ولا أشك أن انشغاله بخدمة الخليفة والعمل في بلاطه كاتباً، وتحمَّله أعباء كثيرة من أعباء الدولة ((لم تترك له وقتاً يصرفه في درس خاص، أو وضع كتاب أو رسالة، وما تلقطه العلماء والأدباء من كلامه هو مما رواه له المعجبون به (1)) ) . هذا بالإضافة إلى ما نال بعض تراث الأمة بعامة من الضياع، من جرّاء ما مُنيت به من المصائب والنكبات على مدى تاريخها الطويل، وعلى وجه الخصوص من عدو دينها، وعروبتها الصليبيين الحاقدين، الذين بلغ بهم الحقد، وحب الفساد في الأرض إلى أن يرموا في البحركثيراً من التراث الفكري والعلمي والأدبي لهذه الأمة المنكوبة، حتى تغيّر لون ماء البحر الغزير بمدادِ هذا التراث الزاخر.
وعلى الرغم من ذلك فإنه يمكننا من خلال ما احتفظت به بعض المصادر من نثره على قلّته أن نتبيّن بعض فنونه النثرية، والموضوعات التي تناولها، والمعاني والأفكار التي عبّر عنها.
كما يمكننا أن نتبيّن بصدق وموضوعيّة بعض السمات والخصائص والقِيَم الفنيّة التي اتسم بها نثره، من حيث المضمون والشكل.
أولاً: فنونه النثريّة:
أولاً: الرسائل:
وتنقسم قسمين هما:
1 الرسائل الديوانية:
فقد كان عمرو بن مسعدة كاتب المأمون، ولسانه إلى ولاته، وأفراد شعبه، والناطق الرسمي المتحدّث باسمه فيما يجد في الدولة من شؤون، وأحوال؛ وقد وقفت على بعض الرسائل التي كتبها على لسان أميره، ووليّ نعمته (الخليفة المأمون) .
وخير ما يمثّل لنا هذا اللون من الرسائل ما كتبه على لسان المأمون إلى نصر ابن شَبَث (2) (وكان أحد الخوارج عليه) :(7/372)
((أما بعد فإنك يا نصر بن شَبَث قد عرفت الطاعة وعزها، وبرد ظلها، وطيب مرتعها، وما في خلافها من الندم والخسارة، وإن طالت مدة الله بك فإنه يُملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه؛ لتقع عبرة بأهلها على قدر إصرارهم واستحثاثهم. وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت بما أكتب إليك موقعاً منك، فإن الصدق صدق، والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يُعنَون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا أحرص على استنقاذك والانتياش لك من خطئك مني، فبأي أول أو آخر أو واسطة أو إمرة، إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين تأخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله؟ وتريد أن تبيت آمنا أو مطمئنا أو وادعاً أو ساكناً أو هادئاً فواعالم السر والجهر، لئن لم تكن للطاعة مراجعاً، وبها خانعاً لتستوبلن وخم العاقبة (1) ، ثم لأبدأنّ بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تُقطَع كانت في الأرض فتنة وفساداً كبيراً، لأطأنّ بمن معي من أنصار الدولة كواهل الرعاع أصحابك، ومن تأشب من أدنى البلدان وأقاصيها وطغامها (2) وأوباشها (3) ، ومن انضوى إلى حوزتك من خُرّاب الناس، ومن لَفَظَهُ بلدُه، ونَفَتْهُ عشيرتُه لسوء موضعهم فيهم، وقد أعذر من أنذر والسلام (4)) ) .
هنا نرى الكاتب يتدرّج في خطابه لذلك الخارج عن الطاعة، فيذكِّره قيمتها، وما فيها من أمن واستقرار يحسّه الإنسان في نفسه، وما في خلافها من المصائب والويلات، ويظهر لنا من خلال تقرير هذا الحقيقة التظاهر باحترام رأي الخصم، طمعاً في إنابته ورجوعه وخضوعه دون اللجوء إلى القوة لإرجاعه.
ثم يذكّره بما امتنّ به عليه أمير المؤمنين، مما لم يحظ به من غيره، وهي منّة فيها حفظ لماله ولدينه ولنفسه من أن ينال شيئاً منها الفساد والإضرار.(7/373)
ويسأله في دهشة، واستغراب، واستنكار شديد: كيف يقدم على الخروج عن طاعته، والاستقلال بالولاية عنه! ثم يتوعده وعيداً لا هوادة فيه أنه سيبدأ به، وأنه سيقضي عليه وعلى أعوانه المارقين.
من ذلك أيضاً ما ورد من أن المأمون خرج ((يوماً من باب البستان ببغداد، فصاح به رجل بَصْريّ: يا أمير المؤمنين، إني تزوجت بامرأة من آل زياد، وإن أبا الرازي (1) فرق بيننا، وقال: هي امرأة من قريش، فأمر المأمون عمرًا بن مسعدة فكتب إلى أبي الرازي: إنه قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من الزياديّة وخلعك إياها إذ كانت من قريش، فمتى تحاكمت إليك العرب لا أم لك في أنسابها؟ ومتى وكلتك قريش يا ابن اللخناء (2) بأن تلصِقَ بها من ليس منها؟ فخل بين الرجل وامرأته، فلئن كان زياد من قريش إنه لابن سُميّة، بغيّ عاهر لا يفتخر بقرابتها، ولا يتطاول بولادتها، ولئن كان ابن عبيد الله لقد باء بأمر عظيم، إذ ادّعى إلى غير أبيه لِحَظٍّ تعجّله، ومُلكٍ قهره (3)) ) .
والموضوع هنا إنكار موقف يرى الخليفة فظاعته، وشناعته فلا يقره، ولذا فإن الرسالة جاءت قوية في عباراتها، مُرعبة للمنكَر عليه، آخذة عليه قلبه وعقله، أشبه ما تكون بسابقتها من حيث قوة الأسلوب، وبلاغة العبارة، مع ما في هذا النص من الميل السياسي، والتحامل على الأمويين ابتغاء التقرّب من العباسيين.
ويولد للحسن بن سهل مولود فيكتب عمرو بن مسعدة على لسان المأمون كتاباً (4) يهنئه فيه بمولوده الجديد فيقول:
((أما بعد: فإن هبة الله لك هبة لأمير المؤمنين، وزيادته إياك في عددك زيادة له في عدده لمحلك عنده، ومكانك من دولته، وقد بلغ أمير المؤمنين أن الله وهب لك غلاماً سرياً، فبارك الله لك فيه، وجعله باراً تقياً، مباركاً سعيداً زكياً (5)) ) .(7/374)
في هذا النص يحتفل الكاتب بموضوع هذه الرسالة، فيضمنها كل معاني الغبطة، والمشاركة الصادقة في الفرحة بميلاد القادم الجديد، داعياً المولى عز وجل أن يجعله من مواليد السعادة، وأن يبارك فيه، ويرزقه البر والتقوى.
تحفل هاتان الرسالتان بكثير من عبارات الوعيد والتهديد، وقد سيطرت عليهما العاطفة الغاضبة المتأجّجة، والمشاعر الطافحة بالكره، والعزيمة على الانتقام، أما الرسالة الثالثة فقد جاءت مختلفة تماماً عن سابقتيها، فهي حديث قلب إلى قلب، وهاجس وُدّ إلى مودود، فلم يكن لابن مسعدة وهو الرجل الحصيف أن ينسى أو يغفل طبيعة العلاقة بين المأمون والحسن بن سهل، إذ كان الود بينهما على أشده، والعلاقة وثيقة، بلغت قمّتها بإصهار المأمون إلى الحسن، وزواجه بابنته بوران، فمن الطبعي إذن أن تأخذ الرسائل بينهما سبيلاً مختلفاً عما سلكته بين غيرهما.
وهكذا وبأدنى نظر فيما سبق يتبين لنا أن هذه الرسائل تتميّز بما يأتي:
أولاً: تعدّد موضوعاتها بتعدّد مَنْ وُجِّهتْ إليه، واختلاف أقدارهم عند المُرسِل، فمنها ما كان وعيداً وتهديداً، ومنها ما كان رفع مظلمة وجواب شكوى، ومنها ما كان تهنئة.
ثانياً: إحساس ابن مسعدة الصادق بأحوال الدولة، ومصالحها؛ مما جعله ينزّل نفسه منزلة من يكتب عنه وهو هنا أمير المؤمنين، فيحس إحساسه، ويشعر شعوره، فينطلق فيما يكتبه من قلبه وعقله، على الرغم من أن بعض الكتاب ((حين يخط رسالة ينفذ فيها أمر الديوان يتحدث بلسان غيره، ويتقمص شخصية أكبر منه أو مختلفة عنه، وربما كان في هذه الأوامر السلطانية ما يتنافى وطبع الكاتب، ومن الصفات ما لا يأنس له، ولا يحتفي به، ولكنه يطيع ما يؤمر به (1)) ) .(7/375)
ثالثاً: البلاغة، وقوّة البيان؛ مما أكسب هذه الرسائل القدرة على التأثير، ففعلت فعلها في المتلقي والمستمع، نحو ما مرّ بنا من تعاطف المأمون مع الجند الذين تأخرت أرزاقهم، فشفع لهم الكاتب بكتاب استطاع به أن يستصدر أمراً من الخليفة، يأمر فيه بتعجيل أرزاقهم.
رابعاً: ما يحسه القارئ من التنويع في أسلوب هذه الرسائل حسب موضوعها، والموقف الذي كُتِبت فيه، فقد كان ابن مسعدة ((يكتب في شؤون الدولة بقلم كأنه السيف ما دعت الحاجة إلى الحزم، والشدة، وبقلم كأنه أنسام الصباح ما كانت المناسبة تدعو إلى الرقة والدعة (1)) ) .يظهر ذلك جلياً فيما كتبه عمرو بن مسعدة على لسان المأمون إلى نصر بن شبَث، وفيما كتبه أيضاً إلى أبي الرازي، وفيما كتبه على لسان المأمون إلى الحسن بن سهل يهنئه بمولود.
2 الرسائل الإخوانيّة:
وهي تدور حول ((مخاطبة الغائب بلسان القلم، وفائدتها أوسع من أن تُحصر من حيث إنها ترجمان الجنان، ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد، وطريقة المكاتبة هي طريقة المخاطبة البليغة مع مراعاة أحوال الكاتب والمكتوب إليه والنسبة بينهما (2)) ) .
وقد تناول الكُتَّاب في العصر العباسي كثيراً من الموضوعات التي تناولها الشعراء مثل النسيب، والهجاء، والمديح، والعتاب، وغيرها، وفاقوا أحياناً الشعراء في ذلك ((لأنهم نقلوا إلى النثر محاسن الشعر من الاستعارة، والتشبيه، والخيال (3)) ) هذا مع خلوّه من قيد الوزن والقافية، الذي يكبح من جماح الشاعر، ويقيّده عن الاسترسال.
وكان للمنزلة التي تبوّأها الكتاب في العصر العباسي، وما حظوا به من تقدير العامة والخاصة أثر في مزاحمة النثر الشعر في التعبير عن الموضوعات الشعرية والخواطر النفسية.
فليس غريباً إذن أن ينهج ابن مسعدة هذا المنهج، فيعبّر نثراً عن أحاسيسه، ومشاعره تجاه من تربطه بهم أواصر وُدٍّ، أو وشائج قربى.(7/376)
من هذا اللون من الرسائل كتاب عمرو بن مسعدة إلى صديق له، وفيه يقول:
((وصل إليّ كتابك على ظمأ منّي إليه، وتطلّع شديد، وبعد عهد بعيد، ولوم مني على ما مسني به من جفائك على كثرة ما تابعت من الكتب، وعدمت من الجواب، فكان أول ما سبق إليّ من كتابك السرور بالنظر إليه، أنساً بما تجدد لي من رأيك في المواصلة بالمكاتبة، ثم تضاعُف المسرة بخبر السلامة، وعلم الحال في الهيئة، ورأيتك بما تظاهرت من الاحتجاج في ترك الكتاب سالكاً سبيل التخلص مما أنا مخلصك منه بالإغضاء عن إلزامك الحجة في ترك الابتداء والإجابة، وذكرت شغلك بوجوه من الأشغال كثيرة متظاهرة مملة لا أجشّمك متابعة الكتب، ولا أحمل عليك المشاكلة بالجواب، ويقنعني منك في كل شهر كتاب، ولن تُلزِم نفسك في البر قليلاً إلا ألزمت نفسي عنه كثيراً، وإن كنت لا أستكثر شيئاً منك، أدام الله مودتك، وثبّت إخاءك، واستماح (1) لي منك، فرأيك في متابعة الكتب ومحادثتي فيها بخبرك، موفّقاً إن شاء الله (2)) ) .
وهذه الرسالة من ابن مسعدة يُفهَم منها أنها جواب لرسالة وردت إليه من صاحب له، عزيزٍ عليه، وهنا يأتي حديثه عن كتاب صديقه إليه، وتعبيره عن شعوره به، حديث الغَزِل الذي يرى في وصوله إلى محبوبه غاية مُناه وآماله، والذي حظي بلقاء مالك وُدِّه بفارغ الصبر بعد طول البعاد والغياب.
وفي هذه الرسالة تمتزج أحاسيس الشوق، بأنّات الشكوى، مع رقيق العتاب على التقصير في مواصلة المكاتبة والمراسلة.
فالكاتب كما يظهر للقارئ تتنازعه مجموعة من الأفكار، التي يرى نفسه نهباً بينها، فكل واحد منها حريص على أن يظفر باهتمامه فيستولي على مجامع قلبه، ويمسك بزمام قلمه؛ ليوجّه ريشته فتخطّ ما تزاحم عليه من الهموم والأشجان، أو الأشواق والأفراح، بعد أن جاءته رسالة صاحبه، فأراد أن يجيب عليها بعميق حسّه، وصادق شعوره.(7/377)
وكتب إلى أحد أصحابه المكرمين عنده: ((وأنا أحب أن يتقرّر عندك، أنّ أَمَلي فيك أبعد من أن أختلس الأمور اختلاس من يرى أن في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الذاهب من يومك بدلاً من المأمول في غدك (1)) ) .
وفي هذا الرسالة يؤكّد ابن مسعدة لصاحب من أصحابه ذوي الحظوة عنده طول أمله فيه، ويطمئنه علىالصلة القوية بينهما، فهو لا يتعجّل أموره ولا يبادرها مبادرة من يخاف على حاضره، أو يخشى على مستقبله.
وهكذا تظهر شخصية ابن مسعدة في رسائله الإخوانية كما ظهرت شخصية غيره من الكتاب في هذا النوع من الرسائل؛ ولا غرو في ذلك فهذا النوع من الرسائل أقدر على نقل أحاسيس الكاتب، والإفصاح عن قَسَماته النفسيّة، والكشف عن مكنونات نفسه، ولواعج قلبه. ذلك لأن الكاتب في رسائله الإخوانية ((يطلق العنان للأقلام، ويتجافى عن الكلفة، ويعدل عن الانقباض، وقد قيل: إن الأنس يُذهب المهابة، والانقباض يضيع المودّة (2)) ) .
ثانياً: الحِكَم:
الحِكم فن بارز من فنون نثر ابن مسعدة، فقد تضمنت معظم النصوص فلسفته ورأيه في الكون، والحياة، والإنسان، وجاءت في مجملها نظرات صائبة، نتيجة ثقافة، وخبرة، ونُضج تجربة ((ولعل العصر وطبيعة العصر، وما يموج فيه من أحداث، وصراع بين المتناقضات، ولعل في قرب الكاتب من الحاكم، وما يراه مفروضاً ويرفضه، وما يتمناه كائناً وهو غير كائن، وما يحلم به ولا يزال وهماً، يجعله أقرب ما يكون إلى الواعظ، أو الناصح الذي يوجّه بالقلم، ويرشد بالفكر، ويقرب الكلمة من صياغة الحكمة وشكلها (3)) ) .
وقد ساق الكاتب حِكمه في قوالب تعبيريّة موجزة أشبه بالتوقيعات، ولا غرو في ذلك فالحكمة ((أشد قرباً من فن التوقيعات، فهي أشبه ماتكون توقيعاً تمده التجربة، ويبعثه الوازع إلى النصح، والإفادة من الخبرة، وتكثيف المشورة في كلم قليل، وعبارات رصينة معبّرة، تفيد الأجيال التالية من خبرات الجيل الذي سبق وجرّب، وخبِر الحياة وشؤونها (4)) ) .(7/378)
وقد جاءت حِكمه في موضوعات مهمة يأتي في مقدمتها موضوع الصداقة والصديق، والعداوة والعدو، وما يتصل بكل منهما من المعاني، والأفكار.
أما موضوع الصداقة والصديق فقد أولاه ابن مسعدة جُلّ اهتمامه؛ إيماناً منه بالأثر الكبير للقرين والمصاحب على المرء في أخلاقه، وسلوكه وفي مختلف شؤون حياته.
وهنا نراه يحثّ على اتخاذ الأصدقاء الذين يكونون في منزلة الإخوان ((عليكم بالإخوان فإنهم زينة في الرخاء وعدة للبلاء (1)) ) .
ويرى أن مايحدث للنفس بالصديق من طمأنينة، وسكينة، وأنس، وسعادة، أكثر مما يحدث لها مع معشوقها. وعبارات الود، والمحبة، والإخاء، أرقّ، وأبلغ من حديث الغزل، والصبابة، والهوى، على الرغم من رقّته البالغة، يقول ابن مسعدة في ذلك: ((النفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وغزل المودة أرقّ من غزل الصبابة (2)) ) ذلك؛ لأن الإخاء القائم على التعقل، وكرم النفس أقوى من الحب المبني على الشهوة واللذة العارضة.
ويرى أن لا بد للمرأ قبل الثقة فيمن ينوي مصاحبته، والأنس بمجالسته من امتحانه، وابتلائه، فيقول: ((من لم يقدّم الامتحان قبل الثقة، والثقة قبل الأنس، أثمرت مودته ندماً (3)) ) .
ولعلم الكاتب بما يعترض الصحبة والصداقة من فتور نتيجة الملل والسآمة أحياناً، وحصول بعض ما لا يرضاه أحد الصاحبين بوجه من الوجوه، وضع الكاتب جملة من التعاليم والوصايا التي تساعد على استمرار المودة والصفا بين المتآخيين، فدعا دعوة الحكيم المجرّب إلى قلة الزيارة، فقال: ((قلة الزيارة أمان من الملالة (4)) ) مؤيّداً بذلك قولهم: زُرْ غبًا تزدد حباً. كما دعا إلى العتاب كدواء ناجع لما يحدث في رباط المودة والإخاء من وهن وعلل قد تودي به إلى الانقطاع، فقال: ((العتاب حياة المودة (5)) ) وقال: ((ظاهر العتاب خير من باطن الحقد (6)) ) .(7/379)
وفي المقابل يحذّر الكاتب من مصاحبة الأشرار، ويرى حبهم ومودتهم من أسرع الأشياء انقطاعاً ((أسرع الأشياء انقطاعاً مودة الأشرار (1)) ) وذلك؛ لأنها مبنية على شفير هارٍ، لا تثبت أمام المصاعب والشدائد؛ لأن المودّة القائمة على المصالح والمنافع العاجلة لا تدوم أبداً، ولهذا يرى أن ((إخوان السوء كشجر في النار يحرق بعضه بعضاً (2)) ) .
وهكذا نجد الكاتب يلحّ على موضوع الصداقة، والصحبة، وما يبتعد بهما عن أن ينقلبا عداوة وهجراناً، متأثراً في ذلك كغيره من الكتاب بثقافة الفرس التي أولتْ هذا الموضوع حقه من العناية والاهتمام؛ فحظي من الفلاسفة والحكماء الفرس بالنقد والدراسة، فأفسحوا له مكانًا فيما كتبوه في الفلسفة والأخلاق.
وإلى جانب هذا الموضوع نجد ابن مسعدة في حِكَمِه الموجزة، يهتم بموضوع العداوة والعدو كجزء رئيس من اهتمامه بالموضوع الأول.
وهنا يبين مابين الموضوعين من اختلاف فالعداوة تقضي على آصرة القربى، في حين تقرّب المودة بين الناس، وإن تباعدت أنسابهم ((القريب بعيد بعداوته، والبعيد قريب بمودته (3)) ) .
ويظهرالصديق في نُصحِه مؤدباً، في حين يبقى نصح العدو تأنيباً محضاً ((نصح الصديق تأديب، ونُصح العدو تأنيب (4)) ) .
وقد حثّ الكاتب في أكثر من موضع على الحذر من العدو، وأَخْذ الحيطة من مكره، وأذاه، فقال: ((لا تأمنن عدوك وإن كان مقهوراً، واحذره وإن كان مفقوداً؛ فإن حد السيف فيه وإن كان مغموداً (5)) ) وقال: ((لا تتعرض لعدوك في دولته؛ فإنها إذا زالت كفتك مؤونته (6)) ) .
وقد جاءت حِكَمُه أحياناً في شكل وصية يوجهها إلى شخص معيّن، أو إلى عامة الناس، تتضمّن رأيه الصريح في موضوع من الموضوعات المهمة، من مثل ما نجد في قوليه السابقين، وفي قوله أيضاً: ((لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له (7)) ) .
ثالثاً: التوقيعات:(7/380)
للتوقيع في اللغة معانٍ كثيرة، وهو هنا مأخوذ من قولهم: ظهر موقّع أي أصابه التوقيع وهو الدَّبَر (1) ، وبعير موقّع الظهر به آثار الدَّبَر، فكأن الموقّع في الكتاب يؤثّر في الأمر الذي كُتِب الكتاب فيه ما يؤكّده ويوجِبُه (2) .
أما في الاصطلاح فهو ((الكتابة على حواشي الرقاع والقصص بما يعتمده الكاتب من أمر الولايات، والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة، والتحدّث في المظالم (3)) ) .وقال الأزهري: ((توقيع الكاتب في الكتاب المكتوب: أن يجمِل بين تضاعيف سطوره مقاصد الحاجة، ويحذف الفضول (4)) ) .
ويعرف الأستاذ شوقي ضيف التوقيعات بأنها: ((عبارات موجزة بليغة، تعوّد ملوك الفرس ووزراؤهم أن يوقّعوا بها على ما يقدّم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني العباس ووزراؤهم في هذا الصنيع (5)) ) .
وقد ازدهر هذا الفن في العصر الأموي، وزادت عناية الكتاب به في العصر العباسي حتى أُثِر عن جعفر بن يحيى البرمكي (ت:187هـ) قوله موصياً الكُتّابَ: ((إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا (6)) ) .
وقد أورد بعض الدارسين (7) عدداً من العوامل التي رآها سبباً في ازدهار هذا الفن في الأدب العربي، فكان مما أورده ما يأتي:
1 انتشار الكتابة، والتعلم، والتعليم.
2 حاجة الولاة إلى الردود السريعة على مكاتباتهم أو رسائلهم؛ لأهميتها، وكثرتها مع كثرة الأعباء الملقاة على عواتقهم؛ لتنوع إدارات الدولة، وشؤونها.
3 ظهور كثير من الكتاب في بلاط الخلفاء والحكام، وقدرتهم على التأنُّق في كتاباتهم.
4 اهتمام الناس بالتوقيعات، وولعهم بها، والتنافس الشديد بينهم في إجادتها.(7/381)
وقد كان هذا الفن محل عناية واهتمام ابن مسعدة، وكان له في بعض نماذجه رأي ونقد، فقد قال الجاحظ ((وخبّرني جعفر بن سعيد (رضيع أيوب بن جعفر) قال: ذُكِرَتْ لعمرو بن مسعدة توقيعات جعفر بن يحيى، فقال: قد قرأتُ لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها، فوجدتها أجود اختصاراً، وأجمع للمعاني (1)) ) .
فكان للتوقيع نصيب مما سطّره يراعه، بل لقد سيطر بخصائصه الفنية على جلّ ما بين أيدينا من نثره، فجاء كثير من نصوصه على شكل توقيعات بليغة موجزة، وإن لم تجرِ مجراها، منها على سبيل المثال قوله: (وكان يوقِّع بين يدي جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إليه، وقال: أجب عنها، فكتب ((قليل دائم خير من كثير منقطع (2)) ) ، وقد كان هذا التوقيع موضع إعجاب شديد من جعفر؛ مما دفعه إلى أن يضرب بيده على ظهر عمرو ويقول له: ((أي وزير في جلدك؟ (3)) ) .
وقد يأتي توقيعه بيتاً من الشعر، فقد وقّع في ظهر رقعة لرجل:
أَعْزِز عَلَيَّ بأمرٍ أنتَ طَالِبُهُ
لم يمكنِ النّجْحُ فيهِ وانقضى أَمَدُه (4)
ومثل ذلك كثير في توقيعات أهل العصر وغيرهم.
ثانياً: الخصائص الفنيّة:
اللّغة:
إن القيمة الفنية لنثر ابن مسعدة تكمن في لغته، وفيما عبّر عنه من أفكار، ومضامين ذات علاقة وثيقة بالحياة. وهو ما يعني التوازن بين الشكل والمضمون الذي يُعدّ شرطاً أساساً لكل أدب يُراد له البقاء، والخلود. وهذا ما أشار إليه الجاحظ في قوله: ((…لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك (5)) ) .(7/382)
وأعان الكاتب على تحقيق هذا التوازن بعدُه عن التكلف، موفّراً بذلك قدراً كبيراً من المطابقة بين اللفظ والمعنى، تتحقّق ((بالتعبير الطبيعي الذي يترك فيه الأديب نفسه على سجيّتها السمحة دون أن يعمد إلى صنعة شاذة، أو تكلّف ممقوت، فيكون من ذلك المساواة، وصدق الأداء، وتنوّع العبارة حسب الموضوع والشخصيّة (1)) ) .
وقد أشاد الجاحظ بعناية عامة الكتاب، ورواة الأخبار، وحذاق الشعر، بالألفاظ والمعاني على حد سواء، فيما أبدعوه من أدب في قوله عنهم: إنهم ((لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيّرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكّن، وعلى السبك الجيّد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عَمَرتْها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحتْ للسان باب البلاغة، ودلّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني (2)) ) .
وقد كان لعمرو بن مسعدة نصيب من الاهتمام بألفاظه، ومعانيه في ضوء الاهتمام بهذه الظاهرة عند جمهرة الكتاب.
وفي رأيي أن ما أحرزه ابن مسعدة من الظهور والتفوّق في مجال الأدب والنثر منه بخاصّة، كان مردّه في الدرجة الأولى إلى تفوّق لغته الأدبية، وامتلاكه ناصية البيان، وهو ما هيّأ له عيشة رضيّة داخل أسوار الخلافة، ومكّنه من مجالسة الخليفة نفسه، والكتابة على لسانه، والتحدّث باسمه.
وهذا أيضاً هو الذي دفعني إلى أن أخصّ لغة هذا النثر بحديث مفصّل؛ طمعاً في كشف الّلثام عن بعض خصائصه الفنية، وأسرار نُضجه، وإبداعه.(7/383)
فقد اتّسمت هذه اللغة من حيث ألفاظها، وأساليبها بقيم فنيّة رفيعة، جعلت ما سطّره يراع ذلك الكاتب في قائمة الأدب البليغ الرصين، الذي دعا إلى النظر فيه بعض دارسي الأدب، ونقاده ((لِمَا في ذلك من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطرق، والنسج على منوال المُجيد، والاقتداء بطريقة المحسن، واستدراك ما فات، والاحتراز مما أظهره النقد، وردّ ما بهرجه السبك (1)) ) .
وأول ما يلفت النظر في لغة ابن مسعدة تلك الكلمات المفردة التي تألف منها نثره المسماة الألفاظ.
فقد تميّزت ألفاظه بالدّقة والوضوح، والبعد عن الغموض، مما أعطى معانيه قدراً كبيراً من الوضوح والبساطة، وعدم الإبهام، فما من شك في أن من صفات الأسلوب الجيّد الوضوح بصرف النظر عن جنس الأدب، ونوعه، عكس ما يرى الرمزيون من أن الجمال في الإبهام أكثر منه في الوضوح، وهو ما عبّر عنه بودلير بقوله: ((…والشعر الزائف هو الذي يتضمن إفراطاً في التعبير عن المعنى، بدلاً من عرضه بصورة مبرقعة، وبهذا يتحوّل الشعر إلى نثر (2)) ) .
ويمكننا أن نقف على هذا في كثير مما كتب نحو قوله: ((من حقوق المودة عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصير إن كان (3)) ) وقوله وقد ذكر رجل رجلا: ((حسبك أنه خلق كما تشتهي إخوانه (4)) ) . فلا نجد وضوحاً أكثر من ذلك التعبير.
كما اتّسمت ألفاظه بالفصاحة والجزالة، مع البعد عن الغرابة، متفقة مع ما أوضحه ابن الأثير بقوله ((ولستُ أعني بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشياً متوعّراً عليه عنجهيّة البداوة، بل أعني بالجزل أن يكون متيناً على عذوبته في الفم ولذاذته في السمع. وكذلك لست أعني بالرقيق أن يكون سفسفاً، وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية، الناعم الملمس (5)) ) .(7/384)
ومن خير ما يمثّل ذلك قوله في الرسالة التي وجهها على لسان المأمون إلى نصر بن شبَث (وقد خرج عليه) : ((لأطأنّ بمن معي من أنصار الدولة كواهل الرعاع أصحابك، ومن تأشّب من أدنى البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خُرّاب الناس… (1)) ) . فهي ألفاظ كما ترى جزلة قوية، رصينة متينة، كأنما قُدّت من الحجارة، أو قِطَعِ الحديد الثقيلة، تثير في نفس المتلقي الرعب والوجل، وهما مقصودان هنا لذاتهما، فالموقف يتطلب حرباً نفسية قوية، تهزم العدو من داخله؛ ليتراجع عن المواجهة، ويستجيب وينصاع لأمر الخليفة.
هكذا حرص ابن مسعدة في جملة كتاب العصر على أن تكون ألفاظه جزلة رصينة، وهذا هو شأن معظم الكتاب الذين أشاد الجاحظ بطريقتهم في الكتابة بقوله: ((أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب؛ فإنهم قد التمسوا من الألفاظ مالم يكن متوّعراً وحشيّاً، ولا ساقطاً سوقيّاً… (2)) ) .
وعلى الرغم مما اتّصفت به الألفاظ من الجزالة والفخامة أحياناً، فقد كانت سهلة بعيدة عن الابتذال أحيان أخرى، وهذا ما دعا إليه الجاحظ (وهو من أرباب القلم، والبيان، والبلاغة) بقوله: ((فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقيّ والوحشيّ، ولا تجعل همّك في تهذيب الألفاظ، وشُغلَكَ في التخلّص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغ، وفي التوسّط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه (3)) ) .
وهو أيضاً ما وصفه القاضي الجرجانيّ (ت:366هـ) وهو يحثّ على عدم التكلف، ويحض على تسهيل الأسلوب بقوله: ((فلا تظننّ أني أريد بالسمح السهل الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخَنِث المؤنّث، بل أريد النمط الأوسط، ما ارتفع عن الساقط السوقي، وانحط عن البدويّ الوحشيّ… (4)) ) .(7/385)
والسهولة مع عدم الابتذال في أدب المبدعين ومنهم ابن مسعدة عنصر مهم، وقيمة من القيم الفنية، فهي الركن الرابع من أركان الكتابة، على ما ذكره ابن الأثير بقوله: ((أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال، ولا أريد بذلك أن تكون ألفاظاً غريبة؛ فإن ذلك عيب فاحش. بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكاً غريباً يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس (1)) ) .
وغاية ما في الأمر أن ابن مسعدة لم يلتزم نهجاً واحداً في اختيار ألفاظه، وإنما راعى مقتضى الحال، فجاءت ألفاظه على أقدار معانيه، وكانت مناسبة لموضوعات نثره، فهي ترِقُّ حيناً، وتجزل حيناً آخر، وهي في الأحوال كلها بعيدة عن الابتذال، والإغراب، والتعقيد.
وأخيراً فهي ألفاظ موحية مشعّة، تحوي في كثير منها عنصر التصوير، من مثل قوله: ((العبوديّة عبودية الإخاء لا عبودية الرق (2)) ) . وهو إنما يعني ما يجب أن تكون عليه الصداقة والأخوّة من التزام بالوفاء بحق الأخوّة التزاماً يقيّد تصرّف المرء، تقييداً يشبه تقييد حرية تصرّف العبد مع سيّده، وفي ذلك قوة ومتانة، يصبح المرء معها قوي الارتباط بمن آخاه، فهو كالأسير له، لا ينفك عنه، ولا يترفّع عليه.
ومن أمثلة الألفاظ الموحية أيضاً قوله في رسالة ديوانية معبراً عن بعض صفات أتباع الخصم: ((ومن لَفَظَهُ بلدُه، ونَفَتْهُ عشيرتُه (3)) ) . ففي قوله: ((لفَظَه)) وقوله: ((نَفَتْهُ)) دلالة كبيرة على مدى الانحطاط والإسفاف الذي اتصف به أتباع ذلك الخارجي، فيكفي أنهم أفراد مطرودون من بلدانهم، منفيّون من عشائرهم، وفي ذلك أكبر ذم لهم، وتشنيع على من آزرهم وأيّدهم، أواستعان بهم.(7/386)
وفي إطار اهتمام ابن مسعدة بموضوع الصداقة، ونقيضها العداوة، نجده يُعنى بموضوع الحقد، في محاولة جادة للتحذير منه، فهو مرض خطير فتّاك، ينبت من العداوة، ويقضي على كل أواصر المودة، والمحبة، ومن هنا فإن اختفاءه بين حنايا الضلوع، أشبه ما يكون بالنار الكامنة في الزناد، تنتظر أدنى قدح له لتنطلق مشتعلة ملتهبة محرقة ((كُمون الحقد في الفؤاد كَكُمون النار في الزناد (1)) ) .
هنا يتوسّل الكاتب أسلوب التصوير الفني في بيان فظاعة هذا الخُلُق، وخطورته البالغة على العلاقات الإنسانية.
وجاء البديع بأنواعه المختلفة عفوياً بعيداً عن التكلف وكان من مقومات لغة ابن مسعدة الفنية كما مر بنا في الحديث عن بلاغته وهو أمر طبعي وجدناه في كتابات ابن مسعدة، كما وجدناه في كتابات غيره من كتاب العصر، وسابقيهم ولاحقيهم، ولكن مما يُحمد لابن مسعدة هنا أن تعامله مع البديع جاء نتيجة تفاعل عفويّ مع ما يملكه من مخزون لغوي ومعرفي، أبعده عن التكلف المشين، والتصنّع المقيت، الذي يذهب برونق الكتابة، ويخلع عليها جلباب الغموض، مما جعلنا نحس على هذا النثر مسحة من الوضوح، والجمال.
ومن خير ما يمثّل لنا هذه السمة في تراث ابن مسعدة النثريّ ما جاء في رسالته إلى الحسن بن سهل، وفيها يقول: ((أما بعد: فإنك ممن إذا غَرَسَ سَقى، وإِذا أَسّس بنى؛ ليستتم تشييد اُسُّه، ويجتني ثمار غرسه. وثناؤك عندي قد شارف الدروس (2) ، وغرسك مشف (3) على اليبوس، فتدارك بناءَ ما أسّستَ، وسَقْيَ ما غَرَستَ، إن شاء الله (4)) ) .فأنت تجد هنا السجع العفويّ الجميل، الذي ازدادت به هذه الرسالة جمالاً ووضوحاً. ومما يدل على عفوية هذا السجع أن الكاتب لم يقصد إلى اتفاق أكثر من فاصلتين، وأن هذا الاتفاق قد زاد المعنى وضوحًا وجلاءً، أضف إلى ذلك أنك تقرؤه فلا يمجه السمع ولا ينفر منه الذوق.(7/387)
ومن البديع في كتابته أيضاً قوله في كتابٍ له (وقد أهدى فرساً) : ((بعثتُ إليكَ بِطِرْف (1) يتصرّف بالشابِ مع هواه، ويجري تحت الشيخِ على رِضاه، لم يبعثهُ (2) سوطٌ، ولم يُتعبهُ شَوطٌ (3)) ) .
فأنت ترى في هذا النص الطباق بين كل من: الشاب، والشيخ. كما ترى الجناس في كل من: يبعثه ويتعبه، وبين: سوط وشوط. كل ذلك في انسجام، وعدم تكلّف.
وقد كونت هذه الألفاظ في مجموعها أسلوباً واضحاً، رصيناً، جميلاً، يمكن أن أطلق عليه ما يسمى ب ((الأسلوب السهل الممتنع)) وهو ما عبّر عنه التوحيدي بقوله: ((وفي الجملة أحسن الكلام ما رقّ لفظه، ولَطُف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم، يُطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع، حتى إذا رامه مُريغ (4) حلّق، وإذا حلّق أسفّ، أعني: يبعد على المحاول بعنف، ويقرب من المتناول بلطف (5)) ) .
وينطبق هذا الوصف على أسلوب ابن مسعدة، فأنت تجد ألفاظاً واضحة المعنى، قريبة التناول، لا تستعصي في ظاهرها على أحد، وتركيبه، ونسجه ((أيسر تركيب يجري مع الطبع، كأنه في إيراده يتكلم كلامه المعتاد معرباً، ويسطره في الورق (6)) ) .
بالإضافة إلى ما تقدّّم فقد تميّزت لغة هذا النثر ببعض الظواهر الفنية البارزة، التي رأيت من الواجب الوقوف عندها بالدرس والتحليل، ومن أبرزها:
الإيجاز:
الإيجاز من أبرز سمات النثر الفني، التي حظيت باهتمام البلغاء المشهورين، والكتاب النابهين، كما حظيت باهتمام النقاد والدارسين في القديم والحديث.(7/388)
وقد بيّن الجاحظ مفهوم الإيجاز مبتعداً به عن ذلك المفهوم الذي فهمه بعض النقاد والدارسين، وهو أن الإيجاز الاختصار فقال: ((والإيجاز ليس يُعنى به قلة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يَسَع بطن طومار (1) فقد أوجز، وكذلك الإطالة، وإنما ينبغي له أن يحذف بقدر ما لا يكون سبباً لإغلاقه، ولا يردّد وهو يكتفي في الإفهام بشطره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل (2)) ) .
ويرى السكاكي (ت:626هـ) أن الإيجاز ((أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط (3)) ) .
وإلى هذا المعنى ذهب ابن الأثير (ت:637هـ) منوّهاً بأهمية الإيجاز وقيمته الفنية فهو ((حذف زيادات الألفاظ وهذا نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من سبَق إلى غايتها وما صلى، وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلّى وذلك لعلو مكانه، وتعذّر إمكانه…فربّ لفظ قليل يدلّ على معنى كثير، وربّ لفظ كثير يدل على معنى قليل (4)) ) .
وبهذا المعنى الدقيق للإيجاز أصبح سمة بارزة على ما كتبه عمرو بن مسعدة وظاهرة من ظواهر نثره الفنية، مما حدا بالزركلي (5) أن يقول عنه: ((وكان مذهبه في الإنشاء الإيجاز واختيار الجزل من الألفاظ)) .
