيحي. القس: حنا جرجس الخضري. دار الثقافة. دار الطباعة القومية.
8- تاريخ الكنيسة. جون لوريمر. ترجمة: عزرا مرجان. دار الثقافة. دار الطباعة القومية.
9- تاريخ الكنيسة. يوسابيوس القيصري. ترجمة القمص: مرقس داود. القاهرة. مكتبة المحبة.
10- تحريف رسالة المسيح عبر التاريخ.بسمة أحمد جستنيه. ط1.دمشق. دار القلم-1420هـ.
11- تفسير العهد الجديد. وليم باركلي. ط2. القاهرة. دار الثقافة.
12- حقائق أساسية في الإيمان المسيحي. القس: فايز فارس. القاهرة. دار الثقافة المسيحية.
13- خطوة خطوة نحو نهاية العالم. إبراهيم صبري. (بدون بيانات النشر) .
14- دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية. سعود بن عبد العزيز الخلف. ط3. الرياض. مكتبة اضواء السلف.
15- الرجاء المبارك ومستقبل العالم.طلعت فكري (بدون بيانات نشر)
16- شرح سفر الرؤيا.ناشد حنا. ط1. 1967م.
17- شهود يهوه والتطرف المسيحي في مصر. أبو إسلام احمد عبد الله. القاهرة. مكتبة الحكمة.
18- صحيح مسلم. مسلم بن الحجاج. عناية محمد فؤاد عبد الباقي. ط1. دار إحياء الكتب العربية - 1374.
19- علم اللاهوت النظامي. مجموعة من اللاهوتيين النصارى. دار الثقافة.
20- فرقة القرائين اليهود. جعفر هادي حسن. ط1. بيروت. مؤسسة الفجر -1989م.
21- قاموس الكتاب المقدس. مجموعة من أساتذة النصارى. ط2. دار الثقافة المسيحية.
22- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم. موريس بوكاي. مصر. دار المعارف.
23- الكتاب المقدس. دار الكتاب المقدس. القاهرة –1982م.
24- المجيء الثاني هل هو على الأبواب.مجدي صادق.تقديم زكي شنوده.(10/455)
25- المجيء الثاني للمسيح ونهاية التاريخ. القس: مكرم نجيب. ط2. دار الثقافة - 1998م.
26- محاضرات في النصرانية. محمد أبو زهرة. مصر. مطبعة المدني.
27- المدخل إلى العهد الجديد. القس: فهيم عزيز. إصدار دار الثقافة. مطبهة دار الجيل.
28- المدخل إلى العهد القديم. القس: صموئيل يوسف. ط1. دار الثقافة-1998م.
29- مدخل إلى الكتاب المقدس. جولد باكلين، بيتر كوتريل وآخرون. ترجمة: نجيب إلياس. ط1. دار الثقافة -1993م.
30- المسيحية. أحمد شلبي. ط9. مكتبة النهضة المصرية - 1984م.
31- المسيحية عبر العصور. إيرل كيرنز. ترجمة: عاطف سامي برنابا. دار نوبار للطباعة.
32- ملكوت الله. فهيم عزيز.ط2. دار الثقافة.
33- الملل المعاصرة في الدين اليهودي. د. إسماعيل الفاروقي. معهد البحوث والدراسات العربية -1968م.
34- المنجد في الأعلام. ط22. بيروت. المطبعة الكاثوليكية. دار المشرق -1973م.
35- الموسوعة العربية الميسرة. إشراف: محمد شفيق غربال. دار الجيل -1416هـ.
36- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة. إشراف: د. مانع حماد الجهني. ط3. الناشر:دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع. الرياض -1418هـ.
37- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. د. عبد الوهاب المسيري. ط1. القاهرة. دار الشروق -1999م.
38- نشأة الطوائف المسيحية. المطران إسحاق مسعد. القاهرة. دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية.
39- يسوع على الأبواب.بلاك ستون.ترجمة: مراد عزيز.لجنة خلاص النفوس للنشر.
40- نهاية العالم وأزمنة الأمم.د. شرابي اسكندروس.تقديم الأنبا ريغوريوس. منشورات اسقفية الدراسات العليا اللاهوتية الثقافية.
41- نهاية العالم وموعد مجيء المسيح.جوزيف بطرس (بدون بيانات نشر)
42- وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. ط2 -1979م.(10/456)
43- كتاب " ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ". د. رؤوف شلبي. ط2. دار الاعتصام -1400هـ.
44- اليهود الحسيديم. د. جعفر هادي حسن. ط1. دمشق. دار القلم –1415هـ.(10/457)
القياس ومكانته في المنطق اليوناني
د. ابتسام بنت أحمد جمال
الأستاذ المساعد بقسم العقيدة - كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين حمداً يليق بجلاله وكماله وثناء عظيماً لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى … والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين محمد بن عبد الله الداعي إلى الحق المبين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
هذا بحث المتواضع عن المنطق وقياسه ومكانة القياس فيه والذي اخترت له عنوان: (القياس ومكانته في المنطق اليوناني) وقد تناولت فيه أخم موضوعات وقضايا المنطق كما وضعها المناطقة ليسهل نقدها في المبحث اللاحق بإذن الله تعالى.
وذلك لما رأيته من اهتمام بعض المسلمين المشتغلين بالمنطق أردت بيان أثره وخطره، متبعة في ذلك منهج سلف هذه الأمة في اتباع كتاب الله وآياته وهو الذي تقوم به الحجة وتتضح به المحجة. وكذلك منهجي في اتباع السنة. أما الموضوعات التي تناولتها فهي كما جاءت في محتويات البحث: انتقال علم المنطق إلى العالم الإسلامي عن طريق ترجمة علوم الأمم التي من الله على المسلمين بفتح بلادهم، ومن تحدثت عن مكانة القياس في المنطق وأنه المقصود الأهم والأول من فن المنطق كله.(10/458)
فالتصور يمثل الخطوة الأولى في العلوم التي يبني عليها التصديقات والاستدلالات (القياس) ، ولبيانه لابد من ذكر أوليات موضوعات التصور والتي بدأتها بذكر أنواع العلم الحادث عندهم، الذي قسموه بحسب تحصيله في الذهن إلى تصور وتصديق، كما بينت أن المشتغلين بالمنطق وضعوا تقسيماً آخر لمفهوم الحد وموضوعه والصفات التي تحدد المراد.. إلى مفهوم صادق. أمام التقسيم الذي ذكره المناطقة للفظ فهو: 1-اللفظ المفرد. 2- اللفظ المركب. وقد يكون اللفظ أصلي الدلالة أو مغير الدلالة.. وينقسم من حيث العلموم والخصوص إلى كلي وجزئي. والكلي ينقسم باعتبار استواء معناه في أفراده إلى متواطئ.. ومشكك وباعتبار تعدد مسماه وعدم تعدده إلى مشترك ومنفرد. أما دلالة اللفظ فتنقسم إلى ثلاث أقسام: دلالة المطابقة. ودلالة التضمن. ودلالة الالتزام. وبعد ذلك انتقلت إلى: مبادئ التصور وذكرت الكليات الخمسة التي جعلها المناطقة من أساسيات المنطق، وأهمها وهي: الجنس … النوع … الفصل.. العرض العام.. العرض الخاص.
أما الفصل الثاني والذي عليه مدار البحث وعنوانه وهو مبادئ التصديقات (القياس) فقد ذكرت فيه معنى معنى القضية المنطقية وأهم شروطها وقواعدها وأقسامها وما هو منتج منها وما هو غير المنتج في رأي المناطقة. تمهيداً لنقدها لاحقاً وختمت بحثي بحمد الله تعالى على ما وفقني لإتمام هذا البحث وما أفدت منه.
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وجعله حجة دائمةً على عباده من الثقلين الجن والإنس، فقامت به الحجة، واتضحت به المحجة، حتى أصبح ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. وصلى الله وسلم على نبيه الهادي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه ودعا بدعوته وتمسك بسنته إلى يوم الدين. ... ...
أما بعد:(10/459)
فإن الله عز وجل قد من على المؤمنين ببعثه هذا النبي الأمين بهذا الكتاب المبين، الذي أنار به سبيل الهداية، وأزال به ظلمات الجهالة والضلالة والغواية، فبه اهتدى المهتدون، وبرسوله اقتدى المقتدون، وتعلم صحبه الكرام منه ما أنزل إليه، فعلموا وعملوا بما أنزل عليه، مدركين أنه هو الحجة البالغة القائمة، وأن سنة رسول الله (هي الحق المبين، الموضحة الشارحة للقرآن العظيم.
فلما مضى عصر الخلافة الراشدة وانتهى عصر الصحابة الذين كان وجودهم أماناً للأمة من البدع - ومع الفتوحات المتسعة- حصل الانفتاح على موروثات بعض الأمم الوثنية، وفي مقدمتها المنطق اليوناني، الذي قام بعض المسلمين بتشجيع من بعض أولي الأمر بترجمته إلى اللغة العربية، مما أدى إلى انتشاره في المجتمع المسلم، الذي كان متحصناً بالكتاب والسنة عن كل دخيل؛ فكان له معارضون من علماء الإسلام، يحذِّرون الأمة من أثره، وخطره، وضرره، كما كان له مؤيدون، يقومون بترويجه والإغراء به، ومزجه ببعض العلوم الإسلامية، زاعمين أن ما انبنى على مبادئه وأسسه هو الذي تقوم به الحجة؛ مما جعل للمنطق اليوناني أثراً سيئاً في البلاد الإسلامية رغم صيحات الناصحين وصرخات المخلصين من علمائهم.(10/460)
ولما كانت المعاناة من المنطق اليوناني وأثره لا تزال قائمة –لاشتمال كثير من كتب التراث عليه- وخاصة الكتب المؤلفة في مجال الاعتقاد؛ أردت أن أساهم بهذا البحث في بيان أثره وخطره، متبعة في ذلك أثر العلماء الناصحين ممن اتبعوا منهج سلف هذه الأمة، في تعظيم الكتاب والسنة، ومبينةً أن ما بني على كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الكريم؛ هو الذي تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة، لا في المنطق اليوناني، الذي أنتجه الفكر الوثني الذي لم يسلم من نقد أهله له فأن اشتراط أر سطو قضية كلية موجبة تخمين لا يستند على دليل، لأن الكلية أساسها الجزئية. واشتراط مقدمتين تحكم وتعسف منه، فربما أحتاج الأمر إلى أكثر من مقدمتين لإثباته، لذلك فالدارس لقياس أر سطو لا يجد فيه سوى شكل الدليل وصورته، هذا ما بينه وأكده شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في كتابه الرد على المنطقين، كما بين أن منطق أر سطو لم يأتي بجديد. وهذا ما دفعني للكتابة في القياس المنطقي ثم أتبعه بنقد ابن تيميه للقياس المنطقي في البحث اللاحق بأذن الله تعالى. والله تعالى أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تمسك بسنته ودعا بها وإليها إلى يوم الدين.
تمهيد
قبل الشروع في البحث يتطلب الأمر إلى تمهيد يتقدمه لبيان بعض الأمور المهمة بين يديه، وهي الأمور التي سبق ذكرها في المقدمة على سبيل الإجمال. وهذا موضع تفصيلها:
أولاً: تعريب المنطق اليوناني وانتقاله إلى العالم الإسلامي:
مع قرب نهاية القرن الأول الهجري وما تلاه من عقود اجتمعت عدة عوامل ساعدت على انتشار ترجمة كتب ومؤلفات الأمم السابقة، والحضارات البائدة، ونقلها إلى اللغة العربية.
فمن هذه العوامل:(10/461)
امتداد الفتوحات الإسلامية لتشمل معظم أرجاء العالم القديم، حيث امتدت ح دود وثغور الدولة الإسلامية من بلاد الصين شرقاً إلى بلاد الأندلس غرباً، ومن بلاد فارس جنوباً إلى آسيا الصغرى شمالاً؛ وهي مساحة شاسعة توالت وتنوعت فيها الحضارات الإنسانية، وبدخول الإسلام إلى تلك البلاد انهارت تلك الحضارات وتساقطت الواحدة تلو الأخرى.
مع إشراق شمس الرسالة الإسلامية على تلك البلدان، ظهر لهم واضحاً جلياً بطلان وتهافت ما كانوا عليه من أديان محرفة، وملل ونحل وآراء ومذاهب فاسدة، فدخل الكثيرون منهم في دين الله أفواجاً.
أقر المسلمون كثيراً من أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين بقوا في ديارهم ولم يدخلوا في الإسلام على ما هم عليه؛ حيث سمح لهم المسلمون بالبقاء على ديانتهم استجابة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، حيث شملتهم سماحة الإسلام ومبادئه الخالدة التي ترعى حق الجوار واحترام الأديان السماوية السابقة.
هذه العوامل وغيرها قد ولدت عند الكثيرين من المسلمين رغبة قوية في معرفة ما عند أهل تلك البلاد التي دانت لهم من مذاهب وآراء وأقوال، لإقرار ما فيها من حق وخير، وإنكار ما فيها من باطل وشر، وإبطاله وإبعاده عن المسلمين.
إلى جانب الرغبة في تعلم ما عندهم أيضاً من علوم ومعارف وفنون وصناعات وحرف للاستفادة منها في شؤون الحياة العادية.
ومن هنا نشأت حركة الترجمة لكتابات ومؤلفات أهل تلك البلدان، ونقلها إلى اللغة العربية، هذا بصفة عامة.
وأما ما يتعلق بكتب المنطق والفلسفة اليونانية بصفة خاصة فبالإضافة إلى ما سبق من العوامل فقد كان هناك فريق من النصارى والروم يعملون في بلاط الأمويين في بلاد الشام، وفي الدواوين وفي غيرها.
وكان هؤلاء النصارى قد تعلموا اللغة السريانية ووقفوا من خلالها على أساليب اليونان ومناهجهم في التفكير، وطريقتهم في الجدل والحوار.(10/462)
واستعان فريق منهم بالمنهج الجدلي في الدفاع عن النصرانية أحياناً، وأحياناً في الهجوم على الإسلام حتى أن بعضهم وهو (يحي بن عدي) وضع رسالة مستقلة يوضح فيها للنصارى كيف يجادلون العربي المسلم في المسائل اللاهوتية وعيرها؛ كمسائل القضاء والقدر والتوحيد؛ وضعها على طريقة: إذا قال لك العربي كذا، فقل له كذا وكذا، وإذا سألك العربي عن كذا فأجبه بكذا وكذا. وكثرت المجادلات بين النصارى من جانب، والمسلمين من جانب آخر، وتطورت هذه المجادلات إلى عقد جلسات للمناظرات بين المسلمين وغيرهم أحياناً، وبين المسلمين بعضهم بعضاً أحياناً أخرى، وكان كل فريق يستعين بما يملك من فنون القول ومن الدلائل والحجج (1) .
ومن هنا قويت الرغبة في تعلم المنطق والفلسفة اليونانية للاستعانة بها في تلك المناظرات والمجادلات.
وقد ساعد على ذلك تشجيع بعض خلفاء الدولة العباسية، ودخول بعضهم كأطراف في تلك المجادلات والمناظرات أحياناً.
وهكذا تعددت الجهات التي قامت على ترجمة كتب المنطق والفلسفة اليونانية في بلدان العالم الإسلامي مما أدى إلى انتشار المنطق اليوناني ورواجه بين طوائف من المسلمين.
وهو ما يعني عزل نصوص الوحي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من كتاب الله وسنة رسوله محمد (عن أن تكون مصدراً للهداية والنور والعلم والمعرفة للبشرية كلها في كل زمان ومكان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) يراجع في ذلك: د/ محمد الجليند: نظرية المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان، ص 34-3، الطبعة الأولى، 1984م.(10/463)
وهذا أمر في غاية الخطورة، وقد ظهر أثره عند كثير من المتكلمين المنتسبين للإسلام حيث تجرءوا وتبجحوا فجعلوا دعاوى أفكارهم، ومزاعم أذهانهم، مما يسمونه بالأدلة العقلية والتي يصفونها بأنها القواطع العقلية؛ تعارض ما أسموه بالظواهر السمعية، ويعنون بها أدلة القرآن العظيم والسنة، ولم يكتفوا بذلك بل قدموا قواطعهم العقلية المزعومة على نصوص الوحي المعصوم من الكتاب والسنة عند ذلك التعارض المزعوم.
ثانياً: علاقة القياس المنطقي بالمنطق اليوناني ومنزلته فيه:
الكلام عن القياس المنطقي إنما يمثل الكلام عن أهم مباحث المنطق اليوناني المعروف بمنطق أرسطو طاليس.
فالقياس هو الجزء الجوهري من منطق أرسطو (1) .
يقول ابن خلدون في مقدمته عن أرسطو واضع علم المنطق: "وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى (الأورجانون) ومعناه بالعربية الإله، وهو يشتمل على ثمانية كتب: أربعة منها في صور القياس وأربعة في مادته.
وذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء: فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه، ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن، وهو على مراتب. فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده، وما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون؟ من العلم، أو من الظن، وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص، بل من جهة إنتاجه خاصة، ويقال للنظر الأول؛ إنه من حيث المادة، ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن.
ويقال للنظر الثاني؛ إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق، فكانت لذلك كتب المنطق الثمانية:
الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات، وهي التي ليس فوقها جنس، ويسمى: كتاب المقولات.
والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها، ويسمى كتاب العبارة.
__________
(1) ... د/ علي سامي النشار: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص55، الطبعة الثانية، نشر دار المعارف 1967م.(10/464)
والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق، ويسمى كتاب القياس، وهذا آخر النظر من حيث الصورة.
ثم الرابع: كتاب البرهان، وهو النظر في القياس المنتج لليقين، وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية، ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه؛ مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المُعرِّفات والحدود، إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا تحتمل غيرها، فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب.
والخامس: كتاب الجدل، وهو القياس المفيد قطع المشاغب، وإفحام الخصم، وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات. ويختص أيضاً من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى، من حيث إفادته لهذا الغرض، وهي مذكورة هناك.
وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه وفيه عكوس القضايا.
والسادس: كتاب السفسطة، وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق، ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد.
وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه.
والسابع: كتاب الخطابة، وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم، وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.
والثامن: كتاب الشعر، وهو القياس الذي يفيد التمثيل، والتشبيه خاصة، للإقبال على الشيء، أو النفرة عنه، وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية.
هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين" (1) .
قلت: فهذا النص الطويل من كلام العلامة ابن خلدون يبين العلاقة الوثيقة بين المنطق والقياس؛ فالمقصود من المنطق كله الحد والقياس. والقياس هو المطلوب الأعظم.
الفصل الأول: المنطق اليوناني وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مقدمة منطقية
المبحث الثاني: التصورات
المبحث الثالث: التصديقات
توطئة:
__________
(1) ... عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، ج3، ص 1138-1139، الطبعة الثالثة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، تحقيق د/ علي عبد الواحد وافي.(10/465)
من خلال العديد من الكتابات والدراسات التي تناولت المنطق اليوناني في القديم والحديث بالبحث والدراسة، سوف أختار طريقة ميسرة وموجزة لعرض مباحث المنطق بحيث اقتصر على أشهر مسائله دون الدخول في تفصيلات وخلافات لا طائل من ورائها، لا سيما وأن المنطق كله –المتفق عليه منه بين أهله والمختلف فيه- لا يكاد ينتفع به في قليل أو كثير.
فيما فيه من حق - والنزر اليسير- الناس في غنى عنه إذ إنه فطري لا يحتاج إلى دراسة نظرية.
وما فيه من باطل وهو الأكثر فيما أغنانا عنه.
وبناء على ذلك فسوف ينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مقدمة منطقية:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أنواع العلم الحادث.
المطلب الثاني: المفهوم والمقاصد.
المطلب الثالث: مباحث الألفاظ من حيث صلتها بالمعاني والدلالات.
المبحث الثاني: التصورات:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مبادئ التصورات وهي الكليات الخمس.
المطلب الثاني: مقاصد التصورات وهو التعريفات والحدود.
المبحث الثالث: التصديقات.
ويلاحظ أنه نظراً لضيق مجال الاجتهاد في المنطق مع كثرة الكتب والدراسات التي تناولته بالبحث والعرض فإن عامة هذه الكتب متشابهة والفروق بينها ليست ذات شأن.
المبحث الأول: مقدمة منطقية
المطلب الأول: أنواع العلم الحادث
المقصود بالعلم الحادث: علم المخلوقين لأن الكلام فيه احترازٌ عن علم الله تعالى، فإنه لا يوصف بصفات علم المخلوقين، والعلم ينقسم بحسب تحصيله في الذهن إلى تصور وتصديق.
أولاً: التصور: وهو إدراك الماهية من غير أن نحكم عليها بنفي أو إثبات (1) ، أو هو الإدراك الخالي عن الحكم (2) .
__________
(1) ... معالم أصول الدين للرازي، ص 21، شرح المقاصد، ج1، ص 218. وانظر في جميعها التعريفات للجرجاني.
(2) ... تسهيل المنطق، ص 9، عبد الكريم الأثري.(10/466)
أي: بمعنى إدراك الذهن لمعنى المفرد من غير تعرض لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه، فهو تصور عقلي فقط مجرداً عن أي نسبة مضافة إليه صدقاً أو كذباً.
مثال ذلك: إدراك معنى الشمس أو الفرس أو الإنسان، أو إدراك معنى اللذة أو الألم، أو معنى المرارة، ومعنى الحلاوة، ونحو ذلك.
فالتصور: هو فهم المعنى المراد به ذلك المفرد كما في الأمثلة السابقة ونحوها دون تعرض لإثبات شيء له، ولا لنفيه عنه. وكأن صورة المفرد تنطبق في الذهن لإدراك المتصور لمعناها.
والإدراك في الاصطلاح: هو وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وصلت إليه لا تمامه فهو المسمى في الاصطلاح بالشعور.
ثانياً: التصديق: هو أن تحكم عليه بالنفي أو الإثبات (1) ، أو هو علم إدراك الماهية مع الحكم عليها بالنفي أو الإثبات (2) ، أي إثبات أمر لأمر بالفعل، أو نفيه عنه بالفعل، وهو إدراك الذهن للعلاقة القائمة بين موضوع ومحمول على سبيل النفي أو الإثبات.
مثال ذلك: الكاتب إنسان.
فإدراك معنى الكاتب فقط: علم تصور.
وإدراك معنى الإنسان فقط: علم تصور.
وإدراك النسبة بين التصورين دون الحكم بوقوعها أو عدم وقوعها: علم تصور.
وأما التصديق: فهو إدراك وقوع النسبة بالفعل، وهو إدراك كون الإنسان كاتباً بالفعل.
ويلاحظ أن تسميته جاءت من أن التصديق إما جازم أو لا، والجازم إما بغير دليل - وهو التقليد - وإما بدليل؛ فهو إما أن يقبل متعلقه النقيض بوجه وهو الاعتقاد أولاً، وهو العلم (3) . إذن التصديق خبر، والخبر بالنظر إلى ذاته يحتمل التصديق والتكذيب، فسموه بأشرف الاحتمالين.
ويلاحظ أيضاً أن الوصول إلى التصديق لا بد فيه من أربع تصورات (4) :
تصور المحكوم عليه: وهو الموضوع.
تصور المحكوم به: وهو المحمول.
__________
(1) ... معالم أصول الدين للرازي، ص 21.
(2) ... شرح المقاصد، ج1، ص 218. وانظر تسهيل المنطق، ص 9.
(3) ... كشاف اصطلاحات الفنون، ج4، ص 263.
(4) ... شرح إيضاح المبهم، ص 36.(10/467)
تصور النسبة الحكمية من غير حكم بوقوعها أو عدم وقوعها.
تصور وقوع النسبة الحكمية بالفعل أو عدم وقوعها.
ويلاحظ أن الموضوع في اصطلاح المنطقيين هو المعروف في المعاني بالمسند إليه وفي النحو بالمبتدأ أو الفاعل أو نائب الفاعل.
والمحمول في اصطلاحهم هو المعروف في المعاني بالمسند، وفي النحو بالخبر أو الفعل، وإنما سمي الموضوع موضوعاً لأن المحمول صفة من صفات الموضوع أو فعل من أفعاله. والصفة لا بد لها من موصوف، والفعل لا بد له من فاعل.
فالأساس الذي وضع لإمكان إثبات الصفات أو نفيها هو المحكوم عليه. ولذا سمي موضوعاً كالأساس للبنيان، وسمي الآخر محمولاً لأنه كسقف البنيان لا بد له من أساس يبنى عليه.
مثال: لو قلت: (زيد عالم) أو (زيد ضارب) ، فالعلم صفة زيد والضرب فعله، ولا يمكن أن توجد صفة بدون موصوف، ولا فعل بدون فاعل، فصار المحكوم عليه كأنه وضع أساساً للحكم فسمي موضوعاً، وسمي ما يسند إليه من صفات وأفعال محمولاً، لأنها لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من أساس تحمل عليه.
ويلاحظ أن كلاً من التصور والتصديق ينقسم إلى بدهي وكسبي.
فالبدهي: هو ما لا يحتاج إدراكه إلى تأمل.
والكسبي: ما يحتاج إدراكه إلى التأمل.
فالتصور البدهي: كتصور معنى الواحد ومعنى الاثنين.
والتصديق البدهي: كإدراك أن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.
والتصور الكسبي: مثّل له بعضهم بتصور الملائكة والجنة، ومن أمثلته: تشخيص الطبيب لعين المريض؛ فهو تصور له بعد بحث وتأمل ونظر.
والتصديق الكسبي: كقولك: الواحد نصف سدس الاثني عشر، وربع عشر الأربعين (1) .
المطلب الثاني: المفهوم والماصدق:
__________
(1) ... معالم أصول الدين، ص 20 (بتصرف) . وانظر تسهيل المنطق، ص 9.(10/468)
كل اسم أو حد إما أن يشير إلى موضوع أو موضوعات معينة، وإما أن يشير إلى صفة أو صفات يحتويها ذلك الموضوع أو تلك الموضوعات. والأشياء أو الموضوعات التي يشير إليها الاسم أو الحد تسمى بالماصدق. أما الصفات أو الكيفيات فتسمى بالمفهوم (1) .
يطلق لفظ المفهوم في إصلاح المناطقة، ويراد به مجموعة الصفات والخصائص الذهنية التي يثيرها اللفظ في ذهن السامع والقارئ، أي: هو ما يفهم من اللفظ، أي: معناه.
أما الماصدق: فهو المسميات الخارجية التي يصدق عليها اللفظ، أي: أنه يدل على الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ، وهي الأشياء التي جاء هذا اللفظ ليسميها.
أو بعبارة أخرى: الماصدق يطلق على الأفراد المندرجة تحت مفهوم اللفظ، فلكل اسم أو حد إذن ناحيتان:
أ- ناحية الماصدق:
أي ناحية الإشارة إلى أفراد أو أشياء يتحقق فيهم أو يصدق عليهم اللفظ.
ب- ناحية المفهوم:
أي مجموعة الصفات والخصائص الذهنية التي تحمل على هؤلاء الأفراد.
مثال ذلك: لفظ (معدن) فيه جانبان:
أحدهما: يدل على ذاتية المعدن أو صفاته الجوهرية التي منها تتقوم حقيقته وتتميز عن غيرها؛ وذلك جانب المفهوم؛ وهو أنه موصل جيد للحرارة والكهرباء، سهل الطَرْق والتشكيل.
وثانيهما: يدل على الأفراد أو الجزئيات التي تندرج تحت هذا المفهوم، وذلك جانب الماصدق. وهو في هذا المثال: الحديد والنحاس والرصاص والذهب… الخ.
ويلاحظ أنه يوجد نوع من العلاقة العكسية بين المفهوم والماصدق؛ فكلما زادت خصائص المفهوم قلت أفراد الماصدق، وكلما قلت خصائص المفهوم زادت عدد الماصدق (2) .
المطلب الثالث: مباحث الألفاظ من حيث صلتها بالمعاني والدلالات
المباحث: جمع مبحث، وهم اسم مكان بمعنى مكان البحث، والبحث: هو الفحص والتفتيش عن الألفاظ من حيث التركيب والإفراد ونحو ذلك كالكلية والجزئية… الخ.
__________
(1) ... مقدمات في الفلسفة، ص 65، علي عبد المعطي محمد.
(2) ... نقل بتصرف من مقدمات في الفلسفة، ص 69.(10/469)
أولاً: تقسم اللفظ من حيث الأفراد والتركيب:
الألفاظ الدالة على معان إما أن تكون مفردة أو مركبة:
اللفظ المفرد: وهو ما لا يقصد بجزئه الدلالة على جزء معناه (1) . أو: (ما لا يدل جزؤه على جزء معناه) (2) . وينقسم إلى الأسماء والأفعال والحروف.
فإنه إن دل بذاته دلالة مطلقة مجردة عن الزمان فهو الاسم، وإن دل بذاته دلالة مقترنة بأحد الأزمنة الثلاثة فهو الفعل، وإن توقفت دلالته على اقترانه بغيره فهو الحرف.
اللفظ المركب: (وهو ما قصد بجزء اللفظ الدلالة على جزء المعنى) (3) ، والمركب هو: (ما يدل جزئه على جزء معناه) (4) دلالة مقصودة خالصة. فخرج بقولهم: (ما دل جزؤه) ما لا جزء له أصلاً كباء الجر ولامه، وماله جزء لا دلالة له على شيء كبعض حروف زيد.
وخرج بقولهم: (على جزء معناه) : ما له جزء وله دلالة؛ ولكن لا على جزء معناه كأبكم، فإن نصف الأول وهو (الأب) يدل على ذات متصف بالأبوة، ونصفه الأخير وهو (كم) يدل على سؤال عن عدد، ولكن ليس واحدٌ منهما يدل على جزء المعنى المقصود بالأبكم.
وخرج بقولهم: (مقصودة) العلم الإضافي؛ كعبد الله، فإن جزءه الأول يدل على العبد، والثاني يدل على الخالق جل وعلا، ولكن هذه الدلالة ليست مقصودة؛ لأن المقصود جعل اللفظين علماً للشخص معيناً له عن غيره من الأشخاص.
وخرج بقولهم: (خالصة) : ما لو قصد في تسمية الإنسان بعبد الله مثلاً أنه متصف بالعبودية لله، فإن دلالة جزء اللفظ على جزء المعنى حينئذ مقصودة لكنها غير خالصة من شائبة العلمية.
ثانياً: تقسيم اللفظ من حيث عموم المعنى وخصوصه:
تنقسم الألفاظ من حيث ما تدل عليه من المعاني إلى نوعين:
أصلي الدلالة:
وهو ما كان مستعملاً للدلالة على المعاني التي وضعت لها في الأصل.
__________
(1) ... تسيل المنطق، ص 14.
(2) شرح إيضاح المبهم في معاني السلم، ص 43.
(3) تسهيل المنطق، ص 14.
(4) ... معيار العلم في فن المنطق (بتصرف) ص 62.(10/470)
ومثاله: لفظ الأسد حين يطلق على الحيوان المعروف، والغالب لهذا النوع من الأسماء أن يدل على المعنى الواحد باسم واحد، فإن دل على المعنى الواحد بأسماء كثيرة فإنها تسمى مترادفة، وذلك كدلالة الليث والأسد والغضنفر على نفس الحيوان المعروف (1) .
2- مغير الدلالة:
وتغير الدلالة إما أن يكون على سبيل النقل أو على سبيل المجاز والاستعارة أو على سبيل الاشتقاق.
واللفظ سواء كان مستعملاً في معناه الأصلي أو في غيره ينقسم بحسب عموم المعنى وخصوصه إلى قسمين (2) :
القسم الأول: جزئي:
"وهو ما يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه" (3) ، فالذهن حين يتصوره لا يستطيع أن يجعل دلالته لأكثر من واحد.
مثاله: زيد وغيره من أسماء الأعلام والمدن والجبال ونحوها، فمعنى كل منها خاص به فحسب.
القسم الثاني: كلي:
"وهو ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه" (4) ، فالذهن يصح له من مجرد تصوره أن يجعل معناه صادقاً على الكثيرين.
مثاله: الإنسان والحيوان والشجر ونحوها من كل ما يصح أن يصدق معناه على الكثيرين.
ويلاحظ أن الكلي ينقسم باعتبار استواء معناه في أفراده وتفاوته فيها إلى متواطئ ومشكك.
فالمتواطئ: (وهو اتحاد المعنى في أفراد) (5) ، وهو أي أفراده:- (هي التي تدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها) (6) ، وقيل: هو الكلي الذي استوى أفراده في معناه.
مثاله: الإنسان والرجل والمرأة.
فإن حقيقة الإنسانية والذكورة والأنوثة مستوية في جميع الأفراد، وإنما التفاضل بينها بأمور أُخر زائدة على مطلق الماهية.
__________
(1) ... نفس المصدر السابق.
(2) ... شرح إيضاح المبهم في معاني السلم، ص 44.
(3) ... نفس المرجع السابق.
(4) ... نفس المرجع السابق.
(5) ... نفس المرجع السابق.
(6) ... شرح إيضاح المبهم، ص 48.(10/471)
والمشكك: (هو ما اختلف في أفراده بالشدة والضعف) (1) ، وقيل: هو الكلي الذي تتفاوت أفراده في معناه بالقوة والضعف (2) .
مثاله: النور والبياض.
فالنور في الشمس أقوى منه في السراج والبياض في الثلج أقوى منه في العاج.
ويلاحظ أيضاً أن الكلي ينقسم باعتبار تعدد مسماه وعدم تعدده إلى مشترك ومنفرد:
فالمشترك: (هو ما اتحد منه اللفظ وتعدد المعنى) (3) ، وقيل: (اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة بالحد والحقيقة إطلاقاً متساوياً) (4) .
مثال: العين للباصرة والجارية، والقرء للطهر والحيض.
والمنفرد: أن يكون للكلي مسمى واحد.
مثال: الإنسان والحيوان ونحو ذلك.
فالحقيقة الذهنية التي هي مسمى اللفظ واحدة، وإنما التعدد في الأفراد الخارجية.
وينقسم الكلي أيضاً باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدم وجودها فيه إلى ستة أقسام:
كلي لم يوجد من أفراده فرد واحد في الخارج مع أن وجود فرد منها مستحيل عقلاً.
مثاله: الجمع بين الضدين.
كلي لم يوجد من أفراده فرد واحد في الخارج مع جواز وجوده عقلاً.
مثاله: بحر من زئبق وجبل من ياقوت.
كلي وجد منه فرد واحد مع استحالة وجود غيره من الأفراد عقلاً.
مثاله: الإله الحق خالق كل شيء ورب كل شيء والقادر على كل شيء.
كلي وجد منه فرد واحد مع جواز وجود غيره من الأفراد عقلاً. هذا ما أثبت وجوده العلماء اليوم.
مثاله: الشمس.
كلي وجدت منه أفراد كثيرة ولكنها متناهية.
مثاله: الإنسان والحيوان.
كلي وجدت منه أفراد كثيرة وغير متناهية.
مثاله: العدد (5) .
ثالثاً: النظر إلى اللفظ بحسب دلالته على المعنى:
يعرف هذا البحث عند المناطقة باسم مبحث الدلالة، والمقصود عندهم منه هو دلالة اللفظ وضعاً.
__________
(1) ... معيار العلم.
(2) ... شرح إيضاح المبهم، ص 48.
(3) ... معيار العلم، ص 52.
(4) ... تسهيل المنطق، ص 16.
(5) ... شرح إيضاح المبهم في معاني السلم، ص 40. وانظر معيار العلم ص 42.(10/472)
والوضع في الاصطلاح: هو تعيين أمر للدلالة على أمر، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: المطابقة والتضمن والالتزام.
دلالة المطابقة:
وهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الموضوع له اللفظ (1) .
مثاله: دلالة الرجل على الإنسان الذكر، ودلالة المرأة على الإنسان الأنثى.
دلالة التضمن:
(وهي دلالة اللفظ على جزء من أجزاء المعنى المتضمن له) (2) ، ولا تكون إلا في المعاني المركبة.
مثاله: دلالة لفظ إنسان على الحيوان أو على الناطق ودلالة البيت على الجدران أو على السقف.
دلالة الإلتزام:
(وهي دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له لزوماً ذهنياً بحيث يلزم من فهم المعنى المطابقي فهم ذلك الخارج اللازم) (3) .
مثاله: دلالة الأربعة على الزوجية، والزوجية في الاصطلاح: هي الانقسام إلى متساويين، ودلالة لفظ السقف على الجدار.
ويلاحظ أن هذا النوع من الدلالة يشترط فيه وضوح اللزوم الذهني بين اللفظ وما يلازمه.
رابعاً: تقسيم الألفاظ بحسب علاقة معانيها بالماهيات:
اللفظ الكلي ينقسم بحسب وظيفة معناه في تحديد ماهية الشيء الموصوف به إلى قسمين:
كلي ذاتي: (أن يكون داخلها في الذات بأن يكون جزءاً من المعنى المدلول للفظه) (4) ، وهو يكون معناه جزءاً أساسياً من ذات الموصوف به، أي: أن معناه يعتبر مقوماً له وجزءاً من حقيقته وجوهره، ويشمل الجنس والنوع والفصل؛ كالحيوان الناطق بالنسبة للإنسان.
كلي عرضي: (أن يكون خارجاً عن الذات بأن لم يكن جزء من المعنى المدلول للفظه) (5) ، وهو الذي يمثل معناه صفة عارضة لذات الموصوف، أي ليس عنصراً تلتئم منه ذاتيته، وإنما هو عارض له بعد تقويمه، وشمل العرض الخاص (الخاصة) والعرض العام. كالماشي والضاحك بالنسبة للإنسان.
__________
(1) ... شرح إيضاح المبهم في معاني السلم، ص 41. وانظر معيار العلم ص 43.
(2) ... نفس المرجع السابق.
(3) ... شرح إيضاح المبهم، ص 46.
(4) ... نفس المرجع السابق.
(5) ... التعريفات للجرجاني، ص 164.(10/473)
وبهذا نصل إلى الكلام عن الكليات الخمس:
الجنس والنوع والفصل والعرض الخاص والعرض العام. والتي تمثل مبادئ التصورات، وهي وأمثلتها موضوع المبحث التالي.
المبحث الثاني: التصورات
المطلب الأول: مبادئ التصورات
سبق أن تبين أن اللفظ الكلي ينقسم بحسب وظيفة معناه في تحديد ماهية الشيء الموصوف إلى قسمين:
الذاتي: (هو الذي يدخل في حقيقة جزئياته كالحيوان بالنسبة للإنسان) (1) ، وهو الذي يمثل معناه صفة عارضة لذات الموصوف، وهو ما يمثل الجواب عن السؤال بلفظة "أي" التي يسأل بها عن ما يميز المسئول عنه، ويفصله عما يشاركه ذاتياً كان أو عرضياً، والجواب ينحصر إما في العرض الخاص، أو العرض العام.
وبذلك يصل البحث إلى الكيات الخمس التي هي أقسام الذاتي والعرض، وتفصيلها على النحو التالي:
الجنس:
المقصود بالجنس عند أهل المنطق: قول كلي يقال على كثيرين مختلفين في الحقيقة يقع في جواب ما هو (2) . أو هو المحمول على كثيرين مختلفين بالنوع من طريق ما هو. أو هو جزء الماهية الذي هو أعم منها لصدقه عليها وعلى غيرها.
مثاله: لفظ الحيوان.
فإنه يطلق على الإنسان والفرس والثور، فإن حقيقة كل من الإنسان والفرس والثور تختلف عن الآخر، ولكن يجمعها كلها أنها تندرج تحت كلمة حيوان لأنه جنسها.
ويلاحظ أن الحيوان-في هذا المثال- هو جزء من ماهية الإنسان لأن الإنسان- على قول أهل المنطق- مركب من حيوان ناطق فالحيوان جزء ماهيته الصادق بها، وكذلك الفرس والثور ونحوها.
2- النوع:
قول كلي يقال على كثيرين متفقين في الحقيقة (3) مختلفين في العدد واقع في جواب ما هو، وهو ما يترتب تحت الجنس، أو هو الكلي الذي هو تمام ماهية أفراده.
__________
(1) ... نفس المرجع السابق.
(2) ... انظر شرح إيضاح المبهم، ص 54. وتسهيل المنطق، ص 27.
(3) ... انظر شرح إيضاح المبهم، ص 54. وتسهيل المنطق، ص 32.(10/474)
مثاله: زيد وعمرو وبكر وخالد وهند. فقولك: ما هو زيد؟ وما هو عمرو؟ وما هو بكر؟ وما هو خالد؟ وما هي هند؟ الكلمة التي تحمل على الجميع هي النوع؟ فجواب ذلك أن تقول: الإنسان لأنه القدر المشترك بين الأفراد. فالإنسان نوع، فهم متفقون في الحقيقة الإنسانية ولكن يختلف كل شخص منهم عن الآخر. ويلاحظ أن كلاً من الجنس والنوع يقع في جواب"ما هو" غير أن الجنس يطلق على كثيرين مختلفين في الحقيقة، والنوع يطلق على كثرين متفقين في الحقيقة؛ فالجنس أعم من النوع لأنه يشتمل على أنواع كثيرة.
ويلاحظ أيضاً أن الجنس قد يكون نوعاً لجنس أعلى منه مثل الحيوان "نوع" بالنسبة للجسم "جنساً"، فإن الجسم أعم من الحيوان حيث يشتمل عليه وعلى غيره كالجمادات ونحوها، وهذا الاعتبار يكون الجنس نوعاً لما هو أعلى منه وجنساً لما هو أخص منه، فإن الحيوان جنس للإنسان والفرس ونوع للجسم، وهكذا حتى ينتهي الأمر في الارتقاء وإلى جنس واحد لا جنس فوقه، يسمى جنس الأجناس، وينتهي الأمر في الانحطاط إلى نوع لا نوع بعده يسمى نوع الأنواع. كيف يعتبر أصغر الأنواع نوع الأنواع؟ وإنما الذي يعتبر أكبرها هو نوع الأنواع.
الفصل: وهو القسم الثالث للذاتي:
وهو كلي مقول على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب أي شيء هو في ذاته (1) ، فهو يمثل صفة أو صفات ذاتية تفصل نوعاً عن غره من الأنواع المشتركة معه في جنس واحد، وذلك كلفظ الناطق الذي يحمل على الإنسان فيفصله عن الفرس والثور اللذين يشتركان معه في الجنس وهو الحيوانية.
ويلاحظ أن الفصل بالنسبة للنوع مقوم له، وبالنسبة للجنس مقسم له؛ فالناطق
في المثال السابق داخل في تعريف الإنسان الذي هو النوع مقوم له، وفي نفس الوقت قسم من أقسام الجنس الذي هو الحيوان.
ويلاحظ أن هذه الأقسام الثلاثة من الكليات من قبيل الذاتي.
العرض الخاص (الخاصة) :
__________
(1) ... انظر تسهيل المنطق، ص 33.(10/475)
كلى خارج عن الماهية مختص بها، وعى خاصا لأنه يختص بنوع واحد فقط من أنواع الجنس ويميزه عن غيره من الأنواع الأخرى (1) .
مثل: ضاحك بالنسبة لنوع الإنسان؛ فإنه يميزه عن بقية أنواع جنسه كالفرس والثور مثلا، وسواء وجدت صفة الضحك في كل أفراد الإنسان أم لا فإنها تميز الإنسان عن غيره وتختص به هو، وكذلك صفة الكاتب والقارئ مع أنها تختص ببعض أفراد النوع- إذ ليس كل إنسان قارئاً أو كاتبا- فإنها خاصة به دون غيره.
العرض العام:
هو الكلي الخارج عن الماهية الشامل لها ولغيرها، وعي عاما لأنه يعم أكثر في نوع واحد سواء وصفت به جملة النوع (2) كصفة البياض بالنسبة للقطن والثلج واللبن، أو وصفت به بعض أشخاص النوع كالحركة بالنسبة للنبات والفرس والإنسان.
ويلاحظ أن معنى لفظ العرض انه ليس جزءاً في الحقيقة ولكنه من لوازم النوع.
وبهذا القدر المختصر من الكلام عن الكليات الخمس ينتهي الكلام عن مبادئ التصورات ويأتي الكلام عن مقاصد التصورات وهي التعريفات والحدود والتي تعتبر الكليات الخمس بمثابة الأساس لها.
المطلب الثاني: مقاصد التصورات:
مقاصد التصورات هي التعريفات والحدود. وأهل المنطق يعتبرون مبحث التعريف بالحد والقياس البرهاني لب المنطق وجوهره، وما عدا هذين -أعني ما أصبح مشهوراً باسم القياس المنطقي والحد الأرسطي- فهو نوع متفرع عنهما أو مكمل لهما.
ويراد من التعريف للشيء، أن يكون ذلك التعريف جامعاً لجميع أفراد ذلك الشيء بحيث لا يخرج عنه فرد، وأن يكون مانعاً لكل ما سواها من الدخول فيها.
ويلاحظ أن التعريف للشيء يقوم على:
إدراج النوع تحت جنسه، سواء كان الجنس القريب أو البعيد.
تم تمييزه بصفة جوهرية فيه أو بخاصة من خواصه.
والتعريف ينقسم إلى قسمين:
التعريف بالحد والتعريف بالرسم.
وتفصيل الكلام فيهما على النحو التالي:
أولاً: التعريف بالحد:
__________
(1) ... إيضاح المبهم، ص 54.
(2) ... نفس المرجع السابق.(10/476)
المراد بالحد عند أهل اللغة هو المنع أو الفصل بين شيء وآخر. والمراد بالحد عند أهل المنطق هو: (القول الدال على ماهية الشيء) (1) ، وإنما يكون القول دالاً على ماهية الشيء إذا كان يجمع صفاته الذاتية واللازمة على وجه يتم به تحديده وتمييزه عن غيره، وسمي الحد حداً لأنه يمنع أفراد المحدود من الخروج، ويمنع غيرها من الدخول.
والتعريف بالحد ينقسم إلى ما يكون بالحد التام وما يكون بالحد الناقص، وتفصيل ذلك كالآتي:
أولاً: الحد التام:
هو ما يتركب من الجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق (2) . أي تعريف الماهية بذكر المقومات الذاتية المشتركة (الجنس) والمقومات الذاتية الخاصة (الفصل) أو على وجه الدقة يقال للتعريف بالحد التام: هو ما يكون بالجنس القريب والفصل.
مثال ذلك: تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.
فالجنس القريب: وهو مقومه الذاتي المشترك فيه مع غيره (حيوان) .
والفصل: وهو مقومه الذاتي الخاص به المميز له عن غيره (ناطق) .
ثانياً: الحد الناقص:
التعريف بالحد الناقص: (هو ما تألف من الجنس البعيد والفصل أو ما كان بالفصل وحد) (3) .
مثال ذلك: تعريف الإنسان بأنه جسم ناطق.
فكلمة (جسم) تمثل جنساً بعيداً للإنسان لا يدل على طبيعته على وجه الدقة.
وكلمة (ناطق) فصل مميز ذاتي يختص به وحده.
وعدم الدلالة على حقيقة المعرَّف وماهيته في ذلك المثال هو ما جعل ذلك التعريف من قبيل الحد الناقص.
وكذلك الحال إذا اكتفينا في التعريف بالفعل وحده.
ثانياً: التعريف بالرسم:
هو التعريف المؤلف من الصفات العرضية أو بعضها للشيء المعرَّف، ويسمى التعريف الوصفي أو التعريف بالرسم؛ لأنه يعرَّف الشيء بذكر خاصة من خواصه تميزه عن بقية الأشياء الأخرى، فالتعريف بالرسم: يرسم صورة ظاهرة للشيء دون الكشف عن حقيقته وماهيته.
__________
(1) ... التعريفات للجرجاني، ص 73.
(2) ... نفس المرجع السابق.
(3) ... انظر التعريفات، ص 74.(10/477)
والتعريف بالرسم ينقسم إلى التعريف بالرسم التام والتعريف بالرسم الناقص، والتفصيل كالآتي:
التعريف بالرسم التام:
وهو المؤلف من الجنس القريب والخاصة (1) ، أي من مميز ذاتي مشترك مع صفة ليست جزءاً من الماهية، لكنها لازمة لها، وهي خاصة.
مثال ذلك: تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك أو حيوان كاتب.
التعريف بالرسم الناقص:
هو التعريف المؤلف من الجنس البعيد والخاصة أو بالخاصة وحدها (2) .
مثال ذلك: تعريف الإنسان بأنه جسم كاتب أو جسم ضاحك.
فالجسم: جنس بعيد للإنسان، وكاتب -ومثلها ضاحك-: خاصة.
أو تعريف الإنسان بأنه ضاحك، فهذا تعريف بالخاصة وحدها.
شروط التعريف:
لكي يؤدي التعريف إلى الغاية المقصودة منه اشترط أهل المنطق له عدة شروط هي: الشرط (3) الأول: أن يكون التعريف بالحد التام المبين للماهية والكاشف عن الحقيقة.
الشرط الثاني: أن يكون التعريف جامعاً مانعاً، أي جامعاً لكل أفراد غيره، ومعنى ذلك أن التعريف لا بد أن يكون مساوياً للمعرف من جهة الماصدق.
فلا يكون أعم: أي أوسع مجالاً من المعرّف.
ولا يكون أخص: أي أضيق مجالاً من المعرّف.
الشرط الثالث: أن يكون التعريف أوضح من المعرّف في المعنى لكي تتحقق الفائدة المقصودة من التعريف.
مثال ذلك: تعريف الغضنفر بالأسد؛ لأن الأسد أظهر وأوضح عند السامع من الغضنفر، ولا يجوز أن يكون التعريف مساوياً للمعرّف في الظهور أو أخفى منه.
مثال الأول: تعريف الزوج بما ليس فرداً.
الشرط الرابع: أن لا يكون التعريف بما لا يعرف إلا بواسطة الشيء المعرّف؛ لأن ذلك يدخل فيما يعرف بالدور السبقي، وهو ممتنع.
__________
(1) ... التعريفات للجرجاني، ص 98.
(2) ... نفس المرجع السابق.
(3) ... الشرط لغة: إلزام الشيء. ويذهب الفقهاء إلى أن الشرط هو ما لا يتم الشيء إلا به. وعند الفلاسفة: الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء.(10/478)
مثال ذلك: تعريف الشمس بأنها كوكب يطلع نهاراً، فالنهار في الحقيقة إنما يعرف بطول الشمس وليس العكس.
ويلاحظ في هذا الشرط عدم جواز إدخال الأحكام في الحدود التي أساسها التصور؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
الشرط الخامس: أن لا يكون التعريف للشيء بنفسه، بمعنى تعريفه بمرادفه أو ببعضه.
مثال ذلك: تعريف الحركة بأنها هي النقلة، فالنقلة من أقسام الحركة، أو تعريف الزمان بأنه مدة الحركة؛ إذ المدة مرادفة للزمان (1) .
الشرط السادس: أن يكون التعريف خالياً من المجاز إلا مع قرينة تعين المقصود بالتعريف، وأن يكون خالياً من الألفاظ المستعارة والغريبة والوحشية، بل يجب أن تستعمل فيه الألفاظ الواضحة المعتادة (2) .
المبحث الثالث: التصديقات
مدخل:
تبين - مما سبق - أن التصور هو إدراك حقيقة الشيء وماهيته إدراكاً ذهنياً دون حكم عليه بصدق أو كذب.
وتبين أيضاً أن الطريق المعتمد لوصول إلى ذلك التصور عند أهل المنطق هو التعريف بالحد التام، وهو ما يعرف بالحد الأرسطي.
واشتهر عن أهل المنطق -سواء من تصريحهم أو من طريقة عرضهم لهذه المسائل وما تقتضيه- أنه لا يمكن الوصول إلى التصور النظري إلا بالحد الأرسطي.
وعلى كل حال، فالتصور يمثل الخطوة الأولى في العلوم التي ينبني عليها ما بعدها من التصديقات والاستدلالات.
وأما التصديق -كما سبق ذكره- فهو الحكم بالارتباط بين تصورين، فإذا جاء الحكم مطابقاً للواقع كان صادقاً، وإذا جاء مخالفاً للواقع كان كاذباً.
فإذا كان التصور لا يحكم فيه بصدق أو كذب، فإن التصديق لا يقوم إلا على حكم.
__________
(1) ... انظر: معيار العلم، ص 194. وانظر: إيضاح المبهم، ص 55-57. وانظر: المنطق المنظم في شرح الملوي على السلم، تأليف: عبد المتعال الصعيدي، ص 52-54، الطبعة الثانية بمطبعة السعادة بمصر.
(2) ... انظر المنطق المنظم نفس الصفحة.(10/479)
والحكم يحتاج في التعبير عنه إلى تركيب خبري يحتمل الصدق والكذب؛ هذا التركيب يسمى في المنطق "قضية".
هذه القضية وأقسامها وما يتعلق بها، سوف أتناولها تحت عنوان: مبادئ التصديقات.
ثم يأتي بعد ذلك الكلام عن الارتباط بين هذه "القضايا المنطقية" وصولاً إلى الاستدلال الذي يمثل المقصود الأعظم من فن المنطق كله، وهو ما أتناوله تحت عنوان: مكانة القياس المنطقي: (مقاصد التصديقات) ، وهو ما يمثل الفصل الثاني من القسم الثالث.
مبادئ التصديقات:
ومبادئ التصديقات هي القضايا المنطقية وأحكامها، والقضية المنطقية هي قول مؤلف يحكم فيه بنسبة شيء إلى شيء على سبيل الإيجاب أو السلب، ويسمى طرفاً للقضية حدين، وهما اللذان يحكم بنسبة أحدهما للآخر (1) .
وتتركب القضية المنطقية –كما سبق بيانه- من الموضوع والمحمول والرابطة بينهما:
أنواع القضايا:
تنقسم القضايا من حيث تركيبها إلى الحملية والشرطية كالآتي:
أولاً: القضية الحملية:
وهي التي يحكم بها بإثبات شيء بشيء أو نفي شيء عن شيء (2) .
وتنقسم القضية الحملية من حيث الكم إلى كلية وجزئية:
فالقضية الحملية الكلية: هي التي يكون الحكم فيها واقعاً على كل أفراد الموضوع.
والقضية الحملية الجزئية: هي التي يكون الحكم فيها واقعاً على بعض أفراد الموضوع.
وتنقسم القضية الحملية من حيث الكيف إلى موجبة وسالبة كالآتي:
القضية الحملية الموجبة: هي التي يكون الحكم فيها بإثبات شيء لشيء، بمعنى أن المحمول فيها يثبت صفة للموضوع.
والقضية الحملية السالبة: هي التي يكون الحكم فيها بنفي شيء عن شيء، بمعنى أن المحمول فيها يُنفى عن الموضوع.
السور في القضية الحملية:
المقصود عند أهل المنطق بكلمة "سور القضية" هو ما يدل على الكلية والجزئية فيها تشبيها له بالسور الذي يحيط بالمنزل.
__________
(1) ... انظر المعجم الفلسفي، 2/195 مادة: (قضية) .
(2) ... تسهيل المنطق، ص 37.(10/480)
وتعريف السور عند أهل المنطق: هو اللفظ الدال على إحاطة المحمول بجميع أفراد الموضوع أو بعضها إيجاباً وسلباً.
وبذلك ينقسم سور القضية الحملية إلى أربعة أقسام على النحو التالي:
سور كلي إيجابي: نحو (كل) و (عامة) وما شابه ذلك.
سور كلي سلبي: نحو (لا شيء) و (لا واحد) ونحوهما.
سور جزئي إيجابي: نحو (بعض) .
سور جزئي سلبي: نحو (بعض ليس) و (ليس بعض) .
والقضية الحملية لا بد لموضوعها من أ؛ د أمرين:
إما أن يكون كلياً، وإما أن يكون جزئياً.
فإن كان موضوعاً كلياً فله مع السور خمس حالات:
أن يُسوَّر بسور كلي إيجابي.
أن يسور بسور كلي سلبي.
أن يسور بسور جزئي إيجابي.
أن يسور بسور جزئي سلبي.
أن يهمل من السور.
وهذا القسم بمنزلة الجزئية.
فأقسام القضية الحملية التي موضوعها كلي أربعة في الحقيقة؛ لأن المهملة في قوة الجزئية.
وأما إن كان موضوعها جزئياً فهي التي تسمى شخصية ومخصوصة، ولها مع السور حالتان:
أن تكون موجبة: نحو (زيد قائم) .
أو تكون سالبة: نحو (زيد ليس بقائم) .
فتحصل أن القضية الحملية باعتبار الكيف والكم ستة أقسام:
كلية موجبة: مثال (كل إنسان حيوان) .
كلية سالبة: مثال (لا شيء من الإنسان بحجر) .
جزئية موجبة: مثال (بعض الحيوان إنسان) .
جزئية سالبة: مثال (بعض الحيوان ليس بإنسان) .
شخصية موجبة: مثال (زيد قائم) .
شخصية سالبة: مثال (زيد ليس بقائم) .
ثانياً: القضية الشرطية:
"ما تركبت من جزأين ربط أحدهما بالآخر بأداة شرط أو عناد.
مثال: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
والعدد إما زوج وإما فرد" (1) .
إذن تتألف القضية الشرطية من قضيتين حمليتين ترتبطان بأداة ربط معينة، تسمى القضية الأولى: "مقدم"، وتسمى القضية الثانية: "تالي".
وعلى أساس الأداة التي تربط بين المقدم والتالي يختلف نوع القضية الشرطية، فهي إما شرطية متصلة، وإما شرطية منفصلة.
__________
(1) ... شرح إيضاح المبهم، ص 63.(10/481)
ويلاحظ أن تسميتها بالشرطية تمييزاً لها عن القضية الحملية التي هي مطلقة؛ لأن الحكم فيها أطلق بلا شرط أو قيد.
أما القضايا الشرطية فإن الحكم فيها يتوقف على استيفاء شرط معين، فهي مشروطة بهذا الشرط.
ويلاحظ أيضاً أن القضية الحملية التي تدخل في تركيب القضية الشرطية ينتفي كونها قضية مستقلة بارتباطها بالقضية الأخرى؛ إذ إنها تصبح مجرد جزء من قضية أكبر، هي التي يقال عنها إما صادقة وإما كاذبة.
ويلاحظ أيضاً أن القضية الحملية يكون كل طرف من طرفيها مفرداً غير مركب، بينما القضية الشرطية -كما سبق- لا بد أن يكون كل من طرفيها مركباً، ولذلك تسمى القضية الحملية قضية بسيطة، وتسمى القضية الشرطية قضية مركبة. وتفصيل الكلام على نوعي القضية الشرطية على النحو التالي:
القضية الشرطية المتصلة: هي التي يكون الحكم فيها بتعليق أحد طرفيها على الآخر، وهي قضية تتكون من قضيتين حمليتين تربط بينهما واحدة من أدوات الشرط: "إن" و "إذا" و "كلما" ونحوها، وإنما سميت متصلة لاتصال طرفيها -أي مقدمها وتاليها- صدقاً ومعية.
صدقاً: لأنه يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت لازمه.
ومعية: لأنه يلزم من وجود مقدمها وجود تاليها معه في المصاحبة والوجود.
وتنقسم الشرطية المتصلة بحسب الكيف إلى:
شرطية متصلة موجبة: مثال: كلما كانت الشمس طالعة، كان النهار موجوداً.
شرطية متصلة سالبة: مثال: ليس كلما كانت الشمس طلعة، كان الليل موجوداً.
القضية الشرطية المنفصلة: وهي التي يكون الحكم فيها بالتنافي والعناء أو بسلبه بين طرفيها، وهي تتكون من قضيتين حمليتين بينهما رابطة تفيد معنى الفصل والمباعدة، وتتمثل هذه الرابطة في أداة "إما".
وتنقسم الشرطية المنفصلة أيضاً بحسب الكيف إلى:
شرطية منفصلة موجبة: مثال: هذه الزاوية إما حادة وإما منفرجة.
شرطية منفصلة سالبة: مثال: ليس إما أن يكون هذا العدد زوجاً وإما منقسماً بمتساويين.
السور في القضية الشرطية:(10/482)
أولاً: سور القضية الشرطية المتصلة:
هي كل لفظ يدل على الحكم بالمتلازم أو بعدمه في كل الأحوال والأزمان أو بعض الأحوال والأزمان، وعلى ذلك يتنوع بحسب نوع القضية.
فإن كانت الشرطية كلية موجبة: كان سورها يدل على الكم بالتلازم بين المقدم التالي في جميع الأحوال والأزمان كلفظ: كلما، ومهما، ومتى.
مثال ذلك: كلما كثر مال المرء زاد حبه للمال.
وإن كانت كلية سالبة: كان سورها هو اللفظ الدال على سلب التلازم بين المقدم والتالي في جميع الأحوال والأزمان، وهو "ليس البتة" و "ليس أبداً".
مثال: ليس البتة إذا كان الماء بخاراً كان أثقل من الهواء.
وإن كانت جزئية موجبة: كان سورها يفيد الحكم بالتلازم بين مقدمها وتاليها في بعض الأحوال والأزمان.
ويستعمل لذلك اللفظ "قد يكون".
مثال ذلك: وقد يكون إذا كان الطالب مجداً في دروسه كان ناجحاً في الامتحان.
وإن كانت الشرطية المتصلة جزئية سالبة: كان السور ما يدل على رفع التلازم بين طرفيها في بعض الأحوال والأزمان، ويستعمل لذلك "قد لا يكون" و "ليس كلما".
مثال ذلك: قد لا يكون إذا كان الطالب مجتهداً كان ناجحاً.
ثانياً: سور الشرطية المنفصلة:
يتنوع كذلك سور القضية المنفصلة بحسب أنواعها:
فإن كانت كلية موجبة؛ كان سورها اللفظ الدال على التنافي والتعاند بين طرفيها في جميع الأحوال والأزمان، وهو: "دائماً".
مثال: دائماً إما أن يكون الجو حاراً وإما أن يكون بارداً.
وإن كانت كلية سالبة: كان السور فيها ما دل على سلب التنافي والعناد بين طرفيها في جميع الأحوال والأزمان، ويدل على ذلك باللفظ: "ليس البتة".
مثال: ليس البتة إما أن يكون العدد فرداً أو غير قابل للقسمة على اثنين.
وإن كانت جزئية موجبة: كان السور ما دل على العناد بين المقدم والتالي في بعض الأحوال أو الأزمان، ويدل على ذلك باللفظ: "قد يكون".
مثال: قد يكون إما أن يكون الشيء نامياً وإما أن يكون جماداً.(10/483)
وإن كانت جزئية سالبة: كان سورها اللفظ الدال على سلب العناد بين مقدمها وتاليها في بعض الأحوال والأزمان، واللفظ الدال على سلب العناد بين مقدمها وتاليها في بعض الأحوال والأزمان المستعمل لذلك: " قد لا يكون" و "وليس دائماً".
مثال: قد لا يكون إما أن يكون الشيء حيواناً وإما أن يكون إنساناً.
الفصل الثاني: مكانة القياس المنطقي (مقاصد التصديقات) وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف القياس
المبحث الثاني: أشكال القياس
المبحث الثالث: شروط انتاج القياس
مدخل في مقاصد التصديقات:
مقاصد التصديقات هي القياس المنطقي، وهو المقصود الأصلي من فن المنطق اليوناي، وهو الجزء الجوهري من المنطق اليوناني، وهو العمدة عند أهل المنطق تحصيل المطالب التصديقية التي هي أشرف من التصورية.
وإذا كان القياس عند أهل المنطق: "هو قول مؤلف من قضيتين أو أكثر يستلزم قضية أخرى"، فإن هذا يبين أن القضايا المنطقية هي الأساس الذي ينبني عليه القياس المنطقي، والقضية المنطقية هي التركيب الخبري الذي يحتمل الصدق والكذب فهي التصديق.
والتصديق أساسه التصور والتصور لا يعرف-عند المناطقة- إلا بالتعريف بالحد التام، والحد التام يعتمد على مباحث الألفاظ وعلاقاتها بالمعاني والدلالات توصلاً إلى الكليات الخمس أساس التعريف كله.
وهكذا يتبين للباحث أن كل مسائل المنطق إنما سيقت وصيغت للوصول إلى القياس المنطقي الذي يمثل الركن الرئيسي من أركان المنطق اليوناني، وقد سبقت الإشارة إلى هذه العلاقة بين القياس المنطقي والمنطق اليوناني لبيان مكانته ومنزلته منه في مقدمة البحث.
والكلام عن القياس المنطقي يتمثل في الكلام عن تعريف القياس وأشكال القياس وشروط الإنتاج في القياس الاقتراني الحملي على التفصيل التالي:
المبحث الأول: تعريف القياس(10/484)
تعريف القياس عند أهل المنطق هو قول مؤلف من أقوال إذا صحت لزم عنها بذاتها لا بالغرض قول آخر غيرها اضطرار (1)
__________
(1) ... النجاة لابن سينا، ص 47، وانظر أيضاً إيضاح المبهم، ص 71.
المصادر والمراجع
المؤلف
اسم الكتاب
محمد بن إسماعيل البخاري
صحيح البخاري
مسلم بن الحجاج النيسابوري
صحيح مسلم
محمد بن محمد الغزالي
الإمتاع والمؤانسة
عبد الكريم بن مراد الأثري
تسهيل المنطق
محمد بن محمد بن علي الجرجاني
التعريفات
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
التقريب لحد المنطق والمدخل إليه
حسن الشافعي
التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
الرد على المنطقيين
عبد المتعال الصعيدي
شرح إيضاح المبهم في معالم السلم
مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني
شرح المقاصد
أبو عمر بن الصلاح
فتاوى ابن الصلاح
علي بن أ؛ مد بن سعيد بن حزم
الفصل في الملل والأهواء والنحل
محمد بن محمد الغزالي
القسطاس المستقيم
محمد بن علي بن محمد التهانوي
كشاف اصطلاحات الفنون
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد قاسم
مجموع الفتاوى
محمد بن محمد الغزالي
محك النظر
محمد بن محمد الغزالي
معالم أصول الدين
محمد بن محمد الغزالي
المستصفى
اشترك في تأليفه مجموعة
المعجم الفلسفي
محمد بن محمد الغزالي
معيار العلم في فن المنطق
علي عبد المعطي
مقدمات في الفلسفة
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون
مقدمة بن خلدون
علي سامي النشار
مناهج البحث عند مفكري الإسلام
محمد مهران
المنطق والموازين القرآنية
عبد الكريم بن مراد الأثري
تسهيل المنطق
عبد المتعال الصعيدي
المنطق المنظم في شرح الملوي على السلم
أبي علي بن سينا
النجاة
محمد الجليند
نظرية المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان
محمد بن محمد الغزالي
المنقذ من الضلال
محمد سليمان داود
نظرية القياس الأصولي(10/485)
، وقيل أنه: قول مؤلف من قضيتين –أو أكثر- يستلزم لذاته قضية أخرى. فخرج بقولهم: "مؤلف من قضيتين" ما ليس بمؤلف كالقضية الواحدة، وخرج بقولهم: "يستلزم لذاته قضية أخرى" ما لم يستلزم قضية أصلاً، وخرج بقولهم: "لذاته" ما استلزم قضية أخرى لا لذاته بل من أجل قضية أجنبية أو لخصوص المادة.
ويلاحظ في شرح تعريف القياس ما يلي:
أن الكلام على القياس في هذا العرض المختصر يقتصر على القياس الاقتراني الحملي. فهو اقتراني؛ لأن عناصره فيها اقتران ونتيجته في مقدمتيه بالقوة لا بالفعل، يعني بالمادة لا بالصورة والهيئة.
وهو قياس حملي؛ لأنه مؤلف من القضايا الحملية، وليس فيه من الشرطيات شيء.
أجزاء القياس تسمى مقدمات، ويقتصر فيه على مقدمتين فقط وهذا مشهور، وقد يشتمل القياس على أكثر من مقدمتين، ولكنها تؤول إلى مقدمتين: المقدمة الأولى والمقدمة الثانية.
الأجزاء التي تتألف منها مقدمتا القياس تسمى حدوداً.
لا بد في مقدمتي القياس من حد مشترك، بينما يجمع بين المقدمة الأولى والثانية، وهذا الحد المشترك يسمى الحد الأوسط، وبواسطته ينتقل الذهن من الحكم العام إلى الحكم الخاص. ولكل من المقدمتين حد يخصها تنفرد به عن الأخرى، وهما طرفا الحكم الخاص الذي ينتقل إليه الذهن وهو النتيجة، ويسمى الحد الأول في النتيجة بالحد الأصغر، وتسمى المقدمة التي تشتمل عليه بالمقدمة الصغرى، ويسمى الحد الثاني في النتيجة بالحد الأكبر، وتسمى المقدمة التي تشتمل عليه بالمقدمة الكبرى.
فقال: كل إنسان حيوان وكل حيوان حسّاس.
ينتج: كل إنسان حسّاس.
فالحد الأول ف بالنتيجة (الموضوع) : كل إنسان؛ وهو الحد الأصغر، والمقدمة التي تشتمل لعيه تسمى المقدمة الكبرى، وهي: كل حيوان حسّاس.
فالمقدمة الكبرى هي التي تشتمل على محمول النتيجة، والمقدمة الصغرى هي التي تشتمل على موضوعها.
المبحث الثاني: أشكال القياس(10/486)
يحدد وضع الحد الأوسط في المقدمتين أشكال القياس، والقسمة العقلية لوضع الحد الأوسط في المقدمتين لا تخرج عن أربعة أشكال:
الشكل الأول: يكون الحد الأوسط فيه: محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.
مثال: كل إنسان حيوان وكل حيوان حسّاس. ينتج: كل إنسان حسًاس.
الشكل الثاني: يكون الحد الأوسط فيه: محمولاً في الصغرى والكبرى معاً.
مثال: كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحجر بحيوان. ينتج: لا شيء من الإنسان بحجر.
الشكل الثالث: يكون الحد الأوسط فيه: موضوعاً في الصغرى والكبرى معاً (عكس الشكل الثاني) .
مثال: كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان كاتب. ينتج: بعض الحيوان كاتب.
الشكل الرابع: يكون الحد الأوسط فيه موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى (عكس الشكل الأول) .
مثال: كل إنسان حيوان، وكل ناطق إنسان. ينتج: بعض الحيوان ناطق.
المبحث الثالث: شروط إنتاج القياس
أولاً: شروط الإنتاج في القياس الاقتراني الحملي:
هناك شروط عامة لا بد منها في كل قياس لكي يكون منتجاً بالضرورة، وهناك شروط تخص كل شكل من الأشكال الأربعة للقياس.
ثانياً: الشروط العامة لإنتاج القياس:
أن يكون في كل قياس مقدمة كلية؛ لأنه لا إنتاج من جزئين.
أن يكون في كل قياس مقدمة موجبة؛ لأنه لا إنتاج من سالبتين.
لا بد أن تتبع النتيجة أحسن المقدمين كماً وكيفاً، فإذا كانت إحدى المقدمتين جزئية وجب أن تأتي النتيجة جزئية، وإذا كانت المقدمتين سالبة؛ وجب أن تكون النتيجة سالبة كذلك.
ألا يستغرق في النتيجة حد لم يكن مستغرباً في مقدمته؛ بمعنى أنه لا تجيء النتيجة كلية وتكون إحدى المقدمتين جزئية
ثالثاً: الشروط الخاصة بكل شكل من أشكال القياس:
شروط إنتاج الشكل الأول:
أن تكون الصغرى موجبة والكبرى كلية.
مثال: كل إنسان حيوان، وكل حيوان فان. ينتج: كل إنسان فان.
والضروب المنتجة لهذا الشكل أربع، هي:
كلية موجبة + كلية موجبة (كلية موجبة
كلية موجبة + كلية سالبة (كلية سالبة(10/487)
جزئية موجبة + كلية موجبة (جزئية موجبة
جزئية موجبة + كلية سالبة (جزئية سالبة
شروط إنتاج الشكل الثاني:
أن تختلف مقدمتاه سلباً وإيجاباً وأن تكون الكبرى كلية.
مثال: كل إنسان حيوان، ولا شيء من الجماد حيوان. ينتج: لا شيء من الإنسان بجماد.
والضروب المنتجة لهذا الشكل أربع كذلك، هي:
كلية موجبة + كلية سالبة (كلية سالبة
كلية سالبة + كلية موجبة (كلية سالبة
جزئية موجبة + كلية سالبة (جزئية سالبة
جزئية سالبة + كلية موجبة (جزئية سالبة
شروط إنتاج الشكل الثالث:
أن تكون الصغرى موجبة، وأن تكون إحدى المقدمتين كلية.
ويلاحظ أن ضروب هذا الشكل المنتجة لا بد أن تكون جزئية حتى لا يستغرق حد في النتيجة م يكن مستغرقاً في المقدمة.
مثال: كل إنسان حيوان، وكل إنسان ضاحك. ينتج: بعض الحيوان ضاحك.
والضروب المنتجة لهذا الشكل ستة، هي:
كلية موجبة + كلية موجبة (جزئية موجبة
كلية موجبة + كلية سالبة (جزئية سالبة
كلية موجبة + جزئية موجبة (جزئية موجبة
كلية موجبة + جزئية سالبة (جزئية سالبة
جزئية موجبة + كلية موجبة (جزئية موجبة
جزئية موجبة + كلية سالبة (جزئية سالبة
شروط إنتاج الشكل الرابع:
ألا تجتمع فيه خستان وهما (السلب والجزئية) سواء كانتا من جنسين أو من جنس واحد.
ويستثنى من هذا الشرط صورة واحدة: وهي كون صغراه جزئية موجبة وكبراه كلية سالبة.
مثال: كل إنسان حيوان، وكل ناطق إنسان. ينتج: بعض الحيوان ناطق.
والضروب المنتجة لهذا الشكل خمسة، هي:
كلية موجبة + كلية موجبة (جزئية موجبة
كلية موجبة + جزئية موجبة (جزئية موجبة
كلية سالبة + كلية موجبة (كلية سالبة
كلية موجبة +كلية سالبة (جزئية سالبة
جزئية موجبة + كلية سالبة (جزئية سالبة
وهذه الصورة الأخيرة هي الحالة الوحيدة المستثناة من شرط اجتماع الخستين في هذا الشكل.(10/488)
وبهذا ينتهي القسم الأول بعرض المنطق اليوناني والقياس المنطقي بصورة موجزة وميسرة، ويأتي نقد القياس المنطقي في القسم الثاني الذي يعتبر ثمرة هذا البحث.
خاتمة البحث
الحمد لله على عونه وتيسيره وتوفيقه، والشكر له على تسديده إلى الإيمان بشرعه، ولزوم طريقه، إذ جعلنا برحمته من حزب نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وأسأله أن أن يوفقني لكل ما يحبه ويرضاه.
وبعد:
فإنني قد تناولت في هذا البحث وما احتواه من مباحث ومطالب، تاريخ تسلسل المنطق اليوناني الوثني إلى المجتمع الإسلامي، وما قام به بعض العلماء إلى الدعوة إليه، والإشادة به، وتفخيمه ومزجه بالعلوم الإسلامية، وما ترتب على ذلك من فساد فكري جعل الناصحين من علماء الإسلام يحذِّرون منه، ويبينون أثره الخطير، وضرره وشره المستطير في توهين نصوص الشرع، والنيل من مكانتها في بلاد الإسلام.
وانطلاقاً من قاعدة: "أن الحكم على شيء فرع عن تصوره"؛ تناولت فيه أسس المنطق اليوناني من التصديقات والتصورات، وبينت بإيجاز القياس المنطقي ومكانته في المنطق اليوناني حتى أتمكن من الرد على ضلالهم من خلال منطقهم، وأبين ما أتفق عليه سلف الأمة من الحق والحكمة الرشيدة التي تنقض أصولهم. وهذا كله حباً لمشاركة أهل العلم وطلابه في النصيحة لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن وفقت فيما قدمت في هذا البحث؛ فالفضل في التوفيق لله وحده لا شريك له، فله الحمد والمنة، وإن قصرت أو أخطأت؛ فذلك مني وأسأل الله العفو والتجاوز.
وأسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بكتابه وسنة نبيه، واحتج بهما، وقدمهما على كل قول إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الحواشي والتعليقات(10/489)
حكم الطهارة لمس القرآن الكريم
دراسة فقهية مقارنة
د. عمر بن محمد السبيل
أستاذ مساعد - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة أم القرى
ملخص البحث
يشتمل البحث على مقدمة ومبحثين، وخاتمة.
فالمقدمة في بيان سبب البحث، ومنهجه، أما المبحثان؛ فالأول: في حكم الطهارة للبالغ، وقد بينت فيه إجماع العلماء على تحريم مس المصحف لمن كان عليه حدث أكبر، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، أما إن كان عليه حدث أصغر، فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف، على قولين:
الأول: أنه لا يجوز له مس القرآن. وبه قال جمع من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف، وقال به كثير من التابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
الثاني: أنه يجوز له مس القرآن. وبه قال بعض التابعين وهو مذهب الظاهرية. وقد ظهر لي رجحان القول الأول: لقوة أدلته ورجحانها.
والمبحث الثاني: في حكم الطهارة للصغير. وقد بينت فيه أنه لا يجوز تمكين الصغير غير المميز من مس المصحف، أما المميز فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف إذا كان محدثًا على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يجوز مسه للمصحف. وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية في الصحيح من مذاهبهم، وبه قال الحنابلة في رواية.
والثاني: أنه يكره له مسه. كراهية تنزيه، وهو قول للحنفية، والمالكية.
الثالث: أنه يحرم عليه مسه. وهو قول للشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
وقد ظهر لي رجحان القول الأول؛ لقوة أدلته، ورجحانها.
وأما الخاتمة فقد اشتملت على أهم نتائج البحث.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(10/490)
أما بعد: فإن العناية بكتاب الله الكريم، وما يتعلق به من المعاني والأحكام من أفضل أنواع العلم الشرعي وأجله، لشرف موضوعه؛ لأنه يتعلق بأشرف كلام، وأعظم كتاب، ولذا رأيت أن أسهم بجهدي المتواضع في بيان حكم مسألة من المسائل المتعلقة به في هذا البحث الذي عنونت له ب (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم) (1) مجليًا آراء العلماء في هذه المسألة، على سبيل الإيضاح والتفصيل، لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل (2) عني ببيان أحكام هذه المسألة على التفصيل الذي ذكرته، والنهج الذي سلكته، وقد انتظم هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة.
وقد سلكت في هذا البحث المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا، بذكر آراء العلماء وأدلتهم، ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة، مع بيان الراجح من تلك الآراء، مبينًا وجه الترجيح.
فأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المبحث الأول: حكم الطهارة للبالغ
__________
(1) الحواشي والتعليقات
() ... آثرت التعبير ب (مس القرآن الكريم) على التعبير ب (مس المصحف) رغم أنه التعبير الغالب عند كثير من العلماء والمصنفين وذلك موافقة للأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها النهي عن مس القرآن، واتباعًا لاختيار بعض العلماء التعبير بهذا، كابن نجيم الحنفي في البحر الرائق، 1/211.
(2) ... لا في القديم ولا في الحديث، سوى رسالة ألفها الشيخ/محمد بن علي بن حسين المالكي المتوفى سنة (1368هـ) بعنوان: (إظهار الحق المبين بتأييد إجماع الأئمة الأربعة على تحريم مس وحمل القرآن الكريم لغير المتطهرين) .(10/491)
أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود لظاهري (+ (1) وتابعه على القول به أهل الظاهر (2) .
أما المحدث حدثًا أصغر؛ فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف كله أو بعضه.
وبهذا قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن زيد، وسلمان الفارسي، وغيرهم.
وقال به من التابعين: عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب الزهري، والحسن البصري، وطاووس بن كيسان، وسالم بن عبد الله بن عمر، والنخعي (3) ، والفقهاء السبعة (4) .
__________
(1) الإفصاح، 1/76؛ المغني، /147، رحمة الأمة، ص، 21؛ نيل الأوطار، 1/260، موسوعة الإجماع، 2/878.
(2) ... المحلى، 1/77.
(3) ... انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/341؛ الجامع لأحكام القرآن 17/626؛ المغني، 1/147.
(4) ... السنن الكبرى للبيهقي، 1/88، معرفة السنن والآثار للبيهقي، 1/185.
وقد ذكر الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين 1/23 الفقهاء السبعة وعدَّدَهم بقوله: (وكان المُفْتُون بالمدينة من التابعين: ابن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، وهؤلاء هم الفقهاء وقد نظمهم القائل فقال:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة
فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة) اهـ
وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، 9/108أن أكثرهم توفي سنة 94هـ ولذا سميت تلك السنة ب (سنة الفقهاء) .(10/492)
وهو قول المذاهب الأربعة: الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بالكتاب والسنة، وإجماع الصحابة ودونك (5) أدلتهم بالتفصيل:
أولاً: الكتاب:
استدلوا من الكتاب بقول الله عز وجل (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ( [الواقعة77-80] .
وجه الدلالة:
__________
(1) ... الهداية، 1/31؛ مجمع الأنهر، 1/25؛ البحر الرائق، 1/211.
(2) ... المعونة، 1/160؛ عقد الجواهر، 1/62، الخرشي على خليل، 1/160 إلا أن المالكية ذهبوا إلى جواز مسه للمعلم والمتعلم إذا كان حدثه أصغر لمشقة الاستمرار على الطهارة، وكذا المرأة الحائض يجوز لها المس؛ لضرورة التعليم بخلاف الجنب لقدرته على إزالة المانع. انظر: الشرح الصغير، 1/222، الشرح الكبير، 1/126.
(3) ... المهذب، 1/32؛ روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/36.
(4) 10) المقنع، 1/56، منتهى الإرادات، 1/27، الروض المربع، 1/26.
(5) 11) التعبير بلفظ (دونك) هو الصحيح لغة؛ لأنه بمعنى (خذ) وهو الشائع عند العلماء قديمًا وحديثًا ومن المصنفين المكثرين من ذلك في مصنفاتهم العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه (أضواء البيان) .
أما ما عليه كثير من المعاصرين من التعبير بلفظ (إليك) فهو خطأ شائع؛ لأن معنى (إليك) تنح وابتعد وهو غير مراد. فتنبه.(10/493)
أن الله عز وجل أخبر أن هذا القرآن الكريم لا يمسه إلا المطهرون إجلالاً له وتعظيمًا، وجاء الإخبار في الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين، وعموم سلبه في غيرهم (1) ، والمراد بالمطهرين؛ المطهرون من الأحداث والأنجاس من بني آدم. والآية وإن كان لفظها لفظ الخبر، إلا أنه خبر تضمن نهيًا (2) . فهو نظير قوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها ( [البقرة 233] فإنه خبر تضمن نهيًا، فدل ذلك على اشتراط الطهارة لمس المصحف (3) .
ثانيًا: من السنة:
استدلوا من السنة بعدد من الأحاديث، ورد فيها النهي عن مس المصحف لغير طاهر، وأن المراد بالطاهر الطاهرُ من الحدث الأكبر والأصغر، ومن النجاسة الحسية والمعنوية (4) ، ومن هذه الأحاديث:
1 – عن حكيم بن حزام _رضي الله عنه- قال: (لما بعثني رسول الله (إلى اليمن قال: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
رواه الحاكم في المستدرك (5) ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في سننه (6) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7) .
__________
(1) 12) انظر: الذخيرة للقرافي، 1/238.
(2) 13) انظر: تفسير البغوي، 5/301، تفسير ابن كثير، 4/299؛ بداية المجتهد، 1/30؛ مغني المحتاج، 7/37؛ كشاف القناع، 1/134.
(3) 14) انظر: المجموع شرح المهذب، 2/79.
والاستدلال بهذه الآية إنما هو على قراءة من قرأ قوله تعالى: (لا تضارُّ (بالرفع على الخبر وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير.
انظر: فتح القدير 1/317.
(4) قال في نيل الأوطار، 1/259: (والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرًا، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، ومن ليس على بدنه نجاسة.. فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا) .
(5) 16) 3/485.
(6) 17) 1/122.
(7) 18) 1/87.(10/494)
قال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سويد أبو حاتم ضعفه النسائي، وابن معين في رواية، ووثقه في رواية، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، حديثه حديث أهل الصدق) (1) .
وقال ابن حجر: (وحسَّن الحازمي إسناده) (2) .
2 – عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنه- قال: قال النبي ((لا يمس القرآن إلا طاهر) . رواه الدارقطني في سننه (3) ، وقال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني في الكبير، والصغير، ورجاله موثقون) (4) .
قال الأثرم: (واحتج أبو عبد الله يعني أحمد بحديث ابن عمر) (5)
وقال ابن حجر: (وإسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به) (6) ونقل في إعلاء السنن (7) : تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم.
3 – عن عثمان بن أبي العاص قال: (وفدنا على رسول الله (فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة، فقال النبي (: قد أمرتك على أصحابك وأنت أصغرهم، ولا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
رواه أبو داود في المصاحف (8) ، وقال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني في الكبير في جملة حديث طويل ... وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين، والنسائي وقال البخاري: ثقة مقارب) (9) .
4 – عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كان في كتاب النبي (لعمرو بن حزم: (لا يمس القرآن إلا على طهر) .
__________
(1) 19) 1/277.
(2) 20) التلخيص الحبير، 1/131.
(3) 21) 1/121.
(4) 22) 1/276.
(5) 23) المنتقى للمجد ابن تيمية، 1/127.
(6) 24) التلخيص الحبير، 1/131.
(7) 25) 1/268.
(8) ص، 212.
(9) 27) 1/277.(10/495)
رواه عبد الرزاق في مصنفه (1) ، ومالك في الموطأ (2) ، وأبو داود في المصاحف (3) والدارمي في سننه (4) ، والحاكم في مستدركه (5) ، والدارقطني في سننه (6) ، وقال: (مرسل ورواته ثقات) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7) ، وفي معرفة السنن والآثار (8) .
قال البغوي: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون صحيحًا) .
وقال أيضًا: (لا أشك أن رسول الله (كتبه) (9) .
وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله (والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، والزهري لهذا الكتاب بالصحة (10) .
وقال الإمام ابن عبد البر: (وكتاب عمرو بن حزم هذا تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل) (11) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهو كتاب مشهور عند أهل العلم) (12) .
ثالثًا: الإجماع:
__________
(1) 28) 1/341.
(2) 29) 1/343.
(3) ص، 212.
(4) 31) 2/161.
(5) 32) 1/397.
(6) 33) 1/121.
(7) 34) 1/88.
(8) 35) 1/186.
(9) 36) التبيان لابن القيم، 1/409، إرواء الغليل، 1/161.
(10) 37) انظر: المستدرك 1/397، نيل الاوطار، 1/259.
(11) 38) الاستذكار، 8/10.
(12) شرح العمدة، 1/382.(10/496)
أجمع الصحابة - رضوان الله عليهم- على القول بعدم جواز مس المحدث المصحف، حيث روي ذلك عمن تقدم ذكرهم من فقهاء الصحابة ومشاهيرهم، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف (1) ، فكان إجماعًا سكوتيًا (2) ، بل كان ذلك هو المستقر عند الصحابة زمن النبوة وبعده ويدل عليه قصة إسلام عمر، فإنه حين دخل على أخته وزوجها وهم يقرؤن القرآن فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم أقرؤه، فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم واغتسل، أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ثم أخذ الكتاب، فقرأ طه) رواه الدارقطني (3) ، والبيهقي (4) .
وروي عن علقمة قال: كنا مع سلمان الفارسي في سفر، فقضى حاجته، فقلنا له: توضأ حتى نسألك عن آية من القرآن، فقال: سلوني، فإني لست أمسه، فقرأ علينا ما أردنا، ولم يكن بيننا وبينه ماء) وفي لفظ آخر أنه قال: (سلوني فإني لا أمسه، إنه لا يمسه إلا المطهرون) (5) .
قال البيهقي بعد روايته هذا الأثر: (وكأنهم ذهبوا – القائلون بعدم جواز مس المصحف – في تأويل الآية إلى ما ذهب إليه سلمان، وعلى ذلك حملته أخت عمر ابن الخطاب في قصة إسلامه) (6) .
__________
(1) 40) انظر: المغني، 1/147، المجموع للنووي، 2/80، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 21/266.
(2) 41) إظهار الحق المبين، ص، 17.
(3) 42) 1/123 وقال في التعليق المغني على سنن الدارقطني: الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده مطولاً. قال المؤلف: تفرد به القاسم بن عثمان وليس بالقوي. وقال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها.
(4) في السنن الكبرى، 1/88.
(5) 44) مصنف ابن أبي شيبة، 1/103؛ سنن الدارقطني، 1/123 وقال في التعليق المغني على سنن الدارقطني: هذا إسناد صحيح موقوف على سلمان، والسنن الكبرى للبيهقي، 1/88، ومعرفة السنن والآثار، 1/185، والمحلى، 1/84.
(6) 45) معرفة السنن والآثار، 1/185.(10/497)
وروى الإمام مالك بسنده عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت، فقال سعد: لعلك مسست ذكرك؟ قال: قلت: نعم، فقال: قم فتوضأ، فقمت فتوضأت ثم رجعت) (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد سوقه لهذه الآثار وغيرها: (وكذلك جاء عن خلق من التابعين من غير خلاف يعرف عن الصحابة والتابعين وهذا يدل على أن ذلك كان معروفًا بينهم) (2) .
القول الثاني: أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر مس المصحف.
روي القول بهذا عن: ابن عباس، والشعبي، والضحاك (3) ، والحكم ابن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وداود الظاهري (4) ، وهو مذهب الظاهرية (5) .
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
1 – ما ثبت في الصحيحين (6) أن رسول الله (بعث دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه للإسلام، وفيه قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( [آل عمران 64] .
__________
(1) الموطأ، 1/90،ورواه أبو داود في المصاحف، ص، 211، والبيهقي في السنن الكبرى، 1/88.
قال في إرواء الغليل، 1/161: (وسنده صحيح) .
(2) شرح العمدة، 1/383.
(3) 48) الجامع لأحكام القرآن، 17/226، نيل الأوطار، 1/261.
(4) 49) المغني 1/147، المجموع للنووي، 1/79، وقالا أيضًا: وروي عن الحكم وحماد: جواز مسه بظاهر الكف، دون باطنه.
(5) 50) وقد تقدمت الإشارة إلى أن أهل الظاهر يرون جواز مس المصحف للمحدث مطلقًا، سواء كان حدثه أكبر أو أصغر. وانظر: المحلى، 1/77.
(6) 51) صحيح البخاري، 1/9، صحيح مسلم، 5/165.(10/498)
قال ابن حزم: فهذا رسول الله (قد بعث كتابًا وفيه هذه الآية إلى النصارى، وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب (1) . فإذا جاز مس الكافر له؛ جاز للمسلم المحدث من باب أولى (2) .
2 – أنه لم يثبت النهي عن مس المصحف لا في الكتاب، ولا في السنة فيبقى الحكم على البراءة الأصلية، وهي الإباحة (3) .
3 – ولأن قراءة القرآن لا تحرم على المحدث، فيكون المس أولى بعدم التحريم (4) .
4 – ولأن حمل المصحف في متاع ونحوه لا يحرم على المحدث، فكذلك المس قياسًا عليه (5) .
5 – ولأن الصبيان يحملون ألواح القرآن وهم محدثون من غير نكير في جميع العصور، فدل على إباحة مسه لكل محدث (6) .
الإجابة عن أدلة القول الأول:
أجاب القائلون بعدم تحريم مس المصحف على المحدث عن أدلة الجمهور القائلين بتحريم مس المصحف بما يأتي:
1 – أن قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون (خبر، وليس بأمر بدليل: رفع السين في قوله سبحانه: (لا يمسه (ولو كان نهيًا لفتح السين فلا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي، أو إجماع متيقن، ولم يثبت شيء من ذلك.
ولأن المصحف يمسه الطاهر، وغير الطاهر، فدل على أن الله عز وجل لم يعن بالمصحف المذكور في الآية هذا الذي بأيدي الناس، وإنما عني كتابًا آخر، وهو الذي في السماء (7) .
__________
(1) 52) المحلى، 1/83.
(2) 53) انظر: المجموع، 1/79؛ إظهار الحق المبين، ص، 3.
(3) 54) انظر: المصدرين السابقين.
(4) 55) انظر: بداية المجتهد، 1/30؛ إظهار الحق المبين، ص، 3.
(5) 56) انظر: المجموع، 1/79، إظهار الحق المبين، ص، 3.
(6) 57) انظر: المصدرين السابقين.
(7) 58) انظر: المحلى، 1/83، بداية المجتهد، 1/30.(10/499)
كما أن المراد بالمطهرين في الآية الملائكة لأنهم طهروا من الشرك والذنوب، وليسوا بني آدم؛ لأن المطهر من طهره غيره، ولو أريد بهم بنوا آدم لقيل: المتطهرون (1) .
2 – أن الأحاديث التي استدل بها على تحريم مس المصحف على المحدث كلها ضعيفة، ولا يخلوا إسناد واحد منها من قدح وعلة، فلا تقوم بها حجة، ولا تصلح للاحتجاج، قال ابن حزم: (فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه، فإنه لا يصح منها شيء، لأنها إما مرسلة، وإما ضعيفة لا تسند، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف، وقد تقصيناها في غير هذا المكان) (2) .
3 – أن دعوى الإجماع غير متيقن، بدليل وجود المخالف من التابعين ومن بعدهم (3) .
الإجابة عن أدلة القول الثاني:
أجاب الجمهور القائلون بعدم جواز مس المصحف للمحدث عن أدلة القائلين بالجواز بما يأتي:
1 – أجيب عن الدليل الأول: بأن الحديث إنما يدل على جواز مس الرسالة أو الكتاب إذا تضمن آية من القرآن ونحوها، ومثل هذا لا يسمى مصحفًا ولا تثبت له حرمته، وذكر الآيتين في الكتاب إنما قصد بها تبليغ الدعوة فيختص الجواز بمثل ذلك (4) .
قال الحافظ ابن حجر: (إن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد: أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين) (5) .
__________
(1) 59) انظر: بداية المجتهد، 1/30، شرح العمدة، 1/384.
(2) 60) المحلى، 1/81.
(3) 61) انظر: المحلى، 1/83.
(4) 62) انظر: الشرح الكبير، 1/95، إظهار الحق المبين، ص، 17.
(5) 63) فتح الباري، 1/408.(10/500)
2 – وأجيب عن الدليل الثاني: بعدم التسليم بأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على تحريم المس، بل ورد فيهما ما يدل على ذلك كما سبق ذكره في أدلة الجمهور، فلا يبقى الحكم على البراءة الأصلية، لثبوت الدليل الناقل استنباطًا من القرآن، ونصًا من السنة الصحيحة.
3 – وأجيب عن الدليل الثالث: بأن القراءة على غير طهارة إنما أبيحت للمحدث حدثًا أصغر للحاجة، ولعسر الوضوء للقراءة كل وقت، وإذا حصلت المشقة جاء التيسير؛ لأن المشقة تجلب التيسير (1) .
4 – وأجيب عن الدليل الرابع: بأن قياس مس المصحف على حمله في المتاع قياس مع الفارق؛ لأن الحامل له في متاعه لا يباشر مسه؛ ولأنه غير مقصود بالحمل بخلاف حمله وحده فإنه مقصود لذاته (2) .
5 – وأجيب عن الدليل الخامس: بأن الألواح التي يحملها الصغار وهم محدثون لا تسمى مصحفًا؛ إذ لا يكتب فيها إلا شيء يسير من القرآن تقتضيها ضرورة التعليم (3) ولأنهم غير مكلفين (4) .
الإجابة عن اعتراض القائلين بالجواز على أدلة المانعين:
أجاب جمهور العلماء عن اعتراض القائلين بجواز مس المحدث المصحف على أدلة التحريم بما يأتي:
__________
(1) 64) انظر: المجموع شرح المهذب، 1/80، إظهار الحق المبين، ص، 18.
(2) 65) انظر: المصدرين السابقين.
(3) 66) انظر: المصدرين السابقين.
(4) 67) انظر: بداية المجتهد، 1/30.(11/1)
أولاً: أنا نمنع أن قوله سبحانه: (لا يمسه (خبر فقط ورفع السين فيه لا ينفي إرادة النهي، بل هو خبر تضمن نهيًا؛ لأن خبر الله لا يكون خلافه، وقد وجد من يمس المصحف على غير طهارة، فتبين بهذا أن المراد النهي، وليس الخبر، وقد ورد مثل هذا كثير في الكتاب والسنة، ومنه قوله عز وجل: (لا تضار والدة بولدها ( [البقرة233] فإنه خبر تضمن نهيًا، ومنه في السنة قوله (: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه) بإثبات الياء، فإنه خبر تضمن نهيًا (1) .
وأما القول بأن الضمير في قوله سبحانه: (لا يمسه (إنما يعود على الكتاب الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ، لا على المصحف الذي بأيدي الناس، فالجواب: أن قوله سبحانه: (تنزيل من رب العالمين (بعد قوله سبحانه: (لا يمسه إلا المطهرون (فيه دلالة ظاهرة على إرادة المصحف الذي بأيدي الناس، فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح (2) .
كما أن القول بأن المراد ب المطهرين في الآية هم الملائكة وليسوا بني آدم؛ لأن المطهرين هم الذين طهرهم غيرهم، وأنه لو أريد بهم بنو آدم لقيل (المتطهرون) .
فالجواب: أن المتوضئ يطلق عليه طاهر ومتطهر، وهذا سائغ لغة (3) .
__________
(1) 68) انظر: المجموع شرح المهذب، 1/80، إظهار الحق المبين، ص، 18.
(2) 69) انظر: المصدرين السابقين. وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، 17/225: (وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر) .
(3) 70) انظر: المصدرين السابقين.(11/2)
ومع التسليم بأن المراد بالمطهرين الملائكة كما هو قول جمهور المفسرين، فإنه يمكن الاستدلال بالآية بقياس بني آدم على الملائكة (1) ، أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (من باب التنبيه والإشارة؛ لأنه إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر، والحديث مشتق من هذه الآية) (2) .
وقال أيضًا: (الوجه في هذا والله أعلم أن الذي في اللوح المحفوظ هو القرآن الذي في المصحف كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في هذا المصحف بعينه سواء كان المحل ورقًا أو أديمًا أو حجرًا أو لحافًا، فإذا كان مِنْ حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسه إلا المطهرون وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك؛ لأن حرمته كحرمته، أو يكون الكتاب اسم جنس يعم كل ما فيه القرآن سواء كان في السماء أو الأرض، وقد أوحى إلى ذلك قوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة ( [البينة2-3] ، وكذلك قوله تعالى: (في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( [عبس 13-14] فوصفها أنها مطهرة فلا يصلح للمحدث مسها) (3) .
وقال أبو عبد الله الحَلِيمِي الشافعي: (إن الملائكة إنما وصلت إلى مس ذلك الكتاب؛ لأنهم مطهرون، والمطهر هو الميسر للعبادة، والمرضي لها، فثبت أن المطهر من الناس هو الذي ينبغي له أن يمس المصحف، والمحدث ليس كذلك؛ لأنه ممنوع عن الصلاة والطواف، والجنب والحائض ممنوعان عنهما، وعن قراءة القرآن فلم يكن لهم حمل المصحف ولا مسه) (4) .
__________
(1) 71) انظر: كشاف القناع، 1/134.
(2) 72) التبيان في أقسام القرآن، 1/402، وانظر نحوه في: البحر الرائق، 1/211 نقلاً عن العلامة الطيبي.
(3) شرح العمدة، 1/384.
(4) 74) معرفة السنن والآثار للبيهقي، 1/187.(11/3)
وقال الجصاص: (إن حُمِلَ –لفظ الآية – على النهي وإن كان في صورة الخبر كان عمومًا فينا، وهذا أولى، لما روي عن النبي (في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: (ولا يمس القرآن إلا طاهر) (1) فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية إذ فيه احتمال له) (2) .
ثانيًا: أن دعوى عدم صحة الأحاديث، وأنها لا تصلح للاحتجاج بها والعمل بها غير مسلم، فإن تلك الأحاديث التي استدل بها الجمهور على تحريم مس المصحف على المحدث وإن كان لا يخلو إسناد كل واحد منها من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحسن، فصلح الاحتجاج بها، ووجب العمل بها، كما قال ذلك عدد من أئمة الحديث المشهورين كما تقدم نقل كلام بعضهم.
ومن ذلك أيضًا أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه احتجا بهذا الحديث، وصرح إسحاق بن راهويه بصحته، فقد قال إسحاق بن منصور المروزي في مسائله عنهما: (قلت –يعني لأحمد- هل يقرأ الرجل على غير وضوء؟ قال: نعم، ولكن لا يقرأ في المصحف ما لم يتوضأ، قال إسحاق – يعني ابن راهويه - كما قال، لما صح من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يمس القرآن إلا طاهر) وكذلك فعل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعون) (3) .
وقال الإمام ابن عبد البر: (لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روي مسندًا من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة …وما فيه فمتفق عليه إلا قليلاً) (4) .
__________
(1) 75) سبق تخريجه في ص، 8.
(2) 76) أحكام القرآن، 3/416.
(3) 77) مسائل إسحاق بن منصور، ص، 5، نقلاً عن إرواء الغليل، 1/161.
(4) 78) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 17/338، ونقله عنه في التبيان لابن القيم، 1/409؛ نيل الأوطار، 1/259، إظهار الحق المبين، ص، 20.(11/4)
وقال الألباني: (صحيح. روي من حديث عمرو بن حزم، وحكيم ابن حزام، وابن عمر، وعثمان بن أبي العاص) ثم ساق أسانيد كل واحد منها ثم قال: (وجملة القول: أن الحديث طرقه كلها لا تخلو من ضعف، ولكنه ضعف يسير، إذ ليس في شيء منها من اتهم بكذب، وإنما العلة الإرسال، أو سوء الحفظ، ومن المقرر في علم المصطلح أن الطرق يقوي بعضها بعضًا إذا لم يكن فيها متهم، كما قرره النووي في تقريبه، ثم السيوطي في شرحه، وعليه فالنفس تطمئن لصحة هذا الحديث، لا سيما وقد احتج به إمام السنة أحمد بن حنبل … وصححه أيضًا صاحبه الإمام إسحاق بن راهويه) (1) .
ثالثًا: وأما دعوى عدم ثبوت إجماع الصحابة فغير مسلم، لثبوت ذلك الحكم عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم زمن النبوة وبعده، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان ذلك منهم إجماعًا سكوتيًا على تحريم مس المصحف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهو قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف) (2) .
وقال الإمام النووي: (إنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة) (3) فلا عبرة بالمخالف للصحابة، ولا اعتداد بقوله، فهم أعلم الأمة، وأعدلها وأوثقها وقولها أقرب إلى الحق والصواب ممن سواهم.
الترجيح:
بعد بيان قولي العلماء في حكم مس المحدث حدثًا أصغر للمصحف وأدلة كل قول، وما أورد عليها من اعتراضات، والإجابة عما اعتُرض به على قول الجمهور، ظهر لي رجحان ما ذهب إليه جمهور العلماء من القول بتحريم مس المصحف على المحدث حدثًا أصغر لما يأتي:
1 – قوة ما استدلوا به من الأدلة على ما ذهبوا إليه.
2 – ضعف أدلة المخالف، والرد عليها، وبيان وجه ضعفها.
__________
(1) 79) إرواء الغليل، 1/158، 160-161.
(2) 80) مجموع الفتاوى، 21/266.
(3) 81) المجموع شرح المهذب، 2/80.(11/5)
3 – أن القول بتحريم المس ناقل عن الأصل، وقد ذهب أكثر الأصوليين إلى أن الدليل الناقل عن الأصل مقدم على الدليل المبقي على البراءة الأصلية (1) .
4 – أن القول بالتحريم أحوط للعبادة، وأبرأ للذمة، فالقول به أولى.
5 – أن القول بالتحريم هو الموافق لتكريم القرآن وتعظيمه، فإن الله عز وجل وصف القرآن بأنه كريم وأنه لا يمسه إلا المطهرون، فعظمه الله تعالى وكرمه، فالأليق بتعظيمه والأنسب لإجلاله وتكريمه أن لا يُمس إلا على طهارة كاملة، لأن مسه بغير طهارة مخل بتعظيمه وتكريمه.
6 – أن القول بالتحريم هو المنقول عن الصحابة زمن النبوة وبعدها، من غير خلاف بينهم، ولذا قال به أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، وجماهير أهل العلم حتى قال ابن عبد البر (أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر) (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء كقول الجمهور وهذا هو المعروف عن الصحابة سعد وسلمان وابن عمر) (3) فدل ذلك على عدم الاعتبار للمخالفين، وعدم الاعتداد بقولهم لضعف أدلتهم.
__________
(1) انظر: روضة الناظر، 2/401، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي، ص، 326.
(2) الاستذكار، 8/10.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 21/288.(11/6)
فحسْب المسلم ما أجمع عليه الصحابة، وأفتى به أئمة التابعين، واختاره من بعدهم من أئمة الإسلام المجتهدين في العصور المفضلة وما بعدها إلى يومنا هذا، حيث هو القول المختار المفتى به عند المحققين من علماء العصر وفقهائه (1) .
المبحث الثاني: حكم الطهارة للصغير
والمراد بالصغير هنا الصغير المميز، أما غير المميز فلا يجوز تمكينه من مس المصحف، ويأثم من مكنه من ذلك (2) .
وقد اختلف العلماء في حكم مس المميز للمصحف على غير طهارة على الأقوال التالية:
القول الأول: أنه يجوز للصغير مس المصحف على غير طهارة، بمعنى: أنه لا يأثم من مكّن الصغير من مس المصحف وليّا كان أو غيره.
__________
(1) حيث اختاره صاحب كتاب (إظهار الحق المبين) وقد فرغ من تأليفه بمكة سنة 1351هـ وذكر أن علماء المذاهب الأربعة في زمنه أجمعوا على الإفتاء به، ص، 19-20، وكذا أفتى به سماحة مفتي المملكة العربية السعودية في زمنه العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كما في مجموع الرسائل والفتاوى 2/77، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز، كما في الفتاوى الصادرة عنها 4/72 وما بعدها، وغيرهم من علماء العصر.
(2) 86) انظر: المجموع شرح المهذب، 2/75؛ مغني المحتاج، 1/38؛ فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 2/77.(11/7)
وبهذا قال: الحنفية في الصحيح من المذهب (1) ، والمالكية في المعتمد (2) ، والشافعية في الصحيح (3) ، والحنابلة في رواية (4) ، وهو مذهب الظاهرية (5) .
وقيَّد بعضهم الجواز في حال التعلم لا غير (6) .
واستدلوا على ما ذهبوا إليه: بأن في تكليف الصبيان وأمرهم بالوضوء حرجًا عليهم، قد يؤدي إلى ترك حفظ القرآن وتعلمه، فأبيح لهم المس لضرورة التعلم، ودفعًا للحرج والمشقة عنهم (7) ، ولقصورهم عن حد التكليف (8) .
القول الثاني: أنه يكره للصغير مس المصحف على غير طهارة.
__________
(1) 87) الهداية، 1/31؛ البحر الرائق، 1/212؛ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين، 1/316.
(2) 88) التفريع، 1/212، المعونة، 1/162، الشرح الصغير، 1/223.
(3) 89) روضة الطالبين، 1/192؛ مغني المحتاج، 1/38؛ فتح الجواد، 1/55.
(4) 90) الفروع، 1/189؛ الإنصاف، 1/223.
(5) 91) حيث تقدم في المبحث الأول أنهم يرون جواز مس البالغ للمصحف وإن كان جنبًا، فالصغير من باب أولى.
(6) 92) انظر: حاشية ابن عابدين، 1/317، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، 1/126، مغني المحتاج، 1/38.
(7) 93) انظر: البناية شرح الهداية، 1/650؛ حاشية ابن عابدين، 1/316؛ الذخيرة، 1/237؛ مغني المحتاج، 1/38، الشرح الكبير، 1/95.
(8) 94) انظر: المعونة، 1/162.
فائدة: قال القرافي في الذخيرة، 1/239: (تحقيق: قد توهم بعض الفقهاء أن هذه النصوص – الدالة على تحريم مس المصحف على غير طهارة – لا تتناول الصبيان كسائر التكاليف، فكما لا يكون تركهم لتلك التكاليف رخصة، فكذلك ههنا، وليس كما ظن، فإن النهي عن ملامسة القرآن لغير المتطهر، كالنهي عن ملامسته لغير الطاهر، من جهة أن كل واحد منهما لا يُشْعِرُ بأن المنهي عن ملامسته موصوف بالتكليف أو غير موصوف، فيكون الجواز في الصبيان رخصة) .(11/8)
وبه قال بعض الحنفية (1) ، وبعض المالكية إن كان للمصحف كله، دون بعضه فلا يكره (2) .
ولعل وجه الكراهة: أن الصغير غير مكلف، فيحمل النهي عن مس المصحف في حقه على الكراهة لا على التحريم، لقصوره عن حد التكليف، ولحاجة التعلم، ودفعًا للحرج والمشقة.
القول الثالث: أنه يحرم على الصغير مس المصحف كله أو بعضه على غير طهارة كالبالغ، ويأثم من مكنه من ذلك، وليًا كان أو غيره.
وبهذا قال: الشافعية في قول (3) ، والحنابلة في الصحيح من المذهب (4) مستدلين على ذلك: بعموم الأدلة الدالة على تحريم مس المصحف على غير طهارة، وأنها عامة في الصغير والكبير، دون ما فرق بينهما (5) .
تنبيه: استثنى الحنابلة من هذا الحكم مس الصغير لوحًا فيه قرآن فأجازوا تمكينه من ذلك لمشقة الطهارة عليه، ولضرورة التعلم على أن يمسه من المحل الخالي من الكتابة في الصحيح من المذهب (6) .
الترجيح:
__________
(1) 95) البناية شرح الهداية، 1/651.
(2) 96) عقد الجواهر، 1/62، الذخيرة، 1/237.
(3) 97) روضة الطالبين، 1/192؛ مغني المحتاج، 1/38.
(4) 98) الإقناع، 1/40؛ منتهى الإرادات، 1/27 ونص على القول بهذا أيضًا صاحب أسهل المدارك، 1/100، ولم أره لغيره من المالكية.
(5) 99) انظر: الكافي، 1/48؛ الشرح الكبير، 1/95.
(6) 100) انظر: كشاف القناع، 1/135، مطالب أولي النهى، 1/155.(11/9)
لعل ما ذهب إليه جمهور العلماء من القول بجواز مس الصغير للمصحف هو الأرجح، لقوة ما استدلوا به، وضعف ما استدل به المخالف، لأن مساواة الصغير بالكبير في إيجاب الطهارة هنا غير ظاهر مع الفارق الكبير بينهما لعدم التكليف في حق الصغير، ففي ذلك مشقة ظاهرة عليه مع عدم تكليفه، قد تؤدي إلى إعراضه عن تعلم القرآن، وقد جاءت قواعد الشرع باليسر والسهولة في الأحكام ورفع الحرج والمشقة عن الأنام، لا سيما فيما يتعلق بنوافل الطاعة فإن الشرع سهل في أحكامها ترغيبًا في العمل بها. فالقول بعدم وجوب الطهارة على الصغير لمس المصحف هو الذي يتمشى مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه، هذا مع التأكيد على استحباب إتيانه بالطهارة وحثه عليها، إذ القائلون بالجواز لا يختلفون في استحباب طهارة الصغير لها (1)
__________
(1) 101) انظر: الذخيرة، 1/237؛ مغني المحتاج، 1/38.
المصادر والمراجع
- ... القرآن الكريم.
- ... أحكام القرآن.
أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت: دار المعرفة.
- ... إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: محمد زهير الشاويش، الطبعة الأولى، بيروت - دمشق: المكتب الإسلامي.
- ... الاستذكار، تصنيف: الإمام يوسف بن عبد الله بن عبد البر الأندلسي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت: دار قتيبة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م.
أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك، أبي بكر بن حسن الكشناوي، بيروت: دار الفكر.
إظهار الحق المبين بتأييد إجماع الأئمة الأربعة على تحريم مس وحمل القرآن الكريم لغير المتطهرين، محمد علي بن حسين المالكي، مكة المكرمة: المطبعة السلفية 1352هـ.
- ... إعلاء السنن، ظفر أحمد العثماني التهاوني، كراتشي – باكستان: إدارة القرآن والعلوم الإسلامية.
- ... إعلام الموقعين عن رب العالمين، شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى: 1374هـ-1995م.
- ... الإفصاح عن معاني الصحاح، يحيى بن محمد بن هبيرة، الرياض: المؤسسة السعودية.
- ... الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي، تصحيح وتعليق: عبد اللطيف محمد السبكي، مصر: المكتبة التجارية الكبرى.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، علي بن سليمان المرداوي.صححه وحققه: محمد حامد الفقي، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1376هـ/1957م الطبعة الأولى.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن نجيم الحنفي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر الطبعة الثانية، طبعة بالأوفست.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد.، راجعه وصححه: عبد الحليم محمد عبد الحليم، عبد الرحمن حسن محمود، القاهرة: مطبعة حسان.
البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: محمد عبد العزيز النجار، القاهرة: مطبعة الفجالة الجديدة.
البناية في شرح الهداية، أبو محمد محمود بن أحمد العيني، تصحيح: محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري، بيروت: دار الفكر، 1401هـ / 1981م الطبعة الأولى.
التبيان في أقسام القرآن، الإمام محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد زهري النجار.الناشر: المؤسسة السعيدية للطبع والنشر.، القاهرة: مطابع الدجوي.
التعليق المغني على الدارقطني (بهامش سنن الدارقطني) ، محمد شمس الحق العظيم آباد، تصحيح وتحقيق: عبد الله هاشم اليماني، القاهرة: دار المحاسن للطباعة، 1386هـ /1966م.
التفريع، عبد الله بن الحسين ابن الجلاب المصري، تحقيق: د. حسين بن سالم الدهماني، بيروت: دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى 1408هـ- 1987م.
تفسير البغوي (معالم التنزيل في التفسير والتأويل) .، الحسين بن مسعود البغوي، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، 1405هـ-1985 م.
تفسير ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401هـ/1981م.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، القاهرة: شركة الطباعة الفنية المتحدة، تصحيح وتعليق: عبد الله هاشم اليماني، 1384هـ/1964م.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الإمام يوسف بن عبد الله بن عبد البر الأندلسي، تحقيق: محمد بوخبزه، وسعيد أحمد أعراب، طباعة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الناشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ/1967م مصورة عن طبعة دار الكتب.
الدر المختار شرح تنوير الأبصار (مع حاشيته لابن عابدين) ، محمد علاء الدين الحصكفي.مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي1386هـ/1966م الطبعة الثانية
الذخيرة، أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد بوخبزه، بيروت: دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى عام 1994م.
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي، عني بطبعه: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، قطر: مطابع قطر الوطنية، 1401هـ /1981م.
رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) .، محمد أمين الشهير بابن عابدين، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي1386هـ/1966م الطبعة الثانية.
روضة الطالبين، يحيى بن شرف النووي، دمشق: المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
روضة الناظر وجنة المناظر، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة،تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، بيروت مؤسسة الرياض للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى1419هـ/1998م
الروض المربع بشرح زاد المستقنع، منصور بن يونس البهوتي،القاهرة: المطبعة السلفية، الطبعة السادسة.
سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني، تصحيح وتحقيق: عبد الله هاشم اليماني، القاهرة: دار المحاسن للطباعة، 1386هـ /1966م.
سنن الدارمي، الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عناية: محمد أحمد دهمان، نشر: دار إحياء السنة النبوية.
السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، حيدر آباد الدكن – الهند: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية الطبعة الأولى.
شرح الخرشي على مختصر خليل، أبو عبد الله محمد الخرشي، بيروت: دار صادر.
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، طبع على نفقة راشد بن سعيد المكتوم.
شرح العمدة في الفقه (كتاب الطهارة) ، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. سعود بن صالح العطيشان، الرياض: مكتبة العبيكان 1413هـ/1993 م.
الشرح الكبير، عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود كلية الشريعة.
الشرح الكبير لمختصر خليل (بهامش حاشية الدسوقي) ، أحمد بن محمد الدردير،بيروت: دار الفكر.
صحيح البخاري (مع حاشية السندي) ، محمد بن إسماعيل البخاري، مصر: مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر.
عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، جلال الدين عبد الله بن نجيم بن شاس، تحقيق: د. محمد أبو الأجفان – أ. عبد الحفيظ منصور، بيروت: دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى: 1415هـ – 1995م.
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش.الرياض: شركة العبيكان للطباعة والنشر الطبعة الأولى عام 1411هـ.
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
جمع وترتيب وتحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.
مكة: مطبعة الحكومة، 1399هـ. الطبعة الأولى.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تصحيح وتحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، القاهرة: المطبعة السلفية ومكتبتها.
فتح الجواد بشرح الإرشاد، أحمد بن حجر الهيتمي، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1391هـ /1971م الطبعة الثانية.
الفروع، شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، راجعه: عبد الستار أحمد فراج، القاهرة: دار مصر للطباعة، 1381هـ /1962م الطبعة الثانية.
الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي.الطبعة الثانية، بيروت: المكتب الإسلامي، 1399هـ/1979م.
كتاب المصاحف، تصنيف: أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، بيروت: دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م.
كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، القاهرة: مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366هـ/1947م.