ومن المؤكد أن هذه الظاهرة لم تأت في نثره بهذا الشكل الواضح البارز من فراغ، بل لم تكن عن عجز وعدم قدرة على الاسترسال في التعبير عن المضامين والأفكار، بل كانت سمةً مميِّزة لقدرة الكاتب الفائقة على التعبير، وسبر أغوار المعاني بقليل من الألفاظ والتراكيب، وكانت لذلك عوامل وأسباب، منها ما هو عام مشترك في كتابة عامة الكتاب الموجزين، ومنها ما هو أشبه بالخاص بابن مسعدة.
أما العوامل العامة المؤدّية للإيجاز عند ابن مسعدة وغيره فقد لخّصها أحد الدارسين (6) في ثلاثة عوامل:
1 طبيعة اللغة.
2 طبيعة الفنّ ذاته.
3 طبيعة الحياة.
ويمكنني أن أضيف إلى العوامل السابقة طبيعة الموضوع أيضاً.(7/389)
أما عن طبيعة اللغة، فمن المعلوم أن المعاني والمضامين واسعة كثيرة، في حين أن الألفاظ التي نحتاجها للتعبير عن هذه المعاني محدودة معدودة، إذا قورنت بالمعاني، وفي ذلك يقول الجاحظ: ((…ثم اعلم حفظك الله أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة (1)) ) .
وابن مسعدة كغيره من الناس يتكلم، ويعبر، ويكتب عن أفكار كثيرة تمليها عليه طبيعة الحياة العامة والخاصة التي يعيشها، فهو مضطر أن يفيد من طبيعة اللغة، وما تتميّز به من خصائص، وما فيها من أسرار، أشار التوحيديّ إلىكثير منها في معرض حديثه عن الكلام البليغ بقوله: ((فإن الكلام صَلِف تيّاه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان، وخطره كثير ومتعاطيه مغرور، وله أَرَن (2) كأرَن المُهر، وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرّة، ويتعسّر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً، ومادته من العقل، والعقل سريع الحؤول (3) ، خفيّ الخداع، وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان، ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان، وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا ودَرْيُه (4) بالتمييز، ونسجه بالرقة والحجا في غاية النشاط (5)) ) .
أما العامل الثاني من عوامل الإيجاز فهو طبيعة الفن ذاته، فالفن ((ليس إعادةً للواقع، نسخة منه، مطابقاً له، ولا يمكن أن يكون كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لزهدنا فيه، ونفرنا منه، واجتويناه، فالواقع الأصلي يغنينا خير غنى عن هذه الصورة المسخ الفاقدة المعنى الخالية من الحياة (6)) ) .(7/390)
وعلى الرغم من ذلك فإننا لا نستطيع أن نعدّ كل إيجاز محمود مرغوب إذ له أحوال ومواضع يحسن فيها، وله غيرها يقبح فيها، وإلى هذا أشار جعفر بن يحيى البرمكي في توقيع له إلى عمرو بن مسعدة قال فيه: ((إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عِيّاً (1)) ) .
أما عن طبيعة الحياة (العامل الثالث) فما من شك في أن البيئة بطبيعتها وجوانبها المختلفة (المكانية، الزمانية، العلمية والأدبية، الاجتماعية والسياسيّة) وما تخلعه تلك على الحياة التي يعيشها الأديب، وما تصبغ به حياته من أفكار، وتدفعه إليه من سلوك، وما تشغل به وقته من أعمال وحوائج يلزمه قضاؤها، فإن لذلك كله أثره الواضح أحياناً في جذب الكاتب إلى الإيجاز، وعدم التطويل.
وأما عن طبيعة الموضوع، فما من شك في أن الموضوع يفرض نفسه على الكاتب، وتحدّد طبيعته الطريقةَ المناسبة لتناوله، وعرض أفكاره العامة، والجزئية؛ لذا أرى من أسباب الإيجاز عند ابن مسعدة وغيره ممن سار على نهجه طبيعة الموضوعات النثرية التي طرقها.
فالرسائل الإخوانية بخاصة سلكت أسلوب المراجعات، والمجاوبات، أي أنها تكون أحياناً ردّاً أو جواباً، فمطلوب فيها الإيجاز، والحِكَم أساساً تقوم على الإيجاز، وكذلك التوقيعات.
وإلى جانب هذه العوامل العامة المؤثّرة في بروز ظاهرة الإيجاز في كتابات الكتاب الموجزين والتي كان لابن مسعدة نصيب منها نجد عوامل صريحة مباشرة كان لها تأثيرها البيّن في دفعه إلى الإيجاز فيما كتبه.(7/391)
فمع ما كان يذهب إليه أساطين البلاغة، وأمراء البيان في العصر من إشادة بهذا المسلك، ومن بين هؤلاء الخليفة المأمون الذي عُرِف ببيانه وبلاغته، فقد كان له تأثير كبير على ابن مسعدة فكان يحب الإيجاز، ويعجب به كما جاء في بعض مقولاته عنه، ولم يقف أثره على الإعجاب به فقط، بل كان يدعو صراحة إلى نبذ الاستطراد فقد جاء في خبر سبق (1) أن المأمون طلب منه أن يكتب إلى عامل دَسْتبى كتاباً فأطاله ابن مسعدة، فأخذه المأمون من يده، وكتب: ((قد كثر شاكوك فإمّا عدلتَ، وإما اعتزلتَ (2)) ) .
كما جاء في خبر آخر عنه أن المأمون قد أمره أن يكتب لشخص كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره وأن يكون ذلك في سطر واحد فقط (3) ، فكتب له: ((كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبتُ إليه، معنيّ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله، والسلام (4)) ) .
فالمأمون فيما تقدم يحثّ ابن مسعدة، ويحضّه على الإيجاز ما أمكنه ذلك، ولم يكن عمرو (وهو الكاتب الفَطِن) بالذي يعصي لخليفته وولي نعمته أمراً، بل كان أشد التزاماً بما أُمِر به.
ومن المؤكّد أن غير المأمون من الأدباء، والبلغاء، والكتاب النابهين، من يرى هذا الرأي، ويسير على نهجه فيما تبدعه قريحته، ويخطه يراعه، وما كان إعجاب جعفر البرمكي بأحد توقيعاته، وإشادته به إلا واحداً من ذلك.
ويعدّ الإيجاز في نثر ابن مسعدة كما في نثر غيره ((من أبرز آثار التوازن بين اللفظ والمعنى، وأفضل حسناته…وهو توازن دقيق وحدّ وسط بين الإفصاح البالغ المسرف في ثرثرته وفضوله، وبين الغموض الكزّ الضنين بأسراره وكنوزه، ولا يلين ولا يستجيب وإن جهد الذهن في استنطاقه (5)) ) .(7/392)
هكذا نجد هذه العوامل والأسباب كلها، بالإضافة إلى التزام كتاب العصر في جملتهم بالإيجاز تدفع بابن مسعدة كغيره من بلغاء عصره إلى أن يوجز في كتابته إيجازاً أصبح أبرز سمة من سمات فنّه الذي أبدع فيه، وأصبح إماماً له، وكان من أجله موضع تقدير من لدن أرباب البيان والبلاغة في عصره وبعده، فقد قال عن نفسه: ((كنت أوقِّع بين يديْ جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إليَّ، وقال: أجب عنها. فكتبت: قليل دائم خير من كثير منقطع. فضرب بيده على ظهري، وقال: أي وزير في جلدك؟ (1)) ) .
ويروع المأمون بيانه، ويعجبه إيجازه، وتسحره بلاغته في خبر جاء فيه: أنه ((قدم رجل من أبناء دهاقين قريش على المأمون لِعِدَةٍ سلفت منه فطال على الرجل انتظار خروج أمير المؤمنين، فقال لعمرو بن مسعدة: توصل في رقعة مني إلى أمير المؤمنين تكون أنت الذي تكتبها تكون لك عليَّ نعمتان. فكتب: إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته ويأذن له في الانصراف إلى بلده فعل إن شاء الله.
فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمراً فجعل يعجبه من حسن لفظها وإيجاز المراد.
فقال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟
قال: الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه وبجائزة ألف درهم صلة على دناءة المطل، وسماجة الإغفال، ففعل ذلك له (2)) ) .
وقد شاع تفوقه في الإيجاز، وشهرته به، حتى صارت بعض نصوصه شواهد صالحة، وأمثلة يمثَّل بها في الدرس الأدبي والبلاغي، فقد وجدنا الخفاجي (ت:466هـ) (3) مثلاً يعدّ من ((إيجاز القصر)) ما كتبه ابن مسعدة عن المأمون إلى بعض عماله: ((كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنّى بمن كُتِب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام (4)) ) .(7/393)
وهذا الكتاب على قِصَرِه ((يصوّر المهارة العقلية التي كان يحتاجها كاتب الديوان في العصر العباسي، فهو يحتال في كتاباته، وهل في هذا الخطاب سوى الاحتيال بصورة طريفة عن الفكرة التي يريد الكاتب أن يؤديها؟ (1)) ) .
وذكر الجرجاني (ت:729هـ) أن إيجاز القصر على نوعين وكلام ابن مسعدة هذا من النوع الثاني منه ((وهو أن يؤتى بألفاظ دالّة على معنى أو معانٍ محملة إذا فُصِل أو فُصِلت صارت معانيَ كثيرة (2)) ) .
وكلام ابن مسعدة المتقدم من الإيجاز المحمود الذي عرّفه ابن خفاجة بقوله: ((هو إيضاح المعنى بأقلّ ما يمكن من اللفظ (3)) ) .
وعندما ننظر فيما بقي بين أيدينا من نثر ابن مسعدة نجده لم يخرج في إيجازه عن سَنَن الفصحاء والبلغاء، الذين استحسنوا الإيجاز في بعض المواضع مثل الاعتذار، والشكر، ومخاطبة الخاصة، ونحو ذلك، فقد عرفناه حسن السياسة للأمراء والولاة، حسن الصحبة لهم، أديباً في مخاطبتهم، موجزاً في حديثه إليهم، ولم يكن ذلك خافياً عليهم، يظهر ذلك فيما روي عن عمرو بن مسعدة أنه كتب إلى المأمون: ((كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قِبَلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم. فقال المأمون: والله، لأقضين حق هذا الكلام، وأمر بإعطائهم لثمانية أشهر. فجعل يردّد فيه النظر ثم قال لأحمد بن يوسف: لعلك يا أحمد فكرت في ترديدي النظر في هذا الكتاب. قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال ألم تر يا أحمد إلى إدماجه المسألة في الإخبار، وإعفاء سلطانه من الإكثار؟ ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر (4)) ) .
وقد بيّن المأمون فيما تقدّم سرّ إعجابه بالتفوّق الفنيّ الذي أحرزه كتاب ابن مسعدة إليه في شأن رجل من دهاقين قريش وكذا في شأن الجند، وهو يرجع إلى أمرين:(7/394)
أولهما: قدرته الفنية على سؤال الحاجة من الخليفة بأسلوب الإخبار، وفي ذلك لطافة من جهة التعريض والتلميح بالحاجة دون التصريح بها.
ثانيهما: مخاطبته الخليفة بكلام موجز، بعيد عن الإطالة، وفي ذلك راحة لمن وُجِّه له.
وقد وُفّق الكاتب في هذا الصنيع، إذ إنّ الإيجاز ((ينبغي أن يستعمل في مخاطبة الخاصّة، وذوي الأفهام الثاقبة الذين يجتزئون بيسير القول عن كثيره، وبجُمَلِه عن تفسيره…وفي الجوامع التي تُعْرض على الرؤساء فيقفون على معانيها، ولا يشغلون بالإكثار فيها (1)) ) . والمأمون من جملة أولئك بل على رأسهم؛ فقد عُرِف بعلمه، وأدبه، وبلاغته، وبيانه.
فيما سبق يتبين لنا أثر واحد من آثار بلاغة ابن مسعدة، إذ كان كلامه سبباً في التعجيل بالهبة، فلم يقف أثر هذه البلاغة عند حد الإعجاب، فقط بل تجاوز ذلك لتفعل تأثيرها في المستمع، وهو هنا من عِلْية القوم.
وهكذا يظل الإيجاز سمة غالبة على نثر عمرو، لم يتجاوزه في جميع ما تبقّى بين أيدينا من نثره.
ثانياً: قِصر الجُمَل:
جاءت النصوص الباقية بين أيدينا من نثر ابن مسعدة في مجملها جملاً قصيرة متوازنة، قد لا تتجاوز الواحدة منها كلمتين أو ثلاث، نتبيّن ذلك كثيراً فيما كتبه جواباً لكتاب وصله من صديق له، وقد أوردت هذا الرسالة كاملة في موضوع الرسائل الإخوانية، فلا ضرورة للتكرار هنا.
كما نتبين ذلك أيضاً في قوله ((أعظم الناس أجراً، وأنبههم ذكراً، من لم يرض بموت العدل في دولته، ويتوخى ظهور الحُجّة في سلطانه، وإيصال المنافع إلى رعيته في حياته. وأسعد الرعاة من دامت سعادة الحق في أيامه، وبعد وفاته وانقراضه (2)) ) .(7/395)
ومثل ذلك كثير عند ابن مسعدة، غالب على نثره، وقد مرّ بنا في ثنايا البحث نماذج كثيرة لا ضرورة لتكرارها، تدل دلالة قاطعة علىشيوع الجمل القصيرة في كتابات ابن مسعدة ((حتى تحوّلت الكتب عنده إلى كلمات قصار، ككلمات التوقيعات، بل لعلها أشد قِصراً، وأقوى منها حدّة. وما نشك في أنه تأثر في هذا الاتجاه بالحِكم الكثيرة التي تُرجِمت في عصره، على نحو ما نرى في الأدب الصغير والكبير لابن المقفّع، وكأنه أراد أن يجعل كتبه أو على الأقل طائفة منها حِكماً وأمثالاً تدور على ألسنة الكتاب والأدباء (1)) ) .
كل ذلك قد أسهم في تحقيق بعض القيم الفنية المهمة للمضمون والشكل على حد سواء. ومن ذلك:
1 وضوح المعنى؛ إذ يتيح قِصَر الجمل الفرصة للقارئ، والمستمع؛ لاستحضار قواه الذهنية، مما يمكّنه من استيعاب ما يعبّر عنه من معانٍ جزئية، في قوالب تعبيريّة مقطّعة، موجزة.
2 قوّة الأسلوب، مما ينتج عنه قدرة الكاتب على التأثير في المتلقي، وهذا في حد ذاته هدف أساس للكتابة الأدبية بعامة.
3 توفير قدرٍ لا بأس به من الجرس والإيقاع الصوتي؛ إذ تكوّن هذه الجمل القصيرة مقاطع إيقاعية متعادلة ومتوازنة ومتناغمة، تمنح النص قدراً من إيقاع النثر وجَرْسه الموسيقيّ الجميل.
• • •
الخاتمة:
في هذا البحث تناولت بالدراسة سيرة عمرو بن مسعدة العامة، والخاصة، ذلك العَلَم الذي حظِي بمكانة مرموقة في الدولة العباسية في عصرها الأول.
كما تناولت بالدراسة والتحليل إبداعه النثري، محاولاً بذلك تجلية أبرز جوانبه وقِيمه الفنية التي كانت سبباً في تفوّقه وخلوده.
وقد توصّلت من خلال هذه الدراسة إلى عدد من النتائج من أبرزها:
أولاً: ضياع كثير من نثر ابن مسعدة، فقد كشفت هذه الدراسة بما لا يدع مجالاً للشك أن ما بقي بين أيدينا من هذا النثر لا يمثّل إلا النزر اليسير مما أبدعه فكره، وخطّه يراعه.(7/396)
ثانياً: تعدّد فنون هذا النثر، فقد كتب ابن مسعدة في فن الرسائل (الديوانية، والإخوانية) ، وفن الحِكم، وفن التوقيعات.
ثالثاً: صاغ ابن مسعدة نثره في لغة أدبية راقية، ذات خصائص فنية رفيعة، يأتي في مقدمتها: وضوح الفكرة، وفصاحة الكلمة، وجزالة اللفظة، وقِصَر الجمل، وجودة التراكيب، مؤلفة من مجموع ذلك أسلوباً يعد في إطار ((الأسلوب السهل الممتنع)) بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى.
رابعاً: يُعدّ الإيجاز أبرز خصائص نثر ابن مسعدة الفنية، وهو اللون المُميِّز لهذا النثر. وقد دفع إليه، ومكّن منه أسباب عامة، وخاصة، عرضتها بالتفصيل في موضعها من البحث.
أخيراً فإني على يقين من أن ما قدمته هذه الدراسة عن هذا العَلَم من أعلام النثر الفني العربي، وما كشفت عنه من تفاصيل حياته، وخصائص نثره الفنية لا يعدو جهد المقل، حاولت به إضافة رؤية جديدة إلى جهود بعض الدارسين السابقين، وأملي أن أكون قد وُفّقتُ لذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الحواشي والتعليقات
وفيات الأعيان: 1 / 45. ويزيد هذا هو أبو خالد، أمير، قائد، شجاع، جواد، ولِيَ خراسان بعد وفاة أبيه (سنة:83هـ) ثم عزله عبد الملك بن مروان برأي الحجاج، ولما استُخلِف سليمان بن عبد الملك ولاّه العراق، ثم خراسان، وأخيراً نابذ بني أمية الخلافة فقتِل بعد حروب كثيرة. انظر: الوزراء والكتاب، الصفحات:41،49،50،52، وفيات الأعيان:6/278-309.
ياقوت الحموي، معجم البلدان: 3 / 435 (صول) .
وفيات الأعيان:1/45-46. والعقر:اسم لعدة مواضع، والمقصود منها هنا عقر بابل قرب كربلاء من الكوفة، وفي يوم العقر المشهور الذي نازل فيه يزيد بن المهلب بن أبي صُفرة جيش يزيد بن عبد الملك بقيادة أخيه مسلمة عام: 102هـ، وذلك بعد أن خلع طاعة بني مروان، ودعا إلى نفسه، وأطاعه أهل البصرة والأهواز وفارس وغيرهم، فأجلت الحرب عن قتل ابن المهلب. انظر: معجم البلدان (العقر) .(7/397)
هذا رأي يحتاج إلى إعادة النظر، فمن المعروف أن المكانة العلمية والأدبية لهذه الأسرة، وهي مكانة لاتقل خطراً عن مكانتهم السياسية إن لم تتفوّق عليها.
الأدب في موكب الحضارة الإسلامية: 393.
هكذا ورد، والمراد سبع عشرة.
سليمان بن مخْلَد الموريانيّ، من قرية من قُرى الأهواز يقال لها: الموريَان، كان ظريفاً خفيفاً على القلب، مقرباً من المنصور، مكيناً عنده، ولذا قلده الدواوين مع الوزارة. انظر: الوزراء والكتاب:97-100.
معجم الأدباء: 16/127.
أي: عظمته، وما جاء في إجلاله وتعظيمه.
الإعذار: مصدر أعذر ومعناه: اعتذر عذراً يُعْذَر به، وصار ذا عذر منه. (اللسان: عذر)
معجم الأدباء:16/128.
معجم الأدباء: 16/129.
الأغاني: 1234.
…ابن عمر بن يونس، أبو عمرو، شاعر كوفي من الموالي، ومن مخضرمي الدولتين (الأموية والعباسية) كان ماجناً، ظريفاً، خليعاً، متهماً في دينه بالزندقةانظر: تاريخ بغداد: 8/148، وفيات الأعيان:2/210-214.
يناقف: يجالد ويصارع، والمقصود هنا: ما دار بينهما من مهاجاة شديدة.
الأغاني: 5226، 5227.
انظر: أمراء البيان:184.
انظر: تاريخ بغداد: 12 /203
3/475.
انظر: سير أعلام النبلاء: 10/181.
وفيات الأعيان: 1/45.
…وزير الرشيد، كان عظيم القدر، جواداً كريماً، سمِح الأخلاق، وكان كاتباً بليغاً، من ذوي الفصاحة والبيان. قتله الرشيد سنة: 187هـ. انظر: تاريخ الطبري:4/657، الوزراء والكتاب: 204، وفيات الأعيان: 1/328، وما بعدها.
وفيات الأعيان: 3/476.
انظر: تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) لشوقي ضيف:553.
انظر: زهر الآداب:960،961.
… الأحول (ت:210هـ) من وزراء المأمون المشهورين بالبلاغة، والفصاحة، وسداد الرأي. انظر: الفخري:224.(7/398)
…بن القاسم بن صَبيح العجليّ ولاءً، وزير كاتب، شاعر، مشهور بفصاحته وبلاغته، وقوة بديهته، ولِيَ ديوان الرسائل للمأمون، وتوفي ببغداد سنة:213هـ. انظر: تاريخ بغداد:5/216، معجم الأدباء:5/161-183.
…بن يسار، من وزراء المأمون المشهورين، كان كاتباً حاسباً، وكان أهوج حاداً، سريع الغضب. انظر: الفخري:226، الهفوات النادرة:246-250.
أمراء البيان: 177.
معجم الأدباء: 16/129.
العقد الفريد:4/175-179 الفرج بعد الشدة:3/306-313، صبح الأعشى: 1/177،180.
أمراء البيان: 177.
هو عمرو بن فرج، كان أبوه من أعيان الكتاب في أيام المأمون إلى أيام المتوكل، والرخّجي: نسبة إلى ((رُخَّج)) كورة ومدينة من نواحي كابل. انظر: معجم البلدان (رخج) .
العقد الفريد:4/175-179، الفرج بعد الشدة:3/306-313، صبح الأعشى:1/177-180.
انظر: معجم الأدباء: 16/129.
الأحكام السلطانية: 22.
الأحكام السلطانية: 22 -23.
التنبيه والاشراف: 294.
معجم الشعراء: 219. آداب الملوك: 39.
المأقِط: في الأصل المضيق في الحرب، والمراد به هنا ضيق الحاجة وكربها.
الأغاني: 2606-2607.
الأغاني: 2617-2618.
ديوان النابغة الذبياني: 42.
إعتاب الكتاب: 117.
جمع سكرجة: وهي القصعة الصغيرة التي يؤكل فيها.
المري: رب مملوح.
الدست: صدر البيت.
أمراء البيان: 187-188.
الفرج بعد الشدة: 1/385.
تحفة الأمراء: 162.
تاريخ بغداد: 12/203-204.
معجم الأدباء: 16/131. وانظر: كتاب الذّخائر والتحف: 225.
وفيات الأعيان: 3 / 477،478. وانظر الشعر في الطرائف الأدبية: 130.
زهر الآداب: 960-961.
كلثوم بن عمرو بن أيوب…بن عتاب التغلبي (ت:220هـ) شاعر عباسي، اتصل بهارون الرشيد، والمأمون، كما اتصل بالبرامكة،وآل طاهر.انظر: الأغاني:4623-4639، تاريخ بغداد:12/488، معجم الأدباء:17/26-31.
معجم الأدباء: 17/29.
إعتاب الكتاب: 112.(7/399)
لمحمد البيدق النصيبي في عمرو بن مسعدة وقد اشتكى، في وفيات الأعيان: 3/477.
مولى بني تميم، شاعر من شعراء الدولة العباسية، وأحد الخلعاء المجان، الوصّافين للخمر، اتصل بالبرامكة، ومدحهم، واتصل بيزيد بن مزيد، وانقطع إليه حتى مات يزيد، مدح الأمين، والمأمون، وعمرو بن مسعدة وغيرهم. انظر: الأغاني: 7676وما بعدها، تاريخ بغداد: 9/411-413.
عصر المأمون: 3/70، 71.
أدم الّركاب: الإبل التي لونها مشرّب سواداً أو بياضاً. الطِّرف هنا: الكريم العتيق من الخيل. الطَّفلة: ناعمة البَنان. الكاعب: ناهدة الثديين.
أكوار: جمع كَور، وهو ما يُحمل على ظهر الدابة. حراجيج: جمع حُرجوج، وهي الناقة الشديدة، أو الضامرة. مهمه: صحراء بعيدة. لاحب: واضح.
عاصب: شديد.
… النميري (ت:213هـ) أبو معن، من كبار المعتزلة، وله أتباع منهم يسمون الثمامية، ومن تلاميذه الجاحظ، وهو فصيح بليغ من المقدمين في البلاغة، كان ذا صلة بالرشيد، ثم بالمأمون، وكان ذا نوادر وملح. انظر: البيان والتبيين:1/105، تاريخ بغداد:7/145-148، طبقات المعتزلة:62.
كتاب ذم أخلاق الكتاب، ضمن رسائل الجاحظ: 2/195.
…الكنانيّ، فقيه من أهل الجدل والمناظرة، وهو من تلاميذ الشافعي، الذين طالت صحبتهم له، قدم بغداد في أيام المأمون، فجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة في قوله بخلق القرآن، توفي سنة:240هـ. انظر: ميزان الاعتدال:2/639
بشر بن غياث بن أبي كريمة (عبد الرحمن) المريسي، فقيه معتزليّ عارف بالفلسفة، يرمى بالزندقة، وإليه تنسب الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء، وهو من أهل بغداد ينسَب إلى ((درب المريس)) توفي سنة:218هـ. انظر: تاريخ بغداد:7/56، وفيات الأعيان:1/277،278، سير النبلاء:10/199وما بعدها.
الحيدة: 24،25. وهذه الرسالة قد نفى الذهبي نسبتها إلى عبد العزيز المكي في ميزان الاعتدال:2/639.(7/400)
انظر كلام ابن مسعدة هذا بتمامه في القسم الثاني من البحث، بعنوان خبره مع عبد العزيز المكيّ.
انظر: صُبح الأعشى: 1/127.
تأثير الحِكم الفارسية: 312.
انظر الفهرست: 439.
انظر الفهرست: 182.
تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) : 552-553.
تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) : 553.
تاريخ بغداد:12/203.
الصناعتين: 61.وانظر: معجم الأدباء: 16/129، صبح الأعشى: 2/235،2/357.
وفيات الأعيان: 3/476.
مقدمة ابن خلدون:681.
التذكرة الحمدونية: 6/321.وانظر: المحاسن والأضداد للجاحظ: 28، زهر الآداب: 837.
المحاسن والأضداد للجاحظ: 28. وانطر: زهر الآداب: 837.
زهر الآداب: 837. كفاية الطالب: 217، وانظر: الإعجاز والإيجاز للثعالبي:112، وعدّه من بدائع الكتاب والبلغاء. آداب الملوك:143-144 سر الفصاحة: 212، وانظر:الوفيات 3/478.
انظر: تحرير التحبير: 415.
تحرير التحبير: 415.
مقدمة ابن خلدون:681.
تاريخ بغداد:12/203، وانظر: الوفيات:3/476
سير أعلام النبلاء:10/181.
وييقال لها: أدَنة وهي اليوم مدينة من مدن تركيا المشهورة.
تاريخ الأدب العربي، لعمر فروخ:2/216.
انظر: الفهرست: 239.
انظر: سير أعلام النبلاء: 10/182.
الأفضليات: 257.
الأفضليّات: 257.
انظر: الأعلام:5/86.
كورة كبيرة في بلاد فارس بين الري وهَمَذان. انظر: معجم البلدان: دستبى (2/454) .
المحاسن والمساوئ للبيهقي: 559.
انظر: العقد الفريد: 4/156.
أمراء البيان: 176.
أمراء البيان: 176.(7/401)
هو نصر بن سيّار بن شَبَث العقيليّ، كان يسكن كيسوم (ناحية شمالي حلب) وكان محبا للأمين، وله فيه هوى، فلما قُتِل أظهر الغضب لذلك، وأعلن الخلاف على المأمون، واجتمع معه خلق كثير من الأعراب، ووقف بهم في وجه المأمون، فأرسل إليه عبد الله بن طاهر في جيش فشدد الحصار عليه، فانتهى أمره بالاستسلام سنة:210. انظر: الكامل لابن الأثير (حوادث عام:199هـ:5/171وما بعدها) .
المراد هنا: لتطعم، ولتتجرّع مرارة عصيانك وتمردك، وعواقبه الفاسدة.
الطغام: الأرذال.
الأوباش: الأخلاط المتفرقون من الناس.
أمراء البيان:179-180.
محمد بن عبد الحميد، والٍ كان من رجال المأمون، وقد ولاه اليمن سنة:212هـ، وذلك بعد أن ثار واليها أحمد بن محمد العمري المعروف ب ((أحمر العين)) وخَلَع طاعة العباسيين. انظر الكامل لابن الأثير:5/216.
اللخن: القبح أو النَّتَن.
جمهرة رسائل العرب:3/29.
يندرج هذا الكتاب تحت مفهوم الرسائل الإخوانية، وقد أثبته هنا لصدوره عن ديوان الخليفة.
اختيار المنظوم والمنثور: 13/303.
رسائل ابن الشخباء: 33.
الأدب في موكب الحضارة الإسلامية: 399.
جواهر الأدب:1/44.
النثر الفني في القرن الرابع الهجري: 1/130.
أي طلب من أن يشفع له.
اختيار المنظوم والمنثور: 12/262.
نثر الدُّر: 5/121.
جواهر الأدب: 1/45.
أحمد بن يوسف: 83.
أحمد بن يوسف: 82.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
مجمع الأمثال: 1/445.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.(7/402)
الدَّبَر: قروح تصيب ظهر البعير ونحوه لكثرة ما حُمِل عليه، ورُكِب. (انظر: اللسان: وقع) .
اللسان: (وقع) .
صبح الأعشى: 1/110.
السان: (وقع) .
تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) : 489.
البيان والتبيين:1/115، زهر الآداب:1/157.
انظر: النثر في العصر العباسي، وأشهر أعلامه:220،221.
البيان والتبيين: 1/106،107.
وفيات الأعيان: 3/476.
وفيات الأعيان: 3/476.
أمراء البيان:184.
البيان والتبيين: 1/115.
الأسلوب: 166.
البيان والتبيين: 4/24.
صبح الأعشى: 1/273.
النقد الجمالي، وأثره في النقد العربي: 107.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
عصر المأمون:3/62، أمراء البيان:180.
المثل السائر: 1/275.
أمراء البيان:179-180.
البيان والتبيين: 1/137.
البيان والتبيين: 1/255.
الوساطة: 24.
المثل السائر: 1/152.
التمثيل والمحاضرة: 462.
أمراء البيان:179-180.
عصر المأمون: 3/63، أمراء البيان:180.
شارف الدروس: أشرف، وأوشك على الامحّاء والزوال.
مُشفٍ: مقبل.
معجم الأدباء: 16/130،131.
الطِّرف: الجواد الأصيل الكريم.
يبعثه: يدفعه ويحثه على السرعة في الجري، وهو إنما يريد هنا أن سرعة هذا الفرس طبيعة وعادة له.
لُمَح المُلَح: 392. والشوط: مرّة الجري إلى غاية.
المريغ: الطالب.
الإمتاع والمؤانسة: 2/145.
أمراء البيان: 182.
الطومار: الصحيفة.
الحيوان: 1/91.
مفتاح العلوم: 277.
المثل السائر: 2/303.
الأعلام: 5/86.
انظر: حول مفهوم النثر:53-55.
البيان والتبيين: 1/76.
الأرن: النشاط.
الحؤول: التحول والتغيّر.
دريه:درايته والعلم به.
الإمتاع والمؤانسة: 1/9-10.
حول مفهوم النثر: 55.
الأمالي: 1/222. نقد النثر: 96-97.
ص: 38.
المحاسن والمساوئ للبيهقي: 559.
انظر: نهاية الأرب:7/260.
وفيات الأعيان: 3/475.وانظر: نهاية الأرب:7/260.
حول مفهوم النثر: 51.
وفيات الأعيان: 3/476.(7/403)
المحاسن والأضداد للجاحظ:28-29.زهر الآداب:1023.
انظر: سر الفصاحة: 212.
سر الفصاحة:212نثر الدر: 5 / 102 وفيات الأعيان: 3 / 475. الإشارات والتنبيهات: 148.
الفن ومذاهبه:197-198.
الإشارات والتنبيهات: 146.
سر الفصاحة: 211.
المحاسن والأضداد: 28،زهر الآداب: 837، كفاية الطالب: 217، وانظر الإعجاز والإيجاز للثعالبي: 12،وقد عدّ قول ابن مسعدة هذا من بدائع الكتاب والبلغاء، آداب الملوك:143-144، سر الفصاحة: 212، الوفيات 3/478.
نقد النثر: 97.
عصر المأمون: 3/61، أمراء البيان:178.
تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) لشوقي ضيف:558.
المصادر والمراجع
آداب الملوك، لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي (ت:429هـ) تحقيق د. جليل العطية، ط:1،دار الغرب الإسلامي، بيروت لبنان
الأحكام السلطانية، والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (ت:450هـ) ، دار الكتب العلمية بيروت، 1398هـ=1978م.
أحمد بن يوسف (الكاتب الوزير) ، تأليف د. علي إبراهيم أبو زيد، ط:1، دار المعارف- القاهرة، 1997م.
اختيار المنثور والمنظوم (مخطوط) ، لابن طيفور، صورة، عن نسخة مكتبة الأزهر، محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم:9914/ف، أدب.
الأدب في موكب الحضارة الإسلامية، تأليف د. مصطفى الشكعة، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة، 1968م.
الأسلوب، تأليف أحمد الشايب، ط:8، مكتبة النهضة المصرية القاهرة،1988م.
الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، لمحمد بن علي بن محمد الجرجاني (ت:729هـ) تحقيق د. عبد القادر حسين، دار النهضة مصر، د. ت.
إعتاب الكتاب، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الأبار (ت:658هـ) ، تحقيق وتعليق: د. صالح الأشتر، ط:1، مجمع اللغة العربية دمشق،1380هـ=1961م.
الإعجاز والإيجاز، لأبي منصور الثعالبي (ت: 429هـ) شرح إسكندر آصاف، ط:1، المطبعة العمومية مصر
1897م.(7/404)
الأعلام، لخير الدين الزركلي، ج:5، ط:9، دار العلم للملايين بيروت، 1990م.
الأغاني، لأبي الفرج الأصبهاني (ت:356هـ) تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الشعب، د. ت.
الأفضليات، لأبي القاسم علي بن منجب الصيرفي (ت:542هـ) تحقيق د. وليد قصاب، ود. عبد العزيز المانع، مجمع اللغة العربية دمشق،1402هـ.
الأمالي، لأبي علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي (ت:356هـ) ، دار الكتاب العربي بيروت، د. ت.
الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيّان علي بن محمد بن العباس التوحيدي (ت:414هـ) تصحيح وضبط أحمد أمين، وأحمد الزين، المكتبة العصرية بيروت، مصورة عن طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة، 1373هـ = 1953م.
أمراء البيان، تأليف الأستاذ محمد كرد علي، ط:3، دار الأمانة بيروت، 1388هـ=1969م.
البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي (ت:414هـ) ، تحقيق د. وداد القاضي، ط:1، دار صادر بيروت، 1408هـ = 1988م.
البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت:255هـ) ، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط:5، مكتبة الخانجي القاهرة، 1405هـ = 1985م.
تأثير الحِكم الفارسية في الأدب العربي في العصر العباسي الأول، تأليف د. عيسى العاكوب، ط:1، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر دمشق، 1989م.
تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر الطبري (ت:310هـ) ط:2، دار الكتب العلمية بيروت 1408هـ = 1988م.
تاريخ بغداد، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت:463هـ) دار الكتاب العربي بيروت، د. ت.
تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول) ، لشوقي ضيف، ط:4، دار المعارف مصر، 1966م.
تاريخ الأدب العربي، تأليف د. عمر فروخ، ج/2،ط:5، دار العلم للملايين بيروت، 1985م.
تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر، وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع المصري (ت:654هـ) ، تحقيق: د. حفني محمد شرف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة،1383هـ.(7/405)
تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، لأبي الحسن هلال بن المحسّن الصابئ (ت:448هـ) ، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، دار إحياء الكتب العربية القاهرة، 1958م.
التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (محمد الحسن بن محمد بن علي (ت:562هـ) الأجزاء:1،4،6،8، تحقيق: إحسان عباس، وبكر عباس، ط:1، دار صادر بيروت،1996م.
التمثيل والمحاضرة، لأبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت:429هـ) تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، الدار العربية للكتاب، 1983م.
جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، تأليف أحمد زكي صفوت، الجزء:3، ط:2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، 1391هـ= 1971م.
جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، تأليف: السيد أحمد الهاشمي، الجزآن:1،2، ط:27، المكتبة التجارية الكبرى مصر،1389هـ=1969م.
جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، تأليف: السيد أحمد الهاشمي، ط:12، دار إحياء التراث العربي بيروت، د. ت.
حول مفهوم النثر الفني عند العرب القدامى، تأليف: البشير المجدوب، الدار العربية للكتاب تونس،1982م.
الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت:255هـ) ، ج/1، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط:2، مكتبة ومطبعة البابي الحلبي القاهرة، د. ت.
الحيدة، للإمام عبد العزيز بن يحيى المكي (ت:240هـ) ، ط:2،دار الفتح للطباعة والنشر بيروت،1405هـ=1985م.
خاص الخاص، لأبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت:429هـ) ، قدم له حسن الأمين، دار مكتبة الحياة، بيروت، د. ت.
ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، دار المطبوعات الحديثة، جدة، د، ت.
رسائل ابن أبي الشخباء الإخوانية، تأليف د. علي إبراهيم أبو زيد، ط:1، دار القلم للنشر والتوزيع دبي الإمارات العربية المتحدة، 1409هـ=1989م.(7/406)
زهر الآداب وثمر الألباب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني (ت:453هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الثانية، طبع عيسى البابي الحلبي مصر، د.
سر الفصاحة، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن سنان الخفاجي (ت:466هـ) ،ط:1، دار الكتب العلمية بيروت
1402هـ=1982م.
سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (ت:74هـ) الجزء:10، ط:1، مؤسسة الرسالة بيروت، 1402هـ = 1982م.
صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، لأحمد بن علي القلقشندي (ت:821هـ) شرح: محمد حسين شمس الدين، ط:1، دار الكتب العلمية، 1407هـ=1987م.
الطرائف الأدبية، تصحيح وإخراج: عبد العزيز الراجكوتي، دار الكتب العلمية بيروت، د. ت.
عصر المأمون، تأليف د. أحمد فريد رفاعي، المجلد:3،ط:4،مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة، 1346هـ = 1928م.
العقد الفريد، لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه الأندلسي (ت:32هـ) ، تصحيح: أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الأبياري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر لقاهرة، 1375هـ.
عيون الأخبار، لابن قتيبة الدينوري (ت:276هـ) دار الكتاب العربي بيروت، د. ت.
الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، لابن الطَّقْطَقَى (أبو جعفر محمد بن علي ابن طباطبا العلوي، ت:709هـ) دار صادر بيروت.
الفرج بعد الشدة، لأبي علي المحسِّن بن علي التنوخي (ت:384هـ) تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر بيروت، 1398هـ = 1978م.
الفن ومذاهبه في النثر العربي، تأليف د. شوقي ضيف، ط:5،دار المعارف مصر، د. ت.