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي، القاهرة: دار الطباعة العامرة، 1316هـ، تصوير: بيروت: دار إحياء التراث العربي.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت: دار الفكر 1408هـ – 1988م.
المجموع شرح المهذب، الإمام يحيى بن شرف النووي، القاهرة: مطبعة العاصمة.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الرياض: مكتبة المعارف.
المحلى، محمد بن علي بن حزم، بيروت: دار الآفاق الجديدة.
مذكرة أصول الفقه،الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، المدينة المنورة: المكتبة السلفية.
المستدرك على الصحيحين،أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، حلب: مكتبة المطبوعات الإسلامية.
المصنف،عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي. الطبعة الأولى.
المصنف في الأحاديث والآثار، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تحقيق: مختار أحمد الندوي، بومباي – الهند: الدار السلفية، 1401هـ/1981م الطبعة الأولى.
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، مصطفى السيوطي الرحيباني، دمشق: المكتب الإسلامي.
معرفة السنن والآثار، تصنيف: أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: سيد كردي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1412هـ – 1991م.
المعونة على مذهب عالم المدينة، القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، تحقيق: د. حميش عبد الحق، الناشر: مكتبة مصطفى الباز مكة المكرمة الطبعة الأولى عام 1415هـ – 199م.
المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد الشربيني الخطيب، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، القاهرة: المطبعة السلفية ومكتبتها.
المنتقى من أخبار المصطفى، عبد السلام بن تيمية الحراني، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت: دار المعرفة، 1398هـ/1978م. الطبعة الثانية.
منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزياداته، محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي المصري تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، الناشر: عالم الكتب.
المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي الشيرازي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر. مصور عن الطبعة الثانية 1379هـ/1959م.
موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، سعدي أبو جيب، بيروت: دار العربية للطباعة والنشر.
الموطأ (مع شرحه المنتقى) ، مالك بن أنس الأصبحي، بيروت: دار الفكر العربي.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، محمد بن علي الشوكاني، مصور عن الطبعة الأولى، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1402هـ/1982م.
الهداية شرح بداية المبتدي، برهان الدين بن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني، مصر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.(11/10)
والعلم عند الله.(11/11)
إزالة الإشكال في صلاة الركعتين
إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب
الدكتور: عبد الله بن جمعان الدَّادَا الغامدي
أستاذ مساعد- قسم الدراسات الإسلامية
بفرع جامعة أم القرى في الطائف
ملخص البحث
1 يصلي ركعتين إذا دخل والإمام يخطب للجمعة عند: أكثر أهل العلم، الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، وكبار الفقهاء والمجتهدين. وفِعْل: الحسن وابن عُيَيْنة. واستدلالهم لذلك بالسنة والأثر والمعقول.
2 يجْلس ولا يُصلّي ركعتين والحالة هذه عند: الحنفية والمالكية، وبعض الصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين. وفِعْل: شريح وابن سيرين. واستدلالهم لذلك بالقرآن والسنة والأثر والمعقول.
3 يُخيَّر والحالة هذه إن شاء صلّى وإلاّ فلا عند: أبي مِجْلَز. ودليله.
4 المناقشة لجميع ما تقدم من أقوال وأدلة.
5 النتيجة ومؤيِّداتها (يصلي ركعتين والحالة هذه؛ وسبب ذلك؛ ومن ثم فيزول الإشكال في اختلاف أهل العلم والحالة هذه على ثلاثة أقوال) .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وبعد: ...
فهذا بحثي: ((إزالة الإشكال في صلاة الركعتين إذا دخل الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب)) ، أقدمه للقاريء الكريم، بعد أن جعلته في: مقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة.
أما المقدمة فهذه، وقد تضمنت خطة البحث، وهي هذه، وأهميته، ومنهجي فيه.
وأما المباحث الأربعة: ففي إزالة الإشكال في صلاة الركعتين إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب.
أما المبحث الأول: ففي القول الأول، والقائلين به، وأدلتهم من السنة والأثر والمعقول.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في القول الأول، والقائلين به.
والمطلب الثاني: في أدلتهم من السنة والأثر والمعقول.
وقد اشتمل على ثلاثة مقاصد:
... ... المقصد الأول: استدلالهم بالسنة.
... ... المقصد الثاني: استدلالهم من الأثر.
... ... المقصد الثالث: استدلالهم من المعقول.(11/12)
وأما المبحث الثاني: ففي القول الثاني، والقائلين به، وأدلتهم من القرآن والسنة والأثر والمعقول.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في القول الثاني، والقائلين به.
المطلب الثاني: في أدلتهم من القرآن والسنة والأثر والمعقول.
وقد اشتمل على أربعة مقاصد:
المقصد الأول: استدلالهم بالقرآن.
... ... المقصد الثاني: استدلالهم بالسنة.
... ... المقصد الثالث: استدلالهم بالأثر.
... ... المقصد الرابع: استدلالهم بالمعقول.
وأما المبحث الثالث: ففي القول الثالث، والقائل به، ودليله.
وأما المبحث الرابع: ففي المناقشة والترجيح.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مناقشة القول الأول.
وقد اشتمل على ثلاثة مقاصد: ...
... ... المقصد الأول: مناقشة القول.
المقصد الثاني: مناقشة استدلال القول الأول بالسنة.
... ... المقصد الثالث: مناقشة استدلال القول الأول بالأثر.
المطلب الثاني: مناقشة القول الثاني.
وقد اشتمل على خمسة مقاصد:
المقصد الأول: مناقشة القول.
... ... المقصد الثاني: مناقشة استدلال القول الثاني بالقرآن.
... ... المقصد الثالث: مناقشة استدلال القول الثاني بالسنة.
... ... المقصد الرابع: مناقشة استدلال القول الثاني بالأثر.
... ... المقصد الخامس: مناقشة استدلال القول الثاني بالمعقول.
المطلب الثالث: مناقشة القول الثالث.
وأما الخاتمة: ففي نتيجة هذا البحث، ومؤيِّداتها (الراجح وسببه) .
وأهمية هذا البحث تُعرف من عنوانه،وما يدور هذا البحث حوله، وهو صلاة الركعتين حالة الدخول والإمام يخطب يوم الجمعة. هذا الموضوع المهم، الذي يُبتلى به أغلب الناس، والذي يُبين لنا كيف نفقه صلاتنا من خلال اختلاف الفقهاء وأقوالهم وأدلتهم في هذه المباحث الأربعة.(11/13)
وقد اتبعت في كتابته منهجاً علمياً سليماً إن شاء الله تعالى، راعيت فيه أهم قواعد البحوث العلمية،مع الاستعانة بأفضل الكتب الفقهية، مع الانتباه إلى ما في الكتب الأخرى، مبرزاً أقوال وآراء الفقهاء، مع تحرِّي الدِّقة في نسبة الأقوال إلى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، مع بيان الأقوال وأدلتها، والمناقشة لكل قول ولأدلته، مبيناً الراجح وسببه، مزيلاً الإشكال في هذا البحث عن صلاة الركعتين والحالة تلك (دخول المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب) . مع ضبط النص وتوضيحه، وإزالة الإشكال والإيهام منه، وعزو الآيات القرآنية لسورها، وتخريج الأحاديث والآثار بما يتطلبه المقام، وترجمة الأعلام ترجمة علمية بعيدة عن الغموض مع الإيجاز والإلمام؛ لتكون الزيادة في حجم البحث قليلة ما أمكن، والفائدة عظيمة، وتوضيح الألفاظ الغريبة، من أهم الكتب المعتمدة. على أنني عند ذكر العلم أول مرة أذكره كاملاً حتى يُعرف، ثم اكتفي عند وروده فيما بعد مرة أخرى بذكر ما يُعرف أو يُشتهر به فقط. وقد رتَّبت المصادر والمراجع في الحواشي والتعليقات حسب الوفاة، وجعلتها في آخر البحث برقم تَسَلْسُلِي واحد، ثم قمت بعد ذلك بعمل فهرس فني للمصادر والمراجع، حسب الفنون، مرتباً في داخل كل فنٍ على الترتيب الهجائي (طريقة المعاجم الحديثة) .
وبعد فهذا بحثي هذا أقدمه إلى الباحثين في الفقه الإسلامي خاصة، وفي الشريعة الإسلامية عامة؛ للاستفادة منه.
ولنبدأ الآن في المبحث الأول من إزالة الإشكال في اختلاف أهل العلم فيمن جاء يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب هل يصلي ركعتين أم لا؟ على ثلاثة أقوال. فأقول وبالله ومن الله التوفيق:
المبحث الأول: القول الأول، والقائلين به. وأدلتهم من السنة والأثر والمعقول.
وفيه مطلبان: ...
المطلب الأول: القول الأول، والقائلين به.
المطلب الثاني: أدلتهم من السنة والأثر والمعقول.(11/14)
المطلب الأول: القول الأول، والقائلين به.
إذا دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين.
وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، وبه قال:عبد الخالق بن عبد الوارث السُّيُوري (3) من المالكية (4) .
وهو قول: الحسن بن أبي الحسن البصري (5) ، ومكحول الشامي (6) ، وسعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري (7) ، وسفيان بن عُيينة الكوفي (8) ، وعبد الله بن الزبير الحُميدي (9) ، وإسحاق بن راهويه (10) ، وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي (11) ، وداود بن علي الأصبهاني (12) ، ومحمد بن إبراهيم بن المنذر (13) ، وآخرون (14) .
وفِعل: الحسن البصري (15) ، وسفيان بن عُيينة (16) وكان يأمر به (17) .
قال محمد بن يحيى بن أبي عمر (18) : ((كان سفيان بن عُيينة يصلي ركعتين إذا جاء والإمام يخطب، وكان يأمر به، وكان أبو عبد الرحمن المُقريء (19) يراه)) (20) .
فهو قول أكثر أهل العلم (21) .
المطلب الثاني: استدلالهم من السنة والأثر والمعقول.
وفيه ثلاثة مقاصد:
المقصد الأول: استدلالهم بالسنة. وذلك بأربعة أدلة.
الدليل الأول: حديث جابر بن عبد الله السلمي (22) قال: ((جاء رجل (23) والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: " أصليت يا فلان؟ "، قال: ((لا)) ، قال: " قم فاركع" (24) . هذه الرواية الأولى، وهي أصح شيء في هذا الباب (25) .
وفي رواية قال (26) : ((جاء رجل (27) والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب، فقال له: " أركعتَ ركعتين؟ "، قال: ((لا)) ، فقال: " اركع" (28) . وهذه الرواية الثانية.
وفي رواية أنه قال (29) : ((جاء سُلَيْك الغطفاني (30) يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سُليك قبل أن يصلي)) ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أركعت ركعتين؟ "، قال: ((لا)) ، قال: " قم فاركعهُما " (31) . وهذه الرواية الثالثة.(11/15)
وفي رواية: " فصل ركعتين " (32) . وهي الرواية الرابعة.
وفي رواية: جاء سُليك الغَطَفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أصليت ركعتين قبل أن تجيء"، قال: ((لا)) ، قال:" فصل ركعتين وتجوّز فيهما" (33) . وهذه الرواية الخامسة.
وفي رواية قال (34) : ((جاء سُليكٌ الغَطَفَانِيُّ يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: " يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما". ثم قال: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوْز فيهما " (35) . وهذه الرواية السادسة.
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال:" إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين " (36) وهذه الرواية السابعة.
وحديث جابر هذا برواياته هذه نص (37) . وهذه الروايات تدل على أنه ينبغي لمن يدخل المسجد والإمام يخطب أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين.
الدليل الثاني: حديث أبي سعيد سعد بن مالك الخُدري (38) : " أنه دخل يوم الجمعة ومروان (39) يخطب فقام يصلي، فجاء الحرسُ ليجلسوه فأبى حتى صلى"، فلما انصرف أتيناه فقلنا: ((رحمك الله إن كادوا ليقعوا بك)) ، فقال: " ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ثم ذكر: " أن رجلاً (40) جاء يوم الجمعة في هيئة بذَّةٍ (41) والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فأمره فصلى ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب". (42)
وفي رواية: " نحوه"، وفيه … " ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة (43) فأمره بمثل ذلك (44) ، وفيه قصة التصدق (45) ".
وفي رواية قال: " جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: " أصليت؟ "، قال: ((لا)) ، قال: " فصل ركعتين " (46) .(11/16)
الدليل الثالث: حديث أبي قتادة الأنصاري (47) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (48) .
الدليل الرابع: حديث أبي ذر جُندب بن جنادة الغفاري (49) قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست)) ، فقال: " يا أبا ذر هل صليت؟ "، قلت: ((لا)) ، قال: " قم فصل "، قال: ((فقمت فصليت ثم جلست.. الحديث)) . (50)
فكان هذا على عمومه (51) ، فمن دخل المسجد فيصلي ركعتين تحية المسجد، فكل شيء له تحية،والركعتان تحية المسجد.
المقصد الثاني: استدلالهم من الأثر.
وذلك ما روي عن الحسن البصري: " أنه كان يصلي ركعتين والإمام يخطب " (52) .
وفي رواية: " كان الحسن يجيء والإمام يخطب فيصلي ركعتين " (53) .
وفي رواية: " رأيت (54) الحسن يصلي ركعتين والإمام يخطب "، وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين يتجوّز فيهما". (55)
وفي رواية رابعة: " رأيت (56) الحسن البصري دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، فصلى ركعتين ثم جلس". (57)
فالحسن البصري فعل هذا اتباعاً للحديث (58) ، على ما يأتي (59) ، وذلك أن الحسن روى حديث جابر (60) رضي الله عنه، كما تقدم، (61) وكما يأتي (62) .
المقصد الثالث: استدلالهم من المعقول. ... ... ... ...
وذلك أنه دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة فسن له الركوع (63) ؛ لما تقدم ههنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ". (64)
المبحث الثاني: القول الثاني، والقائلين به. وأدلتهم من القرآن والسنة والأثر والمعقول.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: القول الثاني، والقائلين به.
المطلب الثاني: أدلتهم من القرآن والسنة والأثر والمعقول.
المطلب الأول: القول الثاني،والقائلين به.(11/17)
إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يجلس ولا يصلي. وهو مذهب: الحنفية (65) ، والمالكية (66) . ...
وقول:علي بن أبي طالب (67) ، وشريح بن الحارث الكندي، (68) وإبراهيم بن يزيد النخعي (69) ، ومجاهد بن جبر المكي (70) ، ومحمد بن سيرين البصري (71) ، وعطاء بن أبي رباح المكي (72) ، وقتادة بن دعامة السدوسي (73) ، وسفيان بن سعيد الثوري (74) ، والليث بن سعد الفهمي (75) ، وسعيد بن عبد العزيز التَّنُوْخِيّ (76) .
وفِعل: شريح (77) ، وابن سيرين (78) . واختاره: ابن العربي محمد بن عبد الله. (79)
المطلب الثاني: استدلالهم من القرآن والسنة والأثر والمعقول.
وفيه أربعة مقاصد:
المقصد الأول: استدلالهم بالقرآن.
وذلك تعلقاً بقوله تعالى: "وَإِذََا قُرِئَ القُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ". (80)
وإذا دخل والإمام يخطب فصلى ركعتين فصلاته هذه تُضَادّ الإنصات؛ فهذه الآية نزلت في الخطبة، فسمى الخطبة قرآناً؛ لما يتضمنها من القرآن. (81)
المقصد الثاني: استدلالهم بالسنة.
وذلك بأربعة أدلة: ... ... ... ...
الدليل الأول: حديث عبد الله بن بُسْر (82) قال: ((جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة)) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجلس فقد آذَيْتَ وآنَيْتَ " (83) .
قال حُدَير بن كريب أبو الزاهرية (84) : ((وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام، أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة)) . (85)
الدليل الثاني: حديث جابر بن عبد الله: ((أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجعل يتخطى الناس)) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجلس فقد آذيت وآنيت ". (86)(11/18)
الدليل الثالث: حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب (87) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام ". (88)
الدليل الرابع: الروايات المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من قال لصاحبه: ((أنصت)) والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا. (89)
ففي حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخرالدوسي (90) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ". (91)
وهذا يفيد بطريق الدلالة منع الصلاة وتحية المسجد؛ لأن المنع من الأمر بالمعروف وهو أعلى من السنة وتحية المسجد، فمنعه منهما أولى. (92)
وفي الباب (الإنصات) حديث أبي هريرة مثله (93) ، وآخَرَيْنِ له كذلك (94) ، وحديث أبي الدرداء عويمر بن مالك الأنصاري (95) ، وحديث أبّي بن كعب الخزرجي (96) ، وحديث سلمان الفارسي (97) ، وحديث أبي سعيد الخُدري وأبي هريرة (98) ، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (99) ، وحديث أوس بن أوسٍ الثقفي (100) ، وحديث آخر لسلمان الخير (الفارسي) أيضاً. (101)
ففي هذه الأحاديث الأمر بالإنصات إذا تكلم الإمام، فذلك دليل أن موضع كلام الإمام ليس بموضع صلاة. (102)
المقصد الثالث: استدلالهم بالأثر.
وذلك باثني عشر أثراً:
الأثر الأول: عن عبد الله بن عباس الهاشمي (103) ، وابن عمر رضي الله عنهما: " أنهما كانا يكرهان الصلاة والكلام يوم الجمعة بعد خروج الإمام ". (104)
وفي رواية: " كان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يكرهان الكلام إذا خرج الإمام يوم الجمعة ". (105)(11/19)
والحاصل: أن قول الصحابي حجة فيجب تقليده عندنا (الحنفية) إذا لم ينفه شيء آخر من السنة، ولو تجرد المعنى المذكور عنه، وهو أن الكلام يمتد طبعاً، أي يمتد في النفس فيخل بالاستماع، أو أن الطبع يفضي بالمتكلم إلى المد فيلزم ذلك (الإخلال بفرض استماع الخطبة) ، والصلاة أيضاً قد تستلزم المعنى الأول فتخل به، استقل بالمطلوب. (106)
الأثر الثاني: أثر ثعلبة بن أبي مالك القرظي: " أن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام".
وقال:" إنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب (108) رضي الله عنه على المنبر حتى يسكت المؤذن، فإذا قام عمر رضي الله عنه على المنبر لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما، ثم إذا نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر، وقضى خطبتيه تكلموا". (109)
وفي رواية نحو المقطع الأخير: " إنهم كانوا …". (110)
وفي رواية قال: " أدركت عمروعثمان (111) فكان الإمام إذا خرج يوم الجمعة تركنا الصلاة ". (112)
الأثر الثالث: عن عقبة بن عامر الجهني (113) قال: " الصلاة والإمام على المنبر معصية". (114) فخروج الإمام يقطع الصلاة.
الأثر الرابع: عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام (115) قال: "رأيت عبد الله بن صفوان (116) دخل المسجد يوم الجمعة وعبد الله بن الزبير (117) يخطب على المنبر.. وفي آخره.. ثم جلس ولم يركع ". (118)
فعبد الله بن صفوان جاء وعبد الله بن الزبير يخطب فجلس ولم يركع، فلم يُنكر ذلك عليه عبد الله بن الزبير، ولا من كان بحضرته من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. (119)
الأثر الخامس: عن شريح: " إذا كان يوم الجمعة أتى المسجد فإن كان الإمام لم يخرج صلى ركعتين، وإن كان قد خرج لم يصلِّ ". (120)(11/20)
فقد كان شريح يفعل ذلك، ورواه عامر بن شراحيل الشعبي (121) ، واحتج على من خالفه، وهو الحسن (122) ، وشد ذلك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (123) ، مما تقدم ذكره. (124)
وفي رواية: " رأيت (125) شريحاً دخل يوم الجمعة من أبواب كِنْدةَ فجلس ولم يصل". (126)
الأثر السادس: عن أبي قِلابة عبد الله بن زيد الجَرْمي (127) : " أنه جاء يوم الجمعة والإمام يخطب فجلس ولم يصلِّ ". (128)
فخروج الإمام يقطع الصلاة. ...
الأثر السابع: عن عروة بن الزبير بن العوام (129) قال: " إذا قعد الإمام على المنبر فلا صلاة ". (130)
الأثر الثامن: عن سعيد بن المسيب القرشي (131) قال: " خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام ". (132)
وفي رواية قال: " خروج الإمام يقطع الصلاة ". (133)
الأثر التاسع: عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (134) قال: " خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام ". (135)
وفي رواية عنه في الرجل يجيء يوم الجمعة والإمام يخطب: " يجلس ولا يصلي ". (136)
وفي رواية عنه في الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب قال: " يجلس ولا يسبح "، أي: " لا يصلي ". (137)
فخروج الإمام يقطع الصلاة.
الأثر العاشر: عن مجاهد: " أنه كره أن يصلي والإمام يخطب يوم الجمعة". (138)
فخروج الإمام يقطع الصلاة.
الأثر الحادي عشر: عن ابن سيرين:أنه كان يقول: " إذا خرج الإمام فلا يصلِّ أحد حتى يفرغ الإمام ". (139)
وفي رواية: " كان ابن سيرين يجلس ولا يصلي ". (140)
الأثر الثاني عشر: أثر علقمة بن قيس النخعي (141) أنه قيل له: ((أتتكلم والإمام يخطب؟ أو قد خرج الإمام؟)) قال: " لا ". (142)
فخروج الإمام يقطع الكلام، فيقطع الصلاة.
فلا ينبغي ترك ما قد ثبت بذلك إلى غيره.
المقصد الرابع: استدلالهم بالمعقول.(11/21)
أقالوا: ((يجلس ولا يصلي)) ؛ لأنه معنى يمنع من استماع الخطبة، (143) والواجب الاستماع (144) ؛ لما تقدم من الآثار المستدل بها قبل قليل، وهذا فعل يخل بفرض الاستماع (145) ، فوجب أن يكون ممنوعاً منه كالكلام (146) ، فالركوع يُشغِله عن استماع الخطبة، فكره كركوع غير الداخل (147) .
ب ولأن كل من حضر الخطبة كان ممنوعاً من الصلاة كالجالس إذا أتى بتحية المسجد (148) .
ج إنا رأيناهم لا يختلفون أن من كان في المسجد قبل أن يخطب الإمام فإن خطبة الإمام تمنعه الصلاة، فيصير بها في غير موضع صلاة. فالنظر على ذلك أن يكون كذلك داخل المسجد والإمام يخطب داخلاً له في غير موضع صلاة، فلا ينبغي أن يصلي. وقد رأينا الأصل المتفق عليه: أن الأوقات التي تمنع من الصلاة، يستوي فيها من كان قبلها في المسجد، ومن دخل فيها المسجد في منعها إياهما من الصلاة. فلما كانت الخطبة تمنع من كان قبلها في المسجد عن الصلاة، كانت كذلك أيضاً تمنع من دخل المسجد بعد دخول الإمام فيها من الصلاة.
... فهذا هو وجه النظر في ذلك. (149)
المبحث الثالث: القول الثالث، والقائل به، ودليله
هو بالخيار، إن شاء صلى وإلا فلا.
وهو قول: أبي مِجْلَز لاحق بن حُميدٍ البصري. (150)
وذلك أنه قد روي عن أبي مِجْلز أنه قال: " إذا جئت والإمام يخطب يوم الجمعة فإن شئت ركعت ركعتين، وإن شئت جلست". (151)
ويمكن أن يستدل لأبي مجْلَز بأن هذا جمع بين الأدلة؛ فقول أبي مجلز: " إن شئت ركعت ركعتين " لأدلة القول الأول من السنة والأثر والمعقول. وقوله: " وإن شئت جلست " أي ولم تصل الركعتين لأدلة القول الثاني من القرآن والسنة والأثر والمعقول، فقال بجميع هذه الأدلة، وهو الخيار في الركعتين وحالتنا.
المبحث الرابع: المناقشة والترجيح.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مناقشة القول الأول.
المطلب الثاني: مناقشة القول الثاني.(11/22)
المطلب الثالث: مناقشة القول الثالث.
... المطلب الأول: مناقشة القول الأول: يصلي ركعتين.
... وفيه ثلاثة مقاصد:
... ... المقصد الأول: مناقشة القول.
... أيناقش هذا القول بأن القول الثاني (يجلس ولا يصلي ركعتين) : اختيار ابن العربي. (152)
ويجاب عن هذا: بأن محمد بن عيسى الترمذي (153) ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدَّرامي (154) اختارَا القول الأول على ما يأتي، (155) وهما: أعلم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ب ويناقش بأن القول الثاني قول الجمهور (156) ؛ قال ابن العربي: ((والجمهور على أنه لا تفعل)) . (157)
ويجاب عنه: بأن القول الأول قول أكثر أهل العلم؛ فهو قول الشافعية والحنابلة، وأئمة الفقه ومجتهديه، وفعل الحسن وابن عُييْنة، وكان يأمر به، كما سترى. (158)
ج كما يناقش بأن القول الثاني هو الصحيح؛ قال ابن العربي: ((وهو الصحيح أن الصلاة حرام إذا شرع الإمام في الخطبة)) . (159)
ويجاب عن هذا: بأن القول الأول هو الأصح على ما يأتي؛ (160) ؛ يُعضده أنه فعل الحسن البصري، فإنه فعل هذا اتباعاً للسنة، كما عرفت. (161)
د كما يناقش القول الأول بأن ابن العربي قال عن القول الثاني: ((وهو الصحيح أن الصلاة حرام إذا شرع الإمام في الخطبة)) (162) ؛ وذلك بدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: قوله: " وَإذّا قُرئَ القُرءاَنُ فَاسْتًمِعُوا لَهُ وَأنصِتُوا ". (163) فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه، ويشتغل بغير فرض. (164)
الوجه الثاني: صح عنه من كل طريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت. (165) فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الزكيان في الملة يَحْرُمان في حال الخطبة فالنفل أولى بأن يَحْرُم. (166)(11/23)
الوجه الثالث: أنه لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع، والخطبة صلاة؛ إذْ يَحْرُم فيها من الكلام والعمل ما يَحْرُم في الصلاة. (167)
ويجاب عن هذه الأوجه بالآتي:
أما الوجه الأول: فنحن نقول به لمن كان جالساً في المسجد بخلاف الداخل فيصلي ركعتين خفيفتين.
وأما الوجه الثاني: فكذلك نحن نقول به ونوافقكم عليه؛ لأن الكلام يؤدي إلى الفوضى في المسجد، ويشوّش على الحضور، بخلاف الركعتين.
... وأما الوجه الثالث: فكذلك أيضاً نحن نوافق على ذلك بأنه إذا كان الإمام في الصلاة لا يركع، وهذا بخلاف الخطبة فيصلي الداخل ركعتين خفيفتين.
على أن تلك الأصول الثلاثة التي ذكرها ابن العربي تناقش: بأنه يعترض عليها بحديث سُليك الغطفاني.
ويجاب عن هذا: بأن حديث سليك لا يعترض به على هذه الأصول من أربعة أوجه.
الأول: لأنه خبر واحد يعارضه أخبار أقوى منه، وأصول من القرآن، والشريعة، فوجب تركه. (168)
والثاني: أنه يحتمل أن يكون في وقت كان الكلام مباحاً فيه في الصلاة؛ لأنه لا يُعلم تأريخه، فكان مباحاً في الخطبة، فلما حُرّم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو أجدُّ فرضية من الاستماع، فأقلُّ أن يُحْرَم ما ليس بفرض (169) ، وهو النفل.
والثالث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سُليكاً"، وقال له: " صلّ، كما عرفت (170) ، فلما كلمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع؛ إذ لم يكن هنالك قول ذلك ذلك الوقت منه صلى الله عليه وسلم إلا مخاطبته له وسؤاله وأمره، وهذا أقوى الباب. (171)
والرابع: أن سليكاً كان ذا بَذَاذَةٍ وفقر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُشَهِّره؛ لِتُرى حاله، فيُغيّر منه. (172)
ويجاب عن هذا: بأنه لا حاجة إلى التأويلات، وما لا داعي له؛ لنصرة المذهب أو الرأي، وترك السنة الصحيحة الصريحة التي أولى أن تُتَّبع، ويؤخذ بها.
المقصد الثاني: مناقشة استدلال القول الأول بالسنة.(11/24)
أمناقشة دليلهم الأول، حديث جابر بن عبد الله (حديث سُليك) .
يناقش هذا الدليل: بأن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب ينبغي له أن يجلس ولا يركع.
وذلك: أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سُلَيكاً بما أمره به من ذلك، فقطع بذلك خطبته إرادة منه أن يُعلِّم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة.
ويجوز أيضاً أن يكون بنى على خطبته، وكان ذلك قبل أن يُنسخ الكلام في الصلاة، ثم نُسخ في الكلام في الصلاة، فنُسخ أيضاً في الخطبة.
وقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك، كما قال أهل القول الأول، ويكون سنة معمولاً بها. (173)
وبالنظر هل روي شيء يخالف حديث سُليك ذلك؟ فإذا بنا نجد أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك:
ففي حديث عبد الله بن بُسر كما رأيت قال النبي صلى الله عليه وسلم " اجلس فقد آذيت وآنيت ". (174) ولم يأمره بأن يصلي ركعتين. فهذا يخالف حديث سُليك. (175)
وفي حديث أبي سعيد الذي في القول الأول ما يدل على أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن يُنْهى عنها، ألا تراه يقول: " فألقى الناس ثيابهم ". (176)
وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وأن مسه الحصا والإمام يخطب مكروه، وأن قوله لصاحبه ((أنصت)) والإمام يخطب مكروه أيضاً. (177)
فذلك دليل على أن ما كان أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سُلَيكاً، والرجل الذي أمره بالصدقة عليه، كان في حال الحكم فيها في ذلك، بخلاف الحكم فيما بعد. (178)(11/25)
ولقد تواترت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من قال لصاحبه ((أنصت)) والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا (179) . وذلك كما عرفت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ". (180) وفي رواية أنه سمعه يقول: " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت ". (181)
فإذا كان قول الرجل لصاحبه والإمام يخطب ((أنصت)) لغواً، كان قول الإمام للرجل ((قم فصل)) لغواً أيضا. ً (182) فثبت بذلك أن الوقت الذي كان فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر لسُليك بما أمره به، كان الحكم منه في ذلك، بخلاف الحكم في الوقت الذي جُعل مثل ذلك لغواً. (183)
وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك ما عرفت حديث أبي الدرداء وفيه: " … إذا سمعت إمامك يتكلم فانصت حتى ينصرف ". (184) . وحديث أبي هريرة وفيه: " مالك من صلاتك إلا ما لغوت " …" صدق أبيّ". (185)
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنصات عند الخطبة، وجعل حكمها في ذلك كحكم الصلاة، وجعل الكلام فيها لغواً. (186) فثبت بذلك أن الصلاة فيها مكروهة، فإذا كان الناس منهِيِّين عن الكلام ما دام الإمام يخطب، كان كذلك الإمام منهياً عن الكلام ما دام يخطب بغير الخطبة. ألا ترى أن المأمُومين ممنوعون من الكلام في الصلاة؟ فكذلك الإمام، فكان ما مُنع منه غير الإمام فقد مُنع منه الإمام، فكذلك لما مُنع غير الإمام من الكلام في الخطبة كان الإمام منع بذلك أيضاً من الكلام في الخطبة بما هو من غيرها. (187)(11/26)
وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما رأيت: حديث سلمان وفيه: " ثم ينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان له كفارة ما بينه وبين الجمعة التي قبلها.. ". (188) وحديث أبي سعيد الخُدري وأبي هريرة وفيه: " وأنصتَ حتى إذا خرج الإمام كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها ". (189) وحديث عبد الله بن عمرو وفيه: " ولم يَلْغُ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما ". (190) وحديث أوس بن أوس وفيه: " فأنصتَ ولم يَلْغُ كان له مكان كل خطوة عمل سنة.. ". (191) وحديث سلمان الخير (الفارسي) وفيه: " ثم ينصتُ إذا تكلم الإمام غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ". (192)
ففي هذه الآثار أيضاً الأمر بالإنصات إذا تكلم الإمام، فذلك دليل أن موضع كلام الإمام ليس بموضع صلاة.
فهذا حكم هذا الباب. (193)
وقد رويت في ذلك آثار عن جماعة من المتقدمين؛ فالجلوس وعدم صلاة ركعتين (القول الثاني) : فِعل عبد الله بن صفوان، وشريح، وأبي قِلابة كما عرفت. (194) وقول: عقبة ابن عامر، (195) ومجاهد، (196) والزهري، كما رأيت. (197) وتقدم أثر: ابن عمر وابن عباس، وأثر ثعلبة بن أبي مالك، وأثر عقبة بن عامر. (198)
فقد روينا في هذه الآثار: أن خروج الإمام يقطع الصلاة، وأن عبد الله بن صفوان جاء وعبد الله ابن الزبير يخطب فجلس ولم يركع، فلم يُنكِر ذلك عليه عبد الله بن الزبير ولا من كان بحضرته من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. (199) ثم قد كان شريح يفعل ذلك، ورواه الشعبي، واحتج على من خالفه كما عرفت. (200) وشدَّ ذلك الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما تقدم كما بينت. (201)
ثم من النظر الصحيح ما قد وصفنا؛ (202) فلا ينبغي ترك ما قد ثبت بذلك إلى غيره. (203)(11/27)
ويجاب عن هذا: بأنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين "، كما عرفت من حديث أبي قتادة، وحديث جابر ابن عبد الله. (204)
فهذا يدل على أنه ينبغي لمن يدخل المسجد والإمام يخطب أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين. (205) وهو القول الأول.
ويجاب عن هذا: بأن ذلك ما فيه دليل على ما ذكرتم، إنما هذا على من دخل المسجد في حال يحل فيها الصلاة، ليس على من دخل المسجد في حالٍ لا يحل فيها الصلاة. ألا ترى: أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في وقت من هذه الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أنه لا ينبغي له أن يصلي، وأنه ليس ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين لدخوله المسجد؛ لأنه قد نُهي عن الصلاة حينئذٍ. (206) فكذلك الذي دخل المسجد والإمام يخطب ليس له أن يصلي، وليس ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وإنما دخل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت، كل من لو كان في المسجد قبل ذلك، فآثر أن يصلي كان له ذلك. فأما من لو كان في المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلي حينذٍ، فليس بداخل في ذلك، وليس له أن يصلي قياساً على ما ذكرنا من حكم الأوقات المنهي عن الصلاة فيها التي وصفنا. (207)
على أن ابن العربي تأوّل الرواية الخامسة لحديث جابر (حديث سُليك) : بأنه كان فقيراً ودخل يطلب شيئاً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة ليتفطن الناس له فيتصدّقوا عليه. (208) على أنه لم يصحبه عمل فهو منسوخ. (209)
ويجاب عن كل ما تقدم: بأن حديث جابر (سُليك الغطفاني) دليل القول الأول أصح شيء في هذا الباب؛ قال الترمذي: ((وهذا حديث حسن صحيح، أصح شيء في هذا الباب)) . (210) وقال ابن العربي: ((هذا حديث متفق عليه)) . (211) فهو حديث صريح واضح لا يحتاج إلى التأويل.
ب مناقشة دليلهم الثاني حديث أبي سعيد الخدري.(11/28)
يناقش هذا الدليل بأن فيه: ((محمد بن عجلان)) (212) فيه مقال؛ فإنه ((سيء الحفظ)) ، (213) وقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة. (214)
ويجاب عن هذا: بأن أحمد بن حنبل (215) ويحي بن معين الغطفاني (216) ((وثقاه)) . (217) وقال سفيان بن عيينة: ((كان محمد بن عجلان ثقة مأموناً في الحديث)) . (218)
ويناقش أيضاً: بأنه إنما أمره بالصلاة ليتصدق الناس عليه إذا رأوه.
ويجاب عن هذا: بأن هذا فاسد بفعل راوي الحديث أبي سعيد، ولأن الأمر بالصدقة لا يبيح فعل المحظور. (219)
ج مناقشة دليلهم الرابع حديث أبي ذر.
يناقش هذا الدليل: بأن فيه ((عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي)) ، (220) و ((أبو عمر الدمشقي)) ، (221) و ((عبيد بن الخشخاش)) . (222) أما المسعودي فاختلط قبل موته. (223) وأما أبو عمر الدمشقي فقال في الكاشف: ((واهٍ)) . (224) وقال في تقريب التهذيب: ((ضعيف)) . (225) وأما عبيد ففي هذا المرجع: ((ليّن)) . (226)
ويجاب عن هذا: بأن حديث جابر، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي قتادة التي استدلوا بها كلها صحيحة، وجميعها تُعضِّده وتُقويه.
المقصد الثالث: مناقشة استدلال القول الأول بالأثر، وهو أثر الحسن.
أتناقش الرواية الثالثة لهذا الأثر بأن فيها: ((الربيع بن صَبِِيح البصري)) ؛ (227) ضعفه أحمد بن شعيب النَّسائي؛ (228) وقال في في تقريب التهذيب: ((سيء الحفظ)) . (229)
ب وتناقش الرواية الرابعة له بأن فيها: ((العلاء بن خالد القرشي)) ؛ (230) قال في الكاشف: ((ليّن)) . (231) وقال في تقريب التهذيب: ((ضعيف)) . (232)
ويجاب عن هذا: بأن الرواية الأولى لهذا الأثر بطريقيها، والرواية الثانية تُعضِّدان هاتين الروايتين وتَشُدُّهما.(11/29)
وعند التسليم بأثر الحسن ذلك فقد ناقشه ابن العربي بقوله: ((وأما فِعل الحسن فَيُحْتمل أن يكون خطب الإمام بما لا يجوز فبادر الحسن إلى الصلاة، وقد رأيت الزُّهاد بمدينة السلام والكوفة إذا بلغ الإمام إلى الدعاء لأهل الدنيا قاموا فصلوا، ورأيتهم أيضاً يتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمرهم، أو في علم ولا يصغون إليهم حينئذ؛ لأنه عندهم لغو، فلا يلزم استماعهم، لا سيما وبعض الخطباء يكذبون حينئذ، فالاشتغال بالطاعة عنهم واجب)) . (233)
المطلب الثاني: مناقشة القول الثاني: يجلس ولا يصلي.
وفيه خمسة مقاصد:
المقصد الأول: مناقشة القول.
يناقش: بأنه ينبغي على من دخل والإمام يخطب أن يصلي ركعتين تمسكاً بالسنة الصحيحة الصريحة، التي تمسك بها أكثر أهل العلم وقالوا بها، كالشافعية والحنابلة، وأئمة الفقه والاجتهاد، كالحسن ومكحول وابن عيينة والحميدي وإسحاق وأبي ثور وداود وابن المنذر. وفعله: الحسن وابن عيينة، وكان يأمر به، كما عرفت هذا جميعه. (234)
المقصد الثاني: مناقشة استدلال القول الثاني بالقرآن.
نوقش استدلالهم بالآية: بأنه مخصوص (235) عمومها بالدليل الأول والثاني (حديثي جابر وأبي سعيد) للقول الأول من السنة الصحيحة الصريحة الخاصة بحالتنا.
المقصد الثالث: مناقشة استدلال القول الثاني بالسنة.
أأما دليلهم الأول: حديث عبد الله بن بُسر فنوقش: بأنه قضيةٌفي عَينٍ، (236) يحتمل: أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة، أو يكون في آخر الخطبة، بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتَتْه تكبيرة الإحرام. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس؛ ليكف أذاه عن الناس؛ لتخطيه إياهم. فإن كان دخوله في آخر الخطبة بحيث إذا تشاغل بالركوع فاتَه أول الصلاة لم يُستحب له التشاغل بالركوع. (237) وهذا آذى الناس فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس؛ إذ لا مجال لأمره بالصلاة.(11/30)
ب وأما دليلهم الثاني: حديث جابر بن عبد الله: " أن رجلاً.." فيناقش بما نوقش به حديث عبد الله بن بُسر قبل قليل.
ج وأما دليلهم الثالث: حديث ابن عمر فيناقش بثلاثة أمور:
الأمر الأول: فيه ((أيوب بن نَهيك)) ؛ قال في مجمع الزوائد ((وفيه أيوب بن نَهيك، وهو متروك، ضعفه جماعة، وذكره ابن حِبان (238) في الثقات، وقال يخطىء)) . (239)
الأمر الثاني: أجيب عنه (أي حديث ابن عمر) من وجهين:
أحدهما: أنه غريب. (240) وقال في شرح فتح القدير: ((رفعه غريب، والمعروف كونه من كلام الزهري)) . (241)
والثاني: لو صح لحمل على ما زاد على ركعتين جمعاً بين الأحاديث. (242)
الأمر الثالث: كما نوقش من وجهين آخَرْين:
أحدهما: إنه مجهول؛ قال في الحاوي: ((وأما الحديث فمجهول)) . (243)
والثاني: إن صح فإنه مخصوص؛ قال في الحاوي: ((وإن صح كان مخصوصاً)) . (244)
د وأما دليلهم الرابع: أحاديث الإنصات فنوافق على أن من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب ((أنصت)) فقد لغا.
أما حديثهم حديث أبي هريرة ذلك أنه يفيد بطريق الدلالة منع.. إلخ.. فنوقش: بأن العبارة مقدمة على الدلالة عند المعارضة، وقد ثبتت (245) العبارة، وهو ما روي: ((جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب)) ، فقال: " أصليت يا فلان "، قال: ((لا)) قال: " صل ركعتين وتجوّز فيهما "، كما رأيت؛ (246) فالعبارة في هذا الحديث مقدمة على الدلالة في حديث أبي هريرة ذلك.
وأجيب: أن المعارضة غير لازمة منه لجواز كونه قطع الخطبة حتى فرغ. (247) وهو كذلك؛ أخرجه علي بن عمر الدارقطني (248) : " قم فاركع ركعتين، وأَمْسَك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته". (249) وعنده: ((أسنده عُبيد بن محمد العبدي، (250) ووهِم فيه)) . (251)
ثم أخرجه: الدارقطني من رواية وفيه: " ثم انْتَظَرَه حتى صلى) ". (252) وهو مرسل. (253) وعنده ((أن هذا المرسل هو الصواب)) . (254)(11/31)
قال في شرح فتح القدير: ((ونحن نقول المرسل حجة فيجب اعتقاد مقتضاه علينا، ثم رفعه زيادة؛ إذ لم يعارض ما قبلها، فإن غيره ساكت عن أنه أَمْسَك عن الخطبة أولاً، وزيادة الثقة مقبولة، ومجرد زيادته لا توجب الحكم بغلطه وإلا لم تقبل زيادة، وما زاده مسلم فيه من قوله: " إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما "، (255) لا ينفي كون المراد أن يركع مع سكوت الخطيب؛ لما ثبت في السنة من ذلك، أو كان قبل تحريم الصلاة في حال الخطبة،
فتَسْلَم تلك الدلالة عن المعارض)) . (256)
على أن أحاديث الإنصات جميعها في غير محل المقام.
وهذا الأمر بالإنصات لاستماع الخطبة، وليس دليلاً على أن موضع كلام الإمام ليس بموضع صلاة، فتحية داخل المسجد والإمام يخطب تخالف من كان موجوداً في المسجد يستمع للخطبة، فعليه أن ينصت وإلا لعمّت الفوضى، ولما استفيد من الخطبة.
المقصد الرابع: مناقشة استدلال القول الثاني بالأثر.
أأما دليلهم الأول من الأثر، وهو أثر ابن عباس وابن عمر بروايتيه فيناقش: بأن فيهما: ((الحجاج بن أَرْطأة النخعي)) ، (257) وهو كثير الخطأ والتدليس. (258)
ثم ذلك أنهما يكرهان الصلاة والكلام يوم الجمعة لمن كان في المسجد وإلا لما استمع الناس للخطبة، ولما كان للخطبة فائدة. ومن كان في المسجد جالساً فعليه أن يقلد قول الصحابي.
ب وأما أثر ثعلبة فالرواية الثالثة له مؤيدة للروايتين الأوليين له. لكنه يناقش: بأنه كالأثر السابق. ولم يخص من دخل والإمام يخطب بمنعه من الصلاة. وفيه: " إنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر" فدل على أن المراد ليس الداخل وإنما الجالس في المسجد. وفيه في الرواية الثالثة: " كان الإمام إذا خرج.. تركنا "، فدل على أن المراد الموجود في المسجد.(11/32)
ج وأما أثر عقبة ففيه: ((عبد الله بن لَهِيعة (259) الحضرمي)) (260) وهو ((ضعيف)) . (261) والمقصود: الصلاة مِن مَن كان في المسجد جالساً والإمام على المنبر معصية.
د وأما أثر عبد الله بن صفوان فذلك خاص به، وقد يكون ذلك هو المناسب أو المصلحة فيه.
هـ وكذا أثر شريح بروايتيه مثل هذا.
ووأما أثر أبي قِلابة فيناقش: بأن فيه ((علي بن عاصم)) ؛ (262) قال في الكاشف: ((ضعّفوه)) . (263) وقال في تقريب التهذيب: ((يخطئ، ويصرّ، ورمي بالتشيُّع)) . (264)
على أن ذلك خاص بأبي قِلابة، وقد يكون ذلك هو المناسب أو المصلحة فيه.
ز وأما أثر عروة، وأثر سعيد بن المسيب بروايتيه، والرواية الأولى لأثر الزهري فيجاب عن ذلك: بأن المراد منه لمن كان جالساً في المسجد.
ح وأما الرواية الثانية والثالثة لأثر الزهري، وأثر مجاهد، وأثرابن سيرين بروايتيه فيجاب عن ذلك: بأن ذلك اجتهاد منهم وخاص بهم.
ط وأما أثر علقمة: فهو في الكلام. ثم هو أمر مُجتهِدٌ فيه علقمة.
ويجاب عنه: بأن هذه السنة الجارية، وعندما يصلي فإنه يستمع، وهو يخالف الكلام، فالكلام ليس بعبادة وإنما فوضى وتشويش على الحضور داخل المسجد حال الخطبة، والصلاة تحية المسجد عبادة لله، والركوع لا يُشغله بل ترك الركعتين يجعله يتهاون في أمر العبادة ويَتساهل فيه.
المقصد الخامس: مناقشة استدلال القول الثاني بالمعقول.
وأما قياسه على الجالس فالمعنى فيه أنه إنما أمر به من تحية المسجد. (265) والداخل ليس كالجالس قبل بدء الإمام في الخطبة. ويختلف عن أوقات النهي، وليس كذلك الخطبة، فالأحاديث صريحة وواضحة، فمن كان في المسجد قيامه حال الخطبة وصلاته يؤدي إلى الفوضى والتشويش على الحضور، بخلاف الداخل حال الخطبة.
المطلب الثالث: مناقشة القول الثالث (هو بالخيار) .(11/33)
وأما القول الثالث قول أبي مِجْلَز: فهو قول خاص به، كما أنه يناقش بالقول الأول، ومن قال به، وهم أكثر أهل العلم. كما أنه يناقش أيضاً: بالقول الثاني، ومن قال به، وهم من بقي من أهل العلم.
فالقول الأول والثاني قال بهما أئمة المذاهب المعتمدة، وأئمة الاجتهاد، وجميع أهل العلم، معتمدين في ذلك على الأدلة من القرآن والسنة والأثر والمعقول. وأما ما روي عن أبي مِجْلز فيجاب عنه أيضاً بهذا، ويمكن أن يكون جمعاً بين الأدلة، اجتهاداً منه، وأدلة القول الأول عن الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة وصريحة والمقام.
الخاتمة: نتيجة البحث، ومؤيداتها.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن نتيجة البحث (الراجح) هو القول الأول، وهو أنه إذا دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين ثم يجلس؛ فهو قول: الشافعية والحنابلة، والحسن ومكحول والمقبري وابن عُيينة والحُميدي وابن راهويه وأبي ثور وداود وابن المنذر. أئمة الفقه ومجتهديه. وفِعل: الحسن وابن عيينة، وكان يأمر به. ولولا أنه هو السنة لَمَا فَعلاه، وَلَمَا أَمََر به ابن عيينة، ولَمَا اختاره: الترمذي (266) والدارمي. (267)
فهو قول: أكثر أهل العلم؛ قال الحسين بن مسعود البغوي (268) في التهذيب: ((عند أكثر أهل العلم)) . (269) وقال في شرح السنة: ((وهو قول كثير من أهل العلم)) . (270)
يُؤيد تلك النتيجة (الراجح) أيضاً، وهو أن القول الأول الأصح:أنه فِعل الحسن البصري؛ وذلك لما رُوي عن ((العلاء بن خالد القرشي)) (271) أنه قال: " رأيت الحسن البصري دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، فصلى ركعتين، ثم جلس". (272)
وفِعل الحسن البصري هذا إنما فَعَله اتباعاً منه للسنة، التي رواها الحسن نفسه؛ فقد روى عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث (273) ، كما عرفت (274) ؛ قال حَمْد بن محمد الخطابي (275) : ((والسنة أولى ما اتُّبِِع)) . (276)(11/34)
وبالنظر إلى تلك النتيجة (القول الراجح هذا) نجد أن تلك النتيجة مبنيةً على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمها، ترجيحاً لقول أئمة يُقتدى بهم في علم الحديث وغيره. فهو ترجيح موافق لقول أكثر الأئمة والمجتهدين، واختيارهم.
وما استدلوا به أحاديث صريحة واضحة صحيحة؛ فحديث جابر حديث صحيح بجميع رواياته، وكذلك حديث أبي سعيد وحديث أبي قتادة: صحيحان.
ولولا أنه هو السنة لَما قال به أئمة الهدى؛ فهو ترجيح للسنة الصحيحة، والعقل السليم؛ فحديث جابر رضي الله عنه أصحّ شيء في الباب كما رأيت. (277)
لا يعترض على هذا: بأن ابن العربي قال عن القول الثاني (يجلس ولا يصلي) : ((وهو الصحيح)) ؛ (278) لأن هذا مُعارِض للأحاديث الصحيحة الصريحة الواضحة في المقام، حديث جابر برواياته المختلفة، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي قتادة، وغيرهم، وأثر الحسن وغيره.
وفي نفس الوقت نجد أن الراجح مخالف لقول: الحنفية والمالكية، ومن وافقهما من أهل العلم؛ لقوة أدلته، وفهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما عرفت. (279)(11/35)
على أن السبب في الاختلاف في هذا البحث مُعَارضة القياس (280) لعموم الأثر، وذلك أن عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء أحدكم فليركع ركعتين)) ، (281) يُوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب، والأمر بالإنصات إلى الخطيب كما عرفت (282) يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يُشغل عن الإنصات وإن كان عبادة، ويُؤيد عموم هذا الأثر ما ثبت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين". (283) وأكثر رواياته:" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الداخل أن يركع، ولم يقل إذا جاء أحدكم" (284) فيتطرق إلى هذا الخلاف في هل تقبل زيادة الراوي الواحد إذا خالفه أصحابه عن الشيخ الأول الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا؟ فإن صحت الزيادة وجب العمل بها؛ فإنها نص في موضع الخلاف. (285)
والنص لا يجب أن يعارض بالقياس، لكن يُشْبه أن يكون الذي راعاه مالك بن أنس الأصبحي (286) في هذا هو العمل. (287)
إلا أنه يؤيد هذا القول الراجح (القول الأول: يصلي) : السنة الصحيحة، والأثر المعتمد على هذه السنة، والمعقول السليم؛ فحديث جابر (حديث سُليك) : روايته الأولى صحيحة؛ ممن أخرجها: محمد بن إسماعيل البخاري، (288) ومسلم بن الحجاج القُشيري النَّيسابوري؛ (289) فهو ((متفق عليه)) ، حديث صحيح، صححه الترمذي وذكر أنه أصح شيء في هذا الباب كما عرفت، (290) وروايته الثانية صحيحة، وكذلك الثالثة؛ ممن أخرجهما: مسلم، وأيضاً روايته الرابعة صحيحة؛ ممن أخرجها: البخاري ومسلم، وصححها يحيى بن شرف النووي الشافعي، (291) وقال عنها عبد الله بن أحمد بن قُدامة الحنبلي (292) : ((متفق عليها)) ؛ فقد قال في المغني: ((متفق عليه)) . (293) وروايته السادسة صحيحة، وكذا السابعة؛ ممن أخرجهما: مسلم. فحديث جابر هذا نص، وتقدم جميع هذا كما عرفت. (294)(11/36)
وقد أكّده الترمذي بحديث أبي سعيد: " أنه دخل ومروان يخطب فصلى، وبيّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به ". ويرويه سفيان بن عيينة، وقال عن ((محمد بن عجلان)) : ((ثقة مأمون في الحديث)) كما رأيت. (295) ...
وقال ابن العربي: ((والذي عندي أن محمد بن عجلان إمام لا كلام لأحد فيه إلا بغير حجة)) . (296)
على أن حديث أبي سعيد هذا صحيح؛ صححه الترمذي. (297) وكذا حديث أبي قتادة صحيح؛ صححه النووي، (298) وقال ابن قدامه: ((متفق عليه)) . (299) فهي أحاديث صحيحة صريحة واضحة لا مجال للتأويل الفاسد.
وأثر الحسن لا يضره ما في إسناد الرواية الثالثة والرابعة من ضعف؛ فقد رددته كما رأيت. (300)
وأحاديث الإنصات ليست للمقام دليلاً.
على أن بحثي هذا خِلافيّ كما رأيت، والنتيجة هذه لا تقلِّل من قيمة القولين المخالفَين، لا سيما وأن من أخذ بذلك، أئمة كبار، إلا أن الواجب الاتباع، ومخالف النص الصحيح لا ينظر إلى قوله مع وجود النص الصحيح الصريح، رحمنا الله برحمته، وفقهنا في دينه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحواشي والتعليقات
الأم 1/198، والحاوي 2/429، والمهذب 1/122 والمجموع 4/53 و 550 و 551 و 552.
المغني 2/319، والإنصاف 2/415، 416، والروض المربع 1/ 88.
التميمي. توفي (460هـ) ونسبته: إلى عمل السُّيور، وهو أن يقطع الجلد سيوراً دقاقاً ويخرز بها السروج؛ ترتيب المدارك وتقريب المسالك 2/326، والفكر السامي 2/212، واللباب في تهذيب الأنساب 2/ 170.
قوانين الأحكام الشرعية 96، وحاشية الدسوقي 1/388، وجواهر الإكليل 1/99.
شرح معاني الآثار 1/369، والمجموع 4/552، والمغني 2/319. والحسن: ولد سنة (21هـ) ، وكان إماماً خيراً، عالماً فقيهاً، حجة، مأموناً، عابداً ناسكاً فصيحاً، توفي سنة (110هـ) ؛ طبقات ابن سعد 7/157، وشذرات الذهب 1/136 138.(11/37)
المجموع 4/552، والمغني 2/319. ومكحول: طاف الأرض في طلب العلم، وكان فقيهاً، وأحد أوعية العلم والآثار، توفي سنة (113هـ) ؛ شذرات الذهب 1/146، 14، وتهذيب التهذيب 10/289 293.
المجموع 4/552. وسعيد: توفي سنة (123هـ) . وكان يسكن بالقرب من مقبرة فنسب إليها؛ الكاشف 1/287، واللباب في تهذيب الأنساب 3/245، 246.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. وسفيان:أحد الأعلام، الإمام الراوي المشهور، والمحدث الحافظ الثقة الثبت، توفي سنة (198هـ) ؛ تأريخ بغداد 9/174 184، والكاشف 1/301.
المجموع 4/552. وعبد الله: القرشي المكي الفقيه، أحد الأعلام، كان ناصحاً للإسلام وأهله، توفي سنة (219هـ) ؛ الكاشف 2/77.
الجامع الصحيح 2/386، والمجموع 4/552، والمغني 2/319. وإسحاق: ولد سنة (166هـ) وقيل (161هـ) ، اجتمع له الحديث والفقه، والحفظ والصدق والورع والزهد، توفي سنة (238هـ) بنيسابور؛ 321، وتأريخ بغداد 6/345 355، وطبقات الشافعية 1/232 238.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. وأبو ثور: ثقة أمين، فقيه عالم، توفي سنة (240هـ) ببغداد؛ المرجعان السابقان، الأول ص 65 69، والثاني ص 277.
المجموع 4/552. وداود: ولد سنة (200هـ) وقيل (202هـ) ، كان ناسكاً ذو فضل وصدق، يتمسك بظاهر نصوص القرآن والسنة، توفي سنة (270هـ) ؛ الفهرست 303 305، وطبقات الحفاظ 257،258، والفتح المبين 1/159161.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. وابن المنذر: فقيه مجتهد، حافظ، شيخ الحرم بمكة لم يُصَنّف مثل كتبه، توفي بمكة سنة (319هـ) ؛ طبقات الشافعية 2/126 129، والأعلام 5/294، 295
المجموع 4/552.
أخرجه: الترمذي والدارِمي وابن أبي شيبة والطحاوي كما ستعرف؛ رقم (52 57) .
الجامع الصحيح 2/386.
المرجع السابق.
العدني، نزيل مكة، الحافظ الصالح الخيِّرالحجة، شيخ الترمذي، مات سنة (243هـ) ؛ الكاشف 3/95، وشذرات الذهب 2/104.(11/38)
اسمه ((عبد الله بن يزيد)) المكي، أصله من البصرة أو الأهواز، الحافظ الثقة الفاضل، مات سنة (213هـ) ؛ الكاشف 2/128، وتقريب التهذيب 1/462.
الجامع الصحيح 2/386.
التهذيب للبغوي 2/339.
الأنصاري. توفي سنة (78هـ) بالمدينة المنورة؛ سير أعلام النبلاء 3/189 194، والبداية والنهاية 9 /22.
هو سُلَيك بن هُدْبةَ الغطفاني؛ وتأتي ترجمته بعد قليل رقم (30) ؛ شرح معاني الآثار 1/365، وعارضة الأحوذي 2/298.
أخرجه: البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي والترمذي، واللفظ للبخاري؛ صحيح البخاري 2/223، وصحيح مسلم 2/596 (875/54) و (875) ، وسنن أبي داود 1/291 (1115) ، وسنن النسائي 3/107، والجامع الصحيح 2/384 (510) .
المرجع السابق ص 385.
القائل: جابر بن عبد الله.
هو سُليك كما في الرواية الأولى؛ رقم (23) ، ويأتي رقم (30) هنا.
أخرجه: مسلم والنسائي وأحمد والطحاوي، واللفظ لمسلم؛ صحيح مسلم 2/596 (875/56) ، وسنن النسائي 3/103، ومسند أحمد 3/369، وشرح معاني الآثار 1/365
القائل: جابر بن عبد الله.
هو: سُلَيْك بن عمرو الغطفاني، وقيل: ابن هُدْبَة، وجاء في شرح معاني الآثار: ((هُدْيَة)) . الصحابي رضي الله عنه؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج 1 ص 231، ورقم (23) هنا.
أخرجه: مسلم وابن ماجة والشافعي والطحاوي، واللفظ لمسلم؛ صحيح مسلم 2/597 (875/58) ، وسنن ابن ماجة 1/353 (1112) ، والأم 1/197، وشرح معاني الآثار 1/365.
أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي والشافعي، واللفظ للبخاري والشافعي؛ صحيح البخاري 2/223، وصيحيح مسلم 2/596 (875/ 55) ، وسنن ابن ماجة 1/353 (1112) ، وسنن الدارمي 1/365، والأم 1/197.
أخرجه: أبو داود وابن ماجة والطحاوي، واللفظ لابن ماجة؛ سنن أبي داود 1/291 (1116) ، وسنن ابن ماجة 1/353، 354 (1114) ، وشرح معاني الآثار 1/365.
القائل: جابر بن عبد الله.(11/39)
أخرجه: مسلم وأحمد والطحاوي، واللفظ لمسلم، أما غيره فبدون: " قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما " وأخرجه: أبوداود وأحمد نحو ما عند مسلم. والطحاوي مثله؛ صحيح مسلم 2/597 (875/59) ، ومسند أحمد 3/316،317، و389 و297، وشرح معاني الآثار 1/365 و 365 و 371، وسنن أبي داود 1/291، 292 (1117) .
أخرجه: مسلم والنسائي وأحمد والدارِمي، واللفظ لمسلم؛ صحيح مسلم 2/596 (875/57) ، وسنن النسائي 3/101، ومسند أحمد 3/369، وسنن الدارمي 1/36.
المغني 2/319.
الأنصاري. توفي سنة (74هـ) ؛ ونسبته إلى خُدرة، وهو: الأبجر بن عوف، قبيلة من الأنصار؛ سير أعلام النبلاء 3/168 172، وشذرات الذهب 1/81، والأنساب 2/380.
هو: مروان بن الحكم، جد خلفاء بني أمية، توفي سنة (65هـ) ؛ البداية والنهاية 8/277 281، وشذرات الذهب 1/73.
هذا الرجل هو سُليك الغطفاني؛ عارضة الأحوذي 2/298.
أي حالته وصفته سيئة. وتطلق تلك الصفة ويراد بها التواضع في الملبس؛ لسان العرب 3/477 بذذ، وعارضة الأحوذي 2/298، 299.
أخرجه: النسائي والترمذي والشافعي، واللفظ للترمذي، أما غيره فمطولاً وفيه قصة التصدق، وفيه.. " فأمر أن يصلي ركعتين " والدارمي نحوه، دون قوله: " ثم ذكر أن رجلاً.. إلخ ". وأحمد مطولاً، وفيه قصة التصدق، وفيه.. " فأمره أن يصلي ركعتين.."؛ صحيح النسائي 3/106، 107، والجامع الصحيح 2/385 (511) ، والأم 1/197، 198، وسنن الدارمي 1/364، ومسند أحمد 3/25.
أي " ناداه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دنا ".
أي الركعتين.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/366.
أخرجه: ابن ماجة على ما في الرواية قبل السابقة؛ سنن ابن ماجة 1/353 (1113) .
السلمي، الصحابي، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (54هـ) ؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج 2 ص 265، وشذرات الذهب 1/60.(11/40)
أخرجه: مسلم ومالك وأحمد والطحاوي والدارمي، واللفظ لمسلم؛ صحيح مسلم 1/ 495 (714) و (714/70) ، والموطأ 1/162 (57) ، ومسند أحمد 5/305 و295 و296 و303 و311، وشرح معاني الآثار 1/370، وسنن الدارمي 1/323، 324.
توفي سنة (32هـ) ؛ العبر 1/24، 25، وشذرات الذهب 1/39.
أخرجه: أحمد في مسنده: 5/178. ...
الحاوي 2/429.
أخرجه: ابن أبي شيبة والطحاوي؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/110، 111، وشرح معاني الآثار 1/369.
أخرجها: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
الرائي: الربيع بن صَبِيح البصري؛ الرقم القادم. وتأتي ترجمته؛ رقم (227) .
أخرجها: الدارمي في سننه 1/364.
الرائي: العلاء بن خالد القرشي؛ الرقم القادم. وتأتي ترجمته؛ رقم (230) .
يأتي تخريج هذه الرواية في الخاتمة؛ رقم (272) .
الجامع الصحيح 2/386.
في الخاتمة؛ رقم (273) .
الجامع الصحيح 2/386.
في الرواية الخامسة لحديث جابر عند الطحاوي؛ حاشية رقم (33) هنا.
في الخاتمة؛ رقم (273) .
المغني 2/319.
قبل قليل.
الهداية 1/84، والإختيار 1/84، ومجمع الأنهر 1/171، وشرح فتح القدير 2/37.
الكافي 1/196، وبداية المجتهد 1/163، وجواهر الإكليل 1/99، والخَرشي 2/89.
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111. وعلي: ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، مشهور المناقب، قُتل على يد عبد الرحمن بن ملجم سنة (40هـ) ؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1ج1 ص 344 349، والبداية والنهاية 7/353 ج 8/16.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. وأخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111. وشريح: ولي قضاء الكوفة لعمر فمن بعده (75) سنة، وكان من كبار التابعين، فقيهاً نبيهاً شاعراً مزّاحاً، ثقة، توفي بالكوفة سنة (78) هـ. ونسبته إلى كِنْدة، ثور بن مُرتِّع، وقيل: ثور بن عُفير، قبيلة مشهورة من اليمن؛ وفيات الأعيان 2/460 463، وشذرات الذهب 1/84 86، واللباب في تهذيب الأنساب 3/115، 116.(11/41)
المجموع 4/552، والمغني 2/319. والنخعي: ولد سنة (46هـ) ، من كبار التابعين في الصلاح والصدق والحفظ، من أهل الكوفة، فقيه العراق بالاتفاق، كان إماماً مجتهداً، توفي سنة (95هـ) ؛ شذرات الذهب 1/111، والأعلام 1/80.
أخرجه: ابن أبي شيبة والطحاوي. ومجاهد: ولد سنة (21هـ) ، الإمام الحبر، توفي بمكة سنة (103هـ) ؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/111، وشرح معاني الآثار 1/370، وطبقات الحفاظ 42، 43، وشذرات الذهب 1/125.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. ويأتي تخريجه؛ رقم (139) . ومحمد: ولد سنة (33هـ) بالبصرة، ونشأ بزازاً، وتفقه وروى الحديث، تابعي ثقة جليل، اشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، توفي بالبصرة سنة (110هـ) ؛ البداية والنهاية 9/300، والأعلام 6/154.
المجموع 4/552. وأخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111. وعطاء: ولد في جند باليمن سنة (27هـ) ، تابعي جليل عالم، توفي في مكة سنة (114هـ) ؛ طبقات الحفاظ 45،46، والأعلام 4/235.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. وقتادة: ولد سنة (61هـ) ، مفسر حافظ، عالم بالحديث، رأساً في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، ضرير أكمه، مات سنة (118هـ) بواسط؛ شذرات الذهب 1/153، 154، والأعلام 5/189.
الجامع الصحيح 2/386، والمجموع 4/552، والمغني 2/319.والثوري: ولد سنة (5 أو 6 أو 97هـ) ، كان أمير المؤمنين في الحديث، توفي بالبصرة سنة (161هـ) . ونسبته: إلى ثور بن عبد مناة؛ تأريخ بغداد 9/151 174، ووفيات الأعيان 2/386 391.
المجموع 4/552، والمغني 2/319. والليث: ولد سنة (64هـ) ببلدة ((قرقشندة)) بمصر، من أصحاب مالك، إمام ثقة كثير الحديث، مات سنة (175هـ) ؛ الفهرست 281، وشذرات الذهب 1/285.(11/42)
المجموع 4/552. وسعيد: مفتي دمشق وعالمها، كان صالحاً قانتاً، خاشعاً بكاء خوافاًً، ثقة ثبتاً، مات سنة (167هـ) . ونسبته: إلى تنوخ، اسم لعدة قبائل اجتمعت قديماً بالبحرين؛ الكاشف 1/291، وشذرات الذهب 1/263، والأنساب 1/507.
أخرجه: عبد الرازق وابن أبي شيبة والطحاوي كما يأتي؛ رقم (120 126) .
يأتي تخريجه؛ رقم (141) .
عارضة الأحوذي 2/298. وابن العربي: ولد سنة (468هـ) ، الإمام العلامة القاضي، الحافظ المحدث المشهور، توفي سنة (543هـ) بفاس؛ وفيات الأعيان 4/296، 297، وسير أعلام النبلاء 20/197 203.
الأعراف (204) .
الحاوي 2/429، وتفسير البحر المحيط 4/448.
المازني، صحابي، ولأبيه صحبة، نزل حمص، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام في حمص، وذلك سنة (88هـ) ، وقيل (96هـ) ؛ الكاشف 2/66، وتقريب التهذيب 1/404، وشذرات الذهب 1/98، 111.
أخرجه: أبوداود والنسائي وأحمد والطحاوي، واللفظ له. وآذيت: أي الناس بتخطيك. وآنيت: تأخرت وأبطأت عن وقتك في المجيء؛ سنن أبي داود 1/292 (1118) ، وسنن النسائي 3/103، ومسند أحمد 4/190 و188، وشرح معاني الآثار 1/366، ولسان العرب 14/27 و48، 49 (أذي، وأني) .
الحضرمي الحمصي، ثقة، توفي سنة (129هـ) ؛ الكاشف 1/151، وتقريب التهذيب 1/156.
شرح معاني الآثار 1/366.
أخرجه: ابن ماجة في سننه 1/354 (1115) .
القرشي، صحابي ابن صحابي، ولد في مكة قبل الهجرة بعشر سنين،وتوفي سنة (74هـ) على المشهور؛ سير أعلام النبلاء 3/203 239، والبداية والنهاية 9/5، 6.
أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير؛ مجمع الزوائد 2/184.
شرح معاني الآثار 1/367.
اختلف في وفاته (7 أو 8 أو 59هـ) وهذا المشهور، ودفن بالبقيع. ونسبته: إلى دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران، بطن كبير من الإزد؛ البداية والنهاية 8/111 124، واللباب في تهذيب الأنساب 1/513.(11/43)
أخرجه: البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي والطحاوي وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة،واللفظ للبخاري؛ صحيح البخاري 2/224، وسنن أبي داود 1/290 (1112) ، وسنن النسائي 3/103، 104، والجامع الصحيح 2/387 (512) ، وسنن ابن ماجة 1/352 (1110) ، وسنن الدارمي 1/364، وشرح معاني الآثار 1/367، ومصنف عبد الرزاق 3/222، 223 (5414) و (5416) ، ومصنف ابن أبي شيبة 2/124.
شرح فتح القدير 2/37.
أخرجه: النسائي والطحاوي وعبد الرزاق؛ سنن النسائي 3/104، وشرح معاني الآثار 1/367، ومصنف عبد الرزاق 3/223 (5415) .
أخرج الأول: الترمذي وابن ماجة. وأخرج الثاني: الطحاوي؛ الجامع الصحيح 2/371 (498) ، وسنن ابن ماجة 1/346، 347 (1090) ، وشرح معاني الآثار 1/367.
أخرجه: الطحاوي. وأبوالدّرداء: صحابي، من العلماء الحكماء الفرسان القضاة، مات سنة (32هـ) بالشام؛ المرجع السابق، وحلية الأولياء 1/208 227، والأعلام 5/98.
أخرجه: ابن ماجة. وأبيّ: أبو المنذر، سيد القراء، كان من علماء الصحابة، توفي سنة (19هـ) ؛ سنن ابن ماجة 1/352، 353 (1111) ، والعبر 1/17 و 20، وشذرات الذهب 1/31.
أخرجه: النسائي والطحاوي والدارمي. وسلمان: سلمان الخير، صحابي، مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصله من فارس من ((جَيّ)) ، قرية في أصبهان وقيل: من ((رام هرمز)) . اتفق العلماء على أنه عاش (250) سنة، وقيل (350) سنة، توفي بالمدائن أول سنة (36هـ) ؛ سنن النسائي 3/104، وشرح معاني الآثار 1/368، وسنن الدارمي 1/362، وتهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج 1 ص 226 228، وشذرات الذهب 1/42.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/3680(11/44)
أخرجه: أبوداود والطحاوي. وعبد الله: ولد سنة (7 ق هـ) ، قرشي، مكي صحابي عابد، أسلم قبل والده، مناقبه كثيرة، توفي سنة (65هـ) ؛ سنن أبي داود 1/291 (1113) ، وشرح معاني الآثار 1/368، وحلية الأولياء 1/ 283 292، والأعلام 4/111.
أخرجه: النسائي والترمذي والدارمي والطحاوي. وأوس: صحابي، نزل دمشق، وقبر بها. وقيل: أويس بن أبي أوس، وأوس بن حذيفة اسم له؛ سنن النسائي 3/102، 103، و97، والجامع الصحيح 2/367، 368 (496) ، وسنن الدارمي 1/363، وشرح معاني الآثار 1/368، 369، وتهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج 1 ص 129.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/369.
المرجع السابق.
ولد بمكة، سنة (3 ق. هـ) ، ونشأ ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عمه، ترجمان القرآن وحبر الأمة، توفي بالطائف سنة (68هـ) ؛ البداية والنهاية 8/317 330، والأعلام 4/95.
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111 و124.
أخرجها: الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/370.
شرح فتح القدير 2/37.
أبو يحي، المدني، إمام مسجد بني قريظة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1ج 1 ص 140.
قرشي مكي، تولى الخلافة بعد أبي بكر، ومناقبه معروفة، توفي شهيداً سنة (23هـ) ؛ المرجع السابق ق 1 ج 2 ص 15، والبداية والنهاية 7/143 155.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/370.
أخرجها: عبد الرزاق في مصنفه 3/208 (5352) .
هو: عثمان بن أبي العاص بن أمية، ولد بمكة قبل الهجرة ب (47) عاماً، وسيرته مطروحة في موضعها، قُتل سنة (35هـ) بالمدينة؛ البداية والنهاية 7/186 238، ومرآة الجنان 1/9094، والأعلام 4/371، 372.
أخرجها: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
صحابي، ولي مصر سنة (44هـ) ، وعزل عنها سنة (47هـ) ، كان شجاعاً فقيهاً، شاعراً قارئاً، من الرماة، توفي بمصر سنة (58هـ) ؛ حلية الأولياء 2/8، 9، والأعلام 4/24.(11/45)
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/370.
القريشي الأسدي، المدني، ولد سنة (61هـ) ، تابعي مشهور، أحد الفقهاء السبعة، كان إماماً جليلاً، ثقة ثبتاً حجة، كثير الحديث، توفي ببغداد سنة (146هـ) ؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج2 ص138، وشذرات الذهب 1/218، 219.
ابن أميّة بن خلف الجُمحي، المكي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقُتل مع عبد الله بن الزبير سنة (73هـ) ؛ الكاشف 2/87، وتقريب التهذيب 1/423، 424.
هو: عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، ولد سنة (1 هـ) في المدينة، كان صواماً قواماً، بطلاً شجاعاً، فارساً خطيباً، بويع له بالخلافة سنة (64هـ) ، وكانت عاصمته المدينة، إلى أن انتهى الأمر بمقتله في مكة سنة (73هـ) ، على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي سيره الأمويون له، أيام عبد الملك بن مروان؛ جمهرة أنساب العرب 122 125، وشذرات الذهب 1/79، 80، والأعلام 4/87.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/370.
المرجع السابق.
أخرجه: عبد الرزاق وابن أبي شيبة، ونحوه الطحاوي؛ مصنف عبد الرزاق 3/245 (5518) ، ومصنف ابن أبي شيبة 2/111 و 111، 112، وشرح معاني الآثار 1/36.
المراجع السابقة، وأيضاً الأخير ص 370. والشعبي: ولد سنة (19هـ) بالكوفة، تابعي يضرب به المثل في الحفظ، توفي بالكوفة سنة (103هـ) ؛ تقريب التهذيب 1/387، والأعلام 3/ 251.
شرح معاني الآثار 1/369، 370.
المرجع السابق.
رقم (83) وأيضاً رقم (86 و88) .
الرائي: إسماعيل بن أبي خالد؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/111.
أخرجه: ابن أبي شيبة في المرجع السابق.
من أهل البصرة، ناسك، عالم بالقضاء والأحكام، من رجال الحديث الثقات، مات سنة (104هـ) بالشام؛ حلية الأولياء 2/282 289، وشذرات الذهب 1/126، وتهذيب التهذيب 5/224 226.
أخرجه: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/ 369.(11/46)
ولد سنة (23هـ) وقيل (29هـ) ، تابعي ثقة جليل، فقيه عالم، أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي سنة (94هـ) ، وقد اضطرب في وفاته من سنة (90هـ) إلى (101هـ) وما بينهما؛ سير أعلام النبلاء 4/321 437، وطبقات الحفاظ 23.
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
أحد أعلام الدنيا، سيد التابعين، فقيه المدينة، جمع بين الحديث والتفسير والفقه، والورع والعبادة، مات سنة (94هـ) ؛ البداية والنهاية 9/111، 112، وشذرات الذهب 1/102، 103.
أخرجه: ابن أبي شيبة وعبد الرزاق؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/124، 125، ومصنف عبد الرزاق 3/207، 208 (5351) .
أخرجها: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
المدني، من كبار الحفاظ والفقهاء، وأول من دوّن الحديث، كان جامعاً للترغيب والأنساب، والقرآن والسنة، سخياً متواضعاً، توفي سنة (124هـ) ؛ طبقات الحفاظ 49، 50، والفتح المبين 1/97، 98.
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه2/125.
كالسابق ص 111.
أخرجها: الطحاوي؛ شرح معاني الآثار 1/369.
أخرجه: ابن أبي شيبة والطحاوي؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/111، وشرح معاني الآثار 1/370.
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
كالسابق.
الكوفي، التابعي الكبير، الجليل الفقيه البارع، الثقة الخيِّر، عم الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد، خالي إبراهيم النخعي، توفي سنة (62هـ) ؛ تهذيب الأسماء واللغات ق 1 ج 1 ص 342، 343، وشذرات الذهب 1/70.
أخرجه: عبد الرزاق والطحاوي، واللفظ له؛ مصنف عبد الرزاق 3/208، 209 (5355) ، وشرح معاني الآثار 1/370.
الحاوي 2/429.
الإختيار لتعليل المختار 1/84.
مجمع الأنهر 1/171.
الحاوي 2/429.
المغني 2/319.
الحاوي 2/429.
شرح معاني الآثار 1/369.(11/47)
مصنف ابن أبي شيبة 2/111، والمجموع 4/552. وأبومِجْلَز: السدوسي، تابعي، توفي سنة (106هـ) . وحكي في لقبه هذا فتح الميم، واشتقاقه من جلز السوط وهو مقبضه؛ تهذيب الأسماء واللغات ق1ج2ص70و266، وتهذيب التهذيب 12/222، وشذرات الذهب 1/134.
أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه 2/111.
عارضة الأحوذي 2/298.
ولد سنة (209هـ) ، إمام حافظ، متقن عالم ثقة، من أئمة الحديث، صاحب ((الجامع الصحيح)) ، توفي سنة (279هـ) .ونسبته: إلى مدينة ((تٍرْمِذ)) المشهورة؛ شذرات الذهب 2/174، 175، والأعلام 6/322، والأنساب 1/482، 483.
ولد سنة (181هـ) ، حافظ ثقة، إمام أهل زمانه، توفي سنة (255هـ) . ونسبته: إلى دارِم بن مالك بن بطن كبير من تميم؛ طبقات الحفاظ 239، وشذرات الذهب 2/130، واللباب في تهذيب الأنساب 1/484.
في الخاتمة؛ رقم (266) و (267) .
عارضة الأحوذي 2/299.
المرجع السابق.
في الخاتمة؛ رقم (269) و (270) وقبل رقم (266) بسطر.
عارضة الأحوذي 2/299، 300.
في الخاتمة؛ بعد رقم (270) .
رقم (58و60و61) .
عارضة الأحوذي 2/299، 300.
الأعراف (204) .
عارضة الأحوذي 2/ 300.
سبق تخريجه؛ رقم (91) .
عارضة الأحوذي 2/ 300.
المرجع السابق.
المرجع السابق ص 300، 301.
المرجع السابق ص 302.
رقم (24و28و31و32و33و35) .
عارضة الأحوذي 2/302.
المرجع السابق.
شرح معاني الآثار 1/366.
رقم (83) .
شرح معاني الآثار 1/366.
المرجع السابق.
المرجع السابق.
المرجع السابق.
المرجع السابق ص 367.
رقم (93) .
رقم (91) .
شرح معاني الآثار 1/367.
المرجع السابق.
رقم (95) .
رقم (94) الثاني.
شرح معاني الآثار 1/368.
المرجع السابق.
رقم (97) .
رقم (98) .
رقم (99) .
رقم (100) .
رقم (101) .
شرح معاني الآثار 1/369.
رقم (118و120و126و128) .
شرح معاني الآثار 1/370، ورقم (114) هنا.
رقم (70) .
رقم (135 137) .
رقم (104و105و109و112و114) .
شرح معاني الآثار 1/370.
رقم (122) .(11/48)
رقم (124) .
رقم (143149) .
شرح معاني الآثار 1/370.
رقم (35و36و48) .
شرح معاني الآثار 1/370، 371
المرجع السابق.
المرجع السابق.
جواهر الإكليل 1/99، وحاشية الدسوقي 1/388.
جواهر الإكليل 1/99.
الجامع الصحيح 2/385.
عارضة الأحوذي 2/298.
المدني، الفقيه الصالح، مات سنة (138هـ) ؛ الكاشف 3/69، وتقريب التهذيب 2/190.
الكاشف 3/69.
تقريب التهذيب 2/190.
ولد سنة (164هـ) ، وسيرته مطروحة في موضعها، توفي سنة (241هـ) ؛ طبقات الحنابلة 1/4 -20، والبداية والنهاية 10/325 343.
ولد بنقيا قرب الأنبار سنة (158هـ) ، ونشأ ببغداد، إمام علم، أحد أئمة الجرح والتعديل، وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه، توفي بالمدينة سنة (233هـ) ؛ البداية والنهاية 10/312، وطبقات الحفاظ 188، 189، والأعلام 8/172، 173.
الكاشف 3/69.
الجامع الصحيح 2/386.
الحاوي 2/430.
الكوفي، من كبار العلماء، مات سنة (160هـ) ؛ الكاشف 2/152، وتقريب التهذيب 1/487.
الشامي، ويقال: ((أبوعمرو)) ؛ المرجعان السابقان، الأول ص 208و3/318، والثاني 2/454.
المرجعان السابقان، الأول 2/208، والثاني 1/543.
المرجعان السابقان الأول 2/152، والثاني 1/487.
ج 3/318.
م2 / 454.
م1 / 543.
السعدي، كان عابداً مجاهداً، مات سنة (160هـ) ؛ الكاشف 1/236، وتقريب التهذيب 1/245.
الكاشف 1/236.والنسائي: ولد سنة (215هـ) ، ومات سنة (303هـ) .ونسبته: إلى مدينة ((نسا)) بخراسان؛ طبقات الشافعية 2/83، 84، وشذرات الذهب 2/ 239 241، واللباب في تهذيب الأنساب 3/307، 308.
م1 ص 245.
الواسطي.ويقال: الرياحي.ويقال: البصري؛ ميزان الإعتدال 3/ 98، وتهذيب التهذيب 8/179،180.
ج2 ص309.
م2 ص91.
عارضة الأحوذي 2/302.
رقم (1 17) .
الحاوي 2/430.
يصح أن يقال فيها عدة أمور؛ لسان العرب 13/303 306 عين، والتعريفات 176، 177.
المغني 2/319.(11/49)
محمد بن حِبَّان التميمي، ولد بضع و (270هـ) بمدينة بست من بلاد سِجِسْتان، محدث حافظ، مؤرخ فقيه، لغوي واعظ، توفي ببست سنة (354هـ) ؛ طبقات الشافعية 2/141 143، وشذرات الذهب 3/16، ومعجم المؤلفين 9/173، 174.
م2 ص184.
المجموع 4/552. والغريب: البعيد عن وطنه، والغامض والخفي من الكلام، وقول غريب: بعيد. وأما الخبر الغريب فقال في التعريفات: ((ما يكون إسناده متصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يرويه واحد، إما من التابعين أو من أتباع التابعين أو من أتباع أتباع التابعين)) ص162.
وقال في الموقظة: ((تارة ترجع غرابته إلى المتن وتارة إلى السند، والغريب صادق على ماصح وما لم يصح، والتفرد يكون لما انفرد به الراوي إسناداً أو متناً، ويكون لما تفرد به عن شيخ معين)) ص43. وانظر: لسان العرب 1/639، 640 غرب، والمعجم الوسيط 2/653، وعلوم الحديث 243 245.
م2 ص37. وانظر: رقم (135) هنا.
المجموع 4/552.
م2 ص430.
كالسابق.
شرح فتح القدير 2/37.
رقم (24و 28 و 31 و33 و35) .
شرح فتح القدير 2/37.
الشافعي. ولد سنة (306هـ) ، محدث حافظ، فقيه مقرئ، إخباري لغوي، توفي سنة (385هـ) ببغداد. ونسبته: إلى دار القطن محلة ببغداد؛ شذرات الذهب 3/116، 117، ومعجم المؤلفين 7/157، 158.
أخرجه: الدارقطني في سننه 2/15 (9) .
المحاربي الكوفي النحاس، والد محمد بن عُبيد؛ الكامل في ضعفاء الرجال 5/1989، وميزان الإعتدال 3/23، وتهذيب التهذيب 7/73.
سنن الدارقطني 2/15 (9) .
أخرجه: الدارقطني؛ المرجع السابق ص16 (10) .
المرجع السابق. والمرسل: ما سقط ذكر الصحابي من إسناده، فيقول التابعي: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ؛ معرفة علوم الحديث 25، والموقظة 38، والتبصرة والتذكرة: 1/144.
سنن الدارقطني 2/15 (9) .
رقم (35) .
م2 ص37.(11/50)
القاضي، أحد الأعلام، وأحد الفقهاء، مات سنة (145هـ) ؛ الكاشف 1/147، وتقريب التهذيب 1/ 152.
المرجعان السابقان. والتدليس لغة: الكتمان. واصطلاحاً: ثلاثة أنواع: الإسناد والشيوخ والتسوية. ومن أحب معرفة كل نوع منها فليرجع إلى مراجعه هنا؛ المعجم الوسيط 1/292 دلس، ومعرفة علوم الحديث 103 112، وعلوم الحديث 66 68، والخلاصة في أصول الحديث 71، 72، والتبصرة والتذكرة: 1/179 191، وفتح المغيث 1/179195، وقواعد التحديث 132.
اللهيعة: الكسل، وقيل: الغفلة، وقيل: التواني في البيع والشراء حتى يغبن؛ تهذيب الأسماء واللغات ق1 ج 1 ص283، 284، وج2 ص301.
ولد سنة (96هـ) ، قاضي مصر وعالمها ومحدثها، كان إماماً بارعاً، صالحاً صادقاً باراً، ضابطاً متقناً، توفي سنة (174هـ) ؛ المرجع السابق، وميزان الإعتدال 2/475 483، وتقريب التهذيب 1/444، وشذرات الذهب 1/283، 284.
الجامع الصحيح 3/426، وميزان الإعتدال 2/475483.
ابن صُهيب الواسطي التميمي، مات سنة (201هـ) ؛ الكاشف 2/251، وتقريب التهذيب 2/39.
ج2 ص251.
م2 ص39.
الحاوي 2/430.
الجامع الصحيح 2/386.
سنن الدارِمي 1/364.
ولد سنة (436هـ) ، الإمام المحدث، المفسر الفقيه، كان ديناً عالماً، عاملاً على طريقة السلف، توفي بمرو الروذ سنة (516هـ) . ونسبته إلى ((بغا)) من قرى خراسان، بين هراة ومرو؛ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/281 (248) ، وشذرات الذهب 4/48، 49، والأعلام 2/259.
م2 ص339.
ج4 ص266.
تقدم؛ رقم (230) .
أخرجه: الترمذي؛ الجامع الصحيح 2/386.
المرجع السابق ص387.
في رقم (61) عن رقم (33) .
ولد سنة (319هـ) ، كان أحد أوعية العلم في زمانه، حافظاً فقيهاً، مبرزاً على أقرانه، صاحب ((معالم السنن)) ، توفي سنة (388هـ) ؛ شذرات الذهب 3/127، 128، والأعلام 2/273.
معالم السنن 1/249.
رقم (25) و (210) .
رقم (159) .
قبل قليل.(11/51)
القياس في اللغة: التقدير بالمثل والرد إلى النظير. وفي الشرع: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما؛ لسان العرب 6/787 قيس، وروضة الناظر وجنة المناظر 145.
رقم (35و36و48) .
رقم (89و91و93 102) .
رقم (35) .
رقم (24و28و3133و35و42و46) .
بداية المجتهد 1/163.
ولد بالمدينة سنة (93هـ) ، وتوفي بها سنة (179هـ) ، وسيرته مطروحة في موضعها؛ الفهرست 280، وحلية الأولياء 6/316 355.
بداية المجتهد 1/164.
ولد سنة (194هـ) ، إمام كبير مشهور في الحديث، صاحب ((الصحيح)) ، مات سنة (256هـ) .ونسبته: إلى مدينة ((بُخارى)) المعروفة بما وراء النهر؛ تأريخ بغداد 2/434، والأعلام 6/34، واللباب في تهذيب الأنساب 1/125.
ولد سنة (204هـ) ، إمام كبير مشهور في الحديث، صاحب ((الصحيح)) ، مات سنة (261هـ) . ونسبته: إلى قبيلة كبيرة هي قُشير بن كعب. وإلى نَيْسَابور أحسن مدن خراسان؛ تأريخ بغداد 13/100104، والأعلام 7/221، 222، واللباب في تهذيب الأنساب 3/ 37، 38، 3410
رقم (210) .
المجموع 4/552. والنووي: ولد في ((نوا)) سنة (631هـ) ، علامة في الفقه والحديث، صاحب ((المجموع)) توفي في ((نوا)) سنة (676هـ) ، ونسبته إليها، وهي من قرى حوران بسوريا؛ طبقات الشافعية 5/165 168، والأعلام 8/149، 150، ومعجم البلدان 5/306.
ولد سنة (541هـ) ، من أكابر الحنابلة، صاحب ((المغني)) ، توفي سنة (620هـ) ؛ الأعلام 4/67.
ج2 ص319.
رقم (2237) .
رقم (42و218) .
عارضة الأحوذي 2/298.
الجامع الصحيح 2/386.
المجموع 4/551.
المغني 2/319.
بعد رقم (232) .
المصادر والمراجع
أولاً: القرآن وعلومه ... ...
... 1 القرآن الكريم.
2 تفسير البحر المحيط. لأبي حيان محمد بن يوسف (ت 845هـ) . تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوّض. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1، (1413هـ = 1993م) .
ثانياً: السنة وعلومها(11/52)
1 التبصرة والتذكرة. لعبد الرحيم بن الحسين العراقي. دار الكتب العلمية. بيروت.
2 الخلاصة في أصول الحديث. للحسين بن عبد الله الطيبي (ت 743هـ) . تحقيق: صبحي السامرائي. عالم الكتب. بيروت.
3 سنن الترمذي (الجامع الصحيح) . لمحمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ) .تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
4 سنن الدارقطني. لعلي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . صححه: عبد الله هاشم اليماني. دار المحاسن للطباعة. القاهرة.
5 سنن الدرامي. لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت.
6 سنن أبي داود. سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ) . راجعه: محمد
... محيي الدين عبد الحميد. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
7 سنن ابن ماجة. محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) . حققه: محمد فؤاد عبد الباقي.
8 سنن النسائي. أحمد بن شعيب. بشرح جلال الدين السيوطي. وحاشية السندي، دار الكتب العلمية. بيروت.
9 شرح السنة. للحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) . تحقيق: زهير الشاويش، وشعيب الأرناؤط. المكتب الإسلامي. بيروت. ط 2 (1403هـ = 1983م) .
10 شرح معاني الآثار. لأحمد بن محمد الطحاوي (ت 321هـ) . حققه: محمد زهري النجار. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1399هـ = 1979م) .
11 صحيح البخاري. محمد بن إسماعيل (ت 256هـ) . المكتبة الإسلامي.إستنابول.
12 صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261هـ) . رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء. الرياض. (1400هـ = 1980م) .
13 عارضة الأحوذي. لابن العربي محمد بن عبد الله (ت 543هـ) . دار الكتب العلمية، بيروت.
14 علوم الحديث. لابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن (ت 643هـ) . حققه: نورالدين عتر. المكتبة العلمية. بيروت. (1401هـ = 1981م) .
15 فتح المغيث. لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902هـ) . دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 (1403هـ = 1983م) .(11/53)
16 قواعد التحديث. لمحمد جمال الدين القاسمي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1، (139هـ =1979م) .
17 مجمع الزوائد. لعلي الهيثمي (ث 807هـ) . دار الكتاب العربي. بيروت. ط 3، (1402هـ = 1983م) .
18 مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) . دار صادر. بيروت.
19 المصنف. لعبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي. ط 2. بيروت. (1403هـ = 1983م) .
20 المصنف. لعبد الله بن أبي شيبة (ت 235هـ) . حققه: عامر العمري الأعظمي، الدار السلفية. الهند.
21 معالم السنن، لحَمْد بن محمد الخطابي (ت 388هـ) ، المكتبة العلمية ط 2 (1401هـ =1981م) ، بيروت.
22 المعجم الكبير. لسليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ) . حققه: حمدي عبد المجيد السلفي، مطبعة الوطن العربي. العراق. وزارة الأوقاف. ط 1 (140هـ = 1980م) .
23 معرفة علوم الحديث. للحاكم محمد بن عبد الله. مكتبة المتنبي. القاهرة.
24 الموطأ. لمالك بن أنس (ت 179هـ) . تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء الكتب العربية. (1370هـ = 1951م) .
25 الموقظة. لمحمد بن أحمد الذهبي (748 هـ) . مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
ثالثاً: الفقه
أالفقه الحنفي:
1 الإختيار لتعليل المختار. لعبد الله بن محمود الموصلي (ت 683هـ) . دار المعرفة. بيروت. ط 3 (1395هـ = 1975م) .
2 شرح فتح القدير. لابن الهمام محمد بن محمد (ت 861هـ) . دار إحياء التراث العربي. بيروت.
3 مجمع الأنهر. لعبد الله بن محمد دامادا أفندي. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
4 الهداية. لعلي بن أبي بكر المرغيناني (ت 593هـ) . المكتبة الإسلامية.
ب الفقه المالكي:
1 بداية المجتهد ونهاية المقتصد. لمحمد بن أحمد بن رشد (ت 595هـ) .دار المعرفة. بيروت. ط 4 (1398هـ = 1978م) .
2 جواهر الإكليل. لصالح عبد السميع الأزهري. دار المعرفة. بيروت.(11/54)
3 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. لمحمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ) . والشرح لأحمد الدردير. دار الفكر.
4 الخَرشي على مختصر خليل. لمحمد الخرشي المالكي. دار صادر. بيروت.
5 قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية. لمحمد بن أحمد بن جُزي (ت741هـ) . دار العلم للملايين. بيروت.
6 الكافي في فقه أهل المدينة. ليوسف بن عبد الله بن عبد البر (ت463هـ) . تحقيق: د/ محمد محمد ولد ماديك. مكتبة الرياض الحديثة. الرياض. ط 1 (1398هـ=1978م) .
ج الفقه الشافعي:
1 الأم. لمحمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) . دار المعرفة. بيروت. ط 2 (1393هـ = 1973م) .
2 التهذيب. للحسين بن مسعود البغوي (ت 516هـ) . تحقيق: عادل عبد الموجود. وعلي معوّض. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1418هـ =1997م) .
3 الحاوي. لعلي بن محمد الماوردي (ت 450هـ) . تحقيق: علي معوض. وعادل عبد الموجود. دار الكتب العلمية. بيروت. (1419هـ = 1999م) .
4 المجموع شرح المهذب. لمحيي الدين بن شرف النووي (ت676هـ) . دار الفكر.
5 المهذب. لابراهيم بن علي الشيرازي (ت 476هـ) . دار المعرفة. بيروت. ط 21379هـ = 1959م) .
د الفقه الحنبلي:
1 الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. لعلي بي سليمان المرداوي (ت885هـ) . تحقيق: محمد حامد الفقي.ط1 (1377هـ = 1957م) . دار إحياء التراث العربي.بيروت.
2 الروض المربع. لمنصور بن يونس البهوتي (ت1051هـ) . الرياض. مكتبة الرياض الحديثة.
3 المغني. لعبد الله بن أحمد بن قدامة (ت620هـ) . مكتبة الرياض الحديثة. الرياض.
رابعاً: أصول الفقه:
1 ... روضة الناظر وجنة المناظر. لعبد الله بن أحمد بن قدامة (ت620هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1401هـ = 1981م) .
خامساً: التأريخ والتراجم والسير والطبقات. ...
1 الأعلام. لخير الدين الزركلي. دار العلم للملايين. بيروت. ط 4 (1979م) .(11/55)
2 الأنساب لعبد الكريم بن محمد السمعاني. (ت 562هـ) . وضع حواشيه: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1419هـ = 1998م) .
3 البداية والنهاية في التأريخ. لإسماعيل بن عمر بن كثير. (ت 774هـ) . دار نهر النيل للطباعة. الجيزة. القاهرة.
4 تأريخ بغداد. لأحمد بن علي الخطيب (ت 463هـ) . دار الكتاب العربي. بيروت.
5 ترتيب المدارك وتقريب المسالك. لعياض بن موسى اليحصبي. (ت 544هـ) . ضبطه وصححه: محمد سالم هاشم. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1418هـ = 1998م) .
6 تقريب التهذيب. لأحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ) . دار المعرفة. بيروت. ط 2 (1395هـ 1975م) .
7 تهذيب الأسماء واللغات. لمحيي الدين بن شرف النووي (ت 676هـ) دار الكتب العلمية. بيروت.
8 تهذيب التهذيب. لأحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ) . دار الفكر العربي.
9 جمهرة أنساب العرب. لعلي بن أحمد بن حزم. (ت 456هـ) . دار الباز. مكة. (1403هـ = 1983م) . ط 1
10 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. لأحمد بن عبد الله الأصفهاني (ت 430هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت.
11 الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. لإبراهيم بن فرحون. (ت 799هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت.
12 سير أعلام النبلاء. لمحمد بن أحمد الذهبي (ت 748هـ) . مؤسسة الرسالة. ط 2 (1402هـ = 1982م) .
13 شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لعبد الحي بن العماد الحنبلي. (ت 1089هـ) . دار الآفاق الجديدة. بيروت.
14 طبقات الحفاظ. لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي. (ت 911هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1403هـ = 1983م) .
15 طبقات الحنابلة. لمحمد بن أبي يعلي. (ت 526هـ) . دار المعرفة. بيروت.
16 طبقات الشافعية. للسبكي عبد الوهاب بن تقي الدين. (ت 771هـ) . ط 2. دار المعرفة. بيروت.(11/56)
17 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة أبي بكر بن أحمد. صححه: د. عبد العليم خان. عالم الكتب. بيروت. ط 1 (1407هـ = 1987م) .
18 الطبقات الكبرى. لمحمد بن سعد. (ت 222هـ) . دار صادر. بيروت.
19 العبر في خبر من غبر. لمحمد بن أحمد الذهبي. (ت 748 هـ) . حققه: محمد السعيد بسيوني. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1405هـ = 1985 م) .
20 الفتح المبين في طبقات الأصوليين. لعبد الله مصطفى المراغي. ط 2 (1394هـ =1974م) . بيروت. محمد أمين دمج وشركاه.
21 الفكر السامي في تأريخ الفقه الإسلامي. لمحمد بن الحسن الفاسي. (ت 1376هـ) . المكتبة العلمية. المدينة. (1397هـ = 1977م) .
22 الفهرست. لمحمد بن إسحاق بن النديم. (ت 438هـ) . دار المعرفة. بيروت.
23 الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. لمحمد بن أحمد الذهبي. (ت 748هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1403هـ = 198م) .
24 الكامل في ضعفاء الرجال. لعبد الله بن عدي الجرجاني. (ت 365هـ) . دار الفكر. بيروت. ط 2 (1405هـ = 1985م) .
25 اللباب في تهذيتب الأنساب. لعلي بن محمد بن الأثير. (ت 630هـ) . دار صادر. بيروت.
26 مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. لعبد الله بن أسعد اليافعي. (ت 768هـ) . ط 2 (1390هـ = 1970م) . بيروت. لبنان. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
27 المغني في ضبط أسماء الرجال ومعرفة كنى الرواة وألقابهم. لمحمد طاهر بن علي الهندي. دار الكتاب العربي. بيروت. (1399هـ = 1979م) .
28 ميزان الإعتدال في نقد الرجال. لمحمد بن أحمد الذهبي. (ت 748هـ) . تحقيق: علي محمد البجاوي. دار المعرفة. بيروت.
29 وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لأحمد بن محمد بن خَلِّكان. تحقيق: إحسان عباس. دار الثقافة بيروت.
سادساً: اللغة والمعاجم.(11/57)
1 التعريفات: لعلي بن محمد الجرجاني. (ت 816هـ) . دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1 (1403هـ = 1983م) .
2 لسان العرب. لمحمد بن مكرم بن منظور. (ت 711هـ) . دار صادر.
3 معجم البلدان. لياقوت بن عبد الله الحموي. (ت 626هـ) . دار إحياء التراث العربي. بيروت. (1399هـ = 1979م) .
4 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. لمحمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
5 معجم المؤلفين. لعمر رضا كحالة. مكتبة المثنى. بيروت.
6 المعجم الوسيط. (مجمع اللغة العربية) . أخرجه: إبراهيم مصطفى. أحمد حسن الزيات. حامد عبد القادر. محمد علي النجار. المكتبة العلمية. طهران.(11/58)
التفريق بين الزوجين للغيبة
د. عبد العزيز بن محمد بن عثمان الربيش
أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود - فرع القصيم
ملخص البحث
يحمل البحث عنوان "التفريق بين الزوجين للغيبة ".
جعله الباحث في مقدمة وخاتمة وأربعة مباحث:
المبحث الأول: في تعريف وتحديد مصطلح "الغيبة" وقد حدد الباحث مصطلح "الغيبة" الذي يدور عليه البحث وهو من غادر موطنه إلى موطن آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به وهذا هو "الغائب" أو الغيبة غير المنقطعة الذي سيكون محل الدراسة، ولذا لا يدخل فيه المفقود ونحوه.
المبحث الثاني: في اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة وتبين للباحث رجحان قول من قال بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من هذه الغيبة وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق.
المبحث الثالث: في شروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها وتوصل الباحث إلى أن الذين قالوا بالتفريق بين الزوجين للغيبة وهم المالكية والحنابلة اشترطوا شروطاً لابد من توفرها قبل التفريق منها شروط اتفقوا عليها، ومنها ما اشترطه الحنابلة ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيها، كما ترجح لدى الباحث رجحان قول المالكية، وهو أنه لا يشترط للتفريق أن تكون الغيبة لعذر.
المبحث الرابع: في نوع الفرقة للغيبة. وتبين للباحث رجحان قول من قال إن الفرقة فسخ وليس طلاقاً. واللَّه أعلم بالصواب.
***
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا بحث في " التفريق بين الزوجين للغيبة ".
جعلته في مقدمة وأربعة مباحث، وخاتمة بينت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.
أما مباحثه الأربعة فهي كالتالي:
الأول: في تعريف وتحديد مصطلح " الغيبة ".(11/59)
والثاني: في اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة.
والثالث: في شروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها.
والرابع: في نوع الفرقة للغيبة.
هذا ولا يخفى أهمية هذا البحث وخاصة لأولئك الذين يسافرون إلى غير بلادهم بدون زوجاتهم ويمكثون فيها مدة طويلة لأي سبب من الأسباب فإن البحث يجيب عن كثير من الأسئلة الفقهية التي تدور في أذهانهم. أسأل اللَّه سبحانه أن أكون قد وفقت في طرح الموضوع ومعالجة مباحثه، كما أسأله جل شأنه السداد والإخلاص.
وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: تعريف وتحديد مصطلح الغيبة
تعريف الغيبة:
الغيبة في اللغة:
الغيب: الشك، وكل ما غاب عنك وكل ما غاب عن العين فهو غيْب.
والغيبة - فتح الغين -: مصدر غاب ومعناها في اللغة: البعد وتستعمل بمعنى التواري، يقال: غابت الشمس إذا توارت عن العين، وامرأة مُغيب ومُغْيب ومُغيبة غاب بعلها أو أحد من أهلها وأغابت المرأة فهي مُغيب (1) .
الغيبة في اصطلاح الفقهاء:
معنى الغيبة عند الفقهاء لا يخرج عن المعنى اللغوي ويقصدون بالغياب " انتقال الزوج بدون زوجته إلى موطن آخر غير الموطن الذي كان فيه بيت الزوجية " (2) . وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به (3) .
تحرير وتحديد مصطلح الغيبة:
من المهم قبل دراسة مسائل الموضوع أن أحرر وأحدد مصطلح "الغيبة" الذي ستكون مسائله وأبحاثه ميداناً للبحث بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج عنه ما يعتبر داخلاً فيه.
__________
(1) ... انظر: لسان العرب لابن منظور1/654، والمصباح المنير للفيومي ص174، والموسوعة الكويتية 31/321، والمفصل في أحكام المرأة للدكتور عبد الكريم زيدان 8/460.
(2) ... المفيد من الأبحاث في أحكام الزواج والطلاق والميراث لمحمد الشماع ص147.
(3) ... الموسوعة الكويتية 29/62، والمفصل في أحكام المرأة 8/460.(11/60)
لقد تبين لنا من تعريف الغيبة أن الغائب: هو من غادر موطنه إلى موطن آخر أي سافر من بلده إلى بلد آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به فهذا هو الغائب والذي سيكون محل الدراسة والبحث لا غير، أما من غادر مكانه ولم يعد إليه وجهلت حالته فهو المفقود ولا شك أنه يختلف عن الغائب وله أحكام تختلف عن أحكام الغائب ولذا لن يكون محلاً للدراسة والبحث.
وعند بعض الفقهاء يطلقون مصطلح " فقدان الزوج " على الغائب والمفقود ويفرقون بينهما بأن الغائب هو " الغيبة غير المنقطعة " أي: انتقال الزوج ولكنه معروف المكان ويمكن الاتصال به، والمفقود يطلقون عليه " الغيبة المنقطعة " (1) ، ولذا سواء أطلقنا عليه " الغائب " أو " الغيبة غير المنقطعة " فإنه هو ميدان البحث لا غير، ولن أتطرق للمفقود أو غيره، وبالله التوفيق.
المبحث الثاني: اختلاف الفقهاء في التفريق بين الزوجين للغيبة
اختلف الفقهاء في جواز التفريق بين الزوجين للغيبة إلى قولين في الجملة (2) :
القول الأول:
عدم جواز التفريق بين الزوجين للغيبة مطلقاً، حتى لو تضررت الزوجة من عدم الوطء وطلبت التفريق.
قال بذلك الشافعية (3) .
القول الثاني:
جواز التفريق بين الزوجين للغيبة إذا طلبت الزوجة التفريق.
__________
(1) ... المرجع السابق، وزوجة الغائب للدكتور محمد عبد الرحيم محمد ص23.
(2) ... أشير هنا إلى أن عرض الخلاف في المسألة سيكون مجملاً وهناك تفصيلات سنعرضها عند الكلام عن شروط التفريق للغيبة عند من يقول بها.
(3) ... انظر: الأم 5/239، والتكملة الثانية للمجموع شرح المهذب 18/158، ومغني المحتاج 3/442.(11/61)
قال بذلك المالكية (1) ، والحنابلة (2) ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (3) .
أما الحنفية (4) فإنهم وسط بين القولين، فيقولون: لا يجوز التفريق بين الزوجين لغيبة الزوج وترك مباشرته لزوجته بالجملة.
__________
(1) ... قال الحطاب في مواهب الجليل 4/155-156: " اعلم أن الغائبين عن أزواجهم خمسة. فالأول: غائب لم يترك نفقة ولا خلف مالاً ولا لزوجته عليه شرط في المغيب فإن أحبت زوجته الفراق فإنها تقوم عند السلطان بعدم الإنفاق. والثاني: غائب لم يترك نفقة ولزوجته عليه شرط في المغيب فزوجته مخيرة في أن تقوم بعدم الإنفاق أو بشرطها وهو أيسر عليها لأنه لا يضرب له في ذلك أجل. والثالث: غائب خلف نفقة ولزوجته عليه شرط في المغيب فهذه ليس لها أن تقوم إلاَّ بالشرط خاصة وسواء كان الغائب في هذه الثلاثة الأوجه معلوم المكان أو غير معلوم إلاَّ أن معلوم المكان يعذر إليه إن تمكن من ذلك. والرابع: غائب خلف نفقة ولا شرط لامرأته وهو مع ذلك معلوم المكان فهذا يكتب إليه السلطان إما أن يقدم أو يحمل امرأته إليه أو يفارقها وإلا طلق عليه. والخامس: غائب خلف نفقة ولا نفقة ولا شرط لامرأته عليه وهو مع ذلك غير معلوم المكان فهذا هو المفقود " اهـ.
... وانظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/431، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 4/155، وشرح منح الجليل على مختصر خليل 2/313.
(2) ... انظر: المغني تحقيق الدكتور عبد اللَّه التركي والدكتور عبد الفتاح الحلو 10/240، وانظر: المقنع والشرح الكبير والإنصاف ثلاثة كتب في كتاب واحد تحقيق الدكتور عبد اللَّه التركي 21/406.
(3) ... الاختيارات الفقهية للبعلي ص423.
(4) انظر: بدائع الصنائع 2/331، والبحر الرائق شرح كنز الرقائق 3/219، وحاشية رد المحتار 3/202.(11/62)
أما التفصيل: فإنهم يقولون: يسقط حق المرأة في الوطء قضاءاً إذا وطئها الزوج مرة فلا يجوز التفريق بينهما، أما إذا لم يصبها مرة واحدة فإن القاضي يؤجله سنة ثم يفسخ العقد (1) .
الأدلة والمناقشة:
اختلاف الفقهاء في هذه المسألة مبني على اختلافهم في حق دوام الوطء هل هو حق للرجل فقط وليس للزوجة فيه حق أو أنه حق للزوجة أيضاً مثل ما هو حق للزوج؟
فمن ذهب إلى أنه حق للزوج فقط وليس للزوجة فيه حق الشافعية؛
قالوا إذا ترك الزوج وطأ زوجته مدة لم يكن ظالماً لها أمام القاضي وإذا طلبت التفريق لتضررها بعدم الوطء لا يفرق القاضي بينهما سواء أكان حاضراً أم غائباً، طالت غيبته أو لا، لكن يستحب عند الشافعية أن لا يعطلها؛ لأنه إذا عطلها لم يأمن الفساد (2) .
أما من ذهب إلى أنه حق للزوجة أيضاً مثل ما هو حق للزوج واستدامة الوطء واجب للزوجة على زوجها قضاء إذا لم يكن عند الزوج عذر وهم المالكية والحنابلة (3) ، قالوا إذا غاب الزوج عن زوجته مدة وتضررت من ترك الوطء وطلبت التفريق من القاضي فإنه يفرق بينهما (4) . أمَّا الحنفية فتقدم قولهم في المسألة (5)
__________
(1) حاشية رد المحتار 3/202.
(2) المهذب 2/67.
(3) انظر: مراجع المالكية والحنابلة السابقة وقوانين الأحكام الشرعية ص211، والمغني 10/239.
(4) انظر: الموسوعة الكويتية.
(5) فقالوا الواجب على الزوج قضاء أن يطأ زوجته مرة واحدة والزيادة عن المرة الواحدة تجب ديانة عند بعض الحنفية وقال بعضهم بل تجب أيضاً قضاء. قال في بدائع الصنائع 2/331: " وللزوجة أن تطالب زوجها بالوطء لأن حله لها حقها كما أن حلها له حقه وإذا طالبته يجب على الزوج ويجبر عليه في الحكم مرة واحدة والزيادة على ذلك تجب فيما بينه وبين اللَّه تعالى من باب حسن المعاشرة واستدامة النكاح فلا يجب عليه في الحكم عند بعض أصحابنا وعند بعضهم يجب عليه في الحكم " اهـ.
... وقال في حاشية رد المحتار 3/202: " قال في النهر: في هذا الكلام تصريح بأن الجماع بعد المرة حقه لا حقها. اهـ. قلت [أي ابن عابدين] : فيه نظر بل هو حقه وحقها أيضاً، لما علمت من أنه واجب ديانة " اهـ. وانظر: البحر الرائق شرح الكنز الدقائق 3/219.(11/63)
ولهذا سيكون الاستدلال في مسألة الغيبة هو الاستدلال لمسألة الوطء هل يعتبر حقاً للزوجة كما أنه حق للرجل أو أنه ليس بحق لها.
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
أن الوطء حق للزوج فلا يجب عليه كسائر حقوقه فيجوز له تركه كسكنى الدار المستأجرة (1) .
ويناقش: بالتسليم بذلك فيما لو كان الوطء حقاً من حقوق الزوج فقط ولكن الصحيح أنه حق للزوجة أيضاً كما هو حق للزوج كما سيتبيّن لنا من أدلة القول الثاني.
الدليل الثاني:
أن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة فلا يمكن إيجابه (2) .
ويناقش: بأن الإيجاب هنا من أجل تضرر الزوجة والخشية عليها من الوقوع في الزنا، فالإيجاب حماية للزوجة من الوقوع في المحرم وليس لمجرد الإيجاب، ولذا الذين يقولون بإيجاب الوطء واستمراره على الزوج يقولون إذا لم تتضرر الزوجة من عدم الوطء ولم تطالب به فلن يُلزم الزوج به ولذلك شرع الزواج ومن مصالحه وأهدافه عفة الزوج والزوجة من الوقوع في المحرم وقضاء الوطر فيما أحله اللَّه. كما أن الزوج روعي فيه، فالذين يقولون بإيجابه واستمراره على الزوج قيدوه بما إذا لم يكن بالزوج عذر يمنعه من الوطء (3) .
فيتبين لنا ضعف هذا الدليل.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
__________
(1) انظر: المهذب 2/67، والمغني 10/237، والفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 7/329.
(2) انظر: المهذب 2/67، والفقه الإسلامي وأدلته 7/329.
(3) انظر: قوانين الأحكام الشرعية ص211، والمغني 10/239.(11/64)
حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال لي رسول اللَّه (: " يا عبد اللَّه ألم أُخْبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً ... "الحديث متفق عليه (1) .
فبين النَّبِيّ (في هذا الحديث أن للزوجة على زوجها حقاً (2) .
الدليل الثاني:
قصة المرأة التي جاءت تشكي زوجها إلى عمر -رضي اللَّه عنه- وعنده كعب بن سور-رضي اللَّه عنه-.
وأخرج القصة عبد الرزاق (3) بسنده عن الشعبي قال: " جاءت امرأة إلى عمر فقالت: زوجي خير الناس، يقوم الليل، ويصوم النهار. فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك، فقال كعب بن سور: لقد اشتكت فأعرضت الشكية، فقال عمر: اخرج مما قلت. قال: أرى أن تنزله بمنزلة رجل له أربع نسوة له ثلاثة أيام ولياليهن، ولها يوم وليلة ".
قال ابن قدامة -رحمه اللَّه -: " هذه قضية اشتهرت فلم تنكر، فكانت إجماعاً " اهـ (4) .
الدليل الثالث:
إن الوطأ حق للزوجة " لأنه لو لم يكن حقاً للمرأة لم تستحق فسخ النكاح لتعذره بالجب والعنة " (5) .
الدليل الرابع:
إن الوطأ حق للزوجة " لأنه لو لم يكن حقاً للمرأة لملك الزوج تخصيص إحدى زوجتيه به كالزيادة في النفقة على قدر الواجب " (6) .
الدليل الخامس:
__________
(1) أخرجه البخاري في مواضع متعددة منها في كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم 2/245، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فت به حقاً (ح1159) 1/812-813.
(2) انظر: المغني 10/237.
(3) في المصنف 7/148 (ح12586) ، بهذا اللفظ وألفاظ أخرى، وذكرها ابن قدامة في المغني 10/237-238.
(4) المغني 10/238.
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.(11/65)
إن الوطأ " حق واجب بالاتفاق إذا حلف على تركه، فيجب قبل أن يحلف، كسائر الحقوق الواجبة يحقق هذا أنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين على تركه واجباً، كسائر ما لا يجب " (1) .
الدليل السادس:
" إن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرجل، فيجب تعليله بذلك، ويكون النكاح حقاً لهما جميعاً " (2) .
الدليل السابع:
إنه لو لم يكن للمرأة في الوطء حق لما وجب استئذانها في العزل (3) .
الترجيح:
__________
(1) المغني 10/239.
(2) المصدر السابق 10/240.
(3) المصدر السابق.(11/66)
تبين لي مما تقدم ترجيح القول الثاني، وهو أن للمرأة حقاً في الوطء كما أن للرجل حقاً في ذلك لقوة أدلتهم وضعف أدلة القول الأول وما أورد عليها من مناقشة، ولأن القول الثاني هو الذي يتوافق مع التشريع الإسلامي الذي جعل من أهداف الزواج ومصالحه إعفاف الزوجين خاصة إذا ألحق تركه ضرراً بالزوجة وقد جاء الإسلام بدفع الضرر لقوله (: " لا ضرر ولا ضرار " (1) .
__________
(1) الحديث روي عن عبادة بن الصامت، وعبد اللَّه بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر بن عبد اللَّه، وعائشة، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة -رضي اللَّه عنهم أجمعين-، وذكر طرقه وفصلها الزيلعي -رحمه الله- في نصب الراية 4/384-386، والألباني -رحمه اللَّه - في إرواء الغليل 3/408-414 (ح896) . قال الألباني -رحمه اللَّه- في الإرواء بعدما ذكر طرقه: " فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها، فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث بها وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء اللَّه، وقال المناوي في "فيض القدير" والحديث حسنه النووي في "الأربعين" قال: ورواه مالك مرسلاً وله طرق يقوي بعضها بعضاً. وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. انتهى كلام الألباني.
... وقال الألباني أيضاً في الإرواء: " وقد احتج به الإمام مالك، وجزم بنسبته إلى النَّبِيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك احتج به محمد بن الحسن الشيباني في مناظرة جرت بينه وبين الإمام الشافعي وأقره الإمام عليه " اهـ.
... وانظر: الموطأ كتاب المكاتب، باب ما لا يجوز من عتق المكاتب 2/805، والمستدرك للحاكم كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة 2/57-58، وموسوعة أطراف الحديث النبوي لمحمد السعيد زغلول 7/264.(11/67)
وينبني على هذا أن القول بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من ذلك وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق، هو القول الراجح، واللَّه أعلم.
المبحث الثالث: أسباب وشروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازها
قلنا في المبحث السابق إن الفقهاء مختلفون في التفريق بين الزوجين للغيبة إلى قولين: الجواز، وعدمه. وفي هذا المبحث سنتحدث عن أسباب وشروط التفريق بين الزوجين للغيبة عند من يقول بجوازه وهم المالكية والحنابلة ومن تبعهم، وعند استعراض هذه الشروط والأسباب نجد أن منها ما هو محل اتفاق بين المالكية والحنابلة، ومنها ما اشترطه الحنابلة فقط، ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة ولكنهم اختلفوا فيه لذا سيكون الحديث عن هذه الشروط مقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الشروط والأسباب المتفق عليها بين المالكية والحنابلة:
أ - الأسباب:
1/1 - النفقة:
فيجب على الزوج الغائب أن ينفق على زوجته من ماله حال غيابه وإذا لم ينفق عليها وطلبت التفريق فإنه يفرق بينهما لعدم النفقة (1) .
2/2 - أن تخشى الزوجة على نفسها الضرر بسبب هذه الغيبة:
والضرر هنا فسره المالكية (2) بخشية الوقوع في الزنا، وليس اشتهاء الجماع فقط.
والحنابلة (3) أطلقوا الضرر ولكنهم يريدون به خشية الزنا كالمالكية (4) ، وهذا واضحٌ؛ لأن المرأة لا تطلب من القاضي التفريق إلاَّ إذا خافت على نفسها من الوقوع في الحرام.
ب - الشروط:
3/3 - الكتابة إلى الزوج الغائب:
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/431، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 4/155، وشرح منح الجليل على مختصر خليل 2/313، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف 24/96، 21/406 وما بعدها، والمغني 10/240.
(2) انظر: مصادرهم السابقة.
(3) انظر: مصادرهم السابقة.
(4) الموسوعة الكويتية 29/64.(11/68)
أن يكتب القاضي إلى الزوج الغائب بالرجوع إلى زوجته أو نقلها إليه أو تطليقها ويمهله مدة مناسبة وهذا إذا كان له عنوان معروف وعلم مكانه وأمكن الوصول إليه وإن أبى ذلك كله أو لم يرد بشيء وقد انقضت المدة المضروبة أو لم يكن له عنوان معروف فإن القاضي يفرّق بينهما (1) .
4/4 - أن تطلب الزوجة التفريق:
لا يفرِّق القاضي بينهما لغيبة الزوج إلاَّ إذا رفعت الزوجة أمرها إلى القاضي وطلبت التفريق (2) لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة (3) .
القسم الثاني: ما اشترطه الحنابلة فقط:
5/1 - أن تكون الغيبة لغير عذر:
اشترط الحنابلة للتفريق بين الزوجين للغيبة أن تكون غيبة الزوج بغير عذر فإن كانت هذه الغيبة لعذر مثل الحج والجهاد وطلب الرزق له ولأولاده (4) ، وطلب العلم (5) ، فإنه لا يفرق بينهما.
قال صاحب الإنصاف (6) : " قد صرح الإمام أحمد - رحمه الله - بما قال. فقال في رواية ابن هانىء، وسأله عن رجل تغيب عن امرأته أكثر من ستة أشهر؟ قال: إذا كان في حج، أو غزو، أو مكسب يكسب على عياله، أرجو أن لا يكون به بأس، إن كان قد تركها في كفاية من النفقة ومحرم رجل يكفيها"اهـ.
__________
(1) انظر: مصادر المالكية والحنابلة السابقة، والموسوعة الكويتية 29/64، والمفصل في أحكام المرأة 10/463، والأحوال الشخصية لمحمد أبو زهرة ص427، والفرقة بين الزوجين وأحكامها في مذهب أهل السنة، للدكتور السيد أحمد فرج، ص294 وما بعدها، والطلاق بين الإطلاق والتقييد في الشريعة الإسلامية للدكتور محمود محمد علي ص282.
(2) انظر: مصادر المالكية والحنابلة السابقة.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته 7/534.
(4) انظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 21/408، وكشاف القناع 4/193.
(5) انظر: كشاف القناع 5/193.
(6) انظر: الموضع السابق.(11/69)
أما المالكية فإنهم لا يشترطون ذلك ولهذا للزوجة حق طلب التفريق للغيبة سواء أكانت لعذر أو لغير عذر (1) .
الترجيح:
الناظر إلى المسألة بعين بصيرة يجد أنها تدور بين حق الرجل وحق المرأة فالحنابلة عندما فرقوا بين الغيبة للعذر والغيبة لغير العذر قالوا بذلك من أجل أن لايتضرر الزوج، فإذا غاب من أجل طلب الرزق له ولأولاده أو لطلب العلم ونحو ذلك لا يفرق بينهما وإن طلبته الزوجة.
أما إذا كان سفره لغير حاجة أو بدون عذر كالسياحة مثلاً فإن الزوجة تجاب إلى طلب التفريق؛ لأنه ليس له عذر في غيابه.
أما المالكية فإنهم نظروا إلى تضرر الزوجة من غياب زوجها ولو كان غيابه لعذر، فإذا طلبت الزوجة التفريق فإنها تجاب إلى طلبها خشية عليها من الضرر وهو الوقوع في الحرام.
فالزوج معذور فيما بينه وبين اللَّه عندما تكون غيبته لعذر، ولكن للزوجة حقاً في التفريق.
لذا فإني أميل إلى ترجيح قول المالكية عملاً بالقواعد الفقهية " درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح "، " والضرر يزال "، و " ارتكاب أخف الضررين" (2) .
خاصة وأن المالكية يرون أنه لا يفرق بينهما للغيبة إلا إذا كانت الغيبة طويلة حددوها في المعتمد عندهم بسنة (3) .
وهذا كافٍ للزوج في قضاء مصالحه في غيبته، فإن زادت عن ذلك فيكون التفريق مراعاة لمصلحة المرأة ودفع الضرر عنها، واللَّه أعلم.
القسم الثالث: ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيه:
6/1 - أن تكون غيبة الزوج طويلة:
__________
(1) انظر: مصادر المالكية السابقة فإنهم لم يذكروا هذا الشرط عند ذكرهم لشروط التفريق بين الزوجين للغيبة وانظر أيضاً الموسوعة الكويتية 29/64، والفقه الإسلامي وأدلته 7/533، والفرقة بين الزوجين وأحكامها في مذهب أهل السنة ص295، والأحوال الشخصية لمحمد أبو زهرة ص429.
(2) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص85 وما بعدها.
(3) انظر تفصيل المسألة في الشرط التالي.(11/70)
فاشترط المالكية والحنابلة للتفريق بين الزوجين للغيبة أن تكون الغيبة طويلة ولكنهم اختلفوا في تحديد مدة هذه الغيبة.
فذهب المالكية (1) ، في المعتمد عندهم إلى أن هذه المدة سنة وللفرياني وابن عرفة من المالكية أن السنتين والثلاث ليست بطول بل لابد من الزيادة عليها.
وذهب الحنابلة إلى (2) أن توقيت هذه المدة ستة أشهر.
قال ابن قدامة (3) : " ... فإن أحمد ذهب إلى توقيته بستة أشهر، فإنه قيل له: كم يغيب الرجل عن زوجته؟ قال: ستة أشهر، يكتب إليه فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما ... " اهـ.
واستدل الحنابلة لهذا التوقيت بما أخرجه سعيد بن منصور (4) ، والبيهقي (5) ، عن زيد بن أسلم قال: بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وطال على أن لا خليل أُلاعبه
ووالله لولا خشية الله وحده ... ... لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
فسأل عنها عمر، فقيل له: هذه فلانة، زوجها غائب في سبيل الله فأرسل إليها امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها فأقفله، ثم دخل على حفصة، فقال: يا بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: سبحان الله، مثلك يسأل مثلي عن هذا فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. قالت: خمسة أشهر أو ستة أشهر فوقّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة، ويسيرون شهراً راجعين (6) .
المبحث الرابع: نوع الفرقة للغيبة
اختلف الفقهاء الذين قالوا بجواز التفريق بين الزوجين للغيبة في نوع هذه الفرقة إلى قولين:
القول الأول:
__________
(1) انظر: مصادر المالكية السابقة والمراجع المتقدمة.
(2) انظر: مصادر الحنابلة السابقة.
(3) المغني 10/240، وانظر أيضاً: الشرح الكبير ومعه المقنع والإنصاف 21/407.
(4) في سنته 2/174.
(5) في السنن الكبرى " مختصرا" في كتاب السير، باب الإمام لا يجمر بالغزى 9/29.
(6) وانظر هذه القصة في مصادر الحنابلة السابقة.(11/71)
ذهب المالكية (1) إلى أن هذه الفرقة طلاق بائن؛ لأن المالكية يقولون إن كل فرقة يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة للإيلاء أو الإعسار بالنفقة فإنه يكون رجعياً والسبب في كونه طلاقاً بائناً عند المالكية أنهم يقولون: إن المراد رفع الضرر عن المرأة، وهو لا يرتفع إلا بالبينونة (2) .
ويجاب عن ذلك:
بأن الضرر يرفع عن المرأة بغير البينونة مثل الفسخ.
القول الثاني:
ذهب الحنابلة (3) ، إلى أن هذه الفرقة فسخ لأنها فرقة من جهة الزوجة والفرقة من جهة الزوجة عند الحنابلة فسخاً (4) ، والفسخ عندهم بينونة صغرى.
دليل القول الثاني:
لأن الزوج ترك حقاً عليه تتضرر منه الزوجة (5) ، فيفرق بينهما بالفسخ لأنه يحقق المقصود ولا يحسب من الطلاق.
الفرق بين الطلاق والفسخ:
الطلاق: إنهاء الزواج واحتسابه من الطلقات الثلاث التي يملكها الزوج على زوجته.
أما الفسخ: فهو منع لاستمرار العقد ولا يحتسب من عدد الطلاق (6) .
الترجيح:
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/351-352.
(2) الفرقة بين الزوجين وما يتعلق بها من عدة ونسب ص145، والطلاق بين الإطلاق والتقييد في الشريعة الإسلامية ص283.
(3) انظر: المغني 10/241، والشرح الكبير ومعه المقنع والإنصاف 24/97، والإنصاف ومعه المقنع والشرح الكبير 21/410، وكشاف القناع 5/193.
(4) الفقه الإسلامي وأدلته 7/533.
(5) كشاف القناع 5/193.
(6) المرجع السابق 7/510.(11/72)
أرى - والله أعلم بالصواب- أن الراجح في نوع الفرقة للغيبة هو قول الحنابلة حيث يقع فسخاً لا طلاقاً " لأنه أقرب إلى روح التشريع ومقاصده، ذلك التشريع القائم على السهولة والتيسير والمصلحة ورفع الحرج ... وهذا يظهر واضحاً جلياً فيما إذا عاد الزوج الغائب إلى زوجته بعد وقوع الفرقة فمن قال إنها فسخ - وهم الحنابلة - لم يحتسبه طلقة وهذا يعطي الزوج الغائب الفرصة الكافية ليعود إلى زوجته مرة ثانية؛ لأنه لو كان قد طلق امرأته تطليقتين ثم فرق القاضي بينهما للغياب ثم عاد وأراد أن يتزوجها فله ذلك؛ لأن اعتبار التفريق للغياب فسخاً لم يضاف إلى الطلقتين ولم يحسب طلقة وفي هذا محافظة على بناء الحياة الزوجية واستمرارها.
أما من قال إنه طلاق فليس للزوج - والحالة هذه - حق مراجعتها حتى تنكح زوجاً غيره لأن بالتفريق كملت الطلقات الثلاث فيجب عليه الامتثال لقوله تعالى: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ((1) ، وفي هذه الحالة الثانية تفكك للأسرة وتشريد للأطفال وضياعهم وما إلى ذلك من أمور ليست في مصلحة أحد من الزوجين (2) .
الفرق بين التفريق والطلاق:
حيث ورد في البحث مصطلح التفريق فيحسن هنا أن أوضح الفرق بينه وبين الطلاق: من المعروف أن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته أما التفريق: فيقع بحكم القاضي، لتمكن المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبراً عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع (3)
__________
(1) سورة البقرة: 230.
(2) زوجة الغائب ص31.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته 7/509.
المصادر والمراجع
أبو زهرة، محمد. الأحوال الشخصية: دار الفكر العربي.
الألباني، محمد ناصر الدين. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1405هـ.
الأصبحي: مالك بن أنس بن مالك. الموطأ: دار الدعوة.
ابن عابدين، محمد أمين. رد المحتار على الدر المختار المسمى "بحاشية ابن عابدين": دار الفكر، الطبعة الثانية 1386هـ.
ابن قدامة. موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد. المغني: تحقيق: د. عبد الله التركي، د. عبد الفتاح الحلو، دار هجر - القاهرة، الطبعة الأولى، 1406هـ.
ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب: دار الرشاد الحديثة.
البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري: دار الدعوة.
البعلي، علاء الدين علي بن محمد. الاختيارات الفقهية، من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: المؤسسة السعيدية - الرياض.
البهوتي، منصور بن يونس. كشاف القناع عن متن الإقناع: عالم الكتب، بيروت.
الحطاب، محمد بن عبد الرحمن المغربي. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: دار الفكر، الطبعة الثانية.
الخطيب، محمد الشربيني. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: الناشر مصطفى البابي الحلبي وأولاده - مصر.
الدسوقي، محمد بن عرفة. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: دار الفكر.
الزحيلي، وهبة. الفقه الإسلامي وأدلته: دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية 1405هـ.
الزرقاني، عبد الباقي. شرح الزرقاني على مختصر خليل: دار الفكر، بيروت.
زغلول، محمد السعيد بن بسيوني. موسوعة أطراف الحديث النبوي: عالم التراث، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1410هـ.
زيدان، عبد الكريم. المفصل في أحكام المرأة: مؤسسة الرسالة - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1413هـ.
الزيلعي، جمال الدين محمد بن يوسف الحنفي. نصب الراية لأحاديث الهداية: دار الحديث - القاهرة.
السرخسي، محمد بن أبي الفضل. المبسوط: دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1406هـ.
البيهقي، الحافظ أحمد بن الحسين بن علي. السنن الكبرى: وفي ذيله الجوهر النقي لابن التركماني، دار المعرفة - بيروت.
الشافعي، محمد بن إدريس. الأم: دار المعرفة، بيروت - لبنان، توزيع مكتبة المعارف -الرياض.
الشماع، محمد. المفيد من الأبحاث في أحكام الزواج والطلاق والميراث: دار القلم - دمشق، والدار الشامية - بيروت، ودار البشير جدة-، الطبعة الأولى 1416هـ.
الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف. المهذب: دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1379هـ.
الصنعاني، أبي بكر عبد الرزاق بن همام. المصنف: تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي- بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
علي حسب الله. الفرقة بين الزوجين وما يتعلق بها من عدة ونسب: دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1387هـ.
عليش، محمد. شرح منح الجليل على مختصر خليل: دار الباز، مكة المكرمة.
الغرناطي، محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي. قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية: الطبعة الأولى، عالم الفكر - القاهرة.
فرج، السيد أحمد. الفرقة بين الزوجين وأحكامها في مذهب أهل السنة: دار الوفاء، المنصورة - مصر.
الكاساني، علاء الدين أبي بكر. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: دار الكتاب العربي - بيروت.
المطيعي، محمد نجيب. المجموع شرح المهذب "التكملة الثانية": دار الفكر- لبنان.
محمد، عبد الرحيم محمد. زوجة الغائب: دار السلام، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى 1410هـ.
محمود محمد علي. الطلاق بين الإطلاق والتقييد في الشريعة الإسلامية: طبع 1398هـ.
ابن قدامة، الموفق عبد اللَّه بن أحمد، وابن قدامة، شمس الدين عبد الرحمن بن محمد، والمرداوي، علي بن سليمان. المقنع والشرح الكبير والإنصاف: تحقيق الدكتور/ عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1416هـ، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية، المملكة العربية السعودية.
الموسوعة الفقهية. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت: طبع ذات السلاسل، الكويت، ودار الصفوة.
ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، دار الكتب العلمية، بيروت، طبع عام 1400هـ.
النيسابوري، مسلم بن الحجاج القشيري. صحيح مسلم: دار الدعوة.(11/73)
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث أحمده سبحانه على أن أمدني بعونه وتوفيقه حتى انتهيت منه ولما كان لكل شيء ثمرة فإني أذكر في نهايته أهم النتائج التي توصلت إليها:
إن أبحاث هذا البحث تخص الغائب الذي غادر موطنه إلى موطن آخر ولم يعد إليه لفترة وحياته معلومة ومكانه معروف ويمكن الاتصال به.
إن الراجح من قولي العلماء هو القول بالتفريق بين الزوجين للغيبة إذا تضررت الزوجة من هذه الغيبة وطالبت بالفرقة وتوفرت شروط التفريق.
إن الذين قالوا بالتفريق بين الزوجين للغيبة وهم المالكية والحنابلة اشترطوا شروطاً لابد من توفرها قبل التفريق منها شروط اتفقوا عليها، ومنها ما اشترطه الحنابلة فقط، ومنها ما اشترطه المالكية والحنابلة واختلفوا فيه.
أنني أميل إلى ترجيح رأي المالكية في عدم اشتراط العذر للتفريق للغيبة دفعاً لتضرر الزوجة من طول الغياب وهو خشية الوقوع في الزنا وعملاً بالقواعد الفقهية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، و"الضرر يزال"، و"ارتكاب أخف الضررين" خاصة وأن المالكية يرون أنه لا يفرق بينهما للغيبة إلا إذا كانت الغيبة طويلة حددوها بسنة على المعتمد في المذهب وهذا كافٍ للزوج لقضاء مصالحه - حتى ولو كان سفره بعذر - فإذا زاد عن ذلك فالتفريق بينهما إذا طلبته الزوجة لمراعاة مصلحة المرأة ودفع الضرر عنها الحاصل من طول الغياب.
إن الراجح من القولين قول من قال إن الفرقة فسخٌ وليست طلاقاً لأن القول بأنه فسخ أقرب إلى روح التشريع ومقاصده المبنية على السهولة والتيسير والمصلحة ورفع الحرج.
الحواشي والتعليقات(11/74)
اللُّمُوعُ
فيما يختلف فيه الرجال والنساء من أحكام البيوع
الدكتور أحمد بن عبد الله بن محمد العمري
الأستاذ المساعد بقسم الفقه -كلية الشريعة-الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
تتلخص فكرة البحث في أنني رأيت أن قضية تحرير المرأة قد تُصدي لها من الناحية الفكرية بما فيه قُنْعَةٌ للمنصف، ولكنها تحتاج إلى بحوث متخصصة من الناحية العلمية تبين تباين الرجل والمرأة في الأحكام الشرعية، وهذا من أقوى العوامل التي تساهم في دحض دعاوى مساواتها للرجل، وخلصت من خلال هذا البحث إلى:
1 أن مزاولة التجارة مباحة للرجل، وغير مباحة للمرأة إلا بقيود زائدة على الرجل.
2 أنه لا فرق بين الأمة والعبد في حرمة التفريق بينهما وبين ابنهما الصغير في البيع.
3 أن البيع بعد نداء الجمعة حرام في حق الرجل، يحكم بفسخه، بخلاف المرأة إذا لم تتعامل مع أحد من أهل الوجوب.
4 أنه يجوز بيع المدبَّر والمدبَّرة على حدٍ سواء.
5 أن البَخْر والذفر والزنا عيب في العبد والأمة يرد به البيع.
6 أن الأمة إذا كانت بنت زنا تردُّ في البيع بخلاف العبد.
7 أن كفر العبد لا يعد عيباً في البيع بخلاف الأمة ما لم تكن كتابية.
8 أن عدم الختان عيب في العبد دون الأمة.
9 أن النكاح عيب في الأمة والعبد يرد به البيع.
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا - إلى يوم الدين.(11/75)
أما بعد: فإن جوانب العظمة في الدين الإسلامي لا تنحصر، كيف وقد قضى الله أن من تمسك به نصر، ومن حاد عنه خسر، وسط لا غلو فيه ولا جفاء، سهل لا شدة فيه ولا عناء، منزه عن كل عيب ونقصان، صالح لكل زمان ومكان، أرسل الله به سيد المرسلين، وخاتم النبيين، أشرف الأولين والآخرين، وجعل العلم والعمل به أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (. [الزمر 9]
وقال النبي (: " العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (1) صححه الألباني (2) .
وإن من جوانب العظمة في هذا الدين أن العلم به ميدان مديد، وصرح مشيد، فتح للعقول أبواب التفكير والاستنباط، وأزال عنها غشاوة الجهل ودواعي الإحباط، فلا زال العلماء على مر الأعوام، وتتابع الأيام، يسطرون المؤلفات، ما بين مطولات ومختصرات، فمنهم الشارح ومنهم المختصر، ومنهم الجامع لما تناثر مما يتعلق بموضوع واحد، ومنهم المُجَلِّي لنازلة نزلت بالأمة وهكذا.
وإنه في هذه الأزمان قد ظهرت على الناس طائفة استشرفها الشيطان وزين لها سوء عملها فأصبحت جندا من جنوده ينادون بما ينادي به الكفار من سلخٍ للمرأة عن أُنوثتها، وإخراجها من حجابها سر عفتها، وجعلها سلعة تباع كرامتها بلا ثمن، واتخذوا لذلك شعارات برّاقة من الدعوة إلى حرية المرأة ومساواتها بالرجل وضمان حقوقها إلى غير ذلك، والهدف هو حرية الوصول إلى المرأة ليس غير.
__________
(1) سنن أبي داود 4/57 في العلم باب الحث على طلب العلم حديث 3641، سنن الترمذي 5/49 في العلم باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة ضمن حديث 2682.
(2) صحيح سنن الترمذي 2/342 رقم 2159.(11/76)
أقول ومع أن هذه الدعوى لا يقبلها دين قويم، ولا عقل سليم، إلا أنها قد وجدت لها أنصاراً كثراً. وقد تولى العلماء والمفكرون الرد على هذه الدعوى من الناحية الفكرية بما لا مزيد عليه ثم رأيت أنه ينبغي أن يُطرق الموضوع من الناحية الفقهية لتبيين الفرق بين الصنفين والبون بين الطائفتين.
ولما كنت قد جعلت رسالتي الدكتوراه في هذا الموضوع وبحثت فيها ما يتعلق بالعبادات وقد نُشرت تحت عنوان " الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام " رأيت أن من المناسب أن أُقدم بحثا آخر في البيوع، فاستعنت الله تعالى وجمعت ما وجدته من مسائل تدخل تحت موضوع البيوع وسميته " اللموع فيما يختلف فيه الرجال والنساء من أحكام البيوع " وإني أرجو أن أكون بعملي هذا قد ساهمت في سد ثغرة سعى أعداء الإسلام إلى فتحها على الدين الإسلامي من خلال المرأة.
وقد سرت في بحثي هذا على المنهج التالي:
1 - قمت بتتبع المسائل التي تدخل تحت هذا الموضوع بالبحث في مظانها وبعد أن تم لي جمعها جعلتها في مباحث أربعة.
2 - قمت بجمع أقوال أهل العلم في كل مسألة ولم ألتزم بتقديم مذهب معين.
3 - قمت بتوثيق كل قول من مصادره الأصيلة خاصة المذاهب الأربعة أما غير المذاهب الأربعة فانقلها من مظانها كالمصنفات وكتب شروح الحديث وكتب الفقه المقارن.
4 - جعلت نصب عيني أن أذكر أقوال المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين غالباً.
5 - بعد ذكر الأقوال أبدأ في الاستدلال لها فأذكر أدلة القول الأول مقدما الأدلة النقلية على الأدلة العقلية ذاكراً ما على كل دليل من مناقشة بعده مباشرة، وإن كان هناك جواب على المناقشة ذكرته بعد ذلك وهكذا حتى تتم أدلة القول الأول، ثم أدلة القول الثاني وهكذا.
6 - إذا لم أجد أهل العلم ذكروا أدلة لبعض الأقوال حاولت الاستدلال لها وأحيانا أضيف بعض الأدلة لبعض الأقوال.(11/77)
7 - قد أناقش أدلة قولٍ ومع ذلك أرجحه، وذلك لما يلي:
أ - إما لأن تلك المناقشة غير قوية في نظري فلا تكفي لردها.
ب - وإما لأن هناك أدلة قوية غير التي ناقشتها.
ج - وإما لاعتبارات أخرى أذكرها في حينها.
8 - قسمت البحث إلى خمسة مباحث والمبحث إلى مطالب.
9 - اعتنيت ببيان النصوص التي أنقلها عن أهل العلم إما بوضعها بين قوسين أو بأن أبدأ الكلام بقولي قال فلان ثم أضع الإحالة في آخر الكلام.
10 - خرّجت الأحاديث والآثار قدر الاستطاعة فما ورد في الصحيحين اكتفيت بالإحالة إليهما وما ورد في غيرهما حاولت بيان درجته من كتب الفن.
11-إذا ورد الحديث في الكتب الستة ذكرت الجزء والصفحة، والكتاب والباب ورقم الحديث وذلك لكثرة طبعات هذه الكتب أما غير الكتب الستة فاذكر الجزء، والصفحة فقط.
12 - رمزت لمصنف عبد الرزاق برمز "عب" ولمصنف ابن أبي شيبة برمز "شب".
13 - عزوت الآيات إلى أماكنها من القرآن الكريم.
14 - قمت بتخريج الحديث عند أول وروده.
15-إذا رجحت أن بين الرجل والمرأة فرقا في مبحث ما فإن كان الفرق ظاهراً اكتفيت ببيان حكم كل من الرجل والمرأة وإن لم يكن واضحا لخصت الفرق بينهما في آخر المبحث.
16 - بينت الراجح في كل مسألة حسب طاقتي.
هذا وقد رسمت لعملي في هذا البحث الخطة التالية:
جعلته في مقدمة وخمسة مباحث:
المقدمة: وضمنتها منهج البحث وخطة العمل فيه.
المبحث الأول: حكم مباشرة البيع للرجل والمرأة.
المبحث الثاني: حكم التفريق بين الأمة وولدها والعبد وولده في البيع.
المبحث الثالث:حكم البيع بعد نداء الجمعة الثاني في حق الرجل والمرأة.
المبحث الرابع:حكم بيع المدبر والمدبرة.
المبحث الخامس:عيوب البيع التي يختلف فيها العبيد والإماء.
الخاتمة.
الفهارس.
المبحث الأول: حكم مباشرة البيع للرجل والمرأة(11/78)
من المسلَّمات عند علماء الإسلام قديما وحديثا أن البيع مباح في الجملة، ويدل لذلك الكتاب والسنة والإجماع (1) .
فمن الكتاب قوله تعالى: (وأحل الله البيع (. [البقرة 275]
وقوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم (. [البقرة 282]
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (. [النساء 29]
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها ما ورد في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام أن النبي (قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" (2) .
وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أهل العلم منهم موفق الدين ابن قدامة وابن حجر العسقلاني (3) .
وإذا تبين أن حكم البيع الإباحة من حيث الجملة فإن الرجل داخل في هذا الحكم دخولا أوليا لا ينازع في ذلك أحد كيف وقد جعل الله الرجال قوامين على النساء وأمرهم بالإنفاق على أهليهم، ومن أعظم سبل تحصيل المعاش التجارة الحاصلة بالبيع والشراء والتقلب في الأسواق.
ولقد باشر النبي (التجارة بنفسه؛ فشرى جملا من جابر (كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة (4) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 2/5، تفسير القرطبي 3/356، الغاية القصوى 1/ 455، المغني 6/5.
(2) صحيح البخاري مع الفتح 4/309 في البيوع باب إذا بين البيعان رقم 2079، صحيح مسلم 3/1164 في البيوع باب الصدق في البيع والبيان رقم 1532.
(3) المغني 6/7، فتح الباري 4/287.
(4) صحيح البخاري مع الفتح 4/ 320 في البيوع باب شراء الدواب والحمير رقم 2097، صحيح مسلم 3/1221 في المساقاة باب بيع البعير واستثناء ركوبه رقم715.(11/79)
وكان ينيب عنه غيره أحيانا؛ فبعث مرة عروة البارقي (بدينار ليشتري له به شاة أو أضحية فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وأتاه بشاة ودينار فدعا له رسول الله (في بيعه بالبركة فكان لو اشترى ترابا لربح فيه (1) .
وباشرها أصحابه رضي الله عنهم حتى إن الغالب على المهاجرين الاشتغال بالبيع والشراء في تحصيل معاشهم.
قال ابن عبد البر معلقا على قول عثمان (عندما أنكر عليه عمر (تأخره عن الجمعة "يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت ... " (2) قال: "وفي الحديث ... شهود الخيار والفضلاء السوق ومعناه التّجر فيه وهكذا كان المهاجرون يعانون المتاجر لأنه لم يكن لهم حيطان ولا غلاّت يعتمرونها إلا بعد حين وكانت الأنصار ينظرون في أموالهم ويعتمرونها وفي هذا كله دليلٌ على طلب الرزق والتعرض له والتحرف" (3) .
وكم من النصوص الحاثة على الاتجار الناهية عن المسألة والاعتماد على الغير، والضابطة لأحكام البيع حلا وحرمة.
من ذلك ما روى الشيخان من حديث أبي هريرة (أن رسول الله (قال: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيأتي به فيبيعه فيأكل منه ويتصدق منه خيرله من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه" (4) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 6/632 في المناقب باب حدثنا محمد بن المثنى رقم3642، سنن الترمذي 3/559 في البيوع باب رقم 34 حديث رقم 1258، سنن ابي داود 3/677 في البيوع باب في المضارب يخالف رقم 3384.
(2) صحيح البخاري مع الفتح2/356 في الجمعة باب فضل غسل الجمعة حديث 878، صحيح مسلم 2/580 أول كتاب الجمعة حديث845.
(3) التمهيد 10/77.
(4) صحيح البخاري مع الفتح3/335 في الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة رقم 1470، صحيح مسلم 2/721 في الزكاة باب كراهة المسألة للناس حديث 1042.(11/80)
وكنهيه (عن تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي وزيادة الناجش وغيرها من النصوص المبينة لأحكام التجارة.
وإذا كانت الأدلة تدل على جواز ممارسة التجارة للرجل بالبيع والشراء طلبا للرزق كما كان يفعله السلف، فهل المرأة كالرجل في حكم مباشرتها للبيع والشراء والصفق في الأسواق أم لا؟ .
وللجواب عن هذا السؤال أقول: لابد من بيان أهم المفاسد من خروج المرأة واختلاطها بالرجال لأنه لا خلاف في جواز التجارة للمرأة إذا كانت لا تختلط بالرجال ولا تمشي في الأسواق متكشفةً بحيث يراها الرجال، ولا تتطيب عند خروجها، ولا تخرج دون إذن زوجها، ولا تتعامل بالحرام، أو قل لا ترتكب محذوراً شرعياً. لأن الغاية لا تبرر الوسيلة بل الوسائل لها أحكام الغايات فلا يجوز التوصل إلى غاية مباحة إلا بوسيلة مباحة، فإذا كان في مباشرة المرأة للتجارة ضرر كفساد أو تهمة أو خلوة أو ميل لشهوة (1) فإنه لا يجوز لها مباشرة التجارة سداً للذريعة الموصلة إلى المحرم.
قال الإمام مالك رحمه الله: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم ... (2) .
__________
(1) انظر المعيار المعرب 5/198.
(2) المعيار المعرب 5/199، الطرق الحكمية ص280.(11/81)
وعقب ابن القيم على كلام مالك بقوله: " فالإمام مسؤول عن ذلك والفتنة به عظيمة قال (: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " وفي حديث آخر أنه قال للنساء (1) : " لكنّ حافات الطريق (2) " ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات ومنع الرجال من ذلك وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجملت وتزينت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب وهذا من أدنى عقوبتهن المالية، وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر عن ذلك " (3) .
ومن أهم المفاسد المترتبة على خروج النساء للتجارة والصفق في الأسواق التي يبنى عليها القول بتحريم خروجهن للتجارة في الأسواق مايلي:
1- ما يقتضيه الخروج للتجارة من مزاحمة المرأة للرجال والاختلاط بهم مما يؤدي إلى فتنة عظيمة لها وللرجال بسبب ما أودعه الله في النفوس من ميل الذكر إلى الأنثى والأنثى إلى الذكر خاصة عندما يصاحب ذلك جمال من أحد الطرفين أو خلوة يطل فيها الشيطان بقرونه أو ضعف في التدين، والأدلة الدالة على تأكيد هذا الأصل كثيرة منها:
أ - قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ... (. [الأحزاب 33]
قال القرطبي: " معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي (فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن " (4) .
__________
(1) يأتي تخريجه في الصفحة اللاحقة.
(2) أخرجه أبو داود 5/422، في الأدب: باب مشي النساء مع الرجال في الطريق حديث 5272، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 2/537 تحت حديث رقم 856.
(3) الطرق الحكمية ص280.
(4) تفسير القرطبي 14/179.(11/82)
فالخروج للأسواق ينافي الأمر بالقرار وما أمر الله بالقرار إلا لما فيه من المصلحة ولما في الخروج من المفسدة. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط وذلك أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة وهو مصادم للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها" (1) .
ب - قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ( [الأحزاب 53] والخروج للتجارة يكسر هذا الحجاب ويجعل المرأة تكلم الرجال مباشرة كيف وهذه الآية نزلت في تعليم الصحابة – رضى الله عنهم – وهم أطهر الناس بعد الأنبياء، كيف يسألون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن أطهر النساء.
قال الطبري في تفسيرها: " وإذا سألتم أزواج النبي (ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا فاسألوهن من وراء حجاب. يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" (2) .
ج - قوله] فيما روى الشيخان من حديث أسامة بن زيد " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " (3) .
ومعلوم أنه إذا لم يرها الرجال ولم يسمعوها لم تحصل الفتنة وإنما تحصل بالرؤية والحديث والأخذ والعطاء وما أدى إلى ذلك فإنه يمنع.
د - قوله (فيما روى الترمذي من حديث عبد الله " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان " (4) .
قال الترمذي: حسن غريب.
وقال الألباني: صحيح (5) .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية عدد 39 ص379.
(2) تفسير الطبري 22/28.
(3) صحيح البخاري مع الفتح 9/137 في النكاح باب ما يتقى من شؤم النساء حديث 5096، صحيح مسلم 4/2097 في الذكر والدعاء باب أكثر أهل الجنة الفقراء… رقم 2740.
(4) سنن الترمذي 3/476 في الرضاع باب حدثنا محمد بن بشار حديث 1173.
(5) إرواء الغليل 1/303 حديث 273.(11/83)
وقوله: استشرفها، أي نظر إليها (1) وفي هذا دلالة على أنه ينظر إليها فيفتنها ويفتن بها.
2 - ما يحصل من التزين والتعطر عند الخروج إذ أن المرأة منذ خلق الله الخليقة مجبولة على حب التزين والجمال بل إن ذلك من أعظم ما يشغل بالها إن لم يكن هو الأعظم وإذا تزينت وتعطرت ثم خرجت عصت ربها ووقعت في المحذور يدلك على ذلك ما صح من حديث أبي موسى الأشعري (أنه قال: قال رسول الله (: "أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني: إسناده حسن (2) .
وما في صحيح مسلم من حديث زينب امرأة عبد الله أنها قالت: قال رسول الله (: " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا " (3) .
3 - ما يحصل بمزاولة التجارة من الخلوة بين الرجال والنساء إذ أنه لا يمكن أن تباشر المرأة البيع والشراء ثم لا تحصل الخلوة وخاصة أنه يوجد من ضعاف الإيمان من الرجال والنساء من يتقصد الخلوات ويتطلع إلى المحرمات والخلوة محرمة وما أدى إليها أخذ حكمها.
قال (فيما روى الشيخان من حديث عقبة بن عامر: " إياكم والدخول على النساء " فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت" (4) .
__________
(1) النهاية 2/462.
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/414 وأبو د اود في السنن 4/400 في الترجل باب طيب المرأة للخروج حديث 4173، والنسائي في السنن 8/153 كتاب الزينة باب ما يكره للنساء من الطيب، والترمذي في السنن 5/106 في الأدب باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة حديث2786، مشكاة المصابيح 1/335 رقم 1065.
(3) صحيح مسلم 1/328 في الصلاة باب خروج النساء إلى المسجد رقم 443.
(4) صحيح البخاري مع الفتح 9/330 في النكاح باب لا يخلو رجل بامرأة إلا ذو محرم حديث رقم 5232، صحيح مسلم 4/1711 في السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية حديث رقم 2171.(11/84)
4 – ما تتطلبه التجارة من السفر والضرب في الأرض، وقد يكون بدون محرم وهذا حرام لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال (: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم" (1) .
5 - ما يحصل بالاختلاط في التجارة مع الرجال من تبادل النظرات المريبة التي تؤدي إلى أمراض القلوب، ولو ابتعدت المرأة عن مثل هذه الأماكن لسلمت وسلّمت، ويؤكد هذا الكلام ما يلي:
أ – ما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث بريدة قال: قال رسول الله (لعلي: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " (2) .
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
ب – ما روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله (قال: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنى العين النظر، وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " (3) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 2/566 في تقصير الصلاة باب في كم يقصر الصلاة حديث رقم 1088 صحيح مسلم 2/977 في الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج حديث رقم 1339.
(2) المسند 5/351،353،357،سنن أبي د اود 2/610 في النكاح باب ما يؤمر به من غض البصر حديث رقم2149،سنن الترمذي 5/101 في الأدب باب ما جاء في نظرة المفاجأة حديث رقم 2777..
(3) صحيح البخاري مع الفتح 11/26 في الاستئذان باب زنا الجوارح حديث رقم 6343، صحيح مسلم 4/2046 في القدر باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا حديث رقم 2657.(11/85)
ج - ما قد يحصل بمزاولة المرأة للتجارة من انكشاف شيء من جسدها من وجه أو يد أو رجل إلى غير ذلك وناهيك بالفتنة الحاصلة به وهذه المفسدة متحققة فإنها إذا باشرت التجارة سوف ترفع البضائع وتضعها وتصعد السلالم وتنزل وتحمل على رأسها وظهرها فأي تستر يحصل إذا قامت بهذه الأعمال أمام الرجال، ثم إن التجارة ليست فقط بيعا في المحلات بل ربما تكون عاملة بجسدها في إصلاح الطرق وحفر الآبار وقطع الأخشاب وبناء البيوت فأي حجاب والحال ما ذكر.
بهذا يتلخص:
أن مزاولة التجارة في الأسواق مباحة للرجل، وغير مباحة للمرأة إلا بقيود زائدة على ما يجب على الرجل أن يتقيد به، وذلك عائد إلى ما يترتب على خروجها للتجارة من مفاسد زائدة على ما يترتب على خروج الرجل، وقد سبق وأن أجملت أهم هذه المفاسد على سبيل التمثيل لا الحصر، والله أعلم.
المبحث الثاني: حكم التفريق بين الأمة وولدها والعبد وولده في البيع
هذه المسألة تدور حول بيع العبيد من حيث جواز التفريق بين الوالد وولده في البيع ومما هو معلوم أن المالك للعبيد له مصلحة في بيع عبيده كيف شاء، وألا يقيد في ذلك بقيود، كما أن في التفريق بين الوالد وولده ضرراً بالغاً لما جعل الله بين الآباء والأبناء من الحب والشفقة والرحمة حتى إن حب الأم لولدها صار مضرب المثل يدل لذلك ما روى الشيخان من حديث عمر بن الخطاب (قال قدم على النبي (سبي فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي (: " أترون هذه طارحة ولدها في النار"؟ قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: " لله أرحم بعباده من هذه بولدها " (1) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 10/426 في الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته حديث رقم 5999، صحيح مسلم 4/2109 في التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى… حديث رقم 2754.(11/86)
ولأجل هذه الرحمة التي أودعها الله في قلوب الآباء والأمهات لأبنائهم منع الإسلام من التفريق بين الوالد وولده في البيع، وهذا من كمال الدين الإسلامي ورعايته لمصالح المالك والمملوك والقوي والضعيف؛ لكنه وقع خلاف بين العلماء في حكم هذه المسألة من حيث امتداد منع التفريق بينهما هل يمتد إلى التمييز أم إلى البلوغ أم إلى ما بعد البلوغ؟ وهل يشمل الوالد والوالدة أم يخص واحدا منهما؟ ومن أجل بيان حكمها جعلتها في أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم التفريق بين الأمة وولدها في البيع.
المطلب الثاني: إلى متى تمتد حرمة التفريق بينهما؟
المطلب الثالث: حكم التفريق بين العبد وولده في البيع.
المطلب الرابع: إلى متى تمتد حرمة التفريق بينهما؟
المطلب الأول: حكم التفريق بين الأمة وولدها في البيع:
أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الأمة وولدها الطفل غير جائز (1) ولكنهم اختلفوا في كون النهي للتحريم أو للكراهة على قولين:
القول الأول: للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون حرمة التفريق بين الأمة وولدها في البيع (2) .
القول الثاني: للحنفية حيث يرون أن التفريق بينهما مكروه وليس محرما خلافاً للجمهور. (3)
الأدلة:
أدلة الجمهور على حرمة التفريق بين الأمة وولدها في البيع.
__________
(1) المغني 13/108
(2) البيان والتحصيل4/170، الكافي1/468، القوانين الفقهية ص 128، شرح السنة 9/335، المنهاج ومغني المحتاج2/38، نهاية المحتاج3/473،476، المغني 13/108،109، الإنصاف4/137،138، المبدع3/330.
(3) تحفة الفقهاء 2/115، الهداية شرح البداية وشرح فتح القدير 6/479،484.(11/87)
1- ما روى الترمذي وأحمد والدارمي والحاكم من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله (يقول: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " (1) .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقد أورده صاحب المشكاة وقال عنه الألباني: إسناده حسن (2) .
قلت: فهذا الحديث فيه وعيد شديد في حق من فرق بين والدة وولدها وهو عام يدخل فيه البيع، ومثل هذا الوعيد يدل على التحريم، وهذا ما فهمه العلماء من هذا الحديث.
2 - ما روى ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأبو يعلى من حديث أبي موسى قال: لعن رسول الله (من فرق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وبين أخيه (3) ضعفه النووي (4) وحكم عليه محقق مسند أبي يعلى بالضعف.
3 - ما روى البيهقي في سننه من حديث أبي بكر الصديق (قال: قال رسول الله (: " لا تولّه والدة عن ولدها " (5) . قال صاحب الإشراف بعد ذكر هذا الحديث: أجمع أهل العلم على القول بهذا الخبر إذا كان الولد طفلاً لم يبلغ سبع سنين، واختلفوا في وقت التفرقة (6) .
وقدحكم عليه الشيخ الألباني بالضعف (7) .
__________
(1) سنن الترمذي 3/580 في البيوع باب ما جاء في كراهية الفراق بين الأخوين… حديث رقم1283، المسند5/413،414، سنن الدارمي2/227، المستدرك2/55.
(2) مشكاة المصابيح2/1003، حديث رقم 3361.
(3) سنن ابن ماجة 2/756 في التجارات باب النهي عن التفريق بين السبي حديث رقم2250، سنن الدارقطني 3/67 حديث رقم 255، سنن البيهقي 9/ 128، مسند أبي يعلى13/226 رقم7250.
(4) المجموع 9/362
(5) سنن البيهقي 8/5.
(6) انظر مواهب الجليل 4/370.
(7) ضعيف الجامع 5/78 رقم6294.(11/88)
4- ما روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث علي بن أبي طالب (قال: أمرني رسول الله (أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي (فقال: " أدركهما فأرجعهما ولاتبعهما إلا جميعاً " (1) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وأجاب الأحناف عن هذا الحديث: بأنه يجب تأويله بأن يحمل على طلب الإقالة أو بيع الآخر ممن باع منه أحدهما (2) .
قلت: وهذا الجواب لا يقوى على رد ما صح من أدلة الجمهور.
وقال الحاكم: هذا حديث غريب صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الذهبي: غريب (3) . وضعفه الألباني (4) .
فإذا دل الحديث على أنه لا يفرق بين الأخوين فبين الأم وولدها من باب أولى.
قلت: فما لم يضعَّف من الأدلة السابقة يدل على تحريم التفريق بين الأمة وولدها في البيع وعلى عدم صحة البيع إن وقع (5) .
أدلة القول الثاني:
أما ما ذهب إليه الحنفية من أن حكم التفريق بين الأم وولدها الكراهة وليس التحريم فدليله قولهم: إن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله والكراهة لمعنى مجاور وهو الوحشة الحاصلة بالتفريق فكان كالبيع وقت النداء وهو مكروه لا فاسد كالاستيام (6) .
الترجيح:
الذي يظهر لي أن قول الجمهور أقوى من قول الأحناف لما يلي:
1 أن الوعيد الوارد في قوله (: "من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" وعيد شديد يفهم منه حرمة التفريق.
__________
(1) المسند 1/97،98، سنن الترمذي3/581 في البيوع باب ما جاء في كراهية التفريق بين الأخوين000 حديث رقم1284، سنن ابن ماجة2/755 في التجارات باب النهي عن التفريق بين السبي حديث رقم2249، المستدرك 2/54.
(2) شرح فتح القدير، وشرح العناية 6/84.
(3) تلخيص المستدرك 2/ 54.
(4) مشكاة المصابيح 2/1003 رقم 3362.
(5) انظر المغني 13/110.
(6) شرح العناية على الهداية 6/483،484.(11/89)
2 أن تجويز الأحناف التفريق بين الوالدة وولدها قياساً على البيع وقت النداء من قياس المختلف فيه على المختلف فيه، وهذا لا يُسلَّم.
المطلب الثاني: إلى متى تمتد حرمة التفريق بينهما؟
بعد أن تبين في المطلب السابق أنه يحرم التفريق بين الأمة وولدها الصغير فإنه يأتي سؤال يفرض نفسه، وهو إلى متى تمتد حرمة التفريق؟
وللجواب عن ذلك أقول: وقع في إجابته خلاف بين أهل العلم على أقوال أهمها ثلاثة:
القول الأول: لا يُفَرَّق بينهما حتى يبلغ الصغير باحتلام أو حيض، هذا ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة في قول، وهو قول للمالكية وقول للشافعية (1) .
القول الثاني: لا يفرق بينهما حتى يبلغ الصغير سبع أو ثمان سنين، هذا هو المعتمد عند الشافعية والمالكية (2) حيث قالوا لا يفرق بينهما إلى أن يثغر (3) وهو لا يثغر إلا في حدود هذا السن.
القول الثالث: لا يفرق بينهما أبداً، هذا قول للمالكية والحنابلة، وعليه المذهب عند الحنابلة، وهي من المفردات (4) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لقولهم بان التفريق بين الوالدة وولدها لا يجوز إلا بعد البلوغ بأدلة من السنة والمعقول من ذلك:
__________
(1) تحفة الفقهاء 2/115، الهداية شرح البداية وشرح فتح القدير6/479،484، البيان والتحصيل 4/170، القوانين الفقهية ص128، المنهاج ومغني المحتاج 2/38، نهاية المحتاج 3/475، المغني 13/109، المقنع والإنصاف 4/137.
(2) الكافي 1/468، القوانين الفقهية ص128، شرح السنة 9/335، مغني المحتاج 2/38، نهاية المحتاج 3/473.
(3) أي إلى أن يلقي أسنانه، والثغر هو المبسم ثم أطلق على الثنايا. المصباح المنير مادة ثغر 1/101.
(4) البيان والتحصيل 4/170، المغني 13/109، الإنصاف4/137.(11/90)
1 ما روى مسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه غزى فزارة مع أبي بكر رضي الله عنه فأسر سلمة عنقاً من الناس وفيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها فنفله أبوبكر البنت فلما عادوا إلى المدينة استوهبها منه رسو ل الله (فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناساً من المسلمين (1) ولم ينكر النبي (تفريق أبي بكر بينهما (2) .
وقال النووي: فيه دلالة للتفريق بين المرأة وولدها بعد البلوغ (3) .
2 ما روى الحاكم والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: نهى رسول الله (أن يفرق بين الأم وولدها، فقيل: يا رسول الله إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية (4) . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: موضوع، وابن حسان كذَّاب. وضعفه الحافظ في التلخيص (5) .
3 أن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فإن المرأة تزوَّج ابنتها (6) .
أدلة القول الثاني:
استدلوا لقولهم بعدم جواز التفريق بين الأمة وولدها حتى يبلغ الصغير سبع أو ثمان سنين بما يلي:
1 ما تقدم من قوله (: "لا توله والدة عن ولدها".
2 ما تقدم من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله (يقول: "من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة".
3 ما تقدم من حديث أبي موسى قال::لعن رسول الله (من فرق بين الوالدة وولدها…" وتقدم أنه ضعيف.
__________
(1) صحيح مسلم 3/ 1375 في الجهاد باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، حديث 1755، سنن أبي داود 3/146 في الجهاد، باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم حديث رقم 2697، سنن ابن ماجة 2/949 في الجهاد، باب فداء الأسارى، حديث رقم 2846، مسند الإمام أحمد 4/46.
(2) المغني 13/109.
(3) المجموع 9/363.
(4) المستدرك 2/55، السنن الكبرى 9/128.
(5) التلخيص الحبير 3/16.
(6) المغني 13/109.(11/91)
استدل الشافعية بهذه الأحاديث ويظهر أنهم حملوا النهي على ما دون التمييز (1) معللين ذلك بأن الولد يستغني عن الأم بعد هذه السن (2) ويظهر أن المالكية يعللون بمثل تعليل الشافعية حيث قال ابن عبد البر معللاً لمذهبهم تأخير التفريق حتى يثغر أو يبلغ ثماني سنين. قال: وكان ممن يعرف القيام من نفسه بما يقوم به مثله (3) .
أدلة القول الثالث:
استدل أهل هذا القول لمذهبهم القائل بأن النهي عن التفريق بين الوالدة وولدها يمتد أمد الحياة بما يلي:
1 بعموم الخبر (4) ، أي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتقدم أنه (قال: "لا توله والدة عن ولدها" وما ذكر معه من الأحاديث.
2 أن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حُرِّم عليه الجهاد بدون إذنها (5) .
الترجيح:
الذي يظهر لي أن التفريق بين الأمة وولدها بالبيع جائز بعد البلوغ لما مر من أدلة القول الأول، وغير جائز قبل التمييز لما مر من نقل الإجماع على منعه في المطلب الأول، أما ما بين التمييز والبلوغ فلم أستطع الجزم فيه بجواز التفريق أو عدمه وإن كان هناك ما قد يدل على الجواز إذ أنه يجوز التفريق بين الحرة وابنتها بالنكاح قبل البلوغ فيؤخذ منه جواز التفريق بين الأمة وابنتها بالبيع قبل البلوغ، وقد يجاب عنه بأن بين الأمرين فرقاً فالتفريق بالبيع فيه وحشة وتفريق على غير رغبة أما التفريق بالنكاح ففيه أنس وتفريق عن رغبة ومحبة من الأم والبنت جميعا فالله أعلم بالصواب.
المطلب الثالث: حكم التفريق بين العبد وولده في البيع:
اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
__________
(1) المهذب مع المجموع 9/361، مغني المحتاج 2/38.
(2) شرح السنة 9/335، المهذب مع المجموع 9/361.
(3) الكافي 1/468.
(4) المغني 13/109، البيان والتحصيل 4/170.
(5) المغني 13/109.(11/92)
القول الأول: يحرم التفريق بين العبد وولده الصغير في البيع، هذا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة واللخمي من المالكية إلا أن الشافعية شرطوا عدم وجود الأم فإن وجدت الأم والأب حَرُمَ التفريق يبينه وبين الأم دون الأب (1) .
القول الثاني: يكره التفريق بين العبد وولده الصغير في البيع حتى يبلغ فإن فُرِّق بينهما كره ذلك وصح العقد، هذا ما ذهب إليه الحنفية (2) .
القول الثالث: يجوز التفريق بين العبد وولده الصغير بالبيع ولا حرج في ذلك، هذا ما ذهب إليه المالكية (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا بالأدلة السابقة الناهية عن التفريق بين الوالدة وولدها ومنها:
1- ما ورد من طريق أبي أيوب (أن رسول الله (قال: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " وقد تقدم أنه حديث حسن.
قال ابن قدامة: إنه أحد الأبوين فأشبه الأم (4) .
2- حديث علي قال: أمرني رسول الله (أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي (قال: " أدركهما فأرجعهما ولاتبعهما إلا جميعاً " وقد تقدم أن كثيرا من العلماء حسنه وبعضهم ضعفه؛ فإذا كان لا يُفرَّقُ بين الأخوين فالتفريق بين الوالد والولد أولى بالنهي.
أدلة القول الثاني: ...
قد سبق أن ذكرت دليل الحنفية على أن النهي عن التفريق للكراهة لا للتحريم في المطلب السابق أيضا.
أدلة القول الثالث:
__________
(1) مواهب الجليل 4/ 370، شرح السنة 9/335، المنهاج ومغني المحتاج 2/38، نهاية المحتاج 3/473-476، الإنصاف 4/ 137،138، المغني 13/ 109.
(2) الهداية وشرح فتح القدير 6/479، 483، تحفة الفقهاء 2/115.
(3) مواهب الجليل 4/370، القوانين الفقهية ص 128.
(4) المغني 13/109.(11/93)
أما أدلة المالكية على جواز التفريق بين الرجل وابنه بالبيع فما رأوه من أنه لا دليل يمنع من ذلك إذ يقولون إنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه وليس من أهل الحضانة بنفسه، وحملوا الأحاديث السابقة على عدم التفريق بين الوالدة وولدها دون الأب (1) .
الترجيح:
الذي يظهر لي أنه يحرم التفريق بين الوالد وولده بالبيع، وكون الحديث نص على عدم التفريق بين الأم وولدها لا يدل على جوازه بين الأب وولده؛ لأن السبب هو الشفقة والوله الحاصل بالتفرقة، وهذا يوجد بين الأب وابنه أيضا والفرق بين الأم والأب في ذلك يسير لا يعرج عليه قال الشاعر:
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء (2) .
فلعل الحديث خص الأم بالذكر لمزيد شفقتها لا لجواز التفريق بين الأب وولده أو لعل السبب أن التفريق في الغالب إنما يحصل بين الأم وولدها من أجل أن الرجال البالغين المستأسرين غالباً يُقتلون أو يُفتدى بهم أسرى من المسلمين أو يُمنُّ عليهم وقل من يُسْتَرَقُّ منهم فلهذا جاء النص بذكر الأم فقط.
وبهذا يتلخص من هذا المبحث:
أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها في البيع، وكذلك لا يجوز التفريق بين الأب وولده في البيع خلافاً لمن أجاز ذلك والله أعلم.
المطلب الرابع: إلى متى تمتد حرمة التفريق بينهما؟
بعد أن تبين في المطلب الثالث حرمة التفريق بين العبد وولده بالبيع وأنه كالأم في ذلك فهل يمتد منع التفريق مدى الحياة أم له حد ينتهي عنده؟
للجواب على ذلك أقول:
اختلف العلماء القائلون بالنهي عن التفريق بين العبد وولده في المدة التي ينتهي عندها المنع على أقوال ثلاثة:
__________
(1) مواهب الجليل 4/370، المغني 13/109.
(2) الشوقيات 1/ 36.(11/94)
القول الأول: لا يفرق بين العبد وولده بالبيع حتى يبلغ الولد سن الرشد باحتلام أو حيض هذا هو المذهب عند الأحناف ورواية في مذهب الإمام احمد (1) .
القول الثاني: لا يفرق بين العبد وولده بالبيع حتى يبلغ الولد سبع إلى ثمان سنين، هذا هو المذهب عند الشافعية (2) .
القول الثالث: لا يجوز التفريق بين العبد وولده بالبيع أبداً، هذا هو المعتمد في مذهب الإمام أحمد، وهي من المفردات (3) .
الأدلة:
أدلة الأقوال في هذا المطلب هي عين أدلتهم السابق ذكرها في المطلب الثاني فلا نطيل بذكرها.
الترجيح:
الذي يظهر لي هنا هو عين ما رجحته في المطلب الثاني أنه لا يجوز التفريق بين العبد وولده قبل التمييز، ويجوز بعد البلوغ. أما ما بين التمييز والبلوغ فلم أستطع الجزم فيه بشيء، والله أعلم.
المبحث الثالث: حكم البيع بعد نداء الجمعة في حق الرجال والنساء
مما هو معلوم أن الجمعة واجبة على الرجال الأحرار البالغين المقيمين الذين لا عذر لهم وأنها غير واجبة على النساء (4) .
ومن هنا فإن حكم البيع بعد نداء الجمعة يختلف باختلاف فاعله فإن من كانت الجمعة في حقه واجبة كان قد اشتغل بالبيع المباح عن أداء الجمعة الواجبة ومن كانت في حقه سنة فأمره أخف؛ ولأجل الاختلاف في حكم الجمعة اختلفت أقوال العلماء في حكم البيع.
والكلام هنا يقع في خمسة مطالب:
المطلب الأول: حكم البيع بعد نداء الجمعة في حق الرجال.
المطلب الثاني: بداية وقت النهي عن البيع يوم الجمعة.
المطلب الثالث: حكم فسخ البيع إن وقع وقت النهي يوم الجمعة من
الرجل.
__________
(1) الهداية وشرح فتح القدير 6/479،483، تحفة الفقهاء 2/115، المغني 13/109، الإنصاف 4/138 مع ملاحظة أن الأحناف يرون التفريق مكروهاً والحنابلة يرونه محرماً.
(2) المنهاج ومغني المحتاج 2/38، نهاية المحتاج 3/474.
(3) المغني 13/109، الإنصاف 4/137.
(4) الإجماع لابن المنذر، ص8.(11/95)
المطلب الرابع: حكم البيع بعد نداء الجمعة في حق النساء
المطلب الخامس: حكم فسخ البيع إن وقع وقت النهي يوم الجمعة من المرأة.
المطلب الأول: حكم البيع بعد نداء الجمعة في حق الرجال:
اتفقت آراء العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم على النهي عن البيع بعد النداء للجمعة إلا أنه جرى خلاف يسير من حيث كون البيع مكروهاً أو محرماً على قولين:
القول الأول: للمالكية والشافعية والحنابلة في المعتمد: أنه يحرم البيع بعد النداء الثاني (1) .
القول الثاني: للحنفية: أن البيع مكروه تحريماً بعد النداء الأول على الأصح ومعلومٌ أن المكروه تحريماً عند الحنفية دون الحرام، وقال بعضهم بكراهته تنزيهاً (2) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لقولهم بتحريم البيع بعد النداء يوم الجمعة بما يلي:
1 قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع (. [الجمعة 9] فالله تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء (3) والأمر بترك البيع يكون نهياً عن مباشرته (4) .
2 أنه يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى فواتها أو فوات بعضها وكلاهما محرم (5) .
أدلة القول الثاني:
__________
(1) المدونة 1/154، أحكام القرآن لابن العربي 4/1805، الجامع لأحكام القرآن 18/108، الكافي لابن عبد البر 1/250، المجموع 4/500، روضة الطالبين 2/47، تفسير ابن كثير 4/573، المغني 3/163، الإنصاف 4/323، 324، الفروع 4/43، المبدع 4/41.
(2) البداية وشرحها الهداية وشرح فتح القدير 2/68، بدائع الصنائع 1/270، أحكام القرآن للجصاص 5/341، البحر الرائق 2/156، حاشية ابن عابدين 2/161.
(3) المغني 3/163.
(4) بدائع الصنائع 1/270.
(5) المبدع 4/41.(11/96)
يظهر أن الأحناف حملوا النهي عن البيع بعد النداء الوارد في آية الجمعة على الكراهة تحريماً أو تنزيهاً حيث قال الكاساني بعد سياق الآية: الأمر بترك البيع يكون نهياً عن مباشرته وأدنى درجات النهي الكراهة (1) .
الترجيح:
الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور من تحريم البيع بعد النداء أقوى؛ لأن الآية نصت على النهي عن البيع والنهي يقتضي التحريم ولم يأت الحنفية بصارف لهذا النهي من التحريم إلى الكراهة تحريماً أو تنزيهاً.
المطلب الثاني: بداية وقت النهي عن البيع يوم الجمعة:
تبين من المطلب السابق اتفاق أهل العلم على النهي عن البيع بعد نداء الجمعة إلا أنه وقع خلاف في بداية هذا النهي على أقوال:
القول الأول: يبدأ وقت النهي عن البيع إذا جلس الإمام على المنبر وأذن المؤذن الأذان الثاني هذا هو قول المالكية والشافعية والحنابلة في المعتمد وقول لبعض الحنفية (2) .
القول الثاني: يبدأ وقت النهي عن البيع بعد النداء الأول هذا هو المعتمد عند الأحناف، وهو رواية لأحمد (3) .
القول الثالث: يبدأ وقت النهي بدخول الوقت أي بعد الزوال مباشرة، هذا قول الضحاك وعطاء والحسن ومجاهد وهو رواية عن أحمد (4) .
الأدلة:
__________
(1) بدائع الصنائع 1/270.
(2) حاشية ابن عابدين 2/161، تفسير الألوسي 28/98،99، المدونة 1/154، أحكام القرآن لابن العربي 4/1805، الجامع لأحكام القرآن 18/108، الكافي لابن عبد البر 1/250، المجموع 4/500، روضة الطالبين 2/47، تفسير ابن كثير 4/573، المغني 3/163، الإنصاف 4/323، 324، الفروع 4/43، المبدع 4/41.
(3) البداية وشرحها الهداية وشرح فتح القدير 2/68، بدائع الصنائع 1/270، البحر الرائق 2/156، حاشية ابن عابدين 2/161، الإنصاف 4/324.
(4) عمدة القاري للعيني 5/289، المغني 3/163، الإنصاف 4/323، 324.(11/97)
أدلة القول الأول: استدلوا على أن وقت النهي عن البيع يوم الجمعة يبدأ بالأذان الثاني بقولهم: إن الله تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء والنداء الذي كان على عهد رسول الله (هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر فتعلق الحكم به دون غيره (1) .
أدلة القول الثاني على أن وقت النهي عن البيع يوم الجمعة يبدأ بالأذان الأول ما يلي:
1 قالوا: المعتبر هو الأول إذا كان بعد الزوال لحصول الإعلام به (2) .
2 أنه لو اعتبر الأذان الثاني في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة (3) .
أدلة القول الثالث:
لم أجدهم نصوا على أدلة لهذا القول، ولعل دليله هو دليل القول الأول بناءً على أن السنة أن يظهر الخطيب على الناس في بداية الوقت مباشرة وهو وقت النداء الذي أمر الله بالسعي للصلاة عنده ونهى عن البيع.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن القول الأول أقوى الأقوال لما يلي:
1 أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الذكر بعد النداء والمراد بالذكر الخطبة والصلاة والأذان الأول إذا كان قبل الزوال لا تجوز الخطبة ولا الصلاة بعده قبل الزوال على قول جماهير العلماء ومنهم الحنفية، فكيف يُحرِّم هذا النداء البيع مع كونه لا يبيح الخطبة ولا الصلاة التي نادى لها وبهذا يتضح رد القول الثاني.
__________
(1) المغني 3/163.
(2) الهداية شرح البداية مع الفتح 2/69، البحر الرائق 2/156.
(3) البحر الرائق 2/156.(11/98)
2 أن الوقت متسع للصلاة والخطبة وزيادة فإذا رأى الإمام أن يتأخر عن أول الوقت فإن البيع لم يشغل عن الذكر، والبيع إنما حُرِّم لإشغاله عن الذكر والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فعلى هذا لا يحرم البيع بدخول الوقت بل بخروج الإمام. قال ابن قدامة: ولا يصح هذا القول "لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت؛ لأن المقصود بهذا إدراك الجمعة… ولو كان تحريم البيع معلقاً بالوقت لما اختص بالزوال …" (1) . وبهذا يتضح رد القول الثالث.
المطلب الثالث: حكم فسخ البيع إن وقع وقت النهي يوم الجمعة:
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين مشهورين:
القول الأول: البيع صحيح لازم متى وقع وقت النهي هذا ما ذهب إليه الأحناف والشافعية وأحمد في رواية مرجوحة (2) .
القول الثاني: البيع باطل بعد النداء ويجب فسخه هذا ما ذهب إليه المالكية والحنابلة في المعتمد (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لما ذهبوا إليه من إمضاء البيع إن وقع في وقت النهي يوم الجمعة وعدم فسخه بمايلي:
1- قالوا إن النهى لمعنىً في غير البيع لا لعدم مشروعيته (4) .
__________
(1) المغني 3/163.
(2) البداية وشرحها الهداية مع شرح فتح القدير 2/68، بدائع الصنائع 1/270، أحكام القرآن للجصاص 5/241، البحر الرائق 2/156، حاشية ابن عابدين 2/161، تفسير ابن كثير 4/573، المجموع 4/500، روضة الطالبين 2،47، الإنصاف 4/324.
(3) المدونة 1/154، أحكام القرآن لابن العربي 4/1805، الجامع لأحكام القرآن 18/108، الكافي لابن عبد البر 1/250، المغني 3/163، الإنصاف 4/ 323/ 324، الفروع 4/43، المبدع 4/41.
(4) حاشية ابن عابدين 2/161، بدائع الصنائع 1/270، المهذب مع المجموع 4/500.(11/99)
قال الجصاص: لمّا لم يتعلق النهىً بمعنىً في نفس العقد وإنما تعلق بمعنىً في غيره وهو الاشتغال عن الصلاة وجب أن لا يمنع وقوعه وصحته كالبيع في آخر وقت صلاة يخاف فوتها إن اشتغل به وهو منهي عنه، ولا يمنع ذلك صحته؛ لأن النهي تعلق باشتغاله عن الصلاة (1) .
وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الاستدلال بقوله: إن عنى بذلك أن نفس الفعل المنهي عنه ليس فيه معنىً يوجب النهي فهذا باطل فإن نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة… وإن أرادوا بذلك أن ذلك المعنى لا يختص بالصلاة بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها فهذا صحيح (2) ثم قال في مكان آخر: والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل إلا بمعصية الله وغضبه ومخالفته كالذي لا يحصل إلا بغير ذلك من المعاصي مثل الكفر والسحر والكهانة والفاحشة، وقد قال النبي (" حلوان الكاهن خبيث ومهر البغي خبيث " (3) فإذا كنت لا أملك السلعة إن لم أترك الصلاة المفروضة كان حصول الملك سبب ترك الصلاة كما إن حصول الحلوان والمهر بالكهانة والبغاء، وكما لو قيل له إن تركت الصلاة اليوم أعطيناك عشرة دراهم فإنّ ما يأخذه على ترك الصلاة خبيث، كذلك ما يملكه بالمعاوضة على ترك الصلاة خبيث، ولو استأجر أجيراً بشرط أن لا يصلي كان هذا الشرط باطلاً وكان ما يأخذه عن العمل الذي يعمله بمقدار الصلاة خبيث مع أنّ جنس العمل بالأجرة جائزة، كذلك جنس المعاوضة جائزة لكن بشرط أن لا يتعدى على فرائض الله (4) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 5/242.
(2) الرسائل الكبرى 2/229.
(3) صحيح مسلم 3/1199 في المساقاة باب تحريم ثمن الكلب حديث رقم 1568.
(4) الرسائل الكبرى 2/232.(11/100)
2- قال الجصاص: ظاهر قول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ( [النساء 29] وقول النبي ("لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (1) . تقتضي وقوع الملك للمشتري في سائر الأوقات لوقوعه (عن تراض (فإن قيل قال الله تعالى: (وذروا البيع ( [الجمعة 9] قيل له نستعملها فنقول يقع محظوراً عليه عقد البيع في ذلك الوقت لقوله: (وذروا البيع (ويقع الملك بحكم الآية الأخرى والخبر الذي رويناه (2) .
قلت: والذي يظهر لي أن هذا الاستدلال ضعيف لما يلي:
1- أن ما ستدل به الجصاص عام يدل على حصول الملك في أي وقت إذا كانت تجارة عن تراض وآية الجمعة خاصة تحِّرم البيع بعد النداء والقاعدة أن الخاص يقدم على العام ويخصصه.
2 - أن آية الجمعة تنهى عن البيع بعد النداء والنهي يقتضي التحريم والتحريم يدل على فساد ما جاء الشرع بتحريمه إذ أنّ الشارع " دلَّ الناس بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وبقوله في عقود هذا لا يصلح فيقال الصلاح المضاد للفساد، فإذا قال لا يصلح علم أنه فاسد، كما قال في بيع مُدَّين بمد تمرٍ لا يصلح، والصحابة والتابعون وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن وكذلك على فساد الجمع بين الأختين…" (3) .
أدلة القول الثاني:
استدلوا لقولهم بفساد البيع وفسخه إذا وقع وقت النهي يوم الجمعة بما يلي:
1- قوله تعالى: (وذروا البيع (إذ أنَّ النهي يدل على التحريم والتحريم يدل على فساد ما جاء الدليل بتحريمه (4) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5/72، سنن الدارقطني 3/26 وقال الألباني صحيح كما في الإرواء 5/279 رقم 1459.
(2) أحكام القرآن للجصاص 5/241.
(3) الرسائل الكبرى 2/225 وراجع الرسالة الحادية عشرة في العقود المحرمة لأهمية ما ورد فيها حول هذا الموضوع.
(4) الرسائل الكبرى 2/225، تفسير ابن كثير 4/573.(11/101)
2 - ما ورد في صحيح مسلم من حديث عائشة (أنَّ رسول الله (قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ٌّ" (1) .
قال النووي: قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد به.. وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأُصوليين إنَّ النهي يقتضي الفساد، ومن قال لا يقتضي الفساد يقول هذا خبرُ واحدٍ ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة، وهذا جوابٌ فاسد (2) .
الترجيح:
بعد ما تقدم من كلام في هذه المسألة يظهر لي أنَّ البيع بعد النداء الثاني باطل مردود إذ أنه ليس مع من يرى صحة البيع إلا الطعن في كون النهي الوارد في آية الجمعة يدل على البطلان أو الاستدلال بالعمومات التي تفيد أنَّ البيع سبب للملك وقد تقدم الجواب عن هذا عند ذكر الأدلة والله أعلم.
المطلب الرابع: حكم البيع بعد نداء الجمعة في حق النساء:
ظهر مما تقدم في المطلب الأول أن البيع بعد نداء الجمعة حرام في حق الرجال وتبين في المطلب الثالث أنه مردود إن وقع عند جماعة من العلماء، ويصح مع الإثم عند غيرهم، أما المرأة فإن الأمر في حقها مختلف إذا أنها غير مخاطبة بالجمعة على سبيل الوجوب بالإجماع كما مر وبناءً على ذلك فإنها إذا اشتغلت ببيع أو شراء بعد النداء لم يكن شاغلاً لها عن أمر واجب ومن أجل هذا اختلف العلماء في حكم بيعها وشرائها من حيث الجواز وعدمه، ولبيان حكمه أقوال:
لا يخلو الحال من أن لا تتعامل مع أحد من أهل وجوب الجمعة أو أن تتعامل مع أحد من أهل الوجوب:
الحال الأول: أن لا تتعامل بالبيع مع أحد ممن تلزمه الجمعة، وفيه لأهل العلم أقوال ثلاثة:
القول الأول: بيعها صحيح جائز مع الكراهة، هذا مذهب مالك وبعض الحنابلة (3) .
__________
(1) صحيح مسلم 3/1343 في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور حديث 1718
(2) شرح النووي على مسلم 12/16.
(3) المدونة 1/154، الإنصاف 4/325.(11/102)
القول الثاني: بيعها صحيح جائز لا كراهة فيه، وممن قال به الشافعي وأحمد في المعتمد (1) .
القول الثالث: يحرم البيع منها في وقت النهي حتى وإن لم تتعامل مع أحد من أهل الوجوب، هذا رواية في مذهب أحمد (2) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
أما كراهة البيع للمرأة بعد النداء فلعل دليله ما يلي:
1- عموم النهي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع (فإن المرأة مؤمنة تدخل في هذا العموم.
2 - أن في عدم انتهاء المرأة عن البيع والشراء تسبباً في إيقاع غيرها من أهل الوجوب في البيع والشراء خاصة من كان جاهلا بالحكم أو ضعيفا في تدينه " فكره لما فيه من الإعانة على الإثم " (3) .
أدلة القول الثاني:
استدلوا لجواز البيع بما يلي:
1 - أن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي (4) .
2 - أن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقها (5) .
أدلة القول الثالث:
لم أجدهم نصوا على أدلة تدل على تحريم البيع في حق المرأة إذا لم تتعامل مع أحد من أهل الوجوب، ولعل السبب سد الذريعة حتى لا يقع البيع منها مع أحد من أهل الوجوب.
الترجيح:
الذي يظهر مما تقدم أن البيع والشراء جائز في حق المرأة بعد النداء الثاني ما دام أنها لم تتعامل مع أحد من أهل الوجوب لأنه لا يتناولها النهي والأصل جواز البيع والله أعلم.
الحال الثاني: أن تتعامل بالبيع مع أحد من أهل وجوب الجمعة، وفيه خلاف من حيث الجواز وعدمه على أقوال أشهرها ثلاثة:
__________
(1) الأم 1/195، الحاوي 2/456، المجموع 5/500، المغني 3/163،164، الإنصاف 4/325.
(2) الإنصاف 4/325.
(3) المغني 3/164.
(4) الأم 1/195، الحاوي 2/456، المغني 3/164.
(5) المغني 3/164.(11/103)
القول الأول: إذا تعاملت بالبيع مع أحد من أهل الوجوب فبيعها محرم، هذا قول مالك والشافعي وأحمد في المذهب (1) .
القول الثاني: بيعها والحال ما ذكر مكروه في حقها حرام في حق المتعامل معها من أهل الوجوب، هذا قول لبعض الحنابلة (2) .
القول الثالث: بيعها والحال ما ذكر صحيح، وهو قول لبعض الحنابلة (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لتحريم البيع في حق المرأة إذا باعت ممن تلزمه الجمعة:
1 بما فيه من الإعانة على الإثم (4) . قال تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (. [المائدة 2]
2 أن أحدهما توجه عليه الفرض فاشتغل عنه والآخر شغله (5) .
أدلة القول الثاني:
استدلوا لقولهم بكراهة البيع في حق المرأة وحرمته في حق المتعامل معها من أهل الوجوب بالقياس على المحرم يشتري صيداً من مُحل ثمنه حلال للمحل والصيد حرام على المحرم (6) .
أدلة القول الثالث:
لم أجدهم نصوا على أدلة له، ولعل السبب كون البيع مباحاً لها لكونها من غير أهل الوجوب.
الترجيح:
الذي يظهر لي تحريم البيع في حق المرأة والحال ما تقدم لقوة أدلة القول الأول وضعف ما خالفها، والله أعلم.
المطلب الخامس: حكم فسخ البيع إن وقع وقت النهي يوم الجمعة من المرأة:
لا يخلو الحال من أن تتعامل مع من لا تلزمه الجمعة أو تتعامل مع من تلزمه الجمعة:
الحال الأول: أن تتعامل مع من لا تلزمه الجمعة.
إذا تعاملت مع من لا تلزمه الجمعة ففيه أقوال ثلاثة لأهل العلم:
القول الأول: البيع صحيح لا زم مع الكراهة، هذا قول مالك (7) .
__________
(1) المدونة 1/154، الأم 1/195، الحاوي 2/456، المجموع 5/500، المغني 3/163، 164، الإنصاف 4/425.
(2) الإنصاف 4/325.
(3) الإنصاف 4/325.
(4) المغني 3/164.
(5) المهذب والمجموع 5/500.
(6) الإنصاف 4/325.
(7) المدونة 1/154.(11/104)
القول الثاني: البيع صحيح لازم لا كراهة فيه، هذا قول الشافعي وأحمد في المعتمد (1) .
القول الثالث: البيع غير صحيح في رواية عن أحمد، وحكمه الفسخ بناءً على قواعد المذهب (2) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
لعل دليلهم على عدم فسخه مع كونه مكروهاً عدم الدليل على الفسخ إذ أن الأصل الحل والمكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله فمن هنا لم يقولوا بفسخه.
أدلة القول الثاني:
سبق في المطلب السابق أن ذكرت أدلتهم على جواز البيع وإذا كان جائزاً فإنه لازم غير مفسوخ.
أدلة القول الثالث:
لم أجدهم ذكروا دليلاً لهذا القول، ولعل دليله عموم الآية الناهية عن البيع بعد النداء.
الترجيح:
يظهر لي أن بيعها وقت النهي مع من لا تلزمه الجمعة لازم غير مفسوخ؛ لأن الأصل الحل، ولم يرد دليل بالمنع في حقها في هذه الحالة.
الحال الثاني: أن تتعامل مع من تلزمه الجمعة، ففيه قولان:
القول الأول: بيعها غير صحيح، ويجب فسخه، هذا مذهب مالك وأحمد (3) .
القول الثاني: بيعها صحيح لازم لا يفسخ، هذا مذهب الشافعية (4) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
قد ذكرت أدلة هذا القول في المطلب الثالث من هذا المبحث عند الكلام على بيع الرجل فلا نطيل بإعادتها غير أني أذكر دليلاً خاصاً بالمرأة يدل على فسخ البيع إذا باعت ممن لا تلزم الجمعة، وهو القياس على من "اشترى الطعام من نصراني أو يهودي وقد اشتراه النصراني على كيل فباعه من المسلم قبل أن يكتاله النصراني او اليهودي… فبيعه غير جائز" (5) .
أدلة القول الثاني:
قد ذكرتها في المطلب الثالث من هذا المبحث، فأغنى عن إعادتها.
الترجيح:
__________
(1) الأم 1/195، الحاوي 2/456، المجموع 5/500، المغني 3/163،164، الإنصاف 4/325.
(2) الإنصاف 4/325.
(3) المدونة 1/154، المغني 3/163،164، الإنصاف 4/325.
(4) الأم 1/195، الحاوي 2/456، المجموع 5/500.
(5) المدونة 1/154.(11/105)
وبناءً على ما تقدم فإنه يظهر لي رجحان قول من قال بفسخ البيع؛ لأنها إذا تعاملت مع من تجب عليه الجمعة كان البيع داخلاً في النهي الوارد في الآية والنهي يقتضي الفساد، والله أعلم.
المبحث الرابع: حكم بيع المُدبَّر والمُدبَّرة
التدبير لغة: مأخوذ من قولك: دَبَرَ القوم يَدْبُروُنَ دِباراً إذا هلكوا، وأدبروا إذا ولَّى أمرهم إلى آخره فلم يبق منهم باقية (1) .
واصطلاحاً: عتق يعلِّقه السيد بموته (2) .
والعلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي ظاهرة من حيث إنه يُعتَقُ العبد على سيده دُبُر الحياة أي آخرها فسُمي تدبيراً (3) .
إذا علم هذا فإن الكلام يقع هنا في مطلبين:
المطلب الأول: حكم بيع المدبر.
المطلب الثاني: حكم بيع المدبرة.
المطلب الأول: حكم بيع المدبر:
اختلف أهل العلم في حكم بيع المدبر تدبيراً مطلقاً على أقوال:
القول الأول: لا يباع المدبر بحال من الأحوال ومن أصحاب هذا القول من نصَّ على تحريم البيع كالأحناف والمالكية وأحمد في رواية ومنهم من لم يصرح بالتحريم وممن نُقل عنه النهي عن بيع المدبر ابن عمر وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وابن سيرين والزهري والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح (4)
القول الثاني: يجوز بيع المدبر مطلقاً أي سواء كان سيده محتاجاً أو غير محتاج، هذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة وروي مثل هذا عن جابر وعائشة وعمر بن عبد العزيز وطاووس وعطاء ومجاهد وقال به إسحاق وأبو ثور (5) .
__________
(1) ... لسان العرب 4/273 مادة دبر.
(2) الحاوي 18/100.
(3) الحاوي 18/100، المغني 14/412.
(4) المبسوط 7 /179، بدائع الصنائع 4/120، شرح فتح القدير 5/20، البيان والتحصيل 9/412، بداية المجتهد 2/390، المنتقى 7/45، الإنصاف 7/438.
(5) الأم 8/18، الحاوي 18/102، معرفة السنن والآثار 14/430، المنهاج ومغني المحتاج 4/512، المغني 14/420، الإفصاح 2/373، المبدع 6/329..(11/106)
القول الثالث: لا يباع إلا في الدَيْن، قال ابن قدامة: هذا ظاهر كلام الخرقي وقد أومأ إليه أحمد (1) .
القول الرابع: لا يباع إلا في الدين أو الحاجة كأن يكون السيد فقيراً لا يملك غيره، وهذا القول رواية في مذهب أحمد ونُقل عن إسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة (2) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا لقولهم بالمنقول والمعقول من ذلك:
1- ما روى الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر (أن النبي (قال: " المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حرٌ من الثلث " (3) .
قال الدارقطني: لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف وإنما هو عن ابن عمر موقوفاً من قوله. وقال الألباني: موضوع (4) .
2- أن المدبر مملوك تعلق عتقه بمطلق موت سيده فلا يجوز بيعه كأُم الولد (5) .
ويجاب عن هذا الاستدلال بأنه قياس مع الفارق؛ لأن أم الولد يثبت عتقها بغير اختيار سيدها وليس بتبرع منه ويكون من جميع المال ولا يمكن إبطاله بحال والتدبير بخلافه (6) .
3- أنه لما استفاد بالتدبير اسماً غير اسم العبيد وجب أن يستفيد به حكماً غير أحكام العبيد لأن انتقال الاسم يوجب انتقال الحكم ولو جاز بيعه لبقي على حكمه مع انتقال اسمه وهذا غير جائز كالمكاتب (7)
ويجاب عنه بأنه استفاد بالتدبير حكماً غير أحكام العبيد ألا وهو عتقه بعد موت سيده بخلاف ألقن ولا يلزم من تدبيره زوال أحكامه كما لم يلزم زوال استخدامه (8) .
__________
(1) المغني 14/419، الإنصاف 7/438.
(2) المغني 14/419، الإنصاف 7/438.
(3) السنن الكبرى 10/314، سنن الدارقطني 4/138.
(4) الإرواء 6/177.
(5) المبسوط 7/179.
(6) المغني 14/421، الحاوي 18/103
(7) الحاوي 18/102.
(8) انظر الحاوي 18/103.(11/107)
قلت: هذه أهم أدلتهم وقد أورد صاحب الهداية بعض الأدلة العقلية للحنفية ولا يصلح الاستمساك بشيء منها حتى إن بعضها ناقض أصول المذهب الحنفي نفسه مما حدى بصاحب العناية إلى الاعتذار عن ذلك أو محاولة توجيه التناقض (1) .
أدلة القول الثاني:
لهم أدلة من السنة والأثر من ذلك:
1- ما روى البخاري ومسلم واللفظ له من حديث جابر قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله (فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا. فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله (فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ... الحديث (2) .
قلت: هذا الحديث ناصع الدلالة على جواز بيع المدبر، وقد ترجم له البخاري في موضعين من صحيحه بقوله: باب بيع المدبر، لكن المخالفين لهم أجوبة عليه أكثرها متكلفة لا تقوى على رد الأدلة الصحيحة التي ذكرها أهل القول الأول من ذلك:
أ - قولهم يحتمل أنه إنما باعه النبي (في دين وقد يباع في الدين ما يمنع من بيعه في غير الدين كالمعتق في المرض.
وأجيب عنه بأنه لو كان بيعه لا يجوز إلا في الدين لكان بيعه موقوفاً على طلب الغرماء، ولما جاز أن يبيع منه إلا قدر الدين وقد باعه كله بثمن دفعه إليه وقال له: أنفق على نفسك ثم على عيالك ثم على ذوي رحمك ثم اصنع بالفضل ما شئت فدل على بيعه في الدين وغير الدين (3) .
ب - يحتمل أن النبي (إنما باع خدمة المدبر لا رقبته أي أنه أجَّره والإجارة تسمى بيعاً بلغة أهل المدينة (4) .
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 5/21،23.
(2) صحيح البخاري مع الفتح 4/422 في البيوع باب بيع المدبر حديث رقم 2230، صحيح مسلم 2/692 في الزكاة باب الابتداء في النفقة بالنفس حديث 997.
(3) الحاوي 18/102.
(4) المبسوط 7/179.(11/108)
وأجاب الماوردي عن هذا الاعتراض بأنه لا يجوز أن يُعدل عن حقيقة المذكور إلى مجازٍ غير مذكور ما لم يصرف عنه دليل (1) .
ج - أنه يحتمل أن المدبر كان مقيداً لأن المدبر المقيد يجوز بيعه عند الحنفية (2) .
قلت: هذا أضعف من الاعتراض السابق إذ أنه لم يرد أنه علق عتقه بزمنٍ معينٍ وإنما جعله حراً بعد موته.
د - يحتمل أنه باعه في بداية الإسلام عندما كان بيع الحر جائزاً في بداية الإسلام (3) على حد زعم الحنفية.
قلت: فأين الدليل على أن هذه الحادثة كانت في بداية الإسلام قبل أن ينسخ بيع الحر على التسليم جدلاً بصحة هذه الدعوى لاسيما وأنها لم تكن في بداية الإسلام بل كانت بعد الهجرة.
ولهم ردود أخرى تركتها خشية الإطالة كقولهم إن حديث جابر حادثة عين إلى غير ذلك ويا لله العجب كيف يسعون بهذه الاحتمالات إلى رد حديث متفق على صحته ثم يأتون إلى حديث لا أصل له فيحتجون به على حرمة بيع المدبر- أعني حديث ابن عمر السابق - وإلى حديث مرسل " أن النبي (قال: لا بأس ببيع خدمة المدبر " (4) فيقدمونه على الحديث الصحيح حتى قال ابن الهمام: مرسل تابعي ثقة وقد أقمنا الدلالات على وجوب العمل بالمرسل بل وتقديمه على المسند (5) .
قال ابن حجر: ولو صح لم يكن فيه حجة إذ لا دليل فيه على أن البيع الذي وقع في قصة المدبر الذي اشتراه نعيم بن النحام كان في منفعته دون رقبته (6) .
__________
(1) الحاوي 18/102.
(2) المبسوط 7/179.
(3) المبسوط 7/179، شرح فتح القدير 5/21.
(4) أخرجه الدارقطني 4/138، وحكم عليه بالإرسال، وانظر فتح الباري 4/423.
(5) شرح فتح القدير 5/24.
(6) فتح الباري 4/423.(11/109)
2- ما روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي (يقول: " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يُثَرِّب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يُثَرِّب ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر " (1) .
ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب بيع المدبر، وقال ابن حجر: ووجه دخوله في هذا الباب عموم الأمر ببيع الأمة إذا زنت فيشمل ما إذا كانت مدبرة أو غير مدبرة فيؤخذ منه جواز بيع المدبر في الجملة (2) .
3- ما روى مالك وأحمد والبيهقي بأسانيدهم أن عائشة دبّرت جارية لها فسحرتها فاعترفت بالسحر فأمرت بها عائشة أن تباع من الأعراب ممن يسيء ملكها فبيعت ... (3) .
قال ابن حجر: إسناده صحيح (4) .
وهذا الأثر يدل على ما دل عليه الحديثان السابقان لكن ابن الهمام لم يقبل بهذا بل نفى الاحتجاج به لجواز أن تدبيرها كان مقيداً ولأنه واقعة حال لا عموم لها (5) .
قلت هذه احتمالات لا يشهد لها دليل لا ينبغي أن يُسعى بها إلى رد الأدلة الصحيحة في حين أنهم تعلقوا بالحديث الضعيف والأثر المرسل في مقابل أدلة لا يتطرق لها احتمال لا من ناحية السند ولا من ناحية الدلالة.
أدلة القول الثالث والرابع:
استدلوا بالحديث السابق من طريق جابر في أدلة القول الثاني أن رجلا من بني عذرة باع عبداً له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله (فقال: ألك مالك غيره؟ فقال: لا. فقال: من يشتريه مني ... الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 4/421 في البيوع باب بيع الرقيق حديث 2234، صحيح مسلم 3/1328 في الحدود باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا حديث 1703.
(2) فتح الباري 4/423.
(3) الموطأ برواية الزهري 2/422 في التدبير باب ما جاء في بيع المدبر حديث 2782، مسند أحمد 6/40، معرفة السنن والآثار 14/426، 427 السنن الكبرى 10/313.
(4) التلخيص الحبير 4/41..
(5) شرح فتح القدير 4/24.(11/110)
فالنبي (قد باع المدبر لمّا علم أن صاحبه لا يملك شيئاً غيره وعلم حاجته (1) .
الترجيح:
يتلخص مما سبق أن الصواب جواز بيع المدبر كما هو القول الثاني لما يلي:
1- للسنة الصحيحة الثابتة بذلك ولثبوته من فعل عائشة رضي الله عنها ولم ينكر عليها أحد من الصحابة.
2- أنه يعامل معاملة الوصية وللموصي أن يتصرف فيما أوصى به قبل أن يموت كيف شاء.
3- أنه لا يوجد للمانعين ما يوجب الاستمساك به ولم يأتوا بجواب مقنع لأدلة المجيزين.
المطلب الثاني: حكم بيع المدبرة:
تقدم أن في صحة بيع المدبر خلافاً على أقوال أربعة:
أما بالنسبة للمدبرة فلم أجد من فرَّق بين حكمها وحكم المدبر في البيع إلا الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه حيث قال: لاتباع المدبرة (2) ولهذا قال موفق الدين ابن قدامة: لا نعلم هذا التفريق بين المدبرة والمدبر عن غير إمامنا رحمه الله وإنما احتاط في رواية المنع من بيعها؛ لأن فيه إباحة فرجها وتسليط مشتريها على وطئها مع وقوع الخلاف في بيعها وحلها فكره الإقدام على ذلك مع الاختلاف فيه والظاهر أن هذا المنع منه كان على سبيل الورع لا على التحريم البات فإنه إنما قال: لا يعجبني بيعها؛ والصحيح جواز بيعها فإن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها؛ ولأن المدبرة في معنى المدبر فما ثبت فيه ثبت فيها (3) .
ولأنه تقدم في المطلب السابق أن النبي (قال: إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب ... إلى أن قال: فليبعها ولو بحبل من شعر. وهذا يعم الأمة المدبرة وغيرها ولهذا بوب له البخاري بقوله: باب بيع المدبر.
قلت: وبهذا يتلخص أنه يجوز بيع المدبر والمدبرة لحاجة ولغير حاجة ولا فرق بينهما في ذلك والله أعلم.
المبحث الخامس: عيوب البيع التي يختلف فيها العبيد والإماء:
__________
(1) انظر المغني 14/419، 420.
(2) الإنصاف 7/438.
(3) المغني 14/421.(11/111)
يبحث العلماء هذه المسألة عند الكلام على خيار العيب من كتاب البيوع وضابط العيب الذي يؤثر في البيع هو كل ما أوجب نقصاً في الثمن في عادة التجار (1) . ويزيد النووي الأمر إيضاحاً فيقول: يثبت الرد بكل ما في المعقود عليه من منقص العين أو القيمة تنقيصاً يفوت به غرض صحيح بشرط أن يكون في أمثاله عدمه (2) .
وقد نظرت في هذه العيوب فرأيتها على ثلاثة أقسام:
قسم لا يوجد إلا في الذكر.
وقسم لا يوجد إلا في المرأة.
وقسم مشترك.
فمن القسم الأول الخصاء والجب (3) وتخنث العبد، فهذه عيوب لا توجد في الأمة بل هي خاصة بالعبد وهي مما يُرَّد به البيع في قول جماعة من العلماء
ومن القسم الثاني ارتفاع حيض المرأة وكونها حاملاً أو مستحاضة أو رتقاء (4) . أو قرناء (5) أو معتدة أو ثيباً فهذه عيوب خاصة بالمرأة لا يوجد مثلها في العبد وهي أيضاً مما يرد به البيع على خلاف في بعضها عند أهل العلم.
ومن القسم الثالث البخر والذفر والزنا وكون واحد منهما ولد زنا والكفر وعدم الختان والتزوج (6) .
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 6/357، المنتقى 4/188، المغني 5/235.
(2) روضة الطالبين 3/463.
(3) الجَبُّ: هو القطع المجبوب من استؤصلت مذاكيره 0 المصباح المنير مادة جبب، 1/10.
(4) الرتقاء: من انسد مدخل الذكر من فرجها فلا يُستطاع جماعها 0 المصباح المنير مادة رتق 1/ 259.
(5) القرن: العفلة وهو لحم ينبت في الفرج في مدخل الذكر كالغدة الغليظة وقد يكون عظما المصباح المنير مادة قرن 2/603.
(6) تحفة الفقهاء 2/94، الهداية وشرح فتح القدير 6/360، المنتقى 4/188، مواهب الجليل 4/429 وما بعدها، روضة الطالبين 3/459، 462، مغني المحتاج 2/50، المغني 6/236 -238، كشاف القناع 3/216-217.(11/112)
وهذا النوع من العيوب أعني الثالث منها هو الذي سوف نتناوله بالتفصيل إن شاء الله لأنه هو الذي يدخل تحت خطة هذا البحث إذ أنها عيوب مشتركة بين الذكر والأنثى ويختلف فيها حكم الذكر عن حكم الأنثى عند بعض العلماء.
أولاً: البخر:
تعريفه:
البخر بفتح الباء والخاء: الرائحة المتغيرة من الفم. قال أبو حنيفة: البخر: النتن يكون في الفم وغيره (1) .
وقال النووي: والبخر الذي هو عيب هو الناشئ عن تغير المعدة دون ما يكون لقلح الأسنان فإن ذلك يزول بتنظيف الفم (2) .
حكمه:
أما بالنسبة للأمة فجماهير أهل العلم بمن فيهم الأئمة الأربعة يرون أن البخر عيب ترد به الأمة المباعة (3) .
والدليل على هذا الحكم ما يلي:
1- أن الأمة قد تُراد للفراش والبخر يمنع منه (4) .
2- أنه يوكس الثمن (5) إذ أن ذات البخر لا يمكن أن تكون الرغبة فيها كالتي لا بخر فيها لما لتلك الرائحة من الأذى.
وأما بالنسبة للعبد فقد جرى في رد البيع إذا كان به بخر خلاف بين العلماء على قولين:
القول الأول: قول جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم يرون أن البخر عيب في العبد يرد به البيع كالحكم في الأمة (6) .
__________
(1) لسان العرب 4/47 مادة بخر.
(2) روضة الطالبين 4/459.
(3) الهداية وشرحها البداية وشرح فتح القدير 6/360، تحفة الفقهاء 2/94، منح الجليل 4/430 الخرشي على خليل 5/126، الحاوي 5/253، روضة الطالبين 3/459، المغني 6/236، كشاف القناع 3/216.
(4) الهداية 6/360.
(5) الحاوي 5/253.
(6) الخرشي على خليل 5/126، منح الجليل والتاج والإكليل 4/430، الحاوي 5/253، روضة الطالبين 3/ 459 المغني 6/236، كشاف القناع 3/216.(11/113)
القول الثاني: لبعض أهل العلم ومنهم الأحناف يرون أن البخر ليس بعيب في العبد ولا يُردُّ به البيع إلا إذا كان فاحشاً لا يكون مثله في عامة الناس أو كان ناتجاً عن مرض فيرد لأجل المرض (1) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1-أن ما كان عيباً في الأمة كان عيباً في العبد كالسرقة (2) وقد تقدم أن البخر عيب في الأمة اتفاقاً.
2- أن البخر يمنع من مقاربة العبد ويؤذي مَنْ جالسه أو خاطبه أو سارَّه (3) .
أدلة القول الثاني:
استدل أهل القول الثاني بقولهم إن المقصود من العبد الاستخدام والبخر ليس مانعاً منه فلا يُعدُّ عيباً إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب (4) .
قلت: والذي يظهر لي أن قول الجمهور أقوى لأن البخر يؤذي بلا شك، والقيمة تتفاوت به فليست الرغبة في من به بخر كالرغبة في من لا بخر به وإذا كان الأمر كذلك فإنه عيب يرد به البيع كيف والنبي (قال: " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا " (5) فعد النبي (الثوم والبصل مع حلهما من الخبائث التي تمنع آكلمها من دخول المسجد لخبث رائحتمها والبخر أشد أذىً من الثوم والبصل لخبث رائحته، ولكونه ملازماً للمصاب به دائماً بخلاف الثوم والبصل والجامع بين الأمرين التأذي بالرائحة فالشرع اعتبر الأذى هناك ومنع صاحبه من دخول المسجد لكي لا يؤذي الناس، فليعتبر هنا ما هو أشد أذىً فيرد به البيع لكي لا يؤذي المشتري.
ثانياً: الذَّفر:
تعريفه:
__________
(1) الهداية والبداية وشرح فتح القدير 6/36، تحفة الفقهاء 2/94.
(2) الحاوي 5 /253.
(3) الحاوي 5/353، المغني 6/236.
(4) بداية المبتدئ وشرح فتح القدير 6/360.
(5) صحيح البخاري مع الفتح 2/339 في الأذان باب ما جاء في الثوم الني والبصل حديث 855، صحيح مسلم 1/ 394 في المساجد باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً حديث 564(11/114)
الذَّفر بالتحريك: شدة ذكاء الريح من طيب أونتن وخصه اللحياني برائحة الإبطين المنتنين. تقول: ذَفِر- بكسر الفاء - يَذْ فَرُ فهو ذَفِرٌ وأذفر والأنثى ذَفِرَة وذفراء (1) . والذفر الذي هو عيب هو المستحكم الذي يخالف العادة دون ما يكون لعارض عرق أو حركة عنيفة (2) .
حكمه:
أما بالنسبة للأمة فقد صرّح أكثر أهل العلم بأن الذفر عيب فيها يرد به البيع وممن صرح بذلك الأحناف والشافعية والحنابلة وعبارات المالكية تدلّ عليه وإن لم أجد تصريحاً بذلك إذ قال ابن رشد: وبالجملة فأصل المذهب أن كل ما أثر في القيمة - أعني نقص منها- فهو عيب (3) ؛ ولأنه لا يقل ضرراً عن البخر وقد عدوه عيباً (4) .
ودليل هذا الحكم ما تقدم في البخر من أنَّ الأمة قد تراد للفراش فيتأذى بذلك الحليل، وأنه أيضاً يوكس الثمن.
أما بالنسبة للعبد فقد اختلف العلماء في رد البيع إذا كان يوجد به ذفر على قولين:
القول الأول: للشافعية والحنابلة أنه عيب يرد به البيع (5) .
القول الثاني: للأحناف أنه ليس بعيب في العبد فلا يرد به البيع (6) .
والأدلة لهذه المسألة هي عين الأدلة في مسألة البخر السابقة فلا نطيل بإعادتها، ويظهر لي هنا أن الراجح اعتبار الذفر عيباً في العبدكالبخر وقد تقدم بيان السبب والله أعلم.
ثالثاً: الزنا:
__________
(1) لسان العرب 4/306 مادة ذفر
(2) روضة الطالبين 3/459
(3) بداية المجتهد 2/176.
(4) تحفة الفقهاء 2/94، شرح فتح القدير 6/360، بداية المجتهد 2/176، الشرح الصغير 4/201، الغاية القصوى 1/478، روضة الطالبين 3/459، الإنصاف 4/406، كشاف القناع 3/216.
(5) الغاية القصوى 1/478، روضة الطالبين 3/459، الإنصاف 4/406، كشاف القناع 3/216.
(6) تحفة الفقهاء 2/94، شرح فتح القدير 6/360.(11/115)
لا شك أن الزنا جرم كبير وفاحشة قذرة تتلطخ بها الأعراض وتسري معرتها إلى غير الزاني والزانية فيلحق العار بها أقارب الزاني وربما تتناقل الأجيال أذاها وشؤمها جيلاً بعد جيل ومن هنا فإنه إذا زنى العبد أو الأمة قلت الرغبة فيهما عند أهل الفطر السليمة وبناءً على ذلك تكلم العلماء في رد البيع إذا تبين أن العبد، أو الأمة من أهل الفجور.
فأما بالنسبة للأمة فجماهير أهل العلم يعتبرون زناها عيباً يرد به البيع وعلى هذا المذاهب الأربعة (1) .
واستدلوا لهذا القول بأدلة منها:
1-أن الزنا يفسد النسب ويوجب الحد (2) وما كان كذلك فإنه عيب يوجب الرد.
2-أنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش (3) .
أما إذا كان البيع وقع على عبد ثم ظهر أنه زان فقد اختلف العلماء في حكم رد البيع على قولين:
القول الأول: للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنه عيب يُرَدُّ به البيع (4) .
القول الثاني: للحنفية يرون أنه ليس من العيوب التي يرد بها البيع في حق العبد إلا إذا كثر منه وصار عادة له (5) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل الجمهور لقولهم بما يلي:
1- أن الزنا ينقص ماليته إذ أنه يعرضه لإقامة الحد عليه والتعزير (6) .
2 - أنه لا يأمنه سيده على حريمه (7) وفي ذلك من العنت ما فيه.
3 - أن ما كان عيباً في الأمة كان عيباً في العبد كالسرقة (8) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 2/94، الهداية وشرح فتح القدير 6/360، المنتقى 4/19، مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/430، الشرح الصغير 4/201، الحاوي 5/253، الغاية القصوى 1/478، المغني 6/236، كشاف القناع 3/216
(2) الحاوي 5/253.
(3) الهداية مع شرح فتح القدير 6/360.
(4) انظر مصادر المسألة السابقة.
(5) انظر مصادر المسألة السابقة.
(6) المغني 6/236، وانظر الحاوي 5/253.
(7) المغني 6/236.
(8) الحاوي 5/253، المنتقى 4/190.(11/116)
قلت: في هذا الدليل نظر لأن هناك من العيوب ما يختلف فيه العبد عن الأمة والعكس فلا يلزم من كونه عيباً في الأمة أن يكون عيباً في العبد.
أدلة القول الثاني:
استدل الحنفية بقولهم: إن الزنا لا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام (1) .
الترجيح:
الذي يظهر لي أن قول الجمهور أقوى؛ لأن زنا العبد يوجب عليه الحد وربما أتلفه وبهذا يخسر المشتري قيمته، إضافة إلى ما تقدم من أنه لا يؤمن على حريم سيده والاحتياط للعرض واجب.
رابعاً: أن يكون الرقيق ولد زنا:
لقد شرف الإسلام النكاح وحط منزلة السفاح وشتان بين من وُلِد بين أبوين عفيفين ومن ولد بين أبوين فاجرين إن نظرة الناس إلى ابن السفاح تذكرهم بإنسان نشأ من الفجور، فلا تنشرح له الصدور، ومن أجل ذلك تكلم العلماء في حكم رد البيع إذا تبين أن الرقيق ولد زنا.
فأما بالنسبة للعبد ففي حكم رد البيع إذا تبين أنه ولد زنا قولان:
القول الأول: للجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة لا يرون رد البيع إذا تبين أن العبد ولد من زنا (2) .
القول الثاني: للمالكية حيث ذهبوا إلى أن ذلك من العيوب التي تجيز رد البيع (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1- أن أكثر الرقيق أولاد زنية وليس لذلك تأثير في أثمانهم (4) .
2- أن النسب في الرقيق غير مقصود بدليل أنهم يُشترون مجلوبين غير معروفي النسب (5) .
أدلة القول الثاني:
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 6/360.
(2) البداية وشرحها وشرح فتح القدير 6/360، تحفة الفقهاء 2/64 الحاوي 5/253، روضة الطالبين 3/459، المغني 6/238، كشاف القناع 3/217.
(3) مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/432.
(4) الحاوي 5/253، المبسوط 13/107.
(5) المغني 6/238.(11/117)
لم أجد المالكية نصوا على دليل معين لهذه المسألة فيما اطلعت عليه ولكن يظهر أنهم رأوا أن كون العبد ولد زنا ينقص الثمن فأفتوا بوجوب الرد قال ابن عبد البر: وكل عيب ينقص من الثمن ويرغب الناس عنه فالرد به واجب لمن طلبه (1) .
قلت: ويظهر أن قول الجمهور أقوى؛ لأن المقصود في العبد الخدمة وهذا لا يختلف فيه ولد الزنا عن غيره.
وأما بالنسبة للأمة التي يتبين بعد البيع أنها من زنى فإن العلماء اختلفوا في حكم رد البيع على قولين أيضاً:
القول الأول: للحنفية والمالكية يرون أن هذا عيب يرد به البيع (2) .
القول الثاني: للشافعية والحنابلة يرون أنه ليس بعيب معتبر في رد البيع (3) .
الأدلة:
استدل أهل القول الأول بقولهم:
إن ذلك يخل بمقصوده منها وهو الاستيلاد فإن ولده يعير بأمه إذا كانت ولد زنا (4) .
واستدل أهل القول الثاني بما تقدم من:
1 - أن أكثر الرقيق أولاد زنية وليس لذلك تأثير في أثمانهم (5) .
2 - أن النسب فيهم غير مقصود بدليل أنهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب (6) .
والذي يظهر لي والعلم عند الله أن الأقوى قول من قال برد البيع إذا ظهر أن الأمة من زنا بخلاف العبد لما يلي:
1 - أن الانتفاع المقصود في العبد يكون بالخدمة بخلاف الأمة فربما كان السر في شرائها الاستفراش والولد يعير بالأم المولودة بين زانيين والنفس لا تتوق إلى استفراش بنت زنا.
2 - أن ثمن الجارية يتأثر إذا علم أنها من زنا إذ لا تستوي عند الناس جارية من نكاح مع جارية من سفاح والله أعلم.
خامساً: الكفر:
__________
(1) الكافي 2/712.
(2) المبسوط 13/107، تحفة الفقهاء 2/94، مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/432.
(3) الحاوي 5/253، روضة الطلبين 3/462، المغني 6/238، كشاف القناع 3/217.
(4) المبسوط 13/107، العناية على الهداية 6/360
(5) الحاوي 5/253.
(6) المغني 6/238.(11/118)
من العيوب التي تكلم العلماء في رد العبد المباع بها الكفر ومعلوم أن الكفار تختلف مللهم وبناء على ذلك تختلف أحكامهم فمنهم الكتابي ومنهم المجوسي ومنهم الوثني فإن كان المباع عبدا لم يعلم المشتري بكفره ففي جواز رده قولان:
القول الأول: للأحناف أن الكفر عيب يرد به البيع ولا فرق بين كتابي وغيره (1) .
القول الثاني: للحنابلة والشافعية في قول أنه لا يعد الكفر عيبا في العبد لا فرق بين كتابي وغيره (2) .
القول الثالث: وهو الأصح عند الشافعية: أنه إن كان قريبا من بلاد الكفر بحيث لا تقل الرغبة فيه فلا رد وإلا فله أن يرده (3) .
الأدلة: استدل الأحناف لقولهم بما يلي:
1 - قوله تعالى: (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ( [البقرة221] فالآية دلت على أفضلية المؤمن على المشرك.
2 - أنه ربما يحتاج إلى استخدامه في الأمور الدينية نحو اتخاذ الماء لطهوره وحمل المصحف إليه والكافر نجس لا يؤدي الأمانة. (4) .
3 - أنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتقل الرغبة فيه (5) .
4 - أن طبع المسلم ينفر عنه للعداوة الدينية وفي إلزامه به غاية الإضرار بالمسلم (6) .
أدلة القول الثاني:
استدلوا لمذهبهم بقولهم: إن العبيد يكون فيهم المسلم والكافر والأصل فيهم الكفر (7) .
أدلة القول الثالث:
يظهر لي أن الشافعية نظروا إلى تأثير العيب في نقص الثمن وإذا كان قريباً من بلاد الكفار فإن ثمنه لا يتأثر لوجود من يشتريه بخلاف البعيد.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن القول الثاني أقوى لما يلي:
__________
(1) المبسوط 13/106، الهداية وشروحها 6/361.
(2) روضة الطالبين 3/461، نهاية المحتاج 4/31، المغني 6/238.
(3) روضة الطالبين 3/461.
(4) المبسوط 13/106.
(5) الهداية مع شرح فتح القدير 6/ 361.
(6) شرح فتح القدير 6/ 361.
(7) المغني 6/ 238.(11/119)
1- أن استدلالهم بالآية مجاب عنه بأن كون المؤمن خير من الكافر لا يقتضي كون الكفر عيبا كما أن المتقي خير من غيره ... وليس عدم ذلك عيبا (1) .
2 -أن استخدامه في أمور العبادة جائز كإعداد الماء ونحوه ولم يأت في الشرع نهي عن ذلك.
أما إن كان البيع وقع على أمة ثم ظهر أنها كافرة فالمنصوص عليه عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن الكفر عيب يرد به البيع إلا أن بينهم خلافا في نوع الكفر الذي يرد به البيع على قولين:
القول الأول: للحنفية: أنها ترد بأي كفر كان (2) .
القول الثاني: للشافعية والحنابلة أنها لا ترد إلا بكفر يحرمها تحريما عاما كأن تكون وثنية أو مجوسية أما إن كانت يهودية أو نصرانية فلا يرد البيع بذلك (3) .
الأدلة:
استدل أهل القول الأول بما تقدم في المسألة السابقة في حكم رد العبد الكافر.
أما أهل القول الثاني فالذي يظهر لي أن عمدتهم في ذلك أن الاستمتاع أهم منافع الأمة والتهود والتنصر لا يمنع من ذلك فلا يرد البيع من أجله أما بقية الأعمال فلا دخل للكفر فيها.
وعلى هذا فالذي يظهر لي أنه لا يرد البيع بكون الأمة كتابية ما لم يكن هناك خديعة من البائع.
سادساً: عدم الختان:
__________
(1) المغني 6/238.
(2) المبسوط 13/106، الهداية وشروحها 6/316.
(3) روضة الطالبين 3/461، نهاية المحتاج 4/31، الإنصاف 4/406، كشاف القناع 3/217.(11/120)
من المعلوم عند المحققين من أهل العلم أن الختان واجب في حق الذكر سنة في حق الأنثى وقد بينت ذلك بدلائله في مبحث مستقل بعنوان " حكم ختان الرجل وحكم ختان المرأة " (1) فإن بِيع عبد وليس بمختون فإنه قد يموت إذا ختنه المشتري وكذا الأمة إضافة إلى ما يصاحبه من ألم شديد يعيق عن العمل المطلوب من العبيد، ومن هنا تكلم العلماء في حكم رد البيع إذا ظهر أن الرقيق المباع غير مختون.
فأما بالنسبة للعبد فقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن عدم ختان العبد الكبير الذي فات وقت ختانه عيب يرد به البيع، لكن قيد الحنفية الحكم بأن لا يكون العبد حربيا لأن أهل دار الحرب لا ختان لهم. وقيده المالكية بأن يكون مولودا في ديار المسلمين أو أن يكون طويل الإقامة بين المسلمين إن كان مجلوبا (2) .
واستدل أهل العلم لهذا القول بما يلي:
1 - أن في الختان حالة الكبر زيادة ألم (3) .
2 - أنه يخاف على العبد من الختان في حالة الكبر فربما أدى إلى موته (4) .
وأما تقييد الحنفية لاعتبار العيب بأن لا يكون مجلوبا من دار الحرب، فلأن أهل دار الحرب لا ختان لهم فلو جعل ذلك عيبا يرد به لضاق الأمر على الناس ولأن الختان إذا لم يكن من فعل أهل دار الحرب وعادتهم ومع ذلك اشتراه كان ذلك منه دلالة على الرضا بالعيب (5) .
__________
(1) كان هذا البيان في رسالة الدكتوراه والتي نشرت بعنوان " الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام".
(2) بدائع الصنائع 5/275، مواهب الجليل والتاج والإكليل 4/432، الشرح الصغير على أقرب المسالك 4/204، الحاوي 5/254، روضة الطالبين 3/462، المغني 6/237، كشاف القناع 3/216.
(3) بدائع الصنائع 5/275.
(4) انظر روضة الطالبين 3/462.
(5) بدائع الصنائع 5/275.(11/121)
وأما تقييد المالكية بأن يكون مولودا أو طويل الإقامة عند المسلمين إن كان مجلوبا فظاهر حيث إن الغالب ختانه فإذا كان غير مختون فهو عيب أما المجلوب حديثا من عند الكفار فالغالب عدم ختانه فكأن المشتري اشتراه وهو يعلم بحاله.
وأما إن كان البيع وقع على جارية كبيرة غير محفوظة فقد وقع في رد البيع خلاف بين أهل العلم على قولين:
القول الأول: عدم الختان عيب ترد به الأمة هذا ما ذهب إليه الأحناف والمالكية (1) .
القول الثاني: عدم ختان الأمة ليس بعيب يرد به البيع هذا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة (2) .
الأدلة:
استدل أهل القول الأول بما سبق من:
1- أن في الختان حالة الكبر زيادة ألم (3) .
2- وبأن الغالب أن المولود في دار الإسلام لا يترك دون ختان حتى يبلغ فإن لم يختن فإن التجار يعدونه عيبا (4) .
واستدل أهل القول الثاني بأن الختان ليس بواجب في حق الأمة (5) فلا يعد تركه عيبا.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن عدم الختان ليس بعيب في الأمة لما يلي:
1 - أن عدم الختان في حقها ليس بمذموم شرعا إذ أن الختان ليس بواجب في حقها.
2 - أن عدم الختان لا يؤثر على صحة الأمة ولا على عملها في الخدمة ولا على التسري بها.
وبهذا يختلف الحكم في الرد بعدم الختان فيقال بالرد في العبد ولا يقال به في الأمة.
سابعاً: التزوج:
من المعلوم أن الرقيق قد يراد للعمل وقد يراد للتجارة وقد يراد للوطء وهذا في الأمة على وجه الخصوص وكون الرقيق متزوجا قد يؤثر على هذه المصالح ومن هنا تكلم العلماء في حكم رد البيع إذا تبين أن الرقيق متزوج.
__________
(1) المبسوط 14/107، بدائع الصنائع 5/275، منح الجليل والتاج والإكليل 4/432
(2) روضة الطالبين 3/462، المغني 6/237، كشاف القناع 3/216
(3) بدائع الصنائع 5/275.
(4) المبسوط 14/107.
(5) المغني 6/237.(11/122)
فإن كان البيع وقع على أمة ثم ظهر أنها متزوجة فالمذاهب الأربعة تنص على أنه عيب يرد به البيع (1) .
ويستدل لذلك بما يلي:
1 - قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الجارية إذا اشتراها الرجل ولها زوج والمشتري لا يعلم أن ذلك عيب يجب به الرد (2) .
2 - أن المقصود بملك الجارية الاستفراش وهذا المقصود يختل إذا ظهر أنها منكوحة الغير (3) .
أما إن كان البيع وقع على عبد ثم تبين أنه متزوج ففي حكم رد البيع بذلك خلاف على قولين:
القول الأول: أنه عيب يرد به البيع وإليه ذهب الأحناف والمالكية والشافعية (4) .
القول الثاني: أن تَزَوُّج العبد لا يعد عيبا يرد به البيع في مذهب الحنابلة (5) .
الأدلة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأن العبد بسبب النكاح تلزمه نفقة امرأته وذلك ينقص من ماليته (6) .
أما الحنابلة فلم أرهم نصوا على دليل لمذهبهم لكن الذي يظهر أنهم لم يعتبروا التزوج عيبا يرد به البيع في حق العبد.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن الراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن النكاح عيب في العبد لما يلي:
1 - لأنه لا بد من الإنفاق على زوجته من مال سيده وفي هذا إضرار به (7)
__________
(1) المبسوط 13/103، الخرشي على خليل 5/127، روضة الطالبين 3/461، كشاف القناع 3/216.
(2) الإجماع ص54.
(3) المبسوط 13/103.
(4) المبسوط 13/103، الخرشي على خليل 5/127، روضة الطالبين 3/461.
(5) المغني 6/236، كشاف القناع 3/216، المبدع 4/86.
(6) المبسوط 13/103.
(7) المغني 9/425.
المصادر والمراجع
الفقه الحنفي:
أبو بكر بن مسعود الكاساني، بداع الصنائع، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1402هـ.
برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، الهداية شرح بداية المبتدي، مطبوعة مع شرح فتح القدير، الناشر: مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الأولى، سنة 1389هـ.
زين الدين بن نجيم، البحر الرائق، الطبعة الباكستانية.
علاء الدين محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي، تحفة الفقهاء، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ.
كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي، شرح فتح القدير، الناشر: مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الأولى، 1389هـ.
محمد أمين بن عابدين، رد المحتار «حاشية ابن عابدين» ، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1386هـ.
محمد بن أبي سهل السرخسي، المبسوط، الناشر: دار المعرفة.
محمد بن محمود البابرني، شرح العناية على الهداية، مطبوع مع شرح فتح القدير، الناشر: مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الأولى، 1389هـ.
محمد علاء الدين الحصفكي، الدر المختار شرح تنوير الأبصار، مطبوع بمتن حاشية ابن عابدين، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1386هـ.
الفقه المالكي:
أحمد بن محمد الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك، الناشر: عيسى البابي الحلبي.