الفهرست، لابن النديم أبي الفرج محمد بن إسحاق (ت:385هـ) ، دار المعرفة بيروت، 1398هـ= 1978م.
الكامل في التاريخ، لابن الأثير (ت:630هـ) دار الفكر بيروت،1398هـ = 1978م.
الكامل في اللغة والأدب، لأبي العباس محمد بن يزيد المبرّد (ت:285هـ) تحقيق: محمد أحمد الدالي. ط:1، مؤسسة الرسالة بيروت، 1406هـ.(7/407)
كتاب الذخائر والتحف، للقاضي الرشيد بن الزبير (ق:5هـ) ، تحقيق: د. محمد حميد الله، تقديم ومراجعة: د. صلاح الدين المنجد، دائرة المطبوعات للتوزيع والنشر الكويت، 1959م.
كتاب ذم أخلاق الكتاب، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت:255هـ) ، ج:2، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، د، ت.
كتاب الصناعتين، لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت:395هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية بيروت، 1406هـ.
كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب، لضياء الدين بن الأثير الجزري (ت:637هـ) دراسة وشرح وتحقيق د. النبوي عبد الواحد شعلان، ط:1، الزهراء للإعلام العربي القاهرة، 1415هـ=1994م.
لطائف الأخبار وتذكرة أولي الأبصار، للقاضي أبي القاسم علي بن المحسّن التنوخي (ت:447هـ) ، تحقيق د. علي حسين البوّاب، دار عالم الكتب الرياض، 1413هـ = 1993م.
لُمَح المُلَح، لسعد بن علي الحظيري (ت:568هـ) دراسة وتحقيق شادن بنت عبد القدوس أبو صالح، رسالة دكتوراة محفوظة في كلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين بن الأثير (ت:637هـ) ، تحقيق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، ط:2، دار الرفاعي الرياض، 1403هـ.
مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني (ت:518هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين ابن عبد الحميد، دار القلم بيروت، د. ت.
المحاسن والأضداد، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت:255هـ) تحقيق الشيخ محمد سويد، ط:1، دار إحياء العلوم بيروت،1412هـ = 1991م.
المحاسن والمساوئ، لإبراهيم بن محمد البيهقي (ت:320هـ) تحقيق محمد سويد، ط:1، دار إحياء العلوم بيروت، 1408هـ.(7/408)
المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لعبد الرحمن (جلال الدين) السيوطيّ (ت:911هـ) تحقيق: محمد جاد المولى، وعلي البجاوي، ومحمد أبي الفضل إبراهيم، ط:4، طبع عيسى البابي مصر،1378هـ = 1985م.
معجم الأدباء، لياقوت الحموي (ت:626هـ) ، ط:3، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت.
معجم الشعراء، لأبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني (ت:384هـ) تصحيح د. ف. كرنكو، تصوير دار الكتب العلمية بيروت، عن الطبعة الأولى في مكتبة القدسي،1403هـ.
معجم البلدان، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي (ت:626هـ) دار صادر بيروت، 1404هـ.
معجم المراكب والسفن في الإسلام، للعلامة حبيب زيات، مجلة المشرق، آب_كانون الأول، 1949م، السنة 43.
مفتاح العلوم، لأبي يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي (ت:626هـ) ضبط وشرح: نعيم زرزور، ط:1، دار الكتب العلمية بيروت، 1403هـ=1983م.
مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت:808هـ) ، تحقيق وشرح: د. علي عبد الواحد وافي، ط:3، دار نهضة مصر للطبع والنشر القاهرة، د. ت.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت:748هـ) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة بيروت، د. ت.
نثر الدُّر، لأبي سعد منصور بن الحسين الآبي (ت:421هـ) الجزء الخامس. تحقيق محمد إبراهيم عبد الرحمن، مراجعة علي محمد البجاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1987م.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت:577هـ) ، تحقيق د. إبراهيم السامرائي، ط:3، مكتبة المنار الأردن، 1405هـ = 1985م.
النثر الفني في القرن الرابع الهجري، تأليف زكي مبارك، دار الجيل بيروت،1395هـ=1975م.
نقد النثر، المنسوب إلى أبي الفرج قدامة بن جعفر (ت:337هـ) ، دار الكتب العلمية بيروت، 1402هـ= 1982م.(7/409)
النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، تأليف الأستاذة روز غريب، ط:1، دار العلم للملايين بيروت، 1934م.
نهاية الأرب في فنون الأدب، لأحمد بن عبد الوهاب النويري (ت:733هـ) وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، د. ت.
الهفوات النادرة، لأبي الحسن محمد (غرس النعمة) بن هلال الصابي (ت:480هـ) تحقيق: د. صالح الأشتر، دمشق، 1967م.
الوزراء والكتاب، لأبي عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري (ت:331هـ) تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، ط:2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده مصر،1401هـ = 1980م.
الوساطة بين المتنبي وخصومه، للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت:366هـ) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية صيدا لبنان، 1386هـ=1966م.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس أحمد بن خلّكان (ت:681هـ) ، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر بيروت، د. ت.(7/410)
الصورة الفنية لحقول التراجيدي
في الشعر الجاهلي
د. عبد الله خلف العسَّاف
الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية والعربية -
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
ملخص البحث
لقد عكس الشعر الجاهلي مجموعة من القيم الجمالية التي من أبرزها: الجميل والقبيح والتراجيدي والجليل 0 وعبّر عن هذه القيم من خلال نظام بنائي جمالي مميّز انسجم وطبيعة تلك القيم 0
وقد بُني احتفاء الشعر الجاهلي بالتراجيدي عبر حالتين 0 تتمثّل الأولى بتجسيده الدائم لموت " الجميل " وما يخلّفه من مآسٍ متنوعة برزت في موقف الطلل، وموقفي الرحيل والاغتراب 0 وتتمثّل الثانية بتجسيد الشعر الجاهلي لخيبات الأمل التي كانت تنتاب الشاعر بسبب التناقض بين واقعه وبين " المَثَل الأعلى " الذي يطمح إليه 0 وكانت - دائماً - القبيلةُ بأنظمتها الصارمة تقف سدّاً قاسياً بين حلم الشاعر، ووسائل تحقيقه. وكان لشعر الصعاليك الدور الأكبر في تجسيد هذه الحالة، ممّا يدفعنا إلى اعتباره " الظاهرة التراجيدية " الأولى في الشعر الجاهلي بلا منازع 0
• • •
هدف البحث:
يشكل هذا البحث منظومة من أربعة أبحاث أخرى تتكامل معاً لترسم صورة لأصول نشوء "المُثُل الجمالية " في الشعر العربي، وبخاصّة " عمود الشعر " الذي نشأ في العصر الجاهلي، وغدا فيما بعد، " مثَلاً جمالياً " للشعر العربي في العصور اللاحقة حتى العصر الحديث، مدعوماً بالوعي الجمالي التقليدي 0
مقدمة البحث:
التراجيديا، كما أكّد " أرسطو "، هي كلُّ ما يثير فينا الشفقة والحزن 0 وقد اعتبر، حينها، أن المسرحية التراجيدية تشكّل ضرورة هامة للناس؛ لأنها تطهّر الكاتب حين يبدعها، والمتلقي حين يشاهدها، أو يتلقاها بصيغة معينة، وبخاصة إذا تقاطعت مع جوانب من مشكلاته المكبوتة 0(7/411)
و" التراجيدي " مصطلح جمالي مبنيّ - من حيث المفهوم المجرّد - على كلّ ما له علاقة بالمأساة 0 ويقابله المأساوي، أو المأسوي 0 وهو يشكّل، بعد تحوّله من المفهوم إلى القيمة، أحدَ الموضوعات الأثيرية التي تستهوي المبدعين 0 لذلك فالتراجيدي يُعَدُّ من أبرز مظاهر الإبداع الأساسية إلى جانب الجميل والقبيح والكوميدي والجليل 0
وللحضور التراجيدي المميّز في العمل الفني أسباب كثيرة، أبرزها اثنان: يتمثّل الأول في موت الجميل الذي يولِّد، غالباً، شعوراً مأساويّاً بمستوى معيّن لدى المبدع الذي يجسّده في عمله الفني تعبيراً أو تصويراً 0 ويتمثّل السبب الثاني في عدم الانسجام بين " المَثَل الأعلى " الذي يرغب الإنسان في تحقيقه، وبين محيطه الاجتماعي والثقافي 0 أي الشعور الذي يتولّد لدى المبدع حين تُقيّدُ طموحاته، وآماله لأسباب معينة، أو تنكسر 0 وهذا يولّد غالباً إحساساً عميقاً بالحزن، أو بخيبة الأمل 0
لذلك فالتراجيدي، في الفن، قيمة جمالية تعني التعبير عن المأساة بسبب انعكاس حدث معيّن على المبدع يُجسّده عادة عبر الصورة الفنية، أو بوسائل أخرى 0
و" علم الجمال " يتناول التراجيدي بوصفه مفهوماً جمالياً حُوِّل إلى قيمة في العمل الإبداعي 0 وهو لذلك يدرس التراجيدي في الفن عبر مستويين:
أ -: قيمة التراجيدي التي تحوّلت من الفكرة المجرّدة إلى الإحساس الذاتي المصاغ صياغة فنية، وملامحها، وعلاقتها بالقيم الأخرى من حيث المساحة والمجاورة والبنية ونمط التفاعل 0
ب -: الشكل الفني الذي جسّد المبدعُ موضوعَه فيه، ومدى انعكاس المحتوى التراجيدي وتغلغله ضمن هذا الشكل الفني عبر الموسيقى والإيقاع، والمفردة، والصورة الفنية، والمناخ 0 فإذا حدث مثلُ هذا التعالق فغالباً ما يكون المبدع موفّقاً 0
والشعر الجاهلي أعطى مساحة واسعة للتراجيدي في نصوصه 0 حتى لا يمكن لنا أن نقرأ هذا الشعر دون الاهتمام بهذا الجانب 0(7/412)
إنّ الفراغ، والرحيل، والفراق والتنقل، وعدم الاستقرار، واتّساع الصحراء غير المحدود، والظلمة الموحشة، والخوف، والصدام بين بعض الشعراء، وأنظمة قبائلهم، كلّها أسباب أساسية كانت وراء الحضور العنيف للتراجيدي في الشعر الجاهلي 0
ومن يقرأ هذا الشعر يحسُّ بنبرة حزن غالباً ما تكون عاليةً يردّدها الشعراء في كلّ نصوصهم دون استثناء 0 ويرافق تلك النبرة شعورٌ بالألم والقلق والوحدة وما إلى ذلك 0 حتّى ليخيّل إليَّ أنّ الشاعر الجاهلي لو أراد أن يقدّم الفرح، فهو سيقدّمه عبر التراجيدي 0
وسنفصّل - فيما يلي - بأبرز مظاهر التراجيدي في الشعر الجاهلي:
أوّلاً -: موقف الطّلل:
لقد كانت معظم القبائل العربية تعاني من نقص في المياه، والكلأ، لها، ولمواشيها بسبب طبيعة الجزيرة العربية الجافة آنذاك، ممّا يدفعها إلى أن تنتقل من مكان إلى آخر للبحث عنه في فصل الربيع غالباً 0 وكانوا يُطلقون على أماكن تجمّع المياه والعشب اسم " دارة " 0 ويحدث أحياناً أن تلتقي حول دارة من الدارات قبيلتان أو أكثر جاءتا من مكانين مختلفين في الجزيرة العربية، فيتمّ التعارف بين أفراد القبيلتين 0 وهو لا يتجاوز علاقة الجوار التي ستنتهي بانتهاء فصل الربيع، لتعود كلّ قبيلة إلى موطنها 0 وتشاء المصادفة، أحياناً، أن تنشأ علاقة عاطفية بين شاعر من هذه القبيلة، وفتاة من القبيلة الأخرى، وتلك العلاقةُ تولِّدُ ذكريات جميلة، ترتبط بأشياء متنوعة في المكان؛ لكن " التنقّل وعدم الاستقرار "، وانتهاء فصل الربيع يجعل القبيلتين تعودان إلى ديارهما، ويُجهز على الّلحظات الجميلة بين الأحبة 0
ويحدثُ، بعد سنوات، أن يتذكّر الشاعر تلك الّلحظات الجميلة التي مرّت به، فيربطها بكلِّ ما كان يجري في المكان 0 إنّ تجسيد الشاعر لهذا الموقف بأشكال مختلفة هو الأساس في الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي 0(7/413)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن " الماء " لم يكن السبب الوحيد في رحيل القبائل وتنقّلها من مكان إلى آخر، وإنما كان للحروب بين بعض القبائل، وما يمكن أن تخلّفه من ضحايا، الأثرُ الكبير في تغيير القبيلة لموطنها الأصلي.
لقد كان الشاعر يعود إلى الديار، على وجه الحقيقة أو الحلم، فلا يعرفها فيتكوّن لديه أوّلُ الشعور بالمأساة، وحين يتعرّف إليها بعد لأيٍّ، يكتشف أن الديار فارغة لا أحدَ فيها بعد أن كانت تنبض بالحركة والحياة والحب 0 وهذا الأمر يُصَعِّدُ لديه الشعور التراجيدي الذي يتضخّم أكثر حين يتركُ الشاعرُ العنانَ لذكرياته التي تنقله إلى الزمان الجميل، البعيد، وما جرى فيه من لقاءات لا تُنسى 0ثمّ يصحو من ذكرياته فيبلغ الشعور بالمأساة لديه ذروته 0
ذلك كان هو المسار العام الذي اتبعه الشاعر الجاهلي للتعبير عن التراجيدي، وتشكيله في موقف الطّلل0 ومّما كان يعمّق هذا الشعور التراجيدي أكثر هو الإحساسُ الشديد بالزمن؛ الماضي المزدهر، والحاضر الذي أقفر 0
ومن استعراض لمطالع بعض النصوص الشعرية في العصر الجاهلي نجد أنّ " التراجيدي " هو أبرزُ ما يواجهنا فيها من حيث موقعه في أوّل كلِّ نصّ، ومن حيث تضخّم الشعور المأساوي فيه 0
فامرؤ القيس يدعو إلى تعميم الشعور بالمأساة لعلَّ ذلك يخفّف عنه شدّة وقعها:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ الّلوى بين الدَّخول فحوملِ
فتوضح فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها
لِمَا نسجَتْها من جنوبٍ وشمألِ
ترى بَعَرَ الأرآم في عَرَصاتها
وقيعانها كأنّه حبُّ فلفلِ (1)
والشاعر هنا يركّز بوضوح على التفاصيل الجزئيّة في المكان، ويربطها بغياب الأحبة الذين ملؤوا تلك التفاصيل، واليوم لا أحدَ فيها 0
ويفصّل الحارث بن حلّزة أشياء المكان لأهميتها القصوى في بناء الموقف التراجيدي قائلاً:
فا لمحيّاة فا لصّفاحُ فأعنا
قُ فِتاقٍ فغاربٌ فالوفاءُ
فرياضُ القطا فأدويةُ الشُّرْ(7/414)
بُبِ، فا لشعبتانِ فا لأبلاءُ
لا أرى مَنْ عهدتُ فيها فأبكي ال
يومَ دلْهاً وماَ يُحيرً البكاءُ
وبعينيكَ أوقدتْ هندٌ النّا
ر َ أخيرا ً تُلوي بها العلياءُ
فتنوّرتَ نا رَها من بعيدٍ
بخُزارى، هيهاتَ منكَ الصِّلاءُ (1)
والشاعر، كما هو ملاحَظ بعد أن يُفصّل أشياء المكان، ينتقل إلى استثارة الشعور التراجيدي لدى المتلقي بعد أن يربط تلك التفاصيل بخلوّها من أهلها الذين كانوا يشغلونها 0
ويترك النابغة التفصيل بأسماء الأمكنة ليفصّل بأشياء جزئية أخرى تتعلّق بالبيت، ربما كانت الحبيبة تستخدمها 0 وهذه الأشياء تستثير لدى الشاعر شعوراً بالأسى والحزن، وبخاصة بعد أن يصحو من ذكرياته، ليكتشف أنّ كلّ شيء في المكان متروك ولا أحد فيه، أو حوله 0 يقول:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياء، فالسَّندِ
أقوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أصيلاناً أسائلُها
عيَّتْ جواباً وما بالربع من أحدِ
إ لاّ الأواريّ لأياً ما أبيّنها
والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجَلدِ
أمستْ خلاءً وأمسى أهلهُا احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لُبدِ (2)
وممّا يزيد الأمر بؤساً، ويجعل الشاعر أكثر شقاءً انطماس معالم الأمكنة، وصعوبة التعرف إليها 0 ومن خلال مقارنة واضحة بين ما كان يجري في هذه الأمكنة، وبين قَفْرها الآن ينمو الشعور بخيبة الأمل، فيحسُّ أنّ الجميل ذهب، والأكثر من ذلك شعوره الأكيد بأنّ ذلك الجميل لن يعود أبداً 0
يقول عبيد بن الأبرص مؤكّداً ذلك:
لمنِ الديارُ أقفرت بالجنابِ
غيرَ نُؤيٍ، ودمنةٍ كالكتابِ
غيّرتها الصَّبا ونَفْحُ جنوبٍ
وشمالٍ تذرو دُقاقَ الُّترابِ
أوحشتْ بعدَ ضُمَّرٍ كالسّعالي
من بناتِ الوجيهِ أو حَلاّبِ (3)
ويدعم هذا الموقف طرفة بن العبد قائلاً:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ
تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليد (4)(7/415)
وكان بعض الشعراء يواجه صعوبات كثيرة في التعرّف إلى تلك الأماكن التي أضحت رسوماً 0 وحين يجدها كان يقول لها كلاماً جميلاً، وكأنّه يعزّي نفسه بما جرى لها 0 ولكن هذا لا ينفي عمقَ الشعور التراحيدي لديه بل يؤكّده 0
فهذا عنترة ينادي أطلال عبلة، ويحيّيها مرّتين بعد أن أضناه تعبُ البحث عنها:
يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلّمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فوقفتُ فيها ناقتي وكأنه
فدَنٌ، لأقضي حاجةَ المتلوّمِ
وتحلُّ عبلةُ بالجواء، وأهلنا
بالحزن، فالصمّان، فالمتثلّمِ
حُيّيتَ من طلل تقادمَ عهدُه
أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثمِ (1)
ويعود زهير بن أبي سُلمى إلى الديار بعد عشرين سنة، فيرصد لنا مشاعرَ مأساويّة مركّزاً فيها على تفاصيل المكان والزمان، ولا ينسى أن يحيّي التفاصيل بعد أن يتعرّف إليها 0 يقول:
مراجعُ وشمٍ في نواشرِ معصمِ
ودارٌ لها با لرّقمتين كأنّها
فلأياً عَرفتُ الدار بعد توهُّم
وقفتُ بها من بعد عشرين حجةً
ونؤياً كجذم الحوض لم يتثلّمِ
أثافيَّ سُفعاً في معرَّسِ مرجلٍ
ألا أنعم صباحاً أيّها الربعُ واسلمِ (2)
فلمّا عرفتُ الدارَ قلتُ لربعها
ويلخّص لبيد كلَّ ما تطرّق إليه غيرُه قائلاً:
بمنىً تأ بّدَ غولُها فرجامُها
عّفتِ الديارُ محلُّها فمقامها
خَلَقاً كما ضمِنَ الوحيّ سلامُها
فمدافعُ الرّيَّانِ عُرّيَ رسمها
حججٌ خلون حلالها وحرامُها
دمنٌ تجرَّمَ بعد عهدِ أنيسها
عوذاً تأجَّلَ با لفضاء بهامُها (3)
وا لعِينُ ساكنة على أطلائها(7/416)
من خلال قراءة مجملة للنصوص الطلليّة السابقة نلاحظ أنها بُنيت أساساً على"التراجيدي"؛ أي لتجسّد عن طريق الشعر الشعورَ المتضخّم بالمأساة 0 وقد بُني " التراجيدي" فيها على موت الجميل في المكان والزمان 0فالمكان اندثر، أو أصبح رسماً يصعب التّعرّف إليه، والزمان لن يعود مرّة أخرى، والّلقاءات الجميلة التي كانت ماتت 0 وهذا هو المركز الأساسي للتراجيدي في هذه السّياقات 0 ويمكن تعميمه على الشعر الجاهلي برمّته فيما يخصُّ موقف الأطلال 0
لقد أكّدت النصوص السّابقة على ما يلي سعياً وراء تجسيد قيمة التراجيدي فنياً وجمالياً:
1-: أكّدت جميع النصوص علىعامل الزمن، وعدّته أساسيّاً في صياغة " المأساوي " 0 ونحن نجد فيها دائماً زمنين متقابلين هما: " الماضي" الذي ازدهرت فيه الحياة، والحاضر الذي انتعش فيه الموت 0 وبين الماضي الذي يصرُّ الشاعر على استحضاره، باعتباره موجوداً، وبين الحاضر الذي يراه الشاعر أمامه وقد أصبح أطلالاً دارسة، يكبر الحزن، وتشتعل المأساة، وتحفر أخاديد في مشاعر الشاعر 0
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنّ الّلقاءات الجميلة التي حدثت في الزمن الماضي كانت مرتبطة بمرحلة الشباب الذي يمثّل القوة والعطاء والنشاط 0 لذلك فالشباب الذي أفلَ، والديارُ التي أقفرت، والأحبة الذين كانوا سابقاً هنا، وتلاشوا في الماضي، وقلق الشاعر النابع من إصراره على استحضار الماضي، وقناعته الأكيدة بأن الحاضر جعل من الماضي بكلّ ما فيه رمالاً 0 كلُّ ذلك يُعدُّ مرتكزاتٍ زمنية أساسيّة بُني عليها "الموقف الطّللي" الذي صاغ منه الشاعر الجاهلي " التراجيدي" 0 وممّا كرّس كلّ ذلك وأكّده أنّ معظم "الأفعال" المستخدمة في النصوص جميعاً هي الأفعال الماضية التي تكشف بشكلٍ حسّي، ومباشر أنّ كلّ شيءٍ انتهى، و"لن يعود" 0(7/417)
2-: ركّزت جميع النصوص على تفاصيل المكان، وأشياء البيت بدقّة متناهية إلى جانب حرصها على ذكر عدد من أسماء الأمكنة، ربّما لارتباطها بذكريات محدّدة تتعلّق بالشاعر، وربّما ليعيد إلى نفسه من خلال ذكرها مفصّلة شيئاً من التوازن النفسي أمام الإخفاقات التي يواجهها في الطّلل 0 ولكن الشيء الأهمّ أنّ اهتمام الشعراء بهذه التفاصيل يؤكّد العمق "التراجيدي"، وتغلغله بتفاصيل المكان وأسمائه، كما يؤكّد حسيّة الصورة الفنية، واتّساع فضائها بربطها بالمكان وبتفاصيله المختلفة 0
3 -: على الرغم من تأكيد الشعراء على ذكر الأمكنة والأشياء وكذلك التفاصيل الجزئية، لكنهم أجمعوا على غياب ملامح المكان كليّاً أو جزئياً 0 بمعنى أنّ التفاصيل المذكورة وُجدت لأنها مرتبطة بالماضي، وحالة الازدهار التي كانت، بينما يندثر المكان الآن، وتمّحي تلك التفاصيل 0 لذلك نجد أنّ هؤلاء الشعراء جميعاً أكّدوا معاناتهم الشديدة في التعرّف إلى الديار التي حملت تلك التفاصيل الدقيقة 0 ولعلَّ انطماس حدود المكان بهجرة الماضي، وحلول القفر مع الحاضر البائس ممّا يزيد من أزمة المعاناة التراجيدية التي يعيشها الشاعر في موقف الطّلل 0
4-: ومّما ساهم في وضع الّلمسات الهامة على لوحة التراجيدي في موقف الطّلل المعجمُ اللغوي الذي يوحّد بين النصوص السابقة، ويعكس " مفردات المأساة "، مثل: الصحراء، الوحشة، الموت، البطء، الحزن، الرّمال، الفراغ، الظباء، السّكون، الفراغ، وما إليها 0(7/418)
إنّ موقف الطّلل بكلّ ما فيه من ميزات أصبح يشكّل - فيما بعد - أحدَ أهمّ أركان عمود الشعر العربي الذي أُسِّس له في العصر الجاهلي، وحاكاه الشعراءُ العرب في العصور التّالية 0 أعني أنّ موقف الطّلل في الشعر الجاهلي - بمناخه التراجيدي، وشكله المميّز الذي ذكرنا جوانب من ملامحه آنفاً - أصبح يشكّل ضمن عمود الشعر جانباً أساسيّاً من " المَثَل الجمالي " الذي اتّخذ منه الشعراء الآخرون في العصور التّالية هدفاً يسعون لمحاكاته من خلال افتتاح القصيدة به 0 وكذلك الالتزام ببعض قوانينه، ومفرداته، وصوره، وتراكيبه0 والأهمّ من ذلك كلّه التزام هؤلاء الشعراء بالمناخ البكائي للتراجيدي الذي بُني عليه موقفُ الطّلل في الشعر الجاهلي 0 وما وقوفُهم على الأطلال سوى نوع من أنواع المحاكاة لمَثَل جمالي أسّسَه، ورسم ملامحه الشاعرُ الجاهلي 0(7/419)
نخلص ممّا سبق إلى أنّ التراجيدي في موقف الطلل بوصفه " قيمة جمالية " و " شكلاً فنيّاً " أصبح " مَثَلاً جماليّاً " - فيما بعد - حاكاه الشعر العربي، وكان يُقاس جمال ما يكتب بقياس " المَثَل " الذي وُضعت أُسسه في العصر الجاهلي 0 أعني قاسوا ما كتبوه شعريّاً على مستوى التراجيدي وشكله الفني في الشعر الجاهلي، وكذلك فعلوا مع النقد ومقاييسه المختلفة 0 وربما كان لاستهجان أغلب النقّاد في العصر العباسي ما فعله أبو نواس في مقدّمة القصيدة أوضح الأثر لفعل " المَثَل الجمالي " المذكور في تقييمهم للإبداع؛ أعني أن هذا " المَثَل " لم يؤثّر في الإبداع الشعري العربي اللاحق فحسب، وإنما ساهم في صياغة " الوعي الجمالي النقدي " الذي كان يقيس النقّادُ جمالَ النصوص، أو قبحها على أساسه. وكذلك ظلّ النقد – كالشعر – حتى العصر الحديث. وما حدث في النقد العربي القديم من سعي بعض النقّاد للتجاوز والتخطّي ليس سوى إشارات عابرة، أو أصوات مخنوقة لم تستطع التأثير في الإطار العام للوعي الجمالي النقدي الذي أسّسه " التراجيدي " في هذا المجال منذ العصر الجاهلي.
ثانياً -: موقف الرّحيل:
يمكن اعتبار هذا الموقف متمّماً لموقف الطّلل في رسم صورة التراجيدي التي جسّدها الشعر العربي في العصر الجاهلي 0 وهو نابع منه ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً 0 وتتشكّل أُسس هذا الموقف، غالباً، حين ينتهي فصل الربيع، وتقرّر القبائل العودةَ إلى ديارها، فيتمّ التحضير للرّحيل قبل أيام من موعده، أو قد يكون الرحيل مفاجئاً 0 وقد تحدّث الشاعر الجاهلي كثيراً عن هذا الموقف الصّعب، وعبّر عن انعكاسه السلبي عليه 0(7/420)
فالرّحيلُ يعني الإجهازَ على الّلحظات السعيدة التي خفقَ فيها قلبهُُ، والتي قد لا تعود مرّة أخرى 0 وهي عادة لا تعود بدليل أنّ الشعراء كانوا يقفون على الأطلال في نصوصهم، إلى جانب أنّهم كانوا يبالغون في تجسيد المأساة التي يخلّفها مشهدُ الرحيل، وكأنّهم يدركون أنّ الّلقاء لن يتمّ ثانية بينهم وبين مَن يحبون 0 والشاعر الجاهلي كان يدُاخل بين موقف الرحيل هذا وموقف الطّلل 0 فالرحيل إلى القفر، والطّلل يؤكّدان أنّ الحياة السعيدة التي أشرقت ذات يوم لن تعود ثانية 0 والفعلُ الذي استخدمه الشاعر في موقف الرحيل هو الماضي، وما يمتلكه من إيحاء قوي في تشكيل المأساة في النصّ 0
وسنمرّ فيما يلي بشعاب بعض النصوص من الشعر الجاهلي التي تناولت موقف الرّحيل عبر مجموعة من المحطّات 0 يقول امرؤ القيس:
كأنّي غداةَ البيِن يومَ تحمّلوا
لدى سمُراتِ الحيِّ ناقفُ حنظلِ
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهم
يقولون: لا تهلكْ أسىً وتجمّلِ (1)
يُلاحَظ هنا أنّ الشاعر يجسّد صورتين: الأولى متحرّكة، والثانية ثابتة؛ في الأولى تتجلّى الحياة، وفي الثانية يخيّم الموت 0 فالشاعر يجسّد لحظةَ الفراق حين كان القوم يجهّزون للرحيل، بينما هو في الطّرف الآخر ثابتٌ لا يتحرّك 0 وكأنّ الطرف الأول المتحرّك امتصَّ منه حركته، أي حياته، فخيّم عليه السكون / الموت 0 إنّ وجودَها معه يعني الحياة، ورحيلَها يعني الموت 0 ويمكن أنْ نتخيّل كم سيكون الشعورُ بالمأساة كبيراً في مثل هذا الموقف 0(7/421)
وقد استنفر الشاعر – لرسم ذلك الشعور - مفردات ذات طابع واحد لإعطاء " التراجيدي" مساحة كبيرة، مثل: " الغداة " إذ قد يكون الرّحيل في مثل هذا الوقت مستثيراً للحزن أكثر من غيره، ثمّ " البين "، و" تحمّلوا "؛ أي بداية المغادرة، ثمّ " ناقف حنظل "، و " مطيّهم "، و " الأسى "، و " شدّة الاحتمال " لما في ذلك الموقف من هول 0 والصورة المركزيّة هنا تتمثّل في لجوء الشاعر إلى سمُرات الحيِّ " وهو شجر الطّلح الضخم " ليُعلن عن سكونه، ودهشته، وعدم قدرته على الحركة؛ فهو كالمشلول واقفٌ بثبات تلك الأشجار في ذلك المكان، أو كأنه أصبح جزء اً منها 0
ولابدّ لنا من الإشارة إلى أنّ " قيمة التراجيدي " في موقف الرّحيل في الشعر الجاهلي كانت تتشكّل دائماً من الصورتين المذكورتين: الأولى التي تفيض بالحركة والحياة، والثانية التي تنوء بالبؤس والشقاء والحزن 0
وقريباً من هذا المشهد يركّز "طرفة بن العبد" على صورة الظعائن، وزمن الرحيل، قائلاً:
خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
كأنَّ حدوج المالكيّة غدوةً
يجور بها الملاّحُ طوراً ويهتدي (1)
عدوليةٌ أو من سفيِن ابنِ يامنٍ
ويأمر الأعشى نفسَه، وربّما مَن معه أيضاً لوداع هريرة بمزيد من الأسى والحزن قائلاً:
ودّع هريرة إنّ الرّكبَ مرتحلُ
وهل تُطيقُ وداعاً أيّها الرّجلُ (2)
ويربط لبيد - وقد داهمه الأسى - زمنَ الرّحيل بمشهد الظعن الذي غادر المكان، فجعل كلَّ شيء بعده عارياً، لا حياة فيه:
منها، وغودر نُؤيُها، وثُمامها
عَريَتْ وكان بها الجميع فأبكروا
فتكنّسوا قُطُناً تَصِرُّ خيامُها (3)
شاقتْكَ ظُعنُ الحيّ حين تحمّلوا
والحارث بن حلّزة يؤكّد أنّها لم تغادر فجأة، بل أخبرته بذلك 0 وربّما كان ذلك هو سبب معاناته الشديدة، وبخاصة أنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً 0 يقول:
ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثّواءُ
آذنتنا ببينها أسماءُ(7/422)
ء فأدنى ديارَها الخلصاءُ (1)
بعد عهدٍ ببُرقةَ شمّا
ويفصّل عنترة تفصيلاً دقيقاً في العدّة والعدد، والّلون والزمن مشهد الرّحيل ليؤكّد تصاعد أزمته، أو كأنّه يريد أن يقول: تعالوا، وانظروا، وقدّروا: كم هي مصيبتي كبيرة، ولا تحتمل 0 وسببها هو هذا الرحيل:
إن كنتِ أزمعتِ الفراق فإنّما
زُمّتْ ركابُكمُ بليلٍ مظلمِ
ما راعني إ لا حمولةُ أهلها
وسْط الدّيارِ تسفُّ حبَّ الخمخمِ
فيها اثنتانِ وأ ربعونَ حلوبة
سوداً كخافية الغرابِ الأسحمِ (2)
ويعلن النابغة عن إعدامه للمستقبل؛ لأنَّ الأحبةَ فيه سيرحلون 0 يقول:
أفِدَ التَّرَحُلُ غير أنّ ركابنا
لمّا تزَلْ برحالنا، وكأنْ قد
زعمَ البوارحُ أنّ رحلتنا غداً
وبذاكَ خبّرنا الغدافُ الأسود
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به
إنْ كان تفريقُ الأحبّةِ في غدِ (3)
تُجمِع هذه النصوص على تشكيل " التراجيدي " من خلال تأكيدها على الأشياء التالية:
1-: ربطت الرّحيل بزمن معيّن هو " الغداة، وغدوة، وأبكروا "0
ولعلّ إجماعها على ربط الرّحيل بهذا الزمن المبكّر من الصباح يؤكّد رغبة الشعراء الشديدة في استثارة الشعور بالحزن أكثر من اعتنائهم بتصوير المشهد نفسه 0
2-: ركّزت النصوص على رسم تفاصيل التهيّؤ للرّحيل بدقّة متناهية، مثل كأنّ حدوج المالكية خلايا سفين، والديار قد عريت حين تحملوا، فتكنّسوا قطناً،وزُمّت ركابكم بليل معظم، والإبل وسط الديار تسفُّ - من جوعها - حَبَّ الخمخم، وفيها اثنتان وأربعون حلوبة سوداً …(7/423)
إنّ الغاية من وراء تركيز الشاعر الجاهلي على مثل هذه التفاصيل في موقف الرحيل ليست رسم صورة فنية جميلة لقافلة الحبيبة الرّاحلة، وإنّما لاستنفار الشعور بالحزن وتعميمه؛ أي لاستنهاض الشعور عند المتلقّي الذي يرغب الشاعر في أنْ يشاركه فيه 0 ولا ننسَ أنْ نربط هذه التفاصيل بتأكيد الشعراء على زمن الرحيل المبكّر 0 فكلاهما يصبُّ في الهدف المذكور نفسه 0
3-: انشغلت جميع النصوص برسم صورتين مركزيّتين متقابلتين متوازيتين جسّدت من خلالهما موقف الرّحيل 0 تتضمّن الأولى رحيل الحبيبة، وتقابلها في الاتجاه الآخر صورةُ الشاعر الحبيب المتشبّع بالمأساة 0 والصورة الأولى يكوّنها مجموعةٌ من الناس والإبل والأغراض المختلفة اللازمة للرحيل 0 والصورة المقابلة يبدو فيها الشاعرُ وحيداً، لا يشاركه الهمَّ إلاّ أشياء الطبيعة الصامتة 0 وقد سعى الشعراء إلى تضخيم الصورة الأولى بتزويدها بالحركة والصخب إلى جانب العدد الكبير، وذلك لتصغير حجم الصورة الثانية؛ لأجل الهدف الذي ذكرناه آنفاً، وهو تضخيم المأساة وتعميمها عبر تعاطفنا الشديد مع ذلك الشخص الذي انكسر أجملُ ما عنده، ولا يستطيع أن يفعل أيّ شيء لإعادته إلى ما كان عليه 0
4-: جعلت النصوص الّلونَ المرافق لموقف الّرحيل هو الّلون الأسود، واشتقاقاته 0 وقد ورد هذا الّلون إمّا لفظاً مثل " الغرا ب الأسود "، أو عن طريق الإيحاء به عبر ربطه بزمن الّرحيل، أو كما يعبّر عن ذلك زهير بن أبي سُلمى في الظعائن:
بكرنَ بكوراً واستحرنَ بسُحرةٍ
فهنَّ لوادي الرّسِّ كاليدِ للفمِ (1)
ولسنا بحاجة إلى التذكير لما لهذا الّلون من دلالات، وإ يحاءات هامّة على دعم الموقف التراجيدي ضمن تفاعله مع العناصر المذكورة 0
5-: أكّدت النصوص على مقولة " موت المكان " بعد رحيل الأحبة مباشرة 0 لذلك فهو مكان عارٍ، والشاعر فيه كأنّه ناقف حنظل 0(7/424)
6-: وردت مفردات في النصوص السّابقة ساهمت في تجسيد المناخ التراجيدي، وإنمائه، مثل: الغداة، البين، تحمّلوا، رحلوا، ناقف حنظل، الأسى، التجمّل، الّبر، الوداع، الرّكب، الظّعن، الحي، الخيام، الرّكاب، الّليل المظلم، الخوف، الدّيار، سود، الغراب الأسحم 0 وهذه المفردات تدخل ضمن المعجم الّلغوي الذي اعتمده موقفُ الطّلل الذي توقّفنا عنده
آنفاً 0 ولا بدّمن القول في ختام هذا المحور: إنّ جميع النقاط المذكورة التي اتفقت النصوص على إيرادها ساهمت في رسم لوحة تشكيلية لصورة التراجيدي في موقف الرحيل في الشعر الجاهلي 0
ثالثاً -: الاغتراب: وهو عبارة عن حالة رومانسية تشكّلت لدى الشاعر الجاهلي بسبب عدم قدرته على التفاعل والانسجام مع المحيط الذي ينتمي إليه جزئياً أو كليّاً 0 ويهيمن عليه دائماً شعورٌ شفّاف بالحزن الذي يختلط بالألم والملل والضجر، وما إلى ذلك 0
وأبرزُ وجه من وجوه الاغتراب في الشعر الجاهلي هو الشعور الكبير بالفراغ 0 وغالباً ما يكون هذا الشعور هادئاً غير صاخب؛ بمعنى أنّه شعور ليس صداميّاً كما هو الحال في ظاهرة الصعلكة كما سنرى 0وقد عبّر عنه امرؤ القيس في معلّقته قائلاً:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدولَه
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لمّا تمطّى بصُلبهِ
وأ ردفَ أعجازاً وناءَ بكلكل
ألا أيها الّليل الطّويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منكَ بأمثلِ
فيا لكَ من ليلٍ كأنّ نجومَهُ
بكلِّ مغار الفتلِ شُدَّت بيذبلِ
كأنّ الثريّا عُلِّقت في مكانها
بأمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جندلِ (1)
لعلّ الحالة البارزة التي يوحي بها النصّ هي حالة الاختناق التي يصعبُ التخلّص منها؛ فهناك شعور طاغٍ بالفراغ والملل والضجر 0 وقد رسم الشاعر ذلك عبْر جعل الحسّي أكثر حسيّةً، وتحريك المشهد ضمن الحسّي والمشخّص، وعبرالتضايف، والحوار والتشبيه، وتماهي الأزمنة، والرجاء، والتّعجب 0(7/425)
وقد يكون أحدُ وجوه الاغتراب أيضاً الشعور بالظلم من قبل الأهل والقبيلة؛ بمعنى إحساس الشاعر بأنّه متروك أو مهمل من أقرب الناس إليه 0 ولعلّ إحساس" عنترة " الدائم بالحزن الذي يشكّل الخلفيةَ الأساسية لشعره كاملاً سببُه عائدٌ إلى شعوره بالظلم، وعدم قدرته – بسبب هذا الظلم – على ممارسة حرّيته أو الوصول إلى عبلة 0
وللاغتراب في الشعر الجاهلي إلى جانب ما تقدّم وجوهٌ مختلفة أخرى، أبرزها: الشعور بالخوف من الموت 0 وقد ردّد الشعراءُ هذا كثيراً 0فطرفة بن العبد يقول:
أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي
عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدّد
لعمرُكَ إنّ الموتَ ما أخطأَ الفتى
لكا لطولِ المرخّى، وثِنياه با ليدِ (1)
ويقول زهير بن أبي سُلمى أيضاً مؤكّداً أنّ الخوف لا يأتي من الموت نفسه، وإنّما من عدم قدرة هذا الموت على التّمييز بين الشاب والعجوز 0لذلك فالإنسان يعيش في قلق دائم0
رأيتُ المنايا خبطَ عشواء مَنْ تصب
تمتْهُ 0ومَنْ تخطئ يُعمَّرْ فيهرمِ (2)
أمّا الذي يُخطئه الموت، فإنه سيواجه مشكلة أخرى تجعله مغترباً وقلقاً ومضطرباً على الدوام هي الشيخوخة التي يقول فيها زهير أيضاً:
سئمتُ تكاليفَ الحياة ومَنْ يعشْ
ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يسْأمٍ (3)
ويلخّص السموءل قلقَ الشاعر الجاهلي واغترابه من الموت بقوله:
كيفَ السّلامةُ إنْ أردتُ سلامةً
والموتُ يطلبُني، ولستُ أفوتُ
ميتاً خُلِقتُ، ولم أكنْ من قبلها
شيئاً يموتُ، فمتُّ حيثُ حُييتُ (4)
وقضيةُ الموت هذه شغلت قبل ذلك أيضاً الإنسانَ البدائي فعبّر عنها من خلال بحثه الدائم عن الخلود 0 وما أسطورة " الموت والانبعاث " التي جسّدتها الأساطير البدائية، وكذلك انشغال "جلجامش " بالبحث عن وسائل لاستمرار الحياة وخلودها إلا من قبيل انعكاس أثر الموت على الإنسان، وما خلّفه ويخلّفه من شعور دائم بالقلق ومن ثَمّ الاغتراب 0(7/426)
ولابدّ من التأكيد أن الاغتراب ظاهرة أساسية من الظواهر التي تناولها الشعر الجاهلي واعتنى بها 0 وهي تتداخل مع موقف الطلل والرحيل المذكورين لتساهم معهما في تكوين الأسس الجمالية التي بُني عليها "التراجيدي" في الشعر الجاهلي.