أحمد بن يحيى الونشر بسي، المعيار المعرب، الناشر: وزارة الأوقاف المغربية، 1401هـ.
سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطأ، الناشر: دار الكتاب العربي.
عبد الله بن محمد عليش، منح الجليل شرح مختصر خليل، الناشر: دار الفكر.
مالك بن أنس، المدونة الكبرى، الناشر: دار صادر.
محمد بن أحمد بن جزي، القوانين الفقهية، الناشر: دار الفكر.
محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، البيان والتحصيل، تحقيق: د. محمد حجي، الناشر: دار الغرب، سنة 1404هـ.
محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، بداية المجتهد، الناشر: دار المعرفة.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، مواهب الجليل، الناشر: دار الفكر.
محمد بن يوسف العبدري، التاج والإكليل، مطبوع مع مواهب الجليل، الناشر: دار الفكر.
يوسف بن عبد الله بن عبد البر، الكافي، تحقيق: محمد محمد الموريتاني، الناشر: مكتبة الرياض الحديثة.
الفقه الشافعي:
إبراهيم بن علي الشيرازي الفيروزبادي، المهذب، الطبعة المدمجة مع المجموع، الناشر: دار الفكر.
عبد الله بن عمر البيضاوي، الغاية القصوى في دراية الفتوى، تحقيق: علي محيي الدين قره داغي.
علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الحاوي، تحقيق: محمد علي معوض، وعادل أحمد، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414هـ.
محمد الشربيني، مغني المحتاج، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، سنة 1377هـ.
محمد بن إبراهيم بن المنذر، الإجماع، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405هـ.
محمد بن أبي العباس، نهاية المحتاج، الناشر: دار الفكر، سنة 1404هـ.
محمد بن إدريس الشافعي، الأم، الناشر: دار المعرفة.
يحيى بن شرف النووي، المجموع شرح المهذب، الناشر: دار الفكر.
يحيى بن شرف النووي، المنهاج، مطبوع بمتن مغني المحتاج، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، سنة 1377هـ.
يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين، إشراف: زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي.
الفقه الحنبلي:
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح، المبدع، الناشر: المكتب الإسلامي.
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الرسائل الكبرى، الناشر: دار إحياء التراث.
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني، تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو، الناشر: هجر للطباعة.
علي بن سليمان المرداوي، الإنصاف، صححه: محمد حامد الفقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
محمد بن أبي بكر الزرعي، الطرق الحكمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتب العلمية.
محمد بن مفلح، الفروع، الناشر: عالم الكتب، بيروت.
منصور بن يونس البهوتي، كشاف القناع، الناشر: عالم الكتب، طبعة سنة 1403هـ.
يحيى بن محمد بن هبيرة، الإفصاح عن معاني الصحاح، الناشر: المؤسسة السعيدية بالرياض.
التفسير:
أحمد بن علي الرازي الجصاص، أحكام القرآن، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، الناشر: دارإحياء التراث العربي.
إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، الناشر: دار الكتب العلمية.
محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، الطبعة الواقعة في عشرين مجلداً.
محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المعارف بمصر.
محمد بن عبد الله، المعروف: بابن العربي، أحكام القرآن، الناشر: دار الجيل، بيروت.
الحديث وشروحه:
الحافظ أحمد بن علي بن حجر، التلخيص الحبير، بعناية: عبد الله هاشم يماني، الناشر: دار المعرفة.
أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، معرفة السنن والآثار، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، الناشر: دار الواعي، وآخرون، الطبعة الأولى، 1411هـ.
أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، الناشر: دار الفكر.
أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس، الناشر: محمد علي السيد، دار الحديث، حمص سوريا.
أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار الفكر.
أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح «سنن الترمذي» ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم، المستدرك، الناشر: دار المعرفة.
الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، سنن الدارمي، الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
الإمام أحمد بن علي بن المثنى التميمي، مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، الناشر: دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، 1404هـ.
الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، المسند، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت.
الإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تلخيص المستدرك، مطبوع بذيل المستدرك، الناشر: دار المعرفة.
الإمام محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي.
الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، سنن النسائي، رقمها: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، التمهيد، الناشر: مؤسسة قرطبة.
الحافظ أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: المكتبة السلفية.
علي بن عمر الدارقطني، سنن الدارقطني، بعناية: عبد الله هاشم يماني، الناشر: دار المحاسن للطباعة.
مالك بن أنس، الموطأ، برواية يحيى الليثي، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405هـ.
مالك بن أنس، الموطأ، برواية: أبي مصعب الزهري، تحقيق: د. بشار عواد، ومحمود محمد خليل، الناشر: مؤسسة الرسالة.
محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، الطبعة التي مع فتح الباري، الناشر: المكتبة السلفية.
محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح، تحقيق: محمد بن ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1405هـ.
محمد بن ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، الناشر: المكتب الإسلامي.
محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1399هـ.
محمد ناصر الدين الألباني، ضعيف الجامع الصغير وزياداته، الناشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1399هـ.
محمود بن أحمد العيني، عمدة القاري، الناشر: مكتبة مصطفى البابي، الطبعة الأولى، 1392هـ.
يحيى بن شرف النووي، شرح صحيح مسلم، نشر: رئاسة البحوث العلمية.
المجلات:
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، مجلة البحوث الإسلامية، الناشر: إدارة البحوث العلمية، العدد 39.
اللغة والغريب والشعر:
أحمد بن محمد بن علي الفيومي، المصباح المنير، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت.
أحمد شوقي، الشوقيات، الناشر: دار الكتب العربية، بيروت.
المبارك بن محمد الجزري بن الأثير، النهاية في غريب الحديث، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت.
محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، الناشر: دار صادر.(11/123)
2 - أن القيام بمهام الزوجية يشغل عن العمل ويقلل الرغبة فيه عند بيعه وبهذا يتضح أنه لا فرق بين العبد والأمة في هذه المسألة، والله أعلم.
الخاتمة
بعد ما تقدم من مباحث طوفنا فيها على أقوال العلماء وأدلتهم ووجوه الاستدلال بها ظهر لي نتائج عامة ونتائج خاصة.
فأما النتائج العامة فأهمها ما يلي:
1 أن محاولة التسوية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات كما ينادي به دعاة تحرير المرأة ضرب من العبث إذ أن الحكيم الخبير مايز بينهما في الأحكام الشرعية، وهذا يدل على أن التسوية من رابع المستحيلات.
2 أن اختلاف الرجل والمرأة في الأحكام فيه الحكمة والصلاح لكل من الرجل والمرأة حيث إن الله شرع لكلٍ منهما ما يناسب حاله من الناحية الجسدية والنفسية والعقلية.
3 أن اختلاف الرجل والمرأة في الأحكام ليس فيه ما يدعوا إلى انتقاص المرأة بل إن في محاولة تسويتها بالرجل إخراجاً لها عن ما فطرت عليه، وهو إفساد لها أيما إفساد.
أما النتائج الخاصة فتكمن في بيان الراجح في كل مسألة على حدة من ذلك:
1 أن مزاولة التجارة في الأسواق مباح للرجل، وأما المرأة فلا يباح لها إلا بقيود زائدة على ما يجب على الرجل أن يتقيد به عند الخروج للتجارة كما مرَّ في البحث.
2 أن التفريق بين الأمة وولدها والعبد وولده في البيع غير جائز قبل التمييز خلافاً لمن جوز التفريق بين العبد وولده دون الأمة وولدها.
3 أن البيع بعد نداء الجمعة حرام في حق الرجل المكلف ويحكم بفسخه خلافاً للمرأة بشرط عدم تعاملها مع أحد من أهل الوجوب.
4 أنه يجوز بيع المدبَّر والمدبَّرة ولا فرق بينهما في ذلك خلافاً لمن فرَّق.
5 أن البخر عيب في الأمة والعبد وكذا الذفر وكذا الزنا.
6 أن كون العبد ولد زنا لا يعتبر عيباً يرد به البيع بخلاف الأمة.(11/124)
7 أن كون العبد كافراً لا يعتبر عيباً يرد به البيع، وأما الأمة فإن كانت كتابية فلا يرد البيع، وإن لم تكن كتابية فكفرها عيبٌ يرد به البيع.
8 أن عدم الختان عيبٌ يرد به البيع في العبد الكبير بخلاف الأمة.
9 أن النكاح عيبٌ في الأمة والعبد يرد به البيع خلافاً لمن فرَّق.
الحواشي والتعليقات(11/125)
الترخُّص بمسائل الخلاف
ضوابطه وأقوال العلماء فيه
الدكتور خالد العروسي
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى
ملخص البحث
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، من المسائل التي بحثها الأصوليون والفقهاء على حدٍّ سواء، وهي مسألة أحسب أنّا أحوج ما نكون إلى ضبطها الآن، فالواقعون فيها بين مشدِّدٍ منكرٍ لجواز الترخص بها مطلقاً، وبين متساهلٍ مستهينٍ بها، فأجاز العمل بمسائل الخلاف مطلقاً، إلا أن أثر وخطر الفريق الثاني أعظم، لولع الناس والعوام بكل سهل ولو كان منكراً مستغرباً. وكلا الفريقين على خطأ، وكلاهما قد خالف مذهب الأئمة والسلف القائل: بالجواز ولكن بضوابط وقيود، وفي هذا البحث الذي أقدمه بين يديك، حاولت تتبع مذاهب الأئمة في هذه المسألة، فجمعت أقوالهم وأقوال أصحابهم في هذه المسألة، مستدلاً على هذا ببعض تفريعاتهم وفتاواهم، وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وثمانية مباحث هي:
1 - الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية.
2 - الاختلاف هل هو رحمة؟ 3 - فضل معرفة علم ما يختلف فيه.
4 - بيان زلاّت العلماء. ... 5 - تأصيل المسألة.
6 - أقوال العلماء في المسألة. ... 7 - قاعدة مراعاة الخلاف.
8 - ضوابط العمل بمسائل الخلاف.
والحمد لله رب العالمين.
مقدِّمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، وجعلنا خير أمّة أخرجت للناس، حثَّنا على التآلف والاجتماع، ونهانا عن التفرق والاختلاف. والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين، سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(11/126)
أما بعد: فمنذ غرّة سنيِّ الطلب، تلقينا عن مشايخنا وأساتذتنا، حبَّ أسلافنا من العلماء، وتوقيرهم، ومعرفة حقوقهم وأفضالهم، فهم بحور العلم الزاخرة، وجباله الشوامخ، فاستقرَّ ذلك في نفوسنا، وجعلناه ديناً ندين الله تعالى به. وجعلوا آية هذه المحبة والتوقير ترك التعصب لمذهب على آخر، وعدم الإنكار على مقلدة المذاهب في اختياراتهم واجتهاداتهم، ففي هذا الاختلاف رحمة للأمة كما صحّ عن كثير من السلف. وأئمة المذاهب مجتهدون، والمجتهد مأجور في كل الأحوال، حتى أسلمنا ذلك إلى جواز الأخذ بقول أيِّ إمام من الأئمة، من غير نظرٍ إلى دليل، فكون المسألة تُعدُّ من مسائل الخلاف، هي دليل الإباحة. ومما زاد من غلواء هذا، ما كنّا نسمعه من بعض أهل العلم من جعلهم الخلاف حجّةً يحتجون بها في معرض الجدال والنقاش، وسبباً للبحث عن الرخص للعوام من الناس من غير ضابط ولا قيد، ويستدلون بما سطّره بعض أسلافنا من العلماء - رحمهم الله - في كتبهم من أنه لا إنكار في المجتهدات، فبلغ السيل زباه، حتى صار العوام من الناس يلوكون هذه الكلمة من غير معرفة لمعناها فيرددون: المسألة فيها خلاف.
ولا تحسبنَّ أن هذه الآفة التي ابتلي بها زماننا، هي أمر مستجد، بل هي قديمة ظلّت تتحدَّر من زمان إلى زمان، ومن قرن إلى قرن، تنصُّ برأسها بين حين وآخر، يعينها على هذا النصوص، قلَّة العلماء العاملين، وكثرة الجهّال الذين يفتون بغير علم. وخير من يصف هذا الحال هو الشاطبي (1)
__________
(1)
الحواشي والتعليقات
() هو إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي الغرناطي، من أئمة المالكية، صاحب ((الموافقات)) و ((الاعتصام)) توفي سنة 790 هـ.
... انظر ترجمته في: الأعلام 1 / 75.(11/127)
، وإنك لواجدٌ في كلامه كلَّ غَناء، وكأنه يرى زماننا رأي العين، يقول: ((وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة ... فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع؟ والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها)) (1) .
ويقول: ((ويقول - أي المخالف -: إن الاختلاف رحمة وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك)) (2) .
ويقول: ((الورع قلَّ، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتوى فيه)) (3) .
وقال: ((صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه، أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته..... ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً لشهوته)) (4) .
ورحم الله الشاطبي فما زاد على ما نشاهده في أيامنا هذه قلامة ظفر.
__________
(1) انظر: الموافقات 4 / 141.
(2) انظر: نفس المرجع 4 / 142.
(3) انظر: نفس المرجع 4 / 146.
(4) انظر: نفس المرجع 4 / 35.(11/128)
والإشكال الذي كنت أقف أمامه حائراً متعجباً، أن ما نقلوه عن بعض الأئمة من أنه لا إنكار في مسائل المجتهدات، وأن الخلاف خير ورحمة، هو صحيح وثابت، ثم أجد ما يناقضه مسطوراً في كتبهم، فيفتون بجلد شارب النبيذ متأولاً أو مقلداً، ويزجرون من لا يتم ركوعه وسجوده، وينكرون على من يلعب الشطرنج وغيرها من مسائل الخلاف التي تتفاوت درجات الإنكار فيها بين الوعظ والتعزير. ولكن سرعان ما أعزو هذا العجب إلى قلَّة فهمي ومعرفتي بكلام الأئمة. ومضى على ذلك دهر، حتى وقفت على نصٍ لإمام من أئمة الحنابلة هو ابن مفلح (1) - رحمه الله - يعجب مما عجبت منه فقال:
((ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه، أو قلَّد مجتهداً فيه، كذا ذكره القاضي (2) والأصحاب، وصرّحوا بأنه لا يجوز. ومثلّوه بشرب يسير النبيذ، والتزوج بغير ولي، ومثلّه بعضهم بأكل متروك التسمية، وهذا الكلام منهم مع قولهم يحدّ شارب النبيذ متأولاً ومقلداً أعجب، لأن الإنكار يكون وعظاً وأمراً ونهياً وتعزيراً وتأديباً، وغايته الحدُّ، فكيف يحدُّ ولا ينكر عليه؟ أم كيف يفسق على رواية، ولا ينكر على فاسق)) (3) .
__________
(1) هو محمد بن مفلح بن محمد المقدسي الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، صاحب ((الفروع)) و ((أصول الفقه)) توفي سنة 763 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 340، الأعلام 7 / 107.
(2) هو القاضي محمد بن الحسين بن محمد الحنبلي، أبو يعلى الفرّاء، صاحب ((العدّة)) و ((الاحكام السلطانية)) توفي سنة 458 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 252، الأعلام 6 / 99.
(3) انظر: الآداب الشرعية 1 / 132.(11/129)
إذن هو تناقض وقع فيه بعض أتباع الأئمة، ومقلدة المذاهب، فعلمت يومئذ أن العمل بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه، وما يردده كثير من أهل العلم من أنه لا إنكار في المجتهدات ليس بصحيح، فالمسألة لها ضوابط وآداب، يجب أن تراعى عند الترخص بها، لذلك تجد المحققين من أهل العلم كابن تيمية (1) وابن رجب (2) وغيرهما يفرقون بين الاجتهاد والتقليد، المقبول منه والمردود بكونه: ((سائغاً)) ، وهي كلمة مجملة، يعنون بها الاجتهاد أو التقليد الملجوم بضوابط الشرع وآدابه.
__________
(1) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، تقي الدين، أبو العباس، صاحب ((الفتاوى الكبرى)) و ((منهاج السنة)) توفي سنة 728 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 142، الأعلام 1 / 144.
(2) هو زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، صاحب ((القواعد الفقهية)) و ((جامع العلوم والحكم)) توفي سنة 795 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 578، الأعلام 3 / 359.(11/130)
وفي هذا البحث حاولت - مستعيناً بالله - جمع أقوال العلماء في مسألة الترخص بمسائل الخلاف، توسطت فيه بين أقوال المنكرين على جواز الترخص مطلقاً، وبين أقوال المفرِّطين المتساهلين الذين يأخذون المسألة على إطلاقها، فجمعت هذه الضوابط من كلام العلماء - لاسيما المحققين منهم - على اختلاف مذاهبهم، وذكرت بعض الآداب التي يجب على المفتي مراعاتها، خاصة في هذا الزمن، الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، فالفتوى التي تصدر في مكة مثلاً أو في القاهرة، لا تلبث ساعات، بل دقائق، حتى يعلم بها، كل مَن في أرجاء هذه المعمورة، وما تهيجه من شرٍّ وفتنة إذا لم تكن مضبوطة بضوابط الشرع. وسطّرت في هذه الصحف بعض المباحث التي لها صلة بهذه المسألة، فبيّنت أسباب اختلاف العلماء، والخلاف هل هو رحمة أم لا؟ ثم دفعت ما ظُنَّ أنه تناقض في كلام أسلافنا من الأئمة، وذكرت الأصل الذي تفرعت منه هذه المسألة مبيناً صحة هذا الأصل أو سقمه.
هذا والله تعالى أسأله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
المبحث الأول: الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية
من أعظم آيات الله عزَّ وجلَّ أن خلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم، وعقولهم وأفهامهم، فقرنها الله تعالى مع عجيبة أخرى وهي خلق السموات والأرض فقال (: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ( [الروم: 22] فكان من مقتضى هذه الحكمة أن يقع الخلاف بين الناس، فهي سمة البشرية، وسنة كونية لا تتغير
ولا تتبدّل وقد صحّ عن ابن عباس (1)
__________
(1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي، ابن عم رسول الله ش، حبر هذه الأمة، توفي بالطائف سنة 68 هـ.
انظر ترجمته في: أسد الغابة 3 / 291، الأعلام 3 / 95.(11/131)
رضي الله عنهما قوله: ((كان بين آدم ونوح عشرة آخرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك)) (1) ذكر هذا في معرض تفسيره لقوله تعالى (: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ( [البقرة 213] ، فالخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام، لم تسلم منه أمّة من الأمم ويقول النبي (: ((افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة)) (2) .
وهذه الأمة ليست ببدع من الأمم، فقد بقى رسولها ش ثلاثاً وعشرين سنة بين ظهرانيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم، ومع هذا تنازع الصحابة واختلفوا، في مراد النبي ش كما ثبت في الصحيحين أن النبي (قال: ((لا يصلّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق. فقال بعضهم: نصلي ولا نترك الصلاة. وقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فلم يعنف أحداً منهم)) (3) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم عسق، رقم (3654) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الايمان، باب افتراق هذه الأمة رقم (2778) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: ((حديث حسن صحيح)) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرجع النبي ش من الأحزاب رقم (4119) ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو رقم (1770) عن ابن عمر رضي الله عنهما مع اختلاف يسير في الألفاظ.(11/132)
وكذلك حديث: ((خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماءٌ فتيمَّما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله (فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين)) (1) .
فلما قُبض النبي (تركهم ((على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) (2) وما أبلغ كلمة عمه العباس بن عبد المطلب (3) رضي الله عنه حين شك الناس في موته فقال: ((والله ما مات رسول الله ش حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح، وطلَّق، وحارب، وسالم، وما كان راعي غنم يتبع رؤوس الجبال، يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمرر حوضها بيده، بأنصب ولا أدأب من رسول الله ش فيكم)) (4) .
وميراث النبوة الذي ورَّثه النبي ش لأمته منه ما هو بيِّنٌ لا اشتباه فيه مثل الحلال المحض كأكل الطيبات من الزروع والثمار وكالنكاح، والتسري. وآخر هو الحرام المحض، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا، ونكاح المحارم وغيرها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المتيمم يجد الماء بعدما يصلي رقم (334) عن أبي سعيد الخدري، قال أبو داود: وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل.
(2) هو جزء من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك، في كتاب العلم رقم (331) عن العرباض ابن سارية رضي الله عنه وصححه السيوطي في الجامع الصغير 2 / 379.
(3) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، عم رسول الله ش، وجد الخلفاء العباسيين شهد حنيناً وفتح مكة، توفي سنة 32 هـ.
انظر ترجمته في: أسد الغابة 3 / 163، الأعلام 3 / 262.
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2 / 267.(11/133)
ومنه ما هو مشتبه فيه، كأكل ما اختلف في تحريمه وحلِّه، كالخيل والبغال، والحمير، والضبِّ، وشرب الانبذة التي يسكر كثيرها، وغيرها.
وهذا القسم هو الذي عناه النبي ش بقوله: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهاتٌ، لا يعلمها كثير من الناس)) (1) ، فسّره على هذا المعنى الإمام أحمد وإسحاق (2) وغيرهما من الأئمة (3) والعلماء هم الوارثون لعلم النبوة، وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام، وبعدها عنه، لذلك يقع الخلاف في تحليله وتحريمه لأسباب كثيرة، عني الفقهاء على استقصاءها وذكرها مطوّلة، لكن أعجبني ما لخَّصه ابن رجب رحمه الله فقال: ((ومنه - أي الحلال والحرام - ما لم يشتهر بين حملة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب:
منها: أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخر، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.
وأسباب الخلاف أكثر مما ذكرنا)) (4) .
المبحث الثاني: الاختلاف هل هو رحمة؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52) عن النعمان ابن بشير.
(2) هو إسحاق بن إبراهيم التميمي المروزي، أبو يعقوب بن راهويه، عالم خراسان في وقته، له كتاب ((المسند)) توفي سنة 238 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 172، الأعلام 1 / 292.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم ص 84.
(4) انظر: جامع العلوم والحكم ص 85.(11/134)
شاع وذاع على لسان كثير من السلف أن اختلاف الأمة في الفروع هو ضرب من ضروب الرحمة، فروى عن القاسم بن محمد (1) قوله: ((كان اختلاف أصحاب رسول الله (رحمة)) (2) وعن عمر بن عبد العزيز (3) : ((ما يسرني باختلاف أصحاب النبي ش حُمْرُ النَّعَم)) (4) واشتهر حديث عند الفقهاء وهو: ((اختلاف أمتي رحمة)) (5) . وهذا كله حق لا مرية فيه، إلا أنه حق يعوزه شيء من التفصيل، وهذا التفصيل ذكره الإمام الشافعي - رحمه الله - في ((رسالته)) حيث جعل لهذا الاختلاف المرحوم قسيماً آخر، وهو: الاختلاف المحرَّم، فلما سئل - رحمه الله - ما الاختلاف المحرّم؟ قال: ((كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيِّه منصوصاً بيّناً لم يحلَّ الاختلاف فيه لمن علمه)) واستدل على ذلك من كتاب الله تعالى بقوله: ((وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( [البينة: 40] وبقوله (: (ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ( [آل عمران: 105] فهؤلاء المخالفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم، وجاءتهم البينة، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل (6) .
__________
(1) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد الفقهاء السبعة في المدينة وأحد سادات التابعين توفي سنة 107 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 44، الأعلام 5 / 181.
(2) انظر: الطبقات الكبرى 5 / 89.
(3) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي القرشي أبو حفص، قيل له: خامس الخلفاء الراشدين لعدله وصلاحه، توفي سنة 101 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 7، الأعلام 5 / 50.
(4) انظر: الطبقات الكبرى 5 / 381.
(5) والحديث ليس له أصل. انظر: الدرر المنتثرة ص 41.
(6) انظر: الرسالة ص 352.(11/135)
ومن ههنا نشأ الوهم عند من أطلق جواز الترخّص بمسائل الخلاف، مستدلاً بعموم أقوال الأئمة، فأصابهم في ألفاظ العموم، ما أصاب غيرهم في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، فسمعوا أن الاختلاف رحمة، فاعتقدوا أن هذا شامل لكل خلاف، ولم يتدبروا أن الخلاف له ضوابط وشروط، وإلا كان محرّماً مذموماً.
أما كون اختلاف أصحاب النبي (رحمة، فلأنهم كانوا على الحنيفية السمحة، ففتحوا باب الاجتهاد للناس، فتنازعوا وهم مؤتلفون متحابون، يُقرُّ كل واحد منهم الآخر على اجتهاده ومن لطيف توجيهات ابن تيمية في كون الخلاف رحمة قوله ما ملخصه: إن النزاع قد يكون رحمة لبعض الناس، لما فيه من خفاء الحكم، فقد يكون في ظهوره تشديداً عليه، ويكون من باب قوله تعالى (: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( [المائدة: 101] لهذا صنّف رجل كتاباً سماه: ((كتاب الاختلاف)) فقال أحمد: سمه ((كتاب السعة)) وضرب لها مثلاً بما يوجد في الأسواق من الطعام والشراب والثياب، فقد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك، كان كله له حلاً لا إثم عليه بحال، بخلاف ما إذا علم (1) .
وبيَّن رحمه الله أن من تبعات الخلاف المحرّم أن يخفى عنهم العلم بما يوجب الرخصة، فكما أن الله تعالى حرّم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم، وشريعة محمد ش لا تُنسخ، لكنهم يعاقبون بتحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل الله ورسوله عندهم، كما فعل ذلك كثير من الأمة اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيْمان والطلاق، واعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين، والمشاركات، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً، وتحريماً شرعياً في ظاهر الأمر (2) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 14 / 159.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 14 / 153.(11/136)
وشرور الخلاف لا تنقضي، وشرُّها إذا استحال إلى تعصب للمذاهب والآراء بالباطل، واتباعٍ للظن وما تهوى الأنفس. وما يتبع ذلك من تباغض وتدابر، بل وتلاعن. وإذا أنعمت النظر وجدت أن أكثر هذه المسائل المتنازع فيها هي من الفروع الخفية التي يسوغ فيها الخلاف، وأغلب هؤلاء المتعصبين إنما قامت عصبيتهم على الانتصار للنفس والهوى لا الانتصار للحق، وهذا أمر خفي دقيق يتسلل إلى القلوب والنفوس، لذلك نبّه عليه ابن رجب فقال: ((ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيراً من البغض إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه. وهذا الظن قد يخطئ ويصيب. وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرّد الهوى والألفة، أو العبادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله. فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز. وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرّم. وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه. موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من يوافقه، ولا عادى من يخالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه. وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده. وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه أنه الحق، إرادة(11/137)
علو متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق، فافهم هذا فإنه مهم عظيم)) (1) .
وحسبنا شراً ما رُزئت به هذه الأمة من تبعات الخلاف حين حُرمت الكتاب الذي أراد النبي (كتابته لها، حتى صار ابن عباس رضي الله عنهما يتحسر ويقول: ((إن الرزية كل الرزية ما حال بين النبي (وبين كتابه)) وذلك: ((لما اشتد بالنبي (وجعه فقال: ائتوني بكتاب، أكتب لكم
كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. فقال عمر: إن النبي (غلبه الوجع، وعندنا
كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع)) (2) .
المبحث الثالث: فضل معرفة علم ما يختلف فيه
رُوي عن طائفة من السلف آثار في فضل تعلّم علم الخلاف، فمن ذلك
ما رواه أحمد رحمه الله عن سعيد بن جبير (3) أنه قال: ((من عَلِمَ اختلاف الناس فقد فقه)) وعن قتادة (4) قال: ((قال سعيد بن المسيّب (5)
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 370.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم (114) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) هو سعيد بن جبير الأسدي الكوفي، أبو عبد الله، من فقهاء التابعين توفي سنة 95 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 1 / 382، الأعلام 3 / 93.
(4) هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، المفسر الحافظ، كان يرى القدر، توفي سنة 118 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 1 / 370، الأعلام 5 / 189.
(5) هو سعيد بن المسيب بن حرب القرشي، أبو محمد، أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي سنة 94 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 80، الأعلام 3 / 102.(11/138)
: ما رأينا أحداً أسأل عما يختلف فيه منك، قلت: إنما يسأل من يعقل عما يختلف فيه فأما ما لا يختلف فيه فلم نسأل عنه)) (1) ، وغيرها من الآثار، فملكة الفقه لا تتأتَّى إلا بالارتياض في معرفة أقوال العلماء باختلافها، وما أتوا به في كتبهم، فالحق لا يعرف إلا إذا عُرف الباطل، والفاسد لا يعلم إلا إذا عُلِمَ الصحيح، فبضدها تتميز الأشياء، فنبتة التعصب إنما تنشأ عند من ألِف قولاً واحداً فتربى حتى كهل عليه، لذلك أحسب أن هذا العلم الذي يدرّس في الجامعات والمعاهد فيما يسمى ((بالفقه المقارن)) أو ((الفقه الموازن)) ، هو من أعظم الفنون أثراً في تنمية ملكة الاحتجاج والاستنباط، وتحليل ما في الكتب ورده إلى الحجج، لاسيما إذا تولى تعليم هذا الفن من يؤمن به، ومن له تمكن من معرفة الصحيح من الفاسد، فهذا كفيل - بإذن الله - على نزع هذه النبتة من جذورها، فيستقر في قلب الطالب حب جميع العلماء، فيعرفهم حينئذ بالحق، ولا يعرف الحق بهم.
بل ويعجبني فيمن تولى تدريس ((فقه المذهب)) أن يبيّن بعض المسائل التي خالف فيها أصحاب المذهب إمامهم، فتركوا التعصب واتبعوا الدليل، ولم يستنكفوا من ذلك.
المبحث الرابع: بيان زلاّت العلماء
واستغفر الله تعالى من هذا العنوان، واستعيذ بالله مما استعاذ منه ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في هذه المسألة فقال: ((نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) (2) .
__________
(1) انظر هذه الآثار وغيرها في الآداب الشرعية 2 / 51.
(2) انظر: الفتاوى الكبرى 6 / 92.(11/139)
فالداعي إلى خوض هذه المسألة أن كثيراً من المقلدين، وكذلك المفتين وأهل العلم، يجادلون من ينكر عليهم التوسع في تتبع رخص العلماء من غير ضابط بقولهم: أأنتم أعلم أم الإمام الفلاني؟
وألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة، ومكانتهم من العلم والفقه والتقوى؟ فما بالنا لا نأخذ برخصهم وأقوالهم؟
وهذه معارضة فاسدة لا تصح، لأن الله لم يجعل العصمة لأحدٍ دون رسوله (، فالرجل الجليل القدر، العظيم المنزلة، قد تقع منه الهفوات والزلاّت، وهذا بشهادة أئمة الدين، وسادات الدنيا فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((ثلاث يهدمن الدين زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون)) (1) . وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ((ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: وكيف ذاك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله ش فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الاتباع)) (2) .
وقد روى عن النبي (في هذا المعنى قوله: ((إني أخاف على أمتي من ثلاث: زلة عالم، ومن هوى متبع، ومن حكم جائر)) (3) .
وليست هناك شهادة بعد هذه الشهادة، فأي معنى للتشبث ببعض المستشنعات التي وردت عن الأئمة، وإفتاء الناس بها، ناهيك عن كثير من المسائل التي يخرِّجها الاتباع على لوازم باطلة لا تصح (4) ، بل وقد يُنسب للإمام ما لم يقله، كما حدث لأحمد رحمه الله حين نُسب إليه القول أن الغسل
__________
(1) انظر: الفتاوى الكبرى 6 / 95.
(2) انظر: الفتاوى الكبرى 6 / 96.
(3) الحديث ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 187 قال: وفيه كثير بن عبد الله بن عوف، وهو متروك، وقد حسّن له الترمذي. واحتج بالحديث ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى 6 / 940.
(4) انظر: إعلام الموقعين 3 / 286.(11/140)
لا يكون إلا من الإنزال، فكان أحمد ينكر ذلك ويقول: ما أحفظ أني قلت به قط، فقيل له: بلغنا أنك تقوله، فقال: الله المستعان، من يكذب عليَّ في هذا أكثر من ذاك (1) . ورحم الله الإمام أحمد فما زال الكذب على العلماء، وتقويلهم ما لم يقولوه، باق حتى يومنا هذا.
ثم أليس من أوثق عرى الإسلام النصيحة؟ يقول عليه الصلاة والسلام:
((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله عزَّ وجل ولكتابه، ولرسوله (، ولأئمة المؤمنين وعامتهم)) (2) . فأين النصيحة للعلماء؟ فهم من جملة أئمة المؤمنين، يقول ابن رجب: ((ومما يختص به العلماء - أي في النصيحة - ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها)) (3) .
فمن حقهم أن لا ننسب لهم قول - يجد الواحد منّا حرجاً أن ينسبه لنفسه، فضلاً أن ينسبه لهؤلاء الأئمة - لاسيما للعوام منهم: فهم مولعون بالنوادر، متهالكون على الغرائب، لذلك كان هذا أخوف ما يُخاف علينا، فالعالم إذا زلّ، زلَّت معه أمّة، وإني لناقلٌ لك من قبائح فهم العوام مما قصّه لنا ابن القيم (4)
__________
(1) ذكرها ابن رجب في فتح الباري 1 / 385.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الايمان رقم (95) عن تميم بن أوس الداري.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم ص 98.
(4) هو محمد بن أبي بكر الحنبلي، الشهير بابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله، صاحب ((إعلام الموقعين)) و ((إغاثة اللهفان)) توفي سنة 751 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 287، الأعلام 6 / 56.(11/141)
رحمه الله فقال: ((قد نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها، وهو كذب على مالك وأصحابه فكتبهم كلها مصرِّحة بتحريمه، ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكاً يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين باباً واحداً، وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع العلماء)) ثم قال: ((ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر ... قال شيخنا - أي ابن تيمية - ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ( [البقرة 221] على ذلك - أي إباحة ذكران العبيد المؤمنين - ... ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء، ويحرّمه بعضهم، ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل)) (1) .
ولا يبقى بعد هذا كله إلا الحذر ثم الحذر من إطلاق الفتاوى على عواهنها من غير قيد ولا ضابط.
ثم إن لهؤلاء الأئمة حقاً آخر - دون الحق الأول - وهو ردُّ المسائل التي أخطأوا فيها الاجتهاد وعرضها على الكتاب والسنة، فهذه وصيتهم رحمهم الله تعالى، حكى البويطي (2) أنه سمع الشافعي يقول: ((قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولابد أن يوجد فيها الخطأ، إن الله تعالى يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ( [النساء 120] فما وجدتم في كتبي مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه)) (3) .
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان 2 / 180 - 182.
(2) هو يوسف بن يحيى البويطي القرشي، أبو يعقوب، صاحب الشافعي، له كتاب ((المختصر)) توفي سنة 231 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 143، الأعلام 8 / 257.
(3) انظر: الآداب الشرعية 2 / 103.(11/142)
ويقول أبو حنيفة: ((هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء براي خير منه قبلناه)) وصحّ مثل هذا القول عن مالك وأحمد (1) .
وإذا أنت بحثت ونظرت، وجدت أن أكثر الناس نصحاً لهؤلاء الأئمة، هم كبار أصحابهم، فهذا محمد بن الحسن (2) وأبو يوسف (3) قد خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ولا يجدون غضاضة في الرجوع إلى الحق، ولهذا لما اجتمع أبو يوسف بمالك فسأله عن الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، قال: ((رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت)) (4) .
وهذا المزني (5) وهو ناشر مذهب الشافعي، اختصر مذهب صاحبه، ولم يجد حرجاً أن يذكر بعد البسملة في افتتاح الكتاب وصية الشافعي فقال: ((اختصرت هذا الكتاب في علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه)) (6) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 20 / 211.
(2) هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، أبو عبد الله، صحب أبا حنيفة وسمع منه، له ((المبسوط)) و ((الجامع الكبير)) توفي سنة 189 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 407، الأعلام 6 / 80.
(3) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، له ((أدب القاضي)) و ((الأمالي)) توفي سنة 182 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 367، الأعلام 8 / 193.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 20 / 211.
(5) هو إسماعيل بن يحيى المزني، أبو إبراهيم، صاحب الشافعي، من كتبه ((الجامع الكبير)) و ((المختصر)) توفي سنة 264 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 278، الأعلام 1 / 329.
(6) انظر: مختصر المزني ص 1.(11/143)
وهذا كله لا يقدح في أقدار هؤلاء الأئمة، ولا يغض من منزلتهم فما من أحد إلا وقد خُفيت عليه سنة، أو فاته فهم صحيح، فميراث النبوة ميراث ضخم واسع لا يحصى، وجعله النبي ش مشاعاً، لينهل منه العلماء، فما فات هذا الإمام من سنة وجدته عند الآخر، وما غفل عن فهمه ذاك، انقدح في ذهن هذا معناه، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لذلك يقول الله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً ( [الأنبياء: 78] فهذان نبيان كريمان إلا أن الله تعالى خصَّ أحدهما بالفهم دون الآخر.
ولا تظنَّن أن خفاء السنة عائد لعدم شهرتها - وأعني بالشهرة المعنى اللغوي - أو لكونها مذكورة في غير الصحاح، بل هناك أحاديث في صحيح البخاري غفل عنها كبار الأئمة، وإني لناقلٌ مسائل استدركها ابن رجب رحمه الله على بعضهم منها:
- أن ابن تيمية رحمه الله أنكر ورود لفظ: ((كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)) في ألفاظ الصلاة على النبي (في التشهد، بالجمع بين ((إبراهيم وآل إبراهيم)) فقال: فهذه الأحاديث التي في الصحاح لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ: ((إبراهيم وآل إبراهيم)) بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: ((آل إبراهيم)) وفي بعضها لفظ: ((إبراهيم)) وقد يجيء في أحد الموضعين لفظ: ((آل إبراهيم)) وفي الآخر لفظ: ((إبراهيم)) (1) .
وقد تعقبه ابن رجب في ((القواعد)) (2) فقال - بعد أن نقل كلامه -: ((كذا قال، وقد ثبت في ((صحيح البخاري)) الجمع بينهما من حديث كعب ابن عجرة (3)
__________
(1) انظر: الفتاوى الكبرى 2 / 192.
(2) انظر: تقرير القواعد 1 / 90.
(3) هو كعب بن عجرة بن أمية البلوي، حليف الأنصار، سكن الكوفة وتوفي بالمدينة سنة
51 هـ. انظر: أسد الغابة 4 / 454.(11/144)
، ويعني به قوله (: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (1) .
- وسنة أخرى من سنن الغُسل وهي تخليل شعر الرأس واللحية الوارد في حديث عائشة (2) رضي الله عنها أنها، قالت: ((كان رسول الله (إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلِّل بيده شعره، حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم يغسل سائر جسده)) (3) فقد غفل عنه كبار الأئمة، يقول ابن رجب: ((قول عائشة ((حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات)) يتبين أن التخليل كان لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري (4) يشهد لذلك أيضاً)) .
يقول ابن رجب: ((وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي ش، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وادائه. ولم أر من صرّح منهم، إلا صاحب ((المغني)) (5) ، من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة (6) .
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب الأنبياء، رقم (3370) .
(2) هي عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي ش، وأشهر نسائه، تزوجها النبي ش قبل الهجرة بسنتين، توفيت سنة 57 هـ.
انظر ترجمتها في: أسد الغابة 7 / 186.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الغسل، باب تخليل الشعر رقم (272) .
(4) هو محمد بن إسماعيل البخاري، أبو عبد الله، أشهر من أن يعرّف، صاحب ((الجامع الصحيح)) توفي سنة 256 هـ
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 252، الأعلام 6 / 34.
(5) هو عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، موفق الدين، أبو محمد، صاحب ((المغني)) و ((روضة الناظر)) توفي سنة 620 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 155، الأعلام 4 / 67.
(6) انظر: المغني 1 / 138.(11/145)
وكذلك ذكره صاحب ((المهذب)) (1) من الشافعية قال: - بعد ذكر الوضوء -: ((ثم يدخل أصابعه العشر في الماء، فيغترف غرفة يخلِّل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات)) (2) .
فإذا كان الخطأ والوهم قد وقع فيه هؤلاء العلماء وهم من هم في الحفظ والذكاء والاتقان، فهي فيمن دونهم أولى، أمّا التعصب وإلباس الأئمة ثوب العصمة فليس من التناصح أو الإنصاف في شيء، وإذا شئت أن تعرف كيف يكون الانصاف فاقرأ كلام ابن المنير (3) وهو مالكي حين قال: ((وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم. وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فما من واحد منهم إذا تجرَّد النظر إلى خصائصه
إلا ويفنى الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره)) (4) .
المبحث الخامس: تأصيل المسألة
__________
(1) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، أبو إسحاق، صاحب ((اللمع)) و ((التهذيب)) توفي سنة 476 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 323، الأعلام 1 / 51.
(2) انظر: المهذب مع شرح المجموع 2 / 180، وانظر نصّ ابن رجب في شرحه فتح الباري 1 / 311.
(3) هو ناصر الدين أحمد بن محمد الجذامي الجروي المالكي، قاضي الاسكندرية، من تصانيفه
((تفسير حديث الإسراء)) ، توفي سنة 683 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 666، الأعلام 1 / 220.
(4) انظر: البحر المحيط 6 / 293.(11/146)
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، عني بها الفقهاء والأصوليون على حدٍّ سواء. فالفقهاء يذكرونها - استطراداً - عند ذكرهم حكم من أتى فرعاً مختلفاً فيه يعتقد تحريمه، في شروط من تقبل شهادته (1) . والأصوليون سطّروها عقيب مسألة من التزم مذهباً معيناً، واعتقد رجحانه، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر (2) ؟ ، فهي شبيهة بها، مفرّعة عنها، وهذه المسألة تعود إلى قاعدة عظيمة هي قاعدة: ((تصويب المجتهدين)) ، والخلاف فيها: هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ فمن توسع في الأخذ برخص العلماء من غير ضابط ولا قيد، يرى أن كل مجتهد مصيب فيما عند الله، ومصيب في الحكم، وليس هناك تحجير على تتبُّع مسائل الخلاف، واستمع إلى ما يحكيه ابن المنيِّر حينما فاوض بعض مشايخ الشافعية في هذه المسألة فقال: ((وقال - أي الشيخ -: أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول: كل مجتهد مصيب، إن المصيب واحد غير معين، والكل دين الله، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله، حتى كان هذا الشيخ رحمه الله من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلاً - في حنث ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي، ولا يحنث على مذهب مالك، قال لي: أفته أنت، يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعاً)) (3) .
ونقل الشاطبي عن بعض العلماء قولهم: ((كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذّ عن الجماعة، أو لا، فالمسالة جائزة)) (4) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال لا الحصر: الفروع 6 / 491، الانصاف 12 / 50.
(2) انظر كذلك: البحر المحيط 6 / 325، تيسير التحرير 4 / 254.
(3) انظر: البحر المحيط 6 / 324.
(4) انظر: الاعتصام 2 / 354.(11/147)
والحق الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهورهم أن الحق من ذلك واحد من أقوالهم وأفعالهم، والباقون مخطئون، غير أنه معذور بخطئه (1) ، للحديث الصحيح: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد)) (2) .
ثم اختلف هؤلاء الأئمة - وهو اختلاف لا يقدح في أصل القاعدة - فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر؟ فقيل: المخطئ في الحكم مخطئ في الاجتهاد ولا يطلق عليه اسم الإصابة بحال. وقيل: إنه مصيب في الظاهر، لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده (3) .
وتنازعوا أيضاً علامَ يؤجر المخطئ؟ بين قائلٍ: إنه يؤجر على القصد إلى الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد، لأنه اجتهاد أفضى به إلى الخطأ، وهو اختيار المزني.
وبين قائلٍ: إنه يؤجر عليه وعلى الاجتهاد معاً، لأنه بذل ما في وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه (4) .
وذهب الخطابي (5) إلى أن المجتهد إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط، فجعل قوله ش: ((وله أجر واحد)) مجازاً عن وضع الإثم (6) .
__________
(1) انظر: تيسير التحرير 4 / 202، شرح تنقيح الفصول ص 438، البحر المحيط 6 / 241، شرح الكوكب المنير 4 / 489.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم، رقم (7352) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(3) انظر: البحر المحيط 6 / 245، مجموع الفتاوى 19 / 125.
(4) انظر: الشرح الكبير 12 / 478، شرح الكوكب المنير 4 / 490، فواتح الرحموت
2 / 381.
(5) هو أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي الشافعي، صاحب ((معالم السنن)) و ((غريب الحديث)) توفي سنة 388 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4 / 472، الأعلام 2 / 273.
(6) انظر: معالم السنن 4 / 249، فتح الباري 13 / 319.(11/148)
وشذَّ أبو علي بن أبي هريرة (1) فقال: إن المخطئ آثم (2) .
ولا يهولنّك ما ينسبه بعض المحققين - كالمازري (3) والماوردي (4) وغيرهما - إلى الجمهور من القول بأن كل مجتهد مصيب، وأن الحق في طرفين، فهؤلاء نظروا إلى وجوب العمل بما أدى إلى الاجتهاد، لأن لله تعالى حكمين: أحدها: مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل والامارات. والثاني: وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد، وهذا متفق عليه، فنظروا إلى هذا الحكم الثاني، ولم ينظروا إلى الأول، وهذا حق، فالخلاف حينئذ لفظي (5) .
أو أن يكون شقَّ عليهم، فكرهوا أن يقال للمجتهد: إنه أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كما جاء في قراءة ابن عامر (6)
__________
(1) هو أبو علي بن أبي هريرة الحسن بن الحسين الشافعي، له ((شرح مختصر المزني)) توفي سنة 345 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4 / 240، الأعلام 2 / 188.
(2) انظر: الشرح الكبير 12 / 478.
(3) هو محمد بن علي بن عمر المالكي المازري، أبو عبد الله، صاحب: ((المعلم في شرح مسلم)) توفي سنة 536 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 186، الأعلام 6 / 277.
(4) هو علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي صاحب ((الحاوي)) و ((الاقناع)) توفي سنة 450 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 218، الأعلام 4 / 327.
(5) انظر: البحر المحيط 6 / 260، نفائس الأصول 9 / 4060، مجموع الفتاوى 20 / 28.
(6) هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران، أحد القرّاء السبعة، توفي سنة 118 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 85، الأعلام 4 / 118.(11/149)
: ((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خَطَأً كبيراً)) على وزن عَمَلاً، والأكثرون يقرأون: ((خِطْأً)) على وزن: عِلْماً-وهذا خلاف المشهور، لأن لفظ الخطأ يفارق العمد، فهو من الرباعي أخطأ يخطئ، أي: لم يصب الحق، لا من الثلاث خطأ يخطأ فهو خاطئ أي: مذنب - فهم أرادوا أن كل مجتهد مصيب أي: مطيع لله ليس بآثم أو مذموم، وهذا صحيح، والخلاف أيضاً لفظي (1) .
وأصل هذه المقالة - أي القول بأن كل مجتهد مصيب - بدعة ابتدعها المعتزلة، يقول أبو الطيب الطبري (2) : ((وهم الأصل في هذه البدعة وقالوا ذلك لجهلهم بمعاني الفقه وطرقه الصحيحة الدالة على الحق، الفاصلة بينه وبين ما عداه من الشبه الباطلة فقالوا: ليس فيها طريق أولى من طريق، ولا أمارة أقوى من أمارة، والجميع متكافؤن وكل من غلب على ظنه شيء حكم به فحكموا فيما لا يعلمون وليس من شأنهم وبسّطوا بذلك شبه نفاه القياس منهم ومن غيرهم الذين يقولون: لا يصح القياس والاجتهاد لأن ذلك إنما يصح من طريق تؤدي إلى العلم أو إلى الظن، وليس في هذه الأصول ما يدل على حكم الحوادث علماً ولا ظناً)) (3) .
ثم تلقفها عنهم أكثر الأشعرية كأبي الحسن (4) والباقلاني (5)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 20 / 19 - 22.
(2) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري الشافعي، أبو الطيب، له ((شرح مختصر المزني)) توفي سنة 450 هـ.
انظر ترجمته في شذرات الذهب 5 / 215، الأعلام 3 / 222.
(3) انظر: شرح اللمع 2 / 1048.
(4) هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر البصري، صاحب ((مقالات الإسلاميين)) و ((الإبانة عن أصول الديانة)) توفي سنة 324 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4 / 129، الأعلام 4 / 263.
(5) هو محمد بن الطيب بن محمد البصري المالكي، القاضي أبو بكر، صاحب ((الإبانة)) و ((إعجاز القرآن)) توفي سنة 403 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 20، الأعلام 6 / 176.(11/150)
والغزالي (1) وغيرهم فقالوا مثل مقالة المعتزلة، وزادوا عليه أن التكليف مشروط بالقدرة، فتكليف المجتهد الإصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف بما لا يطاق، فلا يقال: أخطأه (2) لذلك قال أبو إسحاق الشيرازي (3) لما بلغته مقالة أبي الحسن الأشعري: ((يقال: إن هذه بقية اعتزال بقي في أبي الحسن رحمه الله. هذا مذهب أصحابنا، ومذهب هؤلاء)) (4) .
__________
(1) هو محمد بن محمد الغزالي الشافعي، أبو حامد، حجة الإسلام، صاحب ((المستصفى)) و ((إحياء علوم الدين)) توفي سنة 505 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 18، الأعلام 7 / 22.
(2) انظر: المستصفى 2 / 362، 363، مجموع الفتاوى 19 / 124.
(3) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي، جمال الدين، صاحب ((اللمع)) و ((المهذب)) توفي سنة 446 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 323، الأعلام 1 / 51.
(4) انظر: شرح اللمع 2 / 1048.(11/151)
وفي الجملة فقد دلت نصوص السنة الصحيحة على أن المصيب عند الله واحد في مسائل الحلال والحرام المختلف فيها، ومن أظهرها: ((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس)) يقول ابن رجب: ((كلام النبي (يدل على أن هذه المشتبهات، من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه. والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه. ودلّ الكلام على أن غير هؤلاء يعلمها ومراده أنه يعلمها على ماهي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله، وغيره ليس بعالم بها بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده مغفوراً له خطؤه)) (1) .
وكذلك الحديث الصحيح: ((إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)) (2) فدلَّ الحديث على أن لله تعالى حكماً معيناً، يصيبه من يصيبه، ويخطئه من يخطئه.
ثم إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خطَّأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم لما فعلوا ذلك (3) . وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود (4)
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم ص 88.
(2) هو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء، عن سليمان بن بريدة عن أبيه.
(3) انظر: جامع بيان العلم وفضله 2 / 84 وقد عقد ابن البرّ فصلاً كاملاً نقل فيه آثار الصحابة.
(4) هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن، من فقهاء الصحابة، توفي سنة 32 هـ.
انظر ترجمته في: أسد الغابة 3 / 381، الأعلام 4 / 137.(11/152)
رضي الله عنه: ((أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان)) (1) .
ولهذه القاعدة - أي أن الحق في قول واحد - كان الأئمة ينكرون ويعذرون في مسائل الخلاف على حسب الأدلة، وهذا هو قول الإمام أحمد، وهو تصرف أصحاب الشافعي، فمن أخذ بحديث ضعيف وترك حديثاً صحيحاً لا معارض له، يقطع بخطئه، ناهيك عمن يخالف إجماعاً أو يترك سنة صحيحة لقول إمام، وإذا كان في المسألة حديثان صحيحان نظر في الراجح فأخذ به، ولا يسمى الآخر مخطئاً، أما إذا كانت المسألة مشتبهة لا نصَّ فيها اجتهد برأيه، ولا يسمى الآخر مخطئاً (2) ، وهذا الذي يسميه العلماء: الخلاف السائغ.
المبحث السادس: أقوال العلماء في المسألة
سبق القول في المبحث السابق أن مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، لها شبه بمسألة من التزم مذهباً فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل؟ ولكنه ليس شبهاً مطلقاً، لذلك غلط الزركشي (3)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 20 / 24.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 20 / 25، البحر المحيط 6 / 253.
(3) هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي الشافعي، بدر الدين، صاحب ((البحر المحيط)) و ((البرهان)) توفي سنة 794 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 572، والأعلام 6 / 60.(11/153)
- رحمه الله - حين جعل الخلاف جارٍ فيهما على حدٍّ سواء (1) ، فمسألة مخالفة العامي المقلَّد، أو المفتي المقلِّد لمذهب إمام في بعض المسائل، الخطب فيها يسير، والخلاف هيِّن، وأقوال العلماء فيه بين: مجيزٍ مطلقاً، ومانعٍ، ومفصِّل (2) . أما مسألة تتبع الرخص فهي أعم من سابقتها، فصاحبها يكتفي من فتياه بموافقة قول إمام - ولو كان نادراً - من غير نظرٍ في ترجيحٍ أو دليل، ويجعل كل خلاف دليلاً على الحلِّ أو التحريم. وهذا الفرق أشار إليه أبو العباس ابن تيمية في ((المسوّدة)) فقال: ((قلت: التخيير في الفتوى والترجيح بالشهوة، ليس بمنزلة تخيِّر العامي في تقليد أحد المفتين، ولا من قبيل اختلاف المفتين على المستفتي، بل كل ذلك راجع إلى شخص واحد، وهو صاحب المذهب، فهو كاختلاف الروايتين عن النبي (، راجع إلى شخص واحد، وهو الإمام، فكذلك اختلاف الأئمة راجع إلى شريعة رسول الله ش، حتى إن من يقول: ((إن تعارض الأدلة يوجب التخيير)) لا يقول: إنه يختار لكل مستفت ما أحب، بل غايته أنه يختار قولاً يعمل به ويفتي به دائماً)) (3) .
فإذا بان لك هذا الفرق فمذاهب العلماء في هذه المسألة لا تعدوا ثلاثة هي:
الأول: منع الترخّص مطلقاً، وهذا القول مبني على القول بوجوب الاقتصار على مذهب واحد، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فإذا لم يجز مخالفة الإمام في بعض المسائل، فمن باب أولى ألاّ يجوز على وجه الإطلاق وهذا المذهب جزم به الجيلي (4) في ((الإعجاز)) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط 6 / 324.
(2) انظر: البحر المحيط 6 / 320 - 321، المسوّدة ص 478، تيسير التحرير 4 / 253.
(3) المسوّدة ص 479، وأشار الشيخ عبد الله درار إلى هذا الفرق في تعليقه على الموافقات 4 / 144.
(4) لعله شافع بن عبد الرشيد الجيلي الشافعي، أبو عبد الله، من كبار أئمة الشافعية توفي سنة 541 هـ.(11/154)
الثاني: الجواز مطلقاً وهو قول ذهب إليه بعض العلماء.
الثالث: المنع، ما لم يكن الخلاف فيه سائغاً فيجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف (1) ، وحكى ابن عبد البر (2) الإجماع على تحريم تتبع الرّخص للعوام (3) ، وفسّقه الإمام أحمد ويحيى القطان (4) ، ونُقل عنه قوله: ((لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: بقول أهل المدينة في السماع يعني الغناء، وبقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في المتعة، لكان
فاسقاً)) (5) . وحكى الزركشي أن إسماعيل القاضي (6) قال: ((دخلت على المعتضد (7)
__________
(1) انظر: البحر المحيط 6 / 325، 326، شرح الكوكب المنير 4 / 577، روضة الطالبين 8 / 101، تيسير التحرير 4 / 254.
(2) هو يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، أبو عمر، صاحب
((التمهيد)) و ((جامع بيان العلم وفضله)) توفي سنة 463 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 266، الأعلام 8 / 240.
(3) انظر: جامع بيان العلم وفضله 2 / 112.
(4) هو يحيى بن سعيد القطان التميمي، أبو سعيد، من حفاظ الحديث، له كتاب ((المغازي)) توفي سنة 198 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 468، الأعلام 8 / 147.
(5) انظر: المسوّدة ص 463.
(6) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الجهضمي الأزدي المالكي، له ((المبسوط)) في الفقه و ((السنن)) توفي سنة 282 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 334، الأعلام 1 / 310.
(7) هو أحمد بن طلحة بن جعفر، المعتضد بالله ابن الموفق بالله، ابن المتوكل، خليفة عباسي توفي سنة 289 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 3 / 371، الأعلام 1 / 140.(11/155)
فدفع إلى كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت إن مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب)) (1) ، وصحَّ مثل هذا الكلام عن طائفة من السلف (2) .
وهذا الكلام المنقول عن الأئمة محمول على إذا ما كان الخلاف غير سائغ، وآية ذلك أن الأئمة قد نُقل عنهم ما لا يحصى من المسائل، في جواز الأخذ برخص العلماء إذا كان مما يسوغ الاجتهاد فيه فقد صحّ أن الإمام أحمد سئل عن مسألة في الطلاق فقال: ((إن فعل حنث)) فقال السائل: ((إن أفتاني إنسان: لا أحنث)) فقال: ((تعرف حلقة المدنيين؟)) قلت: ((فإن أفتوني حلّ)) ، قال ((نعم)) ، وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة فأدله على إنسان، هل علي شيء؟ قال: ((إن كان متبعاً أو معيناً فلا بأس، ولا يعجبني رأي أحد)) (3) .
وعقد الخطيب البغدادي (4)
__________
(1) انظر: البحر المحيط 6 / 326.
(2) انظر: روضة الطالين 8 / 101، المسوّدة ص 463، البحر المحيط 6 / 326.
(3) انظر: الإنصاف 8 / 428، شرح الكوكب المنير 4 / 589.
(4) هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الشافعي، أحد الحفاظ، صاحب ((الفقيه والمتفقه)) و ((تاريخ بغداد)) توفي سنة 463 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5 / 262، الأعلام 1 / 172.(11/156)
رحمه الله باباً في كتابه ((الفقيه والمتفقه)) سماه باب التمحل في الفتوى، فقال: ((متى وجد المفتي للسائل مخرجاً في مسألته، وطريقاً يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه، كرجل حلف أن لا ينفق على زوجته ولا يطعمها شهراً، أو شبه هذا، فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها، أو دين لها عليه، أو يقرضها ثمن بيوتها، أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن، وقد قال الله تعالى لأيوب عليه السلام لما حلف أن يضرب زوجته مئة (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ( [ص: 44] )) (1) ثم ساق الخطيب آثاراً كثيرة في هذا المعنى، وهذا هو الفقه، لا إفراط فيه ولا تفريط يقول النووي (2) : ((ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضرّه وأما من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان (3) : ((إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد)) )) (4) .
__________
(1) انظر: الفقيه والمتفقه 2 / 194.
(2) هو يحيى بن شرف الحوراني النووي الشافعي، صاحب ((المجموع شرح المهذب)) و ((شرح صحيح مسلم)) توفي سنة 676 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 618، الأعلام 8 / 149.
(3) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله، له ((الجامع الكبير)) و ((الجامع الصغير)) في الحديث توفي سنة 161 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 274، الأعلام 3 / 104.
(4) انظر: المجموع شرح المهذب 1 / 46.(11/157)
أما المذهبان الأولان فإنهما ليكادان يتساقطان من شدة الوهن، فالأول قال بالمنع، وبوجوب الاقتصار على مذهب واحد، وهذا القول مخالف للإجماع لأن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، بل هو مخيَّر، فإذا قلَّد إماماً بعينه، وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه، لاسيما الإجماع، لا يرفع إلا بما مثله في القوة (1) ، كذا قال الشيخ عز الدين (2) .
ثم إن السنة قد جاءت في إيقاع العبادات على أوجه متعددة، كالأذان، والإقامة، وأحاديث التشهد، وصلاة الخوف، وغيرها، فمن الأئمة من اقتصر على بعض تلك الوجوه، وترك الأخرى، لظنه أن السنة لم تأت به، أو أنه منسوخ، فالتزام مذهب معين قد يؤدي إلى هجر هذه السنن.
أما المذهب الثاني القائل بالجواز مطلقاً، فما سبق من كلام الأئمة في هذا المبحث، والمباحث الأخرى، كافٍ في الرد عليه.
وفي الجملة فالخير كل الخير في التوسط، وصدق المرداوي (3) حين قال: ((وهذا هو الصواب، ولا يسع الناس في هذه الأزمنة غير هذا)) (4) فنستدرك على الشيخ قائلين: ((بل لا يسع الناس في كل زمان غير هذا)) .
المبحث السابع: قاعدة مراعاة الخلاف
__________
(1) انظر: نفائس الأصول 9 / 4147.
(2) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن الحسن الشافعي، أبو أحمد، سلطان العلماء، صاحب ((قواعد الأحكام)) و ((الفتاوى)) توفي سنة 660 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 522، الأعلام 4 / 21.
(3) هو علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الحنبلي، أبو الحسن، علاء الدين، صاحب ((الإنصاف)) و ((شرح التحرير)) توفي سنة 885 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 8 / 510، الأعلام 4 / 292.
(4) انظر: التحبير شرح التحرير 8 / 4110، شرح الكوكب المنير 4 / 590.(11/158)
وتسمى أيضاً قاعدة: ((الخروج من الخلاف)) وصلتها بهذا البحث ما ذكره الشاطبي، أن هذه القاعدة أشكلت على طائفة من المالكية، منهم ابن عبد البرِّ، وذلك لأن قولنا: ((الخلاف لا يكون حجة)) يتناقض مع هذه القاعدة، لأن دليلي القولين لابد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما نقيض ما يقتضيه الآخر. ومراعاة الخلاف، يعني إعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر، أو بعض ما يقتضيه، وهذا تناقض (1) .
وهذا الإشكال وقع فيه بعض الأئمة من غير المالكية كابن أبي هريرة من الشافعية، وبعض الحنابلة (2) ، وسببه أنهم أطلقوا هذه القاعدة من عقالها، وطردوها في كل خلاف، بحيث إذا وقع خلاف فالخروج منه أفضل من التورط فيه مطلقاً.
وليس الأمر كذلك، فالقاعدة لها ضابط، وهو أن يكون دليل المخالف قوياً بحيث لا يبعد قوله كل البعد فحينئذ يستحب الخروج من الخلاف، حذراً من كون الصواب مع الخصم، لاسيما إذا قلنا بأن مدعى الإصابة لا يقطع بخطأ مخالفه، ومثاله: المضمضة والاستنشاق، فهما فرضان عند الحنفية والحنابلة (3) ، والتسمية في الوضوء، واجبة عند الحنابلة (4) ، فينبغي الخروج من الخلاف بفعلها.
أما إذا كان مأخذ المخالف واهناً، بعيداً عن الصواب، فلا ينظر إليه،
__________
(1) انظر: الموافقات 4 / 151.
(2) انظر: المنثور في القواعد للزركشي 1 / 244، جامع العلوم والحكم ص 126.
(3) انظر: شرح فتح القدير 1 / 50، المغني 1 / 138.
(4) انظر: المغني 1 / 73.(11/159)
ولا يعوَّل عليه، ومثاله ما ذكره ابن رجب: ((فيما ثبت فيه عن النبي ش رخصة ليس لها معارض، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء فامتنع منها لذلك، وهذا كمن تيقن الطهارة، وشك في الحديث، فإنه صح عن النبي ش أنه قال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) (1) ولاسيما إن كان شكه في الصلاة، فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي عنه)) (2) .
وهذا التفصيل المذكور هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره فإنه قال:
((يحدُّ من شرب النبيذ متأولاً، ولو رفع إلى الإمام من طلّق البتة، ثم راجعها متأولاً أن طلاق البتة واحدة، والإمام يرى أنها ثلاث لا تفرق بينهما، وقال: هذا غير ذاك، أمره بيِّن في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيح، وقال النبي (: ((كل مسكر حرام)) (3) فهذا بيِّن وطلاق البتة إنما هو شيء اختلف الناس فيه)) (4) .
ونصّ الشافعي في ((سير الواقدي)) - وهو من كتب ((الأم)) -: ((فإذا قُدِّم المرتد ليُقتل، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقتله بعض الولاة، فالذين لا يرون أن يستتاب المرتد فعلى قاتله الكفارة والدية، ولولا الشبهة لكان عليه القود وقد خالفنا في هذا بعض الناس)) (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن رقم (137) عن عبد الله بن زيد بن عاصم
(2) انظر: جامع العلوم والحكم ص 126، وانظر هذا التفضيل في البحر المحيط 6 / 265 قواعد الأحكام ص 183.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب الخمر من العسل رقم (5586) عن عائشة رضي الله عنها.
(4) نقله عنه ابن رجب من رواية الأثرم. انظر: جامع العلوم والحكم ص 473.
(5) انظر: الأم 4 / 294.(11/160)
والرافعي (1) رحمه الله ردّ على من اعترض على إيجاب الحدِّ على شارب النبيذ وهو مختلف عليه وعدم إيجابه على من وطئ امرأة في النكاح بلا ولي لشبهة الاختلاف فقال: ((أدلة تحريم النبيذ أظهر وأيضاً فإن الطبع يدعو إليه، فيحتاج إلى الزجر، ولهذا نوجبه على من يعتقد إباحته أيضاً، وهنا
بخلافه)) (2) .
أما ما ذكره الشاطبي من استشكال المالكية. فقد رد عليهم القرطبي المالكي (3) قائلاً: ((لذلك راعى مالك الخلاف، وتوهم بعض أصحابه أنه يراعي صورة الخلاف، وهو جهل، أو عدم إنصاف. وكيف هذا وهو لم يراع كل خلاف وإنما راعى خلافاً لشدة قوته)) (4) .
المبحث الثامن: ضوابط العمل بمسائل الخلاف
من تصدّى للإفتاء فليعلم أن الله تعالى أمره أن يحكم بما أنزل من الحق فيجتهد في طلبه، ونهاه عن أن يخالفه وينحرف عنه (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ( [المائدة: 49] فهو مخبر عن الله تعالى، ناقل عنه حكمة ولهذا جعل العلماء للإفتاء والعمل بمسائل الخلاف ضوابط شرعية حتى يكون سائغاً، وهذه الضوابط بعضها ينتهي إلى الوجوب والفرض، وأخرى تعود لدين العالم وإنصافه، ولا تعدوا أن تكون آداباً يتحلى بها المفتي في مواضع النزاع. وفي هذا المبحث جمعت ما استطعت جمعه من هذه الضوابط، إما من صريح أقوال الأئمة، أو من لوازمها، أو آداباً ذكروها في مسالة ((آداب
__________
(1) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي الشافعي، أبو القاسم، صاحب ((الشرح الكبير)) و ((الوجيز)) توفي سنة 623 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 189، الأعلام 4 / 55.
(2) انظر: الشرح الكبير 7 / 533.
(3) هو أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي المالكي، أبو العباس، صاحب ((المفهم شرح صحيح مسلم)) توفي سنة 656 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 7 / 373، الأعلام 1 / 186.
(4) نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 6 / 265.(11/161)
المفتي)) ، لكني أحسبها نافعة كل النفع في ضبط العمل بمسائل الخلاف، وإليكها بالتفصيل:
أولاً: وزن كل مسألة شرعية خلافية بميزان الشريعة، وردها إلى
كتاب الله تعالى، وسنة رسوله (، امتثالاً لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلاً ( [النساء: 59] والمعنى: رد النزاع والخصام إلى الكتاب والسنة، وهو قول جمهور المفسرين (1) ، ولو كان لأحد من الأئمة العصمة لأوجب رد ما تنازعوا فيه إليه، كما أوجب طاعتهم في صد الآية في قوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( [النساء: 59] .
واعلم علم اليقين أن هذا الضابط لا يخفى على مبتدئ في الطلب، فضلاً عن العلماء، ولكني أذكره تذكيراً لأن الالتزام به عسير إلا لمن يسره الله تعالى عليه، فنوازع النفوس، وحب الغلبة والظهور، والتعصب للآراء والمذاهب، كلها أدواء تجعل بينها وبين الحق حاجزاً، ورحم الله الشافعي إذ يقول:
((ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته)) (2) .
ثانياً: أن لا يخالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي السالم عن المعارض، فلا يجوز الإفتاء به، ولا نقله للناس بل لو قضى القاضي على خلاف هذه المسائل الأربعة لجاز نقضه فإذا كنا لا نقر حكماً قضى به القاضي، فمن باب أولى أن لا نقره إذا لم يقض به. ولا يعرى مذهب من المذاهب عن هذه المخالفة لكنه قد يقل ويكثر، والأئمة معذورون، مغفور لهم خطؤهم (3) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2 / 345.
(2) انظر: قواعد الأحكام 2 / 305.
(3) انظر: الفروق 2 / 109، نفائس الأصول 9 / 8418.(11/162)
فإذا لم نُجز نقل أقوالهم والافتاء بها مع علو مكانتهم وسعة علمهم، فمَن دونهم أولى بالتحريم، وأحرى بالإنكار، لاسيما بعد أن دونت المذاهب، وانتشرت الأقوال، وضبطت الأدلة.
وهذا الضابط هو أكثر الضوابط التي يقع فيها الخُلْف من بعض العلماء والدعاة، فكم من مسألة استقرّ العمل بها واستبان الحق فيها، بل وأجمعت الأمة عليها، ثم يغالطون هذا كله بالمخالفة بحجة أن الخلاف لا إنكار فيه.
لا. بل الإنكار هو المتعين، وبيان الحق هو الواجب وتختلف درجات الإنكار باختلاف الأشخاص والأحوال، فإهمال هذا الضابط يفضي إلى تمييع النصوص والاستهانة بالشرع، وفيه ما فيه على ما مرّ بك سابقاً.
ثالثاً: الحذر ثم الحذر من الأغلوطات التي نهى عنها النبي ش (1) ، يقول الخطابي: ((هي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة)) (2) ، فكم من فتوى ظاهرها جميل وباطنها مكرو وخداع وظلم، فيسألون عن مسائل خلافية لا لمعرفة الحق، بل لضرب الفتاوى بعضها ببعض، وإظهار العلماء على أنهم فريقان، فريق متشدد متنطع، وآخر سهل لين. وقد تكون الأغلوطة في اختيار وقت الفتوى، فيلقيها على المفتي وهو يعلم ما ستحدثه من ضغائن وأحقاد. ولا تتعجب فهؤلاء يخبؤن فتواهم لهذه الأغراض، وقد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثالهم، يقول مالك: ((قال رجل للشعبي (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا، رقم (3651) عن معاوية رضي الله عنه.
(2) انظر: عون المعبود 10 / 64.
(3) هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو، من فقهاء التابعين، توفي سنة 103 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2 / 24، الأعلام 3 / 251.(11/163)
: إني خبأت لك مسائل فقال: خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها)) (1) ، وإذا كان الأمر كذلك، كان الاحتياط والاحتراز هو المتعين، يقول ابن القيم: ((ينبغي له - أي للمفتي - أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم)) (2) .
رابعاً: وهذا الضابط يعود إلى دين المفتي وإنصافه، وهو مراعاة مذاهب الدول والبلدان، وما استقر فيها من عمل، إذا كان من الاجتهاد السائغ، فلا يصح أن يأتي من هو خارج عنهم فيشغب على أهلها وعلمائها، بفتاوى تثير البلبلة والتشويش، فعلماء البلد أعلم بأحوال أهلها، وأعرف بما ينفعهم ويضرهم، واستمع إلى ما نقله ابن تيمية في ((المسودة)) : ((حكى عن القاضي أبي يعلى أنه قصده فقيه ليقرأ عليه مذهب أحمد فسأله عن بلده فأخبره، فقال: إن أهل بلدك كلهم يقرأون مذهب الشافعي، فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ فقال له: إنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت، فقال له: إن هذا
لا يصلح، فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد، وباقي أهل البلد على مذهب الشافعي، لم تجد أحداً يعبد معك، ولا يدارسك وكنت خليقاً أن تثير خصومة ونزاعاً، بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى، ودلّه على الشيخ أبي إسحاق وذهب به إليه، فقال: سمعاً وطاعة، أقدمه على الفقهاء)) (3) ، وسياق القصة يغني عن أي تعليق.
__________
(1) انظر: الآداب الشرعية 2 / 56.
(2) انظر: إعلام الموقعين 4 / 229.
(3) المسوّدة ص 483.(11/164)
خامساً: إذا كان المختلفون في بلد واحد وتحت ظلِّ إمام واحد، فإن الخلاف يرتفع بحكم الحاكم، ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الإمام وهذا هو مذهب الجمهور (1) ، واستدلوا بحديث: ((أن ابن مسعود صلى أربعاً في منى مع عثمان، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً فقال:
الخلاف شر)) (2) .
وأيضاً ما روي عن أبي موسى (3) : ((أنه كان يفتي بالمتعة فقال رجل لأبي موسى: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس: من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له، فقال: أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال: (وأتموا الحج والعمرة لله ( [البقرة: 196] وأن تأخذ بسنة رسول الله (، فإن رسول الله (لم يحل حتى نحر الهدي)) (4) ، قال ابن هبيرة (5)
__________
(1) انظر: الفروق 2 / 103، المنثور في القواعد 1 / 345.
(2) الحديث أصله في الصحيح وورد بهذا اللفظ في سنن أبي داود، في كتاب المناسك، باب الصلاة في منى رقم (1958) .
(3) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن الأشعري، صحابي جليل، توفي بالكوفة سنة 42 هـ وقيل 44 هـ.
انظر ترجمته في: في أسد الغابة 3 / 364.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب في نسخ التحلل من الإحرام رقم (221) .
(5) هو يحيى بن محمد بن هبيرة الذهبي الشيباني، أبو المظفر، من كبار الوزراء في الدولة العباسية، فقيه أديب، له كتاب ((اختلاف العلماء)) و ((المقتصد)) في اللغة توفي سنة 560 هـ.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب 6 / 319، الأعلام 8 / 175.(11/165)
: ((يتعين على العالم إذا كان يفتي بما كان الإمام على خلافه مما يسوغ فيه الاجتهاد في مثل هذه المسألة وذلك الموطن أن يترك ما كان عليه ويصير إلى ما عليه الإمام)) (1) . وقد ذكر القرافي (2) - رحمه الله - أنه لولا هذا، الضابط لما استقرت للحكام قاعدة ولبقيت الخصومات، ودام التنازع والعناد، وهو مناف للحكمة التي لأجلها نصب الحكام. ثم إن الحاكم هو نائب لله تعالى، فهو مخبر عن الله بهذا الحكم الذي قضى به، وقد جعل الله له أن ما حكم به فهو حكمه، فهو كالنص الوارد من قبل الله تعالى في تلك الواقعة (3) .
سادساً: وهذا القيد مبني على قاعدة أصولية وهي: ((تجزؤ الاجتهاد))
أو ما نسميه في عصرنا هذا: ((التخصّص)) ، فجمهور الأصوليين على أن الاجتهاد ليس أمراً واحداً لا يقبل التجزئ والانقسام، بل قد يكون مجتهداً، أو متخصصاً في فن أو باب أو مسألة، دون فن أو باب أو مسألة (4) ، وإذا كان الأمر كذلك، كان على المفتي أن يراعي الفتاوى التي تصدر عن أهل الاختصاص، فلا يسارع إلى المعارضة والتشغيب، لاسيما إذا صدرت هذه الفتاوى من هيئات علمية عُرف حسن قصدها، وإخلاص علمائها، والغالب على هذه الهيئات أنها لا تصدر فتوى إلا بعد عرضها على من له صلة بها، كالأطباء إن كانت الفتوى تتعلق بمسألة طبية، أو الاقتصاديين إن كانت تتعلق بمسألة مالية.
__________
(1) انظر: الفروع 6 / 392.
(2) هو أحمد بن إدريس القرافي المالكي، أبو العباس، شهاب الدين، صاحب ((نفائس الأصول)) و ((الفروق)) توفي سنة 684 هـ.
انظر ترجمته في: الأعلام 1 / 95.
(3) انظر: الفروق 2 / 104، 105.
(4) انظر: تيسير التحرير 4 / 182، شرح الكوكب المنير 4 / 473، مجموع الفتاوى 20 / 212، شرح تنقيح الفصول ص 438.(11/166)
سابعاً: أن المفتي إذا أتى شيئاً مما يظنه الناس شبهة وهو عنده حلال في نفس الأمر، فمن كمال دينه وحسن إنصافه أن يتركه، استبراءً لعرضه لحديث ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) وروى أن أنساً (1) رضي الله عنه خرج إلى الجمعة فرأى الناس قد صلوا ورجعوا فاستحيا ودخل موضعاً
لا يراه الناس فيه وقال: ((من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله)) (2) .
وإذا لم يكن تركاً وبعداً، فليكن إمساكاً عن الافتاء به، ونقله عن الأئمة، لاسيما إذا كانت المسألة من المستقبحات؛ لهذا يقول الإمام أحمد: ((من أراد أن يشرب النبيذ فليشربه لوحده)) (3) وكان رحمه الله يكره أن يحكي عن الكوفيين والمدنيين والمالكيين المسائل المستقبحة، مثل مسالة النبيذ، والصرف، والمتعة، وفحاش النساء.
ثامناً: أن ينظر المفتي إلى قواعد الشريعة ومقاصدها، وأثر فتواه على هذه القواعد والمقاصد، ومن ذلك ما حكي عن الشيخ ابن عبد السلام حين سئل: لماذا أجزنا أن يصلي الشافعي خلف المالكي وإن خالفه في بعض الفروع كمسح الرأس، ولا نجيز للمختلفين في جهة الكعبة أن يقلدوا واحد منهم الآخر؟ فأجاب: ((الجماعة في الصلاة مطلوبة لصاحب الشرع، فلو قلنا بالمنع من الائتمام لمن يخالف في المذهب وأن لا يصلي المالكي إلا خلف المالكي، ولا شافعي إلا خلف شافعي لقلَّت الجماعات، وإذا منعنا ذلك في القبلة ونحوها لم يخلّ ذلك بالجماعات كبير خلل لندرة وقوع مثل هذه المسائل، وكثرة وقوع الخلاف في مسائل الفروع)) (4)
__________
(1) هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله ش، توفي سنة 91 هـ وقيل 92 هـ.
انظر ترجمته في: أسد الغابة 1 / 294.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم ص 89.
(3) انظر: الآداب الشرعية 1 / 132.
(4) انظر: الفروق 2 / 100.
المصادر والمراجع
- الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي (ت 763 هـ) ، الناشر دار الكتب العلمية.
- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين ابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) تحقيق: علي معوّض - عادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
- أصول ابن مفلح، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي (ت 763 هـ) ، تحقيق: الدكتور فهد السدحان، مكتبة العبيكان، الرياض 1420 هـ.
- الأعلام، لخير الدين الزركلي، الطبعة الثامنة، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) ، دار الجيل، بيروت - لبنان.
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لشمس الدين ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) ، تحقيق: خالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي.
- الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) ، الناشر: دار المعرفة.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ) ، تحقيق: محمد حامد فقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
- البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (ت 794 هـ) ، راجعه: الدكتور عمر الأشقر، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت 1409 هـ.
- التحبير شرح التحرير، لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885) تحقيق: د/ عبد الرحمن الجبرين، د/ عوض القرني، د/ أحمد السراج، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض.
- تفسير الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت.
- تفسير ابن كثير، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي (ت 774 هـ) ، تحقيق: ساهي السلامة، دار طيبة للنشر - السعودية.
- تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لزين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) ، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الناشر: دار بن عفان، الخبر - السعودية.
- تيسير التحرير على كتاب التحرير، لابن الهمام (ت 861 هـ) ، لمحمد أمين المعروف بأمين بادشاه، دار الفكر.
- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) ، تحقيق: خالد العلمي، زهير الكلبي، دار الكتاب العربي - بيروت.
- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (ت 463 هـ) ، دار الفكر - بيروت.
- جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج زين الدين بن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) ، تحقيق: خليل منصور، الناشر: دار الكتب العلمية.
- روضة الطالبين، لأبي زكريا يحيى النووي (ت 676 هـ) ، الناشر: دار الكتب العلمية.
- سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
- سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت 275 هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1418 هـ.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لشهاب الدين عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1032 هـ) ، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير - دمشق، بيروت.
- شرح الكوكب المنير في أصول الفقه، لمحمد بن أحمد ابن النجار الحنبلي
(ت 972 هـ) ، تحقيق: الدكتور محمد الزحيلي والدكتور: نزيه حماد، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي - مكة المكرمة.
- شرح اللّمع، لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي (ت 469 هـ) ، تحقيق: عبد المجيد تركي، الناشر: دار الغرب الإسلامي
- صحيح البخاري مع شرح فتح الباري، لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، دار صادر.
- صحيح مسلم مع شرح النووي، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- العزيز شرح الوجيز، المعروف بالشرح الكبير، لأبي القاسم عبد الكريم الرافعي (ت 623 هـ) ، الناشر: دار الكتب العلمية.
- الفتاوى الكبرى، لتقي الدين ابن تيمية (ت 728 هـ) ، تحقيق: محمد ومصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر.
- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) ، تحقيق: طارق عوض الله محمد، دار ابن الجوزي.
- الفروع، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي (ت 762 هـ) ، تحقيق: أبي الزهراء حازم القاضي، الناشر: دار الكتب العلمية.
- الفروق، لشهاب الدين أبي العباس القرافي (ت 684 هـ) ، الناشر: دار المعرفة، بيروت.
- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت.
- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري (ت 122هـ) مطبوع بذيل المستصفى، دار العلوم الحديثة، بيروت.
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين بن عبد السلام السلمي (ت 660) ، الناشر: مؤسسة الريّان.
- المجموع شرح المهذب، لأبي زكريا محيي الدين النووي (ت 676 هـ) ، الناشر: المكتبة السلفية.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، لتقي الدين ابن تيمية (ت 728 هـ) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد النجدي
المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ) ، دار العلوم الحديثة، بيروت.
- المسوّدة في أصول الفقه، لمجد عبد السلام بن عبد الله بن تيمية وشهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية وشيح الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر.
- معالم السنن شرح سنن أبي داود، لأبي سليمان الخطابي (ت 388 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.
- المنثور في القواعد، لأبي عبد الله محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد إسماعيل، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.
- منهاج السنة النبوية، لتقي الدين أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) ، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم.
- الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) ، الناشر: دار المعرفة، بيروت.
- نفائس الأصول في شرح المحصول، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684 هـ) ، تحقيق: عادل عبد الموجود - علي معوض، مكتبة نزار الباز مكة المكرمة.(11/167)
ولله درُّ الشيخ، فهذا هو الفقه، فمن أعظم مقاصد الشريعة، تأليف القلوب، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف والفقيه عليه أن يراعي هذه المقاصد في فتاواه ما استطاع من مراعاة، ييسر إذا اقتضى المقام التيسير، ويشدِّد إذا اقتضى الحال التشديد وينظر إلى أثر هذه الفتوى على هذه المقاصد.
هذا ما تيسّر جمعه في هذا المبحث، وهو آخرها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/168)
مصطلح رواه الجماعة عند الحنابلة
د. عبد الرحمن بن علي بن سليمان الطريقي
أستاذ مساعد - قسم الدراسات الإسلامية- كلية التربية
جامعة الملك سعود - الرياض
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا البحث يتناول مصطلحاً خاصاً بفقه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى المنقول عنه مباشرة، وقد جاء التعبير عن هذا المصطلح (رواه الجماعة) بصيغ متعددة في كتب المذهب الحنبلي، تعود جميعها إلى معنى واحد.
وقد وضع هذا المصطلح تلميذ تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أبو بكر الخلال؛ حيث عبّر به في ديوانه العظيم (الجامع) الذي جمع فيه روايات الإمام أحمد من فيّ تلاميذ الإمام مباشرة أو بواسطة.
ويعني بهذا المصطلح (رواه الجماعة) أن الرواية نقلها عن الإمام أحمد في تلك المسألة جمع من تلاميذ الإمام يصدق عليهم وصف الجماعة من غير تحديد بعدد أو معدود محددين.
وهذا ما سار عليه من جاء بعد الخلال من فقهاء الحنابلة، ولم يعرف تحديد هذا المصطلح بعدد ومعدود محددين إلا عند بعض متأخري الأصحاب.
ويظهر مما تقدم أن مصطلح (رواه الجماعة) بدأ مع بدايات تدوين فقه الإمام أحمد - رحمه الله-
مقدمة
إن الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (1) ، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
__________
(1)
الحواشي والتعليقات
() ... هذه خطبة الحاجة كما في مسند الإمام أحمد، 1/302.(11/169)
فإن المصطلح علم وفن قائم بنفسه، مختلف باختلاف العلوم وتنوعها، فلكل علم اصطلاحاته التي تخصه، فهو علم يكشف المعاني، ويزيل الغموض، ليدل على مفهوم يتناوله عند إطلاقه، وهو وسيلة ومفتاح للعلم، وضرورة علمية، به تلتقي العقول على دلالات واضحة تنفي اللبس وتدفع الوهم، وهذا دليل أهميته وبرهان منزلته.
والمصطلحات قد تكون عامة أو خاصة، شرعية أو وضعية، وقد اعتنى العلماء واهتموا بهذه المصطلحات، فصنفوا مصنفات عظيمة، منها مصنفات اعتنت بمصطلحات العلوم عامة ككتاب (التعريفات) (1) ،وكتاب (الكليات) (2) وكتاب (كشاف اصطلاحات الفنون) (3) ، ومنها ما هو خاص بفن أو علم من العلوم، ومن تلك العلوم التي لها مصطلحاتها الخاصة: العلوم الشرعية على اختلافها، ومما صنف فيها على سبيل المثال: (المفردات في غريب القرآن) (4) ، ولدى المحدثين علم (مصطلح الحديث) وفيه مصنفات كثيرة من أشهرها كتاب: (علوم الحديث) (5) ، وفي الفقه نجد كتباً عدة ألفت على اختلاف المذاهب الفقهية منها: كتاب (طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية) (6) عند الحنفية (7)
__________
(1) ... للجرجاني، علي بن محمد، وهو مطبوع.
(2) لأبي البقاء الكفوي، وهو مطبوع.
(3) للتهاوني، محمد بن علي، وهو مطبوع.
(4) للراغب الأصفهاني، وهو مطبوع.
(5) وهو المعروف ب (مقدمة ابن الصلاح) ، وقد تناوله العلماء بالاختصار والشرح، ككتاب العراقي المسمى: (التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح) ، وقد اختصره العلامة النووي في كتابه المسمى: (التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير) والذي شرحه السيوطي في كتابه المسمى: (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي) .
(6) لنجم الدين النسفي الحنفي، وهو كتاب عني بالاصطلاحات الفقهية المتداولة في كتب فقهاء الحنفية. وهو مطبوع.
(7) ذكر ابن عابدين في مقدمة حاشية رد المحتار على الدر المختار شيئاً من المصطلحات الفقهية عند الحنفية.(11/170)
وعند المالكية كتاب: (الحدود) (1) وغيره، وعند الشافعية كتاب (حلية الفقهاء) (2) وغيره، وعند الحنابلة كتاب: (تهذيب الأجوبة) (3) ، و (المطلع على أبواب المقنع) (4) وغيرهما (5) (6) ، والمذهب الحنبلي شأنه شأن المذاهب الفقهية الأخرى، له اصطلاحاته الخاصة بإمامه وأصحابه، ومن جملتها مصطلح (رواه الجماعة) .
وكنت أثناء إعداد رسالتي للدكتوراه أرى هذا المصطلح (رواه الجماعة) يتكرر كثيراً في كثير من مدونات الحنابلة الفقهية، لكن هذا المصطلح لم يحض بعناية الباحثين فيما اطلعت عليه الذين قاموا بتحقيق تراث المذهب الحنبلي في رسائل علمية أو غيرها، فأشكل عليّ كثيراً وبخاصة إذا جاء تفسير المصطلح متفاوتاً عند بعض المصنفين مما يجعل الباحث في حيرة عند إرادة تحديد المراد به؛ لهذا كان هذا البحث المتواضع، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
__________
(1) لابن عرفه المالكي، وقد طبع مع شرح العلامة محمد الأنصاري المعروف بالرصاع.
(2) 10) لأحمد بن فارس الرازي، شرح فيه غريب ألفاظ مختصر المزني، وقد طبع بتحقيق د. عبد الله التركي.
(3) 11) لأبي عبد الله، الحسن بن حامد. وهو مطبوع.
(4) 12) لمحمد بن أبي الفتح البعلي، وهو مطبوع.
(5) 13) هناك مصنفات معاصرة في الاصطلاحات الفقهية، منها: معجم لغة الفقهاء، د. محمد رواس قلعه جي، ود. حامد صادق، والقاموس الفقهي، سعدي أبو حبيب، وبحوث للدكتور محمد إبراهيم علي منها: (المذهب عند الحنفية) ، و (اصطلاح المذهب عند المالكية) ، وللشيخ بكر أبو زيد كتاب: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب.
(6) 14) انظر: فقه النوازل للشيخ بكر أبو زيد، مبحث (المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغى) ، 1/101، 149، ومقدمة د. رضوان غربية في تحقيقه للدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي، 1/101، 132.(11/171)
وقد انتظمت خطة البحث على مقدمة وتمهيد وموضوع؛ أما المقدمة ففي بيان أهمية هذا الموضوع وسبب البحث فيه، وأما التمهيد ففي بيان معنى الرواية والجماعة، وأما الموضوع ففي الفصول الآتية:
الفصل الأول: في صيغه.
... الفصل الثاني: في نشأة مصطلح (رواه الجماعة) .
الفصل الثالث: في واضع هذا المصطلح، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: من وضعه؟
المبحث الثاني: ترجمته.
الفصل الرابع: المراد به عند الحنابلة.
الفصل الخامس: فائدة التعبير به.
ثم ذيلت ذلك بخاتمة بينت فيها أهم النتائج في الفصول السابقة.
وفي الختام، فإن هذا العمل لا أدعي له الكمال والعصمة، وحسبي أني اجتهدت قدر طاقتي ووسعي مبتغياً الصواب مجتنباً خلافه، فإن كان ما أردت فلله الحمد أولاً وآخراً، وإن كانت الأخرى فأستغفر الله، وأنا عائد للصواب بإذنه تعالى، فلا تبخل أيها الأخ الباحث، والقارئ الفاحص بما ظهر لك وهديت إليه على أخيك، وجزاك الله خيراً، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تمهيد:
وفيه مباحث:
المبحث الأول: معنى الرواية، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الرواية لغة.
الرواية: مصدر رَوَى يَرْوِي رِواية، وتطلق الرواية ويراد بها تحمل الحديث أو الشعر ونحوهما، ونقله
جاء في لسان العرب (1) : «ويقال: روَّى فلان فلاناً شعراً إذا رواه له حتى حفظه للرواية عنه» .
وفي المصباح المنير (2) : «رويت الحديث: إذا حملته ونقلته ... » .
«وروَّاه الشعر تَرْوِ يةً، وأروَاه أيضاً: حَمَله على رِوَايته» (3) .
المطلب الثاني: معنى الرواية اصطلاحاً:
__________
(1) 15) لابن منظور، 14/348، وانظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، ص1665، والمعجم الوسيط، ص384.
(2) 16) للفيومي، ص129.
(3) 17) مختار الصحاح، للرازي، ص265.(11/172)
يختلف المعنى الاصطلاحي للرواية تبعاً لاختلاف الفنون، فعلى سبيل المثال الرواية تختلف عند المحدثين عنها عند الفقهاء، فعلم الرواية عند المحدثين (1) هو: «علم يشتمل على أقوال النبي (وأفعاله، وروايتها، وضبطها، وتحرير ألفاظها» (2) .
وأما علم الرواية عند الفقهاء فيختلف باختلاف المذاهب، ففي المذهب الحنبلي الرواية هي: ما نقلت نصاّ عن الإمام أحمد (3) ، أو إيماء أو تخريجاً.
جاء في المسودة (4) : «الروايات المطلقة نصوص للإمام أحمد» .
__________
(1) 18) يقسم علم الحديث إلى قسمين: 1 علم الرواية، وهو كما سبق ذكره أعلاه. 2 علم الدراية، وهو: «علم يعرف منه حقيقية الرواية، وشروطها، وأنواعها، وأحكامها، وحال الرواة، وشروطهم، وأصناف المرويات، وما يتعلق بها» . تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للسيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، 1/40.
(2) 19) تدريب الراوي، 1/40.
(3) 20) انظر: الإنصاف، للمرداوي بتحقيق د. عبد الله التركي، 30/382، والمطبوع مع المقنع والشرح الكبير.
(4) 21) لآل تيمية، ص474، وانظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، لابن بدران، تحقيق د. عبد الله التركي، ص138، ومقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي، علي الهندي، ص12.(11/173)
وقال ابن حمدان (1) : «ثم الرواية قد تكون نصاً، أو إيماءً، أو تخريجاً من الأصحاب» (2)
وفي شرح المنتهى (3) : «الحكم المروي عن الإمام في مسألةٍ يسمى رواية» .
وفي المذهب الحنفي نجد ما يسمى ب (ظاهر الرواية) ، «وهي مسائل رويت عن أصحاب المذهب، وهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف (4) ، ومحمد (5) رحمهم الله تعالى ... » (6) .
__________
(1) 22) هو: أبو عبد الله، أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان الحراني، النميري، الحنبلي، شيخ الفقهاء، وصاحب الرعايتين، وإليه انتهت معرفة المذهب، نزل القاهرة، ولد سنة 603هـ، وتوفي سنة 695هـ. انظر: العبر في خبر من غبر، 3/385، والذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، 2/331، والمنهج الأحمد، 4/345، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، 5/428.
(2) 23) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، بتعليق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ص114، وانظر مقدمة د. ناصرالميمان في تحقيقه لكتاب التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح، للشويكي، 1 / 115.
(3) 24) للبهوتي، 1 / 8.، وانظر: المطلع على أبواب المقنع، للبعلي، ص 460.
(4) 25) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد الأنصاري، كان من أهل الكوفة وهو صاحب أبي حنيفة، صحبه سبع عشرة سنة، له تصانيف منها الخراج، وتوفي سنة 182هـ. انظر وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق أحمد عباس 6/378.
(5) 26) هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، أبو عبد الله الكوفي، ولد بواسط ونشأ بالكوفة، أخذ عن أبي حنيفة بعض الفقه، وأتمه على القاضي أبي يوسف، توفي سنة 189هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 9/135 وما بعدها.
(6) 27) مجموعة رسائل ابن عابدين، ص16، من رسالته الموسومة ب (شرح المنظومة المسماة بعقود المفتي) .(11/174)
وقد يلحق بهم غيرهم، «ولكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة، وكتب ظاهر الرواية كتب محمد الستة: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسير الصغير، والجامع الكبير؛ وإنما سميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن محمدٍ بروايات الثقات، فهي ثابتةٌ عنه إما متواترة أو مشهورة عنه» (1) .
ومما تقدم يظهر الفرق بين معنى الرواية عند الحنابلة عنها عند الحنفية، فعند الحنابلة تطلق على ما روي عن الإمام أحمد رحمه الله فحسب، وعند الحنفية تطلق في الغالب على ما روي عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.
المبحث الثاني: معنى الجماعة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الجماعة لغة:
الجماعة: تطلق على الجماعة من الناس وغيرهم، يقال: جَمَع الشيء المفترق فاجتمع، وتجمَّع القوم إذا اجتمعوا من هنا وهنا (2) .
جاء في المصباح المنير (3) : «والجماعة من كل شيء يطلق على القليل والكثير» .
المطلب الثاني: معنى «رواه الجماعة عند المحدثين» (4) .
__________
(1) 28) حاشية رد المحتار، لابن عابدين، 1 / 69. وجاء في رسالته الموسومة ب (شرح المنظومة المسماة بعقود المفتي) ص 16 ذكر هذه الكتب في قوله:
وكتب ظاهر الروايات أتت
صنّفها محمد الشيباني
الجامع الصغير والكبير
ثم الزيادات مع المبسوط.
ستاً وبالأصول أيضاً سميت
حرر فيها المذهب النعماني
والسير الكبير والصغير
تواترت بالسند المضبوط.
(2) 29) مختار الصحاح، للرازي، ص110، وانظر: لسان العرب، 8 / 53، والقاموس المحيط، ص917.
(3) 30) ص60، 61.
(4) 31) لعل ابن مندة المتوفى سنة (395هـ) من أقدم من عبر بهذا المصطلح، كما في كتابه الإيمان، 1/ 181، ويعنى به جمعاً من أئمة الحديث من أصحاب المصنفات كالبخاري ومسلم وغيرهما، غير أني لم أقف على وجه الدقة منهم الجماعة الذين يقصدهم في كتابه.(11/175)
يختلف المراد بهذا المصطلح باختلاف المصنفين في علم الحديث في تحديده عدداً أو معدوداً، فعند بعضهم يطلق الجماعة على ستة من الرواة (1) ، وهم: البخاري، ومسلم، ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
ويطلق عند بعضهم (2) على سبعة من الرواة، وهم: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه.
وهذا يعنى أنه ليس هناك ضابط محدد ينصرف إليه المصطلح عند إطلاقه لدى المحدثين، بل لابد لمعرفة المقصود به من النظر إلى قصد مؤلفه وتحديد المراد به لديه.
الفصل الأول: صيغ مصطلح (رواه الجماعة) .
للتعبير عن هذا المصطلح صيغ عديدة، لكنها تدل على معنى واحد، وهي:
1 صيغة (رواه الجماعة) ، وقد عبر بهذه الصيغة الخلال (3) ، وكذلك عبر عنها بقوله: «على ما روى عنه الجماعة» . أو قوله: «روى عنه هؤلاء الجماعة» (4) .
وقد درج على التعبير بذلك الأصحاب في مصنفاتهم (5) .
2 وفي معنى الصيغة المتقدمة ما عبر به بعض الأصحاب عنه بقولهم: (نقل الجماعة) أو (نقلها الجماعة) (6) .
__________
(1) 32) مثل ابن الأثير، مبارك بن محمد الجوزي (ت606هـ) في كتابه: جامع الأصول من أحاديث الرسول (، 1 / 27، 28 بإشراف وتصحيح عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي.
(2) 33) وهو أبو البركات، مجد الدين عبد السلام بن تيمية، في كتابه المنتقى من أخبار المصطفى (، 1/ 3، بتحقيق محمد حامد الفقي.
(3) 34) ستأتي ترجمته في ص: 16 وما بعدها من هذا البحث.
(4) 35) انظر فيما تقدم: أهل الملل والردة والزنادقة من الجامع، للخلال، تحقيق د. إبراهيم السلطان، 1/83، 100، 169، 280، 301، 311.
(5) 36) انظر: ص: 12، 13 من هذا البحث.
(6) 37) انظر: الروايتين، 1/64، 65، 66 وغيرها كثير، والانتصار، 2/151، وشرح العمدة (كتاب الصيام) ، 1/77، والاختيارات الفقهية، ص 182، والإنصاف، 7/217، 8/231.(11/176)
3 صيغة (رواه جماعة) أو (نقل جماعة) والتعبير بهذه الصيغة المجردة من «أل» كثير في مصنفات الأصحاب (1) .
وهذه الصيغة تأتي بمعنى (رواه الجماعة) ، وقد يراد بها معنى آخر تكون في مقابلة رواية أخرى رواها جماعة آخرون (2) ، ونحو ذلك، ومما يدل على أنها تأتي بمعنى (رواه الجماعة) ما يأتي:
أجاء في المغني (3) في مسألة «الذمي إذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل، سواء كان المعتق مسلماً أو كافراً» قول الموفق (4) : «هذا الصحيح عن أحمد، رواه جماعة ... » . ثم ذكر الموفق عن أحمد رواية أخرى، وعقب بقوله: «وهَّن الخلال هذه الرواية، وقال هذا قول قديم، رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه الجماعة ... » .
__________
(1) 38) انظر على سبيل المثال: الروايتين، 1/76، 77، 88، 2/ 98، والمغني،2/166، 284، 446، 5/307، والمحرر، 2/188، والشرح الكبير، 3/620، وشرح العمدة (كتاب الحج) ، 2/104، 3/71، 343، وأحكام أهل الذمة، 2/792، والفروع، 2/210، 213، وشرح الزركشي، 1/411، 426، 5/173، والذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، 1/72، والمبدع، 1/512، والإنصاف، 2/166 4/30، 7/298، والمنهج الأحمد 3/11.
(2) 39) ... انظر: أهل الملل والردة، 2/520، والروايتين، 2/61، والمغني، 12/14.
(3) 40) ... لابن قدامة، بتحقيق د. عبد الله التركي ود. عبد الفتاح الحلو، 13/223.
(4) 41) ... هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي، موفق الدين، أبو محمد، ولد سنة 541 هـ، بجماعيل، كان شيخ الحنابلة في عصره، له تصانيف كثيرة منها: المغني، والكافي وغيرهما. توفي سنة 620 هـ. الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، 2/133142.(11/177)
فهنا الموفق عبر في صدر المسألة بقوله: (رواه جماعة) ، وحين نقل كلام الخلال جاء فيه: «والعمل على ما رواه الجماعة» . وهذا يدل على اتحاد الصيغتين في المعنى؛ وإلا لما عبر الموفق بذلك والله أعلم.
ب جاء في المغني (1) في حدِّ العورة للرجل: « ... فالكلام في حد العورة، والصالح في المذهب أنها من الرجل ما بين السُّرَّة والرُّكبة. نصَّ عليه أحمد في رواية جماعة ... » .
وفي الإنصاف (2) : «الصحيح من المذهب أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة. وعليه جماهير الأصحاب. نص عليه في رواية الجماعة» .
ومثله أيضاً ما جاء في المغني (3) : «ولا تكره قراءة أواخر السُّور وأوساطها في إحدى الروايتين. نقلها عن أحمد جماعة ... » .
وفي الإنصاف (4) : «قوله: ولا يكره قراءة أواخر السور وأوساطها. هذا المذهب. نقله الجماعة ... » .
ج قال ابن القيم (5) في معرض حديثه عن مسقطات وجوب الختان: «أن يُسلم الرجل كبيراً ويخاف على نفسه منه، فهذا يسقط عنه عند الجمهور، ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه» (6) .
وجاء في الفروع (7) في كلامه عن هذه المسألة، وبعد ذكره للروايات قال: «قال أبو بكر: والعمل على ما نقله الجماعة، وأنه متى خشي عليه لم يختتن ... » .
__________
(1) 42) 2/284.
(2) 43) 3/200.
(3) 44) 2/166.
(4) 45) 3/619.
(5) 46) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الزرعي ثم الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، ولد سنة 691 هـ وتوفي سنة 751 هـ، له مصنفات عديدة منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد، وغيرهما. الذيل على طبقات الحنابلة، 2/ 147 وما بعدها.
(6) 47) تحفة المودود بأحكام المولود، تحقيق محمد أبو العباس، ص136.
(7) 48) 1/133، وانظر: المبدع، 1/104، والإنصاف، 1/268.(11/178)
د جاء في شرح الزركشي (1) : «ونقل عنه جماعة: أن من ملك خمسين درهماً، أو قيمتها من الذهب وإن كان حلياً، فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية ... » (2) .
وفي الفروع (3) : «ونقل الجماعة (4) : لا يأخذ من ملك خمسين درهماً أو قيمتها ذهباً وإن كان محتاجاً ... » .
هـ جاء في أهل الملل والردة، للخلال (5) في مسألة تزوج المسلم بأمة كتابية أن الجماعة نقلوا منعه عن الإمام أحمد.
وفي المغني (6) حين ذكر رواية منع المسلم من التزوج بأمة كتابية قال: «هذا ظاهر مذهب أحمد، رواه عنه جماعة» .
ومما تقدم عرضه من النصوص نجد أن التعبير بصيغة (رواه جماعة) ونحوها يأتي بمعنى (رواه الجماعة) ، حيث عبر بعض الأصحاب في المسائل المتقدمة بإحداهما، بينما عبر آخرون بالأخرى، وهذا يدل على عدم التفريق بينهما، وأن التعبير بهما سائغ لإفادته معنى الآخر؛ وإلا لما عبروا بذلك. والله أعلم.
الفصل الثاني: نشأة هذا المصطلح (رواه الجماعة)
__________
(1) 49) ... هو محمد بن عبد الله بن محمد الزَّرْكشي، الحنبلي، كان إماماً في المذهب، له تصانيف مفيدة، من أشهرها (شرح الخرقي) ، توفي سنة 772هـ، انظر: المنهج الأحمد، 5/137 وما بعدها، وشذرات الذهب، لابن العماد، 6/224 وما بعدها.
(2) 50) على مختصر الخرقي، تحقيق د. عبد الله الجبرين، 2/444، وانظر: تصحيح الفروع، 2/589، وما بعدها.
(3) 51) 2/589، وانظر: الإنصاف، 7/217، وقارنه مع تصحيح الفروع، 2/589.
(4) 52) وقد عبر بعض الأصحاب عن ذلك بقولهم: نقل أو روى عنه أكثر أصحابه. مما يعطي دلالة على أن هذا المصطلح يفيد هذا المعنى الذي عبر به بعض الأصحاب.
... انظر: الهداية، 1/81، والإفصاح، 1/229، والمستوعب، 3/367. والمبدع، 2/417.
(5) 53) 1/280، وانظر: ص 21 من هذا البحث.
(6) 54) 9/554.(11/179)
كان الإمام أحمد لا يرى تدوين فقهه بل منع من تدوينه، وشدَّد في نهيه، فلم يكن رحمه الله يرى تدوين الرأي، وكان يحث على الرجوع إلى الدليل والأخذ منه، والاعتماد عليه لا على رأيه وفتواه، فلم يصنف كتاباً مستقلاً في الفقه (1) . قال المَرُّوذِي (2) : «وسألته عن أبي بكر الأثرم (3) ، قلت: نهيت أن يكتب عنه؟ قال: لم أقل إنه لا يكتب عنه الحديث، إنما أكره هذه المسائل» (4) .
__________
(1) 55) انظر: مسائل أحمد، لابن هانئ، 2/164167. ومسائل أحمد رواية عبد الله، 3/1309 وما بعدها. وطبقات الحنابلة، 1/3957120214. وشرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق التركي 3/626. والإنصاف، 30/367. وشرح الكوكب المنير، لابن النجار، تحقيق الزحيلي وآخر، 4/496. والمدخل، لابن بدران، تحقيق التركي، ص123، ومقدمة محقق شرح الزركشي، د/ عبد الله الجبرين 1/12.
(2) 56) هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، أبو بكر، هو المقدم من أصحاب الإمام أحمد لورعه وفضله، وكان الإمام يأنس به وينبسط إليه، وهو الذي تولى إغماضه لما مات وغسّله، له تصانيف عديدة، ومسائل كثيرة رواها عن أحمد، ولد في حدود المائتين، وتوفي سنة 275 هـ.
... انظر: طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، 1/5661، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 13/173، وما بعدها، وتذكرة الحفاظ، للذهبي، 2/631.
(3) 57) هو: أبو بكر، أحمد بن محمد بن هانئ، الإسكافي الأثرم، الطائي، الإمام الحافظ، تلميذ أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، له مصنفات كثيرة، كان له تيقظ عجيب، توفي في حدود 261 هـ، أو بعدها. انظر: الطبقات، 1/66، والسير، 12/623، وتذكرة الحفاظ، 2/570.
(4) 58) الجامع في العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله، والمروذي، وصالح، والميموني، طبع بعناية حسام بيضون، 1/42.(11/180)
وقال ابن الجوزي (1) : «وكان ينهى الناس عن كتابة كلامه، فنظر الله تعالى إلى حسن قصده، فنقلت ألفاظه وحفظت، فقل أن تقع مسألة إلا وله فيها نص من الفروع والأصول، وربما عدمت في تلك المسألة نصوص الفقهاء الذين صنفوا وجمعوا» (2) .
ويقول ابن القيم (3) : «وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جداً» .
__________
(1) 59) هو: أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي، من نسل أبي بكر الصديق، المعروف بابن الجوزي، البغدادي الحنبلي، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم، توفي سنة 597هـ.
... انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، 1/399، وشذرات الذهب، 4/329.
(2) 60) مناقب الإمام أحمد، ص 191.
(3) 61) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 1/28.(11/181)
وقد كان الطريق في الغالب إلى فقه الإمام رحمه الله نقلة المسائل ورواتها عنه، وهم كثير (1) ، وقد تلقى هذه المسائل عن تلاميذ الإمام تلاميذهم مما هيأ نشأة هذا المصطلح وبروزه، وبخاصة أن الرواية في ذلك العصر هي السائدة تلقياً وتصنيفاً، فتلقى الخلال هذه المسائل من رواتها، وسافر في تحصيلها، حتى جمع قدراً كبيراً من مسائل الإمام أحمد رحمه الله، فصنفها، وبوَّبها على أبواب العلم، ومن ثم نراه يستخدم هذا المصطلح للدلالة على كثرة الرواة عن الإمام أحمد في المسألة المنقولة عنه، في كتابه (الجامع) (2) ، ومن هنا بدء هذا المصطلح نشأته في الفقه الحنبلي، وقد تتابع الأصحاب في مصنفاتهم على استخدام هذا المصطلح، والتعبير به بعد الخلال، فقد ورد ذكره في الكتب الآتية على سبيل المثال:
1 كتاب الروايتين والوجهين (3) ، وهو فيه كثير (4) .
2 التعليق الكبير في المسائل الخلافية (5) .
3 الأحكام السلطانية (6) .
__________
(1) 62) انظر: طبقات الحنابلة، المجلد الأول حيث فرغه لتلاميذ الإمام أحمد. وصفة الفتوى، لابن حمدان، ص 7980. والإنصاف، 30/418.
(2) 63) انظر: أهل الملل والردة والزنادقة من الجامع، 1/83100311؛ ولجامع الخلال أسماء عدة منها: الجامع في الفقه، والجامع لعلوم أحمد، والجامع الكبير. انظر: الطبقات، 2/12. والمناقب، ص 512. وإعلام الموقعين، 1/28. وسير أعلام النبلاء، 14/297. والبداية والنهاية، 11/159. والمنهج الأحمد، 2/205. والمدخل، ص 124.
(3) 64) للقاضي أبي يعلى، محمد بن الحسين الفراء.
(4) 65) انظر على سبيل المثال: 1/64، 79, 84،97،117،140،204،341،2/11، 36، 72، 121، 182، 255،312.
(5) 66) للقاضي أبي يعلى، انظر: كتاب الحج من التعليق بتحقيق د. عواض العمري، 2/550، 508، 714.
(6) 67) للقاضي أبي يعلى، انظر: ص155، 261، بتحقيق: محمد حامد الفقي.(11/182)
4 الجامع الصغير (1) .
5 الانتصار في المسائل الكبار (2) .
6 المغني (3) .
7 العدة في شرح العمدة (4) .
8 الشرح الكبير (5) .
9 شرح العمدة (6) .
10 أحكام أهل الذمة (7) .
11 زاد المعاد في هدي خير العباد (8) .
12 الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (9) .
13 الفروع (10) .
14 الآداب الشرعية والمنح المرعية (11) .
15 النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر (12) .
__________
(1) 68) للقاضي أبي يعلى، انظر: قسم العبادات من الجامع، بتحقيق د. محمد التويجري، ص36.
(2) 69) لأبي الخطاب، انظر: 1/196، 478، بتحقيق د / سليمان العمير (الطهارة) ، و 2/151 (الصلاة) بتحقيق د/عوض العوفي.
(3) 70) لابن قدامة، بتحقيق د/عبد الله التركي، ود/ عبد الفتاح الحلو، انظر: 2/38، 146، 457، 608، 4/99، 9/537، 13/228، 14/334.
(4) 71) عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي، ص514.
(5) 72) لأبي الفرج، عبد الرحمن بن قدامة، بتحقيق د/عبد الله التركي، ود/ عبد الفتاح الحلو، انظر: 3/200، 649، 4/174، 7/299، 17/80، 20/312.
(6) 73) لابن تيمية، انظر: كتاب الطهارة، بتحقيق: د/ سعود العطيشان، 1/207، وكتاب الصلاة، بتحقيق: د/ خالد المشيقح، ص 243، وكتاب الصيام، بتحقيق: زائد النشيري، 1/77، 198، 406، وكتاب الحج، بتحقيق: د/ صالح الحسن، 2/104، 3/71، 343، 620.
(7) 74) لابن القيم، بتحقيق: د/ صبحي الصالح، 1/57، 204، 2/472. .
(8) 75) لابن القيم، تعليق وتخريج: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، 5/287.
(9) 76) لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، ص151.
(10) 77) لابن مفلح، 1/86، 93، 94، 103، 133، 185، 220، 269، 329، 420 2/198، 201، 253، 589، 629.
(11) 78) لابن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعمر القيام، 2/444، 3/276.
(12) 79) لابن مفلح، 1/26، 54، 64، 96، 2/281، والمطبوع مع المحرر.(11/183)
16 شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1) .
17 الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2) (3) .
18 القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية (4) .
19 غاية المطلب في معرفة المذهب (5) .
20 المبدع في شرح المقنع (6) .
21 الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (7) .
22 تصحيح الفروع (8) .
23 معونة أولي النهى شرح المنتهى (9) .
24 كشاف القناع عن متن الإقناع (10) .
25 شرح منتهى الإرادات (11) .
الفصل الثالث: بيان من وضعه، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: من وضعه؟
__________
(1) 80) للزركشي، تحقيق: د/ عبد الله بن جبرين، 1/359، 6/577، 595.
(2) 81) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، ولد بحران سنة 661 هـ، أُمتحِن وأُوذي وسُجن مرات، مات وهو سجين بقلعة دمشق سنة 728 هـ رحمه الله، له مؤلفات كثيرة منها منهاج السنة النبوية، والسياسة الشرعية، وغيرهما. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/387.
(3) 82) للبعلي، ص17، 182.
(4) 83) لابن اللحام، تحقيق: محمد حامد الفقي، ص9، 33، 60، 119.
(5) 84) للجراعي، تحقيق: أيمن العمر، ص 126، 284،295، 315.
(6) 85) لأبي إسحاق، إبراهيم بن مفلح، 1/104، 232، 272، 2/19، 194، 214، 225، 227.
(7) 86) للمرداوي، تحقيق: د/ عبد الله التركي ود/عبد الفتاح الحلو، 1/119، 161، 268، 302، 2/171، 630، 3/64، 201، 617، 619، 651، 4/124، 132، 174، 6/54، 110، 131، 212، 7/217، 424.
(8) 87) للمرداوي، 1/76،176، 550، 2/171، 630، والمطبوع مع الفروع.
(9) 88) لابن النجار، تحقيق: د/ عبد الملك بن دهيش، 1/274، 470، 554.
(10) 89) للبهوتي، 1/427.
(11) 90) للبهوتي، 1/27، 100.(11/184)
يظهر جلياً أن الخلال، أحمد بن محمد بن هارون، مدون فقه الإمام أحمد وجامعه، هو أول من استخدم هذا المصطلح في كتابه: «الجامع» في الفقه الأثري الحنبلي، فهو الواضع له ولم يكن أحد قبله قد استخدمه في التعبير به في الفقه الحنبلي، والأدلة على هذا ما يأتي:
1 أن الخلال هو جامع علوم الإمام أحمد، وحافظ مذهب الإمام الأثري، «سمع مسائل الإمام أحمد، ورحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل الإمام أحمد، وسماعها ممن سمعها من أحمد، وممن سمعها ممن سمعها من أحمد، فنال منها وسبق إلى مالم يسبقه سابق، ولم يلحقه بعده لاحق ... » (1) .
قال الخلال في كتاب (أخلاق أحمد بن حنبل) (2) : «لم يكن أحد علمت عُنِيَ بمسائل أبي عبد الله ما عنيت به أنا، وكذلك كان أبو بكر المَرُّوذِي رحمه الله يقول لي …» .
وقال الذهبي (3) : «ولم يكن قبله [يعني الخلال] للإمام مذهب مستقل حتى تتبع هو نصوص أحمد ودوَّنها وبرهنها بعد الثلاث مائة، فرحمه الله تعالى» (4) .
__________
(1) 91) طبقات الحنابلة، 2/13، وانظر: سير أعلام النبلاء، 11/331.
(2) 92) فيما نقله الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء، 11/331.
(3) 93) هو: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن عثمان بن قايماز التركماني، المعروف بالذهبي، الإمام الحافظ، مؤرخ الإسلام، له تصانيف كثيرة ومفيدة، ولد سنة 673هـ، وتوفي سنة 748 هـ، انظر: شذرات الذهب، 6/153.
(4) 94) سير أعلام النبلاء، 14/298.(11/185)
إذا تقرر هذا، فإن هذا المصطلح وضع للدلالة على أكثرية رواة من نقل المسألة عن الإمام أحمد، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا لمن اطلع على رواية من رواها وذلك ما تحقق للخلال دون غيره (1) ، فهو من نتاج جمعه وسبره لتلك المسائل.
2 أن الخلال استخدم هذا المصطلح في كتابه «الجامع» ، وهو كتاب كبير وضخم، لم يصل إلى أيدي الباحثين منه إلا القليل، وقد عثرت على هذا المصطلح (رواه الجماعة) في كتابه: «أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب (الجامع) (2) في مواضع منه، كقوله: «والذي أختار من قول أبي عبد الله ما روى عنه الجماعة» (3) .
وقوله: «والذي أذهب إليه مما أختار على ما رواه عنه الجماعة وبالله التوفيق» (4) .
وقوله: «والعمل على مارواه الجماعة ... » (5) .
وقوله: «ثم روى عنه هؤلاء الجماعة ... » (6) . وغيرها (7) .