رابعاً -: ظاهرة الصعلكة:
يمكن اعتبار ظاهرة الصعلكة ظاهرة تراجيدية 0 بل يمكن التعامل معها على أنّها كذلك لاعتبارين أساسيين: يتمثّل الأوّل في أنّ السبب الرئيسي الذي أفرزها عائد إلى عدم التواؤم بين رغبات الأفراد وقبائلهم؛ بمعنى أنّهم لم يستطيعوا تنفيذ ما يطمحون إليه من رغبات وأحلام وغيرها على حيّز الواقع بسبب الموانع والضوابط التي كانت تفرضها عليهم قبائلهم 0 والصعلكة – على ضوء ذلك – تمثّل التصادمَ بين رغبة الفرد والجماعة، بين ما يرغب فيه، وما يُفرض عليه 0 ولعلّ هذا التصادم الذي كَسَر الحلمَ الذاتي، وزعزع الثقةَ بالقبيلة هو الذي جعل من الصعلكة ظاهرة تراجيدية 0
ويعود الاعتبار الثاني الذي يؤكد أن الصعلكة " ظاهرة تراجيدية " إلى نصوص الشعراء الصعاليك التي تعكس دون استثناء ذلك الشعورَ الرومانسي الذي يهيمن على الفرد مثل: الحزن والإحباط والتمزّق والشعور الدائم بأنّه متروك؛ أي إنّ المناخ العام الذي يوحي به شعر الصعاليك هو مناخ تراجيدي0 وصحيح أنّنا نقرأ، دائماً، في أشعارهم تحدّياً للمجتمع الذي نفاهم، وللطبيعة، ونراهم يجسّدون قدراتهم في الشجاعة والعدْوِ والكرم والإيثار، ومقاومة الجوع والعطش والوحوش الكاسرة والظلام المخيف، وجفاف الصحراء 0 لكنّ كلّ هذا لا ينفي أنّ أشعارهم مبطّنة بمساحة واسعة من الحزن وامتدادا ته، بل إنّ الجانب الظاهر الذي يتمثّل في التحدي المذكور لهو نوعٌ من أنواع ردِّ الفعل على حالة تراجيدية عميقة زرعها المجتمع في نفوسهم حين أهملهم، وظلمهم، وطردهم 0(7/427)
ونحن نستغرب حين نقرأ، مثلاً، دراسة متخصّصة في شعر الصعاليك، وهي ذاتُ سمعة علمية لا نشكّ بأهميتها، كدراسة يوسف خليف " الشعراء الصعاليك " (1) التي تمتدّ حتى ثلاثمئة وخمسين صفحة والتي تناول فيها، تقريباً، كلَّ ما يتعلّق بموضوعه، ولكنّ هذا التناول كان أُفقيّاً؛ بمعنى أنّه لم يتطرّق إلى الجانب الأهمّ في شعرهم الذي يمكنُ اعتباره القوّة التي تكمنُ وراء شعريّة شعرهم، وقوّة فنّهم، وتأثيره واستمراره حتى اليوم 0 هذا الجانب هو الجانب التراجيدي 0 وهو يمثّل النبضَ الحيّ الذي يحرّك فيه الخيوط الفنية والجمالية كافة 0 ويمكن القول: إنّه وراء الخصوصيّة التي تميّز شعرَ الصعاليك من غيرهم في العصر الجاهلي، وهو سببٌ أساسي من أسباب تفرّدهم، إلى جانب أنّ النكهة التراجيدية تتناغم وأسباب نشوء الظاهرة المميّزة 0
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ المؤلّف تناول هذا الجانبَ ضمن فقرة وحيدة لا تتجاوز سبع صفحات، عنوانها " أحاديث التشرّد " 0 وقد قرأ " التشرّد " قراءة سطحية، ولم يستغلّه للبحث عمّا هو أعمق في تلك الظاهرة، وبخاصّة أنّ موضوع " التشرّد " خلّف في شعر الصعاليك مشاعر مأساويّة لا يكاد نصٌّ يخلو منها، على الرّغم من أنّه ليس دائماً ظاهراً فيه 0 وقد اهتمّ المؤلّف في هذه الفقرة بإحصاء أنواع " حيوانات الصحراء " التي تناولها الشعراء الصعاليك، وكيف رسم هؤلاء صورَ بعض تلك الحيوانات كالأسد والضبع والحمار الوحشي وغيرهم 0
لقد قدّمت دراسةُ " يوسف خليف " معلومات وثائقية هامّة، ولكنّها لم تقترب من روح شعر الصعاليك 0(7/428)
ونحن بحاجة ملحّة إلى أنْ نقرأ شعرنا القديم بطريقة تتناسب وطبيعته 0 إذ ليس بالضرورة تطبيق كلّ المناهج، أو أكثرها حداثة في النقد على الظاهرة؛ فكلّ هذا ليس هو المهم، بل نعتقد أنّ معرفة الزاوية الصحيحة لقراءة الظاهرة هي الأهم للتغلغل إلى أعماقها، وجوهر روحها وشعريّتها 0 فدراسة " يوسف خليف " المذكورة تناولت ظاهرة الصعاليك ضمن معطيات تنطبق على أيّ ظاهرة أخرى في أي عصر، ولم تبحث عن المدخل الخاص الذي يميّز تلك الظاهرة 0 ولذلك لم تقدّم سوى ما هو وثائقي وخارجي بالنسبة إليها 0 ومثلُ هذه الدراسة كثيرٌ في نقدنا الحديث الذي تناول الشعر العربي القديم، وظَلَمَهُ0
لقد انطوى شعر الصعاليك على مقولات مثل: الاغتراب، والأسى، والمرارة، والظلم، والإهمال، والاضطهاد، والجوع والفقر 0 وهذه ساهمت جميعها بإثبات " هويّة التراجيدي " 0 ولعلّ عروة بن الورد يبيّن سبب كلّ ذلك بقوله:
وسائلةٍ: أين الرّحيلُ؟ وسائلٍ
ومَنْ يسألُ الصعلوكَ: أين مذاهبه
مذاهبُه أنّ الفجاجَ عريضةٌ
إذا ضنَّ عنه بالفعال أقاربه (1)
ويمكن الزعم أنّ " لامية الشنفرى " هي أبرزُ ما يمثّل انكسار الحلم الذاتي وزعزعة الثقة بالقبيلة 0 وهي التي تردّد المقولات المذكورة، وتؤكّدها؛ فهو يبدؤها بحزن شديد، وعتاب لأهله الذين ضيّقوا عليه 0 وهو يؤكّد لهم أنّ الأرض فسيحة، ويمكن له أنْ يستبدلهم بغيرهم 0 فهو أصبح – بعد الذي لحقه في قبيلته – يفضّل وحوش الصحراء عليهم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن صبره على الجوع وما يعانيه من تشرّد وشقاء 0يقول:
أقيموا بني أميّ صدورَ مطيكم
فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ
وفي الأرضِ منأىً للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القِلَى متعزَّلُ
ولي دونكم أهْلونَ سيد عملَّس
وأرقطُ زهلولٍ وعرفاءُ جيألُ
همُ الأهلُ لا مستودعُ السّرِ ذائعٌ
لديهم ولا الجاني بما حرَّ يُخذلُ (2)(7/429)
فالشنفرى يطلب من أهله - ونبرة الحزن بادية عليه - أنْ يستغنوا عنه، لأنّه يميل إلى غيرهم0 وهذا الميلُ ليس عقوقاً منه، وإنّما بسبب ما لحقَهُ من ظلم وأذى وقطيعة 0 ولعلّ هذا المنطلق يشكّل مدخلاً لقراءة هذه القصيدة 0 ولم ينسَ الشاعر أنْ يتوقّف عند تشرّده وجوعه وصبره إلى جانب تصريحه بأنه يفضّل وحوش الصحراء على قومه، لأنّ تلك الوحوش تحافظ على سرِّ الإنسان وتحترمه 0 والسؤال الذي يُثار هنا: هل تغمر البهجةُ الشاعرَ وهو يفتخر بأنّه استطاع مصادقةَ أشرس أنواع الحيوانات الصحراويّة كما يزعم بعض النقاد الذين فسّروا ذلك بإبراز الشاعر لقوّته وقدرته، ومن ثَمّ سعادته؟ إنّ الإجابة ستكون بالنفي؛ لأنّ هذين البيتين يكشفان عن شخص بائس ومتعب وحزين ومرهق، ويكاد يختنق ممّا جرى له 0 ولعلّ أبسط ما يدلّ على ذلك شكواه من أنّ هذه الحيوانات تكتم السرَّ؛ أي إنّ البشر لا يكتمون السرّ 0 والشاعر بهذا يكشف عن معاناته الشديدة من جرّاء ذلك 0 ثمّ ما الذي يدفع شخصاً ما إلى الخروج على القبيلة والهجرة إلى الصحراء، وموالفة الوحوش، والأفاعي، ومقاومة الجوع والتشرّد لولا المعاناة الشديدة التي دفعته إلى ذلك 0
إنّ نصَّ الشنفرى ينطوي على الفخر بالذات، ولكنّه فخرٌ مبنيّ على ألمٍ لا يقاوَم 0 وليس من الممكن قراءة هذا النصّ إلاّ ضمن المعطى التراجيدي الذي يحكمُه 0
ونحن نرغب أنْ نختمَ هذه الفقرة بالدّعوة إلى إعادة النّظر في ظاهرة الصعلكة في العصر الجاهلي من منطلق كونها " ظاهرة تراجيدية "0 ونعتقد أنّ دراستها على هذا الأساس ستجعلنا نضع أيدينا على حقائق فنيّة وجماليّة هامّة تتعلّق بروح شعر الصعاليك وجوهره؛ وستنقلنا من الخارج إلى الدّاخل، أي من الهامشي إلى الجوهري، وستجيب عن تساؤلاتنا الكثيرة التي لم تُجدِ معها الطرائق السابقة نفعاً 0
الحواشي والتعليقات(7/430)
1-: الخطيب التبريزي: شرح القصائد العشر، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، ط2، 1964م، ص/ 47 0
2-3-: نفسه / 432 – 532 0
4-: عبيد بن الأبرص: ديوانه، بيروت، 1979م0
5-: الخطيب التبريزي: شرح القصائد العشر: / 133 0
6-7-: نفسه / 318 – 203 0
8-: نفسه / 241 – 248 0
9-10 -: نفسه / 54 – 135 0
11-12-: نفسه / 483-251 0
13-14-: نفسه / 431-326 0
15-: النابغة الذبياني: ديوانه، تحقيق كرم البستاني، بيروت، بلا تاريخ.
16-: الخطيب التبريزي: شرح القصائد العشر / 206.
17-18: نفسه / 100-179 0
19-20-: نفسه / 239 0
21-: عروة بن الورد والسموءل: ديوانهما، ص/83 0
22-: يوسف خليف: الشعراء الصعاليك
23-: نفسه / 190 0
24-: الشنفرى: لاميّة العرب، بيروت، 1974م، ص/81 0
المصادر والمراجع
1-: الخطيب التبريزي: شرح القصائد العشر، تحقيق: محيي الدين
عبيد الحميد، القاهرة، ط2، 1964م0
2-: الشنفرى: لاميّة العرب، بيروت، 1974م0
3-: عبيد بن الأبرص ك ديوانه، بيروت 1979م0
4-: عروة بن الورد والسموءل: ديوانهما، بيروت، بلا تاريخ 0
5-: النابغة الذبياني: ديوانه،، بيروت، بلا تاريخ 0
6-: يوسف خليف: الشعراء الصعاليك.(7/431)
ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي
(دراسة أسلوبية)
د. زهير أحمد المنصور
أستاذ مشارك بقسم النقد والبلاغة - كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى الكشف عن ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي، تلك الظاهرة التي ظهرت بوضوح في شعره، التي ترتبط – إلى حد ما – ارتباطاً وثيقاً بنفسية الشاعر وبناء حياته، إذ يقوم التكرار على جملة من الاختيارات الأسلوبية لمادة دون أخرى ولصياغة لغوية دون أخرى، مما يكشف في النهاية عن سر ميل الشاعر لهذا النمط الأسلوبي دون غيره.
كما يهدف البحث إلى محاولة التعرف على طبيعة هذه الظاهرة وكيفية بنائها وصياغتها وتركيبها وإلى أي مدى استطاع الشاعر أن يوفق في بنائها ليجعل منها أداة فاعلة داخل النص الشعري وأن يوظفها توظيفاً دقيقاً لتصبح أداة جمالية تحرك فضاء النص الشعري وتنقله من السكون إلى الحركة والموسيقية.
كما يحاول البحث التعرف على محاور التكرار وأنماطه عند الشابي التي تمثلت في تكرار الكلمة وتكرار اللازمة وتكرار البداية، ودور هذه المحاور في بناء الجملة على اختلاف أشكالها عند الشاعر، وإلى أي مدى كانت هذه المحاور قادرة على تكوين سياقات شعرية جديدة ذات دلالات قوية ومثيرة لدى المتلقي تعمل على جذب انتباهه وشده ليعيش داخل الحدث الشعري الذي يصوره الشاعر.
كما يكشف عن البناء الفني الدقيق للتكرار الذي أنتجته عبقرية الشابي في النص الشعري حيث ورد عنده في اتجاهين: الأول الاتجاه الرأسي، والثاني الاتجاه الأفقي، كل ذلك ليجعل منه أداة جمالية تخدم النص الشعري فتمنحه القوة والفاعلية والتأثير.
• • •(7/432)
يعد التكرار من الظواهر الأسلوبية التي تستخدم لفهم النص الأدبي وقد درسها البلاغيون العرب وتنبهوا إليها عند دراستهم لكثير من الشواهد الشعرية والنثرية وبينوا فوائدها ووظائفها (1) كما أن دراستهم للنص القرآني والبحث في إعجازه قد دفعتهم إلى البحث في مثل هذه الظواهر، خصوصاً أنه قد وردت في القرآن الكريم بعض نماذج من التكرار في القرآن الكريم، قام على دراستها وتفسيرها بعض البلاغيين فحاولوا تفسير هذه الظواهر وبيان دلالتها ضمن السياق القرآني (2) . من هنا جاءت هذه الدراسة لشعر الشابي لمحاولة الكشف والاستكناه لهذه القوالب الفنية لبيان أبعادها ودلالاتها على اختلاف مواقعها سواء أكان في الكلمة أو العبارة أو الجملة أو الحرف.
إن مصطلح التكرار مصطلح عربي كان له حضوره عند البلاغيين العرب القدامى فهو في اللغة من الكر بمعنى الرجوع. ويأتي بمعنى الإعادة والعطف يقول ابن منظور: الكرّ: الرجوع يقال كرّه وكرّ بنفسه… والكر مصدر كرّ عليه يكرُّ كراً وكروراً وتكراراً: عطف عليه وكرّ عنه: رجع… وكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. فالرجوع إلى شيء وإعادته وعطفه هو تكرار، وقد يأتي تصريف آخر بمعنى التكرار وهو التكرير يقول الجوهري (393هـ) الكرّ الرجوع، يقال: كرّه وكرَّ بنفسه يتعدى ولا يتعدى وكررت الشيء تكريراً وتكراراً (3) . أما في الاصطلاح فهو تكرار الكلمة أو اللفظة أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة إما للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر (4) .(7/433)
والتكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق الشعري، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي، وبذلك فإنه يعكس جانباً من الموقف النفسي والانفعالي، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة التكرار داخل النص الشعري الذي ورد فيه، فكل تكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها طبيعة السياق الشعري، ولو لم يكن له ذلك لكان تكراراً لجملة من الأشياء التي لا تؤدي إلى معنى أو وظيفة في البناء الشعري، لأن التكرار إحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره ولابد أن يعتمد التكرار بعد الكلمة المتكررة حتى لا يصبح التكرار مجرد حشو، فالشاعر إذا كرر عكس أهمية ما يكرره مع الاهتمام بما يعده حتى تتجدد العلاقات وتثرى الدلالات وينمو البناء الشعري (1) . وهذا ما دفع بعض البلاغيين إلى النظر لظاهرة التكرار من زاوية أخرى، إذ رأوا أن التكرار قد يقع في المعنى دون اللفظ، فيري ابن الأثير الحلبي أن التكرار قسمان: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى والآخر في المعنى دون اللفظ، فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع. وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك: أطعني ولا تعصني فإن الأمر بالطاعة هو النهي عن المعصية (2) . فمثل هذه الملاحظة ترصد دقة الكشف عن حركة الملحظ البلاغي في السياق، فهي إشارة إلى أن التكرار يتشكل في مستويين: الأول: مستوى لفظي ومعنوي والثاني معنوي (3) .(7/434)
ولم يغفل الباحثون المعاصرون هذه الظاهرة في دراساتهم، فكلمة Repetition كلمة لاتنية ومعناها يحاول مرة أخرى ومأخوذة من Petere ومعناها يبحث، والتكرار إحدى الأدوات الفنية الأساسية للنص وهو يستعمل في التأليف الموسيقي والرسم والشعر والنثر. والتكرار يحدث تيار التوقع ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفني ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر: اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلالي، التجانس الصوتي، والأنماط العروضية (1) .(7/435)
وتتشكل ظاهرة التكرار في الشعر العربي بأشكال مختلفة متنوعة فهي تبدأ من الحرف وتمتد إلى الكلمة وإلى العبارة وإلى بيت الشعر وكل شكل من هذه الأشكال يعمل على إبراز جانب تأثيري خاص للتكرار، وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الإيقاعي في الشعر قائم على التكرار، فبحور الشعر العربي تتكون من مقاطع متساوية والسر في ذلك يعود إلى أن التفعيلات العروضية متكررة في الأبيات فمثلاً في بحر الرجز: مستفعلن مستفعلن، مستفعلن. هذا بالإضافة إلى أن التفعيلة نفسها تقوم على تكرار مقاطع متساوية. إن هذا التكرار المتماثل أو المتساوي يخلق جواً موسيقياً متناسقاً، فالإيقاع ما هو إلا أصوات مكررة وهذه الأصوات المكررة تثير في النفس انفعالاً ما "وللشعر نواح عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام توالي المقاطع وتردد بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر (1) . وقد أشار إلى هذا الناقد ريتشاردز بقوله "فالإيقاع يعتمد كما يعتمد على الوزن الذي هو صورته الخاصة على التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث أو لا يحدث (2) . وتشير نازك الملائكة إلى هذه الظاهرة في الشعر العربي وبينت أن التكرار في ذاته ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة (3) . كما أشارت إلى أنواع التكرار وحصرتها في تكرار الكلمة والعبارة والمقطع والحرف وترى أن أبسط أنواع التكرار تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات(7/436)
متتالية في قصيدة، وهو لون شائع في شعرنا المعاصر، يلجأ إليه صغار الشعراء ولا يعطيه الأصالة والجمال إلا شاعر موهوب حاذق يدرك المعول لا على التكرار نفسه وإنما ما بعد الكلمة المكررة (1) .
أما التكرار عند الشابي فهو صورة لافتة للنظر، تشكلت في ديوانه ضمن محاور متنوعة وقعت في الكلمة وتكرار البداية وتكرار اللازمة. وقد ظهرت في شعره بشكل واضح وشكل منها إيقاعات موسيقية متنوعة تجعل القاريء والمستمع يعيش الحدث الشعري المكرر وتنقله إلى أجواء الشاعر النفسية، إذ كان يضفي على بعض هذه التكرارات مشاعره الخاصة فهي بمثابة لوحات إسقاطية يتخذها وسيلة للتخفيف من حدة الصراع الذي كان يعيشه أو حدة الإرهاصات التي واجهها في حياته سواء ما تعلق بمحيطه الأسري أو محيطه الخارجي أو قد تكون ناتجة عن تأثير الثقافات العربية التي اطلع عليها كجبران أو الغربية كتأثيره بالشاعر الفرنسي لامارتيه، إضافة إلى إحساس الشابي المرهف التي جعلته يعيش غربة روحية وفكرية، فحاول التخلص منها برحلته الخيالية إلى الفردوس المفقود الذي ينشد فيه الكمال والسعادة. فأصيب بخيبة أمل من هذا الواقع، مما جعله يلح ويؤكد على التغيير والتبديل للارتحال إلى عالم آخر، فوجد في التكرار غايته وطموحه، فثار على الحياة لتفاؤله بما بعد الحياة وثار على إنسان عصره لإحساسه بوجود كوني آخر يتمثل فيه الإنسان المثال أو النموذج، لذلك حاول أن يخلق من خلال التكرار واقعاً سياسياً واجتماعياً جديداً، فوظف هذه الصور التكرارية لرفض النمط التقليدي على مستوى الإنسان وعلى مستوى المجتمع، وهذا التجديد لايختلف عن محاولات الشاعر التجديدية التي ظهرت في شعره، فكان يكتب من فيض الروح ويستنطقها، لذلك كان شعره قريب الفهم والإدراك، لأن لغة الروح لغة كل زمان ومكان، وهذه اللغة تمثلت في عباراته البسيطة، لكنها كالسيف القاطع تهوي في خط مستقيم غلب عليها أنها عبارات موسيقية راقصة (2) .(7/437)
إن التكرار يعتمد في طبيعته على الإعادة لقوالب لغوية متنوعة ومختلفة في إيقاعها وطاقاتها الإيحائية التي تعتمد على اللغة الشعرية ذات الدلالات والطاقات المميزة عن لغة النثر وقد أدرك بالي – أهمية هذا الجانب في اللغة عندما فهم الأسلوبية على أنها بحث – أو علم الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها الانفعالية والتأثيرية (1) . واللغة الشعرية تعتمد على الإثارة والانفعال فاللغة الشعرية هي لغة انفعالية، تتوجه إلى القلب وتعتمد بشكل رئيسي على اللغة الموسيقية التي يمكنها هي الأخرى أن تثير انفعالات وإحساسات لا تحصى" (2) . وقد ظهرت هذه الموسيقية عند الشابي في اتجاهين: الأول التكرار الأفقي (ما بداخل البيت الواحد) والثاني: التكرار الرأسي (ما بداخل القصيدة) ولذلك سيحاول البحث دراسة هذه الظاهرة التكرارية من خلال أنماط التكرار عند الشابي وربط ذلك بجانبها التأثيري.
تكرار الكلمة:(7/438)
وتشكل الكلمة المصدر الأول من مصادر الشابي التكرارية، والتي تتشكل من صوت معزول أو من جملة من الأصوات المركبة الموزعة داخل البيت الشعري أو القصيدة بشكل أفقي أو رأسي، وهذه الأصوات تتوحد في بنائها وتأثيرها سواء أكانت حرفاً أو كلمة ذات صفة ثابتة كالأسماء أو ذات طبيعة متغيرة تفرضها طبيعة السياق كالفعل، فهي تسعى جميعها لتؤدي وظيفة سياقية تفرضها طبيعة اللغة المستخدمة، وإلا أصبح التكرار مجرد إعادة ونمطي لا يثير في السامع أو القاريء أي انفعال أو إثارة، ولكن الشابي كان حريصاً أن يجعل من هذه الأصوات أو الكلمات قوة فاعلة – أحياناً – لإيقاظ الحسي القومي والثقافي في أبناء عصره، وبعث الهمة والتبصير بالواقع وكشف زيفه على طريقة الرومانسيين لذلك نراه يركز على الجملة الفعلية أكثر من الجملة الاسمية فالأولى قادرة على التأثير والتغيير وأكثر قدرة على استيعاب الأحداث التي يعيشها الشاعر بينما الجملة الاسمية ذات طبيعة ساكنة هادئة) . وغير ممتدة داخل النص الشعري بينما الفعلية نمائية متغيرة ومتطورة وقادرة على استيعاب هموم الشاعر وآلامه فيتفق التكرار في غالبه عند الشابي مع طبيعته النفسية، لأنه يسعى إلى استخدام التكرار وسيلة للإعادة والإلحاح والتأكيد على ما في ذهنه لإصلاح الواقع، ولهذا فهو لم يكرر ولم يكن معنياَ بتكرار اسم بعينه فهو لا يبحث عن فرد وإنما يبحث عن قيم ومباديء تتمثل في الأشخاص من هنا جاء اهتمامه بصورة الاسم أو هذا الجزء من الكلمة – قليلاً، فالأسماء الواردة عنده هي أسماء معان وليس أسماء ذوات فالحب قيمة ومعنى يسعى أن يكون هذا الاسم هو محرك الشعوب ومعيار علاقتها على مختلف المجالات فهو رمز الصفاء والنقاء ورمز الطهر والعفة يقول:
الحب جدول خمر من تذوقه
خاض الجحيم ولم يشفق من الحرق
الحب غاية آمال الحياة فما
خوفي إذا ضمني قبري وما فرقي؟ (1)(7/439)
فهو يعلي من شأن الحب ويؤكد على قيمته، لأنه ذات فضيلة تطهر النفوس كما أنه وسيلة تجعل الإنسان يخوض غمار الحياة بكل ما فيها من مرارة وعذاب وهذا ما يسعى إليه الرومانسيون في التأكيد على حب الإنسان للإنسان فكانت ثورتهم على مجتمعاتهم لخلق مجتمع مثالي ينشدونه في فردوسهم المفقود يقوم على دعائم من أهمها الحب الصافي فهو غاية كل البشر، ولهذا اتخذ التكرار الشكل الرأسي الذي يحرص فيه على خلق صورة شعرية جديدة لكل صورة تكرار. ولكنه قد يخضع للتداعي ويستسلم لصورة من التكرار للأسماء لا داعي لها يمكن أن يستعاض عنها وعندئذ يستقيم الإيقاع الشعري يقول:
الكون كون شقاء
الكون كون التباس
الكون كون اختلاف
وضجة واختلاس
سيان عندي فيه السرور
والابتئاس (1)
فتكراره لكلمة الكون في صدر البيت وعجزه حاول أن يخلق منه ما سماه البلاغيون برد العجز على الصدر للتأكيد على أهمية الكون وتناقضاته، كي يحاول خلق إيحاءات وإيقاعات موسيقية جديدة ففرّع وقسّم في أنواع الكون لأنه يبحث عن كون آخر أكثر طهر وعفة، فكونه شفي ومختلف عن كون الآخرين مما جعل بعض الدارسين يصفون هذا التكرار بأنه ساذج فلو قال:
الكون كون شقاء والتباس
واختلاق واختلاس
لم تتغير الدلالة، بل لأراحنا من هذا الملل والرتابة اللذين نجدهما عند سماعنا لهذا المقطع (2) . كما وظف الشابي بعض صور تكرار أسماء المعاني للكشف عن لحظة الغربة والاغتراب التي يعيشها فهي ملازمة له ثابتة بل إنها غربة تختلف عن غربة غيره من البشر ويؤكد على ذلك من خلال صورة التكرار الرأسية التي جاءت لتعمق إحساس الشاعر بهذه الغربة والحيرة، حتى أن مسميات بعض القصائد قد أطلق عليها أسماء توحي بهذا الإحساس مثل "الأشواق التائة" و"إلى قلبي التائه" يقول في قصيدته (الكآبة المجهولة) :
كآبتي خالفت نظائرها
غريبة في عوالم الحزن
كآبتي فكرة مفردة
مجهولة من مسامع الزمن (3)(7/440)
فكرر كلمة كآبتي وبعض مشتقاتها في القصيدة (كئب – يكتئب – اكتئابي) وقد كرر هذه الصفة بشكل يعكس إلحاح الشاعر للتأكيد على تفرده وتميزه حتى في عالم لحزن، لأن كآبته ثابتة لا تتغير بينما كآبة الناس عابرة متغيرة: كآبة الناس شعلة ومتى مرّت ليال خبت مع الأمد)
أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي وتبقى بها إلى الأبد ولذلك فهو يسعى من خلال هذا التكرار أن يقدم وصفاً دقيقاً لواقعه الحزين الذي يعيشه ويسعى فيه إلى التغيير أو التخلص من عذاباته وهمومه، كي يسمعها الناس يتعاطفوا معه ويشفقوا عليه، ولكنه لم يجد من يسمعها، فهو غريب عن كل شيء، غريب في مشاعره وإحساسه حتى جعل هذه الكآبة غريبة غربة صاحبها. وكأن الشاعر بذلك يستغيث بالسامعين ليأخذوا بيده نحو بناء مجتمع أفضل، ويندب حظه الذي عاش الكآبة منذ ولادته، ففقد الأمل بإنسان عصره ولكنه يعود فيجعل من كآبته طاقة متفجرة فهي كالسكون الذي يسبق العاصفة، فيحاول إعطاء الكآبة صورة جديدة يطرح من خلالها موقفه من الحزن الذي غطى معظم حياته فيقول:
تحت رماد الكون تستعر
كآبتي شعلة مؤججة
ويطلع الفجر يوم تنفجر (1)
سيعلم الكون ما حقيقتها
فهو وإن عمق من تكراره الرأسي لكلمة "كآبة" إلا أنه كان يمكن أن يكتفي بما قاله في بداية القصيدة للتأكيد على تفرده وتميزه في كل شيء، فهي إضافات كمية أثقل بها المعنى الشعري وأثقل بها بناء القصيدة.
أما تكرار "الفعل" فقد كان له حضور فاعل عند الشاعر، لتزاحم الأحداث التي مرت في حياته، وكثرة المصائب والهموم التي واجهته منذ الولادة حتى الموت، فكان الفعل أكثر قدرة على التعبير عن هذه التحولات الزمانية بأشكالها المختلفة لنقل تجربته الخاصة به لتثير إحساساً لدى المتلقي وتكسب الشاعر جمهوراً متعاطفاً "فالشاعر بشر يتحدث إلى بشر ويعمل جاهداً ليعثر على أجود الألفاظ في أجود نسق لكي يجعل تجربته تعيش مرة أخرى لدى الآخرين" (2) .(7/441)
لقد سعى الشابي من تكرار الفعل إلى أن يجعل منه حدثاً فاعلاً سواء أكان ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً، ليستوعب جزئيات حياته وهمومه وآلامه بتراتب وتناسق في شكل الكلمة وحروفها، فتلاحم أجزائها ومخارجها تعنى توحد الرسالة التي يحملها الشاعر، فيلغي دور الفاعل والمفعول الظاهرين ويغيبهما في ذاته فتتماهى هذه الفاعليات وتنصهر في ذات الشاعر ليؤكد قوته وتصميمه على إحداث التغيير يقول:
بمهجتي في شبابي الثمل
لكنني سمعت رنتها
أشدو بحزني كطائر الجبل
سمعتها فانصرفت مكتئباً
صوت الليالي ومهجة الأزل
سمعتها أنةً يرجعها
كجدول في مضايق السبل
سمعتها صرخة مضعضعة
شوق إلى عالم يضحضحها (1)
سمعتها رنة يعانقها(7/442)
فكرر الفعل (سمعتها) مرات متتالية بنغمة موسيقية واحدة وتشكيل أسلوبي موحد (فعل+ فاعل+ مفعول به) وعمل على ربط هذا المكوّن الأسلوبي بمميز يستوعب ذات الشاعر وهمومه (أنةً، صرخة، رنةً) بشكل يتفق مع آلام الشاعر وصرخاته التي يسعى للبحث لها عن مخرج وتنفيس، لأنه الوحيد الذي يسمع شكوى نفسه وعذاباتها منذ الولادة ولذلك جعل من كل فعل من هذه الأفعال وسيلة للتأكيد على هذا المعنى لإظهار التجبر والإرادة القوية ليحول هذه الصرخات والأنات إلى أشواق وآمال تسمو فوق الجسد والروح، لتنقل وعي الناس من الجهل إلى النور عبر هذه التناغمات الموسيقية المتشابهة التي تستوعب غربته واغترابه، لم يكن ليتحقق له ذلك لو اختلفت الكلمات وتنوعت لأن التعبيرات إذا اختلفت شكلاً فإنها تختلف معنى كما يقول بلومفيلد (1) . وقد ساعده على ذلك أيضاً اعتماده على الطبيعة ولجوئه إليها ليجعل من هذه الصور أكثر فاعلية وقدرة على إحداث التغيير (طائر الجبل، صوت الليالي، كجدول…) . وهذا اللجؤ إلى الطبيعة وانعتاقه إلى أسرارها وجمالها جعله يتخذ بعض صور التكرار للتعبير عن رؤيته الخاصة تجاه عالم الغاب بعيداً عن الوصف والرصف بحثاً عن الحرية والفرح والمثال الذي يسعى إليه، لذلك نراه يصر على أداء هذه الرؤية بأسلوب معين وبكلمات تثري هذه التجربة وتنمي التفاعل بينه وبين المتلقي، فيختار الكلمات التي تستطيع أن تستوعب هذا الحب والانعتاق للطبيعة والتماهي في جوهرها بحيث يصبح جزءاً منها يقول:
في فتنة الدلال الملول
كبليني بهاته الخضل المرخاة
وسحر مقدسي مجهول
كبلي بكل ما فيك من عطر
ري وأحلام قلبي الضليل
كبليني يا سلاسل الحب أفكا
حراً في مثل هذي الكبول (2)
كبليني فإنما يصبح الفنان(7/443)
(فكبليني) تفيد الانعتاق في عالم الطبيعة، لذلك نراه يشكل هذا التوحد الأسلوبي توحداً في المشاعر والأحداث، لتشكل صوتاً قوياً يدوي في أعماق هذا الغاب الساحر، لا يستطيع أي فعل آخر أن يقوم مقامه وأن يعطي هذه القوة المؤثرة في نفس المتلقي، وهكذا يقوم التكرار الصوتي والتوتر الإيقاعي بمهمة الكشف عن القوة الخفية في الكلمة (1) .
ويتشكل تكرار الفعل عند الشابي بأنماط أسلوبية متنوعة تبعاً لتنوع أنماط حياته وهمومها، وقد استوحى مظاهر هذا التكرار في غالبه من الطبيعة بمظاهرها المختلفة، فيصور من خلالها مراحل حياته وكأنه يكتب ويرسم صفحات حياته من خلال الطبيعة التي يتوحد معها فتتماهى ذات الشاعر الفاعلة لتبرز بوضوح حدثية الفعل والمفعولية عبر منظومة زمنية واحدة تحمل في ثناياها مفاجآت عديدة واحتمالات كثيرة جاءت عبر حرف الفاء والواو التي وقعت بعد المنظومة الزمنية:
ويرى الآفاق فيبصرها
زمراً في النور تراصده
ويرى الاطيار فيحسبها
أحلام الحب تغرده
ويرى الأزهار فيحسبها
بسمات الحب توادده
ويرى الينبوع ونضرته
ونسيم الصبح يجعده
ويرى الأعشاب وقد سمقت
بين الأشجار تشاهده (2)(7/444)
فكرر الفعل (يرى) في بداية كل سطر شعري وأخذ حيزه المكاني والزماني في ذاكرة الشاعر لأنه يقوم على اليقين فيؤكد الحضور للذات الغائبة في عالم الطبيعة، ليظهر الصدق في نقل تجربته وتصوير مراحل حياته وأفكاره. وتتعدد لوحات الرؤيا والآمال التي يبحث عنها الشاعر (الأطيار، الأزهار، الينبوع، الأعشاب) وهي من جزئيات الطبيعة ملازمة لها متوحدة معها، فجسد في هذا التتابع والتعاقب عبر حرفي الفاء في (فيحسبها) والواو في (ونضرته وقد) التي تشير إلى نسق زمني مختلف عن نسق البداية من حيث التشكيل، لكنها تتفق معها في المعنى (فيحسبها أحلام) وبذلك يكشف التكرار عن دلالات وإيحاءات تعكس لهفة الشاعر لاستغلال كل لحظات حياته لاحداث التغير النوعي في المجتمع الذي سبب له صدمة اجتماعية وسياسية جعلته ينسحب من حلبة الحياة والتحلل من قيودها الذي منحه بعض العزاء في العودة إلى الحياة الأولى إلى نوع من البكارة البدائية في تلمس حقائق الوجود، عاد إلى طفولة الإنسان وبذلك عثر على شيء من فردوسه الضائع فماتت فيه حياة الجماعة وبقيت حياته الخاصة القائمة على النشوة الصوفية في معانقة الكون (1) . فكان تكرار الفعل (يرى) بمثابة البؤرة المركزية لهذه النشوة الكونية. وكأنه بذلك يتعبد في محراب الطبيعة ليكشف سر نفسه وسر الطبيعة بفعل يقيني لأن عزلته كانت عزلة تأمل ومعرفة.
لقد وظف الشابي تكرار الفعل فجعل منه أداة للتعبير عن الأمة وهمومه سواء منها الخاصة أو العامة، وجاء ذلك بشكل رأسي يعمق إحساسه بهذه الهموم ويحفر في عمق النص بشكل متوال عبر طرائق أسلوبية منها:(7/445)
1 – فعل ماضي + ضمير الفاعل المتوحد مع الفعل فتتماهى فيه ذات الشاعر لتشكل بذلك قوة فاعلة في إثراء التجربة الشعرية والتنفيس عن المكفوتات الداخلية فيسمو فوق هذه الآلام فيحيا حياة سامية كما في قوله (ظمئت إلى) (1) الذي كرره أربع مرات في بداية كل سطر شعري، فاستطاع أن يولد من الفعل ظمئت صوراً شعرية ذات أبعاد نفسية مختلفة ودلالات متنوعة معتمداً في ذلك على الترديد (إن العنصر الذي يتردد أقوى من العنصر المفرد) (2) وبذلك يكسب همومه حضوراً وتأثيراً في نفس المتلقي وهو بهذا يحاول أن يجعل من التكرار وظيفة جمالية لأنها تقوم بمثابة المولد للصورة الشعرية وفي نفس الوقت الجزء الثابت أو العامل المشترك بين مجموعة من الصور الشعرية مما يحمل الكلمة دلالات وإيحاءات جديدة في كل مرة، وتعكس في نفس الوقت الحاح الشاعر على دلالة معينة تختزل موقفه الجمالي" (3) وبذلك يعد الفعل طريقة للتعبير عن الرفض والتمرد على الواقع ورغبة جامحة في التحول.(7/446)
2 – فعل الأمر + فاعل محذوف + مفعول به ضمير متصل (خذني إليك) (1) الذي كررها ثلاث مرات في بداية السطر الشعري للتعبير عن عمق المأساة لفقده والده وحجم المسؤولية التي تركها له فتحمل أعباء حياتية جديدة، وبذلك فقد شكل من هذا الفعل وحدة صوتية وموسيقية ذات إيحاءات ثابتة باتجاه الموت الذي يرى فيه المخلص من هذه الحياة وآلامها وهمومها ومسؤولياتها، ليبعث من جديد فيعيش فجراً جديداً وحياة أفضل (فقد أصبحت أرقب في فضاك الجون فجري) وبذلك يتخلص من عبثية الحياة وجهل أبنائها ورجعيتهم ويعيش في عالم مثالي تسوده المحبة والإخاء وصفاء العلاقات الاجتماعية. من هنا يمكن القول أن أنماط الأفعال الثلاثة (الماضي والمضارع والأمر) جعل منها بؤرة مركزية لمبدأ الثورة والتمرد والرفض لهذا الواقع الذي يسعى للخلاص منه، فلا يعنيه الماضي المؤلم ولا الحاضر الرجعي وإنما يبحث عن زمن جديد يحقق فيه ذاته لذلك بدأت دوائر الزمن عنده من (ظمئت إلى كبليني إلى خذني) لتعلو في آخر أنفاسها وتنطلق دون قيود ولا حدود وهو بذلك يعكس ذاته التي تسعى للإنفلات والتحرر من قيود الزمن القاسية وقيود المجتمع الزائفة لإيجاد طريقة مثلى يعيش بها إنسانيته في عالم اللا نهاية فيخفف بذلك من حدة الصراع والتشاؤم الذي يعلو أفكاره أحياناً. ولهذا فقد وقعت هذه الأفعال على اختلاف أشكالها في بداية الأبيات الشعرية، لتعكس هذه الانطلاقة القوية عند الشاعر بتجاوزه حدود الزمن والانفلات من إساره.
أما تكرار الحرف وهو أقرب ما يكون بالصوت المعزول فيرى بالي أن المادة الصوتية تكمن فيها إمكانيات تعبيرية هائلة، فالأصوات وتوافقها وألعاب النغم والإيقاع والكثافة والاستمرار والتكرار والفواصل الصامتة كل هذا يتضمن بمادته طاقة تعبيرية (2) .(7/447)
إن ظاهرة تكرار الحرف موجودة في الشعر العربي، ولها أثرها الخاص في إحداث التأثيرات النفسية للمتلقي فهي قد تمثل الصوت الأخير في نفس الشاعر أو الصوت الذي يمكن أن يصب فيه أحاسيسه ومشاعره عند اختيار القافية مثلاً، أو قد يرتبط ذلك بتكرار حرف داخل القصيدة الشعرية يكون له نغمته التي تطغى على النص لأن الشيء الذي لا يختلف عليه إثنان أن لا وجود لشعر موسيقي دون شيء من الإدراك العام لمعناه أو على الأقل لنغمته الانفعالية (1) .
لقد كان شعر الشابي في معظمه، شعراً يعتمد على موسيقى راقصة، فكل حرف يوحي لك بموسيقية مميزة لا تستطيع أن تفلت من أسارها ولهذا فإن الحكم الذي يمكن أن نصدره على قصيدة يمكن أن نعممه على معظم قصائده لاعتمادها على الموسيقى الداخلية والخارجية، فشعره يفيض بهذا النوع الموسيقي الخاص، فتقرأ في كل حرف وكل نغمة ملامح تكوينه النفسي، وتشكيلاً متدرجاً لمراحل حياته التي تبدأ بالحرف ثم تنتهي إلى الكل وهو الكلمة التي تتشكل منها العبارة أو الجملة ثم إلى بيت الشعر.(7/448)
لقد وقع تكرار الحرف عند الشابي في نمطين أولهما: الصوت الداخلي الذي يشيع في داخل القصيدة سواء أكان تكراره بشكل رأسي أم أفقي، وثانيهما: الصوت الخارجي المنظم (القافية) الذي بنى عليه الشاعر قصائده، لأن للقافية دوراً أساسياً في خلق جو من التماثل الموسيقي المتراتب الذي يقع في آخر البيت الشعري. لقد سار الشابي في نظم القوافي على ما عرفه العرب من بحور الشعر، فلم يضف شيئاً إلى البناء العروضي إلا أنه استطاع أن يحرك هذا الشعر خارج الحس وأن يمنحه لغة راقصة ذات همسات مؤثرة، فنراه نوّع في قوافيه فنظم على حرف الباء واللام والنون والسين والميم والقاف والباء والدال والثاء والراء والفاء والهاء والعين والتاء، ولكن بعض القوافي قد تكرر عنده أكثر من غيره كقافية (الدال والميم والباء والهاء) فجعل منها تراتيل موسيقية فرضتها طبيعة السياق، وذلك واضح من خلال تكراره لبعض القوافي، فالدال في قصيدة "قلت للشعر" تختلف عن الدال في قصيدة أغاني التائه (1) لاختلاف طبيعة الموقفين على أن النغمتين متساويتين في الروي. ومثل هذا يعمم على بقية القوافي التي تقع في نهاية السطر الشعري (2) .
لكنه كان يلجأ أحياناً إلى التلاعب بالقوافي محاولة منه أن يأتي بشكل جديد من القوافي أو بنمط أسلوبي مغاير للمألوف رغبة منه في الخروج من أسار التقليد والجمود، فهو من دعاة الثورة وليس السكون، فرسم من بعض صور تكرار الحروف أشكالاً هندسية بعد أن كانت ذات خط مستقيم أخذت تتجه إلى بؤرة مركزية جاذبة لكل الحروف وباعثه ومفجرة لطاقات الشاعر الإبداعية يقول:
ليت شعري
أي طير
بين أعماق القلوب
برنات النحيب
يسمع الأحزان تبكي
ثم لا يهتف في الفجر
بخشوع واكتئاب
لست أدري
أي أمر
أترى مات الشعور
في خشاشات الطيور
أخرس العصفور عني
في جميع الكون حتى
أم بكى خلف السحاب (3)(7/449)
فكرر الباء وشكل منها بؤرة مركزية متوحدة الإيقاع كسعي الشاعر للتوحد مع ذاته ومع الآخرين ليصبح قوة فاعلة في مواجهة الظلم والجهل، ومثل هذا النوع من التوزيع الموسيقي قد يعكس حياة الشاعر التي بدأت صغيرة ثم تدرجت في السعي نحو التوحد. كما لجأ إلى رد العجز على الصدر في القوافي المقيدة المحدودة كما في قوله من قصيدة " أغاني التائه " التي جعل صدرها وعجزها يقوم على تكرار حرف الميم في كل بيتين ثم حرف الهاء في بيتين آخرين ثم يعود للميم بأنصاف الأبيات ضمن التوزيع الموسيقي للشاعر يقول:
كان في قلبي فجر ونجوم
وأناشيد وأطيار تحوم
وبحار لا تغشيها الغيوم
وربيع مشرق حلو جميل
كان في قلبي فجر ونجوم
فإذا الكل ظلام وسديم
كان في قلبي فجر ونجوم (1)(7/450)
ومن الصور تكرار الحرف ما نراه في قصيدته (الصباح الجديد) مايسمى بالقافلة أو القرار وهي تلك المقطوعة الثلاثية التي تتكرر في عدة مرات ولم يكن هذا التكرار نتيجة ترتيب وافتعال بل مجاراة لضرورة نفسية وهي الإيحاء بالصبر والتجلد داعياً شجونه وجراحه إلى السكون، لإحساسه بأن فجر الصباح قريب، ثم يعمل على الربط بين هذه الوحدات الشعرية بقافية مكررة، فآخر بيت في المقطوعة الرباعية الثانية تقفية اللفظة الأخيرة من الرباعية التالية كما هو في لفظتي (الزمان والحنان) وكذلك الأمر في الرباعيتين الثالثة والرابعة حيث نجد وحدة القافية في البيتين الأخيرين في لفظي (الشموع، ربيع) فضلاً عن البناء الموسيقي الرائع في هذه القصيدة التي تتكون من القرار الثلاثي الذي تردد في القصيدة ثلاث مرات ثم من ست رباعيات، تفصل كل اثنتين فيها بين القرار الثلاثي المتكرر، وقد اهتدى بفطرته السليمة إلى ضرورة توحيد القافية في القرار الثلاثي وفي الأبيات الثلاثة الأولى من كل رباعية، وذلك لأن هذا التوحيد يشبع نفسه ويرضي إحساسه ويوحي بقوة الحاح تلك الأحاسيس التي يتابع موجها في روحه المعذبة بين الشك واليقين وبين الحياة والموت" (1) وما هذا التنويع التقليدي في بناء القصيدة – الذي سار فيه على مناهج الأقدميين إلا محاولة من الشاعر لإثبات نزعة التجديد في شعره وليتمكن من تنفيس همومه وآلامه التي صبغت حياته بالسوداوية (2) .(7/451)
أما تكرار الحرف (الصوت المعزول) فلم يكثر منه في شعره ومرد ذلك كما اعتقد – أن الحرف لا يستطيع أن يستوعب هذه المصائب والهموم ولا يستطيع أن ينقل صوته الثائر وروحه المتمردة إلا عبر كل متكامل وهو الكلمة، كما أن الحرف يعبر عن أحادية الكلمة التي لا تؤدي وظيفة وحدها والشاعر نزّاع إلى الثنائية أو التوحد مع الآخر، ولكن هذا لا يمنع من تكرار الشاعر لبعض الحروف كحرف الواو بشكل خضع لبعض التداعيات الرأسية المعمقة كما في قصيدته "ياموت" حيث كرر هذا الحرف أربع وعشرين مرة يقول:
يا موت قد مزقت صدري
ورميتني من حالق
وقسوت إذا أبقيتني
وفجحتي فيمن أحب
وقسمت بالأرزاء ظهري
وسخرت مني أيَّ سخر
في الكون أذرع كل وعر
ومن إليه ابث سري (1)
فيوصل تكرار الواو في بداية السطر الشعري بشكل مكثف وكأنه بذلك يعرض ما آلت إليه حاله بعد وفاة والده بشكل مفصل متصل بتتابع أسلوبي يرتبط كل واو "بحدث معين يعكس من خلاله صورة من صور حياته (ورمتيني، وسخرت، وقسوت، وفقدت…) ، مما يجعلنا نجزم أن لهذا التكرار علاقة مع الموقف الحزين المؤلم الذي يقفه الشاعر فتكرار هذا الحرف يجسد حالة الشاعر النفسية وما آلت إليه بعد فقد عزيز عليه وطبيعة الموقف تستدعي هذا التكرار حتى أن الأفعال التي تلاحمت مع الواو جاءت متلاحقة متعاقبة وكأنه بذلك يشرح المراحل النفسية التي عانى منها الشاعر لأن والده كان بمثابة الفجر الجميل والمزمار الذي يعزف على أوتاره، وكأس خمره وغايته وكل ما في الوجود، فحمّل الواو دلالات متنوعة وطرائق أسلوبية متعددة تراوحت بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها أزمان متشابهة بعد وفاة والده ومن هنا جاء توسيعه وتعداده لدلالات الواو التي امتدت بشكل رأسي معمق مترابط متوالي، يخضع للتداعي وتعداد صور الأشياء (2) .(7/452)
كما جعل من تكرار الحرف نغمة موسيقية تنقل القاريء إلى جو النص وإلى طبيعة الموقف الذي عاشه الشاعر فجسّد من خلال الكاف كشفاً واضحاً لتجربة الشاعر الانفعالية كما في قوله من قصيدة (صلوات في هيكل الحب) :
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء
كاللحن كالصباح الجديد
كالورد كابتسام الوليد (1)
فكانت الكاف تكشف عن حلقات متتابعة متصلة لمرحلة عاطفية خاصة عاشها الشاعر وهذه المراحل متلاحقة مترابطة، لكنها تشكل في بنائها وحدة موسيقية وإيقاعية مستقلة (كالطفولة أو كالصباح الجديد،…) هذا الإيقاع هو إيقاع نبضات قلب الشاعر وزفراته التي كان ينفثها تجاه محبوبته لأن الصوت يجسد الإحساس ويجعل السامع يستشعر المعنى بطريقة مباشرة (2) ، ولذلك يمكن القول أن بعض صور تكرار الحروف عند الشاعر ترتبط بهيكل القصيدة فتعكس الموضوع الشعري داخل التجربة أو يكشف عن الموقف الحقيقي للشاعر فنجد من هذه الأشياء الطبيعية التي صورها مسكناً لروحه ومشاعره التي تأذت وتألمت وهو يلجأ إليها كرهاً للإنسان وبغضاً لسلوكاته" (3) .
إن تكرار الحرف لايمكن أن يخضع لقواعد نقدية ثابتة يمكن تعميمها على النصوص الشعرية للشاعر لاختلاف طبيعة الأسلوب والدلالة التي يحدثها كل حرف ضمن السياق في النص الواحد، وإن كان تأثير الحرف الموسيقي لا يرقى في قوته إلى تأثير الكلمة ولكن مع هذا فإن لتكرار الحرف أثر واضح وبيين في ذهن المتلقي يجعله متهيئاً للدخول إلى عمق النص الشعري.
تكرار اللازمة:(7/453)
وتعني بالإنجليزية Refreindre أو ما يسمى بالألمانية Rehrrier فإن معناها بالفرنسية الصدى وهي مأخوذة من الفرنسية القديمة Refreindre ومن اللاتينية Refirgere وتعني يكرثانية وهي عبارة عن مجموعة من الأصوات أو الكلمات التي تعاد في الفقرات أو المقاطع الشعرية بصورة منظمة. واللازمة على نوعين: اللازمة الثابتة وهي التي يتكرر فيها بيت شعري بشكل حرفي، واللازمة المائعة: وهي التي يطرأ فيها تغير خفيف على البيت المكرر (1) .
يعمل تكرار اللازمة على ربط أجزاء القصيدة وتماسكها ضمن دائرة إيقاعية واحدة، وكأنها قالب فني متكامل في نسق شعري متناسق، تجعل القاريء لها يحس بأنها وحدة بنائية واحدة ووحدة موسيقية ذات إيقاع واحد، يكشف هذا التكرار عن إمكانيات تعبيرية وطاقات فنية تغني المعنى وتجعله أصيلاً إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه وأن يجيء في موضعه، بحيث يؤدي خدمة فنية ثابتة على مستوى النص تعتمد بشكل أساسي على الصدى أو الترديد لما يريد الشاعر أن يؤكد عليه أو يكشف عنه بشكل يبتعد به عن النمطية الأسلوبية، ولذلك فإن أضمن سبيل إلى إنجاحه أن يعمد الشاعر إلى إدخال تغير طفيف على المقطع المكرر، والتفسير السيكولوجي لهذا التغير أن القاريء وقد مرّ به هذا القطع يتذكره حين يعود إليه مكرراً في مكان آخر من القصيدة وهو بطبيعة الحال يتوقع توقعاً غير واع أن يجده كما مر به تماماً، ولذلك يحس برعشة من السرور حين يلاحظ فجأة أن الطريق قد اختلف وأن الشاعر يقدم له في حدود ما سبق أن قرأه لوناً جديداً" (2) .
ويحتاج تكرار اللازمة إلى مهارة ودقة بحيث يعرف الشاعر أين يضعه فيجيء في مكانه اللائق وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة، فهو بسهولته وقدرته على ملء البيت وإحداث موسيقى ظاهرية، يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري (3) .(7/454)
لقد استخدم الشابي تكرار اللازمة في شعره بشكل غير ثابت ولا مستقر شأنه في ذلك شأن حالته النفسية المضطربة فتراوحت اللازمة عنده بين تكرار العبارة وتكرار البيت الشعري، متفاوتة في عدد مرات التكرار، مع إحداث تغيير طفيف في هذه القوالب، ليجسد من خلالها آهاته وعذاباته فيرددها ويلح عليها لتجد صداها في أهل زمانه وأبناء عصره ليعملوا على التغيير في بنية المجتمع الاجتماعية والثقافية والسياسية نحو مجتمع أفضل، خصوصاً أن معظم الصور التكرارية ملازمة عنده قد وقعت في هذا الإطار.
لقد أخذ تكرار اللازمة عند الشاعر شكلين الأول: تكرار اللازمة غير الممتدة أو القصيدة فتتكون من كلمتين وتتكرر داخل القصيدة بشكل رأسي وثانيهما: اللازمة الطويلة التي تتشكل من سياقات لغوية ممتدة ذات صدى أوسع وانتشار أكثر لكثرة ألفاظها وإيقاعاتها ولكنها أيضاً – لم تأخذ شكلاً ثابتاً في عدد مرات التكرار أو عدد الكلمات فهي قلقة متغيرة.
أما النمط الأول فقد غلب عليه التشكيل الاسمي البسيط جاءت في دوائر الاستغاثة بالليل والرفقاء والحب متضجراً أو مستنجداً، مما يكشف عن حاجة الشاعر للهروب من الواقع بحثاً عن التغيير للانطلاق إلى فضاء رحب تحلم به نفسه، ويحقق فيه ذاته وتسمو روحه فوق العذاب، وإن كانت الجملة الاسمية لا تستطيع أن تستوعب هذه الأحداث فهي ذات فضاءات أقل تأثير وانتشار من الجملة الفعلية وتتميز بالسكون لكنه استطاع أن يمنح هذا النمط الأسلوبي شيئاً من الفاعلية والسلطة يقول:
يا رفيقي وأين أنت
قد أعمت جفوني عواصف الأيام (1)
فنراه يكرر اللازمة (يارفيقي) مرة أخرى بعد اثنى عشرة بيتاً يشرح فيها عذاباته وآلامه كي ينفس عما في نفسه لهذا الرفيق الذي وجد فيه المنقذ الأعظم فيقول:
يا رفيقي ما أحسب المنبع المنشود الأوراء ليل الرجام
ثم يكرر هذه اللازمة بعد بيتين مرة وبعد أربعة عشرة بيتاً مرة أخرى فيقول:(7/455)
يا رفيقي لقد ضللت طريقي وتخطت محجتي أقدامي
فيجعل من هذه المسافات بين صور التكرار دائرة يتحرك فيها ليشرح لرفيقه ما أصاب الكون من فساد فأصبح جحيماً، لذلك جعل من هذه اللازمة وسائل وشرائح دفاعية ضد المجتمع والإنسان والكون رابطاً بين هذه المسافات بوحدة شعورية تنساب بين ثنايا السطور الشعرية وبوحدة لغوية مع حرف الواو أحياناً وأحياناً بأنماط أسلوبية متنوعة بين الجملة الفعلية والاسمية والإنشائية والخبرية ولكنها تتمحور وتدور حول نقطة الارتكاز (يارفيقي) وكأنه بذلك يكرر هذه اللازمة نفسياً في بداية كل سطر شعري.
أما اللازمة الطويلة فتكونت من وحدات متداخلة متلاحمة تلاحماً يحدث بها تأثيراً قوياً وفاعلية في نفس المتلقي، لأنها تمتد عبر سطر شعري متكامل وذات بناء لغوي متعدد ليتمكن من خلالها من التعبير والتنفيس عما يجول في خاطره من حسرات وآهات، فنوّع في مواقعها فكانت على شكل افتتاحيات وأقفال على طريقة نظم الموشحات فهو لا يخرج عن الإطار التقليدي لبناء القصيدة العربية، ومع هذا لا يستطيع إغفال هذه الظاهرة في شعره لأنها داخلة في صميم تركيب النص الشعري للشابي وتشكل محطات منتظمة في خلق إيقاعات شعرية متساوية "فاللازمة الرنانة المنتظمة عنصر مهم في بناء القصيدة، كما أن البناء الخلفي الذي أحدثته اللازمة استطاع أن يكوّن بنية متلاحمة متصلة" (1) فعمل على الربط بين أجزاء القصيدة من خلال هذه اللازمة يقول في قصيدة (الكآبة المجهولة) :
أنا كئيب، أنا غريب
كآبتي خالفت نظائرها
كآبتي فكرة مغردة
لكنني قد سمعت رنتها
سمعتها فانصرفت مكتئباً
سمعتها أنة يرجعها
غريبة في عالم الحزن
مجهولة من مسامع الزمن
بمهجتي في شبابي الثمل
أشدو بحزني كطائر الجبل
صوت الليالي ومهجة الأزل
إلى أن يقول:
مرت ليال خبت مع الأمد
روحي وتبقى بها إلى الأبد
كآبة الناس شعلة ومتى
أما اكتئابي فلوعة سكنت
أنا كئيب أنا غريب (2)(7/456)
فكرر الشاعر اللازمة (أنا كئيب، أنا غريب) مرتين، شكل منها مساحات واسعة، وفضاءات ممتدة داخل النص الشعري، حتى أننا نلمح معاني هذه الكلمات ودلالالتها في كل سطر شعري مع اختلاف في الأنماط الأسلوبية المستخدمة والاشتقاقات اللغوية المتعددة، فكلمة (كئيب) ذكر مرادفات لها كآبتي، كآبة، اكتئاب) حتى أنه جعل من بعضها لوازم أخرى مساندة للازمة الرئيسية مثل قوله (أما اكتئابي فلوعة سكنت) فكررها مرتين، لأن إحساس الشاعر بالغربة والاغتراب جعله يوزع دوائر الإيقاع المكاني، حتى لا يدع مجالاً للشك بأنه غريب، بل إن غربته تختلف عن غربة غيره من البشر، فهي لا تفارقه سكنت روحه وتبقى معه إلى الأبد وأنها غربة قاسية (لم يسمع الدهر مثل قسوتها في يقظة ولا حلم) بينما كآبة الناس شعلة تتقد وتخفو ثم تزول، ولم يشاركه أحد هذه الهموم في هذه الغربة ولم يحس بها أحد أيضاً لأنه يعيش غربة روحية وفكرية لم يستطع التكيف مع واقعه الاجتماعي، فجنح إلى الهجرة الروحية فتعلقت همته ببيئة أخرى مثالية يحيا بها بروحه ويحلق فيها بخياله. ولكن هذا الإحساس لم يجعله يهرب من الواقع ليعشق ذاته وإنما كان هذا الإحساس دافعاً له للبحث عن عالم آخر، وبديل للعالم الذي تصفو فيه روحه ويتخلص من آثام الدنيا وشرورها وجهل الناس ولؤمهم (1) .
ولم يكتف بأن يجعل من اللازمة افتتاحية وانطلاقة لثورته وتمرده، بل جعل منها رابطاً قوياً بين مطلع النص ومركزيته فكثف هذه اللازمة في بؤرة النص يقول:
وبحار لا تغشيها الغيوم
وربيع مشرق حلو جميل
وابتسامات ولكن واساه
آه ما أشقى قلوب الناس آه
كان في قلبي فجر ونجوم
وأناشيد وأطيار تحوم
كان في قلبي صياح وإياه
آه ما أهول اعصار الحياة
كان في قلبي فجر ونجوم
فإذا الكل ظلام وسديم
كان في قلبي فجر ونجوم (2)(7/457)
فجاءت اللازمة (كان في قلبي فجر ونجوم) قوية لها صداها منذ بداية تكرارها في كل سطر شعري جسد فيها ماضيه المشرق الجميل الذي فقده لعظم المصائب التي لحقت به، حيث كانت حياته صافية، وربيع حياته حلو جميل، لذلك نراه يؤكد على هذه اللحظات الحلوة التي مرت سريعاً عبر هذه الأساليب التكرارية المتلاحقة حيث وقعت في مسافات التوتر المختلفة بين اللازمة الأولى وكل من الثانية والثالثة، لأن اللازمة الأولى كانت أكثر قدرة على تجسيد الماضي بكل أحداثه وإشراقاته بينما الثانية والثالثة جاءت تؤكد وتردد ما آلت إليه حال الشاعر لينطلق بعد ذلك باحثاً عن صباح مشرق جميل فنراه في النص نفسه يلجأ إلى لازمة أخرى تجسّد ثورة الانطلاق والانعتاق من الماضي المظلم الذي تعيشه أمته وبني جنسه للبحث عن فجر وصفه بالبعيد متخذاً الطريقة نفسها التي كررها في المقطع الأول فيقول:
قد تقضي العمر والفجر بعيد
وانقضت أنشودة الفصل السعيد
أين غابي؟ أين محراب السجود؟
كيف طارت نشوة العيش الحميد؟
يا بني أمي ترى أين الصباح؟
وطغى الوادي بمشبوب النواح
أين نايي؟ هل ترامته الرياح
خبروا قلبي فما أقسى الجراح
يا بني أمي ترى أين الصباح؟
أوراء البحر! أم خلف الوجود
يا بني أمي ترى أين الصباح؟ (1)
فجسد من خلال هذه اللازمة الحلم الجميل الذي لازال يفكر به ويراوده في كل لحظات حياته، عبر عالم الطبيعة الذي اتخذه محراباً له يجد فيه نشوته وذاته لكثرة أسرارها وجمالها، كما يرى فيها الأنيس والرفيق الذي يشعر معه ويحس بآلامه وهمومه.(7/458)
لقد حرص الشاعر على تجسيد لحظة الصراع بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال تكرار اللازمة أو بين الموت والحياة، ولكن ليس الموت النهائي إنما الموت الذي يبشر بحياة أخرى حافلة بالعطاء، لأن اللازمة تتكون من جملة من الأساليب اللغوية تبدأ بمقطع ثم تنتهي بالبيت الشعري الكامل، فهي أكثر قدرة على استيعاب هذا الزمن الممتد والفضائي الواسع الذي يبدأ بالماضي ليتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، لأن الماضي بالنسبة له هو فناء وموت وسكون والحاضر هو الحياة والانطلاقة التي تستشرف المستقبل، فالماضي هو الأمس والحاضر هو اليوم يقول من قصيدته جدول الحب بين الأمس واليوم التي تقع في ستين بيتاً يقول:
بالأمس قد كانت حياتي كالسماء الباسمة
واليوم قد أمست كأعماق الكهوف الواجمة (1)
ثم يكرر هذا المقطع بعد أربع وثلاثين بيتاً، فجعل عنوان القصيدة في تكرار لازمته وجسّد خلالها لحظة التجلي الشاعرية الماضية التي عاشها ضاحكاً حالماً، لحظة الحب للذات والآخر التي كانت (كبسمة القلب الثمل) فكان الحب ملاذه من الاغتراب والغربة التي عاشها فهو يطهر النفوس ويخلص الإنسان من شقائه ومحنته الكونية وهذا هو شأن الرومانسيين الذين يمجدون الحب ويعدونه أساساً من الأسس التي يجب أن يقوم عليها المجتمع إضافة إلى التقدم العلمي والمساواة والإخاء (2) ولذلك فإنه قد جسّد في هذه اللازمة التي تمثل انطلاقته وتحرره من عالم الأمس فرحة ونشوته في الحب الذي رآه في الطبيعة والمرأة (حيث العذارى الخالدات يمسن ما بين النجوم) ولكنه يلح على ثنائية الأمس واليوم أو الماضي والحاضر في ثنايا النص ليبقى النص مشدوداً يتحرك في إطار هذا الزمن المحدود الذي أراد من خلالها أن يصور حياته وما آلت إليه فنراه يكرر ويقول بين حين وآخر:
قد كان ذلك كله بالأمس بالأمس البعيد
والأمس قد جرفته مقهوراً يد الموت العتيد
قد كان ذلك تحت ظل الأمس والماضي الجميل(7/459)
قد كان ذلك في شعاع البدر من قبل الأفول
واليوم إذ زالت ظلال الأمس عن زهري البديع (1) .
ثم يستمر في تجسيد ذاته في كل حرف وكلمة إلى أن بدأ الماضي يتلاشى (فذبلت مراشفه فأصبح ذاوياً نضو الكلوم وهوى لأن الليل اسمعه أناشيد الوجوم) فيعود مرة أخرى إلى اللازمة ويكررها كما هي بعد أن بان ليله، لأن الليل عند الرومانسيين يوحي بالانطلاق والتحرر فهو مليء بالأسرار وهو معبر إلى اللا نهاية المظلمة مثل مستقبل الشاعر المظلم لذلك فإن المعاني الشعرية التي طرحها بعد اللازمة الثانية جاءت تجسّد لحظة المستقبل وما آلت إليه حالة من جفاف الدموع، والغيوم الحزينة التي تغطي سماءه، حيث المرارة والآسى والكآبة، كما أنه عمل على اختيار صيغ نحوية تدور في فلك المستقبل فجاءت الأفعال مضارعة (تهتز، فتسير، يسيل، ينحن، يهرقن، فتدفقت) رابطاً ذلك بعالم الطبيعة الذي كان يمثل عنده مصدراً للحقائق الوجودية والإنسانية.
لقد حاول الشاعر أن يجعل من تكرار اللازمة نمطاً أسلوبياً ثابتاً مع اختلاف في بنائها اللغوي، فيجعلها أول القصيدة التي تشكل فاتحة لصرخته وآهاته ثم يكررها داخل النص مرتين أو ثلاثة بشيء من التساوي تقريباً في إعداد الأبيات بين كل لازمة إلا أنه يجسّد في كل بيت يأتي بعد اللازمة معاني وصور هذه اللازمة ليشكل منها بؤرة مركزية ويجعلها مصدراً لتوتره بل إنه أحياناً يجعل من عنوان بعض القصائد – كما ذكرنا سابقاً – مادة لتكرار اللازمة كما هو الحال في قصيدته (ياموت) فجاءت اللازمة في هذه القصيدة ضمن هذا التوجيه الأسلوبي يقول:
يا موت! قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري(7/460)
فجسّد معاناته وعذاباته من هذا الموت الذي لا تفارقه صورته وهو لحظة الإحساس بالنهاية، فسيطر هذا الشعور على كل الأبيات التي وقعت بعد هذه اللازمة وحتى يؤكد ذلك فقد اتخذ من حرف الواو رابطاً بين اطراف هذه اللازمة ليعدد مآسي الموت ومصائبه وصوره البشعة التي تصيب البشرية (ورميتني، وقسوت، وفجعتني، ورزأتني، وهدمت، وفقدت) مع التأكيد على الفعل (فقد) الذي قضّ مضاجعه لفقده والده. ويبقى الموت في ذاكرة الشاعر هاجساً مؤلماً ومصيراً محتوماً، لكنه يدخله في دائرة السؤال والاستفهام الإنكاري الذي يقترب من حد الفلسفة، فالحياة ليس فيها إلا ألوان من العذاب خاتمته الموت يقول:
يا موت قد مزقت صدري
وقصمت بالأرزاء ظهري
يا موت ماذا تبتغي مني
وقد مزّقت صدري (1)
وتبدأ دائرة السؤال الفلسفي ليشرّح الموت ويكشف عن أسراره الخفية (بماذا تود) وبذلك يكشف عن حيرة الشاعر وقلقه من هذا المصير وخوفه من المجهول الذي ينتظره، ولكنه يستسلم لتداعيات الموت وعذاباته اليائسة ب (خذني) ليتخلص من شروره وشرور الإنسانية عامة. فقد أصبح ينتظر دوره في الفناء، ولذلك يجسد في اللازمة الثالثة قمة الاستسلام واليأس التي غطت معظم وجوه حياته، فيقرع الموت ويطلبه فيقول:
يا موت قد مزقت صدري
يا موت قد شاع الفؤاد
وغدوت أمشي مطرقاً
يا موت! نفسي ملّت الدنيا
وقصمت بالأرزاء ظهري
وأقفرت عرصات صدري
من طول ما أثقلت فكري
فهل لم يأت دوري
فجسّد في هذه اللازمة مشاعر الأسى والحزن واليأس وفقدان الأمل الذي يعتور حياته، ولذلك نراه يتعامل مع الموت كأنه شخص يناديه ويتمنى مجيئه لأن أجله كما يعتقد أصبح قريباً. من هنا يمكن القول أن الشابي يتخذ من هذه اللازمة وسيلة لإعادة ما في ذهنه وجوهر حياته يسقط عليها أو من خلالها همومه وآلامه وثورته.(7/461)
وتتجلى الرتابة في تكرار اللازمة عند الشابي في قصيدته (الصباح الجديد) فيوسّع من حدودها الزمانية والمكانية فتقع في ثلاثة أبيات، ثم تتكرر بشكل منتظم دقيق بعد كل ثمانية أبيات، وكأنه بذلك يبحث عن صباح جديد منظم صباح يخلو من الألم والحزن يقول:
اسكني يا جراح
مات عهد النواح
وأطلّ الصباح
واسكتي يا شجون
وزمان الجنون
من وراء القرون (1)
فتمثل هذه اللازمة لحظة الانطلاقة الفعلية والتحرر المطلق من تبعات الماضي وجراحه، للسعي نحو مجتمع مثالي يجد فيه ذاته وحلمه، بصبر وحزم وقد جسّد ذلك في أفعال الأمر (اسكني) الذي يوحي بالشدة والحزم فقد مات عهد النواح وأطل الصباح من وراء القرون، فيطمئن نفسه وأساريره بهذا الحلم الجميل الذي يراوده، لذلك نرى حتمية هذا السكوت والسكون ومستوياته قد تمثلت في الأبيات التي جاءت بعد هذه اللازمة الأولى فهو قد دفن الألم، وأذاب الأسى، ساعياً نحو صباح جديد وفجر جديد يعطيه الحياة والأمل، لأن هذا السعي المستمر الدؤوب جعله مشدوداً لا يتحرك إلا في دائرة الفعل (اسكتي) وكذلك عمل على ربطه بقافية رباعية تنتهي بالنون (الزمان، الحنان) :
اتغنى عليه برحاب الزمان
والهوى والشباب والمنى والحنان
كما سعى إلى ربط الرباعيتين الثالثة والرابعة باللازمة الأساسية ثم عمل على ربطهما بقافية موحدة هي العين (الشموع، وربيع) يقول:
اسكني يا جراح
مات عهد النواح
وأطلّ الصباح
واسكتي يا شجون
وزمان الجنون
من وراء القرون (2)
ثم يربط بين هذه الرباعية والرباعيتين التي جاءت بعدها بحرف العين فكانت الأولى:
وحرقت البخور وأضأت الشموع
ثم:
سوف يأتي ربيع إن تقضى ربيع(7/462)
ولازال الأمل قوياً لدى الشاعر فهو مصمم على البحث والسعي لإيجاد مجتمع مثالي مميز فإن ذهب ربيع سوف يأتي ربيع. كما عمل على الربط بين اللازمة الثالثة والرباعيتين اللتين جاءت بعدها بحرف العين أيضاً بكلمتي (البقاع – الوداع) ليستمر تجسيد الوعي بهذا الإحساس القوي وليؤكد على تصميمه وعزمه على توديع الأشجان والهموم وذلك عبر سكون الجراح وسكوت الشجون فيقول:
اسكني يا جراح
مات عهد النواح
وأطلّ الصباح
واسكتي يا شجون
وزمان الجنون
من وراء القرون
ثم يربط بين الرباعيتين بعد هذه اللازمة بوحدة شعورية منسقة ومتناسقة مع معاني اللازمة فربط بينهما بحرف العين:
لم يعد لي بقاء فوق هذي البقاع
ثم في الرباعية الثانية:
ونشرت القلاع فالوداع الوداع
وهذا التوحد بين هذه الرباعيات يشبع نفسه ويرضي إحساسه ويوحي بقوة تلك الأحاسيس التي يتابع موجها في روحه المعذبة المترددة بين الشك واليقين وبين الحياة والموت (1) .