__________
(1) 95) هناك من اعتنى بجمع مسائل الإمام في عصر الخلال كما ذكر ذلك الذهبي، وهو محمد بن أبي عبد الله الهمداني، قال الخلال عنه: «جمع مسائل الإمام أحمد وغيرها، سبعين جزءاً» . انظر الطبقات، 1/332، وسير أعلام النبلاء، 11/331، والمنهج الأحمد، 2/43.
(2) 96) حققه د/ إبراهيم السلطان.
(3) 97) أهل الملل، 1/83.
(4) 98) أهل الملل، 1/100.
(5) 99) أهل الملل، 1/280.
(6) 100) أهل الملل، 1/301.
(7) 101) انظر: أهل الملل، 1/169، 311.
... ولم أقف على هذا المصطلح في ما طبع من الجامع غير أهل الملل من الجامع، وهي (الترجل) و (الوقوف) و (أحكام النساء) .(11/186)
3 نص بعض الأصحاب على نسبته إلى الخلال حين نقلوا عنه في مصنفاتهم، ففي كتاب الروايتين (1) ما نصه: «قال أبو بكر الخلال: ... والذي أختار ما روى الجماعة ... » . وفي المغني (2) : « ... ووهَّن الخلال هذه الرواية، وقال: هذا قول قديم، رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه الجماعة ... » (3) .
وفي هذا دلالة على أن «كل من اتبع هذا المذهب يأخذ من كتبه» (4) .
المبحث الثاني: ترجمة واضعه (5) ، وفيه مطالب:
المطلب الأول: اسمه وكنيته:
هو أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي، أبو بكر، المعروف بالخلال (6) .
المطلب الثاني: مولده:
ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقيل في التي تليها (7) .
قال الذهبي (8) : «فيجوز أن يكون رأى الإمام أحمد، ولكنه أخذ الفقه عن خلق كثير من أصحابه»
المطلب الثالث: حياته العلمية (9) :
بدأ الخلال طلب العلم وهو في مقتبل عمره، واهتم بمسائل الإمام أحمد على وجه الخصوص، وصرف عنايته إليها حتى قيل عنه: «أنفق عمره في جمع مذهب الإمام أحمد وتصنيفه» (10) .
__________
(1) 102) 1/74، وانظر: ص 75، 204، 2/150 من الروايتين.
(2) 103) 13/223.
(3) 104) انظر غير ما تقدم: أحكام أهل الذمة، 1/57، 204، والفروع، 1/133، والمبدع، 1/104.
(4) 105) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، لابن الجوزي، بتحقيق: محمد عطا، ومصطفى عطا، 13/221.
(5) 106) انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة، 2/12، ومناقب الإمام أحمد، ص 512، وسير أعلام النبلاء، 14/297، وتذكرة الحفاظ، 3/785، والعبر في خبر من غبر، 1/461 والبداية والنهاية، 11/159، والمنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، 2/205 وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، 2/361.
(6) 107) انظر المصادر في الحاشية الآنفة.
(7) 108) سير أعلام النبلاء، 14 / 297.
(8) 109) العبر، 1/461.
(9) 110) انظر: الحاشية رقم (106) .
(10) 111) انظر: الحاشية رقم (108) .(11/187)
ولا غرو في هذا، فقد رحل رحمه الله إلى بلاد شتى كفارس، والشام، والجزيرة، يتطلب فقه الإمام أحمد وفتاويه، وتغرّب في سبيل ذلك زماناً حتى نال منها قدراً لم يسبقه إليه سابق، فكان هو المدون لفقه الإمام وجامعه ومرتبه على الأبواب.
تفقه الخلال على شيخه المَرُّوذِي ولازمه حتى مات، وشيوخه الذين أخذ عنهم العلم كثير يشق إحصاء أسمائهم، ثم أصبح الخلال إمام المذهب في عصره، وكانت حلقته بجامع المهدي (1) يؤمها العدد الوفير من طلاب العلم، برع منهم طائفة كأبي بكر (2) ، عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال.
وللخلال مصنفات جليلة القدر، وبخاصة في المذهب الحنبلي، منها: (الجامع) و (العلل) و (السنة) ، وغيرها، وهي تدل على إمامته وسعة علمه.
المطلب الرابع: وفاته:
توفي الخلال يوم الجمعة ليومين خليا من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة (311هـ) ، وله سبع وسبعون سنة، ودفن إلى جوار قبر شيخه المَرُّوذِي، قرب قبر الإمام أحمد رحم الله الجميع (3) .
__________
(1) 112) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله، المهدي، الخليفة العباسي، كان حسن الاعتقاد، تتبع الزنادقة فأفنى منهم خلقاً، وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة، ولد سنة 127هـ، وقيل في التي قبلها، ومات سنة 169هـ، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً. انظر: العبر، 1/196، 197، وتاريخ الخلفاء، للسيوطي، ص 218.
(2) 113) هو عبد العزيز بن جعفر بن يزداد بن معروف، أبو بكر، المعروف بغلام الخلال، شيخ الحنابلة في وقته، له تصانيف كثيرة في الفقه، منها: (زاد المسافر) ، و (التنبيه) ، توفي سنة 363هـ. انظر: الطبقات، 2/119، والعبر، 2/116، والشذرات، 3/45.
(3) 114) انظر الطبقات، 2/15، والمناقب، ص512، والسير، 14 / 298، والبداية والنهاية 11/159، والمنهج الأحمد، 2/207.(11/188)
الفصل الرابع: المراد به عند الحنابلة.
يذهب بعض العلماء إلى أن المراد بمصطلح (رواه الجماعة) محدد بسبعة من الرواة عن الإمام أحمد على اختلاف يسير بينهم على النحو الآتي:
أ) أن المراد بهم سبعة، وهم:
1 صالح بن أحمد بن حنبل (1) .
2 عبد الله بن أحمد بن حنبل (2) .
3 حنبل بن إسحاق بن حنبل (3) .
4 أبو بكر أحمد بن محمد المَرُّوذِي.
__________
(1) 115) أبو الفضل، وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، ولد سنة 203 هـ، وكان الإمام أحمد يحبه ويكرمه، وقد ابتلي بالعيال على حداثة سنه، فقلَّت روايته عن أبيه، توفي رحمه الله في رمضان، سنة ست وستين ومائتين، وله ثلاث وستون سنة. انظر: الطبقات، 1/173، والمناقب، ص304، سير أعلام النبلاء، 11/333، 12/530، والجوهر المحصل، ص21،22، والمنهج الأحمد، 1/251.
(2) 116) أبو عبد الرحمن، كان أروى الناس عن أبيه، وسمع معظم تصانيفه وحديثه. ولد في جمادى الأولى، سنة ثلاث عشرة ومائتين، وكان له حظ وافر من الحفظ مما جعل الإمام يقول عنه: «ابني عبد الله محظوظ من علم الحديث» . توفي يوم الأحد، لتسع بقين من جمادى الآخرة، سنة تسعين ومائتين، وكان سنه يوم مات سبعاً وسبعين سنة. انظر: الطبقات، 1/180، والمناقب، ص360، والجوهر المحصل، ص22، والمنهج الأحمد، 1/313.
(3) 117) هو: حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد، وروى عنه مسائل أجاد فيها الرواية، وكان ثقة ثبتاً صدوقاً، توفي سنة 273 هـ. انظر: طبقات الحنابلة، 1/143، والعبر، 1/394، والمنهج الأحمد، 1/264.(11/189)
5 إبراهيم الحربي (1) .
6 أحمد بن حميد المشكاني، أبو طالب (2) .
7 عبد الملك بن عبد الحميد الميموني (3) .
جاء في حاشية المنتهى (4) : « ... وحيث أطلق الجماعة، فالمراد بهم: عبد الله ابن الإمام، وأخوه صالح، وحنبل ابن عم الإمام، وأبو بكر المَرُّوذِي، وإبراهيم الحربي، وأبو طالب، والميموني ... » (5) .
__________
(1) 118) هو: إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشر بن عبد الله بن ديسم، أبو إسحاق الحربي، ولد سنة 198هـ، وسمع الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث، وصنف كتباً كثيرة، توفي سنة 285هـ. انظر: الطبقات، 1/86، والعبر، 1/410، والسير، 13/356.
(2) 119) هو أحمد بن حميد، أبو طالب المشكاني، المتخصص بصحبة الإمام أحمد، نقل عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه، توفي سنة 244هـ. الطبقات، 1/39، 40 والمنهج الأحمد، 1/198 وما بعدها.
(3) 120) هو: أبو الحسن، عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني، الحافظ، الفقيه، من كبار تلاميذ أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، كان عالم الرَّقَّة ومفتيها في زمانه، توفي سنة 274هـ. انظر: الطبقات، 1/212، والسير، 13/89، وتذكرة الحفاظ، 2/603.
(4) 121) لعثمان النجدي، والمطبوع مع منتهى الإرادات، للفتوحي، وهما بتحقيق د. عبد الله التركي، 2/179.
(5) 122) وجاء مثله في 4/469، وعليه (عثمان النجدي) عوّل الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، 1/174، 2/657. وقد ذكره الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله في كتابه نهاية الأريب الأمجد لمعرفة أصحاب الرواية عن أحمد، بتحقيق: الشيخ بكر أبو زيد، ص 20، 21، ونسب تحديد المراد به إلى الشيخ محمد الخلوتي.(11/190)
ب) أن المراد بهم سبعة، وهم (1) :
1 أبو طالب، أحمد بن حميد المشكاني. ...
2 إبراهيم الحربي.
3 حرب بن إسماعيل الكرماني (2) . ... ...
4 عبد الملك الميموني.
5 عبد الله ابن الإمام. ... ... ...
6 صالح ابن الإمام.
7 حنبل بن إسحاق بن حنبل (ابن عم الإمام) .
ومما تقدم يظهر الاختلاف بين الفريقين في اعتبار بعض الرواة منهم، فلم يُعد المَرُّوذِي من الجماعة عند الفريق الثاني ولم يُعد حرب منهم عند الفريق الأول واتفقا على أن بقية الرواة يدخلون في هذا المصطلح.
وهذا الحصر في العدد والمعدود من الرواة فيه نظر، فلم أعثر عليه عند المتقدمين أو المتوسطين من الأصحاب، بل جاء عندهما بخلاف الحصر الآنف، وإنما وجد عند بعض المتأخرين من الأصحاب، فوجدته منسوباً للعلامة محمد الفارضي (ت 981هـ (3)
__________
(1) 123) مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي، علي محمد الهندي رحمه الله ص 14، 15.
(2) 124) هو: أبو محمد، حَرْب بن إسماعيل الكَرْماني، الإمام العلامة، الفقيه، تلميذ أحمد، جليل القدر، روى عن الإمام مسائل كثيرة، ورحل في طلب العلم، توفي سنة 280هـ. انظر: الطبقات، 1/145، والسير، 13/244، وتذكرة الحفاظ، 2/613.
(3) 125) نسبه للفارضي الشيخ عثمان النجدي في حاشيته على المنتهى، 2/179.
... والفارضي هو: شمس الدين محمد الفارضي، القاهري، الحنبلي، الشاعر المشهور، له تصانيف، منها: شرح على ألفية ابن مالك، وتعاليق في الفقه وغيرهما توفي سنة 981هـ بقرافة بمصر وبها دفن.
... انظر: شذرات الذهب، 8/393 وما بعدها، والسحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لابن حميد، تحقيق: الشيخ بكر أبو زيد، والدكتور عبد الرحمن العثيمين، 3/110.(11/191)
) ، ولم أقف في نسبته بهذا التحديد إلى أحد قبله (1) ، ونسبه الشيخ سليمان بن حمدان (2) إلى الشيخ محمد الخلوتي (ت 1088 هـ (3)) فقال (4) : «حيث أطلق الجماعة، فالمراد بهم: عبد الله ابن الإمام أحمد، وأخوه صالح، وحنبل ابن عم الإمام، وأبو بكر المَرُّوذِي، وإبراهيم الحربي، وأبو طالب، والميموني رضي الله عنهم، قاله الشيخ محمد الخلوتي» .
تحقيق المراد به:
__________
(1) 126) ... وليس القصد من البحث الوقوف على من قال بتحديد ذلك من المتأخرين من الأصحاب، سواء أكان الفارضي أم غيره؛ لأن الهدف الرئيس للبحث هو التصحيح والتنبيه إلى المراد بالمصطلح عند واضعه، وهي النتيجة المرادة هنا، والتي سار عليها الأصحاب من لدن الخلال حتى عصر المرداوي من المتأخرين، كما دلت عليه النقول المسوقة في هذا البحث.
(2) 127) ... ... هو سليمان بن عبد الرحمن بن محمد بن حمدان، ولد عام 1322 هـ في بلده المجمعة من إقليم نجد، درّس في المسجد الحرام، وله مصنفات منها: الدر النضيد في شرح كتاب التوحيد وغيره، توفي سنة 1397هـ. انظر ترجمته في مقدمة الشيخ بكر أبو زيد لكتاب هداية الأريب الأمجد لمعرفة أصحاب الرواية عن أحمد، لابن حمدان المترجم له.
(3) 128) ... هو محمد بن أحمد بن علي البُهوتي، الشهير بالخَلْوَتي، ولد بمصر وبها نشأ وتلقى العلم، له مصنفات منها: حاشية على المنتهى، وحاشية على الإقناع، وغيرهما. توفي بمصر سنة 1088هـ. انظر: السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، 2/869 وما بعدها.
(4) 129) ... في كتابه هداية الأريب الأمجد، ص 21، ولم يحل إلى مصدر يتوثق منه.(11/192)
تقرر فيما سبق أن مصطلح (رواه الجماعة) من صنع الخلال، واستعمله في كتابه (الجامع) ، وهذا يحتم على الباحث النظر إلى مراد واضعه، وقصده من اصطلاحه ما أمكن، والذي يظهر لي من المواضع التي وقفت عليها وساق فيها الخلال مصطلحه (رواه الجماعة) أنه لم يقصد به عدداً مقدراً، أو معدوداً محدداً بعينه، وقد دل على هذا ما يأتي:
1 قال الخلال في باب (الصغير يؤسر مع أحد أبويه) (1) : «قال أبو بكر (2) : روى هذه المسألة أربعة أنفس عن أبي عبد الله بخلاف ما قال علي ابن سعيد (3) ؛ وما روى علي بن سعيد، فأظن أنه قول لأبي عبد الله ثم رجع إلى أن يحمل ولا يترك، وهو مسلم إن مات أو بقي، وهو أشبه بقول أبي عبد الله وبمذهبه ... والذي اختار من قول أبي عبد الله ما روى عنه الجماعة؛ لأن لا يترك، وبالله التوفيق» .
وهذا النص سبقه ذكر الروايات في المسألة، فنقل علي بن سعيد عنه ما يدل على أن الصبي إذا أسر يسلم لأهل دينه في أحد حصون الروم.
ونقل أبو بكر المَرُّوذِي، ويعقوب بن بختان (4) ،وإسحاق بن إبراهيم (5)
__________
(1) 130) ... أهل الملل والردة، 1/83.
(2) 131) ... المراد به الخلال.
(3) 132) ... هو علي بن سعيد بن جرير النَّسوي، أبو الحسن، روى عن أبي عبد الله جزأين مسائل، وكان يناظر أبا عبد الله مناظرة شافية، وكان كبير القدر، وصاحب حديث.
... ... الطبقات، 1/224، والمنهج الأحمد، 2/133.
(4) 133) ... هو يعقوب بن إسحاق بن بختان، أبو يوسف، كان جار أبي عبد الله، وصديقه، روى عنه مسائل صالحة كبيرة، لم يروها غيره في الورع، ومسائل السلطان.
... ... الطبقات، 1/415، 416، والمنهج الأحمد، 2/175 وما بعدها.
(5) 134) ... هو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، أبو يعقوب، خدم الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، وله عنه مسائل مطبوعة في مجلدين بتحقيق: زهير الشاويش، ولد سنة 218هـ، وتوفي سنة 275هـ.
... ... ... الطبقات، 1/108، 109، والمنهج الأحمد، 1/274.(11/193)
عنه أنه يحمل ولا يترك (1) .
والملاحظ أن الخلال أطلق الجماعة في هذه المسالة على أولئك العدد الذين نقلوا هذه الرواية عن أحمد بخلاف ما نقل علي بن سعيد، وهم يقلون عدداً، ويختلفون ذواتاً عن المصطلح الذي قرره بعض المتأخرين من الأصحاب، فحصروه في عدد ومعدود محددين.
2 جاء في مسألة تبعية الصغير لأبويه الكافرين أو أحدهما حال وجودهما وكفالتهما له، أو أحدهما روايات عن الإمام أحمد، اختار الخلال منها ما رواه عنه الجماعة، وممن رواها عنه إسحاق بن منصور (2) ، وإسحاق بن إبراهيم، فجعلهما الخلال من الجماعة، وهما لا يدخلان عند من حصرهم بأولئك الرواة (3) .
3 روى يعقوب بن بختان عن أحمد في الجزية، هل للإمام التخفيف عن الكفار منها؟ فقال: لا.
ونقل أبو بكر الأثرم، وأبو طالب، وأحمد بن القاسم (4) ، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم في الجزية أن للإمام أن يزيد وينقص فيها، وليس لمن دونه ذلك (5) .
__________
(1) 135) ... انظر: نصوص رواياتهم في أهل الملل، 1/82، 83، وانظر: رواية إسحاق بن إبراهيم في مسائله عن أحمد، 2/99، 100.
(2) 136) هو إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي، أبو يعقوب الكوسج، دوَّن عن أحمد مسائل في الفقه طبع بعضها، ولد بعد السبعين ومائة، وتوفي سنة 251هـ.
... الطبقات، 1/ 113 115، والسير، 12/258 260، والمنهج الأحمد، 1/212 214.
(3) 137) انظر المسألة ورواياتها في أهل الملل والردة، 1/97 100.
(4) 138) هو أحمد بن القاسم الطُّوسي، نقل عن أحمد أشياء كثيرة.
الطبقات، 1/56، والإنصاف، 30/403، والمنهج الأحمد، 2/58.
(5) 139) انظر الروايات في أهل الملل، 1/169 –172.(11/194)
قال أبو بكر الخلال (1) : «والذي عليه العمل من قول أبي عبد الله أنه للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وليس لمن دونه أن يفعل ذلك، وقد روى يعقوب بن بختان خاصة عن أبي عبد الله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، ثم روى عن أبي عبد الله أصحابه في عشرة مواضع أنه لابأس بذلك، ولعل أبا عبد الله تكلم بهذا في وقت العمل من قوله على ما رواه الجماعة، بأنه لابأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص ... » ا. هـ.
4 ذكر الخلال (2) أن الجماعة نقلوا عن أحمد كراهية (3)
__________
(1) 140) أهل الملل، 1/169.
(2) 141) أهل الملل، 1/280.
(3) 142) ليس المقصود بالكراهية هنا الكراهة الاصطلاحية، بل المراد المنع وعدم حل نكاح إماء أهل الكتاب، وهذا ظاهر من النصوص التي نقلت عن الإمام أحمد، فقد سأله أبو طالب عن التزويج بالأمة اليهودية والنصرانية؛ فقال: لا والله. قال الله عزوجل: (من فتياتكم المؤمنات (النساء، الآية: 25. ونقل المروذي عنه نحوها، وفي رواية إسحاق بن منصور قال: لا يتزوجها. وفي رواية ابن إبراهيم قال: لا يجوز والله. وساق الآية الآنفة. انظر أهل الملل، 1/276 وما بعدها، والمسائل التي حلف عليها أحمد، لابن أبي يعلى، تحقيق الحداد، ص34.
... قال ابن قدامة في المغني، 9/554، عند قول الخرقي: «وليس للمسلم وإن كان عبداً أن يتزوج أمة كتابية» . قال: «لأن الله تعالى قال: {من فتياتكم المؤمنات} . هذا ظاهر مذهب أحمد، رواه عنه جماعة ... » . ثم ذكر رواية الجواز، ثم قال: «ونقل ذلك عن أحمد، قال: لا بأس بتزويجها. إلا أن الخلال رد هذه الرواية، وقال: إنما توقف أحمد فيها، ولم ينفذ له قول، ومذهبه أنها لا تحل ... » .
... وقال المرداوي في الإنصاف، 20/355: «قوله: وليس للمسلم وإن كان عبداً نكاح أمة كتابية. هذا الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، ونص عليه في رواية أكثر من عشرين نفساً. قاله أبو بكر. وعنه: يجوز. وردها الخلال، وقال: إنما توقف الإمام أحمد رحمه الله فيها، ولم ينفذ له قول» .
... وانظر: الروايتين، 2/104، والكافي، لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، 4/278، والشرح الكبير، 20/355، وشرح الزركشي، 5/188.(11/195)
التزويج بإماء أهل الكتاب، وممن نقل ذلك أبو داود (1) ، وأبو طالب، والمَرُّوذِي، وإسحاق بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم (2) ،وصالح (3) ،والميموني (4) ، وغيرهم.
ونقل أحمد بن القاسم عن أحمد قوله: «إن الكراهية في ذلك ليست بالقوية ... » (5) .
وفي رواية الأثرم أجاب بذكر الاختلاف (6) ، ثم قال الخلال (7) : «لم ينفذ لأبي عبد الله قول يعمل عليه في هذا، وإنما حكى قلة تقوية ذلك عنده، والعمل على ما روى عنه الجماعة من كراهيته ذلك. وبالله التوفيق» ا. هـ.
5 جاء في باب (الرجل يتبع قرابته المشرك) . يعني جنازته، وبعد أن ساق الروايات فيه قال الخلال (8) : «قال أبو بكر الخلال: كأن أبو عبد الله لايعجبه ذلك في مسألة محمد بن موسى (9) ، ثم روى هؤلاء الجماعة أنه لا بأس ... » .
ومن الجماعة المشار إليهم بقوله: «هؤلاء الجماعة» ممن ساق روايتهم في ذلك: محمد بن الحسن بن هارون (10)
__________
(1) 143) انظر مسائله عن أحمد، ص160.
(2) 144) انظر مسائله عن أحمد، 1/219.
(3) 145) انظر مسائله عن أحمد، 2/224، 228، بتحقيق: د. فضل الرحمن.
(4) 146) انظر رواياتهم في أهل الملل، 1/276، 278.
(5) 147) أهل الملل، 1/279.
(6) 148) أهل الملل، 1/279.
(7) 149) أهل الملل، 1/280.
(8) 150) أهل الملل، 1/301، 302.
(9) 151) هكذا في المطبوع، ورواية محمد بن موسى المشار إليها يرى الإمام أحمد جواز تشييع المسلم جنازة المشرك. وهذا بخلاف ما قرره الخلال أعلاه.
... انظر: أهل الملل، 1/297، وأحكام أهل الذمة، 1/204.
... ومحمد بن موسى هو: محمد بن موسى بن مُشَيش البغدادي، من كبار أصحاب أحمد، وكان جاراً له، روى عنه مسائل مشبعة، وكان أحمد يقدمه.
... الطبقات، 1/323، والمناقب، ص511، والمنهج الأحمد، 2/32.
(10) 152) هو محمد بن الحسن بن هارون بن بَدينا، أبو جعفر، الموصلي، حدَّث عن أحمد، وروى عنه مسائل، توفي سنة 303هـ، وقيل 308هـ.
الطبقات، 1/288290، والمنهج الأحمد، 1/335،336.(11/196)
، وأبو طالب، وحنبل، وإسحاق بن منصور، وصالح (1) .
6 جاء في باب (أم ولد النصراني تسلم) ، وبعد أن ذكر الروايات في الباب قال (2) : «قلت: الذي أذهب إليه من قول أبي عبد الله بعد ما روى عنه الجماعة التوقف، والاحتجاج في الأقاويل ما حكى عنه إسحاق ابن منصور، والمشكاني (3) أنه ممنوع من وطئها وبيعها ... وإذا مات فهي حرة» .
فقوله: «بعد ما روى عنه الجماعة التوقف» . يعني بالجماعة أولئك الرواة الذين ذكر رواياتهم في هذا الباب، وهم: أبو بكر المَرُّوذِي، والفضل بن زياد (4) ، وأبو طالب، ويوسف بن موسى (5) ، وحرب، وهذه الروايات تفيد توقف الإمام أحمد (6) .
__________
(1) 153) انظر نصوص رواياتهم في أهل الملل، 1/297، 301.
(2) 154) أهل الملل، 1/311. وانظر نصوص الروايات فيه، 1/309، 311.
(3) 155) هو أبو طالب، أحمد بن حميد المشكاني.
(4) 156) هو الفضل بن زياد، أبو العباس القطان البغدادي، كان من المتقدمين عند أحمد، وعنده عنه مسائل كثيرة، وكان يصلي بأبي عبد الله.
... الطبقات، 1/251 253، والمنهج الأحمد، 2/148 وما بعدها.
(5) 157) يوسف بن موسى، يوجد بهذا الاسم اثنان من أصحاب الإمام أحمد، الأول: يوسف بن موسى بن راشد، أبو يعقوب، القطَّان، الكوفي، نقل عن أحمد أشياء، كان من أوعية العلم، ولد سنة نيّف وستين ومائتين، وتوفي سنة 243هـ.
... والثاني: هو يوسف بن موسى العطار الحربي، روى عن الإمام أحمد أشياء، كان يهودياً، أسلم على يدي أبي عبد الله وهو حدث، فحسن إسلامه، ولزم العلم، ولزم أحمد حتى كان ربما يتبرم به من كثرة لزومه له.
... الطبقات، 1/420، 421، والسير، 12/221، 222، والمنهج الأحمد، 1/221، 2/180.
(6) 158) انظر الروايات في أهل الملل، 1/309.(11/197)
ومما تقدم من النقول الستة يلاحظ أن هذا المصطلح (رواه الجماعة) لم يضبط بعدد أو معدود لدى الخلال، بل نرى أن عدداً من الرواة قلة أو كثرة يتفاوتون حين النص على هذا المصطلح، مما يدل على عدم تحديدهم واختلاف أعيانهم، وهذا مخالف لتحديد بعض المتأخرين.
وقد سار سير الخلال في عدم التحديد بعدد أو معدود جمع من الأصحاب من المتوسطين والمتأخرين، وهذه بعض النصوص الدالة على هذا:
1 جاء في كتاب الروايتين والوجهين، لأبي يعلى (1) في مواطن كثيرة تدل على ما تقرر آنفاً، منها:
أ) قال القاضي في مسألة العدد المشترط في تطهير نجاسة الكلب والخنزير (2) : «فنقل الجماعة: صالح، وعبد الله، وابن منصور، أنه يجب غسلها سبعاً إحداها بالتراب» .
ب) وقال في المسألة التي تليها (3) : «فنقل الجماعة، منهم: أبو الحارث ... » .
وأبو الحارث هو: أحمد بن محمد الصائغ (4)
__________
(1) 159) استخدم القاضي هذا المصطلح كثيراً في كتابه المذكور أعلاه، ومما ينبغي التنبيه عليه أن القاضي تلميذ لابن حامد شيخ المذهب في عصره، وابن حامد اعتنى بجمع روايات الإمام أحمد، ونقلها بأسانيدها، وقد ألف في ذلك كتاباً كبيراً سماه: (الجامع في المذهب) ، بلغ نحو أربعمائة جزء. انظر في ذلك طبقات الحنابلة، 2/171 174.
... وأبو يعلى هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد الفراء، شيخ الحنابلة، القاضي، صاحب التصانيف المشتهرة، منها: (العدة في أصول الفقه) ، و (كتاب الروايتين والوجهين) ، وغيرهما، توفي سنة: 458هـ. انظر: الطبقات: 2/193، والعبر: 2/309، والشذرات: 3/306.
(2) 160) الروايتين 1/64.
(3) هي مسألة صوف الميتة وشعرها، هل هو طاهر أم نجس؟ الروايتين، 1/65.
(4) 162) هو: أحمد بن محمد الصائغ، كان أحمد يقدمه ويكرمه، ونقل عنه مسائل كثيرة، وجوَّد الرواية عنه.
... الطبقات، ص 74 وما بعدها، والمنهج الأحمد، 2/60. ...(11/198)
، وهو ممن لا يشمله المصطلح عند من حدده.
ج) وقال أيضاً في مسألة طهارة جلود الميتة بالدباغ (1) : «فنقل الجماعة، منهم: صالح، وعبد الله، والأثرم، وحنبل، وابن منصور، وأبو الصقر (2) أنها لا تطهر بالدباغ ... » .
د) وقال في مسألة وجوب المضمضة في الطهارة الصغرى (3) : «فنقل الجماعة، منهم: إبراهيم بن هانئ (4) أنها واجبة ... » .
هـ) وقال في مسالة تنشيف الأعضاء من ماء الوضوء (5) : «فنقل جماعة منهم: أبو داود، ويعقوب بن بختان، وصالح أنه غير مكروه …» .
و) وقال في مسألة بطلان التيمم بخروج الوقت (6) : «فنقل الجماعة، ومنهم: أبو طالب، والمَرُّوذِي، وأبو داود، ويوسف بن موسى أنه يبطل بخروج الوقت ... » .
ز) وقال في مسألة ابتداء مدة المسح (7) : «فنقل الجماعة: بكر بن محمد (8) ، والفضل، وأبو الحارث، وصالح من وقت الحدث بعد لبس الخف» .
__________
(1) 163) الروايتين 1/66.
(2) 164) هو يحيى بن يزداد الورَّاق، أبو الصَّقر، ورَّاق الإمام أحمد، وعنده عنه مسائل كثيرة، كان مع الإمام أحمد بالعسكر.
... الطبقات، 1/409، والمنهج الأحمد، 2/174.
(3) 165) الروايتين 1/70.
(4) 166) هو إبراهيم بن هانئ، أبو إسحاق النيسابوري، نقل مسائل كثيرة عن الإمام أحمد، واختفى الإمام أحمد عنده زمن الواثق أياماً، توفي سنة 265هـ.
... الطبقات، 1/97، 98، والمناقب، ص509، والمنهج الأحمد، 1/248 وما بعدها، والشذرات، 2/149.
(5) 167) الروايتين، 1/76.
(6) 168) الروايتين، 1/90.
(7) 169) الروايتين، 1/96.
(8) 170) هو بكر بن محمد النسائي (الأصل) ، أبو أحمد البغدادي (المنشأ) ، كان أحمد يكرمه ويقدمه، وعنده عنه مسائل كثيرة.
... الطبقات، 1/119، والمنهج الأحمد، 1/80.(11/199)
ح) وفي المسألة التي تليها (1) قال: «فنقل الجماعة: صالح، وحنبل، وأبو داود، ويوسف بن موسى، يستأنف الوضوء» .
ط) وقال في مسألة ما يجب بوطء الحائض مع العلم بالتحريم (2) : «فنقل الجماعة، منهم: المَرُّوذِي، وإسماعيل بن سعيد (3) يتصدق بدينار أو بنصف دينار» .
ي) وقال في مسألة أكثر الحيض (4) : «فنقل الجماعة، منهم: أبو داود، والفضل بن زياد، والميموني، وإسحاق بن إبراهيم» .
ك) وقال في مسألة قراءة الفاتحة هل تتعين في الصلاة؟ (5) : «فنقل الجماعة، منهم: إسحاق بن إبراهيم، وأبو الحارث، وعلي بن سعيد أنها تتعين» .
ل) وقال في مسألة البسملة هل هي من فاتحة الكتاب؟ (6) : «فنقل الجماعة، منهم: عبد الله، ومهنا (7) ،وإسحاق بن إبراهيم، وابن مشيش (8) ، وحنبل، وأبو طالب أن قراءتها تستحب في الصلاة، وإن سها أن يقرأها أجزأته صلاته، وهذا يدل على أنها ليست آية من الفاتحة ... » .
__________
(1) 171) وهي هل يكتفى بغسل القدمين عند نزع الخفين بعد المسح عليهما؟ ، الروايتين، 1/97.
(2) 172) الروايتين، 1/101.
(3) 173) إسماعيل بن سعيد، أبو إسحاق الشَّالَنْجي، نقل عن أحمد مسائل كثيرة، وله كتاب (ترجمة البيان) ، كان عالماً بالرأي.
... الطبقات، 1/104، والمنهج الأحمد، 2/73، 74.
(4) 174) الروايتين، 1/104.
(5) 175) الروايتين، 1/117.
(6) 176) الروايتين، 1/117، 118.
(7) 177) هو مهنَّا بن يحيى الشَّامي السُّلمي، أبو عبد الله، من كبار أصحاب الإمام أحمد، روى عنه مسائل أكثر من أن تحد من كثرتها، وكان أحمد يكرمه، وصحب أحمد إلى أن مات، قال مهنا: «لزمت أبا عبد الله ثلاثاً وأربعين سنة ... » .
... الطبقات، 1/345، والمناقب، ص511، والمنهج الأحمد، 2/161.
(8) 178) هو محمد بن موسى، وقد تقدمت ترجمته.(11/200)
م) وقال في مسألة صفة الدية المغلظة (1) : «فنقل الجماعة: أبو الحارث، وبكر بن محمد، وحرب، وابن منصور أنها أرباع ... » .
ن) وقال في مسألة إلحاق الطفل المسبي مع أحد أبويه لأحدهما في الدين (2) : «نقل الجماعة، منهم: صالح، والميموني، وابن إبراهيم إذا سبي مع أحد أبويه فهو مسلم. فظاهر هذا أنه تابع للسابي في الدين ... قال أبو بكر: ما رواه الكوسج قول أول، والعمل على ما رواه الجماعة أنه مسلم» .
س) قال في مسألة إذا خير زوجته فاختارت زوجها فهل يقع الطلاق؟ (3) : «فنقل الجماعة، منهم: أبو الحارث، وأبو طالب، والمشكاني (4) : لا يقع الطلاق. ونقل ابن منصور أنها طلقة رجعية. قال أبو بكر: العمل على مارواه الجماعة» .
فهذه النقول الكثيرة (5) تدل دلالة واضحة لا لبس فيها على أن مصطلح (رواه الجماعة) غير محدد بعدد، أو معين بذوات كما قرره بعض متأخري الأصحاب.
2 جاء في كتاب التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة، لأبي يعلى (6) ، في مواطن منه تؤيد ما سبق تقريره، منها:
__________
(1) 179) الروايتين، 2/270.
(2) 180) الروايتين، 2/368.
(3) 181) الروايتين،2/150.
(4) 182) هكذا في المطبوع، وهو موهم، فالمشكاني هو أبو طالب، ولعل صواب العبارة: «وأبو طالب المشكاني» . انظر: الطبقات، 1/39.
(5) 183) ولمزيد من الأمثلة انظر: الروايتين، 1/140، 204، 316، 317، 341، 2/11، 36، 67، 72، 98، 121، 141، 155، 182، 255، 261، 277، 31.
(6) 184) حقق عواض العمري منه (كتاب الحج) في رسالة علمية، وهو المراد هنا.(11/201)
أ) قال أبو يعلى في مسألة نكاح المحرم لنفسه ولغيره باطل (1) : «نص عليه في رواية الجماعة: الميموني، وابن منصور، وأحمد بن أبي عبدة (2) ، وغير ذلك» .
ب) وقال في مسالة من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل، أو لم يبت بها لغير عذر (3) : « ... ونقل الجماعة عنه: الأثرم، وابن إبراهيم، وأبو طالب، والمَرُّوذِي إذا ترك ليالي منى لا دم عليه، فَيُخَرَّج في ليلة مزدلفة كذلك» .
3 جاء في الأحكام السلطانية في مواضع ما يدل على عدم التحديد، ومنها:
أ) ما جاء في حكم تارك الصلاة، وفيه ما نصه: « ... نص على ضرب عنقه في رواية الجماعة: صالح، وحنبل، وأبي الحارث» (4) .
ب) قال القاضي: «وأما الحج ففرض عند أحمد على الفور، فيتصور تأخيره عن وقته، وقد قال أحمد في رواية الجماعة، منهم: عبد الله، وإسحاق، وإبراهيم، وأبو الحارث: من كان موسراً وليس به أمر يحبسه، فلم يحج لا تجوز شهادته» (5) .
__________
(1) 185) التعليق الكبير (كتاب الحج) ، 2/558.
(2) 186) هو أحمد بن أبي عبدة، أبو جعفر الهمداني، كان أحمد يكرمه، ونقل عن أحمد مسائل كثيرة، توفي قبل وفاة الإمام أحمد.
... الطبقات، 1/84، والإنصاف، 30/402، والمنهج الأحمد، 2/66.
(3) 187) التعليق الكبير (كتاب الحج) ، 2/714.
(4) 188) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، ص 261.
(5) 189) المرجع السابق، ص 262.(11/202)
4 جاء في كتاب الانتصار في المسائل الكبار (1) ، لأبي الخطاب (2) ، في مواطن منه ما يدل على عدم التحديد كما سلف، ومنها:
أ) قال أبو الخطاب (3) : «مسألة: صوف الميتة وشعرها وريشها طاهر. نص عليه في رواية الجماعة، فقال في رواية حنبل ... وفي رواية الجرجاني (4) ... وفي رواية الميموني ... ونحو ذلك روى غيرهم» .
ب) وقال أيضا (ً (5) : «مسألة: سؤر الكلب نجس، ويجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب. نص عليه في رواية الجماعة: صالح، والمَرُّوذِي، وابن منصور، وأبي داود، ومهنا ... » .
ج) وقال أيضا (ً (6) : « ... ونقل الجماعة: حرب، وأبو داود، وأبو طالب، وأحمد بن أبي عبدة، والحسن بن أحمد (7)
__________
(1) 190) والمحقق منه مسائل الطهارة، بتحقيق د. سليمان العمير، ومسائل الصلاة، بتحقيق د. عوض العوفي، ومسائل الزكاة، بتحقيق د. عبد العزيز البعيمي، وكلها مطبوعة في ثلاث مجلدات.
(2) 191) هو محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكَلْوَذَانيّ، أبو الخطَّاب، أحد أئمة المذهب وأعيانهم، لزم القاضي حتى برع في المذهب، وصار إمام وقته، له مصنفات في المذهب، منها (الهداية) ، و (العبادات الخمس) ، و (رؤوس المسائل) ، وغيرها، ولد سنة 432هـ، وتوفي سنة 510هـ.
... ... الطبقات، 2/258، والمنهج الأحمد، 3/57 65، والشذرات، 4/27.
(3) 192) الانتصار، 1/196، وانظر: الروايتين، 1/65.
(4) 193) هو محمد بن بندار السباك الجرجاني، أبو بكر، أحد من روى عن الإمام أحمد. الطبقات، 1/287، والمنهج الأحمد، 2/14، 15.
(5) 194) الانتصار، 1/478، وانظر: الروايتين، 1/64.
(6) 195) الانتصار، 2/151.
(7) 196) هو الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا البغدادي، أبو علي، صاحب التصانيف في علوم شتى، منها: (شرح الخرقي) ، و (الكامل في الفقه) ، و (الخصال والأقسام) ، ولد سنة 396هـ، وتوفي سنة 471هـ.
... الطبقات، 2/243، والذيل على الطبقات، 1/32، والمنهج الأحمد، 2/405.(11/203)
..» .
5 جاء في المغني، لابن قدامة في مواطن ما يؤكد ذلك، ومنها:
أ) قال في مسألة دفع الزكاة للقريب الوارث كالأخوين اللَّذين يرث أحدهما الآخر (1) : «ففيه روايتان: أحدهما: يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته إلى الآخر، وهي الظاهرة عنه، رواها عنه الجماعة، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق بن منصور ... » .
ب) وقال في مسألة الرجل يطلق امرأته ويختلفان في المتاع (2) : «قال أحمد في رواية الجماعة، منهم: يعقوب بن بختان ... » .
6 جاء في شرح العمدة، لابن تيمية ذكر هذا المصطلح في مواطن دون تحديد كما سلف، ومنها:
أ) قال ابن تيمية (3) : «وإن كان هناك حائل يمنع رؤيته، وهو أن يكون دون مطلعه ومنظره سحاب أو قتر، يجوز أن يكون الهلال تحته قد حال دون رؤيته؛ فالمشهور عن أبي عبد الله رحمه الله أنه يصام من رمضان، ويجزئ إذا تبين أنه من رمضان، ولا يجب قضاؤه. نقله عنه الجماعة، منهم: ابناه، والمَرُّوذِي، والأثرم، وأبو داود، ومهنا، والفضل ابن زياد» .
ب وقال في مسألة تبييت النية في صوم رمضان (4) : «قال في رواية الجماعة: صالح، وعبد الله، وإبراهيم، وابن منصور يحتاج في شهر رمضان أن يجمع في كل يوم على الصوم» .
7 جاء في أحكام أهل الذمة، لابن القيم (5) ما نصه: «وقد ذهب بعضهم إلى أنه يرث المسلم الكافر بالموالاة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، نص عليه في رواية الجماعة: حنبل، وأبي طالب والمَرُّوذِي، والفضل بن زياد ... » .
__________
(1) 197) المغني، 4/99، وانظر: الشرح الكبير 7/299.
(2) 198) المغني، 14/334.
(3) 199) كتاب الصيام من شرح العمدة، بتحقيق زائد النشيري، 1/77.
(4) 200) المرجع السابق، 1/198، وانظر مسألة إذا احتجم وهو صائم، 1/406.
(5) 201) بتحقيق د. صبحي الصالح، 2/472.(11/204)
8 جاء في الآداب الشرعية (1) نقلاً عن القاضي ما نصه: «وقال القاضي: هل يكره فصد العروق أم لا؟ على روايتين: إحداهما لا يكره؛ نص عليها في رواية الجماعة، منهم: صالح، وجعفر (2) ... » .
9 جاء في النكت والفوائد السنية (3) ذكر هذا المصطلح من غير تحديد أيضاً في مواضع منها:
أ) قال ابن مفلح (4) : «قوله: ولاحيض مع الحمل. نص عليه في رواية الجماعة: الأثرم، وإبراهيم الحربي، وأبي داود، وحمدان بن علي (5) وغيرهم ... » .
ب) وقال أيضا (ً (6) : «قال القاضي: نقل الجماعة: بكر بن محمد، ومهنا، وأبو طالب، وأحمد بن الحسن بن حسان (7) ، وصالح ... » .
__________
(1) 202) لابن مفلح، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، 2/444.
(2) 203) يوجد بهذا الاسم (جعفر) من أصحاب أحمد كثير، انظر: الطبقات، 1/122127.
(3) 204) على مشكل المحرر، لابن مفلح، والمطبوع مع المحرر.
(4) 205) النكت، 1/26، وابن مفلح هو: هو محمد بن مُفْلح بن محمد بن مفرّج المقدسي، شمس الدين، أبو عبد الله، برع في علم الفروع، وكان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد، له مصنفات منها: (الفروع) ، وله حاشية على المقنع، وغيرهما، وتوفي سنة 763هـ.
... المنهج الأحمد، 5/118، 120، والشذرات، 6/199.
(5) 206) هو محمد بن علي بن عبد الله بن مهران بن أيوب، أبو جعفر، الورّاق، الجُرْجاني الأصل، يعرف بحمدان، كان من نُبلاء أصحاب أحمد، وعنده عنه مسائل حسان، توفي سنة 272هـ، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
... ... الطبقات، 1/308، 309، والسير، 13/49، 50، والمنهج الأحمد، 1/262.
(6) 207) النكت، 1/64.
(7) 208) كذا في النكت، والموجود في الطبقات، 1/39: «أحمد بن الحسين بن حسان، من أهل سُرّ من رأى، صحب إمامنا أحمد، وروى عنه أشياء ... » ا. هـ. وانظر: المنهج الأحمد، 2/48.(11/205)
ج) وقال أيضاً (1) : «نقل الجماعة: المَرُّوذِي، وأبو داود، وحرب، والميموني، لا تجوز شهادة بعضهم على بعض ... » . يعني أهل الذمة.
10 جاء في شرح الزركشي (2) عند مسألة التيمم لكل صلاة ما نصه: «هذا هو المذهب المشهور، المعمول به عند الأصحاب من الروايات. مع أن القاضي في التعليق لم يحك به نصاً، وإنما قال: أطلق أحمد القول في رواية الجماعة: أبي طالب، والمَرُّوذِي، وأبي داود، ويوسف بن موسى أنه يتيمم لكل صلاة، ومعناه: لوقت كل صلاة ... » .
11 ما جاء في القواعد والفوائد الأصولية (3) في مسألة طلاق الصبي: « ... عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان. إحداهما لا يقع حتى يبلغ. نقل أبو طالب: لا يجوز طلاقه حتى يحتلم. والأصحاب على وقوع طلاقه. وهو المنصوص عن الإمام في رواية الجماعة. منهم صالح، وعبد الله، وابن منصور، والحسن بن ثواب (4) ، والأثرم، وإسحاق بن هانئ، والفضل بن زياد، وحرب، والميموني» .
12 جاء في الإنصاف (5) ، حين ذكر رواية من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب فهو غني قال: «ونقلها الجماعة عن أحمد، قلت: نقلها الأثرم، وابن منصور، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن هاشم الأنطاكي (6)
__________
(1) 209) النكت، 2/281.
(2) 210) على مختصر الخرقي، بتحقيق: د. عبد الله الجبرين، 1/359.
(3) 211) لابن اللحام، ص 26.
(4) 212) هو الحسن بن ثواب، أبو علي الثعلبي، المخرمي، كان الإمام أحمد يأنس به، وكان عنده عن أحمد مسائل مشبعة، توفي سنة 268هـ. الطبقات، 1/131 وما بعدها، والمنهج الأحمد، 1/255 وما بعدها.
(5) 213) للمرداوي، والمطبوع مع المقنع والشرح الكبير، بتحقيق: د. عبد الله التركي، 7/217، 218، وانظر 22/134، 135.
(6) 214) هو أحمد بن هاشم بن الحكم بن مروان الأنطاكي، نقل عن أحمد مسائل كثيرة حساناً، وكان شيخاً جليل القدر.
... الطبقات، 1/82، والإنصاف، 30/406، والمنهج الأحمد، 2/64.(11/206)
، وأحمد بن الحسن (1) ، وبشر بن موسى (2)
__________
(1) 215) وجدت في الطبقات، 1/36،37 اثنين بهذا الاسم هما: أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وأحمد بن الحسن الترمذي، ولعل الأخير هو المراد؛ لأنه من المكثرين الرواية عن أحمد، وممن كان يروي عنه الأكابر كالبخاري وغيره.
(2) 216) هو بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة بن حبان بن سراقة بن مرثد بن حميري، أبو علي الأسدي، البغدادي، روى عن أحمد مسائل صالحة، وكان أحمد يكرمه، ولد سنة 190هـ، وقيل في التي تليها، وتوفي سنة 288هـ.
... الطبقات، 1/121 وما بعدها، والمناقب، ص510، والمنهج الأحمد، 1/311 313 والشذرات، 2/196.(11/207)
، وبكر بن محمد، وأبو جعفر بن الحكم (1) ، وجعفر بن محمد (2) ، وحنبل، وحرب، والحسن بن محمد (3) ، وأبو حامد ابن أبي حسان (4) ، وحمدان الوراق، وأبو طالب، وابناه: صالح وعبد الله، والمَرُّوذِي، والميموني، ومحمد ابن داود (5) ، ومحمد بن موسى، ومحمد بن يحيى (6) ، وأبو محمد مسعود ((7) ، ويوسف بن موسى، والفضل بن زياد» .
__________
(1) 217) لم أقف على ترجمته.
(2) 218) يوجد بهذا الاسم من أصحاب الإمام أحمد المكثرين عنه الرواية اثنان، الأول: هو جعفر بن محمد النسائي الشقراني الشعراني، أبو محمد، كان أحمد يقدمه ويكرمه ويأنس به. والثاني جعفر بن محمد ابن شاكر الصائغ، أبو محمد، ولد قبل التسعين ومائة، وتوفي سنة 279هـ. انظر: الطبقات 1/124 وما بعدها، والإنصاف، 30/407، والمنهج الأحمد، 1/288، 2/83.
(3) 219) يوجد عدد من أصحاب الإمام أحمد بهذا الاسم، وهم: الحسن بن محمد بن الصباح، أبو علي الزعفراني، والحسن بن محمد الأنماطي البغدادي، والحسن بن محمد بن الحارث السجستاني. انظر: الطبقات، 1/138، 139.
(4) 220) ... لم أقف على ترجمته.
(5) 221) هو محمد بن داود بن صبيح، أبو جعفر المصيصي، كان من خواص أبي عبد الله ورؤسائهم، وكان أبو عبد الله يكرمه، ويحدثه بأشياء لا يحدث بها غيره، نقل عنه مسائل كثيرة مصنفة على نحو مسائل الأثرم، ولكن لم يدخل فيها حديثاً.
... الطبقات، 1/296، والإنصاف، 30/414، والمنهج الأحمد، 2/20.
(6) 222) يوجد بهذا الاسم من أصحاب أحمد أربعة هم: محمد بن يحيى بن أبي سمينة المتوفى سنة 287هـ، ومحمد بن يحيى الكحال، له مسائل كثيرة عن أبي عبد الله، وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد، ومحمد بن يحيى النيسابوري، ومحمد بن يحيى بن منده الأصبهاني. انظر الطبقات، 1/327، 328.
(7) 223) لم أقف على ترجمته.(11/208)
وبعد، فأنت أيها القارئ الكريم، تلحظ من خلال النصوص الآنفة، تظافرها في الدلالة على أن هذا المصطلح (رواه الجماعة) لا يراد به التحديد بعدد مقدر ومعدود معين لا يختلف عنهما بحال، وهي من الوضوح والبيان بمكان لا يتطرق إليه شك أو احتمال في الجملة، وهذا أمر لا يحتاج إلى تطويل ومزيد تقرير، وبخاصة أن الأصحاب اعتمدوا كتب الخلال مصدراً لعلوم أحمد وفقهه، وساروا كما ظهر أثناء النقول المتقدمة سيره في التعبير به وفق منهجه الذي سبق بيانه.
قال ابن الجوزي عن الخلال وكتبه (1) : «كل من تبع هذا المذهب يأخذ من كتبه» .
وقال ابن بدران (2) في المدخل (3) : « ... ومن ثم كان جامع الخلال هو الأصل لمذهب أحمد، فنظر الأصحاب فيه، وألّفوا كتب الفقه منه» .
الفصل الخامس: فائدة التعبير به.
يظهر والله أعلم أن الخلال أراد أن يجعله من الدلائل التي يستفاد منها معرفة مذهب الإمام أحمد رحمه الله في المسألة.
يقول أبو بكر الخلال (4) : « ... ولأن بعض من يظهر أنه يقلد مذهب أبي عبد الله ربما كنا معهم في مؤنة عظيمة من توهمهم للشيء من مذهب أبي عبد الله، أو تعلقهم بقول واحد، ولا يعلمون قول أبي عبد الله من قبل غير ذلك الواحد، وأبو عبد الله يحتاج من يقلد مذهبه أن يعرفه من رواية جماعة ... » .
__________
(1) 224) في كتابه المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، بتحقيق محمد عطا، ومصطفى عطا، 13/221.
(2) 225) هو عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد بدران، المعروف بابن بدران، ولد في دوما إحدى القرى القريبة من دمشق، له تصانيف عديدة منها: شرح روضة الناظر، وكتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد وغيرهما، توفي سنة 1346هـ. انظر:الأعلام، للزركلي،4/37.
(3) 226) إلى مذهب الإمام أحمد، بتحقيق: د. عبد الله التركي، ص 124.
(4) 227) أهل الملل والردة، 1/214.(11/209)
ومما لا شك فيه أن معرفة مذهب الإمام أحمد ورأيه في المسألة يحتاج إلى سبر لما رواه تلاميذه عنه فيها، فلا يعول على رواية دون الاطلاع على سائر الروايات عنه، ومن ثم يجزم بأنها مذهبه.
ومما يعرف به مذهب الإمام كثرة من نقل الرواية عنه وهو ما يسمى (بالجماعة) ، قال ابن تيمية (1) : «وما انفرد به بعض الرواة عن الإمام وقوي دليله فهو مذهبه، وقيل: لا، بل ما رواه جماعة بخلافه» .
__________
(1) 228) المسودة، ص 472، وانظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، ص96، 97، والفروع، 1/69، وكشاف القناع، 1/22، والمدخل، ص133(11/210)
وقال المرداوي (1) : «وما انفرد به بعض الرواة وقوي دليله، فهو مذهبه» (2) . وصحَّح هذا القول فقال (3) : «وهو الصحيح قدمه في الرعايتين وآداب المفتي، والشيخ تقي الدين في المسودة، واختاره ابن حامد (4) ، وقال: يجب تقديمها على سائر الروايات؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة في الحديث عند الإمام أحمد، فكيف والراوي عنه ثقة خبير بما رواه. قلت: وهو الصواب (5)
__________
(1) 229) هو: علاء الدين، أبو الحسن، علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي، السعدي، ثم الصالحي، شيخ المذهب، ومحققه، ومنقحه، ومصححه، محرر العلوم، ولد سنة 817هـ، له التصانيف المشهورة، كالإنصاف، وغيره. توفي سنة 885هـ. انظر: المنهج الأحمد، 5/290 298، والشذرات، 7/340.
(2) 230) الإنصاف، 30/373.
(3) 231) تصحيح الفروع، 1/69، وانظر: الإنصاف، 30/373 وما بعدهما.
(4) 232) هو: أبو عبد الله، الحسن بن حامد بن علي بن مروان، البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه، ومدرسهم، ومفتيهم، له المصنفات في العلوم المختلفة، وكان يتقوت من النسخ، ويكثر من الحج، توفي راجعاً من الحج سنة 403هـ. انظر: الطبقات، 2/171 والسير، 17/203، والشذرات، 3/166.
(5) 233) وهو ما يتفق مع أصول الإمام أحمد يشهد له ما جاء عن الإمام أحمد حين سأله أبو سفيان المستملي، فقال: «سألت أحمد عن مسألة، فأجابني فيها، فلما كان بعد مدة سألته عن تلك المسألة بعينها، فأجابني بجواب خلاف الجواب الأول، فقلت له: أنت مثل أبي حنيفة الذي يقول في المسألة الأقاويل، فتغير وجهه، وقال: يا موسى ليس لنا مثل أبي حنيفة، أبو حنيفة كان يقول بالرأي، وأنا أنظر في الحديث، فإذا رأيت ما هو أحسن أو أقوى أخذت به وتركت القول الأول، وهذا صريح في ترك الأول» .
... المسودة، ص 470، وانظر: أصول الفقه لابن مفلح، 3/952.(11/211)
والوجه الثاني: لا يكون مذهبه، بل ما رواه الجماعة بخلافه أولى. اختاره الخلال وصاحبه؛ لأن نسبة الخطأ إلى الواحد أولى من نسبته إلى جماعة، والأصل اتحاد المجلس.
قلت: وهذا ضعيف، ولا يلزم من تقديم ذلك خطأ الجماعة، وانفراده بذلك يدل على تعدد المجلس، وكونهما في مجلسين أولى للجمع وعدم الخطأ، ويحتمل أن يتحد المجلس ويحصل ذهول أو غفلة والله أعلم» ا. هـ.
ومما تقدم يظهر أن المذهب لدى الخلال وصاحبه وغيرهما هو ما اتفق على نقله الجماعة عن الإمام أحمد (1)
__________
(1) نظر: مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي، ص 15.
فهرس المراجع
آل تيمية. عبد السلام، وعبد الحليم، وأحمد.
المسودة في أصول الفقه. تقديم: محمد محيي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني. مصر.
أبو زيد. بكر بن عبد الله.
المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب. ط/ الأولى. دار العاصمة. الرياض: 1417 هـ.
ابن أبي يعلى. محمد بن محمد بن الحسين.
المسائل التي حلف عليها أحمد. تحقيق: محمود حداد.ط/ الأولى.دار العاصمة. الرياض: 1407هـ.
ابن أبي يعلى. محمد بن محمد بن الحسين.
طبقات الحنابلة. دار المعرفة. بيروت.
ابن الأثير. مبارك بن محمد الجوزي.
جامع الأصول من أحاديث الرسول (. إشراف وتصحيح: عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي. ط/ الرابعة: 1404هـ 1984م. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
ابن الجوزي. عبد الرحمن بن علي.
المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا. ط/ الأولى. دار الكتب العلمية بيروت: 1412 هـ.
ابن الجوزي. عبد الرحمن بن علي.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل. ط/ الثالثة. دار الآفاق الجديدة: 1402 هـ.
ابن العماد. عبد الحي.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب. دار الفكر. بيروت: 1414 هـ.
ابن بدران. عبد القادر.
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق د. عبد الله التركي ط/ الثانية. مؤسسة الرسالة. بيروت 1401هـ.
ابن تيمية. أحمد بن عبد الحليم.
شرح كتاب العمدة. والمطبوع منه:
أ – كتاب الطهارة. تحقيق: د. سعود العطيشان. ط/ الأولى. مكتبة العبيكان. الرياض: 1413 هـ.
ب – كتاب الحج. تحقيق: د. صالح الحسن. ط/ الأولى. مكتبة العبيكان. الرياض: 1413 هـ.
ج – كتاب الصلاة. تحقيق: د. خالد المشيقح.ط/ الأولى. دار العاصمة. الرياض: 1418هـ.
د – كتاب الصيام. تحقيق: زائد النشيري. ط/ الأولى. دار الأنصاري. مكة المكرمة:1417 هـ.
ابن تيمية. عبد السلام (أبو البركات) .
المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. ط/ الثانية. مكتبة المعارف. الرياض: 1404 هـ. والمطبوع معه النكت والفوائد السنية. لابن مفلح.
ابن حمدان. أحمد.
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي. خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني. ط/ الأولى. المكتب الإسلامي. دمشق: 1380 هـ.
ابن حمدان. سليمان بن عبد الرحمن.
هداية الأريب الأمجد لمعرفة أصحاب الرواية عن أحمد. تحقيق: الشيخ/ بكر أبو زيد. ط/ الأولى. دار العاصمة. الرياض: 1418 هـ.
ابن حميد. محمد بن عبد الله.
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة. تحقيق: الشيخ/ بكر أبو زيد، ود. عبد الرحمن العثيمين. ط/ الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت: 1416 هـ – 1996 م.
ابن حنبل. أحمد بن محمد.
الجامع في العلل ومعرفة الرجال. رواية ابنه عبد الله وابنه صالح. والمروذي. والميموني. اعتنى به: محمد حسام بيضون. ط/ الأولى. مؤسسة الكتب الثقافية: 1410 هـ.
ابن حنبل. أحمد بن محمد.
مسند الإمام أحمد بن حنبل. فهرس رواة المسند: محمد بن ناصر الدين الألباني. مؤسسة قرطبة.
ابن حنبل. صالح بن أحمد.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق: د. فضل الرحمن دين محمد. ط/ الأولى. الدار العلمية. الهند: 1408 هـ.
ابن حنبل. عبد الله بن أحمد.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل.تحقيق:د. علي المهنا. ط/ الأولى. مكتبة الدار بالمدينة المنورة: 1406هـ.
ابن رجب. عبد الرحمن.
الذيل على طبقات الحنابلة. دار المعرفة. بيروت.
ابن عابدين. محمد أمين أفندي.
حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار. دار الفكر. ط/ الثانية: 1386 هـ 1966م.
ابن عابدين. محمد أمين أفندي.
مجموعة رسائل ابن عابدين. دار إحياء التراث العربي. ييروت. لبنان.
ابن قدامة. عبد الرحمن بن محمد.
الشرح الكبير. تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. وعبد المفتاح الحلو. ط/ الأولى. دار هجر للطباعة والنشر. القاهرة: 1414 هـ. والمطبوع مع المقنع والإنصاف.
ابن قدامة. عبد الله بن أحمد.
المغني. تحقيق د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. دار هجر للطباعة والنشر. ط/ الأولى 1406 هـ.
ابن قدامة. عبد الله بن أحمد.
الكافي. تحقيق: د. عبد الله التركي. ط/ الأولى.دار هجر للطباعة والنشر. مصر: 1417هـ 1997م.
ابن قيم الجوزية. محمد بن أبي بكر.
أحكام أهل الذمة. تحقيق: د. صبحي الصالح. ط/ الثالثة. دار العلم للملايين. بيروت: 1983م.
ابن قيم الجوزية. محمد بن أبي بكر.
إعلام الموقعين عن رب العالمين. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
ابن قيم الجوزية. محمد بن أبي بكر.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار الكتب العلمية. بيروت.
ابن قيم الجوزية. محمد بن أبي بكر.
تحفة المودود بأحكام المولود. تحقيق: محمد أبو العباس. مكتبة القرآن. القاهرة.
ابن قيم الجوزية. محمد بن أبي بكر.
زاد المعاد في هدي خير العباد. تعليق وتخريج: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط. ط/ الخامسة والعشرين. مؤسسة الرسالة. بيروت: 1412 هـ.
ابن مفلح. إبراهيم بن محمد.
المبدع في شرح المقنع. المكتب الإسلامي. بيروت: 1980 م.
ابن مفلح. محمد.
أصول الفقه (القسم الثاني من الكتاب) . تحقيق: فهد بن محمد السدحان (رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: 1404 هـ) .
ابن مفلح. محمد.
الآداب الشرعية والمنح المرعية. تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعمر القيام. ط/ الثانية.مؤسسة الرسالة. بيروت: 1417 هـ – 1997 م.
ابن مفلح. محمد.
الفروع. مراجعة عبد اللطيف السبكي. ط/ الثالثة. عالم الكتب. بيروت: 1402 هـ.
ابن مفلح. محمد.
النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر. ط/ الثانية. مكتبة المعارف. الرياض: 1404 هـ. والمطبوع مع المحرر.
ابن مندة. محمد بن إسحاق بن يحيى.
الإيمان. تحقيق وتعليق وتخريج: الدكتور: علي بن محمد الفقيهي. ط/3: 1407هـ 1987م. مؤسسة الرسالة. بيروت.
ابن منظور. محمد بن مكرم.
لسان العرب. دار صادر. بيروت.
ابن هانئ. إسحاق بن إبراهيم.
مسائل الإمام أحمد. تحقيق: زهير الشاويش. المكتب الإسلامي. بيروت: 1400هـ.
ابن هبيرة. يحيى بن محمد.
الإفصاح عن معاني الصحاح. المؤسسة السعيدية بالرياض.
البعلي. علاء الدين علي بن محمد (ابن اللحام) .
القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية. تحقيق: محمد حامد الفقي. مطبعة السنة المحمدية. القاهرة:1375 هـ.
البعلي. علاء الدين علي بن محمد.
الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. تصحيح: عبد الرحمن حسن محمود. المؤسسة السعيدية بالرياض.
البعلي. محمد بن أبي الفتح.
المطلع على أبواب المقنع. ومعه معجم ألفاظ الفقه الحنبلي. صنع: محمد بشير الأدلبي. ط/ 1401هـ 1981م. المكتب الإسلامي بيروت ودمشق.
البُهوتي. منصور بن يونس.
شرح منتهى الإرادات. نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
البهوتي. منصور بن يونس.
كشاف القناع عن متن الإقناع. تعليق ومراجعة: هلال مصيلحي. دار الفكر. بيروت: 1402هـ.
الجراعي. تقي الدين أبو بكر بن زيد.
غاية المطلب في معرفة المذهب. (من أول الكتاب حتى نهاية الهبة) . تحقيق: أيمن بن محمد العمر. (رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الماجستير من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: 1416 هـ) .
الخلال. أحمد بن محمد.
أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب الجامع. تحقيق: د. إبراهيم السلطان. ط/ الأولى. مكتبة المعارف. الرياض: 1416 هـ.
الذهبي. محمد بن أحمد.
تذكرة الحفاظ. دار إحياء التراث العربي.
الذهبي. محمد بن أحمد.
سير أعلام النبلاء.حُقق بإشراف:شعيب الأرنؤوط.ط/ الثالثة. مؤسسة الرسالة. بيروت: 1405هـ.
الذهبي. محمد بن أحمد.
العبر في خبر من غبر. تحقيق: محمد السعيد زغلول. دار الكتب العلمية. بيروت.
الرازي. محمد بن أبي بكر.
مختار الصحاح. دار الكتاب العربي. بيروت. 1401 هـ.
الزركشي. محمد بن عبد الله.
شرح الزركشي على مختصر الخرقي في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق: د. عبد الله الجبرين. طبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر. الرياض.
الزركلي. خير الدين.
الأعلام. الطبعة الثامنة: 1989م. دار العلم للملايين. بيروت. لبنان.
السامُرّي. محمد بن عبد الله.
المستوعب. تحقيق: د. مساعد الفالح. ط/ الأولى. مكتبة المعارف. الرياض: 1413 هـ.
السجستاني. سليمان بن الأشعث (أبو داود) .
مسائل الإمام أحمد. تقديم: محمد رشيد رضا. دار المعرفة. بيروت.
السعدي. محمد.
الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق: د. محمد زينهم عزب. مكتبة غريب.
السيوطي. جلال الدين.
تاريخ الخلفاء. ط/ الأولى. دار الكتب العلمية. بيروت: 1408 هـ.
السيوطي. جلال الدين.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف. ط/ الثانية دار الكتب العلمية. بيروت 1399 هـ.
الشُّويكي. أحمد بن محمد.
التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح. تحقيق: د. ناصر الميمان. ط/ الأولى. المكتبة المكية بمكة المكرمة: 1418 هـ.
الطوفي. سليمان بن عبد القوي.
شرح مختصر الروضة. تحقيق: د. عبد الله التركي.ط/ الأولى.مؤسسة الرسالة. بيروت: 1410هـ.
العليمي. عبد الرحمن بن محمد.
المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد. أشرف على التحقيق: عبد القادر الأرنؤوط ط/ الأولى. دار صادر. بيروت. توزيع مكتبة الرشد بالرياض: 1997 م.
الفتوحي. محمد بن أحمد. (المعروف بابن النجّار) .
شرح الكوكب المنير. تحقيق: محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد. جامعة الملك عبد العزيز. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي: 1400 هـ.
الفتوحي. محمد بن أحمد.
معونة أولي النهى شرح المنتهى.تحقيق:د. عبد الملك بن دهيش. ط/ الأولى. دار خضر. بيروت: 1416 هـ.
الفراء. محمد بن الحسين (أبو يعلى) .
الأحكام السلطانية. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار الكتب العلمية. بيروت: 1403 هـ.
الفراء. محمد بن الحسين (أبو يعلى) .
التعليق الكبير في المسائل الخلافية (كتاب الحج) . د. عواض العمري. (رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الفقه من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: 1408 هـ) .
الفراء. محمد بن الحسين (أبو يعلى) .
الجامع الصغير. (قسم العبادات) بتحقيق: محمد التويجري. (رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الماجستير من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: 1405 هـ) .
الفراء. محمد بن الحسين (أبو يعلى) .
المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين. تحقيق د. عبد الكريم اللاحم. ط/ الأولى. مكتبة المعارف. الرياض: 1405 هـ.
الفيروز آبادي. محمد بن يعقوب.
القاموس المحيط. تحقيق مكتب التراث بمؤسسة الرسالة. ط/ الثانية. مؤسسة الرسالة. بيروت 1407هـ.
الفيومي. أحمد بن محمد.
المصباح المنير. اعتنى بطباعته: يوسف الشيخ محمد. ط/ الأولى. المكتبة العصرية.
القرشي. إسماعيل بن كثير.
البداية والنهاية. تحقيق: د. أحمد أبو ملحم وآخرون. ط/ الأولى. دار الكتب العلمية. بيروت: 1405هـ.
الكلوذاني. محفوظ بن أحمد (أبو الخطاب) .
الانتصار في المسائل الكبار. تحقيق د. سليمان العمير (كتاب الطهارة) ، ود. عوض بن رجاء العوفي (كتاب الصلاة) . ط/ الأولى. مكتبة العبيكان. الرياض: 1413 هـ.
الكلوذاني. محفوظ بن أحمد (أبو الخطاب) .
الهداية. تحقيق: إسماعيل الأنصاري، وصالح العمري. ط/ الأولى. مطابع القصيم: 1390هـ.
مجمع اللغة العربية.
المعجم الوسيط. قام بإخراج طبعته د. إبراهيم أنيس وآخرون. المكتبة الإسلامية. استنبول.
المرداوي. علي بن سليمان.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. ط/ الأولى. دار هجر للطباعة والنشر. مصر 1414 هـ – 1993م. والمطبوع مع المقنع والشرح الكبير.
المرداوي. علي بن سليمان.
تصحيح الفروع. مراجعة عبد العزيز السبكي. ط/ الثالثة. دار عالم الكتب. بيروت: 1402 هـ. والمطبوع مع الفروع.
المقدسي. عبد الرحمن بن إبراهيم.
العدة في شرح العمدة. تعليق: محب الدين الخطيب. ط/ الثانية. المكتبة السلفية. القاهرة.
النجدي. عثمان بن أحمد.
حاشية المنتهى. تحقيق: د. عبد الله التركي. ط/ الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت: 1419 هـ 1999 م. والمطبوع مع منتهى الإرادات للفتوحي.
الهندي. علي بن محمد.
مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي. مطابع قريش: 1388هـ.(11/212)
خاتمة
لعل أبرز نتائج البحث في فصوله الخمسة يمكن تدوينها على النحو الآتي:
1 أن صيغ هذا المصطلح متعددة، منها:
أ) رواه الجماعة.
ب) نقله الجماعة.
ج) رواه جماعة.
د) نقله جماعة.
2 أن هذا المصطلح نشأ منذ بدايات تدوين فقه الإمام أحمد رحمه الله فقد وجد هذا المصطلح في أعظم مدونات المذهب وأهمها كتاب (الجامع) لمؤلفه: أبو بكر الخلال (ت311هـ) ، ومن ثم تناقله الأصحاب متقدهم ومتأخرهم عنه في مصنفاتهم.
3 أن واضع هذا المصطلح هو أحمد بن محمد الخلال، يشهد له كتابه العظيم (الجامع) ففيه ذكر لهذا المصطلح، كما أن الأصحاب نقلوه منسوباً إليه.
4 أن المراد بمصطلح (رواه الجماعة) : جمع من رواة المسائل عن الإمام أحمد رحمه الله من تلاميذه، بحيث يصدق عليهم وصف الجماعة من غير تحديد بعدد مقدر ومعدود معين.
5 أن فائدة التعبير بهذا المصطلح تتجلى في كونه مما يعرف به المذهب عند المتقدمين كالخلال، فما رواه الجماعة من الدلائل التي يعرف بها المذهب.
هذا ما ظهر لي أثناء البحث، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/213)
منهج مالك بن أنس في العمل السياسي
د. الدكتور أحمد العوضي
أستاذ مشارك بقسم الفقه واصوله- كلية الشريعة
جامعة مؤتة -الكرك -الأردن
ملخص البحث
يمثل هذا البحث محاولة للكشف عن منهج مالك بن أنس في العمل السياسي. بدأته بتعريف موجز بشخصية مالك، وعرفت بأشهر شيوخه لبيان مدى استقلاله عنهم وعدم تأثره بهم أو تقليده لهم في منهجه السياسي، وإن توافق معهم في بعض جوانب منهجه، فإنما هو توافق ناشيء عن نظر واجتهاد وليس عن تأثر وتقليد، وتعرضت لمنهجه في سلوكه السياسي وخطابه السياسي مع السلطة الحاكمة، ثم أوضحت منهجه في المشاركة السياسية ومنهجه في موقفه من المعارضة المسلحة (الخروج المسلح) . وتكلمت في الجانب السياسي لأصل فكرة تأليف كتابه "الموطأ"، وأوضحت أثر المصلحة باعتبارها أصلا من أصول الفقه عنده في منهجه السياسي، وختمته بسرد أبرز استنتاجاتي فيه.
مقدمة
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
... فإن مالك بن أنس إمام مدرسة كبرى في الفكر الاجتهادي في الفقه وأصوله، وواحد من كبار أئمة مدرسة أهل السنة والجماعة في الفكر العقدي.
ونشأت لدي رغبة في التعرف على منهجه في العمل السياسي، وأقصد بذلك، منهجه في سلوكه وخطابه السياسيين، ومنهجه في المشاركة السياسية، أي تولي وظائف الحكم والإدارة، ومنهجه في موقف من الخروج على السلطة السياسية، والجانب السياسي وراء محنته، وموقفه من الجانب السياسي في طلب تأليف الموطأ ودور المصلحة في منهجه في تلك القضايا السياسية.
وبعد البحث تشكلت لدي هذه الدراسة، فعزمت على تقديمها تحت عنوان "منهج مالك بن أنس في العمل السياسي".
كذلك، حرصت على إضفاء طابع التحليل والاستنتاج على هذه الدراسة وربطها بواقعنا المعاصر. فمنهجي فيها منهج الجمع والتحليل والاستنتاج وتوظيف الجانب النظري للاستفادة منه في الواقع العملي(11/214)
هذا، وإن من يتصدى للعمل الإسلامي أحوج ما يكونفي نظري -لمثل هذه الدراسات، ليعتمد فقه الأئمة ومناهجهم في في الخطاب السياسي والعمل السياسي.
وقد جعلت هذه الدراسة في النقاط الآتية:-
اولاً:- ... ترجمة مختصرة للإمام مالك.
ثانياً:- ... الحياة السياسية في عصر مالك.
ثالثاً:- ... منهجه في خطابه وسلوكه السياسيين.
رابعاً:- ... الجانب السياسي في محنة مالك.
خامساً:- ... منهجه في المشاركة السياسية (تولي وظائف الحكم والإدارة) .
سادساً:- ... منهجه في موقفه من الخروج على السلطة السياسية.
سابعاً:- ... موقفه من الجانب السياسي في تأليف الموطأ.
ثامناً:- ... أثر أصل المصلحة" في منهجه السياسي.
تاسعاً:- ... مدى استقلاله عن شيوخه في منهج العمل السياسي.
الخاتمة، وضمنتها أبرز الاستنتاجات في هذه الدراسة.
أولا: ترجمة مختصرة للأمام مالك:
هو مالك بن أنس مالك بن أبي عامر الأصبحي القحطاني اليمني (1) . واسم أمة العالية بنت شريك الأزدية (2) ، فهي من قبيلة عربية مشهورة. فمالك عربي الأبوين، لم يجر عليه ولاء ولا رق، وفي ذلك قال أبو سهيل بن مالك "نحن قوم من ذي أصبح، ليس لأحد علينا عقد ولا عهد". (3)
قدم جده مالك من اليمن متظلما من بعض الولاة، واستقر مقامه قريبا من المدينة المنورة، وكان مالك هذا أحد أربعة حملوا عثمان بن عفان ليلا إلى قبره في البقيع. (4)
ولد مالك بن أنس سنة ثلاث وتسعين هجرية على أشهر الروايات (5) وقدم أبوه به إلى المدينة، فنشأ وعاش فيها، ولم يستوطن غيرها، ولم يخرج منها إلا لحج أو عمرة، ومات فيها سنة تسع وسبعين ومائة (971 هجرية (6) .
وجلس مالك لتدريس العلم وهو ابن سبع عشرة سنة وأشياح متوافرون (7) .(11/215)
وكان رحمه الله على درجة عالية من العقل والذكاء والهيبة والوقار، قد شهد العلماء الأئمة له بذلك، وأنهت إلينا كتب المناقب والتاريخ الكثير في هذا الجانب، فمن أمثلة ذلك: (8) . قال سفيان بن عينية. إن بالمدينة من بورك له في عقله، يعني مالك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومائة، ومالك أسود الرأس واللحية، والناس حواليه سكوت لا يتكلم أحد منهم هيبة له، ولا يفتي أحد في مسجد رسول الله غيره، فجلست بين يديه فسألته فحدثني، فاستزدته فزادني، ثم غمزني بعض أصحابه فسكت.
وقال: ما رأيت أثبت عقلا من مالك. وقال: ما أدركت أحدا من علماء الحجاز إلا معظما لمالك. وإن الله لا يجمع أمة محمد في حرمه وحرم نبيه إلا على هدى.
وكان شيخه ربيعه إذا رآه قال: قد جاء العاقل.
وقد شهد لمالك أنه بلغ رتبة الإمامة في العلم، وذكر أثره في حفظ العلم، لا سيما الحديث والفقه من الضياع، فمن ذلك:
قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحدا ممن كتب عنه علم رسول الله أهيب في نفسي من مالك ولا أشد إعظاما لحديث رسول الله من مالك، ولا أشح على دينه من مالك، ولو قيل: اختر للأمة إماما لاخترت لهم مالكا.
وقال رجل لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد، رجل أراد أن يسأل عن مسألة رجلا من أهل العلم ليكون حجة بينه وبين الله، فقال سفيان: مالك ممن يجعله الرجل حجة بينه وبين الله.
وقال النسائي: "وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك بن أنس ولا أجل، ولا آمن على الحديث منه (9) ".
... وقال يحيى بن سعيد القطان "كان مالك أماما في الحديث، وقال سفيان بن عينية: " كان مالك إماما في الحديث (10) .
... وقال الشافعي:"لولا مالك وسفيان-ابن عينية- ذهب علم الحجاز (11) . وقال:"إذا جاء الأثر فمالك النجم" وفي لفظ آخر: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم (12) ".
... وقال الشافعي:"العلم -يعني الحديث -يدور على ثلاث: مالك بن أنس وسفيان بن عينية، والليث بن سعد (13) .(11/216)
.. وقال النسائي: "أمناء الله-عز وجل -على علم رسول الله: شعبة ابن الحجاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عينية، ويحيى بن سعيد القطان، والثوري إمام إلا أنه كان يروي عن الضعفاء (14) .
... وسئل أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، رجل يريد أن يحفظ حديث رجل بعينه، فقال أحمد:يحفظ حديث مالك (15) .
... وقال وهيب بن خالد: أتينا الحجاز فما سمعنا حديثا إلا نعرف وننكر إلا حديث مالك (16) .
وقال علي بن المديني: لم يكن بالمدينة أعلم بمذاهب تابعيهم من مالك (17) .
وقال يحيى بن معين: مالك أمير المؤمنين في الحديث (18) .
... وكان -رحمه الله- يكره الجدل والخصومة والنزاع، سواء في ميدان الفكر والعلم النظري وفي الميدان السياسي، وسوف يأتي بحث الجانب السياسي، أما في جانب الفكر والعلم النظري فجاءت روايات نذكر بعضها:
قال الشافعي: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما أنا فإني على بينة من دينه، وأما أنت فشاك، إذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. (19)
وروي أنه قال: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم (20) .
وقال له الرشيد يوما: ناظر أبا يوسف- صاحب أبي حنيفة -فقال مالك: إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة (21) .
... وقيل له: الرجل عالم بالسنة، أيجاد عنها، قال: لا، ولكن ليخبر بالسنة، فإن قبل منه والإ سكت.
فكان مالك يرى الجدل مفسدا للدين، ومبعدا للناس عن الوحي، فلم يكن من منهجه في العلم الخوض في الجدل والخصومة، فانسجم منهجه في العلم مع منهجه في السياسة وهو عدم الميل إلى الصراع والعنف، وحب الأمن والاستقرار، وهو ما سيأتي بيانه-إن شاء الله.(11/217)
.. وقد استوعى مالك السنة واستوعب الفقه وأصوله، واستجمع فتاوى الصحابة، حتى شهد له سبعون من أكابر فقهاء المدينة بالكفاية للتدريس والإفتاء فقد روي عنه قوله: "ماجلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أن لي موضع لذلك". وقوله: "قل رجل كنت أتعلم منه ما مات حتn يجيئني ويستفتيني" (22) . وكان إماما في العقيدة وعلوم الشريعة، وصاحب منهج متميز في الاجتهاد. ونشأت على أساس من منهجه مدرسة متميزة في الفكر الاجتهادي في الفقه وأصوله نسبت إليه وأطلق عليها "المذهب المالكي".
ثانيا: الحياة السياسية في عصر مالك (23) :
... كان من مشايخ مالك وأهله من شاهد كثيرا من الأحداث السياسية في القرن الأول الهجري أو سمع من أنبائها، لاسيما أنباء الخروجات والثورات، فسمع مالك من تلك الأنباء، وشاهد بنفسه أحداثا سياسية وقعت في المدينة، وسمع أنباء أحداث وقعت في عصره ضد بني أمية، وعاصر خروج العباسيين على الأمويين واستيلاء العباسيين على الخلافة، وانتهاء أمر الأمويين في المشرق الإسلامي.
... ولعل مالكا أدرك أن الخروج والثورة كان هو الطابع الغالب على الحياة السياسية منذ أن حاصر الأحزاب المدينة وقتلوا عثمان سنة خمس وثلاثين للهجرة، وكان مالك بن أبي عامر جد الإمام مالك أحد أربعة حملوا عثمان بعد قتله- رضي الله عنه-إلى قبره بالبقيع. (24)
... وعلم مالك بوقعة الجمل بين جيش علي وجيش عائشة وطلحة وابن الزبير، ثم الفتنة بين علي ومعاوية، ووقعة صفين، وخروج الخوارج على علي وقتله سنه أربعين، وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية والصلح بين الأمة على يد الحسن -رضي الله عنه-،وأثر ذلك على الأمن والاستقرار في الدولة، وثمرات ذلك على الدين والدعوة والفتوح الاسلامية في عهد معاوية.(11/218)
.. وعلم مالك بأنباء أخذ البيعة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان بالإكراه وخروج الحسين بن علي على يزيد ومقتل الحسين سنة إحدى وستين، وفرار ابن الزبير من المدينة إلى مكة هربا من الإكراه على البيعة ليزيد، ومحاصرة جيش يزيد له في الحرم ونصب المنجنيق عليها وضربها واحتراق استارها وخشبها، وتصدع جدرانها.
وكذلك، جاءه من أنباء وقعة الحرة سنة ثلاث وستين حيث استولت جيوش يزيد بن معاوية على المدينة بسبب إعلان أهلها خلعه لما علموا من أنباء فسقه وجوره، فاستباحها قائد جيش يزيد واستباحتها، ووقع الجنود على النساء ونهبوا الأموال، قال مالك: قتل يوم الحرة سبعمائة ممن حمل القرآن. (25) ... وكذلك، تناهى إلى مالك خروج التوابين بقيادة سليمان بن صرد على عبيد الله بن زياد في خلافة مروان بن الحكم سنة خمس وستين ثأرا للحسين، بعد مقتل سليمان بن صرد وأصحابه، ثم خروج إبراهيم بن الاشتر النخعي بالكوفة وقتله عبيد الله بن زياد سنه سبع وستين، ثم مقتل عبد الله بن الزبير سنه ثلاثة وسبعين، بعد أن حاصرته جيوش عبد الملك بن مروان داخل الحرم وضربت الكعبة بالمنجنيق، حتى أصيب ابن الزبير وقتل.
... وسمع مالك الكثير من أبناء ثورات الخوارج في أرجاء الدولة الإسلامية، وشاهد بعضها.
... ولعل مالكا نشأ على سماع أخبار الفتن والصراعات، والقتل وسفك الدماء وإزهاق الأرواح وأدرك أثر ذلك على الأمة والدولة والدين والدعوة، وأن ذلك لم يقم حقا ولم يدفع باطلا.
... وقد رأى مالك أن العباسيين استولوا على الخلافة بطريق الخروج والثورة ولم يكن حالهم بأحسن من حال الأمويين، فقد عضوا عليها وجعلوها وراثية فيهم، وواجهوا العلويين الذين كانوا يرون أنفسهم أحق بالخلافة بالقمع والاضطهاد والتضييق والتشريد.(11/219)
كذلك، شاهد مالك كيف أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم تستباح حرماتها، ويقتل العباسيون فيها أبناء المهاجرين والأنصار، ويستذلونهم في سبيل إقرار الأمن لمصلحة حكمهم وولايتهم.
وشاهد مالك خروج (محمد) النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في المدينة على أبي جعفر سنة مائة وخمسة وأربعين، وما نتج عن ذلك من تضييق على أهل المدينة جيران رسول الله-صلى الله عليه وسلم- واضطهاد لآل علي بن أبي طالب وتقييدهم وجلبهم إلى العراق.
وبعد ذلك وفي السنة نفسها خرج إبراهيم أخو النفس الزكية في البصرة على أبي جعفر وكانت نهايته وأصحابه الهزيمة والقتل.
وقبل ذلك خرج زيد بن علي بن أبي طالب، وهزم وقتل سنه 221هـ، وقتل من معه وخرج بعده ابنه يحيى وهزم وقتل من معه إلا من هرب فنجا.
وفي سنه مائة وثلاثين استولى أبو حمزة الخارجي على المدينة وقتل كثيرا من أهلها، ولعل مالكا أدرك مبكرا أن الخروج يرهق الأمه ويشتت شملها ويفرق صفها، وليس من السهل الميسور على من استولى على السلطة بالقوة أن يفرط بكرسي السلطة أو يفرط في العض عليه وتوريثه لذريته.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمة ومصالحها والدعوة ومقاصدها ستضيع بين متطلع إلى السلطة مهما كان مقصده من الوصول إليها، ومستول عليها متشبث بها، ولا يدرى هل من سيصل إليها سيكون مثل المستولي عليها أو أسوأ حالا.
وإن مواقف مالك كما سيأتي لتدل على أن الواقع الذي سمع مالك بعضا من أبنائه أو شاهده قد رسخ لديه قاعدة فكرية ما أنفكت تترسخ لديه، وهي أن أول ما ينبغي أن يعنى به ويسعى إليه هو الاستقرار السياسي في الدولة، والأمن للأمة والنصح للأئمة، وذلك لما للعنف والصراعات من أثر سيء وثمر نكد على الأمة والدولة وعلى الدنيا والدعوة.(11/220)
ولعل مالكا قد ترجح لديه أن المفسدة في ظلم أولى الأمر إذا رافقه استقرار سياسي واستتباب للأمن أخف وأهون من المفسدة التي تقترن بالعنف والصراع أو تعقبه، فإن القتل والتشريد والتضييق وضنك العيش المصاحب للخروج على ولي الأمر أو الناتج عنه لا يصيب الخارجين خاصة.
وإن هذا ما يمكن في نظر الباحث أن يفسر به دوام حرص مالك على بذل الطاعة والتزام الجماعة، ولكنها طاعة العالم الإمام، الحريص على نصح ولي الأمر، والذي لا يخاف في الحق لومة لائم فلم يكن- رحمه الله-ملاينا للخلفاء، ولا مبالغا في احترامهم، ومما يروى في ذلك قوله: دخلت على أبي جعفر مرارا وكان لا يدخل عليه أحد من بني هاشم ولا غيرهم إلا قبل يده ولم أقبل يده قط (26) .
ولم يختلف منهج مالك في الدولة العباسية عنه في الدولة الأموية، فلم يخض في عداء ولا تأييد لأي من أطراف الصراعات السياسية، ولم يشارك في خروج ضد أولي الأمر، بقطع النظر عن كون الخارجين محقين أو مبطلين.
ويمكن أن يقال إن منهج مالك في عدم الميل إلى سبيل الخروج ربما نشأ لديه مبكرا، بسبب ما كان يسمع من الفتن والويلات التي كانت تقترن بالثورات والاضطرابات أو تعقبها، وبسبب عدم إفضاء شيء منها إلى إقامة حق أو دفع باطل.
ثالثا:- منهجه في خطابه وسلوكه السياسيين:-
إن من أبرز معالم منهج مالك في خطابه وسلوكه السياسيين ما يأتي:-
1- ... التلطف في مخاطبة ولي الأمة:
... لم يكن من منهج مالك معاداة الخلفاء ولا استعدائهم.(11/221)
.. فمما ورد من ذلك أن أبا جعفر استدعى مالكا وأبا حنيفة وابن أبي ذئب، فسألهم: كيف ترون هذا الأمر الذي أعطاني الله، هل أنا لذلك أهل فقال ابن أبي ذئب:"إن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى عليها، والعون لمن وليها، وأنت وأعوانك كنتم خارجين من التوفيق عالين على الخلق". وكان مما قال أبو حنيفة: "إذا أنت نصحت لنفسك علمت أن ك لم ترد الله باجتماعنا، إن ما أردت أن تعلم العامة أن انقول فيك ما تهواه مخافة سيفك وحبسك، ولقد وليت الخلافة، وما اجتمع عليك نفسان من أهل التقوى، والخلافة تكون عن إجماع المسلمين ومشورتهم". وكان مما قال مالك:"لو يرك الله أهلا لذلك ما قدر لك ملك أمر الأمة، وأزال عنهم من بعد من نبيهم، وقرب هذا الأمر من أهل بيته; أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك، وأعانك على من استرعاك (27) .
ومن المستبعد جدا في نظري أن لا يكون مالك مسل ما بصدق مقالة ابن أبي ذئب ومقالة أبي حنيفة، لكنه لم يكن قاسيا في الخطاب مثلهما، وهو في نظري معذور في ذلك الموقف السياسي، فلعله رأى نفسه بين مفسدتين: مفسدة استعداء الخليفة، ومفسدة مدحه على الرغم من ظلمه، وكلاهما شر " إذ في كليهما ضرر، فلعله رأى مدح أبي جعفر أهون شرا وأخف ضررا، وذلك ليبقي على نفسه، لا لنفسه ولكن للدين وللأمة فلو حبسه أبو جعفر أو قتله لكان على غيره أجرأ، فيتضرر الدين وتتضرر الأمة، ومالك حريص على أن يبقى أمانا للأمة، فاختار أهون الشرين وأخف الضررين في هذا الموقف.
ولكن لا يعني تلطفه في مخاطبة ولي الأمر الضعف في بذل النصيحة له، ويدل على ذلك أقول رويت عنه، فمن ذلك: (28) . قوله:"لا ينبغي المقام بأرض يعمل فيها بغير الحق، والسب للسلف الصالح، وأرض الله واسعة، ولقد أنعم الله على عبد أدرك حقا فعمل به".
وقوله:"وينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عصوا كانوا شهودا على من عصاه".(11/222)
وقيل له: أيأمر الرجل الوالي أو غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر قال: إن رجا أن يطيعه فليفعل. فقيل له: فإن لم يرج هل هو من تركه في سعة فقال: لا أدري.
وفيما يتعلق بابن ذئب فسيأتي- إن شاء الله- أن أبا جعفر أمر مناديا ينادي في المدينة ان لا يفتى الناس في المدينة إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب.
ولعل ابن أبي ذئب تغير اجتهاده في مسألة العلاقة بالخلفاء، ولعل ذلك آت من فقه الواقع والموازنه الشرعية بين المصالح والمفاسد التي تعود على الدين والدعوة والأمة.
وإن من الدعاة، ومن المدارس الفكرية والتيارات السياسية من يتبن ومن منهج العنف في النقد، والقسوة في الخطاب السياسي، وأرى أن اضطراد هذا المنهج والتوسع فيه يجعل العلاقة بين العلماء والسلطة السياسية الظالمة علاقة خصومة، مما يعطل إمكانية التعاون بينهما ويدفع السلطة السياسية الى محاصرة نشاطات العلماء وعرقلتها عن تحقيق أهدافها، والعمل على إضعاف دور العلماء على المستويين الرسمي والشعبي.
وإن جعل العنف في النقد السياسي، والقسوة في الخطاب السياسي من قبل المصلحين المعارضة منهجا مضطردا لا يبعد أن يكون مظنة لغلبة المفسدة على المصلحة، لذلك فإن تحري العلماء منهج الاعتدال في نقد السلطة السياسية أدعى إلى استجلاب التجاوب واستيلاد التقارب والتوصل إلى التعاون المثمر والاحترام المتبادل بينهما.
2- ... عدم المبالغة في توقير ولي الأمر.
روي عن مالك قوله: دخلت على أبي جعفر فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبل يده المرتين والثلاث، ورزقني الله العافية فلم أقبل له يداً (29) .
يظهر من هذه الرواية أن مالكا كان يرى تقبيل يد الخليفة نوع بلاء، لذلك ماكان يفعله. وهذا يؤكد أن مدحه لأبي جعفر في الرواية السالفة كان للضرورة اجتلابا للمصلحة واجتنابا للمفسدة.
3- ... الصدق والإخلاص:(11/223)
ظهر ذلك - كما سيأتي- في موقفه من عرض أبي جعفر عليه أن يجمع الناس على قوله، ويجعل قانون القضاء الاجتهادي على وفق رأيه، لكنه رفض ذلك، مبيناً أن أنظار أهل الاجتهاد تختلف، فغيره يرى غير مايراه (30) فتوحيد الفتوى في القضاء الاجتهادي على رأي مجتهد واحد فيه نوع حجر فكري، لاسيما والعصر عصر نشاط فكري متوقد، واجتهاد فقهي مزدهر. وإن موقفه ذلك ليدل على سعة أفقه وبعد نظره ومعرفته بحال عصره
4- ... عدم رضاه عن ظلم الخلفاء واغتصابهم السلطة:
دلت بعض الروايات التاريخية على أن مالكا لم يكن راضيا عن سيرة الخلفاء العباسيين، وعن أخذهم البيعة بالإكراه، فمن ذلك.
أ- ... سأل مالك أندلسيا عن عبد الرحمن بن معاوية- الداخل - فأجاب الأندلسي: إنه يأكل خبز الشعير، ويلبس الصوف، ويجاهد في سبيل الله ... فقال مالك ليت أن الله زين حرمنا بمثله، فنقم العباسيون عليه (31) .
ب ... -وقال ابن عبد البر: ذكر أحمد بن حنبل أن مالكا كان لا يجيز طلاق المكره، فضرب في ذلك (32) .
وهذا في نظر أبي جعفر وواليه على المدينة يمثل عدم رضا عن العباسيين وقدحا لهم، وتفضيلا لغيرهم عليهم، وهو أمر يسوؤهم لاسيما وأنه يصدر من عالم المدينة وإمامها ولعل من اسباب عدم رضاه عن العباسيين أنهم كانوا ياخذون البيعة بالإكراه، وهو غير جائز شرعا.
ويؤيد فهمنا هذا ما ذكره ابن خلدون اذ قال:"كان الخلفاء يستحلفون على العهد، ويستوعبون الأيمان كل ها لذلك، فسمي الاستيعاب أيمان البيعة، لأنها أيمان تؤكد بها البيعة، وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب، ولهذا لما أفتى مالك بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع في محنة الإمام (33) .
رابعا: الجانب الساسي في محنة مالك:-(11/224)
ذكر أبو نعيم الأصبهاني ان مالكا ضرب وحلق وحمل على بعير، وأمر أن ينادي على نفسه فنادى: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء فبلغ جعفر بن سليمان -والي المدينة -أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدر كوه وأنزلوه (34) .
وذكر ابن عبد البر في سبب محنه مالك:"لما دع ي مالك بن أنس وش وو ر وسمع منه، وقبل قوله شنف له الناس-أي تنكروا له -وحسدوه ونعتوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان على المدينة سعوا به إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا: لايرى أيمان بيعتكم هذه بشئ، وهو يأخذ بحديث في طلاق المكره انه لايجوز (35) .
فغضب جعفر بن سليمان فدعى مالكا وحده وضربه بالسياط ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وارتكب منه أمرا عظيما (36) .
ويمكن تفسير تعدد الروايات في أسباب محنه مالك تفسيرات متعددة منها تحديثه بحديث طلاق المكره، ومنها حسد الحاسدين ووشايتهم به لدى الوالي والخليفة، ولعل منها رغبة الخليفة بالتلويح لغير الراضين عنه أن الانتقام والعقاب يطال كل معارض حتى ولو كان إمام المدينة هذا، وتوجد روايات عديدة أخرى في سبب محنة الإمام مالك إلا أنها ضعيفة، والمشهور ما ذكرناه. ... وفي ذكر من تولى كبر المحنة ورد أن أبا جعفر المنصور عين جعفر بن سليمان واليا على المدينة، في ربيع أول سنة 641هـ (37) ، أي بعد مقتل محمد النفس الزكية بستة أشهر، فقدم جعفر بن سليمان إلى المدينة، وأكره الناس على البيعة وبلغه أن مالكا يحدث بحديث:؛وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (38) .
... وورد ان مالكا استفتي في الخروج مع محمد النفس الزكية وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال:" إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته" (39) .(11/225)
هذه الرواية تدل على أن والي المدينة جعفر بن سليمان هو الذي تولى كبر محنة مالك. لأنه كان يرى في تحديث مالك تحريضا للناس على نقض بيعتهم للعباسيين، والعباسيون أحوج ما يكونون لإقرار الأمن وإخضاع الناس، لاسيما في المدينة المنورة، بعد فشل ثورة محمد النفس الزكية التي انتهت بمقتله.
ولعل العباسيين لم يكن يهمهم نية مالك وأنه لم يقصد التحريض على نقض البيعة لهم، ولكن كان يهمهم أن التحديث بهذا الحديث يودي إلى تحريض الناس على نقض البيعة، لأنه يشكل سندا شرعيا لهم في نقض البيعة، فلا يخافون إثما أخرويا بسبب نقض البيعة للعباسيين الذين اخذوها منهم بالإكراه، فالسلطة السياسية العباسية في مسألة الخروج المسلح كانت تقف عند المآلات ولا تعتد بالبينات.
فلعل أبا جعفر المنصور وواليه على المدينة لم يخافا نية مالك، ولكنهما كرها تحديثه به، لما لذلك من مآل خطير، وإن كان باعثه عليه حسنا، وأغضبهما منه عدم انصياعه للنهي بعدم التحديث بذلك الحديث فكان عدم مجرد التحديث به في نظرهما معصية وجريمة، ي ستحق بها العقاب.
خامسا:-منهجه في المشاركة السياسية (تولي وظائف الحكم والإدارة) :
روى الطبري أن أبا جعفر المنصور انتدب مالكا سنة 441هـ ليقوم بإقناع آل الحسن بن علي بتسليم محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم إلى أبي جعفر، وأرسل بصحبته قاضي المدينة محمد بن عمران (40) .
وينشأ هنا سؤال: كيف قبل مالك أن يتوسط تلك الوساطة السياسية لتسليم محمد وإبراهيم إلى أبي جعفر، ومصيرهما لو سلما إليه غير مأمون.
والجواب ربما وعد أبو جعفر مالكا أنه سيعفو عنهما لو سلما إليه أو مثلا بين يدية، فأغرى ذلك مالكا فقام بتلك المهمة، لا سيما وأنه كان يتشوف إلى إخراج محمد وإبراهيم من الضيق الذي فرض عليهما والخوف الذي ألبساه من ق ب ل أبي العباس السفاح فأبي جعفر المنصور.(11/226)
ولعل قبول مالك التوسط بين أبي جعفر واعدائه السياسيين رشحه في نظر أبي جعفر لمنصب سياسي مهم ليس أحد في نظر أبي جعفر أقدر عليه وأصلح إليه من مالك، وهو منصب عام جوهره الرقابة العامة والمحاسبة النافذة في ناحية الحجاز كلها.
وفي عام 841هـ حج أبو جعفر، وكان قد أوعز بأن يكلف مالك بالحج والمثول بين يديه بمنى. وقد روي عن مالك من أمر هذه المقابلة مايأتي: فلما دنوت منه رحب بي وقرب، ثم قال: ههنا إلي. فأوفيت للجلوس. فقال: ههنا. فلم يزل يدنيني حتى جلست إليه وألصقت ركبتي بركبتيه، ثم كان أول ما تكلم به أن قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان، ولا علمته، وإنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني إخالك أمانا لهم من عذاب الله، وقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس للفتن، وقد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق وأمرت بضيق حبسه والاستبلاغ في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه (41) .
ويمكن القول: إن تلك المقابلة صنعت م دخلا لأبي جعفر إلى نفس مالك، فقد تضمنت الاعتذار من الخليفة لمالك للإهانة التي ألحقها به جعفر بن سليمان عند تسلمه ولاية المدينة سنة 641هـ وتضمنت الاعتراف بفضل مالك وعظيم قدره والثناء عليه لسيرته السياسية بعد محنته.
كذلك، أشار أبو جعفر إلى أنه عالم بمنهج مالك وعدم ميله الى النشاط السياسي المعادي، وحرصه على النشاط الإصلاحي وتجنبه كل ما من شأنه أن يهيج الأمة أو يوقض الفتنة، ولم يخف أبو جعفر رضاه عن مالك، واعترافه بأن منهج الإصلاح بالمناصحة وهجر الخروج له كبير الأثر في إقرار الأمن، وكان ابو جعفر يسعى لاقرار الأمن، لاسيما في المدينة التي كانت تمثل مركز خطر سياسي على السلطة العباسية، وكان ولاء عامة أهلها للخارجين وليس للسلطة الحاكمة، وكانوا قد تجرأوا على الاستنكاف عن الطاعة للعباسيين، حتى(11/227)
وصفهم أبو جعفر بأنهم أسرع الناس إلى الفتنة ووصف مالكا بمنهجه الإصلاحي بالمناصحة بأنه أمان لهم من عذاب الله.
... ولعل أبا جعفر أيقن أن مالكا ناصح أمين، غير متطلع لشق عصى الطاعة ومعارضة الجماعة، عازف عن التكلم في السياسة، قدير على أداء ما يعهد إليه، لذلك عزم على منحه سلطة عامة رقابية ومحاسبية يخضع لها الناس جميعا في الحجاز بما فيهم الولاة والقضاة; فقال له:؛إن رابك ريب في عامل المدنية أو عامل مكة، أو أحد من عمال الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك أو سوء سيرة في الرعية فاكتب إلي بذلك، أنزل بهم ما يستحقون، وقد كتبت إلى عمالي بهذا، وأنت حقيق أن تطاع ويسمع منك (42) .
... لقد قبل مالك ذلك المنصب السياسي العام والعالي الذي استحدثه له أبو جعفر، فتربع مالك على قمة هرم الإدارة والحكم في الحجاز كلها، وأصبح نائبا أول للخليفة في شؤون الرقابة العامة والمحاسبة السياسية في تلك الولاية.
... وإن قبول مالك لتلك الولاية ليدل على استقرار منهجه لديه، وهو منهج الإصلاح عن طريق المشاركة السياسية، وعلى دوام هجره منهج العداء أو البعد عن السلطة السياسية سبيلا، لكن مما تجدر الإشارة إليه هنا أن المشاركة السياسية التي قبلها مالك كانت مشفوعة بتمكنه من تحقيق الإصلاح الذي كان ينشده.
... وإن مما ينبغي أن يكون شرطا لأصحاب المنهج الإصلاحي الذين يتوسلون إلى الإصلاح بالمشاركة السياسية أن يمكنوا حقيقة وواقعا من تنفيذ منهجهم الإصلاحي، والإ غدت مشاركتهم السياسية هزيلة الثمرة، وصاروا بذلك أبعد عن أن ينالوا من الناس الثقة.(11/228)
هذا، وليس أدل على سعة صلاحيات مالك التي أكسبتة إياها مشاركته السياسية من الهيبة العظيمة منه التي وقعت في قلوب الولاة والقضاة، فمما وصل إلينا من أنباء ذلك ما ذكر الشافعي أنه حمل كتابا من والي مكة إلى والي المدينة يطلب منه إيصال الشافعي إلى مالك، قال الشافعي فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلم اقرأه قال: يا فتى: إن المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون على من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل ة حتى أقف على بابه (43) .
وكذلك، سأله القاضي جرير بن عبد الحميد عن حديث وهو قائم فأمر بحبسه، فقيل: إنه قاض. فقال: أحق أن يؤدب، احبسوه; فحبس إلى الغد (44) .
ولم تقتصر مشاركة مالك السياسية على تسلمه منصب الرقابة المحاسبية على الرعية ورجال الحكم والقضاة في الحجاز، فقد تسلم أيضا منصب الإفتاء في المدينة، وأمر أبو جعفر أن ينادى:"ألا لايفتي الناس في المدينة إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب (45) ، فانجمع لمالك منصبان سياسي ان هام ان يعد صاحبهما من علية رجال الدولة ومن المتقدمين من أفرادها جهاز الحكم والإدارة فيها، وحظي باحترام عظيم من قبل أبي جعفر، فكان إذا دخل عليه لايكاد يراه حتى يناديه: "إلى ههنا يا أبا عبد الله، أنت حقيق بكل خير وإكرام (46) .
... وكذلك، أراد أبو جعفر توحيد الأمة على مذهب واحد في القضاء الاجتهادي، ووقع اختياره على مالك لتكون آراؤه مذهب الدولة، فعزم على تأسيس سلطة تشريعية اجتهادية، وعزم على حصر تلك السلطة في شخص مالك، وأناط به صلاحيات أشبه ما تكون بصلاحيات تقنين الأحكام التشريعية في الجانب التشريعي.(11/229)
.. وورد أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: "ضع هذا العلم ودونه ... واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة، ولنحمل الناس-ان شاء الله -على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها. فقال مالك " أصلح الله أمير المؤمنين، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل (47) .
... من كل ما سبق يتبين أن مالكا ما كان يجد حرجا في المشاركة السياسية، لكن ينبغي أن لا نطلق نسبة ذلك إليه، ذلك أنني لا أظن أنه كان سيقدم على المشاركة السياسية لو لم يعلم أنه سيتمكن من ممارسة منهجه الإصلاحي، وأن ما سيترتب على المشاركة من المصالح أعظم مما سيترتب عليها من المفاسد وهو في ذلك يغفل ما تستجلبه مشاركته من مفسدة إيذاء شريحة من الناس لسمعته، باتهامهم إياه أنه من علماء السلاطين أو علماء الدنيا، وذلك ما قد وقع فعلا من قبل، فقد قال له بعض تلاميذه في شأن دخوله على الخلفاء: إن الناس يستكثرون أنك تدخل على الأمراء فقال: إن ذلك بالحمل على نفسى، وذلك أنه ربما استشير من لا ينبغي (48) ، فهو يعد مصلحته الخاصة ملغاة في جانب مصلحة الدين والأمة، فيرضى بالدخول على الأمراء لئلا يستفرد بهم الفساق وأهل الفساد. إذ مصير احتكار الفساق وأهل الفساد للشورى، أن يحتكروا الوظائف العليا في الدولة، فينخر الفساد مؤسسات الدولة(11/230)
كذلك مما يمكن أن أفسر به عدم تردد مالك في قبول المشاركة السياسية هو خصال الخير التي ألفاها في أبي جعفر، ومنها: خصلة العلم، فورد أن مالكا قال في شأن مقابلته لأبي جعفر:؛ ثم فاتحنى –يقصد أبا جعفر – فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس، ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روى (49) ، لقد جمع أبو جعفر بين الإمامتين: إمامة العلم وإمامة الحكم. وكان لا يجهل ذلك من نفسه، فقد قال لمالك في مقابلته له بمنى: "لم يبق في الناس أفقه مني ومنك (50) ، وفي رواية:؛ يا أبا عبد الله، ذهب الناس فلم يبق غيري وغيرك (51) ، ويؤكد ذلك مناظرات دارت بينه وبين مالك في المسجد النبوي (52) .
ولعل خصال الخير في أبي جعفر حرضت مالكا على قبول المشاركة السياسية، كما حرضه على ذلك خوفه من أن يحتكر الفساق وأهل الفساد الوظائف العامة والعليا في الدولة، فيتأصل الظلم ويتجذر الفساد، واطمئنانه إلى أن صلاحياته في تحقيق الإصلاح ستكون واسعة.
وأرى أن تلك الضوابط كانت تمثل عند مالك ثوابت في منهجه السياسي; كان بناء عليها يحدد موقفه من المشاركة السياسية رفضا أو قبولا.
سادسا: منهجه في موقفه من الخروج على السلطة السياسية:
كان محمد النفس الزكية أفضل آل البيت في زمانه حتى بلغ من فضله وإمامته أن عقد الهاشميون ومنهم العباسيون البيعة له للخروج على الأمويين لكن العباسيين خرجوا على الأمويين قبله، فاستولى أبو العباس السفاح على السلطة، ثم جعل الخلافة من بعده لأخيه أبي جعفر.(11/231)
وخشي العباسيون حركة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، فجعلوها أولى أولوياتهم السياسية، فجهد أبو العباس لاعتقاله وأخيه، لكنه فشل ومات قبل أن يتحقق له اعتقالهما. وتابع أبو جعفر سياسة أبي العباس لاعتقال محمد وأخيه والقضاء على حركتهما، فلم يفلح; فقبض على أبيهما عبد الله فلم يزل يؤذيه ويبالغ في أذاه حتى استفز محمدا، فأعلن الخروج في المدينة فقال أبو جعفر”: استخرجت الثعلب من ج حره" (53) .
... وكان مالك إذا قال أهل المدينة: إن في أعناقنا بيعة للمنصور قال لهم: بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين (54) ، فأسرعوا إلى محمد. ولم يتخلف منهم عن الخروج معه سوى القليل (55) .
... وذكر (56) أن أحد الطالبيين شكى إليه مالحقهم من أذى واضطهاد، فقال مالك: اصبر حتى يأتي تأويل هذه الآية: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (57) ، وقد استفتاه الرشيد عن حكم قتال من خرجوا على السلطان، فأجابه مالك: "إن كان خروجهم عن ظلم من السلطان فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا عصى الطاعة فقتالهم حلال (58) .
لكن كيف نوفق بين مضمون هذه الروايات التي قد يفهم بعض الناس منها ميل مالك الى تأييد الخروج على أبي جعفر وبين أن مالكا لم يشارك في الخروج؟.
والجواب: إن مالكا كان يحدث بحديث المستكره إذا سئل عنه من باب نشر العلم وليس تحريضا على الخروج، وكان إذا سئل عن حكم نقض البيعة لأبي جعفر أجاب بعدم الاثم في ذلك لأنها اخذت فهم بالاكراه فهو في ذلك يبلغ علما ولا يؤيد خروجا ولا يميل اليه.
ولعله كان يرى مفسدة الخروج راجحة على مصلحته فلم يخرج ولم يؤيد الخارجين، فلا يكون ثمة مناقضة بين تحديثة وإفتائه من جهة وعدم تأييده الخروج من جهة اخرى.(11/232)
وقد حصل ما رآه مالك وذلك أنه لما خرج محمد حاصر جيش أبي جعفر المدينة وأحكم الحصار عليها، فخطب محمد في أتباعه وأنصاره، فقال: يا أيها الناس، إن هذا الرجل- يقصد عيسى بن موسى قائد جيش أبي حعفر-قد قرب منكم في عدد وعده، وقد حل لتكم من بيعتي، فمن أحب المقام فليقم، ومن أحب الانصراف فلينصرف فتسل لوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة بعد أن كان عدد من خرجوا معه أول الأمر يقارب مائة ألف (59) من أهل المدينة وما حولها.
وقد أكد الواقع اجتهاد مالك فقد فشل الخروج وقضي على الخارجين، وقتل محمد النفس الزكية وأذل أهل المدينة، فكان ذلك دليلا على سعة أفقه، وبعد نظره، واستحضاره لمآلات الأفعال وعواقب الأمور وهو يجتهد في ضوء ثوابت منهجه السياسي ليحدد مواقفه العملية.
وإن مما يدل على أنه كان يرى طاعة ائمة الجور للضرورة، وعدم الخروج لرجحان مفسدة الخروج على مصلحته ما ذكر في المدونة الكبرى: قال مالك: لا أرى بأسا أن يقاتل الروم مع هؤلاء الولاة. قال ابن القاسم وكان فيما بلغني عنه ولم أسمع منه أنه كان يكره قبل ذلك جهاد الروم مع هؤلاء-الولاة-حتى لما صنعت الروم ما صنعت قال: لا بأس بجهادهم.
وقال ابن القاسم: وأما أنا فقد ادركته وهو يقول: لا بأس بجهادهم مع هؤلاء الولاة ... لو ترك هذا لكان ضررا على أهل الإسلام (60) .
... فهو يكره ظلم الولاة لكنه لا يرى الخروج عليهم، ولعل كرهه للجهاد تحت رايتهم كان أول الأمرين منه، ثم بعد ذلك رأى رجحان مصلحة الاسلام والأمة في القتال تحت رايتهم، وهذا ما ذكره فقهاء المالكة فذكروا أنه يقاتل العدو مع كل بر وفاجر (61) ، وعللوا ذلك بأن في ترك الجهاد معهم ضرر على المسلمين (62) .
وذكر اللخمي حجة مالك في كرهه القتال تحت راية ولاة الجور، فقال:"وروي عن مالك: لا يجب الخروج معهم لكيلا يعينهم على ما يقصدون من الدماء" (63) .(11/233)
فرجحان المفسدة في الخروج في نظره هو مستنده في عدم الخروج على أئمة الجور والاكتفاء يبذل النصيحة لهم، واعتماد منهج الاصلاح معهم، والله أعلم.
وقد، أحسن مالك في أنه لم يتجاوز دائرة النشاط السياسي الفكري الإصلاحي، ولم يؤيد الخروج المسلح، ذلك أن الدولة تعتمد الإسلام دستورا، والشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتشريع، وإن كانت سلطة الحكم تسيء تطبيق التشريع وتجعل الخلافة وراثية.
كذلك، فإن الفئة التي تستهدف الخروج المسلح والاستيلاء على السلطة بالقوة المادية، قد تصبح أشد تمسكا بالسلطة متى تمكنت منها، وأكثر ظلما للشعب، فحري بمن يفتي بالخروج المسلح أن يضع في الحسبان هل سيلتزم الخارجون بالعدل بعد توليهم السلطة، وهل سيجعلون من الشعار مبدأ وواقعا تعيشه الأمة في حياتها، أو أنهم سيخلفون السلطة السابقة في الظلم وتعطيل سلطة الأمة.
هذا، وإن النظر إلى الواقع والمستقبل معا عند إرادة الفتوى بمشروعية الخروج المسلح يجعل المجتهد أكثر تهيبا وأشد تهربا من الفتوى بذلك.
لقد تجنب مالك الخروج وكان منهجه هو هجر كل نشاط سياسي معاد للسلطة السياسية واعتماد منهج الإصلاح من خلال المشاركة السياسية، أي قبول تسلم وظائف عامة وعليا في الدولة.
وفي نظر الباحث إن هجر مالك لمسلك الخروج المسلح إلى مسلك الإصلاح بالمشاركة السياسية كان نتيجة للأحداث السياسية في المجتمع آنذاك فقد أحدثت أضرارا بالغة بالأمة والدولة وبالدين والدعوة، فمن تلك الأضرار: تشديد الرقابة على الأمة بوجه عام وعلى العلماء بوجه خاص فأصبحت السلطة الحاكمة ترصد نشاطات العلماء وأصحاب الفكر، وتصنفهم إلى محايدين، وموالين، وأعداء.(11/234)
كذلك، أحكمت السلطة الحاكمة قبضتها على الحكم، ولم تتورع في قمع مخالفيها، بل أصبح الحصار الفكري للمخالفين والتضييق عليهم، ومواجهتهم بالاعتقال والحبس أو الإعدام أبرز النشاطات الأمنية الداخلية، لذلك لعل مالكا ما كان له بد من هجر منهج معاداة السلطة الحاكمة، إلى اعتماد منهج المشاركة السياسية وسيلة للإصلاح، ولعله أدرك أن مصلحة الدين والأمة تقتضي ذلك، والمصلحة أصل من أصوله.
سابعا: موقفه من الجانب السياسي في طلب تأليف "الموطأ":
أولا: فكرة تأليف الموطأ لدى مالك وعنايته الفائقة به.
كان اتجاه العلماء الى تدوين الحديث وأقوال الصحابة والتابعين موجودا قبل مالك، قال البخاري: فأول مع جمع من ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حده الى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف مالك الموطأ، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم (64) .
فالموطأ يعد أول كتاب ألف في الجمع بين الحديث والفقه، ففتح مالك به الباب للمؤلفين في ذلك فولجوه بعده، وسلكوا طريقه، وقد امتاز مالك فيه عمن سبقوه، بانتقاء القوي من الأحاديث، كما امتاز بترتيب الكتب ووضع التراجم وحسن السياق في التأليف وترتيب التصنيف مما لم يسبقه أحد إليه، مع ما قرنه الله به من التوفيق، وحسن نية مالك في التأليف، ولذلك اشتهر الموطأ وانتشر (65) .
وذكر البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، فقال: كتب عمر بن عبد العزيز الى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (66) .
قال ابن حجر: "ويستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ" (67) .(11/235)
وذكر ابن عبد البر أن مالكا قال:كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينه يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، وكتب إلى ابن حزم أن يجمع السنن ويكتب إليه، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث إليه (68) .
وورد أن أول من عمل كتابا بالمدينه على معنى الموطأ من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينه عبد العزيز بن عبد الله الماجشون (ت46هـ) ، ولكنه عمله كلاما بغير حديث، فأتي به مالك فنظر فيه فقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا عملت لبدأت بالأثار ثم سددت ذلك بالكلام، فعزم مالك على تصنيف الموطأ، فعمل من كان يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك:تتعب نفسك بهذا الكتاب وقد تشركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: أئتوني بما عملوا: فأتي بذلك، فنظر فيه ثم نبذه وقال: لتعلمن أنه لايرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله، فكأنما ألقيت الكتب في الآبار، وما ذكر منها شئ بعد ذلك (69) .
فمالك كان مسبوقا إلى أصل فكرة الموطأ، لكنه سبق من سواه في منهجه فيه، حتى شهد العلماء للموطأ بما لم يشهدوا به لغيره من الموطآت، فقد كان مالك "من أشد الناس تركا لشذوذ العلم، وأشدهم انتقادا للرجال، وأقلهم تكلفا، وأتقنهم حفظا، ولذلك صار إماما (70) ، فظهر ذلك في كتابه الموطأ.