تكرار البداية:
ويشكل هذا النوع من التكرار مساحة أكبر مما شكلته أنواع التكرار الأخرى، ويبدو أن ذلك يعود إلى نفسية الشابي المضطربة المتوترة التي تعتقد أن تكرار البداية، هي البداية القوية المكثفة للانطلاق والتحرر والقوة والتمرد وهي صرخته القوية أمام الجهل والتخلف والفساد، وبذلك تكون أكثر فاعلية خصوصاً إذا عرفنا أن تكرار البداية قد تكثفت عند الشاعر بشكل رأسي يعمق صرخاته وآهاته ويرددها ليسمع الآخرون صداها وأوجاعها عبر إيقاعات موسيقية متوالية وبناءات لغوية مختلفة تراوحت بين الكلمة والعبارة التي يحتويها صدر البيت الشعري لا تتجاوزه فهي غير ممتدة عبر النص الشعري حتى لا تستنفد طاقاته الشعرية وآهاته النفسية، فكلما امتدت داخل السطر الشعري كلما فقدت من بهرجها وفاعليتها.(7/463)
لجأ الشابي إلى أنماط أسلوبية متنوعة وأنماط لغوية متعددة، جسّد في كل نمط نوعاً خاصاً من المعاناة وشرح من خلالها ما يدور في نفسه من حيرة وقلق واضطراب فكانت بمثابة وسائل لاستيعاب وتخفيف هذه الهموم، لذلك نراه ركز على أسلوبي النداء والاستفهام كما ركز على الجملة بأشكالها المختلفة. فشكل من أسلوب النداء جملة مركزية ثابتة ينطلق ليكشف عما في أعماقه من خلال حرف النداء (يا) الذي تكرر في قصائده الأشواق التائه (1) ومناجاة عصفور (2) والنبي المجهول (3) ونشيد الأسى (4) يقول من قصيدته (ياشعر) :
يا شعر أنت فن الشعور وصرخة الروح الكئيب
يا شعر أنت صدى نحيب القلب والصب الغريب
يا شعر أنت مدامع علقت بأهداب الحياة
يا شعر أنت دم تفجر من كلوم الكائنات
يا شعر قلبي – مثلما تدري – شقي مظلم
فيه الجراح البخل يقطر من مغاورها الدم (5)(7/464)
فكرر أسلوب النداء (يا شعر) واتخذه بداية وفاتحة لانطلاقته ليجعل مع كل بداية صورة مستقلة تكشف عن هم الشاعر نحو مفهوم الشعر وأبعاده وما أصابه من غربة في عالم لا يفهم معناه، فيعزز من قيمته ويعلي من شأنه، فلم يبق له سوى الشعر يبوح له بأسراره وهمومه وآلامه، فيسكن وجدانه، لذلك فقد جسّد كل هذا في تتابع الصفات التي وقعت بعد اسلوب النداء (فم الشعور وصرخة الروح، صدى نحيب القلب، مدامع، دم تفجر…) . ولإدراكه بأن هذا الشعر يعاني كما يعاني فهو كمعادل موضوعي للشاعر. ثم نراه يعود إلى هذه البداية الأسلوبية مرة أخرى فيكرر هذه البداية سبع مرات متوالية، ليعلن صرخته ودعوته الأكيدة لإنقاذ الشعر الذي أصابه ما أصاب الشاعر من غربة فكرية وروحية فيحاول أن يعطيه بعداً ومفهوماً أوسع وأشمل فيجعله وسيلة محاكاة للنفس البشرية ووسيلة للتعبير عن خيال الشاعر فلم تعد رسالة الشاعر ألفاظاً منمقة وعبارات مرصعة وكلام مرصوص (1) وكأنه بذلك يثور ويتهكم على القصيدة العربية الكلاسيكية، لذلك نراه يلح على اتخاذ هذا الأسلوب دون غيره لأنه – كما يعتقد – الأقدر على إثراء تجربته ومنحها أبعاداً تستطيع أن تخلق جواً من التفاعل بين المبدع والمتلقي مما أدى ببعض الباحثين إلى تعريف الأسلوب على أنه اختيار يقوم به المنشئى لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معين ويدل هذا الاختيار أو الانتقاء على إيثار المنشء لسمات لغويةعلى سمات أخرى بديلة (2) ، إضافة إلى ذلك يمكن أن يفسر هذا التكرار في أسلوب النداء عند الشاعر بتداعي المعاني للصور المرئية في ذهن الشاعر (3) .(7/465)
إن لجؤ الشاعر إلى هذه السمة اللغوية أو إلى هذا الأسلوب يجعلنا نتساءل عن سبب ذلك الاختبار الأسلوبي، ولكن إذا أنعمنا النظر في القصائد التي وقعت ضمن دائرة تكرار البداية سواء أكانت بأسلوب النداء أو الاستفهام أو غير ذلك وجدنا الشاعر يجسّد عبر هذه الشرائح حالاته النفسية ومشاعره الخاصة وهمومه وآلامه التي يعانيها فهي تتوزع ضمن محور الغربة والاغتراب الفكري والروحي التي تمثلت في قصيدته التي أشرنا إليها سابقاً (يا شعر) أو ضمن آلامه الخاصة وأوجاعه الذاتية سواء أكانت جسدية أو نفسية، وتتمثل في بعض قصائده التي بدأت بأسلوب نداء أو استفهام أما المحور الثالث فهو الصدمة الاجتماعية التي واجهته في أبناء شعبه لما فيهم من جهل وتخلف وفساد فيجعل من نفسه مصلحاً مثالياً في تأسيس مجتمع تسوده المحبة والأمان والعدل والمساواة. لذلك نراه مثلاً عندما يود الحديث عن معاناته الذاتية جسدية أو غير جسدية يجسّد ذلك عبر أسلوب النداء والاستفهام ليعلن الرفض والخضوع والاستسلام لهذا الداء أو الوجع، فهو دائم البحث عن مخرج من هذا المأزق يقول:
يا قلب كم فيك من دنيا محجبة
يا قلب كم فيك من كون قد اتقدت
يا قلب كم فيك من أفق تنمقه
يا قلب كم فيك من قبر قد انطفأت
يا قلب كم فيك من غاب ومن جبل
يا قلب كم فيك من كهف قد انبجست
كأنها حين يبدو فجرها إرم
فيه الشموس وعاشت فوقه الأمم
كواكب تتجلى ثم تنعدم
فيه الحياة وضجت تحته الرحم
تدوي به الريح أو تسمو به القمم
منه الجداول تجري ما لها لجم (1)(7/466)
فكرر (يا قلب كم فيك) في بداية كل سطر شعري وألح على هذا النمط الأسلوبي بشكل رأسي متعاقب ليؤكد على أهمية القلب الذي يشكل مصدراً لوجعه وآلامه، فهو مصدر حياة الإنسان وسر شقائه وسعادته ومستودع الأسرار أو كما يقول عنه الشاعر كون مدهش عجيب، ويجعل كل بداية مرتبطة بصورة من الطبيعة لتسري عنه الهموم فهي مصدر حلمه وأنيسه الذي يشعر معه، ويجعلها على نقيض وصراع مع الحياة التي يفرَّ منها فحرمته ملذاتها وزينتها وجعلته غريباً يشقى بغربته ففر منها إلى عالمه الخاص وهاجمها عبر شريحة أسلوب النداء كما هاجم أناسها الذين لم يفهموه ولم يشاركوه حزنه يقول:
يا صميم الحياة كم أنا في الدنيا
بين قوم لا يفهمون أناشيد فؤادي
في وجود مكبل بقيود
غريب أشقى بغربة نفسي
ولا معاني بؤسي
تائه في ظلام شك ونحس (1)
فجعل من تكرار (يا صميم الحياة) نقطة مركزية يعود إليها كل حين ليبدأ موقفاً جديداً يعكس بعضاً من ملامحه النفسية ورؤيته التي يسعى جاهداً للتأكيد عليها. كما استطاع أن يحدث نغمة موسيقية عبر أسلوب النداء الذي يعبر عن صرخات الشاعر وآهاته وعذاباته.
أما تكرار البداية الذي وقع في أسلوب الاستفهام فلا يكاد يختلف أو يخرج من حيث الدلالة عما لاحظناه في تكرار النداء، إلا إن اختلاف الصيغ والسمات اللغوية قد يكشف عن أوجاع أخرى لدى الشاعر سواء أكانت ذاتية أم فكرية أم اجتماعية، وإن كان الشابي في معظم صور التكرار يحاول أن يؤكد على رومانسيته في هروبه من الواقع وذم الحياة والهروب من المدينة واللجؤ إلى الطبيعة أو لنقل عشق الطبيعة. وما أسلوب الاستفهام إلا حلقة متصلة من حلقات التصوير النفسي والحيرة والقلق الذي يسكن نفس الشاعر أو أنه يسعى من خلال هذا الأسلوب إلى أن يكون له تميز خاص واستقلالية ذاتية في بحثه عن المفقود وحضور فاعل في الوجود عبر ثنائية الحضور والغياب يقول:
ما للحياة نقية حولي
ما للصباح يعود للدنيا(7/467)
ما لي يضيق بي الوجود
ما لي وجمت وكل
ما لي شقيت وكل
وينبوعي مشوب؟
وصبحي لا يؤوب
وكل ما حولي رحيب
ما في الغاب مغترد طروب
ما في الكون آخاذ عجيب (1)
فشكل من هذا التكرار رابطاً بحرف الاستفهام (ما) لتكون نسقاً بنائياً قوياً مؤثراً، وبذلك يمنح التكرار قوة فاعلة في إيجاد وحدة شعورية متلاحقة كما أنه يعكس رؤية الشاعر وهدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، وهو الخروج من هذه الحياة الصاخبة إلى حياة دافئة وما هذه التساؤلات إلا انعكاس لما يدور في ذهن الشاعر من أمور تتعلق بذاتيته وتكوينه النفسي الذي تبدو عليه ملامح التشاؤم والسوداوية من خلال أسلوب التضاد الذي يجمع بين الحاضر والغائب، فالحاضر هو الواقع السيء لحال الشاعر والمتفرد في حزنه والغائب هو الغد المنتظر والفضاء الرحب الذي يسعى إليه (وهكذا يستخدم الشابي التضاد أداة جمالية، يصور بها مواقف متعددة وصفات متعارضة … ويكشف بها عن الأمل ويستشرف من خلالها آفاقاً جديدة وأداة للمفاضلة بينه وبين الآخرين) (2) .
كما لجأ إلى أدوات استفهامية أخرى (ماذا، أين) لتكشف هي الأخرى عن حيرة الشاعر وقلقه على هذا الوجود أو المصير أو رغبته في البحث عن عالم آخر غير المدينة أو شعب آخر غير هذا الشعب على عادة الرومانسيين، فالمدينة رمز الشرور وبؤرة للمفاسد، والطبيعة رمز الصفاء والطهارة والعفة، يجد فيها ذاته وتسمو فيها روحه على كل القيم يقول:
ماذا أود من المدينة وهي غارقة
ماذا أود من المدينة وهي لا
ماذا أود من المدينة وهي لا
ماذا أود من المدينة وهي مرتاد
بموّار الدم المهدور
ترثى لصوت تفجع الموتور
تعنو لغير الظالم الشرير
لكل دعارة وفجور (3)(7/468)
فاستخدم أسلوب تكرار البداية عبر نمط أسلوبي متلاحق (ماذا أود من المدينة وهي لا) لينفي عن المدينة صفات الخير والمحبة بشكل متواصل عميق لا يجعل للقاريء أدنى شك للتصديق فيما يسعى إليه، لأن كل صيغة من هذه الصيغ تحمل في ثناياها الرفض والتمرد على هذا الواقع، فجردها من كل الصفات الطيبة ليجعل المتلقي يعيش معه ثورته وتمرده فيشاركه هذه الروح التي تمثلت في ذات الشاعر صاحب الرسالة الذي يسعى بمفهوم شامل للإصلاح والتغيير برغبة جامحة قوية (أودَّ) وقد ألح عليها في كل بداية ليعمق من دلالتها.
ويكشف تكرار البداية عن نزعة التحسر والأسى والاشفاق الكامنة في نفس الشاعر من خلال أداة الاستفهام (أين) على أبناء عصره الذين يعانون الجهل والفساد وهم أصحاب رسالة لهم ماض مجيد وقد تحقق له ذلك بتكرار هذه الأداة في صدر الأبيات وعجزها بما يمكن أن يسمى رد العجز على الصدر ثم ربطها بصفات مفقودة عند أبناء شعبه (الطموح، الأحلام، الحساس، الخافق…) .
أين يا شعب قلبك الخافق الحساس؟
أين يا شعب روحك الشاعر الفنان؟
أين يا شعب فنك الساحر الخلاق؟
أين عزم الحياة لا شيء إلا
أين الطموح والأحلام؟
أين الخيال والإلهام؟
أين الرسوم والأنغام؟
الموت والصمت والأسى والظلام (1)
فتكشف هذه التساؤلات عن التوتر الانفعالي بشكل مكثف متعاقب، كما تكشف عن طبيعة البنية المكوّنة لهذا التساؤل، وكأن الشاعر يصور ما في ذهنه من أمور تتعلق بمصير هذا الشعب وخوفه على مستقبله لهذا جاءت البنية متعمقة في نمط رأسي وأفقي ممتد داخل القصيدة إلا في البيت الأخير جاءت رأسية لأنه أراد أن يعكس واقع الشعب الذي وصفه بالموت والصمت والأسى والظلام وكأنه يأسى من توالي النداءات والتساؤلات التي لم تلق صدى في تونس الثورة.(7/469)
أما تكرار البداية الذي وقع في بناء الجملة على اختلاف أنواعها، فكانت أكثر حضوراً في ذهن الشاعر، وأكثر قدرة على استيعاب ما في ذهنه وأكثره قدرة على عرض حاله ونفسيته، فجاءت بدايات الأفعال متحركة ثائرة تصور ما آلت إليه حالة من غربة روحية واغتراب فكري ونفسي بينما الجملة الاسمية تميزت بالسكون والهدوء والثبات ولهذا نراه قد أكثر من هذا النمط الأسلوبي من خلال الضمير أنت فكرره كثيراً في بداياته. ففي تكرار بداية الفعل يركز على الفعل الماضي الذي يعكس ما أصابه في حياته يقول:
شردت عن وطني السماوي الذي
شردت عن وطني الجميل أنا الشقي
في غربة روحية ملعونة
شردت للدنيا وكل تائه
ما كان يوماً واجماً مغموماً
فعشت مشطور الفؤاد متيما
أشواقها تفضي عطاشا هيما
فيها يروع راحلاً ومقيما (1)
فيجسد عبر الأفعال (شردت) معاناته التي وقعت له قهراً عنه بفعل قوى خارجية فرضت عليه فتقبلها وحاول الخروج عليها، وهذا الفعل يحمل في ثناياه الحزن والتعذيب والأسى الذي كرره بشكل متعاقب متوالٍ وكان تشريده عن وطنه وعن الدنيا بكل ما فيها، ولذلك وصفها بأنها (غربة روحية ملعونة) فخلق مع كل فعل صورة من صور العذاب والتشريد.
أما الجملة الاسمية التي شكل منها تكرارات بداية متنوعة تميزت بالسكون والانعتاق من الماضي، عبر الضمير (أنت) الذي كرره في معظم بداياته والضمير (نحن) وشكل منهما أبنية متناسقة قوية، تعكس رغبة الشاعر وحبه لهذه الأشياء وتعلقه بها مثل (شعر، القلب، الحب) تلك التي تمنحه الهدوء وتشعره بوجوده وإنسانيته لكنه عندما كان يتحدث عن (الشعر والحب) يصفهما بأنهما قطعة من فؤاده، وقصة حياته، ومعبده ومحرابه وأحلامه بينما كان يصور لحظة العذاب والألم من خلال حديثه عن القلب، فالقلب (حقل مجدب وليل معتم) ولذلك كان يكرر الضمير أنت بشكل متتابع يجعل المرء يحس بغنائية متسارعة متعمقة في الذات يقول من قصيدته (قلت للشعر) :(7/470)
أنت يا شعر فلذة من فؤادي
أنت يا شعر قصة عن حياتي
تتغنى وقطعة من وجودي
أنت يا شعر صورة من وجودي (1)
فيكرر هذه البداية أربع مرات متوالية يجسّد من خلالها حبه للشعر فهو الأنيس وليس له في الوجود إلا هذا الصديق الذي يستوعب زفراته وآهاته، كما جاء تجسيده عبر إيقاع العلامات المتراتب في تنوين الضم (قصة، فلذة، قطعة) . وتبدو هذه النزعة العلاماتية المتراتبة أكثر وضوحاً من خلال تكرار الضمير وإيقاع العلامات في قصيدته (إلى قلبي التائه) فجعل عنوان القصيدة هو موضوعها بإلحاح شديد على هذا الضمير مما يجعل القاريء لا يفلت من هذا الاسار القسري لسلطة النص يقول:
أنت ليل معتم تندب فيه الباكيات
أنت كهف مظلم تأوي إليه البائسات
أنت صرح شاده الحب على نهر الحياة (2)
فكرر الضمير (أنت) عشر مرات متعاقبة وبذلك يعطيه قوة وفاعلية استمدها من الصفات المتعاقبة – أيضاً – تعاقباً مستمراً متصلاً عبر تنوين الضم المتلاحق، فجعل من الضمير ولازمته مرتكزاً يبنى عليه في كل مرة معنى جديداً وصفة جديدة، وبهذا يصبح التكرار وسيلة إلى إثراء الموقف وشحذ الشعور إلى حد الامتلاء (3) .
ويحاول الشاعر أن يجعل من تكرار البداية بالضمير (أنت) قوة فاعلة وسلطة قوية في نفس المتلقي للتأثير عليه وجعله يعيش جو النص ليؤكد على قيمة الحب بكل أنواعه لأنه يطهر النفوس، وقد تجسد الحب في محبوبته وتقديسها والاشادة بها والخضوع لسلطانها وقد جاء ذلك عبر تكراره للضمير أنت بشكل أفقي ورأسي للتأكيد على قيمة هذا المفهوم وإعلاء شأنه يقول:
أنت أنت الحياة في قدسها السامي
أنت أنت الحياة في رقة الفجر
أنت أنت كل أوان
أنت أنت الحياة فيك وفي عينيك
وفي سحرها الشجي الفريد
وفي رونق الربيع الوليد
في رداء من الشباب جديد
آيات سحرها المحدود (4)(7/471)
فعمق من هذا التكرار بالتأكيد على الضمير أنت بتكراره مرة أخرى ملازمة للأولى بنغمة موسيقية هادئة تخلو من العنف والقسوة الذي يتمثل في التنوين لذلك جاءت النغمة العلاماتية بعد الضمير هادئة تكشف عن تماسك وتلاحم أوصال الشاعر عند حديثه عن محبوبته التي نعتها بنعوت متعددة حتى جعلها كل ما في الوجود، لا سبيل إلى سعادته إلا بتواصلها معه، وقد التفت القدماء إلى ظاهرة تكرار صدور الأبيات فتحدثوا عن فائدته وجعله مختلفاً بما يقرره (1) ومنهم من علل هذا التكرار بأنه (لما كانت الحاجة إلى تكرارها ماسة والضرورة إليها داعية لعظم الخطب وشدة موقع الفجيعة. فهذا يدلك على أن الإطناب عندهم مستحن كما أن الإيجاز في مكانه مستحب" (2) .
إن يأس الشاعر من الواقع بكل صوره جعله يعطي الضمير (أنت) روح الثورة والتمرد على الذات والغير، فيكرره في قصيدته عتاب (إلى الله) التي تكشف عن حسرته وحزنه لما آلت إليه حاله من أزمات نفسية تأثره، يعصف فيها الألم والقنوط بكل حقائق الحياة وتتزعزع معها كل قواعد الإيمان، فيصبح غريباً في هذه الدنيا وتصبح الحياة لديه صورة من اللهو والعبث يقول:
يا إله الوجود هذي جراح
أنت أنزلتني إلىظلمة الأرض
أنت أوصلتني إلى سبل الدنيا
في فؤادي تشكو إليك الدواهي
وقد كنت في صباح زاه
وهذي كثيرة الاشتباه (3)(7/472)
ثم يواصل تكرار أنت بشكل رأسي معمق، يحفر بشدة ليكشف عن يأس الشاعر وقنوطه (أنت أوقفتني على لجة الحزن، أنت أنشأتني غريباً بنفسي، أنت كرهتني الحياة، أنت جبّلت بين جنبي قلباً، أنت عذبتني بدقة حسي… فكرر الضمير (أنت) بقوة حيث جعله النقطة المركزية التي تدور حولها الأبيات الأخرى وحتى يعطيه أكثر قوة وسلطة تكشف عن تحديه وتمرده فقد ربط هذا الضمير بأفعال تنبيء عن حس الشاعر الحزين وثورة انفعالاته وتمرده على الوجود (أنزلتني، أوصلتني، عذبتني، كرّهتني) فهي افعال تدور في دائرة القسرية والإلزام الذي ظهر عبر حركة التضعيف الظاهرة عليها، وكأن الضمير (أنت) حال فيها متوحد معها متكرر مرة أخرى، فيخلق بذلك تراكيب وأبنية إيقاعية ذات صدى وفعالية فتصبح الجملة ذات بعد أوسع وأقدر على استيعاب هذه الثورة وهذه النفس الثائرة فبدأت من (أنزلتني لحظة الولادة) إلى لحظة التكوين والتشكيل للذات عبر السياقات اللغوية الأخرى التي تتوحد في تراتب علاماتي وصوتي فعّال، وانطلاقاً من هذا الفهم فإن عملية الالتفات إلى الجانب النفسي في أسلوب التكرار عملية مهمة، فلو اختلف الموقف الشعري لاختلف الأسلوب "فالشاعر قد يستعمل كل حيل اللغة من البساطة الكاملة إلى البلاغة المعقدة فيذكي حرارة العاطفة من خلال الإيجاز آناً ومن خلال الإطناب آناً آخر وطوراً عن طريق التفضيلات وطوراً عن طريق التكرار (1) .
أما الضمير (نحن) الذي شكل منه تكرار بداية في قصيدته (ألحاني السكرى) يقول:
نحن نحيا كالطير في الأفق الساجي
نحن نلهو تحت الظلال كطفلين
وكالنحل فوق غصن الدهور
سعيدين في غرور الطفولة(7/473)
ثم يكرر هذا الضمير ثماني مرات في قوالب لغوية مختلفة (نحن نغدو بين المروج ونمشي، نحن مثل الربيع نمشي، نحن نحيا في جنة من جنات السحر، نحن في عشنا المورد نتلو…) (1) . فيكشف تكرار ضمير (نحن) عن أهمية الذات الشاعر وتفخيمها، مما جعل الشاعر يكرر هذا الضمير. فقد بدأ كل بيت بالضمير (نحن) وهذه البدايات المتساوية تبعها فعل مختلف عن الآخر (نحيا، نلهو، نغدو، نمشي…) وبذلك يعكس كل بيت جانباً من إحساس الشاعر بالذات وتميزها التي تسعى للعيش الهاديء في اللحظة الحاضرة، فجسّد هذا الإحساس بمنظومة الأفعال التي جاءت تكشف عن لحظة الزمن الراهنة من خلال حرف النون الذي يعد جزءاً من الضمير (نحن) وكأنه بذلك يجعل السامع أو القاريء واقعاً تحت سلطان التنبؤ والتوقع لما يحدث لأن الشاعر قد أورد من خلال الضمير تصوراً جديداً في إطار الجو العام الذي يتحدث عنه وهو حب الذات.
أما تكرار البداية الذي وقع في شبه الجملة فقد عكس رؤية الشاعر الذي جاء من خلال البناء الأسلوبي الذي خلق تلاحماً بين الأبيات، هذا التلاحم يعكس نفسية الشاعر ويصورها في ذهنه حيث يسعى إلى التوحد والتماهي مع الآخر، ليتخلص من الهموم والأوجاع، وملاذه في ذلك الشعر أو الموت أو الأم التي جعل منها عنواناً لبعض قصائده (قلت للشعر) و (إلى الموت) ، (قلب الأم) يقول من قصيدته قلت للشعر:
فيك ما في جوانحي من حنين
فيك ما في خواطري من بكاء
فيك ما في مشاعري من وجوم
فيك ما في عوالمي من ظلام
فيك ما في عوالمي من نجوم
فيك ما في عوالمي من ضباب
فيك ما في طفولتي من سلام
فيك ما في شيبتي من حنين
فيك – إن عانق الربيع فؤادي
أبدي إلى صميم الوجود
فيك ما في عواطفي من نشيد
لا يغنّي ومن سرور عهيد
سرمدي ومن صباح وليد
ضاحكات خلف الغمام الشرود
وسراب ويقظة وهجود
وابتسام وغبطة وسعود
وشجون وبهجة وجمود
تتثنى سنابلي وورودي (2)(7/474)
فكرر (فيك ما في …) هذا التكرار الذي عمق إحساس الشاعر بأهمية الشعر ودوره في الحياة العامة، ولهذا فقد جاء التكرار بشكل رأسي متوال ليحدث نغمة إيقاعية وموسيقية في كل بيت، ومثل هذا التكرار المتساوي في نسقه يجعل الأبيات تكون وحدة بنائية متكاملة تشكلت من تكرار البداية المتساوي المتوحد إضافة إلى إيقاعية حرف الجر (من) في كل بيت شعري وما أعقبه بتراتب علاماتي يقوم على تنوين الكسر (من بكاء، من وجوم، من ظلام …) هذا الإيقاع التراتيبي الشديد الذي يعكس حرص الشاعر على استحضار كل ما في ذهنه من الصور والمعاني التي تساعده على التماهي أو التوحد مع الشعر، فجعل لتنوين الكسر صدى في عجز الأبيات (ومن صباح، ضاحكات، وسراب…) ليحصل على دوائر إيقاعية متكاملة قوية ظهرت واضحة في الأبيات إلا في البيت الأخير الذي بدأ بحرف الجر (فيك) ليشكل خاتمة ونهاية لإيقاعاته الموسيقية كي يبدأ من جديد في القصيدة ففيها بداية أخرى بنسق متشابه متماثل في خمسة أبيات يقول:
فيك ما في الوجود من خلل داج
فيك ما في الوجود من نغم
وما فيه من ضياء بعيد
حلو وما فيه من ضجيج شديد
فكرر البداية القوية (فيك ما في الوجود) مع حرف الجر (من) معتمداً على إيقاع علاماتي شديد (تنوين الكسر) . كما اعتمد على حرف الجر (في) على استكناه دواخله عبر إيقاع علاماتي خفيف سهل يتناسب والموضوع الشعري الذي تحدث عنه وهو (القلب) بشكل عام وقلب الأم بشكل خاص فهو رمز الحنان والعطف والتوحد، هذا هو مصدر أوجاعه وآلامه وأوجاع الأمة كلها لأن صلاح الجسم مرهون بصلاح القلب، لذلك نراه لم يدع صورة من عالم الطبيعة إلا قد وظفها في نصه الشعري وجسّد فيها الإحساس المرهف الرقيق الذي ينطوي تحت الضلوع بنغمة حزينة يقول من قصيدته قلب الأم:
في رنة المزمار في لغو الطيور الشادية
في ضجة البحر المجلجل في هدير العاصفة
في نغية الحمل الوديع وفي أناشيد الرعاة(7/475)
في آهة الشاكي وضوضاء الجموع الصاخبة
ويكرر حرف الجر (في) ست وعشرين مرة إلى أن يقول:
في ظلمة الليل الحزين وفي الكهوف العارية
أعرفت هذا القلب في ظلماء هاتيك اللحود
هو قلب أمك أمك السكرى بأحزان الوجود
هو ذلك القلب الذي سيعيش كالشادي الضرير
يشدو بشكوى حزنه الداجي إلى النفس الأخير (1) .
فجسّد أوجاعه وآلامه عبر قلب الأم الصادق ليدلك هو أيضاً على صدق حزنه فيحدث تأثيراً في المتلقي، هذا التأثير يمتد ويسير عبر حركة الكسر التي تظهر في معظم الكلمات منذ البداية إلى النهاية (في ظلمة… وفي الكهوف العارية..) فجعل منها إيقاعات موسيقية متناسقة ذات نغمة حزينة تنسحب داخل الأبيات بشكل متعاقب ومتلاحق ومكثف ليعبر عن تصميمه وتأكيده على استنفاد كل طاقاته كي يكون فاعلاً وحاضراً في كل الميادين حتى النفس الأخير من حياته فيقدم ويعطي من خلال حرف الجر (في) الذي يشير إلى التضحية والعطاء تجاه خصوصية معينة فتتماهى عندئذ ذاته مع الآخر وتشكل منهما قوة خلاقة ذات طاقة مميزة، كقوة القلب المتدفق كما جعل من هذا الحرف بؤرة مركزية تنطلق منها الأبيات وبذلك فإن ما يثيره التكرار من احساس في نفس السامع هو تجسيد لقيمته ووظيفته.
ومن أمثلة تكرار البداية تكرار (إلى) بشكل متعاقب ورأسي متوال يخلق وحدة بنائية تعكس تصور الشاعر للوجود الذي يسعى للخلاص منه بطلب الموت بإلحاح شديد، لذلك يصور الموت بصور جميلة (روح جميل) كما يجعل منه بداية ثابتة قوية يتردد صداها في كل سطر شعري واحد، بل قد جعل الموت عنواناً للقصيدة يقول:
إلى الموت أن شئت هون الحياة
إلى الموت يابن الحياة التعيس
إلى الموت إن عذبتك الدهور
إلى الموت فالموت روح جميل
إلى الموت فالموت جام روي
إلى الموت فالموت مهد وثير
إلى الموت إن حاصرتك الخطوب
إلى الموت لا تخش أعماقه
هو الموت طيف الخلود الجميل
فخلف ظلام الردى ما تريد
ففي الموت صوت الحياة الرخيم(7/476)
ففي الموت قلب الدهور الرحيم
يرفرف فوق تلك الغيوم
لمن أظمأته سموم الغلاة
تنام بأحضانه الكائنات
وسدت عليك سبيل السلام
ففيها ضياء السماء الوديع
ونصف الحياة الذي لا ينوح (1)
فجسّد عذاباته وسآمته من الحية عبر علاقات لغوية ممتدة تبدأ بحرف الجر (إلى) الذي يفيد الانتهاء الزماني والمكاني، فليس هناك بديل ناجح يخلصه من عبث الحياة إلا الموت. ولذلك يحبب الموت إلى نفسه كما يحببه إلى المتلقي عبر علاقات لغوية، فالموت روح جميل، والموت مع الجام الروي والموت مع المهد الوثير، فجعل من الموت طرفاً وقوة فاعلة ثابتة ولكنه غير في دلالته كي يتمكن من إقناع السامعين بهذه الفكرة وتنبيههم إلى هذا المفهوم، مع ملاحظة أن التكرار في هذا النص يظهر فيه شيء من النمطية في تكراره لكلمة الموت، وإن كان ذلك يعلل بأن انشغال الشابي بالموت وقلقه الوجودي هو الذي أوحي إليه ذلك، فهو يرى أن الحياة ليست سوى ألوان من العذاب خاتمته الموت، لذلك نلاحظ أن تكرار البداية لم يكن متعاقباً، بل كان يستغل مابين البدايات في شرح أفكاره وما في ذهنه عن الموت حتى يكشف عن جوهره وأسراره، فجاءت القصيدة على شكل رباعيات، تكررت البداية في كل رباعية مرة أو مرتين حسب طبيعة الموقف الشعري.
لقد كشف هذا البحث عن الجانب الوظيفي للتكرار ضمن السياق الذي يرد فيه إذ يعد ظاهرة من الظواهر اللغوية الواضحة في الشعر العربي، ولذلك لابد له من إحداث وظيفة إما بنائية أو إيقاعية خصوصاً إذا استطاع الشاعر استخدامه بدقة وبراعة، فهو ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة بحيث يحسن الشاعر صنعاً بمجرد استعماله، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة أو أن تلمسه يد الشاعر اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات.(7/477)
لذلك يختار الشاعر الأسلوب الذي يناسبه ويتفق مع رؤيته الحياتية الخاصة، كي يتمكن من استيعاب أفكاره ومعتقداته وفلسفته، وهذا ما حرص عليه الشابي في شعره، فكان يسعى إلى أن يجعل من هذا الأسلوب التكراري على اختلاف أشكاله وألوانه، أداة قادرة على التعبير عما في ذهنه وتصوير مشاعره واحساسيه وآلامه وهمومه التي أصابته في حياته الاجتماعية.
كما تبين أن التكرار عند الشابي كان يخضع لرؤية الشاعر النفسية التي كانت تلح على بعض المرتكزات الحياتية لتغييرها أو استبدالها لهذا نراه كان يستسلم لتداعيات بعض صور التكرار بشكل لافت للنظر في مختلف أشكال التكرار وخاصة تكرار البداية، فيجعل من هذه البداية نقطة مركزية تجتمع فيها صور التكرار الأخرى، أو أن يجعل موضوع القصيدة عنواناً لتكرار البداية ويبني عليه إيقاعات موسيقية متنوعة يعتقد فيها قوة التأثير والفاعلية على المتلقي.
ومما يلاحظ أيضاً أن التكرار جاء عند الشابي بشكل أفقي أو رأسي أخضعها لإيقاعات وإيحاءات موسيقية تعكس ملامح رؤيته النفسية والفلسفية التي تكشف عن موقفه الحقيقي من الحياة والكون والطبيعة من خلال سياقات وبناءات أسلوبية متنوعة على مستوى الكلمة أو الجملة.
لقد حاول الشابي أن يجعل من صور التكرار أداة جمالية تخدم الموضوع الشعري وتؤدي وظيفة أسلوبية تكشف عن الإلحاح أو التأكيد الذي يسعى إليه الشاعر، ولكن التكرار عنده قد تأثر ببعض جوانب حياة الشاعر الخاصة، فغلب عليه التداعي والتماثل في معظم صوره لذلك ما كان التكرار ليكون عند الشابي لولا حاجته الملحة للكشف عما يدور في ذهنه وإبراز أفكاره التي قد أصبحت هي الأخرى صورة من صور التكرار، فالمعاناة والألم تبدو واضحة في كل أنفاسه الشعرية وكأنه بذلك يكرر هذه المعاناة في كل نمط تكراري على اختلاف أشكاله.
الحواشي والتعليقات(7/478)
العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني (456هـ) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981م، ج2/73، وانظر الصناعتين للعسكري (395هـ) ص212، والمثل السائر لابن الأثير (637هـ) 2/345، والطراز، للعلوي 2/176.
تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة ص 232-241.
كتاب العين، الخليل بن أحمد، ج5، ص277، وانظر تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري (مادة كرر) ، وقاموس المحيط للفيروزآبادي (مادة كرر) .
أنوار الربيع في أنواع البديع، لابن معصوم، ج5/34-35.
الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت سعيد الجيار، الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، ليبيا، 1984م، ص47.
جوهر الكنز، ابن الأثير الحلبي، تحقيق د. محمد زغلول سلام، ص257.
التكوين التكراري في شعر جميل بن معمر، د. فايز القرعان (مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، م1، ع6، 1996م.
التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعة (بحث مقدم لمؤتمر النقد الأدبي الثاني 1988م، جامعة اليرموك، إربد. وانظر دراسات أخرى، بناء الاسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، القاهرة، 1988م، ص390، وأسلوب التكرار بين البلاغيين وإبداع الشعراء، شفيع السيد، مجلة إبداع القاهرة، ع6، سنة 2، 1984م، ص7، وظاهرة التكرار في شعر أمل دنقل، مجلة إبداع، القاهرة، سنة 30، ع5، 1985م، ص70.
موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس، ص8.
مباديء النقد الأدبي، أ. ريتشارز، ترجمة: د. مصطفى بدوي، ص 188.
قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص 263 ومابعدها.
المصدر السابق، ص 278.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص52 ومابعدها.
التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص 5.
الصورة الشعرية في الكتابة الفنية، د. صبحي البستاني، ص49.
أغاني الحياة، ص 45.
المصدر السابق، ص 15.
الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 54.
أغاني الحياة، ص 22.(7/479)
المصدر السابق، ص 24، وانظر نماذج أخرى، ص 14.
الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، ص 29.
أغاني الحياة، ص 22.
الأسلوبية والأسلوب، كراهام هاف، ص 21.
أغاني الحياة، ص 162.
الأفكار والأسلوب، أ. ف. تشترين، ترجمة د. حياة شرارة، ص50.
أغاني الحياة، ص 106، وانظر ص 109، 44.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 258.
أغاني الحياة، ص 169،وانظر نماذج أخرى، ص 42.
النص الأدبي وقضاياه عند ميشال ريفاتير من خلال كتابه صناعة النص، وجون كوهين من خلال كتابه (الكلام السامي) ، مجلة فصول، ص28، المجلد الخامس، العدد الأول، 1984م نقلاً عن التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص22.
الصورة الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص47.
أغاني الحياة، ص 96.
علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، د. صلاح فضل، ص27.
نظرية الأدب، رينيه ويليك، ترجمة حسام الخطيب، ص165.
انظر نماذج من الديوان، ص 86، 109، 114، 121، 134، 155، 183.
أغاني الحياة، ص43، 73، 78، 81، 93، 175، 156، 151، 115، 188.
أغاني الحياة، ص 20،وانظر ص 22.
أغاني الحياة، ص 89.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 160.
انظر نماذج من ذلك في ديوانه، ص 35، 18، 19، 129، 119، 159.
أغاني الحياة، ص 95، وانظر نماذج أخرى، ص 134، 152.
الصورة الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص68.
أغاني الحياة، ص 121، وانظر ص171 تكرار حرف اللام في بداية الأسطر الشعرية.
التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى الربابعه، ص9.
الصور الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص68.
التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص 4.
قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص 270.
المصدر السابق، ص 290.
أغاني الحياة، ص 73، وانظر نماذج أخرى ص 25، 35، 45، 55، 125.
التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص 37.
أغاني الحياة، ص 55.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 99.(7/480)
أغاني الحياة، ص 89.
أغاني الحياة، ص 89.
المصدر السابق، ص 69.
الرومانتيكية، د. محمد غنيمي هلال، ص 172.
أغاني الحياة، ص 70.
أغاني الحياة، ص 96.
أغاني الحياة، ص 159.
أغاني الحياة، ص 160.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 160.
أغاني الحياة، ص 112.
المصدر السابق، ص 55.
المصدر السابق، ص 105.
المصدر السابق، ص 83.
المصدر السابق، ص 135.
مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ديفيد دتيش، ترجمة محمد نجم، ص 172.
الأسلوب دراسة لغوية، سعد مصلوح، ص 10.
الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 125.
أغاني الحياة، ص 56، وانظر نماذج أخرى، ص 105، 83.
أغاني الحياة، ص 112.
أغاني الحياة، ص 85.
الصورة الشعرية عند ابي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 124.
أغاني الحياة، ص 56.
المصدر السابق، ص 175، وانظر ص 157.
المصدر السابق، ص 81، وانظر ص 96.
المصدر السابق، ص 86.
المصدر السابق، ص 92، وانظر ص 122.
أسلوب التكرار بين تنظير البلاغيين وإبداع الشعراء، د. شفيع السيد، ص 15 نقلاً عن التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص32.
أغاني الحياة، ص 122.
أمالي السيد المرتضى، الشريف الرضي 140/123.
الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ص 144.
أغاني الحياة، ص 99.
الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، ص 87.
أغاني الحياة، ص 165.
أغاني الحياة، ص 86 وانظر ص 87.
المصدر السابق، ص 131، وانظر ص 183.
المصدر السابق، ص 76.
المصادر والمراجع
اسلوب التكرار بين تنظير البلاغيين وإبداع الشعراء، شفيع السيد (دكتور) مجلة إبداع، السنة الثانية، العدد السادس، عام 1984م.
الأسلوب دراسة لغوية، سعد مصلوح (دكتور) دار البحوث العلمية، القاهرة، ط1، 1980م.(7/481)
الأسلوبية والأسلوب، كراهم هاف، ترجمة كاظم سعد الدين، دار آفاق عربية، العدد الأول، بغداد، سنة 1985م.
أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي (ديوان) دار الكتب الشرقية، دار مصر للطباعة، القاهرة، ط1، 1955م.
الأفكار والأسلوب، ا. ن. تشيتثرين. ترجمة د. حياة شرارة، آفاق عربية، بغداد، د. ت.
أمالي السيد المرتضى، الشريف الرضي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، ط2، 1967م.