ويدل استحسان مالك لصنيع ابن الماجشون على انغراس فكرة تأليف الموطأ في نفس مالك، من أجل حفظ علم المدينة بتدوين السنه النبوية وعلم الصحابة والتابعين، ومن أجل الاستدراك على غيره في منهج التدوين.
وقد أدرك مالك حكمة عمر بن عبد لعزيز في تكليفه أبا عمرو بن حزم بتدوين علم المدينة، وهي خوفه على السنة النبوية أن تضيع، والخوف من دروس العلم، فتعزز لدى مالك وهو إمام المدينة من غير منازع الباعث على تأاليف الموطأ.
وكان مالك يرى أن الحديث هو حديث الحجاز، فقال:؛إذا جاوز الحديث الحرمين ضعف نخاعه (71) ، فعزم على جمعه، خوف ضياعه.(11/236)
وقد استفاضت شهرة مالك بإعظام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة اتباعه، وتثبته فيما يروي عن النبي وحرصه على معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ومما جاء في ذلك (72) .
قال مالك:"إن هذا العلم -يعني الحديث- دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يحدث: قال فلان قال رسول الله، عند هذه الأساطين- وأشار إلى أعمدة مسجد رسوله الله - فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو أتمن على بيت مال لكان أمينا، لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وفي لفظ:" ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا، إلا أنهم حملوا شيئا لم يعقلوه".
وسأله بشر بن عمر عن رجل، فقال مالك: هل رأيتة في كتبي؟ فقال بشر: لا. فقال مالك: لو كان ثقة لرأيته في كتبي.
وقال الشافعي: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله.
وبهذا التثبت والعناية جاء الموطأ جم النفع، قال عبد الرحمن بن مهدي والشافعي، ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من موطأ مالك بن أنس (73) وقال الشافعي:"ما كتاب بعد كتاب الله أكثر صوابا من كتاب مالك (74) ".
وقد شفع مالك حسن عمله بحسن نيته وإخلاصه لله، فقد سأل مالك يوما بعض أصحابه: ما يقول الناس في موطئي؟ فقال: الناس رجلان: محب مطر وحاسد فقير. فقال مالك إن مد بك العمر فسترى ما يراد به الله (75) .
ثانيا: طلب أبي جعفر المنصور تأليف الموطأ:
تدل الروايات التاريخية على أن أبا جعفر المنصور قد انغرست لديه فكرة توحيد القضاء في أرجاء الدولة على رأي يلزم به القضاة كافة لاسيما وأن أنباء اختلاف الأقضية الشديد قد تناهى إليه.(11/237)
ومن ذلك ما جاء في رسالة ابن المقفع إلى أبي جعفر، فمما جاء فيها: ومما ينظر أمير المؤمنين فيه، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، في ستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم، حكم به قضاة جائز أمرهم وحكمهم....
فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وقضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابا جامعا عزما لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا ورجونا أن يكون في اجتماع السير اجتماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام إلى آخر، آخر الدهر، إن شاء الله (76) .
فابن المقفع أشار على أبي جعفر ونصحه أن يوحد عمل القضاة على رأي واحد يتنباه، وقد اتجة أبو جعفر كما اتجه قبله عمر بن عبد العزيز إلى المدينة وعلمها، فهي موطن السنه ومستقر كثير من الصحابة والتابعين، وكان أهلها لا يزالون يتناقلون سنة النبي وأقضيته، فعلمها لا يزال علما نبويا يتناقله الثقاة العدول، فيسهل جمعه، وهذا مالا يتوافر في غيرها شرفها الله.(11/238)
وإذا كانت المدينة هي ما يصلح ان يتجه إليه أبو جعفر لتحقيق غايته، فإن إمامها وعالمها مالك بن أنس هو خير من يمكن أن ينتدب إلى تلك المهمة الجليلة، وهو ما فعله أبو جعفر، فما أن قدم إلى المدينة من العراق والتقى مالكا، حتى حاوره وطلب منه أن يجمع العلم ويجعله علما واحدا ليتولى أمير المؤمنين حمل الناس عليه، فوافق طلب أبي جعفر عزم مالك على تأليفه، غير أن مالكا أبدى معارضته في مسألة توحيد الأمة على رأي واحد، فاجتمع رأيهما على جمع العلم دون توحيد الأقضية.
وإن مسألة وضع كتاب واحد برأي واحد في كل مسألة ليحمل الناس عليه تكررت من الخليفة المهدي ثم من الخليفة هارون الرشيد، وفي كل مرة كان مالك يبين أن المصلحة في عدم حمل الناس على راي واحد أرجح، فمما روي في ذلك: أن المهدي قال لمالك: ضع كتابا أحمل الأمة عليه، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع وأشار إلى المغرب، فقد كفيتكه، وأما الشام ففيهم الرجل الذي علمته، يعني الأوزاعي، وأما أهل العراق فهم أهل العراق (77) .
كذلك ورد أن مالكا قال: شاورني هارون الرشيد في ثلاثة، أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على مافية، وفي أن ينقض منبر رسوله الله -صلى الله عليه وسلم -ويجعله من جوهر وذهب وفضه، وفي أن يقدم نافع بن نعيم إماما يصلى بالناس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا أمير المؤمنين، أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب، وأما نقض المنبر فلا أرى أن تحرم الناس أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم وما تقدمك نافعا يصلي بالناس فإن نافعا إمام في القراءة لا يؤمن أن تبدر منه في المحراب بادرة فتحفظ عنه. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله (78) .(11/239)
وهذه الروايات تتعاضد في أن أصل الغرض من طلب المنصور من مالك أن يضع كتابا يدون فيه العلم ويجعله علما -أي قولا -واحدا، كان سياسيا، وهو توحيد القضاء على رأي واحد، وهو ما طلبه المهدي ثم الرشيد من مالك بعد ذلك.
وورد أن أبا جعفر المنصور قال لمالك:"ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة، ولنحمل الناس-إن شاء الله- على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألايخالفوها ولا يقضوا بسواها. فقال مالك " أصلح الله أمير المؤمنين، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل-إن شاء الله -إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك قد فرغت من ذلك" (79) .
وذكر المنذري أن أبا جعفر قال لمالك:"لم يبق في الناس أفقه مني ومنك وقد شغلتني الخلافة، فضع للناس كتابا ينتفعون به، وتجنب رخص ابن مسعود (80) .
وفي رواية:"يا أمير المؤمنين، قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به، ورد العامة عن مثل هذا عسير (81) .
وتدل هذه الرواية على أن أبا جعفر وتقنين الأحكام الشرعية بحيث يستقر القضاء في كل مسألة خلافية على مايراه مالك.(11/240)
ولعل واقع الحياة في الساحات: الفكرية، والسياسية، والفقهية، في الدولة هو الذي نشأ هذه الفكرة لدى أبي جعفر: أما الساحة الفكرية فكانت تشهد صراعات شديدة بين سائر المدارس الفكرية العقدية، معتزلة وشيعة وجهميه ومعطلة ومشبهة ... وأما الساحة الفقهية فكانت تشهد اختلافات فقهية متعددة لا تكاد مسألة فقهية تخلو في جانب من جوانبها منها، وهو ما سلف ذكره في رسالة ابن المقفع إلى ابي جعفر، ولعل الخطب قد اشتد في نظر أبي جعفر لما اشتهر أمر مخالفة أبي حنيفة لقضاة الكوفة، وانتقاده لهم وتصريحه بخطئهم إذا خالفوا رأيه مما أضاع هيبة القضاء وول د الجرأة على القضاة. ناهيك عن الفرقة التي انتشرت بين أصحاب الآراء العقدية المتباينة وأتباع المدارس الفكرية المتصارعة، والوحشة التي ظهرت وتزايدت بين أصحاب الآراء الفقهية المختلفة.
وأما الساحة السياسية فكانت تشهد جماعات معادية للسلطة العباسية، منها الفكري ومنها المسلح، فالخوارج كانوا لا يفشلون في ثورة حتى يستأنفوا التخطيط والإعداد لثورة أخرى. والمعتزلة أصحاب فكر عقدي ينزح فكرا سياسيا ثوريا انقلابيا، بل إن فكرهم أسهم كثيرا في نظري في خدمة الدعوة العباسية ضد الأمويين. والطالبيون قد أرق خروجهم المسلح الأمويين ثم العباسيين وبعدم موافقة مالك على طلب أبي جعفر توقف الأمر عند حد الاتفاق على تأليف كتاب يحفظ السنة ويجمع علم الحجاز، فألف مالك كتابه "الموطأ".
ثامنا:- أثر أصل المصلحة في منهجه السياسي:
المصلحة في اصطلاح الاصولين هي: ما اتفق مع مقاصد الشريعة من نفع أو دفع ضرر (82) .
فالمصلحة التي بنى العلماء عليها هي المصلحة المعتبرة، وليست الملغاة ولا المرسلة عن الدليل الشرعي الذي يشهد لها، وقد أكثر الإمام مالك من الاعتماد على المصلحة المعتبرة ووضع أصحابه الضوابط لها.(11/241)
وفي معرض الكلام عن أخذ الإمام مالك بالمصلحة واسترساله في ذلك، مراعيا مقاصد الشارع غير مناقض لها ولا خارج عنها، قال الشاطبي: أما قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله (83) .
وقد برزت المصلحة دليلا شرعيا معتمدا بشكل واضح في الفكر السياسي عند مالك، ففي مقابلته وأبي حنيفة وابن أبي ذئب لأبي جعفر لم نجده قاسيا في الكلام كصاحبيه، فهما أخذا بالعزيمة، أما هو فتمسك بالرخصة، ولعله قدر أن المصلحة في الأخذ بها أعظم من المصلحة في الأخذ بالعزيمة فمدح أبا جعفر وبارك له بالخلافة ودعا له بالعون والتوفيق من الله.
وإني أرى موقف أبي حنيفة وابن أبي ذئب أبرا للذمة، وأرى موقف مالك أسلم في سبيل مصلحة الدعوة والأمة، لاسيما وأن صاحبيه قد أديا فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن موقفه كان أدعى لأن يسمع منه أبو جعفر لو طلب منه إصلاحا لبعض ما فسد، وهذا فيه مصلحة عظيمة، وأراهم جميعا قد وف قوا من غير اتفاق في مواقفهم في تلك الجلسة مع الخليفة، فكل واحد منهم حقق مقصدا شرعيا، وذلك أن كلا من العزيمة والرخصة تحقق المصلحة في مجالها.
ولقد راعى مالك الواقع وظروفه، فالواقع يقتضي عدم الاستعداء، وإن كانت القناعة تدفع إلى القسوة، وإن ذلك ليدل على أن المصلحة أظهر ما يمكن أن يكون مستندا لمالك في موقفه ذلك.
كذلك، برزت المصلحة مؤثرة في اختياره سبيل الإصلاح ورغبته عن سبيل الخروج.(11/242)
الرازي، فخر الدين، المحصول في علم أصول الفقه، ج2، ص 319، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408هـ، العضد الايجي، شرح العضد على مختصر بن الحاجب، ج2، ص 239، المطبعة الأميرية، د. ت، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج1، ص12، مكتبة الاستقامة، د. ت. الغزالي، المستضفي في علم الصول، ط1، ص 286-287، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1403هـ، الطوفي، شرح الأربعين النووية، ملحق برسالة المصلحة في التشريع الإسلامي، ص 211، دار الفكر.
وكانت المصلحة أيضا مستنده في دخوله على الأمراء قبل أن يتسلم منصب الرقابة عليهم، على الرغم مما أخذه الناس عليه في ذلك، وقد سبق قوله لما علم بإنكار الناس عليه "ربما استشير من لا ينبغي".
هذه نماذج من مراعاة مالك للمصلحة في سلوكه السياسي، وهي مع غيرها تدل على أن مراعاة المصلحة كانت ثابتا من ثوابت فكره السياسي.
وإن منهج مالك في الاستناد إلى المصلحة لجدير أن يترسم من قبل مدارس الفكر السياسي المعاصر والأحزاب السياسية الإسلامية في مسألة المشاركة السياسية والخطاب السياسي الإسلامي.
تاسعا:- مدى استقلاله عن شيوخه في منهج العمل السياسي.
بعد أن أوضحنا منهج مالك في العمل السياسي سنوضح مدى استقلاله في ذلك عن منهج شيوخه، فنقول:
إن شيوخ مالك كثيرون، اخترت أربعة منهم، ساعرف موجزا بجانب من منهج كل منهم في العمل السياسي، ليتسنى لي المقارنة -توافقا وافتراقا - بين مالك وبينهم، ولكيما أقترب من الصواب وأنا أتقصده وأتلمسه في الحكم على مالك بالاستقلالية أو بالتأثر والتبعية في منهجه السياسي، والأربعة الذين سأتكلم عنهم هم:-(11/243)
1- ... ابن هرمر، أبو بكر عبد الله بن يزيد الأصم (ت841هـ) تتلمذ عليه الإمام مالك ثمانية أعوام (84) ، واستحكمت المودة بينهما، حتى أفضى إليه ابن هرمز بسره السياسي الخطر، وهو مشاركته في الخروج المسلح على سلطة الحكم العباسية. فابن هرمز كان يرى مشروعية الخروج المسلح ضد من تغلب على الحكم وجعله وراثيا ومما يدل على ذلك الاتجاه الفكري عند ابن هرمز موقفه العملي، فقد خرج مع محمد النفس الزكية سنه 541هـ- يحمل قوسه، فقيل له: والله ما فيك شيء. فقال: قد علمت، ولكن يراني جاهل فيقتدي بي (85) فلم يتحلل من بيعته لمحمد النفس الزكية على الرغم من تحلل الآلاف ممن بايعوا.
فابن هرمز شارك فعليا في ثورة محمد النفس الزكية، ولكن مالكا لم يشارك، مما يدل على استقلال مالك في منهجه، وعدم تأثره بمنهج شيخه.
2- ... ابن شهاب الزهري، أبو بكر بن مسلم المدني بن زهرة، (ت421هـ) ، كان يدخل على الخلفاء ويجالسهم ويتقبل هداياهم، وكان مؤدبا لأبناء هشام (86) .
وقد توافق مالك مع شيخه ابن شهاب في الدخول على الخلفاء وقبول هداياهم، فيروى قبوله عطاء أبي جعفر، فقد قبل ثلاثة ألآف دينار أعطاها له أبو جعفر ليشتري مسكنا له (87) ، كذلك شكى إلى الرشيد دينا ألم به، فأمر له بألف دينار، فلما هم بالانصراف قال: يا أمير المؤمنين: وزوجت ابني محمدا فصار عليَّ فيه ألف دينار; فأمر الرشيد له بألف أخرى (88) وورد أنه سئل عن حكم قبول العطاء فقال:"أما الخلفاء فلا شك، وأما من دونهم فإن فيه شيئا (89) .
... فكان مالك يرى أن للعالم حقا في بيت المال، وأن الخلفاء إن أعطوا فإنما يعطون من المال العام وليس من خاصة ماله. والعالم له رزق في بيت المال يستحقه لقاء تفرغه للتعليم والتربية والفتيا (90) ، ثم إنه لو لم يقبلها لعل الحاجة تؤدي به إلى ما لا يليق بأمثاله. فكان له مستنده الشرعي وضابطه الفقهي في ذلك الاتجاه الفكري والمنهج السلوكي.(11/244)
لقد توافق مالك مع شيخه الزهري في الدخول على الخلفاء وقبول عطاياهم، غير أن روايات ذكرت عدم سرور مالك وهو يقبل عطايا الخلفاء وأنه كان يرى في ذلك شيئا ; فروي: أنه سئل عن ذلك، فكرهه، فقيل له: إنك تقبلها. فقال: أتريد أن تبوء بإثمي وإثمك معا (91) وفي رواية:أجئت تبكتني بذنوبي (92) .
وأرجو أن لا أجافي الصواب إذا قررت عدم التعارض بين قبول مالك عطايا الخلفاء وكرهه لذلك، فيحمل قبوله لها وطلبه إياها على حال الاستحقاق في بيت المال. ويحمل كرهه لها على حال أخذها بغير حق، وحال التوسع في أخذها ولو كان بحق، ولعله خشي أن يفسر فعله ذلك على غير وجهه، فيقلده فيه الجهال أو غير الورعين، فيقبلون عليه من غير مستند شرعي أو يقبلون عليه من غير ضابط فقهي.
لقد كان مالك منطلقا في منهجه في قبول العطاء من مستند شرعي ونظر اجتهادي وليس تقليدا لشيخه الزهري ولا تأثرا به.
3- ... جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 841هـ) . لم يعن قط بالسياسة بل كان همه التربية.
وقد توافق موقف مالك مع موقف شيخه جعفر الصادق، فقد اعتزل مالك طريقة الخروج على الخلفاء، ولأن مالكا قد بلغ درجة الاجتهاد فإنني أرى أن توافقه مع شيخه جعفر الصادق ليس ثمرة تقليد وتأثر، ولكنه ثمرة اجتهاد مستقل، فإن مالكا قد بلغ رتبة الاجتهاد المطلق.
4- ... ربيعة الرأي (بن فروج أبي عبد الرحمن المدني) (ت 631هـ) (93) كان
يدخل على الخلفاء ويقابلهم، لكن لا ليأنس بمقابلتهم أو ينال منهم، وإنما ليفتيهم وينصحهم، فق دروى مالك أن ربيعة قابل أبا العباس السفاح، فأمر له أبوالعباس بجائزة فرفضها ربيعة، فأعطاه أبو العباس خمسة آلأف درهم ليشتري بها جارية فامتنع عن قبولها.(11/245)
كذلك، تذكر الروايات التاريخية أن أبا العباس استدعى ربيعة لي سلمه ولاية القضاء فأبى، فلما أراد ربيعة السفر قال لمالك:إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تدعني شيئا، فوصله أبو العباس بخمسة آلاف درهم فرفض أن يقبلها (94) .
هذه الرواية فيها دلالة على أن ربيعة كان يرفض الولاية، ويمكن أن يحمل هذا السلوك على الزهد في الولاية وعلى الخوف من تولي القضاء، ويمكن أن يحمل على أنه فرار من تولي الوظائف في ظل خليفة اغتصب الخلافة وعض عليها، ولم يجعلها شورية تختار الأمة لها من ترتضيه. كان مالك قريبا من شيخه ربيعة، عالما بأحواله، مرافقا له في مقابلاته للخلفاء (95) ، ولكنه كان مستقلا عنه في فكره السياسي، لذلك لم نجده في مسألة تولي الوظائف المهمة في الدولة- متوافقا معه، فلم يرفض مالك -كما سياتي- حسن العلاقة بالسلطة الحاكمة، وتولي الوظائف فيها على الرغم من تيقنه من ظلم تلك السلطة فقد غصبت الأمة منصب الخليفة وجعلته ملكا عائليا وراثيا.
والمسألة اجتهادية، فلعل مالكا كان يرى المصلحة أرجح في أن يتولى الوظائف وإن كان الخليفة ظالما.
ويمكن القول إن المنهج السياسي عند مالك كان يتسم بطابع الاستقلالية، ذلك أن مالكا إمام بلغ درجة الاجتهاد المطلق، وأن منهجه في علاقته بالسلطة الحاكمة جزء من منهجه الكلي في استنباط الأحكام، فجاء منهجه السياسي ثمرة نظر وتفقه سياسيين وليسا ثمرة تأثر أو تقليد.
هذا، ولا يلزم من الاستقلالية في الفكر عدم التوافق في بعض الجوانب، وبناء على عدم اللزوم هذا، نفسر ما وجد من توافق في بعض جوانب الاجتهاد السياسي عند مالك مع الجوانب المناظرة من الفكر السياسي عند شيوخه.
الخاتمة
خلصت في هذا البحث إلى نتائج من أهمها:-
= ... ما انفك مالك يعتمد المستندات الشرعية والضوابط الفقهية في عمله السياسي، حتى شكل ذلك ثابتا من ثوابت المنهج السياسي عنده.(11/246)
= ... كان مالك يقبل عطايا الخلفاء، وكان جوهر فلسفته في منهجه ذلك أن الخلفاء لايعطون من خاصة مالهم، ولكن من بيت المال، والعالم له حق في بيت المال لقاء تفرغه للتربية والتعليم والفتيان
= اعتمد مالك المنهج الإصلاحي بالنصح والمشاركة السياسية، وذلك نزولا على مقتضيات الواقع ; فقد وجد أن مافي المنهج الانقلابي من المفاسد أعظم مما فيه من المصالح.
= الدافع الأساسي وراء أصل فكرة تأليف كتابه " الموطأ" كان سياسي ا، هو توحيد القضاء الاجتهادي على رأي واحد
= ... أصل المصلحة كان مستندا بارزا في فكره السياسي.
= منهج مالك في العمل السياسي كان ثمرة نظر واجتهاد، وليس ثمرة تبعية أو تقليد، فجاء متسما بالاستقلالية والمنهجية، مما يستحق معه مالك أن يوصف بأنه إمام كبير من أئمة الفكر السياسي الإسلامي.
والحمد لله رب العالمين
الحواشي والتعليقات
السيوطي، جلال الدين، تزيين الممالك بمناقب الإمام ملك، ص 302، ومعه مناقب مالك للزواي، المطبعة الخيرية، 1325، والسيوطي، طبقات الحفاظ، ص 809، القاهرة، ط1، 1973م.
... وابن سعد، الطبقات الكبرى، ج5، ص63، ترجمة مالك بن أبي عامر، دار صادر، بيروت، د. ت.
... والسيوطي، طبقات الحفاظ، ص89، القاهرة، ط1، 1973م.
السيوطي، ترتيب الممالك، ص4، مرجع سابق.
المرجع السابق، ص 4.
عياض وترتيب المبارك، ج1، ص111، بيروت، 1967م.
ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، التمهيد، ج1، ص87، تحقيق مصطفى العلوي ومحمد الكبري، د. ت. وابن فرجون، الدبياج المذهب، ص18، ط1، مصر، 1351هـ.
المصدر السابق، ج1، ص 87.
الزواوي، عيسى، مناقب مالك، ص7، مع تزيين الممالك للسيوطي، المطبعة الخيرية، 1325.
الزواوي، مناقب ملك، ص9-12 مرجع سابق، والسيوطي، تزيين الممالك، ص8-11 مرجع سابق.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 63، مصدر سابق.
البخاري، التاريخ الكبير، ج7، ص 310، ترجمة رقم 1323، ودار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.(11/247)
الذهبي، شمس الدين، تذكرة الحفاظ، ج1، ص 208، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت. وابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 63، مصدر سابق.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 63، مصدر سابق، والذهبي، تذكرة الحفاظ، ج1، ص 208، مرجع سابق.
المرجعان السابقان.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 62، مصدر سابق.
الزواوي، ومناقب مالك، ص4، مرجع سابق.
المرجع السابق، ص15، والسيوطي، تزيين الممالك، ص11، المرجع السابق.
الزواوي، المناقب، ص15، مرجع سابق.
السيوطي، مناقب مالك، ص9، مرجع سابق.
السيوطي، تزيين الممالك، ص 144، مرجع سابق.
المرجع السابق، ص 14.
المرجع السابق، ص 14.
جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي، صفة الصفوة، ط1، حلب، 1389هـ، ومناقب الإمام أحمد بن حنبل، ط1، القاهرة، 1399هـ، ج2، ص 177، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، (ت430) ، حلية الأوليان وطبقات الأصفياء، ط2، بيروت، 1967م) ، عياض بن موسى، ترتيب المدارك، ج1، ص126، مصدر سابق.
تتبعنا الحالة السياسية في الدولة الإسلامية ما بين سنة أربعين هجرية وسنة مائة وخمسة وأربعين في كتاب البداية والنهاية، لابن كثير، الأجزاء (7،8،9) ولخصنا ما يهمنا منه.
السيوطي، تزيين الممالك، ص4، مرجع سابق.
القيرواني، أبو زيد، الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، ص 155، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ، 1983م.
(26) الزواوي، مناقب مالك، ص 25، مرجع سابق.
(27) الصيمري، أخبار أبي حنيفة وأصحابه، ط2، بيروت، 1976م، ص 59-60.
(28) القيرواني، أبو زيد، ص 155-157، مرجع سابق.
ابن عبد البر، الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، مالك، الشافعي، وأبي حنيفة، بيروت، د. ت، ص42.
عياض بن موسى، ترتيب المدارك، ج1، ص 192، مصدر سابق، وابن عبد ابر، الانتقاء، ص41، مصدر سابق، مصطفى الشكعة، الئمة الأربعة، ط1، القاهرة، 1979، ص 410-411.(11/248)
جمال الدين ابن نباتة المصري (686هـ-768هـ) ، سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون، القاهرة، 1383هـ، ص 262.
ابن عبد البر، الانتقاء، ص 23، مصدر سابق.
ابن خلدون، (ت808هـ) ، المقدمة، دار الشعب، د. ت، ص 187.
الأصبهاني، حلية الأولياء، ج6، ص 316، مصدر سابق.
ابن عبد البر، الانتفاء، ص 44.
السيوطي، تزيين الممالك، ص 12-13، مرجع سابق.
الرازي، أدب الشافعي ومناقبه، بيروت، د. ت، ص 203، ابن عبد البر، الانتفاء، ص 44، مصدر سابق.
رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب، بيروت، د. ت، باب طلاق المكره والناسي، ج1، ص 659، وابن حيان، الصحيح، ترتيب علاء الدين الفارسي المسمى الاحسان بترتيب صحيح ابن حيان، دار الكتب العلمية، ط1، 1987م، باب الإخبار عما وضع الله بفضله عن هذه الأمة، ج9، ص 147.
أبو جعفر الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج7، ص 560، مصدر سابق، وعبد الرحمن سنبط قنيتو اربلي، (ت717هـ) ، الذهب المسبوك مختصر من سير الملوك، بغداد، د. ت، ص 77، وعماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت774هـ) ، ابداية والنهاية، ط2، بيروت، 1977، ج10، ص 84، وعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، (ت656هـ) ، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، ط2، مصر، 1388هـ، ج1، ص 14.
الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج7، ص 539، مصدر سابق.
عياض، ترتيب المدارك، ص 229.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 209، مصدر سابق.
ابن عبد البر، الانتفاء، ص 24، مصدر سابق، الرازي، أدب الشافعي ومناقبه، ص 159، مصدر سابق.
ابن فرحون، الديباج المذهب، ص 24، مصدر سابق.
الزواوي، مناقب مالك، ص13، وابن نباتة، سرح العيون، ص 261، مصدر سابق، وابن عبد القوي، الترغيب والترهيب، ج1، ص 15، مصدر سابق.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 212، مصدر سابق.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص192، مصدر سابق، وابن عبد البر، الانتفاء، ص41، مصدر سابق.(11/249)
محمد أبو زهرة، مالك، حياته، عصر÷، آراؤه، فقهه، ط2، القاهرة، 1952م، ص 65.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 192، مصدر سابق، وابن عبد البر، الانتفاء، ص 41، مصدر سابق، وابن فرحون، الديباج المذهب، ص 25، مصدر سابق.
المنذري، الترغيب والترهيب، ج1، ص14، مصدر سابق.
المناقب، ص 42.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 211.
أبو جعفر الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج7، ص 564، مصدر سابق.
المصدر السابق، ج7، ص 564، وابن كثير، البداية النهاية، ج10، ص 84، مصدر سابق.
الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج7، ص559، مصدر سابق.
الصفهاني، مقاتل الطالبيين، بيروت، د. ت، ص 395.
سورة القصص، الآية رقم (5) .
ابن حجر العسقلاني (773-852هـ) ، رفع الإصر عن قضاة مصر، القاهرة، 1957م، ص 169.
الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج7، ص582-586، مصدر سابق.
مالك بن أنس، المدونة الكبرى، ومعها مقدمات ابن رشد، ج1، ص 369، دار الفكر، 1406هـ.
القيرواني، أبو زيد، الرسالة في فقه الإمم مالك، ص 60، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418-1998هـ.
الأبي الأزهري، صالح، التمر الداني، شرح رسالة أبي زيد القيرواني، ص 413، المكتبة الثقافية، ص 128، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ.
القرافي، شهاب الدين، الذخيرة، ج3، ص 404، تحقيق محمد أبو خبزة، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1994م.
البخاري، مقدمة فتح الباري، ص 4، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
الزواوي، مناقب مالك، ص4، مرجع سابق.
البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص33، دار الفكر، 1401هـ-1981م، وأنظر لزرقاني، محمد، شرح الزرقاني على موطأ مالك، ص9، دار الفكر، د. ت.
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ج1، ص 259، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410هـ.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص81، مصدر سابق.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 86، مصدر سابق، والزواوي، مناقب مالك، ص 16، مرجع سابق.(11/250)
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص86، مصدر سابق، والزواوي، مناقب مالك، ص 33، مرجع سابق.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 80، مصدر سابق.
المصدر السابق، ج1، ص 63، 67.
ترتيب المدارك، ج1، ص 191.
ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 76، مصدر سابق.
المصدر السابق، ج1، ص 85.
رسالة البلغاء، جمع محمد كرد علي، ص 125-126، دار الكتب العربية، د. ت.
الزواوي، مناقب مالك، ص 27، مرجع سابق.
السيوطي، المناقب، ص 46.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 192، مصدر سابق، ابن عبد البر، الانتقاء، ص 41، مصدر سابق.
المنذري، الترغيب والترهيب، ج1، ص14، مصدر سابق.
ابن عبد البر، الانتقاء، ص 42.
هذا التعريف وضعته بعد النظر في تعريفها عند عدد من الأصوليين.
(83) الشاطبي، إبراهيم ابن موسى، الاعتصام، ج2، ص 311، مطبعة المنار، د. ت.
(84) إبراهيم بن فرحون، الديباج المذهب، ص 20، مصدر سابق.
ابن جرير الطبري، (224هـ-320هـ) ، تاريخ الرسل والملوك، ط2، مصر، 1967م، ج7، ص 597-609، مصدر سابق.
(86) المرجع السابق، ص 49.
(87) أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج6، ص 321، مصدر سابق.
ابن عبد ربه الأندلسي (ت318هـ) ، العقد الفريد، دار الفكر، د. ت، ج1، ص 189.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 217، مصدر سابق.
أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، القاهرة، د. ت، ج2، ص 149.
عياض، ترتيب المدارك، ج1، ص 108، مصدر السابق.
المصدر السابق، ج2، ص 218.
الخطيب البغدادي (ت463هت) ، تاريخ بغداد، بيروت، د. ت، ج8، ص 426، والسيوطي، طبقات الحفاظ، ص 68-69، مصدر سابق.
ابن الجوزي، صفة الصفوة، ج2، ص151، مصدر سابق.
شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر (608-781هـ) ، وفيات الأعيان وأنباء الزمان، بيروت، 1968م، ج4، ص 135.
المصادر والمراجع
الآبي الأزهري، صالح الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني، المكتبة الثقافية، بيروت، د ت.(11/251)
الأربلي، وعبد الرحمن سنبط قنيتو، (ت717هـ) ، الذهب المسبوك مختصر من سير الملوك، بغداد، د ت.
الأصبهاني أحمد بن عبد الله (ت034هـ) ،حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ط2، بيروت، 7691م.
الأصفهاني، علي بن الحسين بن محمد (ت 653هـ) مقاتل الطالبيين، بيروت، د. ت.
... ابن عبد ربه الأندلسي (ت 813هـ) العقد الفريد، د. ت.
البخاري، التاريخ الكبير، دار الكتب العلمية، بيروت، د ت
ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج، صفة الصفوة، ط1، حلب، 9831هـ.
ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ط1، القاهرة، 9931هـ.
وابن حبان، الصحيح ترتيب علاء الدين الفارسي المسمى الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان دارالكتب العلمية، ط1، 7891م.
ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (258هـ) ، رفع الإصر عن قضاة مصر، القاهرة، 7591م.
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، 141هـ.
الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، د ت.
ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808هـ) ، المقدمة، دار الشعب، د. ت.
ابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد، (ت 186هـ) ، وفيات الأعيان وأنباء الزمان، بيروت، 8691م.
الرازي، عبد الرحمن بن أبي حاتم، أدب الشافعي ومناقبه، بيروت، (د، ت) .
الزرقاني، محمد، شرح الزرقاني على موطأ مالك، دار الفكر، د ت.
أبو زهرة، محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية، القاهرة، د. ت.
أبو زهرة، محمد، مالك،حياته، عصره، آرؤه، فقهه، ط، القاهرة، 2591م.
الزواري، عيسى، مناقب مالك، مع تزيين المماليك في مناقب مالك للسيوطي، المطبعة الخيرية، 5231هـ.
ابن سعد، الطبقات الكبري، دار صادر، بيروت، د ت.
السيوطي، جلال الدين (ت 119هـ) تزيين الممالك في مناقب مالك، المطبعة الخيرية، 5231هـ.
السيوطي، طبقات الحفاظ، ط1، القاهرة 3931هـ.
الشرنوبي، عبد المجيد، تقويب المعاني على رسالة، ابي زيد القيرواني، دار الكتب العلمية، بيروت، 8141هـ.(11/252)
الشكعة، مصطفى، الائمة الأربعة ط1، القاهرة، 9791.
الشكعة، مصطفى، إسلام بلا مذاهب، ط5، القاهرة، 7791م.
الصيمري، حسين بن علي (ت634) ، أخبار أبي جنيفة وأصحابه، ط2 الناشر، بيروت،6791م.
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (320هـ) ، تاريخ الرسل والملوك، ط2، مصر، 7691م.
ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، التمهيد، تحقيق الممالك في مناقب مالك للسيوطي، المطبعة الخيرية، 5231هـ.
ابن عبد ربه، العقد الفريد، دار الفكر، د ت.
عياض، بن موسى بن عياض البحصي (ت 445هـ) ، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، بيروت 7691م
ابن فرحون، إبراهيم بن علي بن محمد، الديباج المذهب، ط1، الفحامين، مصر 1531هـ.
المنذري، عبد العظيم بن عبد القوي، (ت 656هـ) ، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، ط2، مصر، 8831هـ.
القرافي، شهاب الدين، الذخيرة، تحقيق محمد أبو خبزة، دار الغرب الاسلامي، ط1، 4991م.
القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري (ت364هـ) ، الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، مالك، الشافعي، وأبي حنيفة، بيروت، د ت.
القيرواني، ابو زيد، الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 3041هـ/3891م.
القيروان، ابو زيد، الرسالة في فقه الامام مالك، دار الكتب العلمية، بيروت،8141هـ/8991م.
ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء اسماعيل، (ت 477هـ) ، البداية والنهاية، ط2، بيروت، 7791م.
ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب، بيروت، د، ت.
مالك بن انس، المدونه الكبرى، ومعها مقدمات ابن رشد، دار الفكر، 1406هـ.
ابن نباتة المصري، جمال الدين (768هـ) ، سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون، القاهرة، 3831هـ.(11/253)
توسعة المسجد النبوي الشريف
في العهد السعودي الزاهر
1368هـ - 1413هـ
الدكتور / محمد هزاع الشهري
أستاذ مساعد قسم التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى
ملخص البحث
يصف البحث عملين معماريين متميزين،تما في توسعة المسجد النبوي الشريف في العهد السعودي الزاهر. أولهما قام به جلالة الملك عبد العزيز سنة 1372هـ وأتمه ابنه جلالة الملك سعود 1375هـ.
وكان لهذا العمل الرائع أسبابه ودواعيه الخاصة به، وقد جاء وفق الطموحات والآمال، التي عقدها المؤسس الباني جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله رغم الإمكانيات المتواضعة التي تملكها الدولة آنذاك.
وجاء كل من التصميم والتنفيذ، متوائماً مع معالم الجزء الذي استبقى في مقدمة المسجد النبوي الشريف من العمارة المجيدية. والتي تحوي في بعض جوانبها بقايا من خصائص العمارة المملوكية، والمتمثل في المنارة الرئيسية وبعض أجزاء القبة الشريفة، مع المحافظة على مسمى المداخل والأبواب القديمة.
ورغم كبر المساحة التي أضافتها التوسعة المذكورة (6024م) 2 إلى ما كان قبلها، فقد عجز المسجد الشريف، عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الزوار والمصلين لاسيما في أيام الجمع والمواسم، مما حدا بجلالة الملك فيصل طيب الله ثراه، إلى إضافة مساحة من الأرض المظللة، في الجانب الغربي من المسجد النبوي الشريف سنة 1395هـ قدرت 35.000 م2.
أما العمل الثاني والمميز أيضاً، فقد أنجز في عهد خادم الحرمين الشريفين 1405هـ - 1411هـ؛ وقد عكس جماليات البناء التي تميزت بها المنشآت التي أقيمت في عهده، وجاء بحجم الآمال التي تعقدها الشعوب والحكومات الإسلامية في مقدرة المملكة العربية السعودية في خدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة.
***
توسعة المسجد النبوي الشريف في العهد السعودي الزاهر 1368 – 1413هـ
1- أسباب التوسعة السعودية الأولى 1368 – 1375هـ:
مكونات التوسعة:
أولاً: الأروقة.(11/254)
ثانياً: العقود والسقوف.
ثالثاً: المآذن.
رابعاً: الأبواب والمداخل.
خامساً: الإنارة والتهوية.
2- التوسعة السعودية الثانية 1392 – 1395هـ.
المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة.
3- التوسعة الكبرى في عهد خادم الحرمين الشريفين 1405هـ - 1413هـ.
الجهة المنفذة والمشرفة.
جغرافية المنطقة وتكونيها المعماري.
مخطط التوسعة الكبرى ومميزاته.
أساسات التوسعة (البنية التحتية) .
مكونات التوسعة:
أولاً: الأروقة والقباب.
ثانياً: المآذن.
ثالثاً: الأبواب والنوافذ.
رابعاً: الساحات والمرافق العامة.
توسعة المسجد النبوي الشريف في العهد السعودي الزاهر 1368- 1413هـ
توالت على المسجد النبوي الشريف منذ تأسيسه في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، عدة توسعات وتجديدات،كان لكل منها أسبابها ودوافعها المختلفة. ويمكن لمتتبع تاريخ تلك الأعمال المعمارية أن يلمس حقيقتين هامتين هما:
أولاً: إن التوسعات التي تمت في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبداية الدولة العباسية، كانت في معظمها استجابة لنمو أعداد المسلمين، بالإضافة إلى حرص كل من الدولتين الأموية والعباسية على أن يكون لهما عمل مميز في توسعة المسجد النبوي الشريف وعمارته؛ وقد بلغت مساحة تلك الأعمال في مجملها 8890م (1) .
ثانياً: إن الأعمال التي جاءت بعد الحريق الذي دمر المسجد النبوي سنة 654هـ، حافظت في معظمها على مساحة المسجد قبل الحريق، ماعدا زيادة بسيطة زادها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، في الجانب الشرقي من مقدمة المسجد سنة 888هـ؛ وقدرت ب 120متراً مربعاً، وكذلك زيادة السلطان العثماني عبد المجيد خان سنة 1265-1277هـ والمقدرة ب 1293م2 (2) .(11/255)
وعندما دخلت الحجاز في كنف الدولة السعودية، في عهد مؤسسها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه سنة 1343هـ، كان لابد لهذه الأراضي المقدسة أن تنعم بالأمن والاستقرار كغيرها من أنحاء المملكة، مما زاد بطبيعة الحال في أعداد الراغبين من الحجاج في زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. (3)
ولكون المملكة العربية السعودية أدركت منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز، أنها مسئولة روحياً عن عموم المسلمين في مختلف أنحاء العالم؛ (4) فقد وعت عظم مسئولياتها وواجباتها تجاه الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة.
ومن محاسن الصدف أن تكون العناية بالحرم النبوي الشريف فاتحة خير لتوجيه اهتمام الدولة السعودية في عهد جلالة الملك عبد العزيز بالحرمين الشريفين حرسهما الله تعالى. ولذلك من الأسباب والدواعي ما يجب ذكره.
أسباب التوسعة السعودية الأولى 1368 – 1375هـ:
مر على إتمام العمارة العثمانية التي أنجزها السلطان عبد المجيد خان، في المسجد النبوي الشريف 1277هـ؛ إلى قيام الملك عبد العزيز بأول عمل في ترميم بعض جوانب من المسجد النبوي الشريف سنة 1348هـ. قرابة 71عاماً، وإلى الشروع في الأمر بالبناء سنة 1368هـ 91 عاماً.
وهي فترة عاود فيها الخلل أماكن مختلفة من جدران المسجد الشريف وأعمدته وقبابه وعقوده، نتيجة لطول المدة وقلة الصيانة (5) ، ولا سيما الفترة التي احتدم فيها النزاع بين الأتراك والشريف حسين قبل وبعد إعلان الثورة العربية.(11/256)
ومن المعروف جيداً أن عمارة السلطان عبد المجيد، اقتصرت على تجديد بعض أجزاء من الجدار الخارجي لمبنى المسجد النبوي الشريف، (6) ، فيما بقى البعض الآخر محتفظاً بعمارته الأموية أو العباسية أو المملوكية، أو التي جددها أسلاف السلطان عبد المجيد خان (7) . كما تركزت عمارة السلطان عبد المجيد بشكل أساسي في تجديد سقف المسجد النبوي الشريف وإحلال القباب محل السقوف الخشبية المزدوجة (8) ، التي كانت سائدة في المسجد النبوي إبان العصر الأموي والعباسي ومعظم العصر المملوكي.
وقد جاءت أول أعمال الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، لتعالج آثار التلف التي ظهرت في هبوط أرض الأروقة المطلة على صحن المسجد؛ من جهاته الأربع عام 1348هـ (9) . ومرد ذلك كما يظهر من كلام عبد القدوس الأنصاري، إلى عدم تصريف مياه الأمطار التي تتجمع في صحن المسجد لانسداد مجاريها، مما أدى إلى انتشار الرطوبة في الأماكن القريبة من الصحن، حيث تركز الخلل فيما بعد في أكثر من موضع.
ثم جاء العمل الثاني في عهد الملك عبد العزيز، ليمنع التلف الذي بدأ يظهر في تشقق بعض الأعمدة في المجنبتين الواقعتين شرق الصحن، وغربه، وذلك بوضع أطواق من الحديد على ما تلف منها سنة 1350هـ (10) . وهو أمر مألوف نراه اليوم في بعض أعمدة الجزء القديم من المسجد الحرام
ثم عاد الخلل ليظهر مرة أخرى في أماكن مختلفة من المسجد النبوي الشريف، حتى أصبح المبنى كما يقول أحد المهتمين بالآثار في حالة سيئة (11) .
ونتيجة لذلك قامت وزارة الأوقاف المصرية، بترميم أماكن مختلفة شملت الأرضيات والأروقة والمآذن والمداخل، وقد امتدت من سنة 1354- 1357هـ؛ (12) وأنفقت عليها من أوقاف الحرمين الشريفين بمصر. (13)(11/257)
ولم تكن حكومة الملك عبد العزيز ترى في ذلك عضاضة، ولاسيما وأن مصر تملك الخبرة والمقدرة في هذا المجال؛ إلا أن المبالغة التي ضمنها رئيس البعثة المصرية المهندس محمد نافع تقريره عما أنجزه من ترميم في مبنى المسجد الشريف، وما لاحظه من تصدع في أحد الأعمدة الواقعة خلف دكة الأغوات (14) قد آثار الصحف المصرية التي بالغت في تضخيم الضرر، ودعت المسلمين إلى العناية بمسجد نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. (15)
وخوفاً من أن تأخذ القضية بعداً سياسياً في العلاقة بين المملكة والحكومة المصرية كما حدث من قبل حول كسوة الكعبة سنة 1345هـ وما قبلها (16) ، فقد سارعت حكومة المملكة العربية السعودية من خلال الصحف المحلية والعالمية، إلى طمأنة عموم المسلمين في الداخل والخارج بسلامة المسجد النبوي الشريف، وانحصار التلف في مواضع محددة منه، وعزمها على معالجة ذلك بأسرع وقت. (17)
وكان الملك عبد العزيز كما يقول أحد العارفين بمزاياه، يتساهل في كل شيء إلا ما يمس سيطرته الشخصية أو مركز حكومته (18) . وللتأكيد على اهتمامه بأمور المسلمين وتسهيل وصولهم على الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج، أنشأ مديرية للحج وأمر في سنة 1371هـ بإلغاء الرسوم المفروضة على الحجاج (19)
ولتأكيد النوايا الحسنة لمؤسس المملكة حول هذه القضية، فقد طلبت حكومته آنذاك من الحكومة المصرية؛ تشكيل وفد من كبار المهندسين المصريين لدراسة وتقييم أوضاع المبنى الشريف بشكل عام. فاختير المهندس مصطفى بك فهمي لرئاسة الوفد وقدمت لهم المملكة كل ما يسهل مهمتهم. وتبين لهم بعد إجراء بحوث مطولة في داخل المسجد النبوي وخارجه، بما يملكون من خبرة ووسائل متاحة؛سلامة مبانيه من المخاطر، ماعدا بعض الشروخ التي وجدت في بعض الأعمدة المحيطة بصحن المسجد (20) ، مع سهولة إيجاد الحلول المناسبة لها (21) .(11/258)
ونتيجة لما لمسه أعضاء الوفد المصري من ضيق الطريق المحيط بمبنى المسجد النبوي الشريف، واقتراب بعض البيوت منه كما هو الحال في الحرم المكي آنذاك وانعدام الميادين التي تحيط ببعض المساجد الجامعة في العالم الإسلامي.
اقترح الوفد توسعة مسطح المسجد النبوي الشريف من الشرق والغرب والشمال وإحاطته بميدان فسيح (22) ، لتخفيف الضغط على رواق القبلة، وتوفير المساحة اللازمة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين في كل موسم.
وقد أنهى الوفد المصري بجديته وحياده كل جدل حول خطورة مبنى المسجد النبوي الشريف، وجاء دور المملكة العربية السعودية لتؤكد لكل متشكك في إخلاصها ومقدرتها على خدمة الحرمين الشريفين وتسهيل الوصول إليهما، ونشر الأمن في ربوعهما، فقررت بعد استحسانها لاقتراحات الوفد المصري، وما تلاه من التماس تصدر افتتاحية جريدة المدينة المنورة في عددها الصادر في 6/8/1368 رقم 297 (23) ، عزم المملكة العربية السعودية على القيام بعمارة الحرمين الشريفين.
وفي 12شعبان 1368هـ أعلن جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه في خطاب إلى الأمة الإسلامية في جريدة المدينة المنورة في 5رمضان سنة 1368هـ العدد 301 عزم حكومته على البدء في توسعة المسجد النبوي الشريف؛ (24) وقد استقبل الخبر بالرضى والاستحسان في الداخل والخارج.
وثقة من جلالة المؤسس الباني في مقدرة أبناء الوطن على العطاء والمثابرة، اختير للقيام بهذا العمل المبارك أبرز رجال البناء والتعمير في ذلك الوقت، المعلم محمد بن لادن رحمه الله تعالى، والمعروف عند جلالة الملك عبد العزيز بالأمانة المدعومة بحسن المعتقد والإخلاص في العمل.(11/259)
وصدرت إليه التعليمات الكريمة بالشروع فوراً في إعداد ما يلزم من دراسات، وتوفير العمالة اللازمة لتنفيذ التوسعة المباركة على أحسن وجه، وفي أسرع وقت (25) ، كما صدرت أوامر جلالته إلى المختصين في حكومته بصرف ما يحتاجه المشروع من نفقات دون قيد أو شرط (26) .
وكما هي العادة في مثل هذا العمل فلابد للجهة المنفذة من زيارات متكررة لمواقع العمل، مع فريق من المهندسين والمساحين، لدراسة المواضع المقترح إضافتها إلى الحرم النبوي الشريف. وتسجيل ذلك في تقرير هندسي اصطحبه الشيخ محمد بن لادن في سفره إلى الرياض، لعرضه على جلالة الملك عبد العزيز في أوائل شهر رمضان المبارك سنة 1370هـ.
وعاد الشيخ محمد بن لادن بعد هذا اللقاء المبارك إلى المدينة المنورة في نهاية الشهر من نفس العام، مدعوماً بالتوجيهات الكريمة في هذا الخصوص، وحضر الاجتماع الذي أقامته إمارة المدينة المنورة؛ داخل المسجد النبوي الشريف في الأول من أيام عيد الفطر المبارك لعام 1370هـ (27) .
وبعد افتتاح الحفل بالقرآن الكريم،عرض أمير المدينة المنورة عبد الله السديري، توجيهات الملك عبد العزيز بخصوص التوسعة؛ وأمر بالشروع فيها على بركة من الله وتوفيقه (28) ، ثم تلاه منفذ المشروع فشرح للحضور مواضع الهدم والإزالة، وجميعها في المنطقة الشمالية والشرقية والغربية من مبنى العمارة المجيدية، وغالبها أوقاف متهدمة أو آيلة للسقوط، بالإضافة إلى عدة مدارس ومرافق أخذت الدولة على عاتقها ضرورة استبدالها بأحسن وأوسع منها (29) .
وتشكلت لجنة من رئيس البلدية ومدير الأوقاف ومدير المالية وعضوية الشيخ محمد بن لادن، لتقدير أثمان الدور المنزوعة لصالح المشروع (30) ، ورجحت في تقديرها للأثمان مصلحة المالكين للعقار قبل كل شيء (31) .(11/260)
وقد بلغت مساحة ما انتزع من الأرض والدور لصالح التوسعة، بالإضافة إلى مساحة الشوارع والميادين التي أحيط بها المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة 22955م2؛ (32) وبلغت التكلفة الإجمالية لكل ما ذكر أعلاه، أربعون مليون ريال سعودي (33) في وقت كانت قيم العقار في المدينة المنورة متدنية جداً (34) .
وكان لهذا الدفع السخي أثره الواضح في الارتفاع بقيم العقار في المدينة المنورة، فضلاً عن تحسن مستوى، البناء لاسيما القريب من المسجد النبوي الشريف، حيث الكثافة السكانية والاستثمار المربح. وإلى جانب هذا كان المردود الاقتصادي الذي عاد بالخير على بعض أهل المدينة المنورة، نتيجة العمالة الوافدة للمشاركة في أعمال البناء.
ومهما يكن الحال فقد بدئ في مباشرة هدم المباني التي تقرر إزالتها في 5شوال سنة 1370هـ (35) .
واستمر العمل في هدمها ونقل أنقاضها حتى 14شعبان سنة 1372هـ (36) , وقد ساعد هذا التأخير الجهة المنفذة في استكمال الخرائط والرسومات اللازمة لتنفيذ المشروع، وقد أعدت في مصر على يد أشهر المهندسين والرسامين المصريين (37) .
كما كان لهذا التأخير ما يبرره من الناحية العملية، فإن الطرق المؤدية إلى المسجد النبوي الشريف، ومواضع الهدم من حوله كانت ضيقة جداً؛ ولا يقدر ذلك إلا من عايش المباني التي كانت محيطة بالمسجد، قبل التوسعة التي قام بها الملك فيصل في الجانب الغربي، وكذلك قبل توسعة خادم الحرمين الشريفين وبالإضافة إلى ذلك فإن حرمة المسجد النبوي، وضرورة التأدب معه أثناء هدم ما يقع خلف رواق القبلة من العمارة المجيدية، وتهيئة مواقع إضافية لمساندة مقدم المسجد النبوي، في استقبال الزوار والمصلين كانت جميعاً من الأسباب التي أخرت البدء بالتنفيذ.(11/261)
ولهذا تأخر الاحتفال بوضع حجر الأساس، الذي تشرف الملك سعود بحضوره حين كان ولياً للعهد إلى شهر ربيع الأول عام 1372هـ (38) .وبدءوا في 14/8/1372هـ في حفر أساس المسجد من الجانب الغربي مما يلي باب الرحمة (39) ، وقد وصلوا بالأساسات إلى عمق 5 أمتار (40) ، أما الأساليب التي نفذت في وضع أساسات التوسعة السعودية الأولى فلا نعرف عنها شيء، إلا أنها لابد قد صارت على نهج الأساليب المتبعة في العمارة الحديثة، قواعد ضخمة للأعمدة والجدران ترتبط بميدات مسلحة.
وتأكيداً على اهتمام الدولة بمتابعة أعمال البناء، قام جلالة الملك سعود الذي تولى تصريف أمور الدولة في الفترة التي اشتد فيها المرض على والده، (41) بمتابعة أعمال البناء في توسعة المسجد النبوي الشريف، والذي اكتمل في بناء أساس الجزء الغربي، مما تطلب نقل الأحجار التي وضعها جلالة الملك سعود حين افتتح التوسعة نيابة عن والده سنة 1372هـ إلى هذا الجدار، ووضعها في مكان بارز في إحدى زوايا الجدار الغربي من التوسعة، مكتوباً عليها بخط نسخي واضح " بني بيده هذه الأحجار الأربعة جلالة الملك سعود، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول عام 1372هـ ". (42) .
وتواصل العمل في تجهيز مواد البناء وآلاته، واستيراد ما غاب منها عبر ميناء ينبع، وأقيم من أجل العمارة مصنع مخصوص لعمل الأحجار الصناعية (الموزايكو) ، وزود بما يحتاجه من آلات ومعدات لقطع الصخور وصقلها، مع خبراء في هذه المهنة من إيطاليا يساعدهم أكثر من أربعمائة عامل (43) .
وتولى الشيخ محمد بن لادن الإشراف على أعمال التوسعة، تسانده نخبة من الإداريين والمهندسين والفنيين (44) ، حتى تم إنجازه في أقصر وقت، ووفق أعلى المعايير الهندسية والإمكانيات المادية المتاحة آنذاك.(11/262)
وقد افتتح رسمياً في شهر ربيع الأول عام 1375هـ تحت رعاية الملك سعود، وحضرته وفود إسلامية من داخل المملكة وخارجها، شارك بعضهم الشعب السعودي فرحته، بإتمام هذا المشروع بكلمات كان أبرزها خطاب سفير مصر لدى المملكة العربية السعودية الدكتور عبد الوهاب عزام، والتي يحسن ذكر شيء منها، لأنها لامست جوانب هامة من اهتمام جلالة الملك عبد العزيز بأمر الحرم النبوي الشريف، وعزمه على توسعته على نفقته قياماً بالواجب ونيل رضى الله تعالى فقال: " فلما أشيع في العالم الإسلامي أن المسجد النبوي في حاجة إلى الترميم والتعمير، وتنادى المسلمون للتعاون في هذا العمل الجليل، أبى المغفور له الملك عبد العزيز إلا أن يحمل وحده هذا العبء، وينفرد بهذا الشرف ويحظى عند الله سبحانه وتعالى بهذه المثوبة ". (45) .
وهكذا تمت أعمال البناء في وقت قياسي، مما أثار الدهشة والاستحسان في آن واحد، ولم تكن الغرابة في سرعة تنفيذها فالدولة لم تبخل بشيء في سبيل إنجازها، ولكن الدهشة تركزت في جمال مظهرها وتناسق أجزائها وملاءمتها للطابع المحلي والتاريخي للعمارة الإسلامية (46) ، لاسيما وأنها التجربة التي أظهرت ما يتمتع به الشيخ محمد بن لادن من إمكانيات وخبرة وموهبة، وجعلته جديراً بالثقة التي أولاه إياها الملك سعود، وجلالة الملك فيصل الذي أنعم عليه بلقب معالي (47) ، تقديراً لجهوده المخلصة في إنجاز المشاريع الحكومية وخاصة الدينية منها. وإتمام للفائدة يجب التعرف على مكونات التوسعة السعودية الأولى.
مكونات التوسعة السعودية الأولى
أولاً: الأروقة:(11/263)
تغير مسقط المبنى العثماني للمسجد النبوي الشريف، حيث احتفظ فقط برواق القبلة (ظلة القبلة) ، المميز بلونه البني الغامق، وأعمدته الحجرية، وقبابه المزخرفة من الداخل بالكتابات وأشكال الزهور والورود المنوعة؛ ثم ربط به من الشمال المساحة التي شملتها التوسعة، وقد جاء مسقطها على شكل مستطيل طول الجدار الشرقي والغربي فيه 128 متراً والشمالي والجنوبي 91 متراً. (48)
وقد احتوت التوسعة خلافاً لما تم من قبل في التوسعات السابقة للعهد السعودي الزاهر، على صحنين يقع الأول خلف رواق القبلة مباشرة، ويفصله عن الصحن الشمالي ثلاث بوائك موازية لجدار القبلة.
وللتوسعة مجنبتان ومؤخرة، وتتماثل المجنبتان فبكل واحدة منها ثلاث بلاطات، مسقوفة بعقود تمتد عمودياً على جدار القبلة، وبالمؤخرة خمسة صفوف موازية لجدار القبلة. (49) .
وقد أقيمت التوسعة السعودية الأولى كهيكل من الخرسانة المسلحة (50) ، وهي الوسيلة المتبعة حالياً في مختلف أنحاء العالم، لاسيما في المنشآت الكبيرة، وحفرت أساسات الجدران والأعمدة إلى عمق خمسة أمتار (51) .
وقد نظمت فيها الأعمدة التي ارتبطت فيما بينها بميدات خرسانية مسلحة لتضمن ثباتها وعدم حركتها. وقد جاء ما يفيد بأن عمق الجدران التي ضمت التوسعة من جوانبها الثلاثة، الشرق والغرب والشمال كان خمسة أمتار (52) ، فلابد إذن أن يكون قد أقيم لها جدار استنادي مسلح، يدعم القواعد وميداتها ويحفظها من الحركة، كما تم في توسعة الملك فهد. أما الأعمدة المستخدمة في التوسعة فقد بلغ عددها 706 (53) وبيانها كالتالي:(11/264)
232 عمود مستدير ترتكز على قواعد خرسانية بارزة على مستوى الأرض، تتماثل مع قواعد ما تبقى من العمارة المجيدية. وجميع تيجانها متشابهة فهي مربعة من أعلاها ومشطوفة الأركان، مما أدى إلى ظهور مثلثات معتدلة ومقلوبة ومزخرفة بالنحاس المذهب بزخارف نباتية إسلامية مجردة من نوع الأرابسك (54) . كما هو مبين بالصورة رقم (1) .
الصورة رقم (1) عن وزارة الإعلام (الأماكن المقدسة)
أما الجدران الداخلية المحيطة بالتوسعة فبها 474 عموداً مربعاً (55) ، اقتضتها طبيعة الجدار الذي تعددت فيه الإنكسارات والمداخل بفتحاتها المتعددة. وما نتج عن ذلك من استحداث بعض المكاتب والمخازن، لاسيما في مؤخرة المسجد الشريف، على يمين ويسار باب سيدنا عمر بن الخطاب وباب سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وكذلك باب الملك عبد العزيز وباب الملك سعود رحمهما الله. انظر بالشكل رقم (1)
الشكل رقم (1) مسقط المسجد النبوي بعد التوسعة السعودية الأولى عن عبد القدوس الأنصاري
(آثار المدينة المنورة)
ثانياً: العقود والسقوف:
ارتبطت الأعمدة التي كونت أروقة العمارة السعودية الأولى بعقود مدببة (56) ، توحي صنجاتها الملونة بأنها معشقة كما هو الحال في البناء القديم. ويبدو هذا واضحاً في العقود الظاهرة فوق الأبواب والمداخل أو المطلة على صحني التوسعة؛ وبين كل عقدين جامة مدورة بها عبارات ذات دلالات مناسبة.
انظر الصورة رقم (2) .
الصورة رقم (2) عن عظمت شيخ (الحرمين الشريفين)
وقد جاءت العقود التي تعلو النوافذ المفتوحة في الجدران الخارجية من مبنى التوسعة وعددها 44 شباكاً (57) ،مماثلة لما شاع في الداخل من عقود.انظر الصورة رقم (3) .
الصورة رقم (3) عن عظمت شيخ (الحرمين الشريفين)(11/265)
ومن الإبداعات التي وفق فيها مصمم التوسعة، تزيين أرجل العقود في داخل المبنى وعلى أبوابه، بمصابيح كهربائية مزجت بين الوظيفة والجمال في إبداع يثير الإعجاب. انظر الصورة رقم (4) .
انظر الصورة رقم (4) عن وزارة الإعلام (الحج إلى بيت الله الحرام)
أما السقوف التي تعلو التوسعة فترتفع عن أرض المسجد بحوالي 12.5 متراً، مقارنة بما عرف من ارتفاع السقوف في توسعة خادم الحرمين الشريفين. وقد قسم مسطحه إلى مربعات يحتوي كل منها على وحدات زخرفية مرسومة بأسلوب الأرابسك. (58) .
ثالثاً: المآذن:
احتفظ مقدم المسجد النبوي الشريف بمئذنتين جميلتين، إحداهما المئذنة الرئيسية والمجاورة للحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وهي مملوكية البناء والطراز (59) ، وكانت قبل العمارة السعودية أجمل مآذن المسجد النبوي الشريف، لما بها من مقرنصات في صفوف متعاقبة تحمل شرفاتها الثلاثة. ولما يتميز به بدنها المزين بعدد من الفتحات الطولية، وطريقة الانتقال بالبناء فيه من المربع إلى المثمن فأضعاف المثمن فالأسطواني. كما هو الحال في الجزء الأخير منها والمتوج بخوذة مفصصة، ركب في أعلاها هلال جميل المظهر يعود إلى العصر العثماني.
ثانيهما: مئذنة باب السلام. وهي عثمانية الطراز (تركية) تنتمي إلى فترتين مختلفتين من العهد العثمان،ي فالزخارف المعمارية التي تميز المربع منها تعود إلى الفترة الممتدة من 1058 – 1099هـ.وتعود الزخارف التي تحلي الجزء العلوي منها إلى فترة سيادة فن الباروك في العمارة العثمانية (60) .(11/266)
والمئذنتان تنتميان إلى عهدين مختلفين من عصور العمارة الإسلامية (مملوكية وعثمانية) ، وهو أمر لم يغب عن الجهة المنفذة. مما حدا بالهيئة المشرفة على اختيار التصاميم المناسبة للعمارة السعودية، وهم اتحاد المهندسين الاستشاريين في كراتشي بباكستان (61) ، إلى المفاضلة بين ما تتميز به المنارتين من خصائص معمارية وزخرفية.
ولأن المنارة الرئيسية قد حظيت عند بنائها باشتمالها على كل ما يميز المآذن المملوكة من زخارف وعناصر معمارية (62) ، فإن التشابه بينها وبين المئذنتين اللتين أقيمتا في التوسعة السعودية الأولى، يدعو إلى الاعتقاد إن لم يكن الجزم، بأن زخارفها وتكوينها المعماري، قد أوحى إلى مصمم المئذنتان السعوديتين باقتباس معظم زخارفها، كالمقرنصات والخطوط المتكسرة التي تزين الجزء الأسطواني في الجزء الثالث من المئذنتين السعوديتين. لاسيما وقد طلب الملك عبد العزيز من الجهة المنفذة مراعاة التجانس المعماري بين التوسعة وما تبقى من العمارة العثمانية في مقدمة المسجد النبوي الشريف. (63)
وتقع المئذنتان المذكورتان في مؤخرة التوسعة السعودية، إحداهما في الركن الشمالي الشرقي، والأخرى في الركن الشمالي الغربي، وقد حفر أساسهما إلى عمق 17 متراً (64) . وتتكون كل منهما من أربعة طوابق.
الطابق الأول: مربع الشكل يرتفع من الأساس إلى أعلى سطح المسجد، وينتهي بشرفة مربعة محمولة على أربعة صفوف من المقرنصات (الدلايات) ، وبكل ضلع منها فتحة ضيقة مسدودة بالزجاج، تمتد من فوق القاعدة إلى قرب الشرفة. وقد جاء موقعهما كما يتضح من الشكل (1) والصورة رقم (5) ، بارزاً عن أصل الجدار وظاهراً في داخل المسجد، مما أضفى على شكلهما الخارجي بهاءاً وجمالاً.(11/267)
الطابق الثاني: مثمن الشكل كما هو في المنارة المملوكية، وينتهي بشرفة مثمنة محمولة على ثلاثة صفوف من المقرنصات. وقد فتح في كل ضلع فتحة طولية تنتهي بعقد على شكل مثلث تعلوه جامة مدورة، وترتكز رجلاه على عمودين جميلين. وينتهي بحزامين ملونين يمهدان لبداية الشرفة.
الطابق الثالث: أسطواني الشكل خال من الفتحات، تميزت زخارفه بأفاريز من الأحجار الملونة على شكل خطوط منكسرة، كما هو الحال في الجزء الثالث من المنارة الرئيسية.
الطابق الرابع: أسطوانياً أيضاً ويبدأ أوله محمولاً على ثمانية أعمدة رخامية، نتج عنها تشكيل ثمانية عقود مشرشرة تنتهي بالتدبيب، ويعلوها جميعاً شرفة محمولة على صفين من المقرنصات (الدلايات) .
ويعلو هذا الطابق شبه طابق خامس، جاء على شكل خوذة مضلعة تنتهي بشكل شبه مخروطي في نهايته قبة بصلية (65) ، بأعلاها هلال من النحاس المذهب.
وترتفع كل من المئذنتين عن مستوى أرض المسجد الشريف 70 متراً. ولقد حرصت على معرفة ارتفاع كل قسم من الأقسام السابقة فلم أجد ما يبين ذلك ويمكن توزيع الرقم الذي أورده على حافظ (66) على أقسام المئذنة كما وردت آنفاً.
رابعاً: الأبواب والمداخل:
احتفظ مقدم المسجد النبوي الشريف في العمارة السعودية الأولى بأبوابه ومداخله القديمة اثنان منها في الشرق هما:
1- باب جبريل عليه السلام.
2- باب النساء.
وثلاثة منها في الجانب الغربي من المسجد الشريف هي على التوالي من الجنوب إلى الشمال.
3- باب السلام.
4- باب الصديق رضي الله عنه.
5- باب الرحمة.(11/268)
وكان لابد للتوسعة السعودية الأولى التي شملت مجنبتي المسجد ومؤخرته مع ما زيد فيها من توسعة، من أبواب تسهل الدخول والخروج إلى المسجد من جميع الجهات، وبالنظر إلى مخطط المسجد الشريف في التوسعة السعودية الأولى شكل (1) ، يتبين أن المداخل الجديدة جاءت منسجمة مع الصحنين اللذين تميزت بهما التوسعة السعودية وكانت على النحو التالي:
6- باب الملك عبد العزيز،وله ثلاثة مداخل ويقع في منتصف الجدار الشرقي من التوسعة، ويقابله على امتداد المحور من الغرب.
7- باب الملك سعود وله ثلاثة مداخل أيضاً،وهو مثل سابقه في السعة والفخامة والجمال.
وقد جاء كل من البابين في طرفي الجزء المسقوف، الذي يفصل بين الصحنين وهي ثلاث بلاطات (بوائك) موازية لجدار القبلة. (67)
ومن هذا يتبين أن الهدف من وضع البابين المذكورين في وسط الجدار الشرقي والغربي للتوسعة، هو تسهيل حركة الدخول والخروج من وإلى مقدمة المسجد وصحنيه ومؤخرته.
وتتميز الفتحات المذكورة بعقود مدببة،محلاة بصنجات ملونة بالأبيض والأسود. أما أبواب المؤخرة فقد جاء توزيعها ملائماً لمخطط المسجد الشريف، وحرص القائمون عليه في تسهيل وتنظيم حركة الدخول والخروج منه وإليه.
وقد عكس وفاء المملكة العربية السعودية وتقديرها، لمن أسهم في العصور الماضية بعمل معماري في عمارة المسجد النبوي الشريف، فلم تلغ شيء من الأسماء التي كانت ظاهرة عل أبوابه ومداخله قبل التوسعة.
وقد تجلى ذلك في تسمية أبواب المؤخرة، بأسماء ثلاثة من الأعلام كان لكل منهم جهد بارز في صيانة المسجد الشريف وعمارته وبيانها كالتالي:
8- باب عبد المجيد (الباب المجيدي) ويتصدر الجدار الشمالي، وكان الباب الوحيد في هذا الجانب، فقد فتح فيه أثناء العمارة التي أتمها السلطان عبد المجيد خان العثماني سنة 1277هـ، وكان يسمى باب الوسيلة، ثم عرف فيما بعد بالباب المجيدي. (68) .(11/269)
9- باب عمر بن الخطاب رض الله عنه، ويقع على يمين الداخل من باب السلطان عبد المجيد.
10- باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويقع على يسار الداخل من باب السلطان عبد المجيد.
وتظهر الأبواب الثلاثة بمداخل فخمة ترتفع إلى مستوى السطح تقريباً. انظر الصورة رقم (5) . وقد اقتضت النواحي الهندسية والفنية من المصمم إبراز بابي الفاروق وذي النورين عن مستوى جدار المسجد، مما أضفى عليهما مسحة من الجمال يدركها كل من دقق النظر في الصورة رقم (5) . ومما زادهما بهاءً تحلية
الصورة رقم (5) عن وزارة الإعلام
عقديهما بزخارف جصية تماثل ما حلى به باب السلام وباب الرحمة، بالإضافة إلى وجود ساحة كبيرة تتقدم الأبواب الثلاثة وتبرز مكانتها وجمالها، وتعرف بساحة الباب المجيدي، وكانت قد أضيفت إلى التوسعة بعد نزع ملكية ما عليها من دو ومتاجر في أواخر التوسعة وتبلغ مساحتها 5000م2 (69) .
خامساً: الإنارة والتهوية:
لم يكن بالإمكان ربط ما يحتاج المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة الأولى من طاقة كهربائية،على شركة كهرباء المدينة الحديثة آنذاك والضعيفة أيضاً. وحتى لا يتأثر المسجد النبوي بأي عطل أو خلل طارئ، بوشر منذ اللحظة الأولى عندما تقرر إنشاء مصانع نحت الأحجار في أبار على (ذي الحليفة) ، تأسيس محطة توليد كهرباء تقوم بخدمة الهدفين، وتكون في المستقبل نواة لمحطة توليد خاصة بالمسجد النبوي الشريف. وقد تم ربط المسجد النبوي بها بعد اكتمال التوسعة في سنة 1375هـ. (70)
أما الإضاءة داخل التوسعة فقد أوضحنا من قبل، أنهم حرصوا عند التصميم والتنفيذ،على تزيين رؤوس الأعمدة وكذلك أرجل العقود بمصابيح كهربائية جميلة؛ كتب في أعلاها بخط الثلث كلمة (الله نور السموات والأرض ((71) انظر الصورة رقم (4) .(11/270)
وقد بين عددها أحد الباحثين فقال إنها 1011 مصباحاً،ركبت في أعلى الأعمدة، وأن 1400 مصباح دائري الشكل ركبت في زوايا العقود، بالإضافة إلى 16 مصباحاً في زوايا العقود تختلف عن سابقتها (72) ، كما نصب في أرضية صحني التوسعة عدد من الأعمدة الرخامية مخروطية الشكل جميلة المظهر، صنعت من قطعة واحدة من أجود أنواع الرخام، تنتهي بتيجان كورنثية الطراز، في نهاية كل منها مصباح كهربائي، عليه حاجز من النحاس المذهب بشكل زخارف نباتية في نهايتها قبة نحاسية مذهبة. انظر الصورة رقم (6) .
الصورة رقم (6) عن عظمت شيخ (الحرمين الشريفين)
أما تهوية المسجد النبوي الشريف فاقتصرت في هذه التوسعة على المراوح التي وزعت بانتظام على جميع أنحاء التوسعة، كما ركب منها ما يكفي في الجزء المتبقي من العمارة المجيدية في مقدم المسجد.
سادساً: الساحات والمرافق:
لم يكن للمسجد النبوي بعد التوسعة الأولى من الساحات والميادين إلا موضعين، كما يتضح من الصورة الجوية المرفقة شكل رقم (2) .
شكل رقم (2)
صورة جوية وأخرى من واقع الطبيعة تبيين ضيق الطرقات المحيطة بالمسجد النبوي الشريف قبل وبعد التوسعة السعودية الأولى،عن محمد سعيد فارسي (التكوين المعماري والحضري لمدن الحج)
إحداهما: ساحة باب السلام وتبلغ مساحتها 3000م2 وكانت قبل التوسعة مليئة بالمساكن والدكاكين , فنزعت ملكيتها لصالح الميدان الذي أبرز وسهل الوصول إلى باب السلام، وباب الرحمة، وباب الصديق.
ثانيهما: ساحة الباب المجيدي، وكانت أيضاً مكتظة بالمنازل والدكاكين، فنزعت الدولة ملكيتها، وهيأتها لخدمة المسجد الشريف. وهي أكبر من الأولى إذ تبلغ مساحتها 5000م2 (73) . وقد أبرزت كما ذكرنا من قبل الأبواب الثلاثة التي فتحت في شمال المسجد فضلاً عن إمكانية استخدامها لأداء الصلاة في أوقات الذروة.(11/271)
أما دورات المياه فلم أجد لها ذكر عند من كتب عن التوسعة الأولى، وقد رأيت أماكن للضوء بنيت خارج البيوت المحيطة بالساحة المجيدية، وذلك قبل توسعة الملك فهد، فلعلها إحدى المرافق المساندة التي جهزت لهذا الغرض في أعقاب التوسعة المذكورة. لاسيما وأن المساجد الجامعة كانت تزود بهذه المرافق الهامة في جميع عصور العمارة الإسلامية.
التوسعة السعودية الثانية في عهد الملك فيصل 1392 – 1395هـ
لم تكن التوسعة السعودية الأولى التي تمت ف المسجد النبوي الشريف سنة 1375هـ طموحة بما فيه الكفاية. وإن كانت متمشية مع ظروف بناء الدولة وإمكانياتها في عهد الملك عبد العزيز، بالإضافة إلى أن النمو السكاني والعمراني للمدينة المنورة كان حينذاك بطيئاً. فلم يزد عدد سكانها سنة 1348هـ عن 13 ألف نسمة (74) . ورغم ارتفاعه في سنة 1375هـ إلى 150 ألف نسمة (75) إلا أن أحداً لم يكن يتصور بأن المدينة المنورة ستشهد مجيء أعداد غفيرة من الزوار في المستقبل القريب. وكانت المفارقة الكبيرة عندما ازداد نموها اضطراداً، في أواخر عهد الملك سعود، وعهد الملك فيصل يرحمها الله. كما يتضح من الجدول التالي:
السنة
عدد السكان
المصدر
1231هـ/ 1815م
16000- 20000
بوركهات
1234هـ / 1818م
18000
سادلير
1270هـ / 1853م
16000
بورتون
1326هـ / 1908م
30000
وافيل
1328هـ / 1910م
60000
البتنوني
1323هـ/ 1914م
60000-70000
مورينز
35-1336هـ/1916/17 م
15000
علي حافظ
1344هـ / 1925م
6000
روتر
1350هـ / 1931م
15000
فيلبي
1394هـ / 1974م
198000
مكتب التخطيط
1401هـ / 1980م
250000
مكتب التخطيط
جدول رقم (1)
نقلاً عن محمد سعيد فارسي، " التكوين المعماري والحضري لمدن الحج " المملكة العربية السعودية(11/272)
وعلى الرغم من ارتفاع التوسعة التي تمت في المسجد النبوي سنة 1375هـ بمساحة المسجد، من 10303م2 إلى 16327م2 (76) ، فإن بالإمكان القول أنها جاءت لترتفع بمستوى نوعية العمارة، لا بمستوى المساحة التي قصد بها التوسيع للمصلين القاصدين زيارة المسجد النبوي الشريف.
فلم يمض على إنجازها أكثر من عام، حتى ظهرت الحاجة إلى توسعة ثانية (77) ، تستوعب زوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يزداد عددهم عاماً بعد عام. وفي ذلك يقول شاهد عيان حضر الاحتفال بإتمام التوسعة سنة 1375هـ." أذكر أننا أدينا صلاة الجمعة خارج المسجد، في الشوارع والميادين وعلى أسطح المنازل المحيطة بالحرم، وكان عدد الذين يصلون فيها أضعاف من يضمهم المسجد، وأن بالمسجد ذاته أضعاف من يتسع لهم عادة من المصلين" (78) .
وبالرجوع إلى الإحصاءات الرسمية من عدد الحجاج من خارج المملكة، وهم الحريصون في الغالب على الذهاب إلى المدينة المنورة،قبل الحج أو بعده لزيارة المسجد النبوي الشريف والصلاة فيه، يتبين أن عددهم ارتفع من 220735 حاج سنة 1375هـ، إلى 894573 حاج سنة الانتهاء من التوسعة الثانية في عهد جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه،سنة 1395هـ. (79) انظر الجدول رقم (3) .
وبما أن ضيق المسجد النبوي الشريف بالمصلين، لا يحدث في الغالب إلا في أسابيع محدودة بعد موسم الحج، ولكون العمل ما يزال قائماً في إتمام عمارة المسجد الحرام في مرحلته الثانية من التوسعة السعودية الثانية في عهد الملك فيصل 1389- 1396هـ (80) ، فلعل ذلك كان وراء إرجاء الملك فيصل لفكرة توسعة
المسجد النبوي؛ والاكتفاء بإزالة ما يقع غربه من مبان وتهيئة موقعها للمصلين، وقد نفذت على ثلاث مراحل:
الجدول رقم (2)
تطور أعداد الحجاج، عن محمد سعيد فارسي (التكوين المعماري والحضري لمدن الحج)(11/273)
المرحلة الأولى: قدرت مساحتها 35000م2 (81) ،وثمنت أنقاضها بخمسين مليون ريال، وتمتد من الجدار الغربي للمسجد النبوي الشريف إلى الشارع العيني بطول 165متراً (82) ، وقد رصفت أرضها بالرخام، وظللت بسقوف مؤقتة، وزودت بالإنارة والمراوح، لتخفيف وطأة الحر عن المصلين.
المرحلة الثانية: وقد امتدت من الجنوب الغربي إلى الشمال الغربي لحي الساحة (83) وبلغت مساحتها 5550م (84) .
المرحلة الثالثة: وتركزت في إيجاد ميدان فسيح، يتصل بشارع المناخة وتبلغ مساحته 43000م2 (85) ، وقد تم تغطيته بالمظلات المؤقتة في عهد الملك خالد رحمه الله (86) .
ولا يخفى ما لهذا العمل من نفع في التوسعة على المصلين، أيام الجمع والمواسم لاسيما وأنها زودت جميعاً بمبكرات للصوت؛ ربطت المصلين فيها بالإمام داخل الحرم النبوي الشريف، كما أن لها نفع آخر تمثل في إبراز جزء كبير من مبنى التوسعة الأولى للمسجد الشريف، ولاسيما الجانب الغربي مع معظم الجزء الشمالي الذي حظي من قبل بميدان فسيح،سهّل حركة الدخول والخروج من وإلى الأبواب الثلاثة التي تقع في هذا الجانب من المسجد الشريف.
وكان للحريق الذي أصاب في 18 رجب سنة 1397هـ ما تبقى من المباني الواقعة غرب المسجد النبوي الشريف، بين ميدان المناخة ومسجد الغمامة. والمؤلفة من سوق الحباية والباب المصري وسوق القماشة (سويقة) ومحلة الشونة أثر في توسيع المنطقة المفتوحة التي أحاطت بالمسجد النبوي، وأبرزت مبناه من هذه الجهة وسهلت حركة الوصول إليه.
وقد قامت حكومة الملك فيصل رحمه الله، بتعويض أصحاب الدور والمتاجر بأثمان سخية، ثم إزالة أنقاضها وهيأت موقعها ليصبح ميداناً فسيحاً أمام باب السلام، وقد سفلتته بلدية المدينة وأضاءته وشجرته فيما بعد (87) . ورأيت في طرفه عدد كبير من دورات المياه، وقد خصص جزء منه لمواقف السيارات.
التوسعة الكبرى في عهد خادم الحرمين الشريفين 1405- 1413هـ(11/274)
رأينا فيما سبق أن التوسعة التي أنجزت في عهد الملك فيصل، جاءت كحل مؤقت ريثما تهيأت الظروف للقيام بتوسعة تكون قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الزوار والمصلين (88) ، لاسيما وأن الصلاة تحت السقوف التي أقيمت في الساحات التي تقع غرب المسجد النبوي كانت غير مريحة.
وقد ذكر أحد أعيان المدينة المنورة في مؤلف خص به الحديث عن عمارة المسجد النبوي الشريف عبر العصور " أنه لم يمض على هذه التوسعة أعوام قليلة حتى ضاقت بالمصلين، ولم تعد تتسع لقاصدي المسجد الكريم.حتى أننا في أيام الجمعة وفي غير المواسم لا نستطيع الصلاة تحت ظل هذه المظلات، وكثير من المصلين يصلون اضطراراً تحت لفحة الشمس وحرارة الجو ". (89) .
وقد رأينا فيما سبق، كيف أن أعداد الحجاج من خارج المملكة تضاعف أربع مرات بين سنة 1375هـ - 1395هـ (90) ، وبالرغم أن هذه النسبة قد بقيت على حالها حتى سنة 1401هـ.كما يظهر من الإحصائية الرسمية الصادرة من وزارة الداخلية، إلا أنه يلاحظ من خلال الأرقام التي ذكرتها الإحصائية السابقة، ارتفاع أعداد حجاج الداخل سنة 1395هـ من 1.557.867 حاج إلى 1.943.180 حاج سنة 1401هـ (91) .
ولهذه الزيادة الكبيرة في أعداد حجاج الداخل أسباب لخصها أحد المهتمين بتكوين مدن الحج (93) يحسن ذكر أهمها فيما يلي: -
1- توفير الأمن والاستقرار في مناطق الحج.
2- حصول دول إسلامية على استقلالها، وانتهاء القيود التي كانت تحد من ممارستهم لشعائر دينهم.
3- بداية حركة نشيطة وصحوة إسلامية في الدول الإسلامية.
4- الانتعاش الاقتصادي لكثير من الدول الإسلامية.
5- تطور أجهزة النقل والمواصلات.
6- التوسع في إنشاء الطرق البرية، التي تربط المملكة بالدول المحيطة بها.
7- تطوير وسائل النقل وسهولة امتلاكها لمعظم أفراد الشعب السعودي.
8- تطوير أجهزة الخدمات الأساسية للحج، والرعاية الصحية في المشاعر.(11/275)
9- استخدام أعداد كبيرة من الأيدي العاملة المسلمة، في تنفيذ برامج التنمية في المملكة ودول الخليج.
واستجابة لهذا النمو المتجدد في أعداد الحجاج،قررت حكومة المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تعالى؛ القيام بدورها في توسعة الحرمين الشريفين.
وبما أن معظم القاصدين الحج يأتون في الغالب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم تفاوت الحرمين في المساحة (93) ، فقد تأكد لولي الأمر حاجة المسجد الشريف إلى توسعة تخالف ما سبقها من توسعات؛ في السعة والارتقاء بمستوى الخدمات المساندة للتوسعة الكبرى. (توسعة خادم الحرمين الشريفين) .
وقد اتخذ القرار في الزيارة الميمونة التي قام بها إلى المدينة المنورة في شهر محرم من سنة 1403هـ، بعد شهور من مبايعة الأمة له في 21/8/1402هـ (94) . وفي هذا ما يدل على أن التفكير في التوسعة لم تكن وليدة الزيارة المذكورة، ولا عملاً ارتجالياً غير مدروس، فقد كان لبقائه في المدينة في تلك الزيارة أكثر من شهر ونصف (95) ؛ ما أكد له ضرورة الشروع في التوسعة.
وأذكر أن حكومة المملكة قد دعت عبر وسائل الإعلام المختلفة،جميع الدول الإسلامية والعربية، وأهل الخبرة في مجال البناء؛ إلى المساهمة بأفكارهم ومقترحاتهم في تحقيق هذه التوسعة. (96) .
وقد أشار جلالة الملك فهد إلى أن كثير من الآراء التي عالجت جوانب متعددة من المشروع لم تكن مشجعة (97) ، إلا أن حرصه الدائم لخدمة الحرمين الشريفين ورفع مستوى الخدمات بهما، أبى إلا أن تذلل جميع الصعاب التي تقف في طريق هذا المشروع مهما كان نوعها (98) .(11/276)
ولكون خادم الحرمين الشريفين قد عقد العزم في سنة 1403هـ،على توسعة الحرمين الشريفين في وقت واحد (99) ، فقد وضعت قواعد أساسية كقاسم مشترك بين المشروعين، لجميع الأعمال التي ستتم في الحرمين الشريفين، ليكون العمل كما أراده حفظه الله تعالى. وبيانها كما يلي: (100)
أولاً: دراسة تفصيلية تتناول كل عناصر التربة والأحمال وأنوع المواد المستخدمة، وأنواع الخرسانات وحاجة كل موقع لهذا النوع أو ذاك لضمان أفضل المعايير الهندسية والفنية والإنشائية والمعمارية.
ثانياً: أن تكون التصاميم معبرة بدقة بالغة عن كل الدراسات، وترجمة دقيقة لكل تفصيلاتها، ووضوح بين لا يؤدي إلى أي احتمال للخطأ.
ثالثاً: أن تعبر معمارياً عن التجانس الكامل بين التوسعة والحرمين القائمين في العناصر، حتى يكون التداخل طبيعياً ومتآلفا في الشكل والموضوع.
رابعاً: استخدام أفضل ما وصلت إليه التقنية الحديثة من آليات ومعدات وخامات،لتوفير أداء وتنفيذ مميزين يحققان الجودة المطلوبة والعمر الأطول بإذن الله.
أما الأهداف التي توخاها ولي الأمر من المشروعين، فكانت واضحة ومحددة. وبيانها كالتالي: (101)
1- إضافة مبنيين للحرمين القائمين يزيدان القدرة الاستيعابية.
2- توسيع القاعدة الاستيعابية للمصلين، بالاستفادة من المساحات المحيطة بالحرم، وبأسطح المبنيين الجديدين والحرمين القائمين.
3- تطوير المنطقتين المركزيتين حول الحرمين الشريفين، لإيجاد حرية الحركة وخدمات مساندة فاعلة، وتأمين سهولة الدخول والخروج لهذا الكم الضخم من المصلين والزائرين؛ في فترات الصلوات، وإعداد بوابات كافية ومناسبة للطاقة الاستيعابية.
4- تأمين أنظمة أمن وسلامة متطورة.
5- نظام لتغذية الماء وصرف صحي مناسب لحجم التوسعة في كل حرم.
6- مواقف سيارات ذات طاقة استيعابية متناسبة مع التوسعة وسهولة مرورية فعالة.
الجهة المنفذة والمشرفة:(11/277)
تمتلك مجموعة بن لادن السعودية إمكانيات لا تضاهيها فيها أي مؤسسة أو شركة وطنية أخرى، ويقوم بإداراتها والإشراف عليها مهندسان من أبناء معالي الشيخ محمد بن عوض بن لادن رحمه الله، يتسمان بالكفاءة والإخلاص والمثابرة.
ولما لهذه المجموعة من خبرة وقدرة وإسهامات في مجال بناء الوطن، الذي أرسى قواعده جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، فقد أسند لها شرف القيام بتنفيذ عمارة الحرمين الشريفين في هذا العهد الزاهر.
وكان يدفعهما إلى العمل والمثابرة ما يلقيانه من خادم الحرمين الشريفين من دعم ومؤازرة (102) ، ومتابعة حتى في أدق التفاصيل. وفي ذلك يقول المهندس بكر بن لادن في تصديره لقصة التوسعة الكبرى " ولم تكن متابعته فقط في مناقشة الخرائط التي أعدت للتوسعتين، وإنما كانت المتابعة مستمرة في مراحل التنفيذ ... فقد كان يزور المشروعين في مراحلهما المختلفة، ويختار من أنواع الخامات الأميز والأفضل والأرقى مستوى " (103) .
ولكي لا تعوق الإجراءات المالية تقدم المشروع أصدر خادم الحرمين الشريفين أمراً إلى الجهات المختصة في حكومته، يقضي بوضع حساب مفتوح لهذين المشروعين (104) .
أما الإشراف الفني على توسعة خادم الحرمين الشريفين، فقد أسندت إلى مكتب الديار السعودية للاستشارات الهندسية (105) ، ورغم قلة معلوماتنا عن نشاط هذا المكتب وخبرته؛ فإن الدقة التي ظهر بها العمل في المشروعين المذكورين، يدعو إلى الاعتقاد بأن لديه من الإمكانيات والخبرات ما يجعله يكون جديراً بالثقة الغالية، التي شرف بها من قبل الدولة والجهة المنفذة على حد سواء.(11/278)
ونظراً لاهتمام خادم الحرمين الشريفين بهذا المشروع وحرصه الدائم على متابعة جميع مراحله، فقد ترأس اللجنة الخاصة بالتوسعة الكبرى والتي تضم عدداً من الوزراء وأهل الاختصاص، وأناب عنه في رئاستها صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز أمير المدينة المنورة (106) ، لمتابعة العمل في المشروع أولاً بأول وتقديم التقارير اللازمة لخادم الحرمين الشريفين.
جغرافية المنطقة وتكوينها المعماري:
تتميز المنطقة المحيطة بالمسجد النبوي الشريف بخلوها من الجبال والأودية العميقة، وبكونها منطقة مفتوحة من جميع الجهات (107) ، الأمر الذي ساعد القائمين على تنفيذ مشروع التوسعة الكبرى، في إنجازه في أقصر وقت، وبأساليب تتناسب مع نوعية التربة المتغيرة في الموقع (108) ، دون الحاجة إلى الحفر العميق أو استخدام المتفجرات.
أما النسيج العمراني فقد عرفنا فيما سبق من حديث عن الأعمال التي قام بها جلالة الملك فيصل، خلو الجانب الغربي من أي مبان (109) ، مما قلل من الأعباء المالية والعملية؛ وكانت الجهة الشرقية والشمالية مكتظة بالأسواق والفنادق والمساكن الخاصة.
وكان حي الأغوات بما يحويه من مبان قديمة ومتهدمة، غالبها أوقاف وأملاك خاصة، تحتل معظم الجزء الجنوبي والشرقي من المسجد الشريف، وقد أزيلت بكاملها مع ما يقع في مقدمة المسجد الشريف من مبان حكومية. انظر الشكل (2) .(11/279)
وقد قدرت مساحة الدور المنزوعة لصالح المشروع بمائة ألف متر مربع، دفع لأصحابها من خزينة الدولة مبالغ مجزية (110) ، واستغرق العمل في هدمها ونقل أنقاضها ثلاث سنوات 1405 – 1408 هـ. روعي فيها حرمة الجوار فلم تستخدم المتفجرات، ولا غيرها مما يؤذي مرتادي المسجد النبوي الشريف، كما أن ولاة الأمر وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، قدروا حاجة السكان من أصحاب الدور والمتاجر المنزوعة ملكيتها؛فأعطوهم من الوقت ما يكفي للبحث عن بدائل مناسبة، دون أن يقطعوا عنهم خدمات الماء والكهرباء والهاتف إلا بعدما يتم الإخلاء بالكامل (111) لجميع ما تقرر هدمه لأجل التوسعة الكبرى.
مخطط التوسعة الكبرى ومميزاته:
جاء المخطط الذي أقره خادم الحرمين الشريفين، ن لتوسعة المسجد النبوي الشريف كأحسن ما يكون ملاءمة ونفعاً، لما عقد عليه العزم من تنفيذ التوسعة التي تفوق وتختلف عن سابقاتها من التوسعات، التي تمت في المسجد النبوي الشريف، عبر العصور الماضية في السعة والجمال، ومن أبرز خصائصها احتضانها مبنى المسجد الشريف بحالته التي كان عليها بعد التوسعة السعودية الأولى (112) .
ولا يمكن لأحد أن يتصور حلاً ملائماً يخالف ما نفذ في توسعة خادم الحرمين الشريفين للأسباب التالية:
أولاً: أن مقدمة المسجد النبوي الشريف، تضم كامل مساحة المسجد الشريف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، بما يضم من معالم مشهورة، أبرزها أسطوانات الروضة الشريفة، ومنبر المسجد وموضع مصلاه صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فلا يمكن لأي توسعة أن تتقدم جداد القبلة مهما كانت الأحوال والظروف.(11/280)
كما لا يمكن أن يتصور أحد بأن التوسعة المقترحة بحجمها الحالي ستنجح، لو نفذت فقط في الجانب الغربي من الحرم القديم،لأنها حينذاك ستجعل الجزء الأهم من المسجد النبوي الشريف، في طرف التوسعة. وهو أمر مرفوض هندسياً وعملياً أيضاً، كما لا يمكن لها أن تكون في الجانب الشرقي فقط لأنها حينذاك ستصطدم بمقبرة البقيع، ولا يخفى ما في هذا من محضور شرعي.
ثانياً: لا يمكن لها أن تنفذ في الجانب الشمالي من الحرم القديم، أو في الجانب الشمالي والشرقي فقط، أو في الجانب الغربي فقط، لأنها حينئذ ستظهر منعزلة عن المبنى القديم.
ولهذا وذاك فإن المخطط الذي نفذت عليه التوسعة كما يتضح من الشكل رقم (3) ، كان ناجحاً بل وموفقاً وملائماً للأسباب التالية:
1- أنه حافظ على كامل مبنى المسجد النبوي الشريف، كما كان عليه بعد التوسعة السعودية الأولى، وظل مستقلاً بأبوابه ومآذنه، مع سهولة الاتصال بينه وبين جوانب التوسعة الكبرى، من خلال المساحة المحيطة به من جميع الجهات. انظر الشكل رقم (3) .
الشكل رقم (3)
مخطط التوسعات بالحرم النبوي الشريف
(عن عمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية، ج1، مؤسسة عكاظ – إصدارات خاصة)
2- قدراً عالياً المكانة المرموقة التي يحظى به الجزء الأمامي من المسجد النبوي الشريف، فأبرزه عن جدار التوسعة من الجنوب بشكل يسترعي الانتباه، ولم يحطه بشيء يحد من رؤيته أو يضايق مداخله، بل سهل الدخول والخروج منه، من خلال باب البقيع الذي فتحه خادم الحرمين الشريفين، في الجدار الشرقي من مقدمة المسجد النبوي،بجوار المنارة الرئيسية في مقابل باب السلام المواجه له من الشرق، وكانت حركة القادمين من باب جبريل تصطدم بمن جاء من الزوار من باب السلام.
كما أن من الأعمال الجيدة استحداث باب في جدار القبلة، على يمين المحراب العثماني خصص لدخول الجنائز للصلاة عليها دون تخطي صفوف المصلين أو مضايقتهم.(11/281)
3- احتضن المبنى القديم للمسجد الشريف من ثلاث جهات، دون الإخلال بمظهره أو التأثير عليه بعلو مبان التوسعة عليه، أو إلصاقها بمبانيه.
4- أحيطت التوسعة من جميع الجهات بميدان فسيح، أبرز التوسعة وسهل الوصول إلى جميع أجزائها. (113) .
5- تعددت فيه المداخل الفرعية والرئيسية، بشكل يثير الإعجاب ويحظى بالتقدير، مما يسهل على أي قادم للمسجد الشريف من رؤيته عن بعد؛ والوصول إلى أي جزء فيه دون مشقة أو عناء.
أساسات التوسعة (البنية التحتية) :
بدئ في تنفيذ المخطط الذي أقره خادم الحرمين الشريفين على أعلى المعايير الهندسية والمهنية، ووضع بيده الكريمة حجر الأساس، للتوسعة الكبرى في المسجد النبوي الشريف، يوم الجمعة 9/2/1405هـ.
ورغم عدم توفر المعلومات عن الأبعاد الحقيقية لمسقط التوسعة، فإن بالإمكان كما يتضح من شكلها، ومن المسقط المنشور في قصة التوسعة الكبرى وغيرها من الكتب، ومقارنته بما عرف من أبعاد المسجد الشريف في التوسعة الأولى في العهد السعودي الزاهر (128 × 91 م) . يتبين أنه يشغل مساحة مستطيلة الشكل تمتد من الشرق إلى الغرب بطول 385م، ومن الشمال إلى الجنوب بطول 222م تقريباً، وتعطينا الأبعاد المذكورة مساحة 91 ألف م2، وهي قريبة جداً من المساحة التي شغلتها التوسعة والتي ذكرت في أكثر من مصدر وهي 82 ألف م2 (114) ، خاصة إذا استثنينا منها الجزء المدمج فيها من التوسعة السعودية الأولى وما حوله من الممرات. وكذلك ما بين الأبواب التي برزت عن جدار التوسعة.
انظر الشكل رقم (4) .
الشكل رقم (4)(11/282)
وبناء على الدراسة المكثفة التي أجريت على تربة الموقع المتغيرة من مكان لآخر (115) ، تقرر استخدام نظام الخوازيق لتقوية الأساسات بأنواعها، وبدئ في تنفيذها من الجهة الشرقية والغربية في يوم السبت 17/1/1406هـ، وحفرت الأساسات بعمق 4.5م (116) ،ثم غرست الخوازيق التي تقرر تقوية الأساسات بها. ونفذت بطريقتين إحداهما بالدق والأخرى بالحفر العميق، حتى تصل إلى الصخر الذي تراوح الوصول إليه ما بين 30، 50 متراً. (117) .
وباكتمال زرع الخوازيق التي بلغت في مجموعها 8500 عمود، جاءت مرحلة بناء القواعد، بحيث تقام قاعدة كل عامود فوق رؤوس أربعة خوازيق. أما قواعد المنارات فتوضع فوق رؤوس مجموعة من الخوازيق، تتراوح بين 16 خازوق أو 32 خازوق، لأسباب اقتضتها القواعد الهندسية والمهنية، وقد جاء ما يفيد بأن تكعيب القواعد كانت في الغالب موحدة 14 × 12 × 2.5م (118)
وقد بلغ مجموع القواعد 1877 قاعدة، ارتبطت ببعضها بكمرات من الخرسانة المسلحة، وبنفس ارتفاع القواعد 2.5م، طمعاً في الوصول بأساس التوسعة إلى أعلى مراحل الإتقان والأمان، مما يمكنها مستقبلاً لتحمل إمكانية إنشاء دور ثاني فوق سطح التوسعة الكبرى.
وبما أنه قد تقرر تنفيذ مخطط التوسعة من طابقين، أحدهما للخدمات والآخر للمصلين، فقد أعطى الدور السفلي عناية كبرى من جميع النواحي الهندسية والفنية، فقسمت أرضيته إلى 95 بلاطه أصغرها بمساحة 480م2، وأكبرها مساحة 1527م2، وقد صبت أرضياتها بالخرسانة والمواد العازلة للرطوبة، مع مراعاة تنظيم التمديدات الكهربائية وغيرها من الخدمات. (119) .(11/283)
ولتقوية أرضية الطابق السفلي وحماية ركائز الأعمدة وقواعدها من الحركة أو الاهتزازات الأفقية لطبقات الأرض، فقد تقرر إنشاء جدار استنادي يحيط بمساحة التوسعة (120) ، وبارتفاع الدور الأرضي البالغ أربعة أمتار، ثم ألبس من الخارج بطبقة عازلة للرطوبة، وأقيم من وراء ذلك جدار من البلك الأسمنتي إمعاناً في الحيطة والأمان.
وعند الانتهاء من أعمال الإنشاء في سقف الدور السفلي، والذي يكون بطبيعة الحال أرضية المصلى في التوسعة الجديدة، نفذت فيه جميع التمديدات اللازمة للإنارة، والهاتف ومكبرات الصوت، والدوائر التلفزيونية المغلقة، بالإضافة إلى تحديد الفتحات الأربع، التي يظهر من خلالها الهواء المبرد من قواعد الأعمدة، وهو عمل جديد في صنعه ونفعه يثير الإعجاب ويستحق التقدير.
أما السقف فقد قسم كما هو الحال في أرضية الطابق السفلي التي ظهرت منها الأعمدة التي حملت السقف، إلى 95 بلاطة تتساوى في المساحات مع البلاطات السفلية، ثم صبت الخرسانة بعد اكتمال أعمال الحدادة وتجهيز التمديدات السابق ذكرها. (121) .
وقد جاءت جميعاً وفق ما هو مخطط من قبل وبأتم الدقة والكمال، وعند الانتهاء من ذلك كله بدأت معالم التوسعة تظهر للعيان في منتصف عام 1410هـ/ 1990م (122) .
مكونات التوسعة:
أولاً: الأروقة (الساحات، البلاطات) والقباب:
تضمنت التوسعة التي بلغت 82 ألف متر مربع 95 ساحة أو بلاطه مربعة تكون في مجموعها صفوف موازية أو عمودية على جدار القبلة.
وتتباعد الأعمدة عن بعضها ما بين 6 أمتار، وهو الغالب في معظم أعمدة التوسعة، وما بين 18 متراً، وهو البعد بين الأعمدة المتقابلة في الجوانب الأربع لجميع الساحات التي تكونت منها التوسعة، والبالغة 95 كما يظهر من الشكل رقم (5) .
الشكل رقم (5)(11/284)
ويبلغ عدد الأعمدة الظاهرة في مبنى التوسعة 2104 عموداً مستديراً بقطر 64سم لكل منها (123) ، ولها جميعاً قواعد بارزة في أرض مصلى التوسعة على شكل مربع مشطوفة أركانه الأربعة، وبها فتحات لخروج الهواء المبرد. كما أن لها جميعاً تيجان متشابهة مع التيجان التي حليت بها أعمدة التوسعة السعودية الأولى، والمزخرفة بزخارف هندسية ونباتية متشابهة في جميع تيجان التوسعتين. الصورة رقم (4) .
ونظراً لحرص ولي الأمر في إبراز المبنى القديم للمسجد النبوي الشريف كما ذكرنا من قبل، فقد وزعت الساحات المربعة أو ما يعرف بالبلاطات، التي تكونت منها التوسعة لتظهر متساوية فيما يقع شرق المبنى القديم أو غربه، بواقع خمس بلاطات عمودية على جدار القبلة، في كل جانب كما قسم سقف التوسعة إلى 95 مربعاً غطى منها 68 مربعاً بسقوف ثابتة،تبدو مقسمة مما يلي أرض التوسعة إلى 9 مربعات، محلاة بصرر لزخارف جصية بارزة بأسلوب الأرابسك. انظر الصورة رقم (7) .
أما الباقي من المربعات التي تكون منها سطح التوسعة وقدرها 27 مربعاً فتركت مفتوحة لإدخال ما يحتاجه المسجد من هواء وضوء في أوقات البرد واعتدال الجو، ونظراً لضرورة المحافظة على تكييف الهواء في الأوقات التي يشتد فيها الحر، ومنعاً من وصول الأمطار وقت نزولها إلى داخل التوسعة، صنعت لها قباب متحركة ترتفع عن مستوى أرض المسجد الشريف 16.65متراً، وعن سطح التوسعة 3.55 متراً. ومساحة كل قبة 18 × 18 متراً، ونصف قطرها من الداخل 7.375 متراً، ويمكن تحريكها ألياً. فلقاعدتها خاصية الانزلاق بواسطة أربعة دواليب بكل دولاب ما طور قوته 2.5 كيلو وات. كما يمكن تحريك القبة الواحدة باليد وقد يستغرق ذلك نصف ساعة، نظراً لوزنها البالغ 80 طناً.وتتكون من هيكل فولاذي وزنه 40 طناً، ووجه داخلي وآخر خارجي بينهما طبقة إضافية من المواد العازلة للماء والحرارة بسمك 20 سم (124) .
الصورة رقم (7)(11/285)
عن محموعة بن لادن السعودية
وقد جاءت فكرة القباب التي وزعت بانتظام في سقف التوسعة كما يظهر من الشكل (6) ، لتمزج بين أصالة البناء التقليدي للقباب، وبين الاستفادة من الوسائل الحديثة، وقد شارك الكثير من أهل الخبرة والاختصاص في مجال البناء في مختلف أنحاء العالم بالأفكار،وقدموا التصاميم المقترحة، وبعد دراستها والمفاضلة بينها، اختير النموذج الذي قدمته إحدى المؤسسات الألمانية المتخصصة
الشكل رقم (6)
ثم صنعت وفق أعلى المعايير، وركبت فوق مجاري معدنية يسهل تحريكها آلياً أو يدوياً عند الفتح أو الإغلاق رغم ثقل وزنها الذي يبلغ 80 طناً لكل قبة.
وزخرفت جميع القباب من الداخل بتقسيمات هندسية، قوامها الطبق النجمي المؤلف من 16 لوزة، 16 كندة، كما زخرفت اللوزات والكندات من الداخل بزخارف نباتية متماثلة من نوع الأرابسك، ومثل ذلك في جميع المثلثات الواقعة في الأركان الأربعة لكل قبة، هذا فضلاً عن الشريط الزخرفي الذي يحيط بالمربع الذي قامت عليه القبة من جهاته الأربعة. انظر الصورة رقم (8) .
الصورة رقم (8)
عن منصور عطار (الحرمان الشريفان قمة العمارة الإسلامية المعاصرة)
ثانياً: المآذن:
وزعت مآذن التوسعة على أركانها الأربعة، جرياً على العادة المتبعة من قبل في جميع مراحل بناء المسجد النبوي الشريف، ولكون مسقط التوسعة الكبرى قد جاء مستطيلاً كما رأينا من قبل، فقد أقيمت أربع من المآذن في أركانه، كما أقيمت اثنتان من مآذنه الست على طرفي البوابة الرئيسية للتوسعة، والتي تتوسط الجدار الشمالي والمعروفة ببوابة الملك فهد، لتكون في مقابل مآذن المبنى القديم.(11/286)
وبهذا فإن مجموع ما أنشئ في توسعة خادم الحرمين الشريفين ست مآذن، تزيد في ارتفاعها عن المئذنتين اللتين أقيمتا في مؤخرة التوسعة السعودية سنة 1375هـ ب 32 متراً،أي أن طول كل مئذنة مع هلالها 104متراً (125) ،وهو طول تطلبته ضخامة التوسعة. وسعة مسطحها.
وقد أضافت كما يقول أحد الباحثين بشموخها الزاهي، لمسة من التناسق المعماري، وفيضاً من الرونق الجمالي، الذي يأسر شعور الناظر إليها من بعد أو المتأمل لها من قرب (126) .
وكما هو الحال في بناء مئذنتي التوسعة الأولى، فإن الخرسانة المسلحة هي مادة البناء الرئيسية في هيكل المئذنة (128) وتتكون كل مئذنة من الداخل من أسطوانة خرسانية مفرغة قطرها 70 سم، وسماكة جدرانها 20 سم، تنتهي إلى نهاية الجزء الثالث من المنارة (المئذنة) ، وبداخلها سلم حلزوني الشكل، عرضه 8سم يؤدي إلى الشرفة الأولى والثانية والثالثة (129) ، لاستخدامه عند الحاجة.
أما أبعاد الشكل الخارجي لكل مئذنة فإنما تتألف من عدة أجزاء مختلفة في الشكل والأبعاد. وذلك على النحو التالي:
أ - الجزء الأول: مربع الشكل 5.5 × 5.5م، ويرتفع عن مستوى قواعد الدور الأرضي للتوسعة إلى ما فوق سطح التوسعة بطول 4 أمتار،هي ارتفاع الدور الأرضي + 27 متراً من مستوى أرض التوسعة. ينتهي هذا الجزء بشرفة مربعة الشكل محمولة على مقرنصات في صفوف متتالية، ولها حاجز من البناء المزخرف بمربعات تحتوي على مثمنات ظاهرة تتناسب مع الزخارف السفلي.
ب – الجزء الثاني: مثمن الشكل قطره حوالي 5.5م، ويرتفع إلى حوالي 21م ويحتوي على ثلاثة نماذج من الشبابيك المتتالية، والتي تظهر في منتصف كل ضلع من أضلاع المثمن وتنتهي بشرفة مثمنة.
ج - الجزء الثالث: أسطواني الشكل قطره 5م، ويرتفع إلى 18متراً تقريباً، ويتميز بخلوه من الفتحات، وبزخارفه الملونة بالأبيض والأسود في خطوط أفقيه متكسرة، وينتهي الجزء بشرفة دائرية محمولة على مقرنصات.(11/287)
د - الجزء الرابع: وهو أسطواني رغم اختلافه عن الجزء الثالث، وقطره حوالي 4.5م، ويرتفع إلى حوالي 15 متراً. تزينه ثمانية عقود مدببة ترتكز أرجلها على أعمدة رخامية بلون أبيض، ويعلوها شرفة دائرية أصغر من سابقتها، وتزينها المقرنصات أيضاً، وتلفها عصابة من الحواجز المحلاة بالمربعات التي تتوسطها دوائر صغيرة.
هـ- الجزء الخامس والأخير، ويصل ارتفاعه إلى حوالي 33متراً بما في ذلك الهلال، ويمكن تقسيم هذا الجزء إلى عدة عناصر. فأولها يبدأ ببناء أسطوانياً ينتهي بتاج مشرشر يكون شرفة صغيرة تحمل الجزء العلوي، والذي يبدأ بشكل مخروطي، في نهايته قبة بصلية هي في الواقع قاعدة الهلال البرونزي الذي يتوج جميع المآذن، المطلي بالذهب الخالص.ويبلغ ارتفاعه 6 أمتار ويزن أربعة أطنان ونصف (130) .
ثالثاً: الأبواب والنوافذ:
تميزت التوسعة الكبرى للمسجد النبوي الشريف بكثرة الأبواب والمداخل، التي تسهل حركة الدخول والخروج من جميع الجوانب، بالإضافة إلى ربط التوسعة الكبرى، بمبنى التوسعة السعودية الأولى، بعدد من المداخل التي تقابل الأبواب القديمة.
وبالنظر إلى المخطط الذي أعده مركز أبحاث الحج، وبين عليه أرقام المداخل من واقع ما كتب على أبواب المسجد النبوي الشريف، بعد توسعة خادم الحرمين الشريفين، يتبين ما يأتي:
1- تميز الجانب الشمالي من التوسعة الكبرى بكثرة الأبواب والمداخل، بعضها فتح في أصل الجدار والبعض الآخر بارز عنه، ويتوسطها باب الملك فهد بن عبد العزيز بخمسة مداخل. وقد جاء هذا الباب في مقابلة الأبواب الثلاثة التي فتحت في مؤخرة التوسعة السعودية الأولى، والمسماة بالباب المجيدي، وباب سيدنا عمر بن الخطاب، وباب سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما. مع وجود سلمين متحركين في طرفي الضلع الشمالي، لتسهيل الصعود إلى سطح المسجد، الذي أعد أيضاً لأداء الصلاة في أوقات الذروة.(11/288)
2- تتساوى الأبواب المفتوحة في الضلع الشرقي والغربي من التوسعة في العدد واستقامة المحور، مع وجود سلم متحرك في وسط كل ضلع يؤدي إلى سطح التوسعة.
3- أما الضلع الجنوبي فبه مدخلان رئيسيان، جاءا في مقابل المدخلان اللذان يقعان في الجانب الشمالي من التوسعة، على طرفي بوابة الملك فهد بن عبد العزيز. الشكل رقم (4) وإلى جانب ذلك مدخلان صغيران، بالقرب من باب النساء وباب الرحمة، ويحملان رقمي 38، 40، كما أن بطرفي التوسعة من هذا الجانب، سلمان متحركان يسهلان الصعود إلى سطح التوسعة.
وبهذا فإن مجموع المداخل التي فتحت في التوسعة الكبرى لخادم الحرمين الشريفين 35 باباً، بعضها بثلاثة مداخل، والبعض الآخر بمدخل واحد. الشكل رقم (5) . وجميعها بعقود محلاة بالأحجار الملونة، ما عدا الفتحتان اللتان تقعان على يمين ويسار المداخل الكبيرة، 3 في الشمال، 2 في الشرق، 2 في الغرب، 2 في الجنوب. فإن لها جميعاً زخارف جصية بيضاء، مماثلة للزخارف التي تعلو الأبواب الرئيسية، في التوسعة السعودية الأولى،كباب السلام وغيره. انظر الصورة رقم (9) .
الصورة رقم (9)
عن وزارة الإعلام (توسعة الحرمين الشريفين)(11/289)
ولهذه الأبواب جميعاً مصاريع كبيرة،من أجود أنواع الخشب المزين بتعشيقات مربعة، تحليها المستطيلات المتقابلة والمحلاة بأطر وصرر من النحاس المذهب. انظر الصورة رقم (10) . وقد جاء ما يفيد بأنها صنعت من خشب الساج في مدينة برشلونة بأسبانيا وفق رسومات أعدت مسبقاً لارتفاع المداخل وعرضها. بينما صنعت الأشكال الهندسية النحاسية في مدينة رواه الفرنسية وطليت بالذهب في مغاطس ذات جودة عالية، ثم شحنت إلى برشلونة حيث تم تركيبها على مصارع الأبواب، وكان وزن كل منها بعد اكتمال تصنيعه (2.5) طن (131) . وقد جاءت بعد تركيبها على المداخل آية في الجودة والدقة والجمال، قوام زخارفها أشكال هندسية ونباتية وكتابية،يظهر لفظ الجلالة وكلمة أكبر (الله أكبر) في داخل دائرة بأعلى كل مصراع، كما تظهر عبارة (محمد رسول الله) وسط الصرة النحاسية التي تتوسط المصراعين. وقد تداخلت حروفها مع زخارف نباتية متداخلة غير معقدة.
صورة رقم (10) عن حامد عباس (قصة التوسعة الكبرى)
أما النوافذ فتعددت بتعدد الإنكسارات الناتجة عن الخروج بالأبواب الرئيسية، عن استقامة جدار التوسعة من جميع الجهات؛ وأكثرها جاء في الجهة، الشمالية.فثمان منها على يمين الداخل من باب الملك فهد بن عبد العزيز، ومثلها عن يساره، وخمس على يمين الباب الذي يقع في الطرف الغربي من هذه الجهة ومثلها على يسار الباب الذي يقع في الطرف الشرقي من هذه الجهة.
أما الجهة الشرقية والغربية من التوسعة الكبرى، فنجد مجموعة من النوافذ بين البابين المفتوحين في كل جانب، وتظهر النوافذ المذكورة في الشكل رقم (5) مقابل السلم الكهربائي الذي يتوسط البابين المفتوحين في كل جهة.(11/290)
وأما الجهة الجنوبية فبها عدد من النوافذ على يمين الجزء البارز من المبنى القديم للمسجد النبوي الشريف، وجاء توزيعها بالتساوي عن يمين البابين البارزين عن استقامة جدار التوسعة من هذه الجهة. ثمان نوافذ عن يمينه وثمان على يساره مما يلي باب الرحمة، وكذلك في الجانب الآخر الواقع جهة باب السلام.
وجميع النوافذ متشابهة، فتحاتها طولية معقودة بعقود مدببة تدبيباً خفيفاً، ومحلاة بصنجات ملونة مستوحاة من التراث الإسلامي، على هيئة ما زينت به نوافذ التوسعة السعودية الأولى. الصورة رقم (11) والصورة رقم (3) .
ولجميع هذه النوافذ أبواب مستطيلة، صنعت من أجود أنواع الخشب قيل إنه خشب القرو وهي مسدودة من الخارج بمشربيات من البرونز (132) ،صنعت على هيئة الخشب المستخدم في نوافذ العمارة الإسلامية بطريقة الخرط، ويعلو أبوابها الخشبية شبابيك مستديرة،من الحجر الصناعي والزجاج الملون، نفذت بمهارة عالية، على خامات راقية، وبها زخارف هندسية ونباتية مستوحاة من التراث الإسلامي العريق.
الصورة رقم (11)
عن منصور عطار (الحرمان الشريفان قمة العمارة الإسلامية المعاصرة)
خامساً: الساحات والمرافق العامة:
كان من الأهداف التي رسمت لتوسعة الحرمين الشريفين في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، تطوير المنطقة المركزية المحيطة بالحرمين الشريفين، وإيجاد ساحات ودورات مياه، ومواقف سيارات، تتماشى مع التوسعة، وتلبي احتياجات زوارها ومرتاديها.
وقد تم تحقيقها جمعياً في التوسعة التي شهدها المسجد النبوي الشريف 1405هـ /1413هـ، وساعد على ذلك طبيعة الأرض التي نفذت عليها التوسعة الكبرى، وكذلك الأرض المحيطة بها لخلوها من الجبال والمناطق الصخرية، وقد جاءت كما أريد لها أن تكون. فعادت بالنفع على زوار المسجد الشريف وسهلت الوصول إليه من جميع الجهات.
وفيما يلي بيان بمواقعها وأعدادها وأهم فوائدها:(11/291)
أ - الساحات: كان المسجد النبوي الشريف، قبل العهد السعودي محاطاً بالبيوت والطرقات الضيقة، كما هو حال جميع المدن القديمة. ولم يكن بالإمكان تغيير هذا الواقع، عند إتمام الأعمال المعمارية التي تمت فيه عبر العصور الماضية، لأن الجهد الذي أولاه الخلفاء والسلاطين لهذا المسجد – من بعد انتقال العاصمة من المدينة المنورة – كان منصباً على تجديد عمارته أو ترميم ما تلف منها، دون الاهتمام بإحاطته بميادين واسعة، كما هو الحال في بعض الجوامع التي ميزت العهد العثماني.
وقد رأينا فيما سبق أن الميادين التي هيأت بعد التوسعة السعودية الأولى، لخدمة المسجد النبوي الشريف، كانت متمشية مع تلك التوسعة، ولم توضع إلا في موضعين، هما ساحة باب السلام وساحة باب المجيدي، ثم أضيفت إليه ساحات أخرى في عهد الملك فيصل رحمه الله تعالى. إلا أنها رغم سعتها لم تبرز التوسعة إلا من جانب واحد،هذا فضلاً عن أنها ركزت التواجد السكاني والتجاري في الجانب الشرقي ومعظم الجنوبي، حتى أن المرء ليشعر بالاختناق عند خروجه من المسجد الشريف أو دخوله إليه وقت الذروة قبل التوسعة الكبرى.
وإدراكاً من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله،لما لهذه الساحات من نفع عام للناس وخاص بالتوسعة،حرص من البداية على إيجاد ساحات محيطة بالحرم النبوي الشريف، بعد التوسعة من جوانبه الأربعة.
وقد تم ذلك بالفعل، بحيث أحيطت بساحة شبه مستطيلة، قدرت أبعادها التي لم أجد ما يفيد في ذلك بحوالي 570 × 550 متراً طولياً. الشكل رقم (4) .
وقد جاء ما يفيد بأن مساحتها 235000 متراً مربعاً (133) ، وقدرت عرضها مما يلي الجنوب 207م، ومن الشمال 154م، ومن الغرب 144م، أما من الشرق فبلغ عرضها 27 متراً لاقتراب مقبرة البقيع من التوسعة، وفرشت أرضها بأجود أنواع الرخام، مع غلبة اللون الأبيض عليه، كل ذلك في تقسيمات هندسية بديعة.(11/292)
كما أنها أضيئت بالمصابيح المحمولة على أعمدة مثمنة،تحاكي ما نصب في صحني التوسعة الأولى، وإن اختلفت تيجانها في نوع الزخرفة وطريقة توزيع المصابيح على جهاتها الأربع. (الصورة رقم 12) . وزودت بثلاثين مدخلاً بسلالم كهربائية، وأخرى ثابتة تؤدي جميعاً إلى مباني الخدمات ودورات المياه.
الصورة رقم (12)
عن حامد عباس (قصة التوسعة الكبرى)
ب – دورات المياه ومواقف السيارات:
زود المسجد النبوي الشريف في هذه التوسعة، بعدد كبير جداً من دورات المياه وأماكن الوضوء، روعي في تصميمها وطريقة توزيعها وضوح أماكنها وسهولة الوصول إليها، فوزعت على 30 موقعاً تحت أرض الساحة المحيطة بالتوسعة. الشكل رقم (5) وعددها 6214نقطة وضوء، 758 نقطة شرب (134) 2432 دورة مياه. ويتوصل إليها جميعاً عبر 116 سلماً كهربائياً تؤدي إلى أدوارها الأربعة،وتفضي إلى أرض الساحة من خلال 30 سلماً ثابتاً ومتحركاً (135) .
أما مواقف السيارات فقد بنيت من دورين حسب رغبة خادم الحرمين الشريفين، الذي أمر كما يقول المهندس بكر بن لادن بمضاعفة قدرتها الاستيعابية، بعد أن اطلع في البداية على التصاميم الأولية القائمة، على جعلها من دور واحد (136) مما تطلب إعادة التصاميم وفق ما هي عليه الآن.
وتشغل مساحة كبيرة جداً (390000) م2 تكفي لاستيعاب 4200 سيارة، تصل في الذروة إلى 4500 سيارة.وقسم كل دور إلى 11 وحدة، تفصل بينها مباني دورات المياه المؤلفة من أربعة طوابق، وسلالمها الثابتة والمتحركة، مما سهل على أصحاب السيارات وركابها استخدامها جميعاً.(11/293)
ويبلغ ارتفاع الدور السفلي منها 4.9م، والعلوي 4 أمتار فقط، وقد روعي في تصميمها توفير وسائل الأمن والسلامة، بالإضافة إلى توفير عدة مبان خاصة بخدمات المسجد النبوي الشريف (136) ، ويسهل الدخول إليها والخروج منها إلى جميع جهات المدينة المنورة، عبر 6 مداخل ومخارج موزعة بانتظام على ثلاثة أركان من كل طابق ثلاثة في السفلي، وثلاثة في العلوي. انظر الشكل رقم (5) .
الشكل رقم (5)
مسقط مواقف السيارات أسفل ساحات المسجد النبوي الشريف
عن معهد خادم الحرمين الشريفي لأبحاث الحج
ج – منطقة الخدمات (ذي الحليفة، آبار علي) :
أقيم في ذي الحليفة خارج منطقة الحرم المدني، على بعد 7 كم من المسجد النبوي الشريف، عدة مبان وأجهزة خدمات متكاملة وتضم:-
1- محطة توليد الطاقة بها خمس مولدات ضخمة طاقة كل منها 2.5 ميجاوات، تستخدم في إنارة المسجد وتوسعته بما فيها الساحات والمرافق وتوفير الطاقة اللازمة لما فيه من آلات، بالإضافة إلى توفير ما تحتاجه محطة تكثيف الماء التي أقيمت في منطقة الخدمات من طاقة، وكذلك المضخات (137) التي تدفع الماء البارد عبر أنبوبين يسيران في إحدى جوانب النفق، الذي أنشئ لهذا الغرض لتزويد المسجد بالطاقة؛ بالإضافة إلى مكافحة وسائل الحريق، وتصريف مياه الأمطار والمجاري الصحية الخاصة بالتوسعة.
صورة رقم (13)
ويعتبر هذا النفق من معالم التوسعة الكبرى، فقد امتد من منطقة الخدمات في ذي الحليفة إلى بدروم التوسعة، بطول 7 كم وبارتفاع 1/4م وعرض 6.2م وبنيت جدرانه بالخرسانة المسلحة، وفق مواصفات عالية الجودة روعي فيها عدم تأثيره على خدمات المدينة المنورة في المستقبل القريب أو البعيد. وزود ب 31 غرفة تهوية مزودة بالمراوح اللازمة لتجديد الهواء بداخله، لسلامة العاملين في صيانته، وللمحافظة على ما فيه من آلات وكوابل ومفاتيح طاقة وخلاف ذلك.(11/294)
وهو أمر ما كان ليتم لولا هذا العطاء السخي، الذي أعان الله به ولي الأمر ووفقه إليه، فله منا ومن عموم المسلمين الدعاء والتوفيق في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ...
الحواشي والتعليقات
(1، 2) علي حافظ، " فصول من تاريخ المدينة المنورة " طبع ونشر شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر، جدة، ص 86.
(3) محمد سعيد فارسي، " التكوين المعماري والحضري لمدن الحج " طبع ونشر شركة عكاظ، الطبعة الأولى، 1404هـ / 1984م، ص 42.
(4) حامد عباس، " قصة التوسعة الكبرى " نشر مجموعة بن لادن السعودية، الطبعة الأولى، 1416هـ / 1995م، ص 317.
(5) أسعد درابزوني، " خلاصة عن مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف سنة 1372هـ " نشرها مع كتاب عمدة الأخبار في مدينة المختار، لعبد الحميد العباسي، الطبعة الثالثة، نشر أسعد درابزوني، ص 6.
(6، 7، 8) محمد هزاع الشهري، " المسجد النبوي الشريف في العصر العثماني " رسالة دكتوراه لم تطبع، 1407هـ / 1987م، ص 8 وما بعدها.
(9، 10) عبد القدوس الأنصاري " آثار المدينة المنورة " دار العلم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1393هـ/ 1973م، ص 107.
(11، 12) نقل ذلك صالح لمعي في كتابه المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري، دار النهضة المصرية، بيروت، 1981م، ص 286، ص 101؛ وانظر محمد حسين هيكل " في منزل الوحي "، الطبعة الرابعة، مكتبة النهضة المصرية، 1967م، ص 497.
(13) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 108.
(14) كان لهذا التقرير ما يبرره من جهة النظر الأثرية التي تحرص على معالجة الضرر قبل توسعة لاسيما وأن تخصص المهندس المذكور كان في هذا المجال كما يقول أسعد درابزوني في ص 6 من الملخص الذي ذكره في المصدر السابق. ويؤيد ذلك أن الوفد الذي جاء بعده بقيادة المهندس مصطفى بك فهمي أكد صحة بعض هذه المخاطر(11/295)
(15) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 6.
(16) عبد الله باسلامة، " تاريخ الكعبة المعظمة "، الطبعة الثانية، 1402هـ / 1982م، ص 291.
(17) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 6.
(18) حافظ وهبة، " جزيرة العرب في القرن العشرين، الطبعة الخامسة، 1387هـ، ص 284.
(19) حامد عباس، المصدر السابق، ص 231، أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 5.
(20) لعلها التي سبق أن أشار إليها تقرير المهندس محمد نافع بعد سنة 1357هـ والتي سبق للحكومة السعودية أن طوقتها بأحزمة من الحديد سنة 1350هـ، وانظر ص 4.
(21، 22) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 6، 7.
(23) علي حافظ، المصدر السابق، ص 80، 81.
(24) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 108.
(25) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 7.
(26) علي حافظ، المصدر السابق، ص 83.
(27) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 8.
(28) أسعد درابزوني، المصدر نفسه، ص 8؛ وانظر علي حافظ، المصدر السابق، ص 84.
(29) علي حافظ، المصدر السابق، ص 79، 84.
(30) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 9، وانظر عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 109.
(31، 32) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 109.
(33) علي حافظ، المصدر السابق، ص 78.
(34) محمد حسين هيكل، المصدر السابق، ص 501 وما بعدها.
(35) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، 108.
(36) جاء ذلك في عرض موجز عن التوسعة نشر في نهاية الجزء الرابع من وفاء الوفاء للسمهودي، الطبعة الثانية، 1393هـ، ص 1425.
(37) أسعد درابزوني، المصدر السابق، ص 7.
(38) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 8، وانظر حامد عباس، المصدر السابق، ص 254.
(39) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 8.
(40) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.(11/296)
(41) ذكر حافظ وهبة في جزيرة العرب في القرن العشرين، ص 313 " أن جلالة الملك سعود قد أصبح منذ 15/12/1372هـ ملكاً غير متوج بيده الحل والربط في أمور الدولة كلها نظراً لاشتداد المرض بوالده -رحمهما الله تعالى.
(42) محمد السيد الوكيل، " عمارة المسجد النبوي عبر التاريخ "، دار المجتمع للنشر، الطبعة الأولى، 1419هـ، ص 187، وقد أورد التاريخ التالي " شهر ربيع الأول " عام 1373هـ.
(43، 44) انظر وفاء الوفاء، ج 4، ص 1425.
(45) حامد عباس، المصدر السابق، ص 258.
(46) محمد كامل حته: في ظلال الحرمين، دار المعارف، ص 250.
(47) منصور عطاء، " الحرمان الشريفان في العمارة الإسلامية المعاصرة "، ص 116.
(48) علي حافظ، المصدر السابق، ص 86.
(49) د. سعاد ماهر، " العمارة الإسلامية عبر العصور، ج 4، ص 14؛ وانظر صالح لمعي المصدر السابق، ص 101.
(50) . صالح لمعي، المصدر السابق، ص 101.
(51) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.
(52) لابد أن يكون الجدار قد حفر بعمق الأرض التي وضعت فيها قواعد الأعمدة، وذلك على نحو ما جاء في حفر أساسات توسعة خادم الحرمين، انظر ص 28، ص 29.
(53) أورد علي حافظ في المصدر السابق، ص 86 بياناً بعدد الأعمدة نقلاً عن مكتب التوسعة التابع ل بن لادن.
(54) سعاد ماهر، المصدر السابق، ص 148.
(55) علي حافظ، المصدر السابق، ص 86.
(56) صالح لمعي، المصدر السابق، ص 101.
(57) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.
(58) سعاد ماهر، المصدر السابق، ص 148.
(59) محمد هزاع الشهري " عمارة المسجد النبوي في العصر المملوكي " رسالة ماجستير لم تطبع، 1402هـ/ 1982م، ص 388.
(60) محمد هزاع الشهري " المسجد النبوي في العصر العثماني " ص 199.
(61) منصور عطار، المصدر السابق، ص 115.
(62) محمد هزاع الشهري " المئذنة وتطورها في الإسلام " توسعة وعمارة الحرمين رؤية حضارية ج 2 ص 47.(11/297)
(63) حامد عباس، المصدر السابق، ص 254.
(64) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.
(65) صالح لمعي، المصدر السابق، ص 104.
(66) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.
(67) سعاد ماهر، المصدر السابق، ج 4، ص 147.
(68) محمد هزاع الشهري، " المسجد النبوي في العصر العثماني " ص 157.
(69، 70) حامد عباس، المصدر السابق، ص 257.
(71) سورة النور، آية رقم 35.
(72) علي حافظ، المصدر السابق، ص 87.
(73) حامد عباس، المصدر السابق، ص 257.
(74) محمد حسنين هيكل، المصدر السابق، ص 497، 501.
(75) محمد كامل حته، المصدر السابق، ص 288.
(76) علي حافظ، المصدر السابق، ص 288.
(77) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 112.
(78) محمد كامل حته، المصدر السابق، ص 293.
(79) وزارة الإعلام " الحج إلى بيت الله الحرام "؛ حامد عباس، المصدر السابق، ص 280 – 281.
(80) توسعة وعمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية، ج 2، ص 22.
(81) وزارة الإعلام " توسعة الحرمين الشريفين "، ص 56.
(82، 83) عبد القدوس الأنصاري، المصدر السابق، ص 112.
(84، 85) وزارة الإعلام " توسعة الحرمين الشريفين "، ص 56.
(86، 87) محمد صالح البليهشي " المدينة المنورة "، الطبعة الثانية، الرياض، 1408هـ، ص 44
(88) وزارة الإعلام " توسعة الحرمين الشريفين "، ص 56.
(89) محمد السيد الوكيل، المصدر السابق، ص 201.
(90) انظر ص 18.
(91، 92) محمد سعيد فارسي، المصدر السابق، ص 40، 38.
(93) كانت مساحة المسجد الحرام 160168م2 بينما مساحة المسجد النبوي 16327م2.
(94، 95) حامد عباس، المصدر السابق، ص 295، 300.
(96) كان هذا بعد قرار توسعة الحرم النبوي عقب الزيارة التي قام بها خادم الحرمين إلى المدينة، في المحرم من سنة 1403هـ؛ وانظر: حامد عباس المصدر السابق، ص 294، سنة 1403هـ(11/298)
(97) يذكر الناشر لقصة التوسعة الكبرى، ص 294 إن هذه الجوانب مالية وإدارية وفنية.
(98) انظر قصة التوسعة الكبرى، ص 294، فقد نقل جزء من كلمة خادم الحرمين الشريفين التي ألقيت في مجلس الوزراء في 3/6/1412هـ.
(99) حامد عباس " قصة التوسعة الكبرى " ص 295.
(100، 101) حامد عباس، المصدر نفسه، ص 337، 338.
(102) منصور عطاء، المصدر السابق، ص 116.
(103) حامد عباس، المصدر السابق، تصدير الناشر.
(104،105) منصور عطاء، المصدر السابق، ص 115، 116.
(106) محمد صالح البليهشي، المصدر السابق، ص 46.
(107) صالح لمعي، المصدر السابق، ص 9.
(108) منصور عطاء، المصدر السابق، ص 103.
(109) انظر ص 19.
(110،111) حامد عباس، المصدر السابق، ص 146.
(112) انظر الشكل رقم (4) .
(113) انظر الشكل رقم (5) .
(114) مجلة المدينة المنورة العدد 106 سنة 1410هـ ربيع الثاني وجمادى الأول، جريدة الشرق الأوسط العدد 4941، تقرير مقدم من رئاسة الحرمين الشريفين، وانظر محمد صالح البلهشي، المدينة المنورة، ص 46، وقصة التوسعة الكبرى، ص 347.
(115) حامد عباس، المصدر السابق، ص 346؛ منصور عطاء، المصدر السابق، ص 103
(116) مجلة المدينة المنورة، العدد 106؛ جريدة الشرق الأوسط العدد 4941.
(117) حامد عباس، المصدر السابق، ص 346.
(118) منصور عطار، المصدر السابق، ص 104.
(119) لمزيد من المعلومات التفصيلية انظر: حامد عباس " قصة التوسعة الكبرى "، ص 347
(120) حامد عباس، المصدر السابق، ص 348؛ منصور عطار، المصدر السابق، ص 103
(121، 122) حامد عباس، المصدر نفسه، ص 347، 348.
(123) منصور عطار، المصدر السابق، ص 103؛حامد عباس، المصدر السابق، ص 347
(124) توسعة وعمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية، 1/51 وما بعدها.
(125) منصور عطار، المصدر السابق، ص 91، 92.(11/299)
(126) عبد الله سلطان الأفغاني " مآذن الحرم النبوي " توسعة وعمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية 2/55.
(127) انظر ص: 23.
(128) عبد الله الأفغاني، المصدر السابق، ج2، ص 56.
(129) منصور عطار، المصدر السابق، ص 104.
(130) عبد الله الأفغاني، المصدر السابق، ص 56؛ ومنصور عطار، المصدر السابق، ص 104
(131) حامد عباس، المصدر السابق، ص 386.
(132) انظر ملخص عن التوسعة الكبرى نشر في نهاية كتاب تاريخ معالم المدينة قديماً وحديثاً.
(133) حامد عباس، المصدر السابق، ص 276، 349.
(134) ذكر حامد عباس في ص 351 من قصة التوسعة أن عددها 7858 نقطة شرب وهو خطأ لا شك مطبعي والصحة ما ذكره العطار في المصدر السابق ص 99 من أنها 758 نقطة شرب.
(135) حامد عباس، المصدر السابق، ص 350؛ والعطار المصدر السابق، 98.
(136) انظر كلمة الناشر في قصة التوسعة الكبرى لحامد عباس.
(137) جاء تفصيلها في كتاب قصة التوسعة الكبرى لحامد عباس، ص 351 على النحو التالي:
4 مباني للأمن.
1 للعيادات الطبية.
1 مركز صحي.
5 غرف تحكم.
1 غرفة تحكم رئيسية.
6 لمكافحة الحريق.
2 ورش سيارات.
1 غرفة مفاتيح.
4 مراكز تفتيش.
2 مخازن
المجموع (27)(11/300)
(أَرَأَيْتَ) وفروعه
دراسة لغوية
د. عبد الله بن حمد الدايل
الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية بكلية المعلمين في الرياض
ملخص البحث
يعرض هذا البحث لتفسير مركَّب لغوي هو (أَرَأَيْتَ) وفروعه التي تشمل نوعين:
أولهما: (أَرَأَيْتِ - أَرَأَيْتُمَا - أَرَأَيتُمْ - َأَرَأَيْتُنَّ) .
والآخر: (أَرَأَيْتَكَ - أَرَأَيْتَكِ - أَرَأَيْتَكُما - أَرَأَيْتَكُمْ - أَََرَأَيْتَكُنَّ) .
ويحاول البحث إجراء دراسة صوتية تعرض لصُوَر نطق هذه المركبات، وتستقصي القراءات القرآنيّة الواردة فيها ثمَّ ينتقل البحث إلى إجراء دراسة صرفية تُعْني بتصنيف جزأي الخطاب الواردين في المركّب، ودراسة نحوية تعنى ببيان إعمال الفعل، وبيان المفاعيل.
وفي القسم الرابع من البحث تتناول الدِّراسة دلالة (أَرَأَيْتَ) وفروعه.
وفي الخاتمة يورد البحث أهمّ النتائج وهي:
1 - أنَّ (أَرَأَيْتَ) من القوالب الثابتة وهذا اللفظ وفروعه كثير الدوران في القرآن الكريم والأساليب العربية الأخرى.
2 - أنَّ معناه هو: أخبرني أو أعلمني، ويفتقر إلى مفعولين.
3 - إذا زيد على هذه الصيغة الكاف فإنّ التاء تلتزم الفتح وتصبح الدَّلالة على الجنس والعدد من وظائف الكاف وفي هذه الحالة يرى البصريون، ومن تبعهم أن التاء هي الضمير وهو في موقع الفاعل، وأنّ الكاف حرف خطاب، وللكوفيين أو لبعضهم خلاف في ذلك.
4 - معنى "أَرَأَيْتَ " مأخوذ من معنى (رأى) البصرية والقلبية في الوقت نفسه، ومعنى الهمزة هنا التعجّب.
5 - دخول الهمزة الدّالة على الاستفهام التعجبي يجعل (أَرَأَيْتَ) جملة إنشائية بمعنى أخبرني أو أعلمني
6 - أنَّ في همزته الثانية أربع لغات هي: التحقيق، والتسهيل، وإبدالها ألفاً، وحذفها.
7 - أنه لم يرد " أَرَأَيْتَ " وفروعه بتحقيق الهمز - في الشواهد الشعرية بل ورد " أَرَيْتَ "، و "أرَيْتَكَ" بلا همز.
***
المقدِّمة(11/301)
الحمدلله وحده، والصلاة، والسلام على من لا نبيَّ بعده:
سأعالج هنا " أَرَأَيْتَ"، وفروعه وهو عبارة عن "رأى" التُزِم فيه صيغة المضي، وسُبق بهمزة الاستفهام، ولحق به تاء موحَّدة مفتوحة، يتصل بها في الغالب كاف تختلف باختلاف المخاطب إفراداً، وتثنية، وجمعاً، وتأنيثاً. وتظلَّ تاؤه مفتوحة مع الكاف "أَرَأَيْتَكَ"، ومضمومة مع الميم " أَرَأَيْتُم"، ومع نون النسوة " أَرَأَيْتُنَّ".
و"أَرَأَيْتَ" وما زيد عليه من لواصق (أي ما يتصل به من أوله) ، ولواحق (أي ما يلحق به من آخره) كثير الدوران في القرآن الكريم، وفي الأساليب العربية الأخرى فهو يرد على صور "أَرَأَيْتَ"، "أَفَرَأَيْتَ"، "أَرَأَيْتَكَ " "أَرَأَيْتَكُمَا"، "أَرَأَيْتَكُمْ"، "أَرَأَيْتَكُنَّ"، "أَرَأَيْتُم" (1) ، وهذا التعبير يفتقر إلى دراسة لغوية من أجل معرفة جوانبه الصوتية , والصرفية، والنحوية، والدّلالية ولذلك جاءت المباحث وفق هذه الأقسام الأربعة.
وتتمثَّل مشكلة البحث في الجمع بين جزأين لغويين دالَّين على شخص واحد، وهذان الجزءان هما تاء المخاطب، والكاف التي ترمز إلى المخاطب المفرد المذكَّر في "أَرَأَيْتَكَ"، والمؤنث في "أَرَأَيْتَكِ"، والمثنى بنوعيه في "أَرَأَيْتَكُما"، وجمع الذكور في "أَرَأَيْتَكُم"، وجمع الإناث في "أَرَأَيْتَكُنَّ".
فكيف يتم تحليل هذه العبارة؟ والذي نقصده التحليل النحوي الذي يشمل الصرف، أي باستعمال النحو بمعناه العام.
__________
(1) ورد "أَرأََيْتَ" وفروعه في القرآن العظيم في أربعة وثلاين موضعاً؛ انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، بيروت، دار المعرفة، ط3، 1992م، (رأي) ، ص ص 357، 358، ومحمد عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم، مصر، مطبعة السعادة، ط1، 1972م/ 1/540-544.(11/302)
والتحليل هو الإعراب في الدَّرس النحوي القديم. ولا بدَّ في الإعراب من تصنيف العناصر النحوية أي من وضع تسميةٍ لكلّ عنصر: أهو اسم، أم فعل، أم حرف؟
إنّ موقف النحويين المحلِّلين؛ لهذه العبارة يكشف لنا عن إدراكهم لضرورة التصنيف النحوي لأن الإعراب كما هو معروف يعدُّ تحليلاً نحويَّا للنصوص اللغوية.
ومن ثمَّ فإنَّ الدراسة التي تكشف لنا عن طبيعة هذا المركَّب اللغوي يجب أن تتناوله من حيث الأقسام الأربعة: الصوتيّة، والصرفيّة، والنحويّة والدَّلاليّة. ذلك أن الاقتصار في هذا المركب على مستوى دراسي واحد يُبقى في النفس حاجة إلى بيان طبيعة هذا المركب.
إن كثيراً من المصادر اللغوية النحوية، أو التفسيرية القديمة تقتصر على ذكر معنى هذا المركَّب دون توضيحٍ لما يكتنفه من غموضٍ يحتاج إلى إزالة، ويتصل ببيان تأصيليّ تحليليّ للمركَّب، فالاقتصار على قولهم: إنَّ العبارة تعني (أخبرني) أو (انتبه) أو (أعلمني) أراه غير كافٍ ولهذا السبب سأتناول هذا التركيب تناولاً لغوياً يشمل المستويات اللغوية المعروفة هادفاً إلى تجلية جوانب هذا المركَّب من خلال الدِّراسة التي تتناوله على المستويات المذكورة وتقوم بالتالي بالدِّراسة التحليليَّة، والتأصيليَّة للعبارة حتى لا يبقى هناك جانب، أو مدخل للغموض يكتنف هذا المركَّب بسبب عدم دراسته دراسة شاملةً تُعنى بالتوضيح، والبيان لكافة الجوانب.
إنَّ أهم ما يواجهنا هو مسألة تصنيف جزأي الخطاب من حيث عدُّهما ضميرين، أو عدّ أحدهما ضميراً، والآخر حرفاً دالاَّ على الخطاب، وله في الوقت نفسه دلالة على الجنس، والعدد لا يمكن إنكارها.
المبحث الأول: المستوى الصوتي
تحقيق الهمز وحذفه:(11/303)
نبَّه الفرَّاء ت (207 هـ) على أنَّ "أَرَأَيْتَ " البصريَّة مهموزة في حين أنَّ "أَرَأَيْتَ " التي بمعنى (أخبرني) في همزتها الثانية لغتان: الهمز، وتركه بيد أنَّ ترك الهمز هو أكثر كلام العرب، إذ يقول في أثناء تفسيره لقوله تعالى:
(( [الأنعام:40]
"العرب لها في "أَرَأَيْتَ" لغتان، ومعنيان: أحدهما أن يسأل الرجلُ الرجلَ أَرَأَيْتَ زيداً بعينك؟ فهذه مهموزة ... والمعنى الآخر أن تقول:" أَرَأَيْتَكَ" وأنت تريد "أخبرني"، وتهمزها ... وتترك الهمز إن شئت وهو أكثر كلام العرب" (1) .
ويعزو أبو العبَّاس ثعلبَّ ت (291 هـ) إلى الكسائي أنَّهم "إنَّما تركوا الهمز (في أَرَأَيْتَكَ بمعنى أخبرني) ليفرِّقوا بينه، وبين رأي العين" (2) . وهذا القول فيه نظر؛ لأن سياق الكلام، وما يشتمل عليه من قرائن حالية، أو معنوية، أو لفظيّة سيفرِّق بين معاني "أَرَأَيْتَك"، خاصة أنَّ (أَرَأَيْتَكَ) التي بمعنى (أخبرني) الغالب فيها تحقيق الهمزة.
والحقيقة أنَّ "أَرَأَيْتَكَ" بجميع معانيه، وفروعه يجوز فيه الهمز، وتركه أي أنَّه يجوز أن يقال: "أَرَأَيْتَكَ" بالهمز، و "أَرَيْتَكَ" بلا همز، وذلك مسموع من العرب.
__________
(1) أبو زكريَّا يحيى بن زياد الفرَّاء، معاني القرآن، بيروت، عالم الكتب، ط3، 1983م، 1/333.
(2) أبو العباس ثعلب، مجالس ثعلب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصر، دار المعارف، 1949م، 1/260.(11/304)
فالمسألة لا تخص (أَرَأَيْتَك) بمعنى أخبرني فحسب. قال أبو العبَّاس ثعلب ت (291هـ) في أثناء حديثه عن "أَرَأَيْتَك": " ... وربما همزوه" (1) ويلحظ أنَّه هنا أطلق، ولم يخصِّص "أَرَأَيْتَك" التي بمعنى أخبرني هنا في حين أنه ورد في تهذيب اللغة قولٌ ينسب إلى أبي العبّاس ثعلب نصَّ فيه على ترك الهمز، وجوازه في "أَرَأَيْتَكَ" التي بمعنى "أخبرني"؛ إذ جاء ما نصُّه:" ... قال (أي ثعلب) : (أَرَأَيْتَكَ زيداً قائماً) ؟ إذا استخبر عن زيد تَرَكَ الهمز، ويجوز الهمز. وإذا استخبر عن حال المخاطب كان الهمز الاختيار، وجاز تركه كقولك: أَرَأَيْتَكَ نَفْسَكَ؟ أي ما حالك، ما أمرك؟ ويجوز أَرَيْتَكَ نَفْسَكَ" (2) .
ونسب ابن جرير الطبري ت (310 هـ) إلى بعض نحويِّي الكوفة أنَّ أكثر الكلام في "أَرَأَيْتَك" هو ترك الهمز يقول:"وقال بعض نحويِّي الكوفة: أَرَأَيْتَكَ عمراً أكثر الكلام فيه ترك الهمز" (3) دون أن يخصِّص "أَرَأَيْتَكَ" التي بمعنى أخبرني. ومعنى هذا أنَّ لغتي تحقيق الهمز، وتركه تشمل باب "رأى" جميعه. ... ونسب ابن مجاهد ت (324 هـ) إلى الكسائي قراءة (أَرَأَيْتَ وفروعه) بحذف الهمزة في كلِّ القرآن (4) .
__________
(1) السابق.
(2) أبو منصور الأزهري، تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط1، 1976م، (رأى) 15/321.
(3) ابن جرير الطبري، تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل أي القرآن) ، بيروت، دار الفكر، 1988م، م5/ ج7/ ص190.
(4) ابن مجاهد، السبعة في القراءات، تحقيق شوقي ضيف، مصر، دار المعارف، ط2، 1980م، ص257.(11/305)
وممنِّ نسب هذه القراءة إلى الكسائي أيضاً: ابن مهران الأصبهاني ت (381 هـ) (1) ، وأبو زرعة ت (390 هـ) (2) ، ومكي بن أبي طالب ت (437هـ) (3) والفخر الرازي ت (604 هـ) (4) ، وأبو البقاء العكبري ت (616 هـ) (5) ، والدمياطي ت (1117هـ) (6) .
وبيَّن أبو زرعة (390هـ) أنَّ حجة الكسائي في ذلك هي "إجماع العرب على ترك الهمزة في المستقبل في قولهم: "ترى ونرى" فَبنى الماضي على المستقبل مع زيادة الهمزة في أوّلها ... لأنَّ من شرطه إذا تقدمها همزة الاستفهام، فحينئذ يستثقل الجمع بينهما، وأخرى وهي أنَّها كتبت في المصاحف بغير ألف" (7) .
وعزا أبو جعفر النحاس ت (338 هـ) هذه القراءة إلى عيسى بن عمر والكسائي، إذ يقول: "وقرأ عيسى بن عمر، والكسائي "قُلْ أَرَيْتَكُمْ" بحذف الهمزة الثانية" (8) .
__________
(1) ابن مهران الأصبهاني، المبسوط في القراءات العشر، تحقيق سُبيع حمزة حاكمي، جدة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، بيروت، مؤسسة علوم القرآن، ط1، 1988م، ص168.
(2) أبو زرعة عبد الرحمن بن زنجلة، حجّة القراءات، تحقيق سعيد الأفغاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1984م، ص 250.
(3) مكي بن أبي طالب القيسي، الكشف عن وجوه القراءات السبع وحججها، تحقيق محيي الدين رمضان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1978م، 1/431.
(4) الفخر الرازي، نفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر، 1990م، 12/234.
(5) أبو البقاء العكبري، التبيان في إعراب القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، مصر، عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1976م، 1/494.
(6) أحمد بن عبد الغني الدمياطي، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، بيروت، دار الندوة الجديدة، (بلا تاريخ) ، ص 56
(7) أبو زرعة، حجة القراءات، ص 250.
(8) أبو جعفر النحاس، إعراب القرآن، تحقيق زهير غازي زاهد، مصر، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، ط2، 1985م، 2/66.(11/306)
وعقَّب على ذلك بقوله: "وهذا بعيدٌ في العربية، وإنَّما يجوز في الشعر" (1) .
ويبدو أنَّ حذف الهمزة من " أَرَأَيْتَكَ " ليس مطرداً في القياس؛ إذ التخفيف القياسي جعلها بَيْنَ بَيْنَ دون حذفها، أو قلبها.
ومِمَّن نسب أيضاً قراءة حذف الهمزة في " أرَيْتَكُمْ" إلى عيسى بن عمر، والكسائي - أبوعبد الله القرطبي ت (671 هـ) (2) .
والفخر الرازي ت (604 هـ) الذي استحسن هذه القراءة فقال: "والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن.... وأمَّا مذهب الكسائي فحسن، وبه قرأ عيسى بن عمر، وهو كثير في الشعر، وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا:
وسَلْهُ، وكما أنشد أحمد بن يحيى، وَإِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَأَلْبِسُونِي بُرْقٌعا (3) بحذف الهمزة أراد: فَأَلْبِسُونِي بإثبات الهمزة" (4) .
__________
(1) السابق.
(2) أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1988م، 3/6/272.
(3) لم أهتد إلى قائله.
... انظر في الشاهد: ابن جني، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، بيروت، دار الكتاب العربي، (د. ت) ، 3/151، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 5/10، والسمين الحلبي، الدرُّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق أحمد محمد الخراط، دمشق، دار العلم، ط1، 1987م، 4/617، أبو حيَّان الأندلسي، البحر المحيط، بيروت، دار الفكر، ط2، 1983م، 3/206.
(4) الفخر الرازي، تفسير الفخر الرازي، 12/ 234.(11/307)
ونسب الفارسي ت (377هـ) هذه القراءة إلى عيسى بن عمر فقط مبينّاً أنَّ حذف الهمزة في هذه القراءة ليس حذفاً قياسياً بل هو حذف غير قياسي للتخفيف، يقول: "فأمَّا قراءة عيسى (1) : "أَرَيْتُمْ" بحذف الهمزة فليس بتخفيف قياسي، ولكنَّه يحذف الهمزة حذفاً كما تحذف الحرف حذفاً للتخفيف، وإن لم يوجب القياس المطَّرد؛ ألا ترى أن الهمزة إنَّما تحذف على جهة القياس إذا كان ما قبلها ساكناً، فتلقى حركتها على الساكن (2) كما حكى سيبويه ت (180 هـ) عن عيسى أن أهل التخفيف يقرؤون (3) (( ( [النمل:25]
وإذا كان الحذف القياسي في الهمزة إنَّما هو من الوجه الذي ذكرنا، ولم يكن ما قبل الهمزة من قوله "أَرَيْتُم" ساكناً ثبت أنَّ حذفها ليس على القياس" (4) .
ومثل حذف الهمزة هنا ما ذكره الخليل بن أحمد ت (175 هـ) من أنَّ "لن" أصلها "لا أَنْ" فحذفت الهمزة استخفافاً، ثم حذفت الألف من "لا" للتخلص من التقاء الساكنين. (5)
وأشار العكبري ت (616 هـ) إلى القراءة بحذف الهمزة، وأوضح أنَّ "طريق ذلك أن تُقْلَبَ ياء، وتسكَّن، ثم تحذف لالتقاء الساكنين". (6)
وبيَّن السمين الحلبي ت (756 هـ) ثلاث طرق لحذف الهمزة من" أَرَأَيْتَ ":
__________
(1) وهي قراءة الكسائي أيضاً انظر ابن مجاهد، السبعة، ص 257، ومكي بن أبي طالب، الكشف، 1/43، وابن الجزري، النشر في القراءات العشر، تصحيح على محمد الصنَّاع، بيروت، دار الكتب العلمية، (بلا تاريخ) ، 1/397-398، وأبو حيَّان، البحر المحيط، 4/125.
(2) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيات، تحقيق حسن هنداوي، دمشق، دار القلم، بيروت، دار المنارة، ط1، 1987م، ص 43.
(3) سيبويه، الكتاب، مصر، المطبعة الكبرى الأميريَّة (بولاق) ، 1316هـ، 2/165.
(4) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيات، ص 43.
(5) سيبويه، الكتاب (طبعة بولاق) ، 1/407.
(6) أبو البقاء العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/494.(11/308)
الأول: أنها حُذفت مباشرة دون إبدال؛ وذلك لاستثقال الجمع بين همزتين، ولأنَّه حصل بها الثقل، ولثبوت حذفها في المضارع.
والثاني: أنها أُبدلت ألفاً، ثم حُذِفت؛ لالتقاء الساكنين.
والثالث: أنها أبدلت ياء، ثم حُذِفت؛ لالتقاء الساكنين كذلك (1) والأول عنده هو الظاهر.
وحذف الهمزة في "أَرَأَيْتَ" وفروعه له صلة كما يبدو بحذف الهمزة في مضارعه "أَرَى"، وترَى، ونَرَى، ويَرَى، ونحو ذلك.
يقول الخليل ت (175هـ) : "واعلم أنَّ ناساً من العرب لمّا رأوا همزة "يرى" محذوفة في كل حالاتها حذفوها أيضاً من "رأى" في الماضي، وهم الذين يقولون: "رَيْتُ" (2) .
وقراءة " أَرَيْتَ" بحذف الهمزة ليست بالاختيار عند الزمخشري ت (538 هـ) "لأنَّ حذفها مختصٌّ بالمضارع ولم يصحَّ عن العرب "رَيْتَ" ولكن الذي سَهَّلَ من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام" (3) .
وأرى أنَّ اختيار الزمخشري قراءة معيَّنة، وتركه أخرى، أو تفضيله قراءة على أخرى فيه نظر؛ إذ لا تفاضل بين القراءات المتواترة، فالقراءة سُنَّة مُتَّبعة.
والذي يظهر لي أنَّه لو قال: ولغة " أَرَيْتَ" بحذف الهمزة ليست بالاختيار لكان ذلك أولى؛ خاصة أنَّه نصَّ على أنَّ حذفٍ الهمزة في هذه القراءة غير قياسي، إذ يقول: " (أَرَيْتُمْ) بحذف الهمزة ليس بحذفٍ قياسّي". (4)
وقول الزمخشري: "ولم يصحّ عن العرب "رَيْتَ" في نصّه السابق - فيه نظر؛ إذ ذكر الخليل أنَّ "بعض العرب تقول: رَيْتَ بمعنى "رَأَيْتَ" (5) ومن حفظ حجَّة على من لم يحفظ كما هو مشهور.
__________
(1) السمين الحلبي، الدر المصون، 4/617.
(2) الخليل بن أحمد، العين، تحقيق مهدي المخومي وإبراهيم السامرائي، بيروت، منشورات، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 8/310.
(3) أبو القاسم الزمخشري، الكشاف، الرياض، مكتبة المعارف، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) ، 4/236.
(4) السابق.
(5) الخليل بن أحمد، العين، 8/307.(11/309)
التحقيق والتخفيف والإبدال:
قال الفارسي ت (377هـ) : "وفي الهمزة التي هي عين الفعل من "رَأَى" ضربان من اللفظ: التحقيق، والتخفيف. فالتحقيق أن تخرجها نبرة لا تنحو بها نحو حرف من حروف اللين. والتخفيف أن تجعل الهمزة بين الهمزة، وبين الحرف الذي حركتها منه، فإذا خُفِّفت التي في "رَأَى" جُعِلت بين الهمزة، والألف فقلت: "رَاى" (1) .
وقد اختلف القُرَّاء في تحقيق الهمز، وتخفيفه، وإثبات الألف من غير همز في "أَرَأَيْتَكَ "، و"أَرَأَيْتَكُمْ" و "أَرَأَيْتَ " وفروعه في القرآن الكريم.
إذ نسب ابن مجاهد ت (324 هـ) إلى ابن كثير، وعاصم، وأبي عمرو، وابن عامر، وحمزة قراءة "أَرَأَيْتَكَ"، و "أَرَأَيْتَكُمْ" و "أَرَأَيْتَ "، وفروعه في كلِّ القرآن بالهمز (2) ، أي بتحقيق الهمز.
ونبّه على قراءة تحقيق الهمز كثيرون منهم: الأزهري ت (370هـ) (3) ، وابن مهران ت (381 هـ) (4) ، وأبو زرعة ت (390 هـ) (5) ؛ إذ يقول مبينّاً حجَّة من قرأ بالهمز: "وقرأ الباقون: "أَرَأَيْتَكُمْ" و"أَرَأَيْتُم" بالهمزة، وحُجِّتهم أنَهم لم يختلفوا فيما كان من غير استفهام، فكذلك إذا دخل حرف الاستفهام فالحرف على أصله " (6) يريد أنَّ الهمزة حُقِّقَت على الأصل؛ لأنَّ أصل الحرف مهموز؛ فالهمزة عين الفعل.
__________
(1) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيات، ص 42.
(2) ابن مجاهد، السبعة في القراءات، ص257.
(3) أبو منصور الأزهري، معاني القراءات، تحقيق عيد مصطفى درويش، وعوض بن حمد القوزي، مصر، دار المعارف، ط1، 1991م، 1/353.
(4) ابن مهران الأصبهاني، المبسوط في القراءات العشر، ص168.
(5) أبو زرعة، حجّة القراءات، ص 250.
(6) السابق.(11/310)
وممن أشار أيضاً إلى قراءة تحقيق الهمز مكي بن أبي طالب القيسي ت (437هـ) غير أنَّه ذكر أنَّ حمزة إذا وقف سهَّل الهمزة، وجعلها بين الهمزة، والألف (1) .
وممن نبَّه على هذه القراءة الفخر الرازي ت (604هـ) (2) ، وأبوالبقاء العكبري ت (616هـ) (3) .
وعزا ابن مجاهد إلى نافع أنَّه قرأ " أَرَيْتَكَ "، و "أَرَيْتَكُمْ"، و"أَرَيْتَ " وأشباه ذلك من غير همز، والألف على مقدار ذوق الهمز أي أنَّه يسهِّل الهمزة، ويذيقها الهمزة، أو يُشِمُّها الهمزة قليلاً بحيث يجعلها بين الهمزة، والألف (4) .
أي أنه يقرأ كلّ هذا في القرآن بألف في تقدير الهمز، ولا يهمز؛ من أجل تخفيف الهمز كما يبدو ونسب ابن مهران ت (381هـ) هذه القراءة إلى أبي جعفر أيضاً (5) .
__________
(1) مكي بن أبي طالب القيسي، التبصرة في القراءات، تحقيق محيي الدين رمضان، الكويت، معهد المخطوطات العربية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ط1، 1985م، ص192.
(2) الفخر الرازي، نفسير الفخر الرازي، ص 12/234.
(3) أبو البقاء العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/494.
(4) ابن مجاهد، السبعة في القراءات، ص257.
(5) ابن مهران الأصبهاني، المبسوط في القراءات العشر، ص168.(11/311)
والمراد بتخفيف الهمزة هنا "جعلها بين الهمزة، والألف على التخفيف القياسي" (1) على حدَّ قول الفخر الرازي وهو ما عبَّر عنه أبو البقاء العكبري ت (616هـ) بقوله: "وتُلَيَّنُ (أي الهمزة) للتخفيف" (2) ، والقراءة بتخفيف الهمزة أو تسهيلها بَيْنَ بَيْنَ وهي قراءة نافع أشار إليها أبو جعفر النحاس ت (338هـ) (3) ، ومكي بن أبي طالب ت (437هـ) (4) ، والفخر الرازي ت (604هـ) (5) ، وغيرهم.
ونبّه أبو جعفر النحاس على أنَّ أبا عبيد حكى عن نافع أنَّه يُسْقِط الهمزة، ويُعَوِّض منها ألفاً هكذا "أَرَايْتَكُمْ" (6) .
واعترض النحاس على ذلك قائلاً:"وهذا عند أهل اللغة غلط عليه؛ لأنَّ الياء ساكنة، والألف ساكنة، ولا يجتمع ساكنان" (7) .
على أنَّ أبا زرعة ت (390 هـ) يحتج لقراءة نافع هذه ب: "أنَّه كره أن يجمع بين همزتين" (8) .
ونسب الدمياطي ت (1117 هـ) قراءة "أَرَأَيْتَ"، وفروعه بالتسهيل بَيْنَ بَيْنَ إلى قالون، وورش من طريق الأصبهاني، وكذا أبو جعفر.
يقول الدمياطي: "السادس: مفتوحة (أي الهمزة) بعد فتح، فقرأ قالون، وورش من طريق الأصبهاني، وكذا أبو جعفر بالتسهيل بَيْنَ بَيْنَ في (أَرَأَيْتَ) حيث وقع بعد همزة الاستفهام نحو أَرَأَيْتُم، أَرَأَيْتَكُمْ، أَرَأَيْتَ، أَفَرَأَيْتَ" (9) .
__________
(1) الفخر الرازي، تفسير الفخر الرازي، 12/234.
(2) أبو البقاء العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/494.
(3) أبو جعفر النحاس، إعراب القرآن، 2/66.
(4) مكي بن أبي طالب القيسي، التبصرة في القراءات، ص192، والكشف عن وجوه القراءات السبع وحججها، له، 1/431.
(5) الفخر الرازي، تفسير الفخر الرازي، 12/234.
(6) أبو جعفر النحاس، إعراب القرآن، 2/66.
(7) السابق.
(8) أبو زرعة، حجّة القراءات، ص250
(9) أحمد بن عبد الغني الدمياطي، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، ص 56.(11/312)
وتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ أشهر من إبدالها ألفاً خالصة. وعليه الجمهور وهو الأقيس ذكر ذلك الدمياطي (1) .
وإبدال الهمزة ألفاً خالصة تروى عن الأزرق، قال ابن الجزري ت (833 هـ) في أثناء حديثه عن قراءة تسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ في "رأيت" إذا وقع بعد همزة الاستفهام: "واختلف عن الأزرق عن ورش في كيفية تسهيلها فروى عن بعضهم إبدالها ألفاً خالصة، وإذا أبدلها مدَّ لالتقاء الساكنين مدًّا مشبعاً". (2) أي بمد الصوت عند النطق بالألف.
وممن أشار إلى ذلك الدمياطي (3) . وإبدال الهمزة ألفاً في " أَرَأَيْتَ"، وما زيد عليه "أجرى في الرواية" (4) كما يقول مكي بن أبي طالب ت (437 هـ) رادَّا ذلك إلى أنَّ "النقل، والمشافهة إنما هو بالمدَّ عنه (أي عن ورش) وتمكين المد إنما يكون مع البدل" (5) .
على أنَّه يذكر أنَّ جعل الهمزة الثانية " بَيْنَ بَيْنَ أقيس على أصول العربية" (6) مستدركاً أنَّ المدّ لا يكون مشبعاً كالبدل (7) .
__________
(1) السابق.
(2) ابن الجزري، النشر في القراءات العشر، 1/398.
(3) الدمياطي، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، ص 56.
(4) مكي بن أبي طالب القيسي، التبصرة في القراءات، ص 192.
... قال مكي بن أبي طالب: "قيل عن ورش إنَّه يبدلها ألفاً وهو أجرى في الرواية "التبصرة في القراءات، ص 192.
(5) السابق، وانظر الكشف عن وجوه القراءات السبع له، 1/431.
(6) مكي بن أبي طالب القيسي، التبصرة في القراءات، ص 192، وانظر الكشف عن وجوه القراءات السبع له، 1/431.
(7) مكي بن أبي طالب القيسي، التبصرة في القراءات، ص 192.(11/313)
ونجده يشير إلى مسوّغ لجواز البدل في الهمزة، فيقول: "وحَسَّنَ جواز البدل في الهمزة، وبعدها ساكن أنَّ الأول حرف مدّ ولين، فالمدُّ الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يتوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني" (1) . وقوله هذا فيه تأكيد للقول بأنَّ الألف حركة مضاعفة، فلا بأس من اعتبارها حركة قبل ساكن.
ويبدو أنَّ من قرأ " أَرَايْتَكَ " وفروعه بإبدال الهمزة ألفا يشبع المدّ، لالتقاء الساكنين.
وبذلك يتبين أنَّ إبدال الهمزة ألفاً في " أَرَأَيْتَ " رواية صحيحة؛ إذ هو مسموع من العرب وقد حكاه قطرب، وغيره كما في النشر (2) .
ويذكر الدمياطي ت (1117هـ) أنه إذا "وقف للأزرق في وجه البدل عليه على نحو أَرَأَيْتَ ... تعيَّن التسهيل بَيْنَ بَيْنَ لئلا يجتمع ثلاث سواكن ظواهر ولا وجود له في كلام عربي" (3) .
وعلى الرغم من أنَّ الأصل تحقيق الهمزة التي هي عين الفعل من "أَرَأَيْتَ"، وما شابهه فإنَّه يغلب على ظني أنَّ لغة تسهيل همزة " أَرَأَيْتَ" بَيْنَ بَيْنَ، أو حذفها له ما يسوِّغه وفقاً لقانون الجهد الأقل في الاستعمال اللغوي فالكلمة إذا كثر استعمالها كما هو مشهور اعتراها بعض التغيير، أو الحذف، وذلك؛ لأنَّ كلمة " أَرَأَيْتَ" قد اجتمع فيها همزتان مفتوحتان بينهما حرفٌ مفتوحٌ أيضاً، وهذا أمر مستثقل، ويزيد ذلك ثقلاً اجتماع هاتين الهمزتين في الفعل مع اتصاله بضمير الفاعل، فكان لا بدَّ من تخفيف الهمزة بتسهيلها بين الهمزة، والألف، أو حذفها طلباً للتخفيف ولم يمتنع تخفيف الهمزة بَيْنَ بَيْنَ مع أنَّ ما بعدها ساكن؛ لأنَّها في زنة المخفَّفة المتحركة.
__________
(1) مكي بن أبي طالب القيسي، الكشف عن وجوه القراءات السبع، 1/431.
(2) ابن الجزري، النشر في القراءات العشر، 1/398.
(3) الدمياطي، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، ص 56.(11/314)
أمَّا حذف الهمزة هنا فليس له ضابط، ولا عِلَّة، ولكن لكثرة الاستعمال كراهة التكرير، والثقل.
قال مكي بن أبي طالب ت (437 هـ) : "فإن قيل: فما بال الهمزة كُرِهَ فيها التكرير، واستُثْقِل ... فالجواب أنَّ الهمزة ... حرف بعيد المخرج جَلْد صعب على اللافظ ... مع ما فيها من الجهر والقوة ولذلك استعملت العرب في الهمزة ... التحقيق، والتخفيف، وإلقاء حركتها على ما قبلها، وإبدالها بغيرها من الحروف، وحذفها في مواضعها وذلك كله؛ لاستثقالهم لها ... فإذا انضاف إلى ذلك تكريرها كان أثقل كثيراً عليهم، فاستعملوا في تكرير الهمزة من كلمتين التخفيف للأولى، والتخفيف للثانية، والحذف للثانية والحذف للأولى، وبعضهم يحققهما جميعاً، إذ الأولى كالمنفصلة من الثانية، إذ هي من كلمة أخرى" (1) .
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّه امتنع حذف الهمزة الأولى التي هي همزة الاستفهام في "أَرَأَيْتَكَ"، لأنَّ حذفها يخلُّ بالمعنى.
يتبينُ مما سبق أنَّ هناك أربع لغات في الهمزة من " أَرَأَيْتَ " وفروعه وهي:
1 -تحقيق الهمز، 2 - تسهيله بَيْنَ بَيْنَ، 3 - إبداله ألفاً، 4 - حذفه.
والشواهد الشعرية ل "رأى" بتصاريفها كثيرة في المظانِّ اللغوية، والأدبية بيد أنني سأقتصر على إيراد شواهد " أَرَأَيْتَ" وفروعه، لأنَّ هذا البحث خاص به وقد كشف جمعي لشواهد هذا الباب أنَّ ما جاء منه من الشواهد الشعرية صيغتان هما:
... " أَرَيْتَ "، و "أَرَيْتَكَ" بلا همز.
... قال الراجز: أَرَيْتَ إنْ جَاءَتْ به أُمْلُودا مُرَجَّلاً ويلْبسُ البُرُودا (2)
__________
(1) مكي بن أبي طالب القيسي، الكشف عن وجوه القراءات السبع، 1/72.
(2) الشاهد في ملحقات ديوان رؤبة بن العجاج، تصحيح وليم بن الورد البرُوسيّ، مراجعة لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط2، 1980م، ص 173.
... والشاهد بلا نسبة في الفارسي، المسائل الحلبيات، ص 46، وابن جني، الخصائص، 1/136، والسمين الحلبي، الدر المصون، 4/616، 626، وابن منظور، لسان العرب إعداد يوسف خياط، بيروت، دار لسان العرب، (د. ت) ، (رأى) ، 1/1093 وهو منسوب في خزانة الأدب إلى رجل من هذيل. البغدادي، خزانة الأدب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، الرياض، دار الرفاعي، ط1، 1983م، 11/420، الشاهد رقم (950) .(11/315)
أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودا
... وعدَّ الفارسي ت (377 هـ) قلب الهمزة هنا ضرورة ذاكراً أنه ليس سائغاً مطرداً، وإنْ سُمِعَ في بعض الأشعار (1) .
... وقال أبو الأسود الدؤلي:
أَرَيْتَ أمْرَأً كُنْتُ لم أَبْلُهُ ... أَتَانِي فَقَالَ اتَّخِذْنِي خليلاً (2)
... ومنه قوله:
... أَرَيْتَ إِنْ أُعْطِْيْتَ هَيْداً هَيْدَباً (3)
... وقوله:
أَرَيْتَ إِذَا جَالَتْ بِكَ الخَيْلُ جَوْلَةً ... وَأَنْتَ على بِرْذَوْنَةٍ غَيْرِ طَائِلِ (4)
... ومن شواهد حذف الهمز في " أَرَأَيْتَكَ " قول الشاعر:
__________
(1) أبو علي الفارسي، المسائل العسكرية، تحقيق محمد الشاطر أحمد محمد، مصر، مطبعة المدني، ط1، 1982م، ص 140، 141.
(2) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي، ديوانه، تحقيق محمد حسن آل ياسين، بغداد، مكتبة النهضة، 1964م، ص 122 وفي الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، بيروت، دار العلم للملايين، ط3، 1984م، (رأى) ، 6/2348، والسمين الحلبي، الدرَّ المصون، 4/617، وابن منظور، لسان العرب (بيروت) ، (رأى) ، 1/1093، والأزهري، تهذيب اللغة، (رأى) ، 15/320.
(3) لم أهتد إلى قائله.
... والشاهد بلا نسبة في الفرَّاء، معاني القرآن، 1/4، والفارسي، المسائل الحلبيات، ص 47، وابن منظور، لسان العرب، (بيروت) ، (هيد) ، 3/854.
... والهيد الهيدب: ثديُ المرأة وَرَكْبُها إذا كان مسترخياً، ابن منظور، لسان العرب (بيروت) ، (هدب) ، 3/780.
(4) لم أقف على قائله. والشاهد بلا نسبة في الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، المجمع العلمي العربي الإسلامي، (د. ت) ، 2/285، ابن يعيش، شرح المفصَّل، بيروت، عالم الكتب، القاهرة، مكتبة المتنبي (د. ت) ، 5/98، وابن منظور، لسان العرب (بيروت) ، (رأي) ، 1/1093.(11/316)
أَرَيْتَكَ إنْ مَنَعْتَ كَلاَمَ لَيْلى ... أتَمْنَعُِني عَلَى لَيْلَى البُكْاءَ (1)
وقول عمر بن أبي ربيعه:
أَرَيْتَكَ إذْ هُنَّا عَلَيْكَ أَلَمْ تَخَفْ ... رَقِيْباً وَحَوْلي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ (2)
المبحث الثاني: المستوى الصرفي
اختلف النحويون في "التاء" و "الكاف" في "أَرَأَيْتَكَ" وفروعه فذهب سيبويه ت (180هـ) إلى أنَّ "الكاف" التي تلحق "أَرَأَيْتَ " حرفُ خطابٍ يفيد التوكيد والاختصاص وليست ضميراً. و "التاء" هي علامة المضمر المخاطب المرفوع مستدلاً بقول العرب:"أَرَأَيْتَكَ فلاناً ما حاله؟ "؛ يقول: (وإنَّما جاءت هذه الكاف توكيداً وتخصيصاً ... وممَّا يدلُّك على أنَّه ليس باسم قول العرب: أَرَأَيْتَكَ فلاناً ما حالُه؟ فالتاء علامة المضمر المخاطب المرفوع، ولو لم تُلْحِق الكاف كنت مُسْتَغْنياً ... فإنَّما جاءت الكاف في "أَرَأَيْتَ " ... توكيداً، وما يجيء في الكلام توكيداً لو طُرِح كان مستغنىً عنه كثير.. والمعنى في التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التي في "رُوَيْدَ" وما أشبهها" (3) .
__________
(1) انظر في الشاهد بلا نسبة: الجوهري، الصحاح، (رأى) ، 6/2348.
... وانظره منسوباً لركاض بن أباق الدُبيري في ابن منظور، لسان العرب (بيروت) ، (رأى) ، 1/1093.
(2) ديوان عمر بن أبي ربيعه، بيروت، دار القلم للطباعة والنشر (د. ت) ، ص 96.
... وانظر في الشاهد بلا نسبة السمين الحلبي، الدر المصون، 4/616.
(3) سيبويه الكتاب (طبعة بولاق) ، 1/124، 125.(11/317)
فيفهم من قول سيبويه أنَّ "التاء" في "أَرَأَيْتَ " هي ضمير الفاعل، وأنَّ "الكاف" حرف خطاب زائد لا موضع له يجوز إثباته، وحذفه غير أنَّ إثباته يفيد التوكيد، والاختصاص أي أنَّ الكاف حرف يدل على اختلاف المخاطب، والتاء مفردة مفتوحة دائماً. ومذهب سيبويه هذا هو مذهب البصريين (1) عامة ممن حذوا حذوه وهم أبو الحسن الأخفش ت (215 هـ) (2) ، وأبو العبَّاس المبرّد ت (286 هـ) (3) ، وأبوإسحاق الزجَّاج ت (311 هـ) (4) ، وأبوجعفر النحاس ت (338 هـ) (5) ، وأبوعلي الفارسي ت (377 هـ) (6) ، وابن جني ت (392هـ) (7)
__________
(1) نص بعض العلماء على أنَّ هذا المذهب هو مذهب البصريين قال أبو حيَّان:"ومذهب البصريين أنَّ التاء هي الفاعل (يريد في "أَرَأَيْتَكم") وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء" أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط 4/125، ارتشاف الضرب من لسان العرب، تحقيق مصطفى أحمد النماس، جدة، دار المدني، ط1، 1984م، 1/510، وممن عزاه إلى البصريين السمين الحلبي، الدرَ المصون، 4/618، 619، وجلال الدين السيوطي، همع الهوامع، تحقيق عبد العال سالم مكرم، وعبد السلام محمد هارون، الكويت، دار البحوث العلمية، 1975م، 1/265، سليمان الجمل، الفتوحات الإلهية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د. ت) ، 2/27.
(2) الأخفش سعيد بن مسعدة (الأوسط) ، معاني القرآن، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، بيروت، عالم الكتب، ط1، 1985م، 2/488، 489.
(3) أبو العباس المبرّد، المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، بيروت، عالم الكتب، (د. ت) ، 3/209، 210، 1/40، 3/277.
(4) أبو إسحاق الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، بيروت، عالم الكتب، ط1، 1988م، 2/270، 271، 3/249.
(5) أبو جعفر النحاس، إعراب القرآن، 2/66، 432.
(6) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيات، ص75.
(7) ابن جني، سرّ صناعة الإعراب، تحقيق حسن هنداوي، دمشق، دار القلم، ط1، 1985م، 1/309.(11/318)
، وأبوالقاسم الزمخشري ت (538 هـ) (1) ، وأبو البقاء العكبري ت (616 هـ) (2) ، وابن يعيش ت (643 هـ) (3) ،وابن مالك ت (672 هـ) (4) ، وابن هشام ت (761 هـ) (5) ، والصبان ت (1206 هـ) (6) .
ويعلِّل المبرّد ذلك بأنَّ: " ... (الكاف) لو كانت اسماً استحال أن تُعَدِّي "رأيت" إلى مفعولين الأول هو الثاني، والثاني هو الأول (7) .
ويؤكد ابن جنيَّ أنَّ الكاف في "أَرَأَيْتَك" حرفُ خطابٍ لا موضع لها من الإعراب وأنَّ "زيداً" في تركيب "أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنع" هو المفعول الأول، "وما صنع" هو المفعول الثاني، حيث يقول: "وأمَّا قولهم "أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنع؟ "فإنَّما الكاف هنا أيضاً للخطاب ... ولا يجوز أن تكون اسماً، لأنَّ "زيداً" هو المفعول الأوَّل، "وما صنع" في موضع المفعول الثاني؛ فالكاف إذن لا موضع لها من الإعراب" (8) .
__________
(1) الزمخشري، الكشاف، 2/13، 366.
(2) أبو البقاء العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/495.
(3) ابن يعيش، شرح المفصَّل، 3/134.
(4) ابن مالك، شرح التسهيل، تحقيق عبد الرحمن السيَّد ومحمد بدوي المختون، مصر، هجر للطباعة والنشر، ط1، 1990م، 1/247.
(5) ابن هشام الأنصاري، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، مراجعة سعيد الأفغاني، بيروت، دار الفكر، ط5، 1979م، ص240.
(6) الصبان، حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مصر، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، (د. ت) ، 1/140.
(7) أبو العباس المبرد، المقتضب، 3/277.
(8) ابن جني، سرّ صناعة الإعراب، 1/311، وانظر 1/309.(11/319)
ويستدلُّ أبو البقاء العكبري ت (616 هـ) على أنَّ "الكاف" في "أَرَأَيْتَك" حرفُ خطاب جيء به للتأكيد، وليست اسماً ب "أنَّها لو كانت اسماً لكانت إمَّا مجرورة وهو باطل؛ إذ لا جارَّ هنا، أو مرفوعة وهو باطل أيضاً؛ لأمرين: أحدهما أنَّ الكاف ليست من ضمائر المرفوع، والثاني: أنه لا رافع لها؛ إذ ليست فاعلاً؛ لأنَّ التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان. وإمَّا أن تكون منصوبة وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ هذا الفعل يتعَّدى إلى المفعولين كقولك: أَرَأَيْتَ زيدا ما فعل، فلو جعلت الكاف مفعولاً لكان ثالثاً، والثاني أنَّه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك؛ إذ ليس الغرض أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ، بل أَرَأَيْتَ غَيْرَكَ، ولذلك قلت: أَرَأَيْتَكَ زيداً، و (زيدٌ) غير المخاطب، ولا هو بدل منه، والثالث: أنَّه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية، والجمع، والتأنيث في التاء فكنت تقول: أَرَأَيْتُماكُما، وأَرَأَيْتُمُوكُم، وَأَرَأْيتُنَّكُنَّ" (1) .
أمَّا الكسائيَّ ت (189هـ) فيرى أنَّ الكاف في "أَرَأَيْتَك" في موضع نصب (2) .
ويقول أبو حيان (745هـ) : "ومذهب الكسائي أنَّ الفاعل هو التاء وأنَّ أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول " (3) .
__________
(1) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/495.
(2) أبو العباس ثعلب، مجالس ثعلب، 1/260.
(3) أبو حيَّان، البحر المحيط، 4/125، وانظر ارتشاف الضرب له، 1/510 وممن عزا هذا المذهب إلى الكسائي أيضاً: السمين الحلبي، وابن هشام، والسيوطي، والجمل، والألوسي. انظر السمين الحلبي، الدر المصون، 4/619، وابن هشام، مغني اللبيب، ص 240، السيوطي، همع الهوامع، 1/266، الجمل، الفتوحات الإلهية، 2/27، الألوسي، روح المعاني، بيروت، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، ط43، 1985م، 7/149.(11/320)
فالكاف عند الكسائي "في موضع نصب كأنَّ الأصل: أَرَأَيْتَ نفسك على غير هذه الحال ... فهذا يثنَّى ويجمع ويؤنَّث فيقال: أَرَأَيْتُماكُما، وأَرَأَيْتُمُوكُم، وأَرَأَيْتُنَّ كُنَّ، أوقع فعله على نفسه، وسأله عنها، ثم كثر به الكلام حتى تركوا التاء موحّدة للتذكير، والتأنيث، والتثنية، والجمع؛ فقالوا "أَرَأَيْتَكُمْ زيداً ما صنع، وَأَرَأَيْتَكُنَّ زيداً ما صنع، فوجَّدوا التاء، وثنّوا الكاف، وجمعوها، فجعلوها بدلاً من التاء" (1) .
وقول الكسائي هذا قد اعترض عليه أبوعلي الفارسي ت (377 هـ) (2) ، وابن جني ت (392هـ) إذ يقول: " ... فذلك غلط من قِبَلِ أنَّ السؤال إنَّما هو عن زيد في صنيعه، ولست تسأل عن المخاطب ما صنع، وأيضاً فلو كانت الكاف هي المفعول الأول، وزيد هو المفعول الثاني لجاز أن تقتصر على زيد فتقول: أَرَأَيْتَكَ زيداً، كما تقول: ظننتك زيداً. فحاجة زيد إلى ما بعده تدلُّ على أنه هو المفعول الأول، وأنَّ ما بعده في موضع المفعول الثاني. وأيضاً فإنَّا نجد معنى: أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنع، وأَرَأَيْتَ زيداً ما صنع، واحداً فدلَّ هذا على أنَّ الكاف للخطاب، وليست مغيرّة شيئاً من الإعراب، وأيضاً فلو كانت (الكاف) هي المفعول الأوَّل، و (زيداً) هو المفعول الثاني لوجب أن تقول للمؤنث: أَرَأَيْتَكِ زيداً، فتكسر التاء كما تقول: ظَنَنْتِكِ قائمة ولوجب أن تقول للاثنين أَرَأَيْتُمَاكُما الزيدين، كما تقول: ظَنَنْتُمَاكُمَا قائمين، وكذلك في الجماعة المذكَّرة، والمؤنثة. فترك العرب هذا كلَّه، وإقرارهم التاء مفتوحة على كلِّ حال يدلُّ على أنَّ لها، وللكاف في هذا النحو مذهباً ليس لهما في غير هذا الوضع" (3) .
__________
(1) ابن جرير الطبري، تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل أي القرآن) ،5/10/190، 191.
(2) أبو علي الفارسي، المسائل العسكرية، ص139.
(3) ابن جني، سر صناعة الإعراب، 1/311، 312.(11/321)
يتبين من قول ابن جني أنَّ الكاف حرفُ خطابٍ، ولا يمكن أن تكون مفعولاً أول للأسباب الآتية:
أولاً: أنَّ السؤال في قولنا: "أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنع "إنَّما هو عن زيد،
ثانياً: أنه لا يجوز الاقتصار على زيد في الجملة السابقة؛ لأنَّ الفائدة لا تتمُّ عنده.
ثالثاً: أنَّ معنى الجملة السابقة، ومعنى "أَرَأَيْتَ زيداً ما صنع" واحد.
رابعاً: ثبات التاء موحَّدة مفتوحة.
ويذهب الفرَّاء ت (207 هـ) مذهباً مغايراً، فالكاف عنده ضمير نصب استُعير للرفع أي أنها في موضع الفاعل استُعيِرتْ ضمائر النصب للرفع؛ قال الفرَّاء: "وموضع الكاف نصب، وتأويله رفع" (1) .
وينزل الكاف هنا منزلة الكاف في "دُوْنَكَ" في كونها مجرورة لفظاً مرفوعة معنى؛ فيقول: " ... كما أنَّك إذا قلت للرجل: دُوْنَكَ زيداً، وجدت الكاف في اللفظ خَفْضاً، وفي المعنى رفعاً؛ لأنَّها مأمورة" (2) .
يريد أنَّ الكاف وإن كان لفظها لفظ المنصوب في نحو " أَرَأَيْتَكَ " إلا أنَّها مرفوعةُ المحلّ.
"والتاء" عنده هي حرفُ الخطاب؛ يقول أبو حيَّان الأندلسي ت (745 هـ) : "ومذهب الفرَّاء أنَّ التاء هي حرف خطاب كهي في أنت، وأنَّ أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل استُعيرت ضمائر النصب للرفع" (3) .
ويبدو أن الفرَّاء ذهب هذا المذهب؛ لأن الفعل يتحوَّل عن التاء إلى الكاف.
ويعترض الزجاج ت (311 هـ) على قول الفرَّاء هذا فيقول:"قال الفرَّاء لفظها لفظ نصب، وتأويلها تأويل رفع ... وهذا لم يَقُلْه من تقدَّم من النحويين، وهو خطأ" (4) .
__________
(1) الفرَّاء، معاني القرآن، 1/333.
(2) السابق.
(3) أبو حيَّان الأندلسي، البحر المحيط، 4/125، 126، وارتشاف الضرب له، 1/510. وهذا مخالف لمذهب الفراء في هذا الضمير حيث إن جمهور النحويين هم الذين يرون أن "التاء" من "أنت"، حرف خطاب أما الفراء فيرى أن المجموع هو الضمير.
(4) الزجَّاج، معاني القرآن وإعرابه، 2/246.(11/322)
ويعلِّل ذلك بقوله: "لأنَّ قولك: أَرَأَيْتَكَ زيداً ما شأنه تصير "أَرَأَيْتَ " قد تعدَّت إلى الكاف، وإلى زيد، فيصير ل "رَأَيْتَ" اسمان، فيصير المعنى أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زَيْداً ما حاله؟ وهذا محال" (1) .
يُفهم من قول الزجَّاج أنَّ مردّ الخطأ في قول الفرَّاء هو أنَّ " أَرَأَيْتَ " يصير له فاعلان هما: التاء والكاف؛ لذا لم يقبله النحويون القدماء.
وممَّن اعترض على قول الفرَّاء هنا أبو جعفر النحاس ت (338 هـ) ؛ إذ يقول: "هذا محال، ولكن الكاف لا موضع لها، وهي زائدة للتوكيد كما يقال: ذاك" (2) ، والزمخشري ت (538 هـ) إذ يقول: "تقول: أَرَأَيْتَكَ زيداً ما شأنه؟ فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زيداً ما شأنه وهو خُلْفٌ من القول" (3) .
وقد اعترض أبو علي الفارسي ت (377 هـ) على قول الفرَّاء ذاكراً أنَّ التاء هي الفاعل، لا الكاف، لامتناع وجود فاعلين لفعل واحد؛ يقول: "فالذي يُفْسِدُ قول من قال: إنه رَفْعٌ أنَّ التاء هي الفاعلة، وموضعها رفع ... فيمتنع إذن أن تكون الكاف مرفوعة لاستحالة كون فاعلين لفعل واحد في كلامهم على غير وجه الاشتراك لأحدهم بالآخر بغير حرف العطف؛ فهذا القول بعيد جداً" (4) .
__________
(1) السابق.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 2/66، وانظر، 2/432.
(3) الزمخشري، الكشاف، 2/13.
(4) أبو علي الفارسي، المسائل العسكرية، ص 139.(11/323)
وممَّن اعترض على الفرَّاء: مكي بن أبي طالب ت (437 هـ) ، إذ يقول: "وقال الفرَّاء لفظها لفظ منصوب، ومعناها معنى مرفوع؛ وهذا محال؛ لأنَّ التاء هي الكاف في " أَرَأَيْتَكَ " فكان يجب أن تظهر علامة جمع في التاء، وكان يجب أن يكون فاعلان لفعل واحد، وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون قولك " أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنع؟ " معناه: أَرَأَيْتَ نفسك زيداً ما صنع؟ لأنَّ الكاف هو المخاطب، وهذا الكلام محال في المعنى، ومتناقض في الإعراب، والمعنى؛ لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم ترد السؤال عن غيره في آخر الكلام، وتخاطب أولاً، ثم تأتي بغائب آخر؛ ولأنَّه يصير ثلاثة مفعولين ل (رأيت) ، وهذا كله لا يجوز" (1) .
والراجح في المسألة ما ذهب إليه البصريون من عدِّ "الكاف" حرف خطاب، والتاء ضمير الفاعل؛ لأنَّه محكومٌ بفاعليّة "التاء" في غير هذا الفعل بإجماع، ولم يُعْهَدْ ذلك في الكاف، ثم إنَّ الكاف يُسْتَغْنى عنها بخلاف التاء فكانت التاء أولى بالفاعليَّة، والدليل على أنَّ الكاف يُسْتَغْنى عنها أنَّ معنى: أَرَأَيْتَكَ زيداً ما حاله، هو أَرَأَيْتَ زيداً ما حاله؟
... ثم إنَّ الاسم الواقع بعد الكاف لما كان غير الكاف، فإنَّ هذا ليدل دلالة واضحة على أنها ليست المفعول الأول ل أَرَأَيْتَ لأنَّ هذا الفعل يتعدَّى إلى مفعولين الأول منهما هو الثاني في المعنى، فبهذا يكون الكاف حرفَ خطاب بمنزلة الكاف في: "ذَلِكَ"، و"هُنَالك"، و"رُوَيْدَكَ".
أمَّا "التاء" في "أَرَأَيْتَكَ" فلا يجوز أن يكون للخطاب؛ لأنَّه لا يجوز أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب.
__________
(1) مكي بن أبي طالب القيسي، مشكل إعراب القرآن، 1/266، وممن ردّ مذهب الفراء: السمين الحلي، انظر السمين الحلبي، الدر المصون، 4/621.(11/324)
لذلك أفردت التاء في جميع الأحوال، وجعلت على لفظ واحد ثابت، وجُعل التغيُّر في الكاف، لَيدُلَّ على اختلاف أحوال الفاعل إفراداً وتثنية وجمعاً وتذكيراً وتأنيثاً.
و"أَرَأَيْتَكَ" هذه تاؤها تكون موحَّدةً مفتوحةً دائماً للمفرد والمثنى والجمع مذكَّراً كان، أو مؤنَّثاً إن اتصلت بها الكاف في حين أنَّ الكاف تتغير بتغير المخاطب.
قال الفرَّاء ت (207هـ) : " ... تقول: " أَرَأَيْتَكَ"، وتنصب التاء منها ... وتترك التاء موحَّدة مفتوحة للواحد، والواحدة، والجميع في مؤنَّثه ومذكَّره.
فتقول للمرأة: أَرَايْتَكِ زيداً هل خرج؟ ، وللنسوة أَرَايْتَكُنَّ زيداً ما فعل؟ (1) . والفرَّاء يريد بقوله: "وتنصب التاء فيها": أي وتفتح التاء كما يبدو؛ لأنَّ التاء في " أَرَأَيْتَكَ " مبنيَّة على الفتح.
ومِمَّن أشار أيضاً إلى فتح التاء في "أَرَايْتَكَِ" وفروعه، واختلاف الكاف باختلاف المخاطب أبو العبَّاس ثعلب ت (291 هـ) (2) .
ويعلَّل بن جني ت (392 هـ) لزوم فتح التاء في "أَرَأَيْتَكَ"، وتغيُّر الكاف بعدها بتغير حال الفاعل بكَون التاء عُدَّت اسماً خالصاً، والكاف علامة الخطاب؛ يقول: "وإنما فُتِحَت التاء في كلَّ حال، واقتُصِر في علامة المخاطبين، وعددهم على ما بعد التاء في قولك للرجل: أَرَأَيْتَكَ زيداً ما صنَع؟ وللمرأة "أَرَأَيْتَكِ زيداً ما فَعَل؟ وأَرَأَيْتَكُما، وأَرَأَيْتَكُمْ، وأَرَأَيْتَكُنَّ بفتح التاء البتة؛ لأنها أُخْلِصَت اسماً، وجُعِلَتْ علامة الخطاب فيما بعد" (3) .
__________
(1) الفرَّاء، معاني القرآن، 1/333.
(2) أبو العبَّاس ثعلب، مجالس ثعلب، 1/259.
(3) ابن جني، سرّ صناعة الإعراب، 1/312.(11/325)
ومما هو جدير بالإشارة إليه أنَّ بقاء التاء مفتوحة في " أَرَأَيْتَكَِ" بمعنى أخبرني أمرٌ جائز، لا واجب؛ قال أبو حيان ت (745 هـ) : "وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب، وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكَّر" (1) .
ويرجع ابن الشجري ت (542 هـ) فتح التاء في "أَرَأَيْتَكُمْ" وهو لجماعة الذكور، وفي "أَرَأَيْتَكُنَّ" وهو لجماعة الإناث وفي "أَرَأَيْتَكُما" وهو للمثنى بنوعيه، و"أَرَأَيْتَكِ" وهو للمفرد المؤنث؛ لكون التذكير، والتوحيد هما الأصلين فالتذكير أصل للتأنيث، والتوحيد، أو الإفراد أصل للتثنية، والجمع؛ يقول: "وأمَّا فتح التاء في "أَرَأَيْتَكُمْ"، وأَرَأَيْتَكُما، وأَرَأَيْتَكِ يا هذه، وأَرَأَيْتَكُنَّ فقد علمت أنَّك إذا قلت: رَأَيْتَ يارجل فتحت التاء، وإذا قلت: رَأَيْتِ يا فلانة كسرتها، وإذا خاطبت اثنين، أو اثنتين، أو جماعة ذكوراً، أو إناثاً ضممتها فقلت: رَأيْتُما وَرَأيْتُم وَرَأيْتُنَّ. وقد ثبت، واستقرَّ أنَّ التذكير أصلٌ للتأنيث، وأنَّ التوحيد أصلٌ للتثنية، والجمع فلمَّا خَصُّوا الواحد المذكَّر المخاطب بفتح التاء، ثم جرّدوا التاء من الخطاب، فانفردت به الكاف في أَرَأَيْتَكَ، وأَرَأَيْتَكٍ يا زينب، والكاف، وما زيد عليها في أَرَأَيْتَكُما، وأَرَأَيْتَكُمْ، وأَرَأَيْتَكُنَّ ألزموا التاء الحركة الأصلية؛ وذلك لما ذكرته لك من كون الواحد أصلاً للاثنين، وللجماعة، وكون المذكر أصلاً للمؤنَّث" (2) .
توحيد "التاء" في "أَرَأَيْتَكَ":
__________
(1) أبو حيان، البحر المحيط، 4/125.
(2) ابن الشجري، الأمالي الشجرية، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) ، 1/299-300 (المجلس السابع والثلاثون) ، المسألة السادسة) .(11/326)
ونحن نتساءل لِمَ لمْ يُثَنَّ الضمير الذي هو "التاء" في "أَرَأَيْتَكُما"، ولم يُجْمَعْ في "أَرَأَيْتَكُمْ" و "أَرَأَيْتَكُنَّ" (1) .
ويردُّ الفرَّاء ت (207 هـ) توحيد التاء في "أَرَأَيْتَكَ" التي بمعنى أخبرني إلى أنَّ العرب "لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعاً على نفسها، فاكتفوا بذكرها في الكاف، ووجَّهُوا التاء إلى المذكَّر، والتوحيد؛ إذ لم يكن الفعل واقعاً" (2) .
فالفرَّاء يذكر أنَّ توحيد التاء هنا ناشيء من أنَّه لا موضع لها، وأنَّ الموضع للكاف أي أنَّ الكاف قامت مقام التاء، فلذلك وحّدوها، وثنّوا الكاف، وجمعوها وتعليله هذا انعكاس لرأيه في التاء، والكاف في "أَرَأَيْتَكَ" وفروعه.
__________
(1) “أَرَأَيْتَ " البصريَّة تتصرَّف تاؤها تصرف سائر الأفعال من إفراد وتثنية وجمع أي تتغير تاؤها قال الفرَّاء في أثناء حديثه عن "أَرَأَيْتَ ": "العرب لها في "أَرَأَيْتَ " لغتان ومعنيان: أحدهما أن يسأل الرجل الرجل أَرَأَيْتَ زيداً بعينك؟ فهذه مهموزة فإذا أوقعتها على الرجل ... قلت أَرَأَيْتَك على غير هذه الحال؟ تريد: هل رأيت نفسك على غير هذه الحال؟ ثم تثنَّى وتجمع فتقول للرجلين: أَرَأَيْتَماكما، وللقوم: أَرَأَيْتُموكم، وللنسوة: أَرَأَيْتُنَّكُنَّ، وللمرأة: أَرَأَيْتِكِ تخفض التاء والكاف ولا يجوز إلاَّ ذلك" الفرَّاء، معاني القرآن، 1/333.
(2) الفرَّاء، معاني القرآن، 1/333، وتابعه سليمان الجمل، الفتوحات الإلهية، 2/28؛ يقول: "وإنما تركت العرب التاء واحدة (أي في أَرَأَيْتَكَ وفروعه) لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكرها في الكاف وتركوا التاء في التذكير والتوحيد مفردة إذ لم يكن الفعل واقعاً" الجمل، الفتوحات الإلهية، 2/28.(11/327)
ويعلِّل السيرافي ت (368 هـ) إفرادهم التاء في "أَرَأَيْتَكَِ وفروعه" استغناء بتثنية الكاف، وجمعها عن تثنية التاء، وجمعها من أجل الفرق بين "أَرَأَيْتَ " التي بمعنى أخبرني، والتي بمعنى عَلِمْتُ (1) .
ونجد هذا التعليل عند أبي علي الفارسي ت (377 هـ) (2) .
أمَّا ابن الشجري ت (542 هـ) فيذكر أنَّه إنَّما جاء مفرداً في "أَرَأَيْتَكُما" و"أَرَأَيْتَكُمْ" و "أَرَأَيْتَكُنَّ"؛ لأنَّه لو ثنِّى، أو جمع لكان ذلك جمعاً بين خطابين، وهو غير جائز (3) .
ولقد عدَّ أبو علي الفارسي قولهم " أَرَأَيْتَكَ" وفروعه شاذًّا عن الاستعمال مُطَّرِداً في القياس (4) .
المبحث الثالث: المستوى النحوي
تحدَّث بعض النحويين عن تعدِّي "أرأيْتَ"، و "أَرَأَيْتَكَ"، وربطوا ذلك بالمعنى؛ إذ يذهب الرضي الإستراباذي ت (686 هـ) إلى أنَّ (أَرَأَيْتَكَ) "منقول من (رَأَيْتَ) بمعنى أبْصَرْتَ أو عَرَفْتَ كأنَّه قيل أَأَبْصَرْتَهُ، وشاهدت حاله العجيبة، أو أَعَرَفْتَها؟ أخبرني عنها ... " (5) .
وتكون على هذا القول متعدِّية إلى مفعولٍ واحد.
__________
(1) أبو سعيد الحسن السيرافي، شرح كتاب سيبويه (بيكروفيلم) بقسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، برقم 10296/ف مصوَّر من دار الكتب المصرية رقم (137) نحو، 2/ق 53ب، ق 54أ.
(2) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيَّات، ص75.
(3) ابن الشجري، الأمالي الشجرية، 1/292 (المجلس السابع والثلاثون) ، المسألة الثانية) .
(4) أبو علي الفارسي، المسائل العسكرية، ص 135-138.
(5) الرضي الأستراباذي، شرح الرضي على الكافية لابن الحاجب، بيروت، دار الكتب العلمية، (د. ت) ، 2/282.(11/328)
ويعزو الصبان ت (1206 هـ) إلى ابن هشام ت (761 هـ) أنَّ "أَرَأَيْتَ" هذه منقولة من "أَرَأَيْتَ" بمعنى أَعَلِمْتَ؟ لا من أَرَأَيْتَ بمعنى أَأَبْصَرْتَ؟ " (1) ويقوِّي ذلك عنده أنَّها تتعَّدى إلى مفعولين" (2)
ويعدّ هذا الأسلوب "مِن الإنشاء المنقول إلى إنشاء آخر" (3) .
وسواء أكانت "أَرَأَيْتَ " منقولة من " أَرَأَيْتَ" بمعنى عَرَفْتَ أم بمعنى أبصرت أم بمعنى عَلِمْتُ فإنها في أصلها جملةٌ خبريَّةٌ، ثم تحوَّلت بعد النقل، وبعد أن لازمتها همزة الاستفهام إلى جملة إنشائية لها معنى جديد وهي "أخبرني" وهي مع ذلك لا تدل على استفهام، ولا تحتاج إلى جواب.
و"أَرَأَيْتَكَ" يحتاج إلى مفعولين - إذا كان بمعنى أخبرني - الأوَّل الاسم المنصوب بعدها، والثاني جملة الاستفهام.
قال سيبويه ت (180 هـ) : " ... وتقول: أَرَأَيْتَكَ زيداً أبو من هو، وأَرَأَيْتَكَ عمراً أعندك هو أم عند فلان؟ لا يحسن فيه إلاَّ النصب في زيد، ألا ترى أنَّك لو قلت أَرَأَيْتَ أبو من أنت؟ أو أَرَأَيْتَ أزيدٌ ثَمَّ أم فلانٌ لم يحسن؛ لأن فيه معنى أَخْبِرْني عن زيد، وهو الفعل الذي لا يَستَغْني السكوت على مفعوله الأول فدخول هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة أَخْبِرْني في الاستغناء، فعلى هذا أُجْرِيَ، وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني" (4) .
__________
(1) الصبَّان، حاشية الصبَّان، 1/140.
(2) السابق.
(3) السابق.
(4) سيبويه، الكتاب (بولاق) ، 1/122.(11/329)
ويفهم من قول سيبويه أنَّه لا بدَّ بعد قولك "أَرَأَيْتَكَ" التي بمعنى أخبرني من اسمٍ منصوب هو المفعول به الأول، ثم يليه جملة الاستفهام التي هي في موضع المفعول الثاني. وأنَّه لا يجوز رفع ما بعد "أَرَأَيْتَكَ" - على التعليق؛ لأنَّه لا يجوز تعليقها؛ إذ هي بمعنى أخبرني، وأخبرني لا يُعَلَّق. ومع أنَّ "أَرَأَيْتَكَ" بمعنى أخبرني فإنها لا تقتصر على مفعول واحد مثلها، بل تتعدَّى إلى مفعولين شأنها في ذلك شأن رأى القلبيَّة.
المبحث الرابع: المستوى الدلالي
نصَّ بعض العلماء على مجيء "أَرَأَيْتَ " وفروعه بمعنى أخبرني؛ قال سيبويه ت (180هـ) ": "..وتقول أَرَأَيْتَكَ زيداً أبو من هو ... فيه معنى أَخْبِرنِي عن زيد" (1) .
وقال أبو سعيد السيرافي ت (368هـ) في أثناء شرحه لهذا الباب:
... "أَرَأَيْتَك".... بمعنى أخبرني " (2) .
وفي معاني القرآن للفراء ت (207هـ) : "تقول: أَرَأَيْتَكَ وأنت تريد أخبرني" (3) .
وقال الزجاج ت (311هـ) في أثناء تفسيره لقوله تعالى: (( ( [الإسراء: 62]
"وقوله: (أَرَأَيْتَكَ) في معنى أخبرني" (4) .
__________
(1) السابق.
(2) أبو سعيد الحسن السيرافي، شرح كتاب سيبويه، 2/ق49ب، ق 50أ.
(3) أبو زكريَّا يحيى بن زياد الفرَّاء، معاني القرآن، 1/333.
(4) أبو إسحاق الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، 3/249.(11/330)
وأشار كثير من العلماء إلى أنَّه بمعنى أخبرني ومنهم الراغب الأصفهاني ت (502هـ) (1) ، وأبوالقاسم الزمخشري ت (538هـ) في مواضع متفرَّقة من كشافه (2) ، وابن مالك ت (672هـ) (3) ، والرضي الإستراباذي ت (686هـ) (4) وأبو حيَّان الأندلسي ت (745هـ) (5) ، والفيروزآبادي ت (817هـ) (6) .
وينسب ابن فارس ت (395هـ) إلى أبي عبيد أنه بمعنى أعلمني؛ إذ يقول: "وقال أبو عبيد إذا قيل: أَرَأَيْتَ في المسألة معناه أعلمني" (7) .
ويبدو أنَّه ليس هناك اختلاف بين أعلمني، وأخبرني في هذا السياق فهما متقاربان في المعنى.
يقول أبو علي الفارسي ت (377هـ) : " ... وأخبروني، وأعلموني متقاربان" (8) .
وأشار أبو حيان في "ارتشاف الضرب" إلى هذين المعنيين فقال: "وإذا قلت " أَرَأَيْتَكَ " فالهمزة دخلت على رَأَيْتَ فإمَّا أن يكون بمعنى أعلمتك، أو بمعنى أخبرني" (9) .
ونبَّه أبو علي الفارسي على معنى آخر في " أَرَأَيْتَ " وهو (انتبه) .
__________
(1) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيَّد كيلاني، بيروت، دار المعرفة (د. ت) ، (رأى) ، ص 209.
(2) أبو القاسم الزمخشري، الكشاف، 2/13، 366، 396، 2/421، 3/177.
(3) ابن مالك، تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمد كامل بركات، مصر، دار الكاتب العربي، 1967م، ص 40، وشرح التسهيل له، 1/246.
(4) الرضي الأستراباذي، شرح الرضي على الكافية لابن الحاجب، 2/282.
(5) أبو حيَّان الأندلسي، البحر المحيط، 4/125.
(6) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق مكتب التراث، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط102، 1987م، (فصل الراء) ، ص 1659.
(7) أبو الحسين أحمد بن فارس، مجمل اللغة، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1984م، (رأى) ، ص 412.
(8) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيات، تحقيق، ص 77.
(9) أبو حيَّان الأندلسي، ارتشاف الضرب من لسان العرب، 1/510.(11/331)
يقول: (يكون بمعنى "انتبه") (1) . والحقيقة أنَّ هذا المعنى الذي ينبِّه له أبو علي الفارسي ت (377 هـ) ينسب أيضاً إلى أبي الحسن الأخفش ت (215 هـ) فهو عنده قد يخرج من معنى أخبرني إلى "معنى أمَّا، أو تنبَّه" (2) . ويظهر أنه لمح هذ المعنى فيه لأنَّ ما بعده تفصيل لشيء، أو إيضاح كما يبدو.
وفي البحر المحيط قول ينسب إلى الكرْمَاني ينص على أنَّ "أَرَأَيْتَكُم"استفهام وتعجب (3) . ويظهر لي أنَّ كون الاستفهام للتعجُّب على هذا الرأي لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني. والطريف في الموضوع هو إطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار؛ إذ الرؤية سببٌ للإخبار كما هو معلوم، وكذلك جعل الاستفهام، بمعنى الأمر ولعلَّ الجامع بين الاستفهام والأمر في أسلوب "أَرَأَيْتَ" كونهما طلباً.
ولنا أن نتساءل عن استعمال "أَرَأَيْتَ " في الإخبار أحقيقة هو أم مجاز؟ وما مسوِّغه؟ ورد في الفتوحات الإلهية ما نصُّه:"استعمال "أَرَأَيْتَ " في الإخبار مجاز أي أخبروني عن حالتكم العجيبة" (4) ويجوِّز ذلك بقوله:"ووجه المجاز أنَّه لمَّا كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه، أو الإبصار به طريقاً إلى الإحاطة به علماً، وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم، أو لطلب الإبصار في طلب الخبر، لاشتراكهما في الطلب. ففيه مجازان: استعمال رأى التي بمعنى عَلِمَ، أو أَبْصَرَ في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار" (5) .
والذي يُنْعِم النظر في "أَرَأَيْتَ " وفروعه في السياق القرآني يلحظ أنَّه جاء بمعنى أخبرني كثيراً، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (( ( [النجم:19-22]
__________
(1) أبو علي الفارسي، المسائل الحلبيَّات، ص ص 76، 77.
(2) أبو حيَّان الأندلسي، البحر المحيط، 4/126، والسمين الحلبي، الدرُّ المصون، 4/623.
(3) أبو حيَّان، البحر المحيط، 4/124.
(4) سليمان الجمل، الفتوحات الإلهية، 2/27.
(5) السابق.(11/332)
قال أبو علي الفارسي في معرض تفسيره لها: "فهو بمنزلة "أخبروني" ... وقد دلَّ قوله عزَّ وجل " (1) . (( ( [النجم:21] على ذلك.
ومنه أيضاً قوله تعالى: (( ( [الأنعام:40]
قال أبو القاسم الزمخشري ت (538 هـ) في أثناء تفسيره لها: " () أخبروني" (2) ونبَّه على هذا المعنى (3) وهو يفسَّر قوله سبحانه وتعالى: (( [الإسراء:62]
... وقوله عزَّ وجل: (( [القصص:71-72]
وحقيقة الأمر أنَّ معنى "أخبرني" يشترك مع معانٍ أخرى؛ إذ جاء "أَرَأَيْتَ " محتملاً معنى "أخبرني"، ومعنى "أمَّا"، أو "تنبَّه"، أو "انتبه"، أو معناه الأصلي وهو رؤية العين، أو المعرفة؛ وذلك في بعض المواضع من القرآن الكريم من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (( [الكهف: 63]
فالسمين الحلبي ت (756 هـ) في أثناء تفسيره لهذه الآية ينسب إلى أبي الحسن الأخفش ت (215 هـ) أنَّ " " خرج عن بابه فصار بمعنى "أمَّا" أو "تنبَّه" بيد أنَّه لا يجوِّز رأي الأخفش هذا "لأنَّه إخراجٌ للفظة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك" (4) .
وهذا المعنى الذي نسبه السمين إلى الأخفش نصَّ عليه أبو علي الفارسي
__________
(1) الفارسي، المسائل الحلبيَّات، ص78، 79.
(2) أبو القاسم الزمخشري، الكشاف، 2/13.
(3) السابق، 2/366، 3/177.
(4) السمين الحلبي، الدرُّ المصون، 4/623.(11/333)
ت (377 هـ) في معرض حديثه عن الآية السابقة فقال: "كأنَّ المعنى: انتبه فإنَّي نسيت الحوت" (1) . ودللَّ على إرادة هذا المعنى بدخول الفاء الرابطة، يقول: "ولذلك دخلت الفاء كما تدخل في جواب الجزاء" (2) . وبينما يعدُّ الأخفش والفارسي "أَرَأَيْتَ" هنا بمعنى أمَّا، أو تنبَّه، أو انتبه يذكر أبو القاسم الزمخشري أنه بمعنى "أخبرني" (3) في حين أنَّ الفخر الرازي ت (604هـ) جعله على معناه الأصلي وهو رؤية العين، أو معنى عرف، يقول في أثناء تفسيره لها: " ... ورأيت على معناه الأصلي، وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس، فإنَّه إذا حدث لأحدهم أمرٌ عجيب قال لصاحبه: أَرَأَيْتَ ما حدث لي؟ كذلك هَهنا كأنه قال: أَرَأَيْتَ ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة " (4) .
وقد جاء "أَرَأَيْتَ" محتملاً معنى "انتبه" كذلك في قوله تعالى: (( [الملك:30]
قال أبو علي الفارسي في أثناء حديثه عن هذه الآية:"كأنه قال: انتبهوا فمن يأتيكم، كما كان قوله: (( [الكهف:63] كذلك" (5)
__________
(1) الفارسي، المسائل الحلبيَّات، ص ص 77، 78.
(2) السابق، ص 78.
(3) أبو القاسم الزمخشري، الكشاف، 2/396.
(4) الفخر الرازي، تنفسير الفخر الرازي، 21/148.
(5) الفارسي، المسائل الحلبيَّات، ص78.
المصادر والمراجع
- ... ... القرآن الكر يم.
- ... ... الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة ت (215هـ) :
... * معاني القرآن، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، بيروت، عالم الكتب، ط1، 1405هـ/1985م.
... الأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد ت (370هـ) :
- ... تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط1، 1396هـ/1976م.
- ... معاني القراءات، تحقيق عيد مصطفى درويش، وعوض بن حمد القوزي، مصر، دار المعارف، ط1، 1411هـ/1991م.
- ... الألوسي: أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود ت (1270هـ) :
... * روح المعاني، بيروت، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، ط4، 1405هـ/1985م.
- ... البغدادي: عبد القادر بن عمر ت (1093هـ) :
... * خزانة الأدب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، الرياض، دار الرفاعي، ط1، 1403هـ/1983م.
- ... ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى ت (291هـ) :
... * مجالس ثعلب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصر، دار المعارف، 1368هـ/1949م.
- ... الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر ت (255هـ) :
... * الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، المجمع العلمي العربي الإسلامي (د. ت) .
- ... ابن الجزري: الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي ت (833هـ) :
... * النشر في القراءات العشر، تصحيح علي محمد الصناع، بيروت، دار الكتب العلمية، (د. ت) .
- ... الجمل: سليمان بن عمر العجيلي الشافعي ت (1204هـ) :
... * الفتوحات الإلهية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د. ت) .
- ... ابن جني: أبو الفتح عثمان ت (392هـ) :
- ... الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، بيروت، دار الكتاب العربي، (د. ت) .
- ... سر صناعة الإعراب، تحقيق حسن هنداوي، دمشق، دار القلم، ط1، 1405هـ 1985م.
- ... الجوهري: إسماعيل بن حماد ت (393هـ) :
... * الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، بيروت، دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ/1984م.
- ... أبو حيَّان الأندلسي: محمد بن يوسف ت (745هـ) :
... * ارتشاف الضرب من لسان العرب، تحقيق مصطفى أحمد النحاس، جدة، دار المدني، ط1، 1404هـ/1984م.
... * البحر المحيط، بيروت، دار الفكر، ط2، 1403هـ/1983م.
- ... الخليل بن أحمد: أبوعبد الرحمن الفراهيدي الأزدي ت (170هـ) :
... * كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، بيروت، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1408هـ/1988م.
- ... الدمياطي: أحمد بن عبد الغني ت (1117هـ) :
... * إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، بيروت، دار الندوة الجديدة، (د. ت) .
- ... الدؤلي: أبو الأسود ظالم بن عمرو ت (69هـ) :
... * ديوانه، تحقيق محمد حسن آل ياسين، بغداد، مكتبة النهضة، 1384هـ/1964م.
- ... الرازي: فخر الدين محمد بن ضياء الدين ت (604هـ) :
... * تفسير الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر، 1410هـ/1990م.
- ... الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسن بن محمد ت (502هـ) :
... * المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيِّد كيلاني، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) .
- ... ابن أبي ربيعة: عمر بن عبد الله ت (93هـ) :
... * ديوانه، بيروت، دار القلم للطباعة والنشر، (د. ت) .
- ... الرضي الأستراباذي: محمد بن الحسن نجم الدين ت (686هـ) :
... * شرح الرضي على الكافية، بيروت، دار الكتب العلمية، (د. ت) .
- ... الزجَّاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري ت (311هـ) :
... * معاني القرآن وإعرابه، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، بيروت، عالم الكتب، ط1، 1408هـ/1988م.
- ... أبو زرعة: عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة ت (حوالي 390هـ) :
... * حجة القراءات، تحقيق سعيد الأفغاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1404هـ/1984م.
- ... الزمخشري: أبو القاسم جارالله محمود بن عمر ت (538هـ) :
... * الكشاف، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) .
- ... السمين الحلبي: أحمد بن يوسف (756هـ) :
... * الدرُّ المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق أحمد محمد الخراط، دمشق، دار القلم، ط1، 1408هـ/1987م.
- ... سيبويه: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ت (180هـ) :
... * الكتاب، مصر، مطبعة بولاق، 1316/1898م.
- ... السيرافي: أبو سعيد الحسن بن عبد الله ت (368هـ) :
... * شرح كتاب سيبويه (ميكروفيلم) بقسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، برقم 10296/ف مصوَّر من دار الكتب المصرية برقم (137) نحو.
- ... السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت (911هـ) :
... * همع الهوامع، تحقيق وشرح عبد العال سالم مكرم، وعبد السلام محمد هارون، الكويت، دار البحوث العلمية، 1394هـ/1975م.
- ... ابن الشجري: أبو السعادات ضياء الدين هبة الله بن علي بن حمزة العلوي الحسيني ت (542هـ) :
... * الأمالي الشجرية، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) .
- ... الصبَّان: محمد بن علي ت (1206هـ) :
... * حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مصر، مطبعة دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي) وشركاه، (د. ت) .
- ... الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير ت (310هـ) :
... * تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ، بيروت، دار الفكر، 1408هـ/1988م.
- ... عبد الباقي، محمد فؤاد:
... * المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، بيروت، دار المعرفة، ط3، 1412هـ/1992م.
- ... ابن العجاج رؤبة بن عبد الله ت (145هـ) :
... * ديوانه، تصحيح وليم بن الورد البروسيّ، مراجعة لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط2، 1400هـ/1980م.
- ... عضيمة، محمد عبد الخالق:
... * دراسات لأسلوب القرآن الكريم، مصر، مطبعة السعادة، ط1، 1392هـ/1972م.
- ... العكبري: أبو البقاء عبد الله بن الحسين ت (616هـ) :
... * التبيان في إعراب القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، مصر، عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1397هـ/1976م.
- ... ابن فارس: أبو الحسين أحمد ت (395هـ) :
... * مجمل اللغة، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1404هـ/1984م.
- ... الفارسي: أبو علي الحسين بن أحمد ت (377هـ) :
... * المسائل الحلبيات، تحقيق حسن هنداوي، دمشق، دار القلم، بيروت، دار المنارة، ط1 1407هـ/1987م.
... * المسائل العسكرية، تحقيق محمد الشاطر أحمد محمد، مصر، مطبعة المدني، ط1، 1403هـ/1982م.
- ... الفرَّاء: أبو زكريا يحيى بن زياد ت (207هـ) :
... * معاني القرآن، بيروت، عالم الكتب، ط3، 1403هـ/1983م.
- ... الفيروز آبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب ت (817هـ) :
... * القاموس المحيط، تحقيق مكتب تحقيق التراث، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ/1987م.
- ... القرطبي: أبوعبد الله محمد بن أحمد ت (671هـ) :
... * الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ/1988م.
* ... القيسي: مكي بن أبي طالب ت (437هـ) :
- ... مشكل إعراب القرآن، تحقيق ياسين محمد السواح، دمشق، دار المأمون للتراث، (د. ت) .
- ... التبصرة في القراءات، تحقيق محيى الدين رمضان، الكويت، معهد المخطوطات العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ط1، 1405هـ/1985م
- ... الكشف عن وجوه القراءات السبع وحججها، تحقيق محيى الدين رمضان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1407هـ/1987م.
- ... ابن مالك: أبو عبد الله محمد بن مالك ت (672 هـ) :
... * تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمد كامل بركات، مصر، دار الكتاب العربي، 1386هـ/1967م.
... * شرح التسهيل، تحقيق عبد الرحمن السيد ومحمد بدوي المختون، مصر، هجر للطباعة، ط1، 1410هـ/1990م.
- ... المبرّد أبو العباس محمد بن يزيد ت (286هـ) :
... * المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، بيروت، عالم الكتب، (د. ت) .
- ... ابن مجاهد: أحمد بن موسى ت (324هـ) :
... * السبعة في القراءات، تحقيق شوفي ضيف، مصر، دار المعارف، ط2، 1400هـ/1980م.
- ... ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري ت (711هـ) :
... * لسان العرب، إعداد يوسف خيَّاط، بيروت، دار لسان العرب، (د. ت) .
- ... ابن مهران الأصبهاني: أبو بكر أحمد بن الحسين ت (381هـ) :
... * المبسوط في القراءات العشر، تحقيق سُبيع حمزة حاكمي، جدة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، بيروت، مؤسسة علوم القرآن، ط2، 1408هـ/1988م.
- ... النحاس: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل ت (338هـ) :
... * إعراب القرآن، تحقيق زهير غازي زاهد، مصر، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، ط2، 1405هـ/1985م.
- ... ابن هشام الأنصاري: أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف ت (761هـ) :
... * مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك، ومحمد علي حمدالله، مراجعة سعيد الأفغاني، بيروت، دار الفكر ط5، 1399هـ/1979هـ.
- ... ابن يعيش: موفق الدين يعيش بن علي ت (643هـ) :
... * شرح المفصَّل، بيروت، عالم الكتب، القاهرة، مكتب المتنبِّي، (د. ت) .(11/334)
ومع أنَّ هذا الاحتمال وارد في الآية الكريمة إلا إنِّي أرجَّحُ أنه هنا أيضاً بمعنى أخبروني.
... وعليه يتبيَّن أنَّ مجيء () بمعنى "أخبرني" هو الغالب، وهو المعنى الأساس وفقاً للسياق القرآني، وهو مساوٍ لمعنى (أعلمني) والغالب ورود هذا الاستعمال في سياق التعجُّب، والدّال على التعجُّب فيه هو همزة الاستفهام، لأنها تخرج عن معناها الحقيقي المتمثِّل في طلب الفهم إلى معانٍ أخرى مجازية، أو بلاغية من بينها التعجب.
وذلك؛ لأنَّ (رأيت) يفهم منها الرؤية البصرية الحسيَّة، أو العلم، الإدراك أو هما معاً وهو ما صرّح به الرّازي فكأنَّ عبارة (أَرَأَيْتَ) مركَّب لغويّ له دلالة على التعجُّب، وطلب الرؤية البصرية، والقلبية بشأن أمرٍ ما وهو ما نلمحه في سائر استعمال هذا المركَّب في السياق القرآني، وفي اللغة.
ويشمل هذا المعنى فروع (أَرَأَيْتَ) ذات الجزء الخطابي الواحد: أَرَأَيْتِ - أَرَأَيْتُمَا - أَرَأَيْتُمْ - أَرَأَيْتُنَّ، حيث يتنوع ضمير المخاطب للدلالة على الجنس، والعدد كما يشمل هذا المعنى فروع (أَرَأَيْتَ) ذات الجزأين الخطابيَّين: أَرَأَيْتَكَ - أَرَأَيْتَكِ - أَرَأَيْتَكُمَا - أَرَأَيْتكُمْ - أرأيتكنَّ حيث يتنوَّع حرف الخطاب؛ للدلالة على الجنس، والعدد مع التزام ضمير المخاطب المفرد المذكر.
الخاتمة
لقد انتهيت بحمدالله، وعونه بعد هذه الدراسة المتواضعة ل "أَرَأَيْتَ " وفروعه إلى هذه النتائج:
1 - أنَّ "أَرَأَيْتَ"، وفروعه كثير الدوران في القرآن الكريم، والكلام العربي شعراً، أو نثراً.
2 - أنَّ معناه هو: أخبرني، أو أعلمني، وأنّ الغالب أن يذكر في سياق التعجّب.(11/335)
3 - أنّه من القوالب الثابتة حيث يلتزم صيغة المضيّ، ويسبق بهمزة الاستفهام للدَّلالة على التعجب، وتتصل به تاء ضمير المخاطب التي تُفْتَحُ، على أصل إرادة المخاطب المفرد المذكر، وقد تكسر أو يضاف إليها الحروف الدّالة على التثنية، أو الجمع بنوعيه (أَرَأَيْتَ - أَرَأَيْتِ - أَرَأَيْتُمَا - أَرَأَيْتُمْ - أَرَأَيْتُنّ) .
4 - إذا زيد على هذه الصيغة الكاف فإنّ التاء تلتزم الفتح، وتصبح الدَّلالة على الجنس، والعدد من وظائف الكاف (أَرَأَيْتَكَ - أَرَأَيْتَكِ - أَرَأَََََََََََيْتَكٌمَا - أَرَأَيْتكُمْ - أَرَأَيْتَكُنّ) وفي هذه الحالة يرى البصريون، ومن تبعهم أنَّ التاء هي الضمير، وهو في موقع الفاعل، وأنّ الكاف حرف خطاب وهو القول الرّاجح، والسائد في النحو العربي. وللكوفيين، أو لبعضهم خلاف في ذلك.
5 - معنى "أَرَأَيْتَ " مأخوذ من معنى (رأى) البصرية، والقلبية في الوقت نفسه، ومعنى الهمزة هنا التعجّب.
6 - دخول الهمزة الدّالة على الاستفهام التعجبي يجعل (أَرَأَيْتَ) جملة إنشائية بمعنى أخبرني، أو أعلمني. وكأنَّ الهمزة دلّت على التعجّب، والطلب في الوقت نفسه.
7 - يفتقر الفعل الى مفعولين يأتي أولهما في الغالب اسماً صريحاً، ويرد الثاني في الغالب جملة، وقد يغني عن المفعولين جملة، أو جُمَل تقع بعد (أَرَأَيْتَ) .
8 - أنَّ في همزته الثانية أربع لغات هي: التحقيق على الأصل، والتسهيل، وإبدالها ألفاً، وحذفها.
9 - أنه لم يرد " أَرَأَيْتَ " وفروعه بتحقيق الهمز على الأصل - في الشواهد الشعرية فيما أعلم، بل ورد " أَرَيْتَ "، و "أَرَيْتَكَ" بلا همز.
الحواشي والتعليقات(11/336)
الخلاف بين سيبويهِ والخليل
في الصَّوْت والبِنْية
د. أحمد بن محمد بن أحمد القرشيّ
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية - كلية المعلمين بالمدينة المنورة
ملخص البحث
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبيّ بعده، وبعد:
فالكتاب لإمام النّحاة، وحجة العرب سيبويه، هو المَعِين الذي لا ينْضُب على مرّ العصور، وتعاقب الدهور، سمّاه النّحاة "قرآن النّحو"، ولقّبوه بالبحر استعظاماً له واستصعاباً لما فيه.
عَقَد سيبويه أبواب الكتاب بلفظه ولفظ الخليل بن أحمد، ووافقه في معظم مسائل البِنْية، وخالفه في بعضٍ منها، إذِ الأصل بينهما هو الاتفاق، والخلاف فرعٌ.
فقد خالف سيبويه شيخه الخليل في: النّسب إلى "ظَبيةٍ ونحوها"؛ وفي النّسب إلى "رايةٍ وأمثالها". وفي باب الهمز خالفه في تخفيف إحدى الهمزتين المجتمعتين في كلمتين، و – أيضاً – خالفه في أنّ الهمز والنّبر شيءٌ واحدٌ ولا فرق بينهما.
وفي باب القلب المكانيّ ذهب سيبويه إلى أنّه لا قلب في الجمع الأقصى نحو "خطايا"؛ ولا قلب في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز الّلام، نحو "جاءٍ"؛ وكذلك: لاقلب في جمعه، نحو "جواءٍ"، أمّا الخليل فيرى القلب فيها.
وفي باب تداخُل اللُّغات أثبت الخليل التداخُل، وخالفه سيبويه فحكم على ما جاء من الأفعال بأنّها شاذّة.
وفي باب الوقف اختلفا في حقيقة ألف المقصور المنّون الموقوف عليه، وكذلك اختلفا في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن.
وفي باب الزّوائد ذهب الخليل إلى أنّ الزائد هو الأول في كلّ مضاعف، وخالفه سيبويه فذهب إلى أنّه الثاني، ثم قال سيبويه: وكلا القولين صوابٌ ومذهبٌ.
أمّا باب مخارج الحروف فقد خالف شيخه في عدد مخارج الحروف؛ وفي ترتيب المخارج؛ وفي ترتيب حروف بعض المخارج.
هذا ما تيسّر لي ووقفت عليه من أوجه الخلاف بينهما، والله الموفق.
***
مقدمة:(11/337)
أحمد الله سبحانه وتعالى حمداً لاتدرك غايته، ولا تعلم نهايته، وأشكره على نعمه التي لاتحصى، وأستعينه وأستغفره.
وأصلّي وأسلّم على سيدنا محمد صفوة الله من خلقه، أما بعد:
فالكتاب لسيبويه إمام النّحو، وحجة العرب، هو المنبع الصّافي، والمَعِين الذي لا يَنْضُب على مر العصور، وتعاقب الدهور.
استوعب فيه سيبويه أبواب النّحو والصرف، ومسائل التمارين، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل بن أحمد، وهو أعلمُ النّاس بالنّحو بعد الخليل، وأثْبتُ من حمل عنه.
مات عنه سيبويه وهو في حداثة سِنّه، وريعان شبابه، وربيع عمره، فأقبل العلماء – بعد موته – على (الكتاب) بالدراسة، والرواية، والشرح، والحفظ، جيلاً بعد جيل، وطبقةً بعد طبقة، فشرّق (الكتاب) وغرّب، وتلقفه القاصي والدّاني، وشُغف العلماء به على اختلاف مشاربهم، وتعدُّدِ مواردهم.
وبلغت العناية ب (الكتاب) أنّ الفرّاء من النحويين الكوفيين وُجد بعضُ الكتابِ تحت وسادته التي كان يجلس عليها.
قال ثعلبٌ: مات الفرّاءُ وتحت رأسه كتاب سيبويهِ.
جمع فيه سيبويه ماتفرّق من أقوال من تقدمه من العلماء، كأمثال: عبد الله بن أبي إسحاق، وأبي عمروٍ بن العلاء.
و– أيضاً – جمع فيه أقوال وآراء شيوخه، كأمثال: عيسى بن عمر، وأبي الخطاب الأخفش الكبير، والخليل بن أحمد، ويُونُس بن حبيب، وأبي زيدٍ الأنصاريّ، وغيرهم.
فأبدع كتابَه على مثالٍ لم يُسبق إليه، ولم يَدَعْ للمتأخرين استدراكاً عليه.
لم يك سيبويه في كتابه جمّاعاً لآراء السابقين آو لآراء شيوخه فحسب، بل كان ذا شخصيةٍ قويةٍ، تظهر في ضمّ ما استخرجه بنفسه من القواعد، اعتماداً على سماعه من العرب الخُلّص.
وكان – رحمه الله – يُناقش شيوخه في مسائل النّحو والصرف، فما يُقرّه الدليل أو القياس أخذ به، وما يخالفهما اطّرحه وخالف صاحبه، وإن رأى أنّ القول الآخر قويٌّ أخذ به إلى جانب مايراه.(11/338)
وممّن خالفهم: شيخه الخليل بن أحمد الفراهيديّ الذي لازمه وأخذ النّحو عنه فبرع، وكان سيبويه أكثرَ نقلاً في (الكتاب) عنه، فكان الكتاب سجلاًّ حافلاً بآراء الخليل في النّحو والصرف، وكان سيبويه كثيراً مايحكى عن الخليل بقوله: "وسألته" أو "قال"، ورُغم ذلك خالفه في بعض ماحكاه، إلاّ أنّ الخلاف بينهما فرعٌ، والاتفاق هو الأصل في معظم المسائل.
ومما أودُّ التّنبيه إليه في هذه المسائل أنّي لم أقصر الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل على معناه المعروف وهو المخالفة بينهما في الرأي، بل إنّني وسّعت مفهوم الخلافِ ليشمل مطلق التعدّد في الرأي، فإنّ انفراد سيبويه برأيٍ لم يقل به الخليل في المسألة الواحدة عددته من قبيل الخلاف الضمني بينهما، فإنّ سيبويه قد يعرض رأي الخليل، ثم يعرض رأي غيره ويميل إليه وقد يذكر رأيه بعد رأي الخليل ثم يستحسنهما، وذلك كما في مسألة النسب إلى "راية، وغاية، وآية"، وكذلك في مسألة اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز اللام، نحو "جاءٍ، وساءٍ"، وكذلك في مسألة تحقيق أو تخفيف إحدى الهمزتين المجتمعتين في كلمتين، نحو "جاء أشرطها"، وكذلك اختلافهما في مسألة أيّهما الزائد الأول أو الثاني في المضاعف نحو "سُلّم".
فمثل ذلك عددته من قبيل المسائل الخلافية بينهما؛ لأنّ مجرد ذكر رأي الخليل، ثم التعقيب عليه بإبداء رأيه هو أو رأي غيره، يفهم منه ضمناً أنّ سيبويه ينتحي منتحىً آخر في الاستقلال بشخصيته، وعدم ميله إلى متابعة شيخه في كل آرائه.
والله يعلم أنّ جمع الخلافات بينهما لم أقف عليها بالهيّن الليّن، أو وافتني محض الصُّدفة، وإنّما كان ذلك ثمرةَ اطّلاعٍ واستقراءٍ للكتاب، ولكثيرٍ من كُتب النّحو والصرف، ثمّ عارضت ماجمعته على ماقاله سيبويه في (الكتاب) ، وعلى ما أورده النَّحويون في مصنّفاتهم.
وبعد أن جمعتُ المادة العلميّة وفق ماتيسر لي، سميّت البحث:
(الخلاف بين سيبويهِ والخليل في الصوت والبِنْية) .(11/339)
أمّا المنهج الذي سلكته في هذه الدراسة فيتلخّص فيما يلي:
أولاً: أُقدّمُ بين يدي المسألة مدخلاً وتمهيداً، يتضح منه أبعاد المسألة.
ثانياً: أُوردُ الخلافَ بين سيبويه وشيخه الخليل، مؤيّداً ذلك بنصوص (الكتاب) أو من غيره، موضحاً وجهَ الخلاف بينهما.
ثالثاً: أَذكرُ آراءَ العلماء وموقفَهم من الخلاف، مؤكّداً ذلك بأقوالهم ونصوصِهم.
رابعاً: أُرجّحُ بينهما في ضوء أقوال العلماء، وعللِهم، وحججِهم، قارناً ذلك بالنّصوص الواردة عنهم.
خامساً: سلكت في ترتيب مباحث الخلاف بينهما وفق ورودها في (الكتاب) لسيبويه.
وقد اقتضت خُطة البحث بعد جمع الخلافات بين سيبويه والخليل في الصّوت والبِنْية، أن تكون وفق مايلي:
قسّمت الدّراسة إلى سبعة مباحث؛ يسبقها مقدمةٌ، وتمهيدٌ.
أمّا المباحث السبعة، فهي:
المبحث الأول: اختلافهما في باب النّسب، وفيه مطلبان.
المبحث الثاني: اختلافهما في باب الهمز، وفيه مطلبان.
المبحث الثالث: اختلافهما في باب القلب المكانيّ، وفيه مطلبان.
المبحث الرابع: اختلافهما في باب تداخُل اللُّغات، وفيه مطلبٌ.