أنوار الربيع في أنواع البديع، لابن معصوم، تحقيق شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان، النجف، ط1، 1969م.
بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب (دكتور) ، القاهرة، 1988م.
تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفار عطار، الشركة اللبنانية للموسوعات العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م.
تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، شرح ونشر السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1981م.
التكرار في الشعر الجاهلي، موسى ربايعه (دكتور) مجلة مؤته للبحوث والدراسات، جامعة مؤته (الأردن) ، المجلد الخامس، العدد الأول، 1990م.
التكوين التكراري في شعر جميل بن معمر، فايز القرعان (دكتور) مجلة مؤته للبحوث والدراسات، جامعة مؤتة (الأردن) ، المجلد الحادي عشر، العدد السادس، 1996م.
جوهر الكنز، لابن الأثير الحلبي، تحقيق د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، 1980م.
دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1984م.
الرومانتيكية، د. محمد غنيمي هلال، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت.
الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، مكتبة منيمنه، بيروت، 1961م.
الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1984م.
الصورة الشعرية في الكتابة الفنية، د. صبحي البستاني، دار الفكر اللبناني، ط1، 1986م.(7/482)
الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1981م.
ظاهرة التكرار في شعر أمل دنقل، حسين عيد، مجلة إبداع، القاهرة، السنة الثالثة، العدد الخامس، 1985م.
الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإيجاز، العلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ.
علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل (دكتور) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1985م.
العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، د. ت.
كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي وآخرون، دار الرشيد للنشر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1982م.
القاموس المحيط، الفيروزآبادي، دار صادر، بيروت.
قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1983م.
مباديء النقد الأدبي، أ. ريتشاردز، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة د. لويس عوض، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة العامة للطباعة والنشر، القاهرة، 1961م.
المثل السائر، لابن الأثير، تحقيق د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانه، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفجالة، القاهرة، د. ت.
موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس (دكتور) ، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط5، 1978م.
مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ديفيد ديتش، ترجمة د. يوسف نجم، مراجعة د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1967م.
النص الأدبي وقضاياه عند ميشال ريفاتير من خلال كتابه "صناعة النص"، وجون كوهين من خلال كتابه "الكلام السامي"، مجلة فصول، 28، المجلد الخامس، العدد الأول، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 1984م.
نظرية الأدب، رينيه ويليك، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1985م.(7/483)
مجلة جامعة أمِّ القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها
المجلد (13) العدد (21)
رمضان 1421 هـ / ديسمبر (كانون الأوّل) 2000 م
---
المحتويات
أولاً: القسم العربي:
أ - دراسات في الشريعة وأصول الدين
1 - الرضا بالقضاء
د. سالم بن محمد القرني ...
2 - الحديث المقلوب: تعريفه، وفوائده، وحكمه، والمصنفات فيه
د. محمد بن عمر بازمول ...
3 - المباحث الغيبية
د. عبد الشكور محمد العروسي ...
4 - قول الفلاسفة المنتسبين للإسلام في توحيد الربوبية، عرض ونقد في ضوء مذهب السلف
د. سعود بن عبد العزيز الخلف ...
5 - حكم نقض الوضوء بأكل لحم الإبل
د. علي بن محمد الأخضر العربي ...
6 - من مفاهيم ثقافتنا
د. علي بن حسن القرني ...
ب - دراسات في التاريخ والحضارة والاقتصاد:
7 - كتاب الصوائف “ المستخرج ” لمحمد بن عابد الدمشقي (ت233هـ)
د. سليمان بن عبد السوكيت ...
8 - التنمية والتقارب والاندماج في مجتمع المملكة قديماً وحديثاً
د. أحمد بن حسن الحسني ...
ج - دراسات في اللغة العربية وآدابها:
9 - الترتيب الصرفي في المؤلفات النحوية والصرفية إلى أواخر القرن العاشر الهجري
د. مهدي بن علي القرني ...
10 - الزيادي النحوي: حياته وآثاره ومذهبه
د. سيف بن عبد الرحمن العريفي ...
11 - التذكير والتأنيث: دراسة في الأخطاء اللغوية والتحريرية
لطلاب المستوى المتقدم في معهد اللغة العربية بجامعة أم القرى
د. جمعان بن ناجي السلمي ...
12 - الألفاظ المشتركة في اللغة العربية: طبيعتها، وأهميتها، ومصادرها
د. أحمد بن محمد المعتوق ...
13 - صويت الغنة في الأداء القرآني بين الكمية والمدة الزمنية
د. يحيى بن علي المباركي ...
14 - نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية
د. أحمد شيخ عبد السلام ...
15 - التصغير في اللغة
د. عليان بن محمد الحازمي ...
16 - مقدمة القصيدة الجاهلية عند حسان بن ثابت (رضي الله عنه)(7/484)
د. محمود بن عبد الله أبو الخير ...
17 - عمرو بن مسعدة الصولي (السيرة، والتراث الأدبي)
دراسة أدبية
د. عبد الرحمن بن عثمان الهليل ...
18 - الصورة الفنية لحقول التراجيدي في الشعر الجاهلي، وأصول المثل الجمالية
د. عبد الله بن خلف العساف ...
19 - ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي (دراسة أسلوبية)
د. زهير بن أحمد المنصور ...
ثانياً: القسم الإنجليزي:
أ - ملخصات الأبحاث العربية باللغة الإنجليزية ...(7/485)
مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها
العدد 22
ربيع أوّل 1422 هـ
المحتويات
أولاً: القسم العربي:
أ - دراسات في الشريعة وأصول الدين
1 - الحجج البينات في تفسير بعض الآيات
د. فريد مصطفى السلمان
2 - مصادر الحافظ ابن حجر وآراؤه في مسائل القراءات من خلال كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري)
د. يحيى بن محمد حسن زمزمي
3 - الأحاديث والآثار الواردة في سنة الجمعة القبلية وأقوال العلماء فيها
د. إبراهيم بن علي بن عبيد العبيد
4 - الكفر الأكبر
أ. د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين
5 - الروح القدس في عقيدة النصارى " دراسة نقدية في ضوء المصادر الدينية "
د. عبد الله بن عبد العزيز الشعيبي
6 - هدي الصحابة رضوان الله عليهم مفهومه - مصادره - نماذج منه
د. رضا محمد صفي الدين السنوسي
7 - حجية قول الصحابي عند السلف
د. ترحيب بن ربيعان بن هادي الدوسري
8 - قاعدة الإسلام يعلو ولا يُعلى " دراسة تأصيلية وتطبيقية "
د. عابد بن محمد السفياني
9 - المسائل الفقهية المتعلقة بالمغتربين في صلاة الجمعة والعيدين والجنائز
د. عبد الكريم بن يوسف الخضر(7/486)
10 - حياة القائد بين القدوة والاقتداء
د. علي بن حسن القرني
ب - دراسات في التاريخ والحضارة:
11 - الدعوة في السودان وتأثرها بالدعوة السلفية " دراسة تاريخية وثائقية "
د. عمر سالم عمر بابكور
12 - العلاقات العسكرية الإسرائيلية - التركية
د. هشام فوزي عبد العزيز
ج - دراسات في اللغة العربية وآدابها:
13 - حروف المعاني المركبة وأثر التركيب فيها
د. فائزة بنت عمر المؤيد
14 - معالجة المادة المعجمية في المعاجم اللفظية القديمة
د. محمد بن سعيد الثبيتي
15 - قضية التنازع في الاستعمال اللغوي
د. أبو سعيد محمد عبد المجيد
16 - التدريس المصغر في ميدان تعليم اللغات الأجنبية وتطبيقه في برامج إعداد معلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها
د. عبد العزيز بن إبراهيم العصيلي
17 - ظاهرة الغموض بين عبد القاهر الجرجاني والسجلماسي
د. محمود درابسة
18 - الشعر في كتاب الأمثال الظاهرة المنسوب إلى الماوردي
د. مصطفى حسين عناية(7/487)
19 - فن التوقيعات الأدبية في العصر الإسلامي والأموي والعباسي
د. حمد بن ناصر الدخيل
20 - العقل المستعار بحث في إشكالية المنهج في النقد الأدبي العربي
الحديث - المنهج النفسي أنموذجاً
د. صالح بن سعيد الزهراني
د - نصوص محققة:
21 - فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لابن تيمية
تحقيق د. عبد العزيز بن محمد الفريح
هـ - الآراء والقضايا:
22 - ضرب من التطور في الصحافة العربية
أ. د. إبراهيم السامرائي
و المراجعات العلمية:
23 - عرض كتاب المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها
د. سعد بن موسى الموسى
ثانياً: القسم الإنجليزي:
ملخصات الأبحاث العربية باللغة الإنجليزية(7/488)
الحجج البيّنات في تفسير بعض الآيات
د. فريد مصطفى السلمان
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة - الجامعة الأردنية - عمّان
ملخّص البحث
لقد استقيت هذا البحث من خلال قراءتي لكتب التفسير وغيرها، فوقفت عند بعض المسائل المهمّة في تفسير الآيات القرآنية، وخاصّة ما كان فيها موضع خلاف بين العلماء، في قضايا العقيدة أو مسائل الأحكام.
ونجد في هذه المسائل علماً غزيراً، إذ يدلي كلّ عالم بما لديه من قوة الحجّة والبرهان مستدلاًّ من العقل والنقل.
ففي مجال العقيدة جاءت مسألة الخلاف في القدر، وبيان وجه الحقّ فيها، وحكم مرتكب الكبيرة بين أهل السنّة والمعتزلة، ومسألة انشقاق القمر مع بيان الأدلة الدامغة القائمة بالحقّ.
وفي مجال الأحكام نجد مسألة القتال في الحرم، والخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، ومسألة قتل المسلم بالكافر مع بيان أدلّة كل فريق، وردوده على الطرف الآخر، وحكم الوقف في الحيوان، وحكم القراءة خلف الإمام.
ونجد في كلّ مسألة من هذه المسائل منهجاً متكاملاً لأسلوب البحث العلمي، وطريقاً واضحاً بيّناً لكل مذهب في استدلاله على ما يعتقده ويذهب إليه.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مقدمة:
لقد بيّنت الآيات الكريمة أهمية الدليل والحجة في بيان الحق وإزهاق الباطل ومن ذلك قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] .
وقد اعتمد علماء هذه الأمة الحجة والدليل في توجيه آرائهم المستنبطة من الكتاب والسنة، وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه بما يرى أنه الحجة الدامغة وفق رأيه ومنهجه.
وكنت قبل إيراد حجة كلّ فريق أذكر محلّ الخلاف في فهم الآية القرآنية، وآراء العلماء في المسألة، ثم أعقّب على هذه الآراء ببيان الراجح منها، من خلال قوّة الحجّة والبرهان.(7/489)
وقد كانت كل مسألة من هذه المسائل نموذجاً لطلبة العلم في طريقة فهمهم واستنباطهم، حتى يتضح وجه الحقّ جليّاً، دون اتباع للهوى أو التقليد.
تمهيد:
الحجج: جمع حجّة وهي الدليل والبرهان، وقيل ما دفع به الخصم.
وقال الأزهري: الحجّة: الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وإنّما سميت حجّة لأنها تحجّ، أي تُقصد. لأن القصد لها وإليها.
قال الأزهري: ومن أمثال العرب لجّ فحجّ معناه: لجّ فغلب من لاجّه بحججه. يقال: حاججته حتى حججته أي غلبته بالحجج التي أدليت بها (1) .
وقال الراغب الأصفهاني: الحجّة: الدلالة المبيّنة للمحَجّة أي المقصد المستقيم (2) .
قال الله تعالى: {قل فلله الحجة البالغة ( [الأنعام: 149] .
وقال تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة ( [البقرة: 150] .
ويجوز أن تطلق الحجة على ما يحتج به الخصم وإن كان باطلاً كما في قوله تعالى: {والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ( [الشورى: 16] . فسمّى الداحضة حجة.
وقال سبحانه وتعالى: {لا حجّة بيننا وبينكم ( [الشورى: 15] . أي لا احتجاج لظهور البرهان.
والمحاجّة: أن يطلب كل واحد أن يردّ الآخر عن حجته ومحجته.
قال الله عزّ وجل: {وحاجّه قومه قال أتحاجونّي في الله وقد هدان ( [الأنعام: 80] .
وقال سبحانه وتعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم ( [آل عمران: 66] .
وقد أكّد القرآن والسنة مشروعية المجادلة وإقامة الحجة، ومن ذلك قوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( [البقرة: 111] .
وقد قال الله تعالى في قصة نوح عليه السلام: {قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ( [هود: 33] .
وقد ذكر الله تعالى تلك المحاجّة العظيمة بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبين ذلك الكافر الذي آتاه الله الملك فقال سبحانه:) ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ( [البقرة: 258] .(7/490)
وتحاجّ آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام فحجّ آدمُ موسى كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" احتجّ آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك بيده، أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحجّ آدم موسى" (3) .
وقد قال المزني (4) : من حقّ المناظرة أن يراد بها الله عزّ وجلّ، وأن يقبل منها ما تبيّن.
وقالوا: لا تصحّ المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة (5) .
ونلاحظ فيما سنذكره من المسائل أنّ الهدف من ذلك الوصول إلى الحق بطريق الحجة الشرعية، باعتماد الأصول المتفق عليها سواء كانت من جهة الشرع أم النقل.
وقد ضرب علماء الإسلام أروع الأمثلة في المنهجية العلمية واتباع الحق بالدليل والبرهان حتى ذكر العلماء أنه يجب على المسلم أن يكون اعتقاده عن دليل وبرهان، وإن كان لا يلزم أن يكون دليله كما هو الحال عند أهل المنطق وأصحاب علم الكلام (6) .
وقد سار الإمام فخر الدين الرازي على هذا المنهج في تفسيره فنجده يقرر مذهب الخصم تقريراً لو أراد الخصم نفسه أن يقرره لما استطاع ذلك (7) .
ثم يشرع الرازي في الردّ على هذه الأدلة بالحجة الدامغة القوية وقد عاب عليه بعض المغاربة هذا السلوك بدعوى أنّ ردوده تأتي أحياناً أضعف من الشبه التي يوردها، فقالوا: إنه يورد الشبه نقداً ويحلّها نسيئة (8) .
ويظهر لكل عاقل منصف أثر الاعتماد على الحجة والبرهان في إحقاق الحقّ، فيتم إثراء العقل والقلب بتلك الحجج النيّرة، كما يتم إحياء روح البحث العلمي بالمدارسة والمذاكرة وتلاقح الأفكار والمفاهيم.
وبالتالي فإن هذه التّهم تصبّ أخيراً في مصلحة هذا المفسّر النحرير.
أولاً: حكم القتال في الحرم(7/491)
في قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ( [البقرة: 191] .
وقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا ( [آل عمران: 97] .
ذهب الحنفية إلى عدم جواز القتال في الحرم، وذهب جمهور العلماء إلى أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ( [التوبة:5] . وبقوله تعالى:) وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافّة ( [التوبة: 36] .
وذكر القاضي ابن العربي في تفسيره مناظرة في هذه المسألة فيما يلي نصّها، قال ابن العربي: وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفيّ (9) والقاضي الرّيحاني (10) يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلّم سلام العلماء، وتصدّر في صدر المجلس بمدارع (11) الرّعاء، فقال له الرّيحاني: من السيّد؟ فقال له: رجل سلبه الشطّار (12) أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدّس، وأنا رجل من أهل صاغان (13) من طلبة العلم، فقال القاضي مبادرا: سلوه، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم. ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم، هل يقتل فيه أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل، فقال:) ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ( [البقرة: 119] قرئ) ولا تقتلوهم ((14) ،) ولا تقاتلوهم (، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيّناً ظاهراً على النهي عن القتل.(7/492)
فاعترض عليه القاضي الرّيحاني منتصراً للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( [التوبة: 6] ، فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عليّ عامة في الأماكن، والآية التي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لأحد أن يقول إن العام ينسخ الخاص، فأبهت القاضي الريحاني، وهذا من بديع الكلام (15) .
ووجه الغرابة في هذه المناظرة أن الرجل ذهب إلى موافقة الحنفية في الحكم واستدل بنقيض دليلهم. فالحنفية يرون حرمة قتل الجاني إذا دخل الحرم، ولا يجيزون القتال في الحرم إلا إذا بدأ الكفار القتال فيه (16) ، ويستدلّون على ذلك بقوله تعالى:) ومن دخله كان آمنا ( [آل عمران: 97] ،وبقوله تعالى:) ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ( [البقرة: 191] .
والحنفية يخالفون الجمهور في فهمهم لتخصيص العام فإنهم يشترطون في الدليل ليكون مخصصاً للعام أن يكون مستقلاً عن جملة العام مقارناً له في الزمان، بأن يردا عن الشارع في وقت واحد (17) ، وذلك كقوله تعالى:) وأحلّ الله البيع وحرّم الربا ( [البقرة: 275] ، فإن دليل التخصيص في هذه الآية مستقل مقارن.
ولذلك فالحنفية يعرّفون التخصيص بقولهم: هو قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقترن (18) ، وإذا كان الدليل مستقلاً، ولكنه لم يكن مقارناً للعام، بل متراخياً عنه، فلا يسمى ذلك تخصيصاً، بل نسخاً أي رفعاً للحكم. فإذا تراخى دليل التخصيص فإنه يكون نسخاً لا تخصيصاً خلافاً لمذهب الجمهور في المسألة.
فهذا الرجل استدل برأي الجمهور في تخصيص العام (19) ووافق الحنفية في الحكم، فهو وإن وافق سائله في الحكم إلا أنه قلب عليه الاستدلال، وهذا ما دعى الإمام ابن العربي للقول: فأبهت القاضي الريحاني، لأن الريحاني كان حنفي المذهب الفقهي.(7/493)
وقد جاء ذكر هذه المناظرة في قانون التأويل (20) لابن العربي بشكل أتمّ، حيث قال: قال مجلّي (21) في أوّل مجلس: من قتل في الحرم، أو في الحل، فلجأ إلى الحرم قتل، لأن الحرم بقعة لو وقع القتل فيها لاستوفي القصاص بها، فكذلك إذا وقع القتل في غيرها، أصله الحلّ.
فقال له خصمه وهو حنفي المذهب لا يمتنع أن يقع القتل فيها ولا تعصمه، وإذا قتل في غيرها ولجأ إليها عصمته، كالصيد إذا لجأ إلى الحرم عصمه، ولو صال على أحد في الحرم لما عصمه، وذلك أن القاتل في غير الحرم إذا لجأ إليه فقد استعاذ بحرمته، وقد قال سبحانه وتعالى:} ومن دخله كان آمنا ( [آل عمران: 97] ، وإذا قتل فيه فقد هتك حرمته وضيّع أمنته، فكيف يعصمه؟ فقال له مجلّي: هذا الذي ذكرت لا يصح ولا يلزمني، لأن الحرم لم يحترم بحرمة القاتل، ولا باعتقاده واحترامه، وإنما احترم بحرمة الله I.
وأما قوله سبحانه وتعالى {ومن دخله كان آمنا (فإنما عني به ما كان عليه الحرم في الجاهلية من تعظيم الكفار له، وأمن اللائذ منهم به، ودار الكلام على هذا النحو، ثم دخل علينا بمدرسة أبي عقبة الحنفي ببيت المقدس رجل ثم ذكر المناظرة كما جاءت في تفسيره أحكام القرآن.
ثم علّق على هذه المناظرة بقوله: وأعجب لبعض المغاربة (22) ، ممن قرأ الأصول يحكي عن أبي حنيفة أن العام ينسخ الخاص (23) إذا كان متأخراً عنه، وهذا ما قال به قطّ ولولا أن أبا حنيفة ناقض (24) ، فقال: لا يبايع في الحرم ولا يكلّم ولا يجالس ولا يعان بمأكل ولا بمشرب ولا بملبس حتى يخرج منه، فتؤخذ العقوبة منه، ما قام له في هذه المسألة أحد.
ثانياً: حكم الوقوف والأحباس
في قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ( [المائدة: 103] .(7/494)
والبحيرة: هي الناقة يشقون أذنها لتكون معلومة للناس أنها على هذه الصفة، فكانت تخلّى دون راع فلا تطرد من مرعى ولا يركبها أحد ولا تذبح ولا تباع، وقيل: إن البحيرة هي ابنة السائبة، وقيل غير ذلك. أما السائبة فتطلق على البعير أو الناقة التي تسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله من مرض، أو بلّغه منزلاً في سفر فتصبح مخلاة لا قيد عليها ولها نفس أحكام البحيرة.
والوصيلة: كانت في الغنم إذا ولدت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولد منها بعد ذلك للذكور دون الإناث إلا إذا كان ميتة فهم فيه شركاء.
والحام: هو الفحل من الإبل إذا انقضى ضرابه، أو إذا ركب ولد ولده، وسمّي بهذا الاسم لأنه حمى ظهره من الركوب والذبح (هذه بعض الوجوه في تفسيرها، وهناك وجوه أخرى لم نر الإطالة بذكرها) (25) .
هذا وقد ذهب الحنفية استدلالاً بالآية إلى عدم جواز الوقف إلى غير جهة معينة تقوم عليه وترعاه.
فلو سيّب حيواناً أو عقاراً فجعله سبيلا، فإن هذا يدخل فيما عابه الله على العرب، فيما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تسييب البهائم وحبس البهائم والزروع، وذهب جمهور العلماء إلى جواز الأوقاف وقاسوا تسييب البهائم على عتق العبيد، ولكن الحنفية لم يسلّموا بهذا القياس، وقالوا لا معنى لأن يملك الحيوان الأعجم نفسه، لأن إهمالها يترتب عليه عدم جواز منفعتها، وهي لا تستطيع تدبير شؤون نفسها.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن وقف المنافع المترتبة على هذه الحيوانات قربة من القربات.
ومن صور السائبة إرسال الطيور ووضع البيض قرب طرقات المسافرين، وترك البساتين لينتفع بها الناس كافّة، ولكل من الفريقين أدلته في المسألة، وقد وقعت مناظرة بين الإمام مالك من جهة وبين القاضي أبي يوسف أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة بحضرة هارون الرشيد (26) .
ويقال إن القاضي أبا يوسف قد رجع عن موافقة صاحبه بعد وقوع هذه المناظرة.(7/495)
وخلاصة هذه المناظرة أنه اجتمع كل من الإمام مالك والقاضي أبي يوسف بحضرة هارون الرشيد. فتكلّموا في الوقوف (27) وما يحبسه الناس، فقال القاضي أبو يوسف: هذا باطل مستدلاً بقوله تعالى:) ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( [المائدة: 103] .
فقال مالك: إنما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة.
فأما الوقوف: فهذا وقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بها (28) .
وهذا وقف الزبير بن العوام - رضي الله عنه - حيث وقف داره بمكة ومصر وأمواله بالمدينة على أولاده (29) فأعجب الخليفة بذلك، ورجع القاضي أبو يوسف إلى رأي الجمهور.
وممّا يؤكد رأي جمهور العلماء ما جاء في بعض الروايات (30) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: (تصدّق بثمره وحبّس أصله) وفي رواية: (احبس أصلها وسبّل ثمرتها) .
ويعقّب ابن حجر على هذه الروايات فيقول: " وأصرح من ذلك ما جاء في صحيح البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: تصدّق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره) (31) .
وقال الترمذي: (لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شريح أنّه أنكر الحبس، وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه في ذلك جميع أصحابه إلاّ زفر.
وممّا روي عن أبي يوسف قوله: لو بلغ الحديث أبا حنيفة لرجع عن قوله في الوقف) (32) .
وذكر القرطبي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جواز الوقف، وقال:
(لا حجّة في قول شريح، ولا في قول أحد يخالف السنّة، وما رواه ابن لهيعة عن ابن عباس رضي الله عنهما في عدم جواز ذلك فهو ضعيف لا تقوم به حجة) (33) .
ثالثاً: إثبات القدر(7/496)
لقد ضلت بعض الفرق الإسلامية في القدر (34) فذهبوا إلى أنه لا قدر (35) وأن الإنسان يخلق فعله وفي مقدمة هؤلاء المعتزلة والرافضة، وقد أنكر عليهم بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أدركوا هذه الفتنة وقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: القدرية مجوس هذه الأمة (36) . والذي عليه جمهور المسلمين إثبات القدر وأن الإيمان بالقدر خيره وشرّه من أركان الإيمان.
وسبب هذا الضلال هو سوء فهم بعض الآيات القرآنية الواردة في القدر ومن ذلك قوله تعالى:) إنّا كل شئ خلقناه بقدر ( [القمر: 49] (37) .
وقد وردت عدة آثار في ذم القائلين بالقدر منها ما أخرجه ابن ماجه في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم) (38) .
وأخرج أبو داود عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر. من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، هم شيعة الدجال، وحقّ على الله أن يلحقهم بالدجال) (39) .
وهناك عدّة مناظرات في القدر، نذكر منها هذه المناظرة التي ذكرها القرطبي في تفسيره حيث قال: أحضر عمر بن عبد العزيز غيلان القدريّ (40) فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون عليّ يا أمير المؤمنين، ثم قال: يا أمير المؤمنين: أرأيت قول الله تعالى:) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ( [الإنسان: 2،3] . فقال عمر بن عبد العزيز: اقرأ يا غيلان، فقرأ حتى انتهى إلى قوله:) فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ( [الإنسان: 29] .
فقال عمر: اقرأ فقال:) وما تشاءون إلا أن يشاء الله ( [الإنسان: 30] فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت – أي ما شعرت - أنّ هذا في كتاب الله قطّ.(7/497)
فقال له عمر: يا غيلان اقرأ أول سورة (يس) فقرأ حتى بلغ {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( [يس: 10] ، فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قطّ قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب.
فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبّته، وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام بن عبد الملك بعدما تولّى الحكم، فقطع يديه ورجليه وصلبه.
وكان مصلوباً على باب دمشق وإذا سئل ما شأنك؟ قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز (41) .
واختلف العلماء في سبب قتل هشام بن عبد الملك لغيلان، فيرى (ابن المرتضى الرافضي) أن هشاماً قتله، لأنه قد رآه ينادي على بيع ما في خزائنهم أيام ولاّه عليها عمر بن عبد العزيز وأنه يسبّ بني أمية، فأقسم ليقتلنّه إذا ولي هذا الأمر، فلما وليه نفّذ ما أقسم عليه وقتله، فيكون قتل هشام لغيلان سياسيّاً لا دينياً (42) . وأما بقية المؤرخين فيرون أن هشاماً قتله لقوله بالقدر. وأنه أحضر له الأوزاعي فسأله في ثلاث مسائل لم يجب غيلان على واحدة منها، فأخذه هشام وأمر به فقطعت يداه ورجلاه فمات، وقيل صُلب حيّا على باب (كيسان) بدمشق.
ويذكر ابن نباته هذه المناظرة فيقول (43) : لمّا بلغ هشام بن عبد الملك مقالة غيلان في القدر (44) أرسل إليه وسأله: يا غيلان ما هذه المقالة التي بلغتني عنك في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين هو ما بلغك، فأحضر من أحببت يحاجّني، فإن غلبني ضربت رقبتي.
فأحضر الأوزاعي، فقال له الأوزاعي: يا غيلان، إن شئت ألقيت سبعاً، وإن شئت خمساً، وإن شئت ثلاثاً. فقال غيلان: ألق ثلاثاً، - أي ثلاثة أسئلة- فقال له الأوزاعي: أقضى الله على عبد ما نهى عنه؟.
قال غيلان: ما أدري ما تقول. فقال الأوزاعي: (فأمَر الله بأمر حال دونه؟) . قال غيلان: هذه أشدّ من الأولى. فقال الأوزاعي: (فحرّم الله حراماً ثم أحلّه؟) . قال غيلان: ما أدري ما تقول؟(7/498)
فأمر به هشام فقطعت يداه ورجلاه فمات.
وهناك مناظرتان جاء ذكرهما في شرح العقيدة الطحاوية (45) . جاء في الأولى عن عمر بن الهيثم (46) . قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدريّ ومجوسيّ، فقال القدريّ للمجوسيّ: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله. فقال القدريّ: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قويّ، وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما.
أما الثانية فجاء فيها: أن أعرابياً وقف على حلقة فيها عمرو بن عبيد (47) من شيوخ المعتزلة فقال: يا هؤلاء إن ناقتي قد سرقت، فادعوا الله أن يردّها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولمَ؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت أن يريد ردّها فلا تردّ.
ويروى في هذا المقام أن علياً - رضي الله عنه - مرّ بقدريّ، وهو يتكلم في القدر، فقال له: (أبا الله تقدر، أم مع الله أم دون الله؟) . فسكت الرجل ولم يعلم بماذا يجيب. فقال له t: (إن قلت دون الله كفرت، وإن قلت مع الله أشركت، وإن قلت بالله أصبت فقال الرجل: بالله أقدر، فقال له: لو قلت غيرها ضربت عنقك (48) .
فبهذا القول تتم البراءة من القدرية والجبرية كذلك، لأن الجبري لا يقول أقدر بالله ولا بغيره فيؤديه مذهبه إلى تعطيل الاكتساب والعبادات، ومذهب أهل الحق التوسط، يشتمل على التوحيد في الأفعال والأدب مع الفعّال (49) .
ويروى كذلك في هذا الشأن عن عليّ - رضي الله عنه - أن قائلاً قال له عند انصرافه من صفين: أرأيت مسيرنا إلى صفين أبقضاء وقدر؟
فقال علي - رضي الله عنه -: والله ما علونا جبلا ولا هبطنا واديا ولا خطونا خطوة إلا بقضاء وقدر.
فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي إذن مالي أجر.(7/499)
فقال له علي: يا شيخ فإن هذا قول أولياء الشيطان وخصماء الرحمن قدرية هذه الأمة ومجوسها. فإن الله أمر تخييراً ونهى تحذيراً لم يُعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً.
فضحك الشيخ ونهض مسرورا ثم قال (50) :
يوم القيامة من ذي العرش رضوانا
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
جزاك ربك عنّا فيه إحسانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا
ومن المناظرات في القدر ما يروى أن غيلان القدري دخل مجلساً فقال على وجه التحرش للمناظرة: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فأجابه ربيعة بن أبي عبد الرحمن (51) وقد فهم قصده: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال غيلان القدري: أيحب ربنا أن يعصى؟
فأجابه ربيعة: أيعصى ربنا كرها (52) ؟
وتروى هذه المناظرة كذلك على أنها وقعت بين أبي اسحق الإسفراييني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكان رئيس المعتزلة في وقته حيث دخل مجلساً رأى فيه الإسفراييني فقال متحرشاً للمناظرة: سبحان من تنزه عن الفحشاء.
فقال الإسفراييني: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
فقال القاضي عبد الجبار: أيريد ربنا أن يعصى؟!
فقال الإسفراييني: أيعصى ربنا كرها؟!
فقال القاضي عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟
فأجابه الإسفراييني: إن كان قد منعك ما هو لك فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء. فقطعه بذلك (53) .
رابعاً: معجزة انشقاق القمر
في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( [القمر: 1-2] .(7/500)
ذهب جمهور أهل السنة أن القمر قد انشق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله، معجزة له دالة على صدقه. وقال الحافظ ابن كثير: (لقد أجمع المسلمون على وقوع انشقاق القمر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها، وقد رويت الأحاديث الصحيحة في ذلك عن جمع من الصحابة هم أنس بن مالك وجبير بن مطعم وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين (54) .
وذكر الألوسي الاختلاف في تواتر الأحاديث الواردة في انشقاق القمر، ونقل عن ابن السبكي قوله في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أنّ انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن، مرويّ في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره) (55) .
وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني الإجماع على انشقاق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله، معجزة من الله تعالى، وتصديقا لرسوله (56) .
وحتى لو شكّك بعض المعاصرين في وقوع هذه المعجزة وفسّر الآية على أنّ انشقاق القمر إنما يكون علامة على اقتراب الساعة قبل يوم القيامة (57) فإن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم عديدة، وفي مقدمتها القرآن الكريم المعجزة الخالدة الباقية، ونقرر هنا إيماننا بمعجزة انشقاق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع على ذلك علماء الإسلام ولم تظهر مثل تلك التأويلات المحدثة إلاّ عند نفر من بعض المعاصرين الذين تأثروا بالأفكار الوافدة، وكأنّ من روى هذه الروايات عندهؤلاء لا يستطيع التفريق بين خسوف القمر المعتاد، ومعجزة انشقاقه.
ومع ذلك فتذكر لنا الكتب الشرعية تلك المناظرة الجميلة في إثبات هذه المعجزة الإلهية، والتي وقعت بين الإمام الباقلاني (58) وبين إمبراطور الروم في ذلك العهد.(8/1)
قال الإمبراطور: هذا الذي تدّعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟
أجاب الباقلاني: هو صحيح عندنا، انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال.
فقال الإمبراطور: وكيف لم يره جميع الناس؟
قال الباقلاني: لأن الناس لم يكونوا على أهبة وموعد لانشقاقه تلك الساعة.
فقال الإمبراطور: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟! لأيّ شئ لم تعرفه الروم وسائر الناس، ورأيتموه أنتم خاصّة؟!
قال الباقلاني: وهذه المائدة (59) بينكم وبينها نسبة، وأنتم رأيتموها دون اليهود والمجوس وأهل الإلحاد، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم؟!
ثم قال له: أتقول إن الخسوف إذن كان يراه جميع أهل الأرض، أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟
قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته.
ثم قال له: ولكن مثل هذا الخبر يلزم أن ينقله الجمّ الغفير!
فأجاب: يلزمكم في نزول المائدة ما يلزمني في انشقاق القمر.
فبهت الملك ومن كان معه من النصارى في ذلك المجلس (60) .
ومما يروى في المناظرات مع النصارى كذلك ما ورد عن حاطب ابن أبي بلتعة (61) t أنه لما دخل على المقوقس النصراني ملك الإسكندرية رسولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله المقوقس عن الحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومه، فأخبره أنها بينهم سجال، فقال المقوقس يخاطب ابن أبي بلتعة:" أنبيّ الله يُغلب "؟! فقال حاطب:" أنبيّ الله يُصلب"؟! فكان هذا الجواب قطعاً للنصراني بما يعتقده في حق عيسى عليه السلام (62) .
خامساً: قتل المسلم بالكافر
في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ( [البقرة: 178] .(8/2)
اختلف العلماء في قتل الحر بالعبد وقتل المسلم بالذميّ، فذهب جمهور العلماء إلى عدم قتل الحر بالعبد وعدم قتل المسلم بالذميّ، وذهب أبو حنيفة إلى أن المسلم يقتل بالذميّ أو المعاهد ولكل أدلته من الكتاب والسنة والقياس (63) .
وقد وقعت مناظرة بين أحد أتباع أبي حنيفة وآخر من فقهاء الشافعية في هذه المسألة ذكرها الإمام ابن العربي. ونوردها فيما يلي:
قال الإمام ابن العربي: ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة 487هـ فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني (64) زائراً للخليل صلوات الله عليه، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه (65) .
وشهد علماء البلد، فسئل على العادة - في إكرام العلماء بالسؤال - عن قتل المسلم بالكافر (66) . فقال: يقتل به قصاصاً، فطولب بالدليل، فقال: الدليل عليه قوله تعالى:) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ( [البقرة: 178] وهذا عام في كل قتيل.
فانتدب معه للكلام فقيه الشافعية عطاء المقدسي (67) ، وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه:
(1) إن الله سبحانه قال: كتب عليكم القصاص، فشرط المساواة في المجازاة، ولا مساواة بين المسلم والكافر، فإن الكفر حطّ منزلته، ووضع مرتبته.
(2) إن الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها وجعل بيانها عند تمامها فقال:
} كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى {، فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر، فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر.
(3) إن الله سبحانه وتعالى قال: {فمن عفي له من أخيه شئ فاتّباع بالمعروف ( [البقرة: 178] ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدل على عدم دخوله في هذا القول.(8/3)
فقال الزوزني: بل ذلك دليل صحيح، وما اعترضت به لا يلزمني منه شئ، أما قولك: إنّ الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول. وأما دعواك أن المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص غير معروفة فغير صحيح، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذميّ محقون الدم على التأبيد، والمسلم محقون الدم على التأبيد، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذميّ، وهذا يدل على أن مال الذميّ قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه.
وأما قولك إن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم، فإن أول الآية عام وآخرها خاص، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها، بل يجري كل على حكمه من عموم أو خصوص (68) .
وأما قولك إن الحر لا يقتل بالعبد، فلا أسلم به، بل يقتل به عندي قصاصا، فتعلقت بدعوى لا تصح لك. وأما قولك:} فمن عفي له من أخيه شيء {، يعني المسلم، فكذلك أقول، ولكن هذا خصوص في العفو، فلا يمنع من عموم ورود القصاص، فإنهما قضيّتان متباينتان، فعموم إحداهما لا يمنع من خصوص الأخرى، ولا خصوص هذه يناقض عموم تلك، وقال ابن العربي: وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصّلنا منها فوائد جمّة أثبتناها في نزهة الناظر، وهذا المقدار يكفي هنا منها) (69) .
ويجيب الشافعية على اعتراضات الحنفية هذه بأن نقص العبد عن الحر في القصاص مسلّم به عند الحنفية في الأعضاء، فلا يقطعون الحر بالعبد، وأما قطع يد المسلم بسرقة مال الذميّ فهذا القطع إنما هو بسبب الخيانة، ويذكرون في هذا المقام بيت الشعر الذي قاله أبو العلاء المعري (70) :
ما بالها قطعت في ربع دينار
يدٌ بخمسمئين عسجد وديت
فيجيبه القاضي عبد الوهاب المالكي (71) :
ذلّ الخيانة فافهم حكمه الباري
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها(8/4)
كما يستدل كل فريق بأدلة من السنة، ويشهد للجمهور قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) (72)
ولكن الحنفية يؤولون معنى كلمة الكافر هنا بأنه الكافر الحربي وليس الذميّ، وهو مستبعد، لأنّه لا يتصوّر عاقل وجود القصاص بين المسلم والكافر الحربي.
ولا يعني عدم القتل عند الجمهور عدم المساءلة، بل يعاقب بما دون القتل وتلزمه الديّة.
وممّا يؤكّد صحة ما ذهب إليه الجمهور المناسبة (73) التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام خطب المسلمين يوم الفتح، بسبب القتيل الذي قتلته خزاعة، وكان له عهد، فخطب عليه الصلاة والسلام الناس وقال: لو قتلت مؤمنا بكافر لقتلته به، وقال: (لايقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده) ، وقال عليه الصلاة والسلام:
(لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت حراشا بالهذلي) (74) .
سادساً: تكفير مرتكب الكبيرة
نزلت بعض الآيات القرآنية تذكر عقوبة بعض أصحاب الكبائر، وتتوعدهم بعذاب جهنم خالدين فيها. فقد قال الله تعالى في عقوبة قتل النفس المؤمنة: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما ( [النساء: 93] .