المبحث الخامس: اختلافهما في باب الوقْف، وفيه مطلبان.
المبحث السادس: اختلافهما في باب الزوئد، وفي مطلبٌ.
المبحث السابع: اختلافهما في باب مخارج الحروف، وفيه ثلاثة مطالبٍ.
ثُمّ جاءت الخاتمة في نهاية الدراسة، لخّصت فيها أهم نتائج البحث، ثُمّ فِهْرس المصادر والمراجع، ثُمّ فِهْرس الموضوعات.
وختاماً أقول: الله أَسْألُ أنْ يجعلَ هذا العملَ في ميزان حسناتي يوم لاينفع مالٌ ولا بنون، وأنْ ينفع به قارئه وجميع المسلمين، إنّه على ذلك قدير، وعلى إجابة الدّعاء جدير، هو مولانا نِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير.
تمهيد:
علم النّحو من أسمى علوم العربية قدراً، وأعظمها أثراً، وأجلها نفعاً، به يستبين سبيل العلوم على تنوع مقاصدها، واختلاف أنواعها.(11/340)
نشأ علم النّحو أوّل أمره صغيراً، شأن كلّ علمٍ وكلّ فنٍّ، وكانت نشأته في الصّدر الأول للإسلام، فنشأ نشأةً عربيةً محضةً على مقتضى الفطرة، ثم تدرج في وضعه، وتكوينه، ونموّه، ونضجه، واكتماله، شيئاً فشيئاً تمشياً مع سُنّة التّرقّي حتى كَمُلت أبوابه، غير مقتبس من أيّ لغةٍ، لافي نشأته ولافي تطوره وتدرجه، حتى وصل إلى طور الترجيح والبسط في التصنيف.
وكان من أسباب نشأة النّحو فُشُوّ الفساد في اللغة العربية، وأوّل مااختلّ من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعرابُ؛ لأنّ اللحنّ ظهر في كلام الموالي والمتعرِّبين من عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمّا سطع نور الإسلام، وأظهر الله دينه على سائر الأديان، وانتشرت الفتوحات الإسلاميّة، ودخل النّاس في دين الله أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللّغات المختلفة، واختلط العرب بغيرهم اختلاطاً مستمراً في البيوت والأسواق، والمناسك والحج، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم بعضاً، ونتيجةً لهذا الامتزاج والاختلاط تسرب اللحن والضعف إلى سليقة العربيّ، الذي كان ينطق على سجيته في صدر إسلامه، وماضي جاهليته، فاستبان منه الإعراب الذي هو حلية كلامه، والموضّح لمعانيه الدقيقة التي تتميّز بها اللُّغة العربية.
وانتشر اللحن فشمل الخاصة، حتى صاروا يَعُدّون من لايلحن.
لذلك خشي أهل العلم وعظم الإشفاق منهم من فُشُوّ اللّحن وغلبته على اللّغة العربيّة، فخافوا أن يُؤدي ذلك إلى فساد الملكة، وبطول العهد ينغلق فهم القرآن والحديث؛ فدعاهم الحذرُ من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم أن يستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويُلحقون الأشباه بالأشباه.(11/341)
فكان أوّلَ من رسم للنّاس النّحو، وأصّلَه، وأعملَ فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤليّ، وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ (رضي الله عنه) ؛ لأنّه سمع لحناً، فقال لأبي الأسود: اجعل للنّاس حروفاً، وأشار له إلى الرفع، والنّصب، والجرّ، فكان لأمير المؤمنين عليٍّ (رضي الله عنه) فضْلُ الهداية إلى الأساس، ولأبي الأسود الدُّؤليّ فضْلُ القيام بوضعه على ضوء هدي وتوجيه أمير المؤمنين.
ثم اختلف النّاس إلى أبي الأسود يتعلمون العربيّة، ففرّع لهم ماكان أصَّلَه، فأخذ ذلك عنه جماعةٌ، كان من أفذاذهم: عَنْبَسةُ بن مَعْدان الفيل، ويحي بن يَعْمَر العَدْوانيّ، وميمونُ الأقرن، ونصرُ بن عاصم الليثيّ؛ وكان عَنْبسةُ الفيل أبرعَ أصحاب أبي الأسود، وعن عنبسة – أيضاً – أخذ ميمون الأقرن، فكان البارعَ من أصحابه.
وهؤلاء شاركوا في استنباط كثيرٍ من قواعد وأحكام النّحو، وساهموا في نشره وإذاعته بين النّاس.
ثم جاء من بعدهم جيلٌ كان أكثرَ عدداً، من أشهرهم: عبد الله بن أبي إسحاقَ الحضرميّ، رَأَسَ النّاسَ بعد موت شيخه ميمون الأقرن، ولم يكن في أصحاب ميمون أحدٌ مثله، وهو أعلمُ أهلِ البصرة، وأعقَلُهم، ففرّع النّحو وقاسه، وتكلّم في الهمز، وكان رئيسَ الناس وواحدَهم.
وكان في عصره وزمانه أبو عمرو بن العلاء المازنيّ، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وقد كان أبو عمروٍ أخذ عن ابن أبي إسحاقَ.
فكان ابن أبي إسحاقَ يُقدّم على أبي عمروٍ في النّحو، وكان أبو عمروٍ يُقدّم عليه في اللّغة.
و– أيضاً – أخذ أبو عمروٍ عمّن أخذ عنه ابن أبي سحاقّ، وأخذ العلم عن ابن أبي إسحاقَ وأبي عمروٍ جماعةٌ، منهم: أبو الخطاب الأخفش الكبير، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وكان عيسى أفصح النّاس، وصاحبَ تقعيرٍ في كلامه، واستعمال الغريب فيه.
وعن هؤلاء وغيرهم أخذ جماعة من العلماء، منهم: يُونُس بن حبيب، أخذ عن أبي عمروٍ، والأخفش الكبير.(11/342)
وكان في زمانه أذكى النّاس وأعلمهم، وأفضل النّاس وأتقاهم، إنّه الخليل بن أحمد الفراهيديّ، إمام أهل البصرة ورئيس طبقته، أخذ عن عيسى بن عمر، وأبي عمروٍ.
وفي عصر الخليل تلاقت فيه طبقته برئاسته مع الطبقة الأولى الكوفية بزعامة أبي جعفر الرُّؤاسيّ الذي أخذ – أيضاً – عن أبي عمروٍ، وهو عالم أهل الكوفة.
فنهض النّحو نهضةً قويةً، واشتد التنافس بين البصريين والكوفيين، والخلاف بينهما في إعمال الفكر واستخراج القواعد نتيجةً للتقصّي والاستقراء للمأثور من كلام العرب.
كان للخليل بن أحمد الفضل الأكبر على علم النّحو بل على كثيرٍ من علوم اللغة العربية، فكان هو عمادها الذي نهض بها في شتى النّواحي، فمن عهده انتظم شتات النّحو، والتأم عقده، واتخذ تعليمه دوره الفنيّ، وهو الذي بسط النّحو، ومدَّ أطنابه، وسَبّب علله، وفتَقَ معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ به أقصى حدوده، وانتهى به إلى أبعد غاياته، ثم لم يرض أن يُؤلّف فيه حرفاً، أو يرسم منه رسماً ترفعاً بنفسه، وترفعاً بقدره؛ واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقّنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده، وألّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.
فكان سيبويه أعلم الناس بالنّحو بعد الخليل، ولم يكن في أصحاب الخليل ولا في غيرهم من الناس مثلُه.
لَزِم أستاذه الخليلَ وأخذ عنه النّحو وغيره فبرع، ووافقه في معظم المسائل التي حَكاها عنه في الكتاب، أو سأله عنها؛ وخالفه في بعضِ مسائل البِنْية، وهي موضوع هذا البحث، إذِ الخلاف بينهما فرعٌ، والأصل هو الاتفاق (1) .
__________
(1)
الحواشي والتعليقات
() ... بنيت هذا التمهيد في نشأة النّحو وتطوره وتدرجه على: مراتب النّحويين، وأخبار النّحويين البصريين، وطبقات النّحويين واللُّغويين، والفهرست، ونزهة الألباء، ونشأة النّحو للطنطاويّ.(11/343)
وقبل الخوض في الخلاف بينهما، يطيب لي أن أُعرّف بهما بصورةٍ موجزةٍ.
أولاً: تعريفٌ موجزٌ بالخليل بن أحمد.
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيديّ، الأزديّ، البصريّ، النّحويّ، اللُّغويّ. وفراهيد حَيٌّ من أَزْد عُمان.
يقال: إنّ أباه أوّلُ من سُميّ بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وُلد الخليل في البصرة سنة (100هـ) ، ونشأ فيها، غلب على حياته الفقر، كان يقيم في خُصٍّ له بالبصرة، لايقدر على فَلْسَين، والنّاس يقتاتون بعلمه الأموال، وهو يقتات من بستانٍ له خلفه عليه أبوه بالخُريْبة.
تلقى علومه على علماء عصره، فأخذ النّحو عن عيسى بن عمر الثقفيّ (149هـ) ، وأبي عمرو بن العلاء التيميّ المازنيّ (154هـ) .
وروى الحروف عن عاصم بن أبي النُّجود، وعبد الله بن كثير، وهو من المقلّين عنهما.
وحدّث عن أيوب بن أبي تميمة السَّخْتِياني، وعاصم الأحول، والعوَّام بن حَوْشب، وغالب القَطَّان.
كان الخليل في أوّل أمره إباضيًّا، فتحوّل عنه إلى مذهب أهل السُّنَّة، قال الأصمعيّ: كادت الإباضيّة تغلب على الخليل، حتى مَنَّ الله عليه بمجالسة أيوب.
كان سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده، وغايةً في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النّحو وتعليله، وهو أوّل من استخرج العروض، وحصر أشعار العرب بها.
وكان أعلمَ النّاس وأذكاهم، وأفضلَ النّاس وأتقاهم، وكان من الزّهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم.
وكان آيةً في الذكاء، وكان الناس يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى منه ولا أجْمعَ، وهو مفتاح العلوم ومصرِّفها.
وكان – رحمه الله – يَحُجّ سنةً، ويغزو سنةً، حتى جاءه الموت.
ومن كلامه: أنّه قال: إن لم تكن هذه الطائفة – يعني أهل العلم – أولياء الله، فليس لله وليٌّ.
وقال: تربع الجهل بين الحياء والكِبْر في العلم.(11/344)
وقال: نوازع العلم بدائع، وبدائع العلم مسارح العقل، ومن استغنى بما عنده جهل، ومن ضمّ إلى علمه علمَ غيره، كان من الموصوفين بنعت الرّبانيّين.
وقال: ثلاثة تُنسيني المصائب: مَرّ الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثات الرجال.
وقال: لايعرف الرّجلُ خطأَ معلمه حتى يُجالس غيرَه.
وقال: زلَّةُ العَالِم مضروبٌ بها الطَّبل.
وقال لرجلٍ، قال له: أحسبُني قد ضيّقت عليك، فقال الخليل له: فإنّ شبراً من الأرض لايَضيق على المتحابَّين، والأرضُ برُحْبِها لاتسعُ متباغِضَيْن.
وقال: أكمل مايكون الإنسان عقلاً وذهناً عند الأربعين. وغيرها.
أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ، من أشهرهم: عمرو بن عثمان سيبويه، والنّضْر بن شُميل، وأبو فيد مؤرّج بن عمرو السُّدوسيّ العجليّ، وعلي بن نصر الجهضميّ، والأصمعيّ، وهارون بن موسى النّحويّ، ووهْب بن جرير، وحماد بن سلمة بن دينار، وأبو سليمان كيسان بن معرّف، وبكار بن عبد الله العوديّ، وآخرون.
وللخليل مصنفات منها: كتاب العين وقد اختُلف في نسبته إليه، وكتاب النّغم، والجُمل، والعروض، والشّواهد، والنَّقْط والشّكل، والإيقاع.
توفي الخليل – رحمه الله – سنة سبعين ومائة، وقيل: سنة خمس وسبعين، وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ستين.
والأظهر والأغلب أنّها سنة خمس وسبعين ومائة، وله أربع وسبعون سنةً (1) .
ثانياً: تعريفٌ موجزٌ بسيبويه.
__________
(1) ... اعتمدت في التعريف بالخليل على المصادر والمراجع التالية: المعارف 541، ومراتب النّحويين 54 - 72، وأخبار النّحويين البصريين 54-56، وطبقات النّحويين 47-51، والفهرست 65، ونزهة الألباء 45-47، وإنباه الرواة 1/341-347، ومعجم الأدباء 11/72-77، وإشارة التعيين 114، وسير أعلام النبلاء 7/429-431، وغاية النهاية 1/275، وبغية الوعاة 1/557-560، وشذرات الذهب 1/275-277، وتاريخ الأدب العربيّ لفروخ 2/111-116.(11/345)
هو أبو بِشْر عمرو بن عثمان بن قَنْبر، إمام النّحويين والبصريين، وحجة العرب، مولى بني الحارث بن كعب بن عمروٍ، ثمّ مولى آل الرَّبيع بن زيادٍ الحارثيّ؛ وسيبويه لقبٌ، ومعناه: رائحةُ التّفاح.
ولد سيبويه بقريةٍ من قرى شِيراز، يقال لها: البيضاء من أرض فارس، نحو سنة (140هـ) .
ثم قدم إلى البصرة ونشأ فيها، ورغب في طلب الفقه والحديث، فالتحق بحلقة حمّاد بن سلمه، فبينا هو يستملي على حمادٍ لحن، فعاتبه حمادٌ على لحنه، فقال سيبويه: لاجرم لأطلبنّ علماً لا تُلحِّنُنِي فيه أبداً، ثمّ مضى ولزم الخليل فبرع، وهو أثْبتُ من أخذ عنه.
وأخذ – أيضاً – النّحو واللغة والأدب عن يُونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش الكبير، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وأبي زيدٍ الأنصاريّ، وغيرهم.
كان أعلم النّاس بالنّحو بعد الخليل، ولم يكن في البصرة ولا في غيرها مثلُه، ساد أهل عصره وفاقهم، فهو إِمامُ أهل البصرة بلا مدافع، ورئيس طبقته بلا منازع.
كان فيه مع فَرْط ذكائه حُبسةٌ في لسانه، وانطلاقٌ في قلمه.
كان شاباًّ نظيفاً جميلاً، قد تعلّق من كلّ علمٍ بسببٍ، وضرب بسهمٍ في كلِّ أدبٍ، مع حداثة سِنّه، وبراعته في النّحو.
كان الخليل يُحبّه ويُجلُّه، ولا يَملُّ من لقائه، فكان يقول له إذا أَقْبل عليه سيبويه: مرحباً بزائرٍ لايُملّ، وما سُمع الخليل يقولُها لغيره.
أمّا كتابه الذي صنّفه فلم يسبقه أحدٌ إلى مثله، ولا لحقه أحدٌ من بعده، سمّاه النّاس "قرآن النّحو"، ولقّبه المبرد بالبحر استعظاماً له، واستصعاباً لما فيه.
وكان المازنيّ يقول: من أراد أن يعمل كتاباً في النّحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.
ونجم من أصحاب سيبويه ممّن أخذ عنه أبو الحسن الأخفش سعيد بن مَسْعدة، وأبو عليّ محمد بن المستنير قُطْرب.(11/346)
قدم سيبويه إلى بغداد، وناظر الكسائيَّ وأصحابه فلم يظهر عليهم، وتعصّبُوا عليه، وجعلوا للعرب جُعْلاً ليوافقوهم، فتابع الأعراب الكسائيَّ، والمناظرة مشهورة، فظهر عليهم سيبويه بالصّواب، وظهر الكسائيُّ عليه بتركيب الحجة والتّعصب.
فاستُزِلّ سيبويه فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس، ولم يعد إلى البصرة، وأقام هناك إلى أنْ مات غمّاً بالذَّرِبِ، ولم يلبث إلاّ يسيراً.
وكانت وفاته في سنة ثمانين ومائة بفارس، في أيّام الرشيد، وقبره في شِيراز.
وقيل: غير ذلك في سنة ومكان وفاته، والصحيح ما أثبته وهو قول الأغلب.
عاش سيبويه – رحمه الله – كما قيل: اثنتين وثلاثين سنةً، ويُقال: إنّه نيّف على الأربعين سنةً، وهو الصحيح.
ولمّا مات سيبويه، قيل ليُونُس: إنّه صنّف كتاباً في ألف ورقةٍ من عِلْم الخليل، فقال: ومتى سمع سيبويه هذا كلَّه من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلمّا نظر فيه رأى كلّ ماحكى، فقال: يجب أن يكون هذا الرّجلُ قد صدق عن الخليل في جميع ماحكاه، كما صدق فيما حكاه عنّي (1) .
المبحث الأول: اختلافهما في باب النّسب، وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل: الخلاف بينهما في النّسب إلى: (ظَبْيةٍ، أو دُمْيةٍ، أو فِتْيةٍ) .
الاسم الثلاثي: الذي يُنسب إليه إذا كان آخرُه ياءً، أو واواً، وكان الحرف الذي قبل الياء أو الواو حرفاً صحيحاً ساكناً، إمّا أن يكون مختوماً بهاء التأنيث، أو لايكون.
__________
(1) ... اعتمدت في التعريف بسيبويه على المصادر والمراجع التالية: المعارف 544، ومراتب النّحويين 106، وأخبار النّحويين البصريين 63 - 65، وطبقات النّحويين 66-72، والفهرست 74، ونزهة الألباء 54 - 58، وإنباه الرواة2/346-360، ومعجم الأدباء 16/114-127، وإشارة التعيين 242-245، وسير أعلام النبلاء 8/351، 352 وغاية النهاية 1/602، وبغية الوعاة 2/229، 230، وشذرات الذهب 1/252-255، وتاريخ الأدب العربيّ لفروخ 2/120، 121.(11/347)
فإن كان مجرداً من هاء التأنيث، فإنّه يُنسب إليه دون تغييرٍ، وذلك نحو: "ظَبْيٍ، وغَزْوٍ"، فتقول في النّسب إليهما: "ظَبْيِيّ، وغَزْوِيّ".
وهذا مذهب سيبويه، والخليل، ويونس، وجمهور النّحويين باتفاقٍ (1) .
أمّا إذا خُتم بهاء التأنيث بعد الياء، فإنّ فيه اختلافاً بين سيبويه، والخليل، ويونس، فمذهب سيبويه والخليل في أحد قوليه وهو الأقيس، أنّه يُنسب إليه على لفظه بلا تغييرٍ، سوى حذف هاء التأنيث، فتقول في النّسب إلى "ظَبْيةٍ، أو دُمْيةٍ، أو فِتْيةٍ": "ظَبْييّ، ودُمْييّ، وفِتْييّ"، كأنّك نَسبت إلى الاسم الذي ليس فيه هاء التأنيث، وأجريته مجراه؛ ومِثْلُ اليائيِّ الواويُّ، فتقول في النّسب إلى "غَزْوة، أو عُرْوة، أو رِشْوة": "غَزْويّ، وعُرْوِيّ، ورِشْويّ"، بلا تغييرٍ سوى حذف هاء التأنيث، كاليائيّ سواء، قال سيبويه: (فإذا كانت هاء التأنيث بعد هذه الياءات، فإنّ فيه اختلافاً: فمن النّاس من يقول في رَمْيةٍ: رَمْييٌّ، وفي ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، وفي دُمْيةٍ: دُمْييٌّ، وفي فِتْيةٍ: فِتْييٌّ، وهو القياس ... ، كأنّك أضفت إلى شيءٍ ليس فيه ياءٌ.
فإذا جعلت هذه الأشياء بمنزلة مالا ياء فيه، فأجره في الهاء مجراه وليست فيه هاء؛ لأنّ القياس أن يكون هذا النّحوُ من غير المعتل في الهاء بمنزلته إذا لم تكن فيه الهاء، ...
وحدثنا يُونُس أنّ أبا عمروٍ كان يقول في ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، ولاينبغي أن يكون في القياس إلاّ هذا) (2) .
__________
(1) ... ينظر الكتاب 3/346، والمقتضب 3/137، والأصول 3/65، والتكملة 245، وابن يعيش 5/153، وشرح الجُمل 2/317، والمقرب 2/60.
(2) ... ينظر الكتاب 3/346-347.(11/348)
أمّا مذهب يُونُس فإنّه يَنسب إليهما كما ينسب إلى الاسم الثلاثيّ المنقوص، أي: أنّه يُحرك الحرف الساكن الذي قبل الياء أو الواو بالفتحة، ثم بالنسبة للياء يَقلبها ألفاً وفق القاعدة، ثم واواً عند النّسب، فيقول في النّسب إلى ما آخره ياءً: "ظَبَوِيّ، ودُمَوِيّ، وفِتَويّ"، ومثله الواويّ فيقول: "غَزَوِيّ، وعُرَوِيّ، ورِشَويّ" وذلك بتحريك الساكن الذي قبل الواو فقط، وهو اختيار الزجاج (1) .
وما ذهب إليه يُونُس في النّسب إلى "ظَبْية" وكذا: "غَزْوة" حكم عليه سيبويه بأنّه شاذٌ ومخالفٌ للقياس، ومذهبه ألاّ يُغيّر منه في النّسب إلاّ ماورد تغييره عن العرب، وذلك مثل قولهم في حيٍّ من العرب يُقال لهم: بنو زِنْية: زِنَوِيّ، وفيِ البِطْية: بِطَوِيّ (2) .
أمّا الخليل فقد عَذَرَ يُونُس واحتج له في ذوات الياء دون ذوات الواو؛ لأنّ السماع يُعضّد ويقوّي مذهبه في ذوات الياء، بخلاف ذوات الواو؛ لعدم السماع.
وكلام الخليل عن مذهب يُونُس واحتجاجه له في ذوات الياء دون ذوات الواو، يبيّن لنا أنّه يذهب إلى مذهب يُونُس في اليائيّ دون الواويّ؛ لأنّه لم يوافقه في الواويّ، ونَقْلُ سيبويه عن الخليل يحتمل ذلك، وكذا شُرّاح الكتاب، قال سيبويه: (وأمّا يُونُس فكان يقول في ظَبْيةٍ: ظَبَوِيٌّ، وفي دُمْيةٍ: دُمَويٌّ، وفي فِتْيةٍ: فِتَويٌّ.
فقال الخليل: كأنّهم شبهوها حيث دخلتها الهاء بفَعِلةٍ؛ لأنّ اللفظ بفَعِلةٍ إذا أسكنت العين وفَعْلةٍ من بنات الواو سواءٌ.
__________
(1) ... ينظر شرح الكافية الشافية 1950، والارتشاف 2/626، وابن يعيش 5/153، وشرح الشافية 2/48، والمساعد 3/376، وشفاء العليل 3/1023، والهمع 2/197، وحاشية الصبان 4/181.
(2) ينظر الكتاب 3/347، والارتشاف 2/626، والوافي 77، والقول الفصل 111.(11/349)
يقول: لو بنيت فَعِلةً من بنات الواو لصارت ياءً، فلو أسكنت العين على ذلك المعنى لثبتت ياء ولم ترجع إلى الواو، فلمّا رأوها آخرُها يشبه آخرَها، جعلوا إضافتها كإضافتها، وجعلوا دُمْيةً كفُعِلةٍ، وجعلوا فِتْيةً بمنزلة فِعِلةٍ.
هذا قول الخليل. وزعم أنّ الأول أقيسهما وأعربهما ...
وقال: لا أقول في غَزْوة إلاّ: غَزْويٌّ؛ لأنّ ذا لايشبه آخرُه آخر فَعِلةٍ إذا أُسكنتْ عينها ... ، ولا تقول في عُرْوة إلاّ عُرْويّ ...
وأمّا يُونُس فجعل بنات الياء في ذا وبنات الواو سواءً، ويقول في عُرْوة: عُرَوِيّ، وقولنا: عُرْويٌّ) (1) .
وخلاصة كلام سيبويه أنّ في النّسب إلى اليائيّ أو الواويّ المختوم بهاء التأنيث مذهبين، وأنّ الخليل يجيز الوجهين في ذوات الياء دون الواو، ويختار الإقرار على الأصل.
والمذهبان هما:
الأول: مذهب سيبويه والخليل في أحد قوليه أن يُنسب إليهما بلا تغييرٍ سوى حذف هاء التأنيث، وبقاء سكون ماقبل الياء أو الواو، فيقال: ظَبْيِيّ، وغَزْوِيّ.
الثاني: مذهب يُونُس وهو قول الخليل في اليائيّ دون الواويّ، أنّه يُنسب إليهما بإبدال سكون ماقبل الياء أو الواو فتحة، وقلب الياء ألفاً ثم واواً، فيقال: ظَبَويّ، وغَزَويّ.
وقد حكم عليه سيبويه بأنّه مخالفٌ للقياس، وهو قول المبرد، إذْ قال: (فأمّا قولُ يُونُسَ في النّسب إلى ظَبْيةٍ: ظَبَويٌّ، فليس بشيءٍ، إنّما القول ماذكرت لك) (2) .
والرّاجح هو ماذهب إليه الخليل بن أحمد من جواز الوجهين في النّسب إلى ذوات الياء؛ إذْ جوّز فيه أن يُنسب إليه على لفظه بلا تغييرٍ، فتقول في النّسب إلى ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، وهو مذهب سيبويه.
__________
(1) ينظر الكتاب 3/347، 348، وانظر التعليقة 3/170، والنكت على الكتاب 2/889، وابن يعيش 5/153، وشرح الشافية 2/48، والارتشاف 2/626.
(2) ينظر المقتضب 3/137.(11/350)
وأجاز الخليل – أيضاً - أن يُنسب إليه على مذهب يُونُس، فتقول: ظَبَويٌّ؛ قال ابن مالك: (وإنْ أُنّث بالتاء، عُومل معاملةَ منقوصٍ ثلاثيّ، إن كان ياءً وفاقاً ليونس) (1) .
ومذهب الخليل هو مذهب جمهور النّحويين كالسيرافيّ، والفارسيّ، والأعلم الشنتمريّ، والزمخشريّ، وابن يعيش، وابن عصفور، وابن مالك، وابن عقيل، وغيرهم (2) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في النّسب إلى (رايَةٍ، وغايَةٍ، وآيَةٍ) .
اختلف سيبويه والخليل والنّحويّون في النّسب إلى الاسم الثلاثيّ الذي آخره ياء متحركة، قبلها ألف، وخُتم الاسم بهاء التأنيث، نحو: "رايَةٍ، وغايَةٍ، وآيَةٍ"، فقد اختلفوا في النّسب إليه على ثلاثة أوجهٍ (3) :
الوجه الأول: قلب الياء همزةً، فتقول: "رائِيٌّ، وغائِيٌّ، وآئِيٌّ".
وعلّة قلب الياء همزةً: أنّها اتصلت بياء النّسب، فثقل النطق بها، فأُبدلت الياء همزة لوقوعها طرفاً بعد الألف المبدلة من أصلٍ، تشبيهاً لها بالألف الزائدة في "سقاية".
__________
(1) ينظر التسهيل 264، والمساعد 3/376، وشفاء العليل 3/1023.
(2) ينظر التعليقة 3/170، والنكت على الكتاب 2/889، والمفصل 209، وابن يعيش 5/153، 154، والمقرب 2/61، والتسهيل 264، وشرح الكافية الشافية 1950، والمساعد 3/376.
(3) ينظر الكتاب 3/350، 351، والمقتضب 1/284، والأصول 3/66، والتكملة 246، والتبصرة والتذكرة 2/596، وابن يعيش 5/157، وشرح الكافية الشافية 1952، والارتشاف 2/625، والمقرب 2/60، وشرح الشافية 2/51، والمساعد 3/375، والهمع 2/196.(11/351)
وهذا الوجه هو مذهب الخليل، قال سيبويه: (وسألته عن الإضافة إلى: "رايَةٍ، وطايَةٍ، وثايَةٍ، وآيَةٍ" ونحو ذلك، فقال: أقول: "رائِيٌّ، وطائِيٌّ، وثائِيٌّ، وآئِيٌّ"، وإنّما همزوا لاجتماع الياءات مع الألف، والألف تُشبّه بالياء، فصارت قريباً مما تجتمع فيه أربع ياءات، فهمزوها استثقالاً، وأبدلوا مكانها همزة؛ لأنّهم جعلوها بمنزلة الياء التي تُبدل بعد الألف الزائدة؛ لأنّهم كرهوها ههنا كما كُرهت ثّمَّ، وهي هنا بعد ألف كما كانت ثَمَّ، وذلك نحو ياء "رداءٍ") (1) .
وقد نصّ المبرد على أنّ هذا الوجه اختاره سيبويه، وهو مخالفٌ لما ذكره سيبويه في (الكتاب) ، على ماهو مبيّن في الوجهين اللاحقين (2) .
الوجه الثاني: بقاء الياء على حالها، فتقول: "رايِيٌّ، وغَايِيٌّ، وآيِيٌّ".
وهذا الوجه جعله سيبويه أولى وأقوى، فقال: (ومن قال: "أُميّيٌّ"، قال: "آيِيٌّ، ورايِيٌّ" بغير همزٍ؛ لأنّ هذه لامٌ غير معتلة، وهي أولى بذلك؛ لأنّه ليس فيها أربع ياءاتٍ؛ ولأنّها أقوى) (3) .
والسبب في كونه أولى وأقوى: أنّه أقيس، إذْ فيه ترك الياء على حالها دون قلبٍ، كما في "ظَبْييّ"، ولأنّك لو أفردته بعد طرح الهاء لأثبت الياء، وقلت: "رايٌ، وغايٌ، وآيٌ" ولا تلزم الهمزة؛ لأنّ الألف قبل الياء أصلٌ غير زائدٍ، والياء إنّما تُهمز إذا كان قبلها ألفٌ زائدةٌ (4) .
وممّن ذهب إلى هذا الوجه ابن السراج، والزمخشريّ، وابن يعيش، والرضيّ (5) .
الوجه الثالث: قلب الياء واواً، فتقول: "راويٌّ، وغاوِيٌّ، وآوِيٌّ".
__________
(1) ينظر الكتاب 3/350.
(2) ينظر المقتضب 1/285، وانظر الكتاب 3/350 – 351.
(3) ينظر الكتاب 3/350-351.
(4) ينظر ابن يعيش 5/157، وشرح الشافية 2/51.
(5) ينظر الأصول 3/66، والمفصل 209، وابن يعيش 5/157، وشرح الشافية 2/51.(11/352)
وعلّة قلب الياء واواً: أنّها وقعت ثالثة متطرفة، فاستُثقلت لأجل ياء النّسب بعدها، فقُلبت واواً، كما في "عَموِيّ، وشَجوِيّ" أي: تعامل معاملة النّسب إلى المنقوص الثلاثيّ (1) .
وهذا الوجه أجازه سيبويه، فقال: (ولو أَبدلتَ مكان الياء الواوَ، فقلت: "ثاوِيٌّ، وآوِيٌّ، وطاوِيٌّ، وراويٌّ" جاز ذلك، كما قالوا: "شاوِيٌّ"، فجعلوا الواوَ مكان الهمزة) (2) .
وممّن ذهب إلى هذا الوجه المبرد، وهو أجود الأقاويل عنده (3) .
وحاصل ماسبق ذكره أنّ في المسألة ثلاثة أوجهٍ، لخّصها الصيمريُّ بقوله: (وما كانت لامه ياءً وقبلها ألف، نحو: راية، وآية، فالنّسب إليه على ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: ترك الياء على حالها، كقولك: رايِيٌّ، وآيِيٌّ.
والثاني: قلبُ الياء همزةً، كقولك: رائِيٌّ، وآئِيٌّ.
والثالث: قلبها واواً، كقولك: راوِيٌّ، وآوِيٌّ) (4) .
أمّا اختلاف سيبويه مع الخليل في المسألة فيتلخص فيما يلي:
بيّنت – آنفاً – في الوجه الأوّل أنّ الخليل يذهب إلى قلب الياء همزة، موضحاً علّة ذلك، أما سيبويه فقد نصّ المبرد على أنّه اختار مذهب الخليل.
قلت: - أيضاً – ذهب في (الكتاب) إلى تقوية عدم قلب الياء وبقائها على حالها وجعَله أَوْلى، وهو مذهب جماعة من النّحوييّن، وقد بيّنت ذلك في الوجه الثاني.
- أيضاً – ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى جواز قلب الياء واواً؛ وهو أجود الأقاويل عند المبرد، وهو موضَّح في الوجه الثالث.
إذاً: سيبويه يذهب إلى جواز الأوجه الثلاثة في النّسب إلى "رايةٍ، وغايةٍ، وآيةٍ، وثايةٍ، وطايةٍ".
وأمّا الخليل فيذهب إلى جواز وجهٍ واحدٍ، هو قلب الياء همزةً.
__________
(1) ينظر شرح الشافية 2/52، وشذا العرف 133، والقول الفصل 108، 111.
(2) ينظر الكتاب 3/351.
(3) ينظر المقتضب 1/285.
(4) ينظر التبصرة والتذكرة 2/596.(11/353)
والأجود: هو ماذهب إليه الخليل بن أحمد، وهو قلب الياء همزةً؛ لأنّه مذهب جمهور النّحويين كالسيرافيّ، وابن مالك، وأبي حيّان، وابن عقيل، والسّلْسيليّ، وابن جماعة، والسيوطيّ، والصّبان، وغيرهم (1) .
قال السيرافيّ معلّلاً مذهب الخليل: (فأمّا من همز؛ فلأنّ الياء وقعت بعد ألفٍ، وكان حقُّها أن تُهمز قبل النّسبة وتُعلّ، ولكنّهم صحّحوها وهي شاذّةٌ، فلمّا نُسب إليها وزِيدت ياءُ النسبة ثقلت، فردّوها إلى ماكان يوجبه القياس من الهمز) (2) .
وقال ابن مالك: (وفي نحو: "غايَةٍ" ثلاثة أوجهٍ: أجودها الهمز) (3) .
قال ابن عقيل موضّحاً جودة الهمز: (وذلك لسلامته من ثقل الياءات، مع الكسر الموجود، ذلك في الوجه الأول – أي: غايِيّ -؛ ومن الإبدال بعد الإبدال، كما في الوجه الثالث – أي: غاوِيّ -) (4) .
وقال السيوطيّ: (والهمز أجود؛ لأنّ فيه سلامةً من استثقال الياءات، وإبدالٌ أخفُّ من إبدالين) (5) .
المبحث الثاني: اختلافهما في باب الهمز، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في تخفيف الهمزتين المجتمعتين في كلمتين.
اعلم أنّ الهمزتين المتحركتين إذا التقتا في كلمتين منفصلتين، فهما على ضربين:
الأول: أن تكونا متفقتي الحركة. والثاني: أن تكونا مختلفتي الحركة.
فإن اتفقتا في الحركة فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: اتفاقهما في الكسر، كقوله: (هؤلاءِ إِنْ كنتم) [البقرة: 31) .
الثاني: اتفاقهما في الفتح، كقوله: 0جاءَ أَشراطها) [محمد: 18] .
الثالث: اتفاقهما في الضم، كقوله: (أولياءُ أُولئك) [الأحقاف: 32] .
__________
(1) ينظر هامش الكتاب3/350، والتسهيل 264، والارتشاف 2/626، والمساعد 3/375،وشفاء العليل 3/1023، وحاشية ابن جماعة 117، والهمع 2/196، وحاشية الصبان 4/181، والنّحو الوافي 4/722.
(2) ينظر هامش التعليقة 3/174، وانظر هامش الكتاب 3/350.
(3) ينظر التسهيل 264.
(4) ينظر المساعد 3/357.
(5) ينظر الهمع 2/196.(11/354)
أمّا إذا اختلفتا في الحركة – وهو الضرب الثاني - فعلى خمسة أقسام، وكانت القسمة تقتضي ستةً:
الأول: مضمومة ومفتوحة، كقوله: (السُّفهاءُ أَلا) [البقرة: 13] .
الثاني: مفتوحة ومضمومة، عكس الأول، كقوله: (جاءَ أُمّة) [المؤمنون: 44] .
الثالث: مكسورة ومفتوحة، كقوله: (وِعاءِ أَخيه) [يوسف: 76] .
الرابع: مفتوحة ومكسورة، عكس الثالث، كقوله: (شُهداءَ إِذْ حضر) [البقرة: 133] .
الخامس: مضمومة ومكسورة، كقوله: (مَن يشآءُ إِلى) [البقرة: 142] .
السادس: مكسورة ومضمومة، عكس الخامس، ولم يرد له شاهد في القرآن.
هذه أقسام التقاء الهمزتين المتحركتين في كلمتين منفصلتين (1) .
واعلم أنّ القُرّاء والنّحويين اختلفوا في تحقيق الهمزتين معاً، أو تخفيفهما، أو تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإسقاطها، أو العكس، أو تسهيل إحداهما في الأقسام السابقة.
قال ابن الحاجب: (وفي كلمتين يجوز تحقيقهما، وتخفيفهما، وتخفيف إحداهما على القياس) (2) .
وقال سيبويه: (واعلم أنّ الهمزتين إذا التقتا وكانت كلُّ واحدة منهما من كلمة، فإنّ أهل التحقيق يخفّفون إحداهما، ويستثقلون تحقيقهما لما ذكرت لك، كما استثقل أهل الحجاز تحقيق الواحدة، فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحقَّقا) (3) .
وحاصل الخلاف بين القُرّاء والنّحويين في المسألة يتلخص في أربعة مذاهب (4) :
__________
(1) ينظر السبعة 138، والتبصرة في القراءات 75، والكشف 1/74، وشرح الهداية 1/46، والتيسير 33، والتذكرة 1/157، والإقناع 1/377، وكشف المشكل 2/404، والنشر 1/382، والإتحاف 1/193.
(2) ينظر الشافية 92، وانظر شرح الشافية 3/65.
(3) ينظر الكتاب 3/548، وانظر المقتضب 1/295، والأصول 2/404.
(4) ينظر الخلاف في مصادر هامش "27" السابق، وأيضاً- الكتاب 3/548، والمقتضب 1/295، والأصول 2/404، والتكملة 220، وهامش التعليقة 4/48، وابن يعيش 9/118، والمقرب 2/36، وشرح الشافية 3/65، والارتشاف 2/729، والجاربردي 265.(11/355)
الأول: تحقيق الهمزتين جميعاً، سواء اتفقتا في الحركة أم اختلفتا؟
وهو مذهب ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وخلف، ورُوح عن يعقوب؛ وهو قول عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ من النّحويين.
وقد ذهب سيبويه إلى عدم تجويزه وحكم على تحقيق الهمزتين بالرداءة، فقال: (وأمّا الهمزتان فليس فيهما إدغام في مثل قولك: "قرأ أبوك"، و"أقْرِئْ أباك"؛ لأنّك لايجوز لك أن تقول: "قرأ أبوك" فتُحققهما …، وزعموا أنّ ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأُناسٌ معه، وقد تكلم ببعضه العربُ، وهو رديءٌ) ، وما ذهب إليه سيبويه من عدم التجويز والحكم على تحقيق الهمزتين بالرداءة، هو مذهب المبرد، وابن السراج (1) .
والصحيح: هو خلاف ماذهبوا إليه، فإنّه قد سُمع التحقيق فيهما، وقُرئ بهما (2) .
الثاني: تخفيف الأولى (أي إسقاطها) وتحقيق الثانية، وهو مذهب أبي عمروٍ من القُرّاء والنّحويين في الهمزتين المتفقتين في الحركة، - أي الأقسام الثلاثة من الضرب الأول - ووافقه ابن شنبوذ عن قُنبل، ووافقهم على ذلك في المفتوحتين خاصةً قالون عن نافع، والبَزّيّ عن ابن كثير، وسهّلا الأولى من المكسورتين، ومن المضمومتين بين بين مع تحقيق الثانية.
قال سيبويه: (فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحقَّقا، ومن كلام العرب تخفيف الأولى وتحقيق الآخرة، وهو قول أبي عمروٍ، وذلك كقولك: "فقد جا أَشراطها"، و"يازكريّا إِنّا نُبشرك") (3) .
__________
(1) ينظر الكتاب 4/443، والمقتضب 1/295، والأصول 2/404.
(2) ممن ذهب إلى جواز تحقيقهما الرمانيّ؛ ينظر هامش التعليقة 4/49، وانظر الارتشاف 730.
(3) ينظر الكتاب 3/549، وانظر المقتضب 1/295، والأصول 2/404، والتكملة 220.(11/356)
الثالث: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بإسقاطها، وهو مذهب الخليل بن أحمد من النّحويين، وبه قرأ ابن كثيرٍ في رواية قُنبل قوله: (هؤلاءِ انْ) ، بهمز الأولى وتخفيف الثانية؛ وهو قول نافعٍ في رواية وَرْش، نصّ على ذلك ابن مجاهد (1) ، وهو مخالفٌ لما أثبته جمهور القُرّاء؛ إذْ أثبتوا عنهما تحقيق الهمزة الأولى كالخليل، وتسهيل الهمزة الثانية لاتخفيفها، واختلفوا في صور التسهيل عنهما، على ماهو مبيّن في كتب القراءات.
وما ذهب إليه الخليل هي قراءة نافعٍ، وابن كثيرٍ، وأبي عمروٍ، وأبي جعفرٍ، ورُويس عن يعقوب، في الهمزتين المختلفتين في الحركة – أي الأقسام الخمسة من الضرب الثاني -، فوافقوا الخليل في تحقيق الهمزة الأولى، وخالفوه في عدم حذف الثانية، بل سهّلوها على ماتقتضيه مقاييسُ العربية من وجوه التسهيل (2) .
وإلى مذهب الخليل أشار سيبويه بقوله: (ومنهم من يُحقّق الأولى ويخفّف الآخرة، سمعنا ذلك من العرب، وهو قولك: "فقد جاءَ اشْراطها"، و"يازكريّاءُ انّا"، وكان الخليل يستحبُّ هذا القول) (3) .
الرابع: تخفيف الهمزتين جميعاً، وهذا المذهب لم يقرأ به أحدٌ من القُرّاء، وإنّما هو لغة أهل الحجاز، قال سيبويه: (وأمّا أهل الحجاز فيخفّفون الهمزتين؛ لأنّه لو لم تكن إلاّ واحدة لخُففّت) .
وقال: (وأمّا أهل الحجاز فيقولون: "اقرا آيةً"؛ لأنّ أهل الحجاز يخفّفونهما جميعاً، يجعلون همزة "اقْرأْ" ألفاً ساكنة، ويخفّفون همزة "آية"، ألا ترى أنْ لو لم تكن إلاّ همزة واحدة خفّفوها، فكأنّه قال: "اقرا" ثم جاء "بآية"، ونحوها) (4) .
__________
(1) ينظر السبعة 140.
(2) مفهوم التسهيل وضّحه الدّاني في التيسير 34؛ ووجوه التسهيل بيّنها ابن الجزري في النشر 1/388.
(3) ينظر مصادر هامش "33" السابق.
(4) ينظر الكتاب 3/550.(11/357)
ولكلِّ مذهبٍ من المذاهب الأربعة السابقة حجّتُه وعلّته (1) .
واعلم أنّ ماسبق ذكره يختصّ بالخلاف بين القُرّاء والنّحويين عامّة، أمّا الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل في المسألة، فيتلخص فيما يلي:
أولاً: مذهب أبي عمروٍ في التقاء الهمزتين في كلمتين، هو حذف الأولى وتحقيق الثانية.
ثانياً: مذهب الخليل هو تحقيق الأولى وحذف الهمزة الثانية.
ثالثاً: مذهب سيبويه جواز الوجهين، فقال – بعد ذكره لمذهب أبي عمروٍ والخليل -: (وكلٌّ عربيٌّ) .
وأكّد مذهبه بقوله: (وتقول: "اقْرا آيةً" في قول من خفّف الأولى؛ لأنّ الهمزة الساكنة أبداً إذا خُفّفت أُبدل مكانَها الحرفُ الذي منه حركةُ ماقبلها.
ومن حقّق الأُولى، قال: "اقْرَ آيةً"؛ لأنّك خفّفتَ همزةً متحركة قبلها حرفٌ ساكنٌ، فحذفتها وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها) (2) .
إذاً: خلاصة الخلاف بينهما أن الخليل يرى تخفيف الثانية على كلّ حالٍ، وأمّا سيبويه فيرى جواز الوجهين، أعني: تخفيف الأولى وتحقيق الهمزة الثانية، ويرى العكس، وهو ماعبّر عنه بقوله: (وكلٌّ عربيٌّ) ، وبقوله: (واعلم أنّ الهمزتين إذا التقتا في كلمةٍ واحدةٍ لم يكن بُدُّ من بدل الآخرِة، ولا تُخفّف؛ لأنّهما إذا كانتا في حرف واحد لزم التقاءُ الهمزتين الحرفَ.
وإذا كانت الهمزتان في كلمتين، فإنّ كلّ واحدة منهما قد تجرى في الكلام، ولا تَلزَق بهمزتها همزةٌ، فلما كانتا لا تُفارِقان الكلمة كانتا أثقل، فأبدلوا من إحداهما، ولم يجعلوهما في الاسم الواحد والكلمة الواحدة بمنزلتهما في كلمتين) (3) .
__________
(1) ينظر الكتاب 3/549، والمقتضب 1/295، والكشف 1/74، وشرح الهداية 1/46، وشرح الشافية 3/65.
(2) ينظر الكتاب 3/549، 550.
(3) ينظر الكتاب 3/552.(11/358)
وقد رجّح المبرد مذهب الخليل، فقال: (وكان الخليل يرى تخفيف الثانية على كلّ حالٍ، ويقول: لأنّ البدل لايلزم إلاّ الثانية، وذلك لأنّ الأُولى يُلفظ بها، ولا مانع لها، والثانية تمتنع من التحقيق من أجل الأُولى التي قد ثبتت في اللفظ، وقولُ الخليل أقيسُ، وأكثر النّحويّين عليه) (1) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في الهمز والنّبر، أهما شيءٌ واحدٌ، أم بينهما فرقٌ؟
اختلف سيبويه مع الخليل في الهمز والنّبر، أهما شيءٌ واحدٌ، أم بينهما فرقٌ؟
فذهب الخليل إلى أنَّ النّبر دون الهمز، وذّلك أنّ الهمزة إذا خُفّفت ذهب بذلك معظم صوتها، وخفّ النّطق بها، فتصير نبْرةً، أي: همزة غير محققة؛ وهو قول بعض القراء والنّحويّين.
قال الخليل: (وأمّا الهمزة فمخرجُها من أقصى الحلق مهتوتةً مضغوطةً، فإذا رُفِّه عنها لانت) (2) .
وقد وضّح أبو عمروٍ الدانيّ الفرق بين الهمز والنبر، وكذا مذهب الخليل وغيره من القُرّاء، فقال: (وقال – أي الخزاعي فيما رواه عن ابن كثيرٍ – وكان يقرأ "شعائر الله" بنبرة، قال: والنبرة عندهم دون الهمز، قال: وكذلك" خزائن، وبصائر" ونحوها، وقال ابن مجاهدٍ عن الأصبهانيّ عن أصحابه عن ورْشٍ عن نافعٍ في حروفٍ من الهمز منبورة، قال: والنّبرةُ عندهم همزةٌ ضعيفةٌ، كأنّها همزةٌ بين بين وليست بهمزةٍ ثابتةٍ، فوافق الخزاعيَّ فيما حكاه من كونها كذلك.
وقال الخليل بن أحمد: النبرة ألطفُ وألينُ وأحسنُ من الهمزة، وهذا أيضاً موافق لما حكيناه) (3) .
__________
(1) ينظر المقتضب 1/295، 296.
(2) ينظر العين 1/52، ومقدمة تهذيب اللغة 59.
(3) ينظر جامع البيان في القراءات السبع 1/113/أ، والتبيان في شرح مورد الظمآن 46/ب.(11/359)
أي: أنّ الهمز عند الخليل هو الصوت المحقَّقُ للهمزة الذي يخرج من أقصى الحلق؛ والنّبر: هو الهمزة المخففة بوجهٍ من وجوه التسهيل. وهذا مذهب الزمخشري، وابن يعيش، فقال: (اعلم أنّ الهمزة حرفٌ شديدٌ مستثقلٌ، يخرج من أقصى الحلق؛ إذْ كان أدْخلَ الحروف في الحلق، فاستثقل النطق به، إذْ كان إخراجُه كالتهوّع، فلذلك الاستثقال ساغ فيها التخفيف، وهو لغة قريش وأكثر أهل الحجاز، وهو نوعُ استحسانٍ لثقل الهمزة، والتحقيق لغة تميم وقيس، قالوا: لأنّ الهمزة حرف فوجب الإتيان به كغيره من الحروف. وتخفيفها كما ذَكر: يكون بالإبدال، والحذف، وأن تُجعل بين بين؛ فالإبدال: بأن تُزيل نبْرتها فتَلين، فحينئذٍ تصير إلى الألف والواو والياء على حسب حركتها وحركة ماقبلها، وأمّا الحذف فأنْ تُسقطها من اللفظ البتة؛ وأمّا جعلُها بين بين، أي: بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها، فإذا كانت مفتوحةً تجعلها بين الهمزة والألف، وإذا كانت مضمومةً بين الهمزة والواو، وإذا كانت مكسورةً بين الياء والهمزة) (1) . وأما سيبويه فإنّه لايرى فرقاً بين الهمز والنّبر، بل هما اسمان لمسمّى واحدٍ، فالهمزة المحققة عنده تسمّى نَبْرة، والعكس، أي: أنّ اختلاف الاسم – عنده – لايوجب اختلاف المسمّى، فقال: (واعلم أنّ الهمزة إنّما فَعَلَ بها هذا من لم يخفّفها؛ لأنّه بَعُد مخرجُها؛ ولأنّها نبْرةٌ تخرج باجتهاد، وهي أبعد الحروف مخرجا، فثقل عليهم ذلك؛ لأنّه كالتهوُّع) (2) ، فنلحظ من كلامه أنّه سوّى بين الهمزة والنّبرة.
والرّاجح هو قول سيبويه؛ لأنّه مذهب جمهور اللُّغويين، والنّحويين، والقُرّاء؛ إِذْ ذهبوا إلى أنّ الهمز والنّبر مترادفان على معنى واحدٍ.
__________
(1) ينظر المفصل 349، وابن يعيش 9/107.
(2) ينظر الكتاب 3/548، وانظر الإقناع 1/358، وشرح الشافية 3/31.(11/360)
قال ابن السكيت: (والنّبْرُ: مصدرُ نبرت الحرف نبْراً، إذا همزتَه) (1) . وقال ابن فارس: (النّبْر في الكلام: الهمز، وكلُّ شيء رَفَع شيئاً فقد نَبَره، ولذلك سُمّي المنبر) ؛ وهو قول الجوهريّ، وابن منظور (2) . وإليه ذهب العكبريّ، والرضيّ وغيرهما من النّحويّين، قال العكبريّ: (اعلم أنّ الهمزة نبْرة تخرج من أقصى الحلق يشبه صوتها التهوّع) (3) .
وقد رجّح مذهب سيبويه من القُرّاء أبو عمرو الدّانيّ، فقال: (4)
والهمزُ فيه كُلْفةٌ وتعْبُ
لأنّه حرفٌ شديدٌ صعْبُ
يُخرجُهُ الناطقُ باجتهادِ
من صدْره وقُوّة اعتمادِ
يُعيبه الكُلفةُ والتّنطعْ
إذْ هو كالسَّعلةِ والتهوّعْ
لذاك فيه النقلُ والتسهيلُ
بالجعْلِ بينَ بينَ والتّبديلُ
والهمزُ والنّبْرُ هما لقبانِ
لواحدٍ بذاك يُعلمانِ
وقال أهلُ العلمِ بالحروفِ
النّبرُ تعبيرٌ عن التّخفيفِ.
المبحث الثالث: اختلافهما في باب القلب المكانيّ، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في الجمع الأقصى لمفردٍ لامه همزة قبلها حرف مدّ، كخطايا.
اعلم أنّ القلب هو: (تقديم بعض حروف الكلمة على بعضٍ) (5) .
وعرَّفه أبو حيّان – أيضاً – فقال هو: (تصيير حرفٍ مكان حرفٍ بالتقديم والتأخير) (6) .
وأكثر مايكون القلب في المعتل والمهموز، وقد جاء في غيرهما قليلاً، نحو: رعملي في لَعمْري؛ وامضحلَّ في اضْمَحلَّ؛ واكرَهفَّ في اكفَهرَّ (7) .
__________
(1) ينظر إصلاح المنطق 16.
(2) ينظر مجمل اللغة "نبر" 852، والصحاح 2/822، ولسان العرب 5/189.
(3) ينظر اللباب في علل البناء والإعراب 2/443، وانظر إملاء مامَنّ به الرحمن 1/14، وشرح الشافية 3/31.
(4) ينظر الأُرجوزة المنبهة 235، 236.
(5) ينظر شرح الشافية 1/21، وانظر حاشية ابن جماعة 21، والمغني 33، وتصريف الأفعال 52.
(6) ينظر الارتشاف 1/334، وانظر الهمع 2/224.
(7) ينظر التسهيل 315، وشرح الشافية 1/21، والارتشاف 1/334، والهمع 2/224.(11/361)
والقلب المكانيّ له إماراتٌ وأنواعٌ يكثر فيها، أمّا إماراته التي يُعرف بها، فقد ذكر ابن الحاجب أنّ القلب يعرف بستة أوجهٍ، فقال: (ويُعرف القلب بأصله: كنَاءَ يناءُ مع النأْي؛ وبأمثلة اشتقاقه: كالجاهِ والحادي والقِسِيّ؛ وبصحّته: كأَيس؛ وبقلّة استعماله: كآرامٍ وآدُرٍ، وبأداء تركه إلى همزتين عند الخليل: نحو: جاءٍ؛ أو إلى منع الصرف بغير علّةٍ على الأصحّ: نحو: أشياءَ) (1) .
وقد ذهب ابن عصفورٍ إلى أنّ القلب يعرف بأربعة أشياء (2) ، وذهب ابن مالك إلى أنّه يُعرف بدليل واحدٍ، فقال: (وعلامة صحّة القلب: كونُ أحدِ التأليفين فائقاً للآخرِ ببعضٍِ التصريف، فإن لم يثبتْ ذلك فهما أصلان) (3) .
وأمّا أنواعه التي يكثر فيها، فهي: (4)
تقديم اللام على العين، وهو أكثرها، نحو: راء في رأى، وناء في نأى.
تقديم العين على الفاء، نحو: أَيس في يئس، وجاه في وجه.
تقديم اللام على الفاء، نحو: أشياء في شَيْئاء.
تأخير الفاء عن اللام، نحو: حادي في واحد.
تقديم اللاّم الأولى على العين، وهو أقلّها، نحو: طأمن في طمْأَن.
واعلم أنّ سيبويه والخليلَ اختلفا في نحو: (خَطَايا، وبَرايا، ودَنَايا) جمع: (خَطِيئة، وبَرِيئة، ودَنيئة) أي: أنّهما اختلفا في الجمع الأقصى الذي على وزن (فَعَائِل) إذا وقعت الهمزة بعد ألف الجمع، وكانت تلك الهمزة عارضةً فيه، وكانت لام مفرده أصلها همزة، فذهب سيبويه إلى قلب الهمزة العارضة ياءً، أمّا الخليل فإنّه يذهب إلى القلب المكاني، فيجعل الياءَ موضع الهمزة، والهمزةَ موضع الياء.
__________
(1) ينظر الشافية 8، وانظر شرح الشافية 1/21، والجاربردي وحاشية ابن جماعة 21، والهمع 2/225، وشذا العرف 23.
(2) ينظر المقرب 2/197.
(3) ينظر التسهيل 316، وانظر المساعد 4/212، وشفاء العليل 3/1110.
(4) ينظر الخصائص 2/73، والتسهيل 315، والارتشاف 1/335، والهمع 2/224، والمغني 34، وتصريف الأفعال 52.(11/362)
ومُؤدَّى الخلاف بينهما: هو أنّ عدم القلب المكانيّ – عند الخليل – يؤدى إلى اجتماع همزتين، لذا أوجب الفرار ممّا يؤدي إليهما، وإنّما دعا الخليلَ إلى ارتكاب وجوب القلب في مثله، أداء ترك القلب إلى اجتماع إعلالين في الكلمة الواحدة، كما هو مذهب سيبويه، والقولُ بالقلب دَفْعٌ لاجتماعهما.
وأمّا سيبويه فإنّه لايقول به، وإن أدّى تركه إلى اجتماع همزتين، ومن ثمّ اجتماع إعلالين؛ لأنّ اجتماع الهمزتين يزول – عنده – بقلب الهمزة العارضة ياءً، فيتخلص مما يجتنبه الخليل مع عدم ارتكاب القلب الذي هو خلاف الأصل.
فأصل "خطايا" عندهما: "خطايئ" بياءٍ مكسورة هي ياءُ "خطيئةٍ"، وهمزة بعدها هي لامها، ثم أُبدلت الياءُ المكسورة همزة لوقوعها بعد ألف الجمع على حد إبدالها في (صحائف) ، فصارت "خطائِئ" بهمزتين: الأُولى مبدلة من الياء، والثانية هي لام الكلمة؛ ثمّ أُبدلت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة ياءً؛ لأنّ الهمزة المتطرفة بعد همزة تقلب ياءً مطلقاً، فبعد المكسورة أولى، فصارت "خطائِي" وما سبق ذكره من خطوات هو مذهب سيبويه.
أمّا الخليل فيختصر الخطوات السابقة بتقديم الهمزة على الياء، فتصير "خطائِي".(11/363)
ثمّ بعد ذلك اتفق الخليل وسيبويه في باقي الخطوات، وهي: قلب كسرة الهمزة الأولى فتحةً وذلك للتخفيف، فصارت "خطائَي"؛ ثم قُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ماقبلها، فصارت "خطاءا" بألفين بينهما همزة، والهمزة تُشْبُه الألف، فاجتمع شبه ثلاث ألفات، وذلك مستكرهٌ، فأُبدلت الهمزة ياءً ولم تُبْدل واواً؛ لأنّ الياء أخفُّ منها، فصارت "خطايا" وذلك بعد خمس خطوات في مذهب سيبويه، وأربعٍ في مذهب الخليل بن أحمد (1) .
قال سيبويه: (وأمّا "خطايا" فكأنّهم قلبوا ياءً أُبدلت من آخر "خطايا" ألفاً؛ لأنّ ماقبل آخرها مكسور، ... وأبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخر ياءً، وفُتحت للألف، ... فلمّأ أبدلوا من الحرفِ الآخر ألفاً، استثقلوا همزةً بين ألفين، لقرب الألفين من الهمزة، ... أبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخرة ياءً) (2) .
والرّاجح: مذهب سيبويه، وهو قول الجمهور؛ لأنّ الخليل اُعترض عليه بأنّهم قد نطقوا باجتماع الهمزتين، مما يدلّ على صحة مذهب سيبويه، إذْ قال بعض العرب: "اللهمّ اغفر لي خطائِئ" – بهمزتين – على الأصل، وهو شاذٌٌّ (3) .
قال ابن جني: (ومذهب مَنْ لم يقُل بالقلب في "خطايا" عندي أقوى من قول الخليل) (4) .
قلت: ثمرة الخلاف بينهما هو أنّ وزن "خطايا" عند الخليل (فَعَالِي) ، ووزنها عند سيبويه (فَعَايِل) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز اللاّم.
__________
(1) ينظر التكملة 597، والمنصف 2/54، وابن يعيش 9/117، وشرح الشافية 3/59، وأوضح المسالك 3/321، والمساعد 4/214، وتوضيح المقاصد 6/19، والإنصاف 2/806، وإملاء مامنّ به الرحمن 1/38، والتصريح 2/371، وشذا العرف 154، والقواعد والتطبيقات 37، ومنجد الطالبين 54.
(2) ينظر الكتاب 3/553.
(3) ينظر المنصف 2/57، وابن يعيش 9/116، وتوضيح المقاصد 6/19، والتصريح 2/371.
(4) ينظر المنصف 2/57.(11/364)
اختلف سيبويه والخليل في الاسم الثلاثي المهموز اللام، إذا كانت عينه واواً أو ياءً، وذلك نحو: سَاءَ يسُوءُ، وناءَ ينُوءُ، وجاءَ يجيئ، وشاءَ يشاءُ، إذا بنيت منها اسم الفاعل فإنّك تقول: سَاءٍ، ونَاءٍ، وجَاءٍ، وشاءٍ.
فهو كاسم الفاعل من "قام" وأمثاله، في أنّك إذا أُبدلت من العين همزة، قلت "قائم"، إلاّ أنّ اسم الفاعل من "جاء" يخالف اسم الفاعل من "قام" في أنّه إذا أبدلت عينُه همزةً، التقت همزتان، الأُولى: بدلٌ من عين الكلمة، والثانية: هي لام الفعل، فأُبدلت الهمزة الثانية ياءً، لكسر ماقبلها؛ لأنّه لايلتقي همزتان في كلمةٍ إلاّ لزم الآخرةَ منهما البدلُ، فتصير: "جائِيٌ"، ثم صارت: جاءٍ، عُوملت معاملة: قاضٍ؛ ومثلها: ساءٍ، وناءٍ، وشاءٍ؛ وهذا مذهب سيبويه في أنّه غير مقلوبٍ، ووزنه "فاعل".
أمّا مذهب الخليل فإنّه يقلب اللاّم في موضع العين، فلم تلتق همزتان، فأصل "جاءٍ" في مذهبه: جايئٌ، ثم قَلب فصار: جائيٌ، فالهمزة التي تلي الألفَ، إنّما هي لام الفعل التي لم تزل همزةً قُدّمت على عين الفعل التي كانت تُهمز للاعتلال إذا كانت إلى جانب الألف، ثم صارت: جاءٍ، بمنزلة: قاضٍ، ووزنه – عنده – "فالع، ثم فَالٍ" (1) .
قال سيبويه: (وأمّا الخليل فكان يزعم أنّ قولك: "جاءٍ وشاءٍ" ونحوهما، اللاّم فيهنّ مقلوبةٌ، وقال: أَلزمُوا ذلك هذا واطّرد فيه، إذْ كانوا يقلبون كراهية الهمزة الواحدة) .
__________
(1) ينظر المقتضب 1/253، والتكملة 595، والمنصف 2/52، وابن يعيش 9/117، وشرح الشافية 1/25، والممتع 2/509، والمساعد 4/213، والارتشاف 1/335.(11/365)
وقبل ذلك بيّن سيبويه مذهبه، فقال: (فهذه الحروف تجري مجرى: قال يقول، وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، إلاّ أنّك تحوّل اللام ياءً إذا همزت العين، وذلك قولك: جاءٍ، كما ترى همزت العين التي همزت في "بائع" واللام مهموزه، فالتقت همزتان، ولم تكن لتجعل اللام بين بين من قِبل أنّهما في كلمة واحدةٍ، وأنّهما لايفترقان، فصار بمنزلة مايلزمه الإدغام؛ لأنّه في كلمة واحدة، وأنّ التضعيف لايفارقه) .
وفي نهاية المسألة أكّد مذهبه، فقال: (فهذا تقويةٌ لمن زعم أنّ الهمزة في "جاءٍ" هي الهمزة التي تُبدل من العين) ثم قال: (وكلا القولين حسنٌ جميلٌ) (1) .
قال ابن عقيل: (وهذا يقتضي إجازته كُلاًّ منهما، لكنّ الأوّلَ هو الأرجح؛ لأنّ من قاعدته أن كثرة العمل مع الجري على القواعد، أولى من قلبه مع المخالفة) (2) .
وقد اختلف النّحاة في الأخذ بأحد المذهبين، فذهب ابن مالك، والرضيّ إلى ترجيح مذهب سيبويه في عدم القلب، قال ابن مالك: (وليس "جاءٍ" و"خطايا" مقلوبين خلافاً للخليل) (3) .
وذهب أبو عليّ الفارسيّ، وابن يعيش، وابن عقيل إلى ترجيح مذهب الخليل، وهو القول بالقلب المكانيّ (4) .
وذهب بعض النّحويين – وهو الراجح - إلى أنّ كلا القولين حسنٌ جميلٌ، كما ذكر سيبويه في نهاية كلامه، ومن هؤلاء: المبرد، وابن جنى، وابن عصفور، وأبو حيّان، وغيرهم (5) .
المطلب الثالث: الخلاف بينهما في جمع اسم الفاعل ك"جائية" على "فواعل".
__________
(1) ينظر الكتاب 4/376، 377، 378.
(2) ينظر المساعد 4/213.
(3) ينظر التسهيل 316، وانظر شرح الشافية 1/25.
(4) ينظر التكملة 596، وابن يعيش 9/117، والمساعد 4/213.
(5) ينظر المقتضب 2/254، والمنصف 2/53، والممتع 2/510، والارتشاف 1/335.(11/366)
اعلم أنّ سيبويه اختلف مع شيخه الخليل في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثيّ المهموز اللام – كما بيّنته سابقاً – كما أنّهما اختلفا – أيضاً – في جمعه، أي: اسم الفاعل على "فَواعل"، نحو: جَواءٍ، وسَواءٍ، جَمْعي: جائية، وسائية.
فمذهب الخليل أنّ أصل "جواءٍ": "جوايئٌ"، ثمّ قَلب اللام في موضع العين؛ لئلاّ تلتقي همزتان، فصار "جوائيٌ"، على وزن (فوالع) ، فالهمزة التي تلي الألف إنّما هي لام الجمع، قُدّمت على العين التي كانت تُهمز إذا كانت إلى جانب الألف، ثمّ عُومل الجمع معاملة "قاضٍ"، فصار: جواءٍ، على وزن (فوالٍ) .
أمّا سيبويه فلا يرى القلب وإن أدّى ذلك إلى اجتماع همزتين في الطرف، وهو ما احترز منه الخليل، وحَمَلَه على ارتكاب وجوب القلب؛ لأنّ ترْكَه يُؤدّي إلى اجتماع إعلالين كما هو مذهب سيبويه، هما: قلب العين همزةً، وقلب الهمزة التي هي لامٌ ياءً، ولا يلزم ذلك في قول الخليل.
فأصل "جواءٍ" في مذهب سيبويه: "جوايئٌ"، فأُبدلت الياء التي هي عين الجمع همزة؛ لوقوعها بعد الألف، فصارت "جوائئ"، فاجتمعت همزتان فأُبدلت الهمزة الثانية ياءً؛ لانكسار ماقبلها، فصارت "جوائي"، على وزن (فواعل) ، ثمّ عُومل الجمع معاملة "قاضٍ"، فصار: جواءٍ، على وزن (فواعٍ) ، ولا قلب فيه، قال سيبويه: (وإذا قلت: (فواعل) من "جئت" قلت: "جَواءٍ"، كما تقول من: "شأوت: شَواءٍ"، فتجريها في الجمع على حدّ ما كانت عليه في الواحد؛ لأنّك أَجريتَ واحدها مجرى الواحد من "شأوت") (1) .
__________
(1) ينظر الكتاب 4/377.(11/367)
والرّاجح هو ما ذهب إليه سيبويه، وهو مذهب جماعة من النّحويّين كالمازنيّ، وأبي عليّ الفارسيّ، وابن جنّيّ، والرضيّ، والجاربرديّ وغيرهم، قال المازنيّ: (وإذا كانت الهمزة ثابتة في الواحد، ثمّ كَسّرت ذلك الواحد على هذا المثال لم تُغيّر الهمزة؛ لأنّها لم تَعرِض في جمعٍ، وذلك أنّك إذا جمعت "جائية" على "فواعل"، قلت: "جواءٍ" مثل "جواعٍ"؛ لأنّ الهمزة لم تَعرِض في جمعٍ فيُفعل بها ما فُعل ب"خطايا، ومطايا، وحيايا، وسوايا") (1) .
وفي القلب المكانيّ أربع وقفات:
الوقفة الأولى: ذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ القلب المكانيّ يكون قياسيًّا في كلّ ما يؤدي ترك القلب فيه إلى اجتماع همزتين في الطرف، وذلك في ثلاث صور:
الصورة الأولى: كلّ جمعٍ أقصى لمفردٍ لامه همزة، قبلها حرف مدٍّ، نحو: "خطايا" في جمع "خطيئة".
الصورة الثانية: اسم الفاعل من الأجوف الثلاثيّ المهموز اللام، نحو: جاءٍ، وساءٍ.
الصورة الثالثة: جمع اسم الفاعل – السابق – على "فواعل"، نحو: جواءٍ، وسواءٍ، جَمْعي: جائية، وسائية.
فإنّ هذه الصور عند الخليل قياسيّة، أمّا سيبويه ومن تبعه من جمهور النحويّين فلا يحكمون بقياسيّتها، وإن أدّى ترْكه إلى اجتماع همزتين.
__________
(1) ينظر المنصف 2/63، وانظر التكملة 596، وشرح الشافية 1/25، والممتع 2/511، والارتشاف 1/336، والجاربرديّ 311.(11/368)
قال الرضيّ: (وليس شيءٌ من القلب قياسيّاً إلاّ ما ادعى الخليل فيما أدّى ترْك القلب إلى اجتماع همزتين ... ، فإنّه عنده قياسيٌّ ... ، وليس ما ذهب إليه الخليل بمتينٍ، وذلك لأنّه إنّما يُحترز عن مكروهٍ إذا خيف ثباتُه وبقاؤه، أمّا إذا أدّى الأمر إلى مكروهٍ وهناك سببٌ لزواله، فلا يجب الاحتراز من الأداء إليه، ... وإنّما دعا الخليلَ إلى ارتكاب وجوب القلب في مثله، أداء ترْك القلب إلى إعلالين كما هو مذهب سيبويه، وكثرةُ القلب في الأجوف الصحيح اللام، نحو: شاكٍ وشواعٍ، في: شائك وشوائع، فلمّا رأى فرارَهم من الأداء إلى همزةٍ في بعض المواضع، أوجب الفرار ممّا يؤدي إلى همزتين) (1) .
الوقفة الثانية: توسّع الكوفيّون في إطلاق القلب على كلّ كلمتين اتحد معناهما، ووُجد بينهما خلافٌ في تقديم بعض الحروف على بعضٍ، مع وجود المصدرين لكلٍّ من الفعلين، نحو: جَبَذ، وجذب.
أمّا البصريّون فلا يرون القلب إن وُجد المصدران لكلّ واحدٍ من الفعلين، بل هما أصلان، وليس أحدهما مقلوباً من الآخر (2) .
قال سيبويه: (وأمّا جَذَبت وجَبَذت ونحوه فليس فيه قلبٌ، وكلّ واحدٍ منهما على حِدَته؛ لأنّ ذلك يطّرد فيهما في كلّ معنىً، ويتصرّف الفعل فيه، وليس هذا بمنزلة مالا يطّرد ممّا إذا قلبتَ حروفه عمّا تكلّموا به، وجدتَ لفظه لفظَ ماهو في معناه من فعلٍ، أو واحدٍ هو الأصل الذي ينبغي أن يكون ذلك داخلاً عليه كدخول الزوائد) (3) .
__________
(1) ينظر شرح الشافية 1/24، 25، وانظر الجاربردي وحاشية ابن جماعة 24، 310، والمغنى 39، وتصريف الأفعال 60.
(2) ينظر الارتشاف 1/336، والمزهر 1/481، والمغني 33.
(3) ينظر الكتاب 4/381.(11/369)
وقد عقد ابن جنّي في كتاب الخصائص باباً لهذه المسألة، سمّاه: "بابٌ في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير"، قال فيه: (اعلم أنّ كلّ لفظين وُجد فيهما تقديمٌ وتأخيرٌ فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه فهو القياس الذي لا يجوز غيره، وإن لم يمكن ذلك حكمت بأنّ أحدهما مقلوبٌ عن صاحبه، ثم أريتَ أيّهما الأصل، وأيّهما الفرع، وسنذكر وجوه ذلك: فمّما تركيباه أصلان لا قلب فيهما، قولهم: جَذَب، وجَبَذ، ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه، وذلك أنّهما جميعاً يتصرّفان تصرّفاً واحداً، نحو: جذَب يَجْذِب جَذْباً فهو جاذب، والمفعول مجذوب؛ وجَبَذ يَجْبِذ جبذاً فهو جابذ، والمفعول مجبوذ.
فإنَ جعلت مع هذا أحدهما أصلاً لصاحبه فسد ذلك؛ لأنّك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعدَ بهذه الحال من الآخر، فإذا وُقفتِ الحالُ بينهما ولم يُؤثَر بالمزيّة أحدهما وجب أن يتوازيا وأن يمثُلا بصفحتيهما معاً، وكذلك ما هذه سبيله) (1) .
الوقفة الثالثة: أنكر ابن دُرُستويه القلب المكانيّ، وذهب إلى أنّه لغةٌ أُخرى، قال السيوطيّ: (ذهب ابن دُرُستويه إلى إنكار القلب، فقال في شرح الفصيح: في البطّيخ لغةٌ أُخرى: طبّيخ بتقديم الطاء، وليست عندنا على القلب كما يزعم اللُّغويُّون، وقد بيّنا الحجّة في ذلك في كتاب إبطال القلب) (2) .
ولم يوافقه العلماء على ذلك، قال ابن دُريد: (باب الحروف التي قُلبت، وزعم قومٌ من النحويين أنّها لغاتٌ، وهذا القول خلافٌ على أهل اللغة، يقال: جبذ وجذب، وما أطيبه وأيْطبه، وربض ورضب ... ) (3) .
__________
(1) ينظر الخصائص 2/69، وانظر المزهر 1/481.
(2) ينظر المزهر 1/481.
(3) ينظر المزهر 1/476.(11/370)
الوقفة الرابعة: ذهب أحمد بن فارس إلى أنّ القرآن الكريم ليس فيه شيءٌ من القلب المكانيّ فيما يظنّ، وهو نحْويٌّ على مذهب الكوفيين، وهم توسعوا في إثبات القلب المكانيّ، كما بيّنته سابقاً، قال ابن فارس: (ومن سُنن العرب القلب، وذلك يكون في الكلمة، ويكون في القصّة، فأمّا الكلمة فقولهم: جَذَب وجَبَذ، وبَكَل ولَبَك، وهو كثيرٌ، وقد صنّفه علماء اللّغة.
وليس من هذا فيما أظنّ من كتاب الله – جلّ ثناؤه – شيءٌ) (1) .
قال عضيمة معلّقاً على قول ابن فارس: (وقد رجعت لما أحصيته من قراءاتٍ للقرآن الكريم، فوجدت قراءاتٍ سبعيّة متواترة يتعيّن فيها القلب المكانيّ، وأُخرى تحتمل القلب المكانيّ وغيره، أو يكون فيها قلبٌ عند بعض الصرفيين ولا يكون عند الآخرين، كما وجدت قراءاتٍ أُخرى غير سبعيّة تجرى هذا المجرى) (2) .
المبحث الرابع: اختلافهما في باب تداخل اللُّغات.
وفيه مطلبٌ هو: الخلاف بينهما في حكم تداخل اللُّغات.
من الظواهر اللُّغويّة والصرفية ظاهرة تداخل اللّغات، وذلك بأن يُؤخذ الماضي من لغةٍ، والمضارع أو الوصف من أُخرى لا تنطق بالماضي كذلك، فيحصل التَّداخُل والجمعُ بين اللغتين (3) .
قال ابن يعيش: (والمراد بتداخل اللّغات أنّ قوماً يقولون: "فَضَل" بالفتح "يَفضُل" بالضّمّ، وقوماً يقولون: "فَضِل" بالكسر "يَفضَل" بالفتح، ثم كَثُر ذلك حتى استُعمِل مضارع هذه اللغة مع ماضي اللغة الأُخرى، لا أنّ ذلك أصلٌ في اللُّغة) (4) .
إذاً: فما مفهوم التّداخُل في اللُّغة والاصطلاح؟
__________
(1) ينظر الصاحبي 329، وانظر المزهر 1/476.
(2) ينظر المغني في تصريف الأفعال 41، 42.
(3) ينظر الخصائص 1/374، والمنصف 1/208، 256، والاقتراح 67، والمزهر 1/262، والإصباح 115، والمغني 155.
(4) ينظر ابن يعيش 7/154.(11/371)
التّداخُل لغة: قال ابن منظور: (تداخُلُ الأمور: تشابُهها والتباسُها، ودخولُ بعضها في بعض. والدَّخْلةُ في اللّون: تخليطُ ألوانٍ في لونٍ) (1) .
أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه ابن الحاجب، فقال: (ومعنى تداخل اللغتين: أنْ يَثبتَ للماضي بناءانِ، والمضارعُ لكلّ واحدٍ منهما بناءٌ واحدٌ، ثمّ يتكلّم العربيّ بأحد بناءي الماضي مع بناءِ المضارع الذي ليس له، فيتوهم أنّه جارٍ عليه، وليس كذلك) (2) .
وقريبٌ منه قولُ ابن جنِّي، إذْ قال ( ... ، ثم تلاقى أصحاب اللغتين، فسمع هذا لغةَ هذا، وهذا لغة هذا، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما من صاحبه ماضمّه إلى لغته، فتركبت هناك لغةٌ ثالثة) (3) .
وقد وضّح ابن جنّي أسباب تداخُل اللّغات، وهو أن يَتلَقّى الواحد لغة غيره فيُسرع إلى قبولها، أو رفضها والاستعصام بلغته؛ أو أنّ طول تكرر سماعه للغة غيره تلصق به وتُوجد في كلامه، فقال: (واعلم أنّ العرب تختلف أحوالُها في تلقِّي الواحد منها لغةَ غيره؛ فمنهم: من يخفّ ويسرع قبولَ مايسمعه؛ ومنهم: من يستعصم فيقيم على لغته البتّة؛ ومنهم: من إذا طال تكرر لغةِ غيره لصِقت به، ووُجدت في كلامه) (4) .
واعلم أنّ النّحويّين واللّغويّين قد اختلفوا في إثبات أو نفي التّداخُل في اللّغات على مذهبين: (5)
الأول: ذهب إلى إثبات التّداخُل، وهم على فريقين:
فريق أجازه مطلقاً، وفريق أجازه بشرط ألاّ يؤدي إلى استعمال لفظٍ مهملٍ.
ومن المجوزين: الخليل بن أحمد.
الثاني: ذهب إلى عدم إثباته، وحكم على ماجاء منه بالشّذوذ، أو النّدور، أو القلّة، أو الضّعف، أو أنّها لُغيّة. ومن هؤلاء: سيبويه.
__________
(1) ينظر اللسان "دخل" 11/243.
(2) ينظر الإيضاح في شرح المفصل 2/115.
(3) ينظر الخصائص 1/376.
(4) ينظر الخصائص 1/383.
(5) ينظر الاقتراح 69، والإصباح 119.(11/372)
والحديث عن موضوع التّداخُل في اللّغات مطلقاً، يحتاج إلى بحثٍ مستقلٍ، إلاّ أنّني سأقتصر في هذا المبحث على الأفعال التي اختلف فيها سيبويه والخليل، هل هي من باب تداخل اللُّغات أو أنّها شاذّةٌ؟ مبيّنا موقف العلماء من الخلاف بينهما، فأقول: قال سيبويه: (وقد بنوا "فَعِل" على "يَفْعِلُ" في أحرفٍ، كما قالوا: "فَعُل يَفعُلُ"، فلزموا الضمّة، وكذلك فعلوا بالكسرة فشُبّه به، وذلك: حَسِب يَحْسِبُ، ويَئِس يَيْئسُ، ويَبِس يَيْبِسُ، ونَعِم يَنْعِمُ ... ، والفتح في هذه الأفعال جيّدٌ، وهو أقيس.
وقد جاء في الكلام "فَعِل يَفْعُلُ" في حرفين، بنوه على ذلك كما بنوا "فَعِل" على "يَفْعِلُ"؛ لأنّهم قد قالوا: "يَفْعِلُ" في "فَعِل"، كما قالوا في "فَعَل"، فأدخلوا الضمة كما تدخل في "فَعَل"، وذلك: فَضِل يَفْضُلُ، ومِتَّ تَمُوتُ؛ وفَضَل يَفْضُل، ومُتَّ تَمُوتُ أقيسُ.
وقد قال بعض العرب: كُدتَ تكادُ، فقال: "فَعُلْتَ تَفْعَلُ"، كما قال: "فَعِلْتُ أَفْعَلُ"، وكما ترك الكسرة كذلك ترك الضمّة.
وهذا قول الخليل، وهو شاذٌٌّّ من بابه، كما أنّ "فَضِل يَفْضُل" شاذٌّ من بابه.
فكما شَرِكَتْ "يَفْعِل يَفْعُل"، كذلك شَرِكَتْ "يَفْعَل يَفْعُل". وهذه الحروف من "فَعِلَ يَفْعِلُ" إلى منتهى الفصل شواذٌّ) (1) .
وقال في موضعٍ آخرَ: (وأما "مِتَّ تَمُوت" فإنّما اعتَّلت من "فَعِل يفْعُل"، ولم تحوّل كما يحوّل "قُلت، وزُدت"؛ ونظيرها من الصحيح "فَضِل يَفْضُل".
وكذلك: "كُدتَ تكاد"، اعتلَّت من "فَعُل يَفْعَل"، وهي نظيرة "مِتَّ" في أنّها شاذّةٌ، ولم يجيئا على ماكثُر واطّرد من "فَعُلَ" و"فَعِلَ") (2) .
وخلاصة كلام سيبويه: هو أنّ الخلاف بينه وبين الخليل يتركّز في ثلاثة محاور:
__________
(1) ينظر الكتاب 4/38 – 41.
(2) ينظر الكتاب 4/343.(11/373)
الأول: الخلاف بينهما فيما جاء من الأفعال على (فَعِل يَفْعِل) ، نحو: حَسِب يَحْسِب، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس، ونَعِم يَنْعِم.
الثاني: ماجاء على (فَعِل يَفْعُل) من الصحيح، نحو: فَضِل يَفْضُل؛ ومن المعتلّ، نحو: مِتَّ تَمُوت.
الثالث: ماجاء على (فَعُل يَفْعِل) ، نحو: كُدتَ تكاد.
فقد حكم عليها سيبويه بأنّها شواذٌّ، وحكم عليها الخليلُ بأنّها من تداخُلِ اللُّغات.
هذا موقف الإمامين من التداخُل فيما سبق ذكره، وأمّا موقف النّحاة واللُّغويين منهما، فقد اختلفوا في ذلك – أيضاً – على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب بعض النّحاة واللُّغويين إلى القول بما قاله سيبويه، وحكموا على ماجاء من الأفعال مخالفاً للقياس والاطّراد بأنّه شاذٌّ، وممّن ذهب إلى ذلك: المازنيّ، وابن قتيبة، والسيرافيّ، والجوهريّ، والصّيمريّ، واللَّبليّ، وابن عصفور، وابن منظور، والسيوطيّ، وغيرهم (1) .
ووافقهم ابن مالك في (حَسِب يَحْسِب) وأمثالها؛ والرضيّ في (كُدتَ تكاد) ؛ وأبو زيد، وأبو الحسن الأخفش، وابن الشجريّ في (فَضِل يَفْضُل) وأمثالها (2) .
__________
(1) ينظر المنصف 1/206، 256، وأدب الكاتب 483، 484، وشرح الكتاب 122 – 125، والتذكرة والتبصرة 2/747 – 749، وبغية الآمال 77 – 80، والممتع 1/176، 177، والهمع 2/164،والصحاح واللّسان (حَسِب، فَضَل) .
(2) ينظر شرح التسهيل 3/438، وانظر شرح الشافية 1/138، وانظر آمالي ابن الشجريّ 1/210،وانظر شرح الملوكي 43، وابن يعيش 7/154.(11/374)
المذهب الثاني: أجازوا التَّداخُل فيها وفي غيرها، وهم: أبوعمرو، وابن السكيت، والفراء، وثعلب، والزجاجيّ، وابن خالويه، وابن جنّى، والزمخشريّ، وابن يعيش، وابن الحاجب، وابن مالك، والرضيّ، وأبو حيّان، وابن عقيل، والسّلْسيليّ، والجاربرديّ، وغيرهم (1) .
والصّواب هو ماذهب إليه الخليل، وغيره - وهو المختار عندي - أنّ التَّداخُل يوجد في اللُّغات، وهو ضرْبٌ من ضروب التوسع في اللغة العربية، ولا يصح إطلاق الشذوذ دون رويةٍ وإمعانٍ؛ كما أنّه لايجوز تضييق واسعٍ؛ لأنّ العربيّ له لغة يرثها ويتكلم بها، وله أُذْنٌ يتلقى بها، فيسمع لغة غيرهِ، وغيُره يسمع لغته، فينشأ عن ذلك الاستماع تركُّبُ لغة ثالثة.
وما أحسن قولَ ابن جنّي: (اعلم أنّ هذا موضعٌ قد دعا أقواماً ضَعُفَ نظرهم، وخفّت إلى تلقّى ظاهر هذه اللغة أفهامُهم، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم، وادّعوا أنّها موضوعة في أصل اللغة على ماسمعوه بأَخَرةٍ من أصحابها، وأُنْسُوا ماكان ينبغي أن يذكروه، وأضاعوا ماكان واجباً أن يحفظوه.
ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ماجاء على (فَعِل يفعُل) ، نحو: نَعِم ينعُم، ودِمْتَ تدوم، ومِتَّ تمُوت ...
واعلم أنّ أكثر ذلك وعامّته إنّما هو لغاتٌ تداخلت فتركّبت،.... هكذا ينبغي أن يُعتقد، وهو أشبه بحكمة العرب) (2) .
المبحث الخامس: اختلافهما في باب الوقف، وفيه مطلبان:
__________
(1) ينظر إصلاح المنطق 212، والجُمل 397، وإعراب ثلاثين سورة 181، والخصائص 1/378 – 380، والمنصف 1/208، 256، 257، والمفصل 277، وابن يعيش 7/154، 157، وشرح الملوكي 42، 43، والإيضاح في شرح المفصل 2/115، والشافية 24، والتسهيل 195، وشرح التسهيل 3/437، وشرح الشافية 1/125، 135، 136، والارتشاف 1/155، 156، والمساعد 2/587 – 589، وشفاء العليل 2/841، 842، والجاربردي 57، والمزهر 1/264، 265.
(2) ينظر الخصائص 1/374 – 375.(11/375)
المطلب الأول: الخلاف بينهما في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه.
ذهب ابن الحاجب إلىأنَّ الوقف في الاصطلاح، هو: (قطع الكلمة عمّا بعدها) (1) .
وعرّفه أبو حيّان، فقال: (الوقف: قطع النطق عند إخراج آخر اللفظة) (2) .
والعلّة في الوقف: هو أن يكون للاستراحة، أو تمام المقصود من الكلام، أو النظم في الشعر، أو تمام السجع في النثرِ (3) .
قال ابن الباذش: (الحرف الذي يوقف عليه لايكون إلاّ ساكناً؛ لأنَّ الوقف أولُ السكوت الذي ينقطع فيه عملُ اللسان ويسْكُن، كما كان الذي يُبتدأ به لايكون إلاّ متحركاً؛ لأنّ الابتداءَ أولُ الكلام الذي هو بحركة اللسان وتصرُّفه، فأجرَوْا أول الطرفين مُجرى سائرهما) (4) .
والوقف له أنواعٌ، ومحالٌّ (5) ، منها: الوقف على الاسم المقصور المنوّن، نحو: "فتىً"، فقد اتفق الجمهور على أنهّ يوقف عليه بالألف في جميع أحواله الثلاث، أي: إن كان مرفوعاً، أو مجروراً، أو منصوباً، فيقال: "هذا فتى، سلّمت على فتى، وأكرمت فتى"، فيوقف عليه بالألف في الأحوال الثلاث.
__________
(1) ينظر الشافية 63، وانظر شرح الشافية 2/271، والجاربردي 168.
(2) ينظر الارتشاف 2/798، وانظر كشف المشكل 2/204، وتوضيح المقاصد 5/155، والتصريح 2/338، والأشموني 4/203، والمساعد 4/301، والمكودي 218، وشذا العرف 188.
(3) ينظر كشف المشكل 2/206 والمساعد 4/301، والتصريح 2/338، وشذا العرف 188.
(4) ينظر الإقناع 1/504.
(5) ينظر أنواع الوقف ومحالّه في: كشف المشكل 2/207، والتبيين 186، والتسهيل 328، والارتشاف 2/798، وأوضح المسالك 3/286، وتوضيح المقاصد 5/155، وابن الناظم 807، وابن عقيل 4/170، وشرح الشافية 2/271، وابن يعيش 9/66، وشفاء العليل 3/1129، والمساعد 4/301، والتصريح 2/338، والهمع 2/204، والأشموني 4/203، والقول الفصل 156، والوافي 113.(11/376)
وقد اختلف النّحويّون في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه، على ثلاثة مذاهب: (1)
المذهب الأول: أنّ الألف بدلٌ من التنوين المحذوف مطلقاً في الأحوال الثلاث: رفعاً وجراً ونصباً. وهو مذهب المازنيّ، والأخفش، والفراء، واختاره الفارسيّ.
وعلّة القائلين بهذا المذهب: أنّ التنوين في الأحوال كلّها قبله فتحة، فأشبه التنوين في "رأيت زيداً"؛ لأنّهم إنّما وقفوا على "رأيت زيدا" بالإبدال ألفا؛ لأنّ الألف لاثِقلَ فيها، بخلاف الواو والياء، وهذه العلة موجودة في المقصور المنوّن (2) .
وهو الظاهر من كلام ابن مالك في الألفية، فقال: (3)
تنويناً اثْرَ فتْحٍ اجْعَلْ أَلِفَا ... ... وقْفاً، وتِلْوَ غَيْرِ فتْحٍ احْذِفَا
إذْ كلامه في النظم يحتمل موافقة المازنيّ؛ لأنّ الألف وقعت بعد فتح.
المذهب الثاني: هو أنّ الألفَ هي الألفُ المنقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث.
وعلتهم: أنّ التنوين حُذف بسبب الوقف، فلّما حُذف عادت الألف في الأحوال كلّها؛ لأنّ الألف إنّما حُذفت لسكونها وسكون التنوين، فلمّا حُذف التنوين للوقف لم يبق سببٌ لحذفها فعادت.
وهذا المذهب مرويٌّ عن أبي عمرو، والخليل بن أحمد، والكسائيّ، ونسبه السيرافي وابن الباذش لسيبويه (4) .
__________
(1) ينظر المذاهب الثلاثة في المصادر السابقة في هامش "94".
(2) ينظر التسهيل 328،والارتشاف 2/800، وتوضيح المقاصد 5/156،والمساعد 4/304، وشرح الشافية 2/282، 284، وابن يعيش 9/77، وشرح الجُمل 2/429، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والأشموني 4/204.
(3) ينظر الألفية 77، وانظر توضيح المقاصد 5/155، وابن عقيل 4/170، والمكودي 218.
(4) ينظر التسهيل 328، والارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/156، وشرح الشافية 2/284، وشرح الجُمل 2/430، والمساعد 4/304، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والوافي 116.(11/377)
المذهب الثالث: أنّ الألف في النّصب بدلٌ من التنوين، وفي الرفع والجرّ بدلٌ من لام الكلمة. أي: عُومل المقصور المنوّن في الوقف عليه معاملة الاسم الصحيح.
وعلّتهم: أنّ الألف في "فتى" في حالتيّ الرفع والجر، عند الوقف عليها هي الألف الأصليّة (أي: لام الكلمة) ، وهي نظيرة الدّال من "زيد"، وأمّا في حالة النصب فإنّها مبدلةٌ من التنوين، نظير الألف في "رأيت زيدا"، حُذفت الألف الأصلية لاجتماع الساكنين.
وهذا مذهب سيبويه فيما نقله أكثر النّحويّين؛ وقيل: ومعظم النّحويين عليه (1) .
وهو مذهب ابن السّراج، وأبي عليّ الفارسيّ في أحد قوليه (2) ؛ وابن مالك في (التسهيل) ، فقال: (وكالصحيح في ذلك المقصور، خلافاً للمازنيّ في إبدال الألف من تنوينه مطلقاً، ولأبي عمروٍ والكسائيّ في عدم الإبدال منه مطلقاً) (3) .
تلك أقوال العلماء في حقيقة ألف المقصور المنوّن إذا وُقف عليه، وبقي أنْ أُبيّن وجه الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل في المسألة، فأقول:
إنّ الخليل يذهب إلى مذهب أبي عمروٍ، وتبعهما الكسائي وغيره، وهو أنّ الألف هي المنقلبة في الأحوال الثلاث، ولمّا حذف التنوين للوقف عادت الألف مطلقاً.
أمّا سيبويه فله في حقيقة الألف رأيان:
أولهما: أنّه يُعامل المقصور المنوّن في الوقف معاملة الصحيح، وقد بيّنته في المذهب الثالث، وهو أشهر رأييه، إذْ نسبه أكثر النّحويين إليه.
وثانيهما: أنّه يذهب إلى مذهب أبي عمروٍ، والكسائيّ كشيخه الخليل.
__________
(1) ينظر التبيين 186، وشرح الكافية الشافية 1983، والارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/158، وابن يعيش 9/76 وشرح الشافية 2/280، والمساعد 4/304، 305، وشرح الجُمل2/430، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والأشموني 4/205.
(2) ينظر الأصول 2/378، والتعليقة 4/266.
(3) ينظر التسهيل 328.(11/378)
ولم يَنسب له هذا المذهب إلاّ السيرافيّ، ثم تبعه الأعلم الشنتمريّ، وابن الباذش، وذهب إليه الرضيُّ (1) ؛ لأنّ سيبويه قال: (وأمّا الألفات التي تذهب في الوصل فإنّها لاتُحذف في الوقف؛ لأنّ الفتحة والألف أخفُّ عليهم، ألا تراهم يفرّون إلى الألف من الياء والواو إذا كانت العين قبل واحدة منهما مفتوحة، وفرّوا إليها في قولهم: قد رُضَا، ونُهَا) (2) .
قال السيرافي: (ومُؤدّى كلام سيبويه: أنّ الألفات التي تذهب في الوصل لاتُحذف في الوقف، نحو ألف "رَحَا، وقَفَا، ومُثَنَّى، وموْلَى" وما أشبه ذلك، فهي تذهب عند الوصل لاجتماع الساكنين: الألف، والتنوين، وعند الوقف يذهب التنوين فتعود الألف: فتقول: "عَصَا، ورَحَا، ومَوْلَى"، وليس كقولك: "هذا قاضٍْ"؛ لخفة الألف؛ وهذا الموضع يدلّ على مذهب سيبويه، وهو أنّ الألف التي تثبت في الوقف هي الألف التي كانت في الحذف ... ) (3) .
قلت: ماعزاه السيرافيّ، والشنتمريّ، وابن الباذش، والرضيّ لسيبويه، هومخالفٌ لما نسبه معظم النّحويين له.
وربما قال سيبويه بهما، إلاّ أنّه اُشتُهر عنه رأيُه الذي بيّنته في المذهب الثالث آنفاً، وقد رجّحه ابن عصفور، وابن مالك في (التسهيل) (4) .
والصّواب: هو ما نُسب للخليل بن أحمد، وهو مذهب أبي عمروٍ، والكسائي، وهو أنّ الألف منقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث، ولمّا حُذف التنوين للوقف عادت الألف.
__________
(1) ينظر هامش التعليقة 4/266، والنكت 2/1111، وابن يعيش 9/76، وشرح الشافية 2/281، 283.
(2) ينظر الكتاب 4/187.
(3) ينظر كلام السيرافيّ في هامش التعليقة 4/226، وشرح الشافية 2/281.
(4) ينظر شرح الجُمل 2/430، والمقرب 2/28، والتسهيل 328.(11/379)
وعُزي هذا المذهب إلى الكوفيين، وقال به ابن كيسان، والسيرافيّ، والأعلم، وابن برهان، والجزوليّ، وأبو عليّ الشلوبين، والرضيّ، ورجّحه أبو حيّان، وقوّاه ابن عقيل (1) ، ومال إليه ابن مالك في (الكافية الشافية، وشرحها) وقوّاه، فقال: (وهذا المذهب أقوى من غيره، وهذا موافقٌ لمذهب ربيعة في حذفهم تنوين الصحيح دون بدلٍ، والوقف عليه بالسكون مطلقاً.
وتُقوي هذا المذهبَ الروايةُ بإمالة الألف وقفاً، والاعتداد بها رويّا، وبدلُ التنوين غيرُ صالحٍ لذلك، ... وهو اختيار السيرافيّ، وبه أقول) (2) .
قال الصّبّان: (ثمرة هذا الخلاف تظهر في الإعراب: فعلى أنّها بدلُ التنوين يُعرب بحركاتٍ مقدرةٍ على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ وعلى أنّها المنقلبة عن الياء يُعرب بحركاتٍ مقدرةٍ على الموجودة؛ لأنّها حينئذٍ محل الإعراب، فاحفظه) (3) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن.
اعلم أنّ المنقوص على نوعين: منقوص منوّن؛ ومنقوص غير منوّنٍ.
وكلّ نوعٍ منهما له أحكام تخصّه في الوقف عليه، هذا بيانها: (4)
__________
(1) ينظر الارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/156، وشرح الشافية 2/280، 284، وابن يعيش 9/76، والمساعد 4/304، 305، والنكت 2/1112، والمقدمة الجزولية 281، وشرح المقدمة 1069، والتصريح 2/338، 339، والهمع 2/205، والوافي 116، والقول الفصل 158
(2) ينظر شرح الكافية الشافية 4/1983.
(3) ينظر حاشية الصّبّان على الأشموني 4/204.
(4) ينظر أنواع الوقف على المنقوص وأحكامه في الكتاب 4/183، والأصول 2/374، والتبصرة والتذكرة 2/719، والمفصل 340، وشرح الجُمل 2/431، وابن يعيش 9/74، والتسهيل 328، والارتشاف 803، وابن الناظم 808، وشرح الشافية 2/300، وتوضيح المقاصد5/160، والمساعد 4/308، والمكودي 218، والهمع 2/205.(11/380)
أولاً: إذا وُقف على المنقوص المنوّن، إمّا أن يكون منصوباً، وإمّا أن يكون مرفوعاً أو مجروراً؛ فإن كان منصوباً، نحو: "رأيت قاضياً"، وجب إثبات يائه، وأُبدل من تنوينه ألفا.
وإن كان مرفوعاً أو مجروراً، فالأفصح والأجود والأكثر حذْفُ التنوين والياء، فتقول "هذا قاضْ، ومررت بقاضْ"، ويجوز إثبات الياء، لكنّ الأرجح هو الحذف.
وقد جاء الوقف بالياء عن ابن كثير، وورش في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: (ولِكُلِّ قَوْمٍ هَادِى) [الرعد: 7] ، وكقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالِى) [الرعد: 11] (1) .
قال ابن مالك: (والمنقوصُ غَيرُ المنصوب، إن كان منوّناً فاستصحابُ حذف يائه أجود) (2) .
ثانياً: إذا وُقف على المنقوص غير المنوّن، جاز فيه الوجهان: بقاء الياء وحذفها، والأكثر والأجود بقاء الياء، قال ابن مالك: (وإن لم يكن منوّناً فالإثباتُ أجود) (3) .
وحُكْم ابن مالك على إثبات ياء المنقوص غير المنوّن يقع في أربعة أنواع:
الأول: ما سقط تنوينه لأجل "أل": فإن كان منصوباً وقف عليه بإثبات الياء قولاً واحداً، نحو: "رأيت القاضي"؛ وإن كان مرفوعاً أو مجروراً فإقرار الياء أقيس وأكثر من حذفها، فتقول: "هذا القاضِي، ومررت بالقاضِي) بالإثبات، ويجوز الحذف فتقول: "هذا القاضْ، ومررت بالقاضْ".
الثاني: ماسقط تنوينه لمنع الصرف: فيُوقف عليه بإثبات الياء، نحو: "رأيت جواري" نصباً.
الثالث: ماسقط تنوينه للإضافة: فيجوز فيه الوجهان إذا وُقف عليه كالمنوّن، نحو: "قاضِي مكة".
الرابع: ماسقط تنوينه للنداء، نحو: "ياقاضِي أَقْبِلْ"، فيجوز الوقف عليه بإثبات الياء، ويجوز حذفها.
__________
(1) ينظر التيسير 69، والإقناع 1/520، والنشر 2/137، والإتحاف 1/324.
(2) ينظر التسهيل 328، وانظر التبيين 184، والمساعد 4/308.
(3) ينظر التسهيل 328.(11/381)
وهذا الموضع هو محلّ الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل، فالخليل يختار أن يُوقف عليه بالياء، وسيبويه اختار مذهب يُونُس ورجّحه، وهو حذف الياء، فتقول: "ياقاضْ"؛ لأنّ المنادى محلُّ حذْفٍ وتخفيفٍ، قال سيبويه: (وسألت الخليل عن "القاضِي" في الندّاء، فقال: أختار "ياقاضِي"؛ لأنّه ليس بمنوّنٍ، كما أختار "هذا القاضي".
وأمّا يُونُس فقال: "ياقاضْ"؛ وقولُ يُونُس أقوى؛ لأنّه لمّا كان من كلامهم أن يحذفوا في غير النّداء كانوا في النّداء أجدرَ؛ لأنّ الندّاء موضعُ حذْفٍ، يحذفون التنوين ويقولون: ياحَارِ، وياصَاحِ، وياغُلامُ أَقْبلْ) (1) .
وقد انقسم النّحويوّن في اختيارهم أحد المذهبين – أعني: مذهب الخليل وهو إثبات الياء، أو مذهب سيبويه ويونس وهو حذف الياء – على فريقين:
الفريق الأول: ذهب إلى جواز الوجهين، دون تحديدٍ للمختار منهما، وهو الظاهر والمفهوم من كلامه، وهو قول ابن السراج، والأعلم الشنتمريّ، وابن عصفور، والرضيّ، وأبي حيّان، والمراديّ، وابن عقيل، والأزهريّ، وغيرهم (2) .
الفريق الثاني: اختار مذهب الخليل بن أحمد، وصرّح بأنّ إثبات الياء هو الأجود والأقيس؛ ومن القائلين بهذا المذهب المبرد، والصَيمريّ، والزمخشريّ، وابن يعيش، والجزوليّ، وابن الحاجب، وأبو عليّ الشلوبين، وابن مالك، والجاربرديّ، والسيوطيّ، والأشموني، وغيرهم (3) .
__________
(1) ينظر الكتاب 4/184، وانظر القول الفصل 165.
(2) ينظر الأصول 2/375، والنكت 1109، وشرح الجُمل 2/432، وشرح الشافية 2/301، والارتشاف 804، وتوضيح المقاصد 5/162، والمساعد 4/309، والتصريح 2/340، والوافي 123.
(3) ينظر التبصرة والتذكرة 2/720، والمفصل 340، وابن يعيش 9/75، والمقدمة الجزولية 282، والشافية 65، والإيضاح في شرح المفصل 2/308، وشرح المقدمة الجزولية 1071، والتسهيل 328، والجاربردي 182، والهمع 2/205، والأشمونيّ 4/207؛ وانظر رأي المبرد في شرح الشافية 2/301.(11/382)
إذاً: المذهب المختار مذهب الخليل، وهو إثبات الياء في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن، وهو قول معظم النّحويّين؛ لأنّه الأقيس، والأكثر، والأجود.
وقد بيّن الأعلم الشنتمريّ حجّة الخليل وعلّته في إثبات الياء، فقال: (وحُجّته: أنّ المنادى المعرفة لايدخلُه تنوينٌ في وقفٍ ولا وصلٍ، والذي يُسْقطُ الياءَ هو التنوين، فوجب أن تَثبُتَ الياءُ؛ لأنّها لام الفعل، كما تَثبُتُ غيرُها من سائر الحروف) (1) .
- أيضا – بيّن المراديّ حجة كلٍّ منهما، فقال: (ورجّح سيبويه مذهب يُونُس؛ لأنّ النّداء محلُّ حذْفٍ، ورجّح غيره مذهب الخليل، لأنّ الحذف مجازٌ، ولم يكثُر فيُرجّح بالكثرة) (2) .
المبحث السادس: اختلافهما في باب الزوائد.
وفيه مطلبٌ: الخلاف بينهما في المضاعف أيّهما الزائد الأوّل أو الثاني؟
اعلم أنّ تضعيف حرفٍ وتكريره من حروف الكلمة، وهو من الحروف غير الزوائد، لا يخلو أن يكون التضعيف في العين، نحو: (سُلَّمٍ، وقِنَّبٍ، وتُبَّعٍ، وقَطَّعَ، وعَلَّمَ) ، وإمّا أن يكون في اللام، نحو: (مَهْدَدٍ، وجَلْبَبَ، وخِدَبٍّ، وبَلِزٍّ) .
وقد اختلف الخليل، ويُونُس، وسيبويه، في أيّ الحرفين هو الزّائد في المضعّف؟ أهو الحرف الأول أم الثاني؟ (3) .
فذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ الزّائد هو الأوّل في كلّ مضاعف، نحو: (سُلّم، وقَطّع، وجَلْبَب، وخِدَبّ) ، فالأول في هذه ونحوها هو الزائد عنده.
__________
(1) ينظر النكت 1109، وانظر ابن يعيش 9/75، والجاربرديّ 182.
(2) ينظر توضيح المقاصد 5/162، وانظر التصريح 2/340، والأشموني 4/207.
(3) ينظر تفصيل المسألة في الكتاب 4/329، والأصول 3/211، والخصائص 2/61-69، والمنصف 1/164، والممتع 1/303، والتسهيل 297، وشرح الشافية 2/365، والارتشاف 1/59، والمساعد 4/62، والهمع 2/216.(11/383)
وحجّتُه: أنّ الأوّل قد وقع موقعاً تكثر فيه أمّهات الزّوائد، وهو أنّ الواو والياء والألف قد وقعْن ثانيةً زائدةً في (فَوْعَل، وفَيْعَل، وفاعل) ، نحو: (حَوْقل، وصَيْقل، وكاهل) .
وكذلك – أيضاً – قد وقعْن هذه الحروف ثالثةً زائدة، نحو: (جَهُور، وقَضِيب، وكِتَاب) ، فجعل الخليل الحرف الأول من مضعّف العين، نحو (سُلّم، وقَطّع) ، ومضعّف اللام، نحو (جَلْبَب، وخِدَبّ) واقعةً موقع هذه الزوائد وساكنةً مثلها، وقد بيّن سيبويه رأي الخليل، فقال: (سألت الخليل فقلتُ: "سُلّمٌ" أيّتهما الزائدة؟ فقال: الأُولى هي الزائدة؛ لأنّ الواو والياء والألف يقعْن ثوانيَ في (فَوْعل، وفاعل، وفَيْعل) .
وقال في (فَعْلَلٍ وفِعَلّ ونحوهما) : الأُولى هي الزائدة؛ لأنّ الواو والياء والألف يقعْن ثوالثَ، نحو: (جَدْولٍ، وعِثْيرٍ، وشَمَالٍ) .
وكذلك: (عَدَبَّسٌ) ونحوه، جعل الأُولى بمنزلة واو (فَدَوْكَسٍ) ، وياء (عَميْثلٍ) ، وكذلك: (قَفَعْددٌ) ، جعل الأُولى بمنزلة واو "كَنَهْورٍ") .
أمّا يُونُس وسيبويه فيريان أنّ الزائد هو الثاني في نحو: (سُلّم، وقَطّع، وجَلْبَب، وخِدَبّ، ونحوها) .
وقد بيّن سيبويه حجتهم في كون الأواخر هي الزوائد، فقال: (وأمّا غيره فجعل الزوائد هي الأواخر، وجعل الثالثة في (سُلّم) وأخواتها، هي الزائدة؛ لأنّ الواو تقع ثالثةً في (جَدْولٍ) ، والياء في (عِثْيرٍ) ، وجعل الآخرة في (مَهْدَدَ) ونحوه، بمنزلة الألف في (مِعْزىً، وتَتْرىً) ، وجعل الآخرة في (خِدَبٍّ) بمنزلة النون في (خِلْفَنةٍ) ، وجعل الآخرة في (عِدَبَّسٍ) بمنزلة الواو في (كَنَهْورٍ، وبَلَهْورٍ) ، وجعل الآخرة في (قِرْشَبٍّ) بمنزلة الواو في (قِنْدَأوٍ) ، وجعل الخليل الأولى بمنزلة الواو في "فِرْدَوْسٍ) . ثم قال سيبويه: (وكلا الوجهين صوابٌ ومذهبٌ) (1) .
__________
(1) ينظر الكتاب 4/329.(11/384)
قال السيوطي (واختُلف في المِثْلينِ في نحو: "اقْعَنْسَسَ وعَلَّمَ" أيّهما الزائد؟ فذهب الخليل إلى أنّ الزّائد هو الأوّل، وذهب يونس إلى أنّ الزّائد هو الثّاني، وأمّا سيبويه فإنّه حكم بأنّ الثاني هو الزّائد، ثمّ قال بعد ذلك: وكلا الوجهين صوابٌ ومذهبٌ) (1) .
وقد اختلف النحويّون في اتباع أحد المذهبين، فذهب ابن السرّاج، وأبو عليّ الفارسيّ إلى اتباع مذهب سيبويه وتصحيحه، وذهب ابن عصفور إلى مذهب الخليل ورجّحه بدليلين (2) .
أمّا ابن جنّي فقد ذهب إلى تصويب المذهبين بعد الاستدلال لكلٍّ منهما، فقال: (فليس واحدٌ من المذهبين إلاّ وله داعٍ إليه، وحامل عليه، وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلاّ بعد تأمّله، وإنعام الفحص عنه، والتوفيق بالله عز وجل) (3) .
وأمّا ابن مالك فقد فصّل في اختياره، فذهب إلى أنّ الثاني هو الزائد في مضعّف اللام، نحو: (اقْعَنْسَسَ، ومَهْدَدَ) ، والأوّل هو الأَوْلى بالزيادة في مضعّف العين، نحو: (عَلّم، وسُلّم) ، فحصل من هذا التفصيل مذهبٌ ثالثٌ له، فقال: (وثاني المثلين أَوْلى بالزيادة في نحو: (اقْعَنْسَسَ) ؛ لوقوعه موقع ألف (احْرَنْبَى) ؛ وأوّلهما أَوْلى في نحو: (عَلّم) ؛ لوقوعه موقع ألف فاعل، وياء فَيْعل، وواو فَوْعل) (4) .
المبحث السابع: اختلافهما في باب مخارج الحروف، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في عدد مخارج الحروف.
اختلف سيبويه مع الخليل في عدد مخارج الحروف، وانقسم العلماء من القُرّاء والنّحويّين إلى مذهبين: مذهبٌ يُؤيّد الخليل، وهم قلّة؛ ومذهبٌ يؤيّد سيبويه، وهم الجمهور.
__________
(1) ينظر الهمع 2/216.
(2) ينظر المنصف 1/164، والخصائص 2/61، والممتع 1/306، والهمع 2/216.
(3) ينظر الخصائص 2/69.
(4) ينظر التسهيل 297، وانظر المساعد 4/62، وشفاء العليل 3/1076.(11/385)
والخلاف بين سيبويه والخليل يدور حول مخرج الحروف الجوفيّة، أو الهوائية، التي تُسمّى حروف المدّ واللّين، وهي: الألف، والواو الساكنة المضموم ماقبلها، والياء الساكنة المكسور ماقبلها.
فالخليل بن أحمد يرى أنّ لها مخرجاً مستقلاً بها، وبذلك يكون عدد مخارج الحروف – عنده – ومن تبعه، سبعة عشر مخرجاً.
قال الخليل: (في العربية تسعة وعشرون حرفاً: منها خمسة وعشرون حرفاً صحاحاً، لها أحيازٌ ومدارج، وأربعة أحرف جُوفٌ، وهي: الواو، والياء، والألف اللينة، والهمزة، وسُمّيت جُوفاً؛ لأنّها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدْرجةٍ من مدارج اللسان، ولامن مدارج الحلق، ولا من مدارج اللهاة، إنّما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيّزٌ تُنسب إليه إلاّ الجوف) (1) .
وقد تابعه على ذلك الأزهريّ، ومكيُّ بن أبي طالب، وابنُ حيدرة، وأبو القاسم الهذليّ، وأبو الحسن شريح، وأبو علي ابن سينا، وابن الجزريّ، وغيرهم (2) .
وأمّا سيبويه فيرى أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، وذلك بإسقاط مخرج الحروف الجوفية، التي هي حروف المدّ واللين، إذْ جعل مخرج "الألف" من أقصى الحلق، وجعل "الواو المدية" من مخرج الواو المتحركة من الشفتين، وجعل "الياء المدية" من مخرج الياء المتحركة من وسط اللسان (3) .
__________
(1) ينظر العين 57.
(2) ينظر مقدمة تهذيب اللغة 63، والكشف 1/139، وكشف المشكل 2/279، والنشر 1/198، والتمهيد في علم التجويد 113.
(3) ينظر النشر 1/198، ومخارج الحروف لابن الطحان 113.(11/386)
والرّاجح هو ماذهب إليه سيبويه؛ لأنّه مذهب الجمهور من القُرّاء والنّحويين، فقد قال به: المبرد، وابن السراج، وابن جني، والزّجاجيّ، والصّيمريّ، والزمخشريّ، وابن الباذش، وابن أبي مريم، وأبو البركات ابن الأنباريّ، والشاطبيّ، وابن الحاجب، وابن يعيش، وابن عصفور، وابن مالك، وابن عقيل، والسلسيليّ، والرضيّ، وأبو حيّان الأندلسيّ، والجاربردي، والسيوطيّ، وغيرهم (1) .
فهؤلاء – جميعاً – يرون أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، وهو ماذهب إليه سيبويه، فقال: (ولحروف العربية ستةَ عشرَ مخرجاً:
فللحلق منها ثلاثة:
فأقصاها مخرجا: الهمزة، والهاء، والألف.
ومن أوسط الحلق مخرج: العين، والحاء.
وأدناها مخرجا من الفم: الغين، والخاء.
ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى، مخرج: القاف.
ومن أسفلَ من موضع القاف من اللسان قليلا، ومما يليه من الحنك الأعلى، مخرج: الكاف.
ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى، مخرج: الجيم، والشين، والياء.
ومن بين أوّل حافة اللسان ومايليها من الأضراس، مخرج: الضاد.
[ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، مابينها وبين مايليها من الحنك الأعلى، وما فويق الضّاحك والنّاب والرُّباعيّة والثّنية، مخرج: اللام] (2) .
__________
(1) ينظر المقتضب 1/328، والأصول 3/400، وسر الصناعة 1/46، والجمل 410، والتبصرة والتذكرة 2/926، والمفصل 393، والإقناع 1/139، والموضح في وجوه القراءات 1/163، وأسرار العربية 419، وحرز الأماني 91، والشافية 121، وابن يعيش 10/123، والمقرب 2/5، والممتع 2/668، والتسهيل 319، والمساعد 4/239، وشفاء العليل 3/1115، وشرح الشافية 3/250، والارتشاف 1/5، والجاربردي 335، والهمع 2/228.
(2) سقط مخرج اللام من نسخة هارون، ينظر الكتاب 2/405 (بولاق) ، وانظر سر الصناعة 1/47، والممتع 2/669، وشرح الشافية 3/253، والنشر 1/200.(11/387)
ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، مابينها وبين مايليها من الحنك الأعلى، وما فُويق الثّنايا، مخرج: النون.
ومن مخرج النون غير أنّه أَدْخلُ في ظهر اللسان قليلا، لانحرافه إلى اللام، مخرج: الراء.
وممّا بين طرف اللسان وأُصول الثنايا، مخرج: الطاء، والدال، والتاء.
وممّا بين طرف اللسان وفُويق الثنايا، مخرج: الزاي، والسين، والصاد.
وممّا بين طرف اللسان وأطراف الثنايا، مخرج: الظاء، والذال، والثاء.
ومن باطن الشّفة السُّفلى وأطراف الثنايا العُلَى، مخرج الفاء.
وممّا بين الشفتين، مخرج: الباء، والميم، والواو.
ومن الخياشيم، مخرج: النون الخفيفة) (1) ، أي: النون الساكنة.
انتهى كلام سيبويه في تبيين مخارج حروف العربية الأصول، وهي ستة عشر مخرجاً.
وقد أقره على ذلك جمهور العلماء من القُرّاء والنّحويين، كما بيّنت ذلك سابقاً، قال الرضيّ: (وأحسن الأقوال ماذكره سيبويه، وعليه العلماء بعده) (2) .
وفي عدد مخارج الحروف ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: ذهب قطرب، والجرميّ، والفراء، وابن دريد، وابن كيسان إلى أنّ مخارج الحروف أربعة عشر مخرجاً، وموضع الخلاف بينهم وبين سيبويه، هومخرج اللام، والنون، والراء، فهو عندهم مخرج واحد، وعند سيبويه والجمهور ثلاثة مخارج، وهو الصحيح (3) .
قال الإمام الشاطبيّ بعد ذكره مخارج الحروف الثلاثة: (4)
... ... ... ... ... وكم حاذقٍ معْ سيبويه بهِ اجْتلَى
... ومن طرفٍ هُنّ الثّلاثُ لقُطْرُبٍ ... ويحْيي معَ الجَرْميّ معْنَاهُ قُوِّلا
الوقفة الثانية: ذهب أبو العباس المهدويّ إلى أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، لكنّه أسقط مخرج الخيشوم، وقسّم الحروف الشفويّة على ثلاثة مخارج:
__________
(1) ينظر الكتاب 4/433 – 434.
(2) ينظر شرح الشافية 3/254.
(3) ينظر الارتشاف 1/5، والنشر 1/198، والهمع 2/228.
(4) ينظر حرز الأماني 92.(11/388)