وقال - سبحانه وتعالى - في عقوبة من يولّ الكفار دبره يوم الزحف: {ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( [الأنفال: 16] .
وقد فهم بعض أصحاب الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة أن هذا الوعد حتم لازم لا بدّ من تحققه، فحكم الخوارج بكفر مرتكب الكبيرة، وذهب المعتزلة إلى جعله في منزلة بين الكفر والإيمان (75) .
أما أهل السنة فمذهبهم أنهم لا يكفّرون أحدا من أهل الملة بذنب ما لم يستحلّه (76) .
وقد وقعت مناظرة في هذه المسألة بين الإمام أبي حنيفة وبعض الخوارج نوردها فيما يلي:(8/5)
لما بلغ الخوارج أن أبا حنيفة لا يكفّر أحدا بذنب ما لم يستحله، اجتمع إليه سبعون منهم، فدخلوا عليه وسلّوا سيوفهم وأرادوا قتله. فقال لهم أبو حنيفة: اغمدوا سيوفكم واسمعوا لي وناظروني.
فقالوا: معنا جنازتان إحداهما جنازة رجل شرب الخمر حتى مات منه، والأخرى جنازة امرأة زنت فحبلت ثم قتلت نفسها، ما تقول فيهما؟
فقال أبو حنيفة: من أيّ الملل كانا؟ من اليهود أو النصارى أو المجوس؟
قالوا: لا.
قال: من أيّ الملل؟
قالوا: من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
قال: فأخبروني عن هذه الشهادة، كم هي من الإيمان؟ أثلث أم ربع (77) .
قالوا: لا، فإن الإيمان لا يكون له ثلث وربع.
قال: فكم هي من الإيمان؟
قالوا: كلّه، ثم قالوا: دعنا من هذا فما تقول فيهما، هل هما من أهل الجنة أو من أهل النار؟
فقال: إني أقول فيهما كما قال نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيمن كان أعظم جرما منهما: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( [إبراهيم: 36] ، وأقول فيهما ما قال عيسى عليه الصلاة والسلام:) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( [المائدة: 118] .
وقد كانوا أعظم جرما منهما، وأقول ما قال نوح عليه الصلاة والسلام: {قال: وما علمي بما كانوا يعملون. إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين ( [الشعراء: 112، 114] .
وأقول فيهما ما قال نوح عليه السلام: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين ( [هود: 31] .
فألقى الخوارج سلاحهم، وتركوا عقيدة الخوارج، وتبعوا عقيدة جماعة المسلمين (78) .
سابعاً: القراءة خلف الإمام
في قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( [الأعراف: 204] .(8/6)
روي عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن شهاب الزهري وغيرهم أن الآية نزلت في الصلاة، والمراد بذلك قراءة المأموم خلف الإمام في الصلاة (79) .
فقد روي عن أبي هريرة أن المسلمين كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الآية {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا (والآية الأخرى) وقوموا لله قانتين ( [البقرة: 238] . أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (80) .
وروى ابن شهاب الزهري أن هذه الآية نزلت في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه فنزلت:) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( [الأعراف: 204] .
وقد اختلف العلماء في حكم القراءة خلف الإمام ولكل أدلته (81) .
فقد ذهب الشافعية إلى وجوب قراءة الفاتحة من المأموم في كل صلاة سرّية أو جهرية. وذهب الحنفية إلى عدم وجوب القراءة من المأموم مطلقا في كل صلاة سرّية أو جهرية. وقال المالكية والحنابلة يقرأ في السرية ولا يقرأ في الجهرية.
وقد وقعت مناظرة بين أبي حنيفة وبين جمع من القائلين بوجوب القراءة من المأموم على كل حال، ونوجز هذه المناظرة كما يلي:
جاء جماعة إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع، فاختاروا أعلمكم لأناظره، فاختاروا واحدا منهم، فقال أبو حنيفة: هذا أعلمكم، فقالوا: نعم، قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم، قال: والحجة عليه كالحجة عليكم؟ قالوا: نعم، فقال: إن ناظرته لزمتكم الحجة في المسألة. قالوا: كيف؟ قال: لأنكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم، وكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا، وهو ينوب عنّا في ذلك كله، فأقرّوا بذلك (82) .
ومن أدلة الجمهور القوية في عدم وجوب القراءة من المأموم خلف الإمام ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبّر فكبّروا وإذا قرأ فأنصتوا (83) .(8/7)
وكذلك فإن العلماء قد اتفقوا على أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة. فنقول: هب أن هذا المأموم كان يلعب الكرة في الشارع وجاء إلى الإمام في ركوعه، فكيف تقولون بصحة صلاته، أما المأموم الذي أنصت لقراءة الإمام وهو في الصلاة فصلاته باطلة لأنه لم يقرأ الفاتحة؟!
وقد أجاب الشافعية بأن المأموم كان متمكنا من القراءة أما المسبوق فلم يتمكن (84) ، ونقول: متى كان الفعل صحيحا إذا لم نتمكن من فعله؟
ويتبع هذه المسألة مناظرة أخرى فيمن تكلّم وهو في الصلاة بكلام من خارج أعمال الصلاة أو قهقه في الصلاة. فعند عامّة أهل العلم أن من فعل ذلك فقد بطلت صلاته وبقي وضوؤه صحيحا.
وذهب أبو حنيفة إلى أن القهقهة في الصلاة تبطل الصلاة والوضوء جميعا (85) .
وقد وقعت مناظرة بين الحسن بن زياد اللؤلؤي (86) من الحنفية وأحد أصحاب الشافعي في هذه المسألة. وموجز هذه المناظرة كما يلي:
قال الشافعي: قال لي الفضل بن الربيع (87) . أحبّ أن أسمع مناظرتك للحسن بن زياد اللؤلؤي، فقال الشافعي: ليس اللؤلؤي في هذا الحدّ، ولكن أٌحضرُ بعض أصحابي حتى يكلمه بحضرتك، فقال: ولك ذلك.
فحضر الشافعي، وأحضر معه رجلا من أصحابه، من أهل الكوفة، كان على مذهب أبي حنيفة وصار من الشافعية. فلما دخل اللؤلؤي أقبل الكوفي عليه والشافعي حاضر بحضرة الفضل بن الربيع فقال له: إن أهل المدينة ينكرون على أصحابنا بعض قولهم، وأريد أن أسأل عن مسألة من ذلك. فقال اللؤلؤي: سلْ. فقال له: ما تقول في رجل قذف محصنة وهو في الصلاة؟ فقال: صلاته فاسدة. فقال: فما حال طهارته؟ قال: طهارته بحالها، ولا ينقض قذفه طهارته.
فقال له: فما تقول إن ضحك في صلاته؟ قال: يعيد الطهارة والصلاة. فقال له: فقذف المحصنة في الصلاة أيسر من الضحك فيها؟! فقال له: وقفنا في هذا، ثم مضى.
فاستضحك الفضل بن الربيع، فقال له الشافعي: ألم أقل لك إنه ليس في هذا الحدّ؟! (88) .(8/8)
ونلاحظ في هذه المناظرة الاعتماد على القياس، ولكنّ حجّة الحنفية ورود النص في إعادة الوضوء لمن قهقه في صلاته، ولا قياس مع النص.
فقد وردت عدّة نصوص من السنة عند الحنفية بعضها مسند وبعضها مرسل فاحتجّوا بهذه الروايات على ما ذهبوا إليه (89) .
ولكنّ الشافعية ضعّفوا هذه الروايات، فلم يأخذوا بها، وقدّموا عليها القياس كما جاء في المناظرة، إضافة إلى أنهم استدلوا برواية أخرجها الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء) (90) .
الخاتمة والنتائج:
من خلال الاطلاع على هذا البحث يمكن القول إنّ اعتماد الحجة والدليل هو منهج علماء هذه الأمة في الوصول إلى الحق، فعندما يرى العالم المخلص أن الدليل مع غيره فإنه يسلّم به ويأخذ به وإن كان مخالفاً لما كان يذهب إليه من قبل.
كما يتضح لدينا سعة صدور العلماء، وفسحهم المجال لمن يخالفونهم الرأي في عرض آرائهم وتوضيحها. وقد رأينا رجوع القاضي أبي يوسف إلى مذهب الجمهور في مسألة الوقوف والأحباس بعد مناظرته مع الإمام مالك، ورجوع (زفر) في مسألة قتل المسلم بالذمّي إلى رأي الجمهور.
ويظهر لدينا كذلك إلزام الخصم بالدليل العقلي حال عدم اعترافه بالدليل الشرعي كما في معجزة انشقاق القمر.
ونلاحظ استعمال القياس، وسرد الاحتمالات وتفنيد الباطل منها، في مسألة القدر وحكم القراءة خلف الإمام.
ومن ذلك كلّه نستطيع القول إنّ علماء الإسلام ضربوا أروع الأمثلة في الاستدلال على مذهبهم من النقل والعقل والقياس.
الهوامش والتعليقات
(1) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد، ت370هـ، تهذيب اللغة، تحقيق: د. عبد الحليم النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، (مادة حجج) ، (3/387- 390) سنة 1384هـ، 1964م.(8/9)
الزبيدي، محبّ الدين أبو الفيض السيّد محمد مرتضى، ت1205هـ، تاج العروس من جواهر القاموس، 20ج، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، (مادة حجج) ، (3/315) سنة 1414هـ، 1994م.
(2) الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، ت502هـ، المفردات، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (ص107) .
(3) أخرجه البخاري، محمد بن إسماعيل، ت256هـ، صحيح البخاري، بيت الأفكار الدولية، الرياض، (كتاب القدر، باب تحاجّ آدم وموسى عند الله، ص1264) ، وأخرجه في الأنبياء باب وفاة موسى، وفي تفسير سورة طه، باب قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) .
وأخرجه مسلم بن الحجاج النيسابوري، ت261هـ، صحيح مسلم، 5ج، - حرف ج يعني مجلّد- دار ابن حزم، بيروت (كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام، رقم 2652) .
(4) (المزني: هو إسماعيل بن يحيى المزني، صاحب الإمام الشافعي، من أهل مصر، من كتبه (الجامع الكبير، الجامع الصغير) ، وقال فيه الشافعي ناصر مذهبي، وقال في قوة حجته (لو ناظر الشيطان لغلبه) . الزركلي، خير الدين: الأعلام، 8ج، دار العلم للملايين-بيروت، ط5 سنة 1980م، (1/329) ، ابن خلّكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 7ج، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة-بيروت، (1/71) .
(5) القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، ت671هـ، الجامع لأحكام القرآن، 10ج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (3/286)
(6) الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ت478هـ، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، (ص108) ، سنة 1369هـ، 1950م.
(7) الذهبي، محمد حسين، ت1976م، التفسير والمفسّرون، 3ج، (1/295) .
(8) العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، ت852هـ، لسان الميزان، 8ج، دار الفكر، بيروت، (4/724) ، سنة 1408هـ، 1988م.(8/10)
(9) ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: فانون التأويل، دراسة وتحقيق محمد السليماني، دار القبلة للثقافة الإسلامية-جدة، ط1، 1406هـ – 1986م، ص441 ورد عنده في الكتاب بدل أبي عتبة (أبو عقبة الحنفيّ) .
(10) ذكره ابن العربي في قانون التأويل ص439، وجاء في نسختي أ، م من مخطوطة الكتاب (القاضي الزنجاني) كما ذكر ذلك محقق الكتاب، د. السليماني.
(11) مدارع: جمع مدرعة وهي ثوب من صوف، أو جُبّة مشقوقة المقدّم. (إبراهيم، مصطفى، ومن معه، المعجم الوسيط، ط2 مجمع اللغة العربية-القاهرة (مادة درع) .
(12) الشطّار جمع شاطر وهو الخبيث الفاجر، وعند الصوفية: السابق المسرع إلى الله (مصطفى، إبراهيم، ورفاقه) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية-القاهرة ط2، مادة شطر ص482.
وفي الفيروز أبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط5، 1416هـ - 1996م. الشاطر: من أعيا أهله خبثا، وشطر عنهم: نزح عنهم مراغما (مادة شطر، ص533) .
(13) صاغان: قرية بمرو، وقد تسمّى جاغان، والصغانيان بلاد بما وراء النهر متّصلة الأعمال بترمذ، وهي شديدة العمارة كثيرة الخيرات، والنّاحية مثل فلسطين.
الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله، ت 626هـ، 1228م، معجم البلدان، 5ج، دار إحياء التراث العربي-بيروت، 1399هـ – 1979م، (3/389، 408) .
(14) هي قراءة حمزة والكسائي وخلف.
ابن الجزري، الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي، ت833هـ، النشر في القراءات العشر، 2ج، دار الكتب العلمية-بيروت، (2/227) .
(15) ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله، ت543هـ، أحكام القرآن، 4ج، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، (1/107) ، القرطبي، (2/231) .
(16) الجصاص، أبوبكر أحمد بن علي الرازي، ت370هـ، أحكام القرآن، 5ج، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (1/323) ، سنة 1405هـ، 1985م.(8/11)
(17) البخاري، عبد العزيز، كشف الأسرار على أصول البزدوي، 4ج، جامعة استانبول، شركة الصحافة العثمانية، (1/306) ، سنة 1308هـ.
(18) الخضري، محمد، أصول الفقه، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ص208 وما بعدها.
الصالح، محمد أديب، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، 2ج، المكتب الإسلامي، بيروت، (2/99) .
(19) الخنّ، مصطفى سعيد، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، (ص198وما بعدها) ، سنة 1402هـ، 1983م.
(20) ابن العربي، قانون التأويل، (ص440) .
(21) هو: مجلّي بن جميع القرشي المخزومي أبو المعالي، صاحب كتاب ((الذخائر في فروع الشافعية)) إليه كانت ترجع الفتوى بمصر.
ابن السبكي، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي: طبقات الشافعية، 10ج، تحقيق عبد الفتاح الحلو، محمد الطناحي، عيسى البابي الحلبي-القاهرة، 1383هـ.
ابن العماد الحنبلي، أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، ت1089هـ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8ج، دار الفكر-بيروت، (4/157) .
(22) يشير إلى ابن حزم، وانظر: ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد: المحلى، 11ج، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث-القاهرة (7/262) ، حيث وافق الحنفية في المسألة.
(23) روي عن أبي حنيفة قوله: إنّ الخاص لا يقضي على العام، بل يجوز أن يُنسخ الخاص بالعام، مثل حديث العرنيين في بول ما يؤكل لحمه، نُسخ وهو خاص، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((استنزهوا من البول)) . الصالح، محمد أديب (2/109) .
ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد، ت620هـ، روضة الناظر وجنّة المناظر في أصول الفقه، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة (2/159) .
وحديث العرنيين في الصحيحين، انظر: العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 13ج، إدارات البحوث العلمية والإفتاء-الرياض، رقم 4610.
والنووي، محي الدين يحيى بن شرف: شرح صحيح مسلم، دار الفكر-بيروت (11/153) في القسامة.(8/12)
وحديث ((استنزهوا من البول)) أخرجه الدارقطني، علي بن عمر: سنن الدارقطني، تصحيح عبد الله المدني، دار المحاسن للطباعة-القاهرة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه، والحكم في بول ما يؤكل لحمه (1/127) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2ج، المكتب الإسلامي-بيروت، ط2، 1399هـ، رقم 3002.
(24) أي لم يسر على مقتضى قوله.
(25) ابن كثير، الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم،4ج، دار المعرفة-بيروت،1403هـ - 1983م، (2/106) .
أبو حيّان الأندلسي، محمد بن يوسف: البحر المحيط، 8ج، دار الفكر-بيروت، ط2، 1403هـ - 1983م، (4/231) ، القرطبي (6/336) .
(26) يشكك بعض العلماء في اجتماع مالك وأبي يوسف بحضرة الرشيد، لأن الإمام مالك لم يذهب إلى بغداد في عهد الرشيد، ولكن من الممكن أن هذا الاجتماع وقع في موسم الحج، وخاصّة أن راوي الحادثة هو المحدّث ابن أبي حاتم الرازي.
(27) يقال وقف الشئ وحبسه وأحبسه، وسبّله بمعنى واحد، وهو ما اختص به المسلمون، ومن القرب المندوب إليها. وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، ويصح الوقوف بالقول والفعل الدال عليه، كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه، أو جعل أرضه مقبرة وأذن للناس في الدفن فيها.
العاصمي النجدي، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم: حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، 7ج، المطابع الأهلية-الرياض، ط1، 1397هـ، كتاب الوقف، (1/207) .
أبو زهرة، محمد: محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي-القاهرة، ط2، 1971م.
(28) متفق على صحته، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب الوقف كيف يكتب، ص535، ومسلم في صحيحه كتاب الوصية، باب الوقف، (3/1016) ، رقم 1632.
وذكر الألباني طرقه ومن أخرجه من أصحاب السنن، انظر: الألباني، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، 9ج، المكتب الإسلامي، بيروت، (6/30) .(8/13)
(29) ابن أبي حاتم الرازي، أبو محمد عبد الرحمن، ت327هـ، آداب الشافعي ومناقبه، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص198) .
(30) العسقلاني، فتح الباري، (5/401) .
(31) البخاري، رقم2746، كتاب الوصايا، باب ما للوصيّ أن يعمل في مال اليتيم.
(32) العسقلاني، فتح الباري، (5/402) .
(33) القرطبي، (6/339) .
(34) انظر: كتاب القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثامن ضمن مجموع الفتاوى، وقال الخطّابي: قد يحسب بعض الناس أن معنى القدر من الله والقضاء: معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، وليس كذلك، وإنما معناه: الإخبار عن تقدّم علم الله بما يكون من أفعال العباد، وصدورها من تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرّها. ابن الأثير الجزري: جامع الأصول (10/104) .
(35) والقدرية هم الذين كانوا يخوضون في القدر، ويذهبون إلى إنكاره، وأوّل القدرية على الراجح معبد الجهني المقتول سنة 80هـ، النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، ت676هـ، شرح صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، (1/150) ، وجاء في شرح العقيدة الطحاوية (1/79) سمّوا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبريّة، ولكنّ هذه التسمية على الطائفة الأولى أغلب. انظر: المحمود، عبد الرحمن بن صالح، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة، دار الوطن، الرياض، ط2، (ص162) ،سنة 1418هـ،1997م.
(36) رواه الطبراني وأبو داود عن ابن عمر مرفوعا، أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ت275هـ، مراجعة وضبط محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، (4/222، كتاب السنة، باب في القدر رقم 4691) .
العجلوني، إسماعيل بن محمد، ت1162هـ، كشف الخفاء ومزيل الإلباس، 2ج، تحقيق أحمد القلاّش، مؤسسة الرسالة، بيروت، (2/119، رقم 1861) ، سنة 1403هـ، 1983م.(8/14)
ابن الأثير الجزري، أبو السعادات المبارك بن محمد، ت660هـ، جامع الأصول من أحاديث الرسول، 11ج، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، دمشق، (10/128) ، وممّا جاء فيه: إنّ القدرية لمّا اضافوا الخير إلى الله، والشر إلى العبيد أثبتوا قادرين خالقين للأفعال، كما اثبت المجوس إله النور وإله الظلمة.
(37) روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن هذه الآية نزلت في وفد نجران عندما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت الآيات إلى قوله تعالى {إنا كل شئ خلقناه بقدر (فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: أنتم خصماء الله يوم القيامة. (الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد، ت468هـ، أسباب النزول، تحقيق كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت (ص420) ، رقم 777، وسنده ضعيف، القرطبي (17/148) .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله في القدر، فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر. إنا كل شئ خلقناه بقدر ( [القمر: 48، 49] .
المنذري، زكي الدين عبد العظيم، ت656هـ، مختصر صحيح مسلم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي-بيروت، ط6، كتاب القدر ص486 رقم 1838، سنة 1407هـ، 1987م.
(38) ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، ت273هـ، سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، (1/35، رقم92 في المقدمة، وله شاهد عند أبي داود من رواية ابن عمر – أبو داود، سنن أبي داود، رقم 4691) . وقال السهار نفوري في بذل المجهود (18/213) : هذا أحد أحاديث انتقدها سراج الدين القزويني وزعم أنّه موضوع، وقال الحافظ بن حجر فيما تعقّبه عليه: هذا حسّنه الترمذي، وصحّحه الحاكم، ورجاله رجال الصحيح، ثم ذكر له علّتين وأجاب عنهما، وقرّر أنّه لا يجوز الحكم عليه بالوضع.(8/15)
وانظر: البنّا الساعاتي، أحمد عبد الرحمن، ت1952م، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، 14ج، دار الشهاب القاهرة، حيث قال: حقّق الحافظ ابن حجر أنّ رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكلّ أمّة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) ، أنّ هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، وذكر الترمذي حديثاً آخر يقوّي هذه الروايات من رواية ابن عمر رضي الله عنهما وقال: حسن صحيح غريب، وقد جاء في المسند عدّة أحاديث في هذا الموضوع، الساعاتي (1/140) الأحاديث 38، 39، 40.
(39) أخرجه أبو داود السجستاني، كتاب السنّة، باب في القدر، رقم 4629، أحمد في المسند، طبعة صادر (2/86) ، ابن الأثير الجزري في جامع الأصول10/129.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية (2/358) : الصحيح أنّ غالب ما ورد في ذمّ القدرية إنما هو موقوف على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه البدعة إنما ظهرت في زمنهم.
(40) هو: غيلان بن مسلم الدمشقي، تنسب إليه فرقة الغيلانية من القدرية، وهو ثاني من تكلّم في القدر ودعا إليه، لم يسبقه سوى معبد الجهني، وكان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد، طلبه هشام بن عبد الملك، وأحضر الأوزاعي لمناظرته، فأفتى الأوزاعي بقتله، وصلب على باب كيسان بدمشق سنة 105هـ.
الزركلي (5/124) ، العسقلاني، ابن حجر: لسان الميزان، دار الكتاب الإسلامي (4/424) .
الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، 2ج، تحقيق محمد سيّد الكيلاني، دار المعرفة-بيروت، ط2، 1395هـ – 1975م، (1/227) .
(41) القرطبي (15/11)
(42) الغرابي، علي مصطفى، تاريخ الفرق الإسلامية، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، (ص23) ، سنة 1367هـ، 1948م.
(43) الغرابي، ص39.(8/16)
(44) اشتهر غيلان بقوله بالقدر حتى دعاه المؤرخون (غيلان القدري) . وقيل إن أصل القول بالقدر إنمّا هو لرجل من أهل العراق كان نصرانياً فأسلم ثم تنصّر، وقيل اسمه (أبو يونس سنسويه) ونسب إلى غيلان كذلك قوله بخلق القرآن والإرجاع ونفي الصفات الثبوتية لله عز وجل. (الغرابي، ص33-35) .
(45) ابن أبي العزّ الدمشقي، القاضي علي بن علي بن محمد، شرح العقيدة الطحاوية، 2ج، تحقيق عبد الله التركي، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، (1/323) ، سنة 1408هـ، 1988م.
(46) عمر بن الهيثم الهاشمي مجهول من الثامنة.
العسقلاني، تقريب التهذيب، دار الرشيد-سوريا، ط1، 1986م، (1/418) .
وقيل هو عمرو بن الهيثم بن قطن الزبيدي، روى عن أبي حنيفة ومالك، وروى عنه أحمد ويحيى بن معين، وقال أبو داود ثقة. العسقلاني، تهذيب التهذيب،14ج، دار الفكر-بيروت،1404هـ –1984م، (10/381) رقم 773. وقال محققا العقيدة الطحاوية لعلّ عمرو بن الهيثم هو المراد، وهو ثقة مات على رأس المائتين (التركي، الأرناؤوط، شرح العقيدة الطحاوية: 1/323) .
(47) عمرو بن عبيد: أحد شيوخ المعتزلة، كان جده من سبي فارس وأبوه شرطياً للحجاج في البصرة، اشتهر بعلمه وزهده. قال فيه المنصور العباسي: (كلكم يمشي رويد، كلكم طالب صيد، غير عمرو بن عبيد) . قال فيه يحيى بن معين: كان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع. توفي سنة 144 هـ، ورثاه الخليفة المنصور العباسي ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه. وقيل انه حج ماشيا أربعين سنة وبعيره يقاد يركبه الضعيف الفقير. الزركلي (5/81) .
الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان: ميزان الاعتدال، 4ج، تحقيق علي محمد البجاوي، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء-الرياض (2/294) .
(48) السكوني، أبو علي عمر، عيون المناظرات، تحقيق سعد غراب، منشورات الجامعة التونسية، (ص176) سنة 1976م.
(49) السكوني، (ص176) .
(50) السكوني، (ص176) .(8/17)
(51) ربيعة بن أبي عبد الرحمن: مفتي المدينة وعالم الوقت، أبو عبد الرحمن القرشي التيمي المشهور بربيعة الرأي، وكان من أئمة الاجتهاد وتوفي سنة 136هـ.
الذهبي، شمس الدين محمد، ت748هـ، سير أعلام النبلاء، 24ج، مؤسسة الرسالة ط2، 1402هـ 1982م، (6/89) .
(52) السكوني، (ص205) .
(53) السكوني، (ص256) .
(54) ابن كثير، عماد الدين إسماعيل، ت774هـ، البداية والنهاية، 14ج، مكتبة الفلاح، الرياض، (3/118) .
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (4/260) ، الهمذاني، القاضي عبد الجبّار، ت415هـ، تثبيت دلائل النبوة، 2ج، تحقيق عبد الكريم العثمان، دار العربية، بيروت (1/58) .
(55) الألوسي، شهاب الدين السيد محمود، ت1270هـ، 15ج، دار الفكر، بيروت، (27/74) ، سنة 1408هـ، 1987م.
(56) العسقلاني، فتح الباري، 7/184، باب انشقاق القمر، وقد ذكر البخاري عدّة أحاديث في انشقاق القمر، انظر الأرقام: 3636، 3869، 3871، 4864، 4865.
(57) انظر: المراغي، أحمد مصطفى: تفسير المراغي، 10ج، دار الفكر-بيروت (27/76) المجلد التاسع.
وذهب ابن عاشور في تفسيره إلى أنه قد يكون حصل خسف عظيم في كرة القمر أحدث في وجهه هوّة لاحت للناظرين في صورة شقّ، ويجوز أن يكون قد مرّ بين سمت القمر وسمت الشمس جسم سماوي من بعض المذنبات حجب بعض ضوء الشمس عن وجه القمر على نحو ما يسمى بالخسوف الجزئي.
ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير، 30ج، الدار التونسية للنشر 1984م، (27/169) .
وكلّ هذه الأقوال المحدثة من باب التكلّف المخالف لما ذهب إليه عامة المفسرين، وللأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الشأن.
(58) هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني، ولد في البصرة وسكن بغداد، واشتهر بالقدرة على الجدل والمناظرة. مالكي المذهب الفقهي، أشعريّ العقيدة. له تصانيف عديدة في الردّ على الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم.(8/18)
توفي في ذي القعدة سنة 403هـ، وقال فيه ابن تيمية: القاضي أبو بكر الباقلاني المتكلم هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده.
ابن العماد الحنبلي، (3/168) . الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، ت463هـ، تاريخ بغداد،14ج، دار الكتب العلمية-بيروت، (5/379) . ابن خلّكان، (3/400) رقم 580.
ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ت571هـ، 1176م، تبيين كذب المفتري، دار الكتاب العربي-بيروت 1399هـ 1979م، ص223.
(59) يشير إلى المائدة التي أنزلها الله تعالى على عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء بالطعام، وهي مذكورة في سورة المائدة، الآيات 112-115.وقد ذكرت هذه المعجزة في إنجيل يوحنا اصحاح 18 آية 10.
(60) بدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، 2ج، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، (1/578) ،سنة 1982م، وقال: ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك.
(61) صحابي كريم شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشدّ الرماة. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وخبره مشهور في نزول أوائل سورة الممتحنة.
العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 4ج، دار الكتاب العربي-بيروت 1/300.
(62) السكوني، (ص185) .
(63) انظر: القرطبي، (2/249) ، ابن العربي، أحكام القرآن (1/161) ، الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي، ت606هـ، التفسير الكبير، 16ج، دار الكتب العلمية، طهران، ط2، (5/51) . وانظر كتابنا: المصطفى من تفسير آيات الأحكام، ابن خزيمة، الرياض، ط1، (1/355) ، سنة 1411هـ، 1991م.
(64) الزوزني: هناك أكثر من شخص يلقب بالزوزني، ولكن يغلب على اعتقادي لقرائن عدة أنه الشيخ أبو سعد أحمد بن محمد بن علي الزوزني، سمع القاضي أبا يعلى وأبا بكر الخطيب، وحدّث عنه ابن عساكر والسمعاني، توفي سنة 536هـ. الذهبي: سير أعلام النبلاء، (20/57) رقم 34.(8/19)
(65) وقد ألّف ابن العربي كتابا في رحلته إلى المشرق سطّر فيه ما شاهده عن أخلاق الشعوب وتمسّكها بدينها، وهذا الكتاب مفقود ولكن نقل بعض العلماء طرفاً منه، وجاء في كتابه: (قانون التأويل) شيء من ذلك، وممّا سجّل في هذه النقول إعجابه بأهل بيت المقدس علماً وعملاً واعتقاداً.
القرطبي14/181، ابن العربي، قانون التأويل، ص440.
(66) أي الكافر الذميّ أو المعاهد، أما الكافر الحربي فلا خلاف أن المسلم لا يقتل به.
(67) فقيه القدس وقاضيها، وذكره ابن العربي في عارضة الأحوذي، دار الكتاب العربي-بيروت، (8/139) . ويسمّيه المقّري في نفح الطيب (ابن عطاء) ، المقري، أبو العباس أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 8ج، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر-بيروت، 1388هـ (2/247) .
ومن الأشعار التي تنسب إلى صاحب الترجمة:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إنّ ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب
ابن العربي: عارضة الأحوذي، 13ج، -دار الكتاب العربي-بيروت، (8/140) .
(68) وهذه القاعدة ترتب عليها العديد من المسائل الفقهية بين الجمهور من جهة والحنفية من جهة أخرى. فالجمهور يرون أن دلالة العام على جميع أفراده ظنية، أما الحنفية فيرون أن دلالته على جميع أفراده قطعية. ومن الأمثلة المترتبة على هذا الخلاف: زكاة الزروع والثمار، فالجمهور لا يرون الزكاة في أقل من خمسة أو سبعة أوسق كما لا يرون الزكاة في الخضروات، أما الحنفية فيأخذون بألفاظ العموم ويرون الزكاة في كل ما أنتجت الرجل قلّ أو كثر.
الخنّ، مصطفى سعيد: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، مؤسسة الرسالة-بيروت ط3، 1403هـ 1983م، ص204 وما بعدها.
(69) ابن العربي، أحكام القرآن (1/62) .(8/20)
(70) المعرّي، أبو العلاء أحمد بن عبد الله، ت449هـ، 1057م، اللزوميات، شرح ابراهيم الأبياري، وزارة الثقافة والإشاد، القاهرة، (1/391) ، والبيت السابق على هذا البيت من الشعر قوله:
تناقض ما لنا إلاّ السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
(71) ابن كثير، (2/56) .
(72) أخرجه البخاري في صحيحه، في الديات، باب لا يقتل المسلم بالكافر، وفي الجهاد، باب فكاك الأسير، ص1318، رقم 6915. والترمذي في الديات، رقم1412، وانظر: ابن الأثير الجزري في جامع الأصول من أحاديث الرسول10/253، والشوكاني في نيل الأوطار، نشر إدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، (7/151) وقد بسط الشوكاني القول في المسألة ورجّح رأي الجمهور.
(73) العسقلاني، فتح الباري، (12/262) ، وذكر ابن حجر أنّ (زفر) رجع إلى مذهب الجمهور لقيام الشبهة، والخلاف في المسألة من أعظم الشبهات، وانظر الدارقطني: (3/137، رقم 170) ، حيث ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت قاتلا مؤمناً بكافر، لقتلت حراشا بالهذلي) لمّا قتل حراش رجلا من هذيل له عهد يوم الفتح بمكة، وجاء في التعليق المغني على هامش سنن الدارقطني للسهار نفوري قوله: " وهذا الإسناد وإن كان واهياً، لكنّه أمثل من رواية ابن البيلماني الذي احتجّ بها الحنفية، لأنّ حديث ابن البيلماني منقطع لا تقوم به حجة.
وروى عبد الرزاق الصنعاني أنّ مسلماً قتل ذمّيا في عهد عثمان رضي الله عنه فلم يقتله به، وغلّظ عليه الدية، وقال ابن حزم هذا في غاية الصحة، ولا يصحّ عن أحد من الصحابة فيه شيء، إلاّ ما رويناه عن عمر أنّه كتب في مثل ذلك أن يُقاد به ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه ولكن اعتقلوه.
ابن حزم الظاهري، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد، ت456هـ، المحلّى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث، القاهرة، (10/347) ، مسألة رقم 2021.(8/21)
الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همّام، ت211هـ، المصنّف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، باب قود المسلم بالذمّي، (10/102) ، سنة 1403هـ، 1983م.
(74) الدارقطني، (3/137، رقم 170) ، وانظر: البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفرّاء، شرح السنة، 16ج، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، (10/175) ، سنة1400هـ،1980م.
(75) بدوي، عبد الرحمن، (1/64) .
(76) ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية (2/432) .
ويحمل أهل السنّة ما جاء في الآيات والأحاديث من الوعيد على التهديد، لأن العفو عن أهل الإيمان على ضوء عامة النصوص هو المأمول من ربّ العالمين والعصاة من المؤمنين هم على مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
(77) عند أبي حنيفة الإيمان لا يتجزأ أي أنه لا يزيد ولا ينقص، ومذهب جمهور العلماء أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنه قول واعتقاد وعمل.
وقد ذهب ابن تيمية إلى التوفيق بين الحنفية والجمهور فقال: إن الخلاف بين أبي حنيفة والجمهور خلاف لفظي، لأن الحنفية يرتبون على الأعمال ثوابا وعقابا خلافا للمرجئة.
ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم: مجموع الفتاوى، 37ج، جمع عبد الرحمن بن محمد القاسم، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين-الرياض، كتاب الإيمان (7/297) .
ابن أبي العز الحنفي 2/462، حيث قال: إن خلاف أبي حنيفة مع الجمهور في هذه المسائل خلاف صوري.
(78) المكي، الإمام الموفّق بن أحمد، والإمام الكردري، حافظ الدين، مناقب أبي حنيفة، دار الكتاب العربي، بيروت، (2/181) ، سنة 1401هـ، 1981م.
(79) ابن كثير، (2/280) ، القرطبي، (7/353) ، الشوكاني، محمد بن علي، ت1250هـ، فتح القدير، 5ج، دار الفكر، بيروت، (2/282) ، سنة 1403هـ، 1983م.(8/22)
(80) السيوطي، جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال، ت911هـ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، 8ج، دار الفكر، بيروت، (3/634) ، سنة 1409هـ، 1988م.
(81) القرطبي، (1/181) ، الألوسي، (9/153) .
(82) المكي، الكردري، (1/152) .
(83) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب التشهد (1/254) ، باب ائتمام المأموم بالإمام (1/258) رقم 411، وأحمد في المسند، (2/376) ، والمنذري في مختصر صحيح مسلم، ص79 رقم 276.
(84) الشوكاني، نيل الأوطار، (2/240) .
(85) ابن عابدين، محمد أمين بن عابدين الدمشقي الحنفي، ت1252هـ، 1836م، ردّ المحتار على الدرّ المختار، (حاشية ابن عابدين) ، 8ج، دار إحياء التراث العربي، بيروت (1/144) .
(86) قاض فقيه مولى الأنصار من أتباع أبي حنيفة، أخذ عنه وسمع منه، ولي القضاء بالكوفة سنة 194هـ ثم استعفى. من كتبه (أدب القاضي) و (الأمالي) وتوفي سنة 204هـ.
الزركلي (1/191) . الخطيب البغدادي (7/314) . الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان: ميزان الاعتدال، 4ج، تحقيق علي محمد البجاوي، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء (1/229) .
وانظر: حامد، عبد الستار: الحسن بن زياد وفقهه بين معاصريه، دار الرسالة-بغداد،1400هـ.
(87) هو أبو العباس العثماني البغدادي، حاجب الرشيد ثم وزيره، وهو الذي قام بأعباء خلافة الأمين، وكانت بينه وبين البرامكة ضغائن وشحناء، وقد دخل يوما على يحيى بن خالد البرمكي وابنه جعفر يوقّع بين يديه على عرائض الناس وطلباتهم، فعرض عليه الفضل عشر رقاع للناس، فلم يوقّع منهن واحدة، فجمع رقاعه وقال: ارجعن خائبات، وخرج وهو يقول:
بتصريف حال والزمان عثور
عسى وعسى يثني الزمان عنانه
ويحدث من بعد الأمور أمور
فنقضي لبانات وتشفى حسايف(8/23)
والحسائف: الضغائن، فقال له يحيى: عزمت عليك يا أبا العباس أن ترجع فرجع، فوقّع له فيها كلها. ولم يمتد أمر البرامكة بعد ذلك، وكانت نكبتهم على يد الفضل. وهو من أحفاد أبي فروة ((كيسان)) مولى عثمان رضي الله عنه، قال فيه أبو نواس:
غير راع ذمام آل ربيع
إن دهرا لم يرع عهدا ليحيى
(وتوفي سنة 208هـ) .
ابن العماد الحنبلي (2/20) . الخطيب البغدادي (12/343) . الزركلي (5/148) .
(88) ابن أبي حاتم الرازي، آداب الشافعي، ص170، وذكرها الألباني في إرواء الغليل، (2/117) ، ونسبها لابن عديّ في ترجمة الحسن بن زياد اللؤلؤي، وذكرها البيهقي في كتابه مناقب الشافعي، 2ج، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة، (1/217) .
(89) الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف، ت762هـ، نصب الراية لأحاديث الهداية، 4ج، دار المأمون، القاهرة، ط1، (1/47-54) ، سنة 1357هـ.
(90) العسقلاني، تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، 2ج، تعليق السيد عبد الله هاشم اليماني، طبعة المدينة المنوّرة، (1/115) رقم 153، وذكر قول الإمام أحمد أنه لم يرد في انتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة، حديث صحيح، وانظر: الألباني، ضعيف الجامع الصغير، المكتب الإسلامي، بيروت، رقم 5680، والدارقطني كتاب الطهارة رقم 58.
المصادر والمراجع
1 - إبراهيم، مصطفى (ومن معه) : المعجم الوسيط، ط2 مجمع اللغة العربية-القاهرة.
2 - ابن أبي حاتم الرازي، أبو محمد عبد الرحمن، ت327هـ، آداب الشافعي ومناقبه، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية-بيروت.
3 - ابن أبي العز الدمشقي، القاضي علي بن علي بن محمد، ت792هـ، شرح العقيدة الطحاوية، 2ج، تحقيق عبد الله التركي، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة-بيروت 1408هـ –1988م.
4 - ابن الأثير الجزري، أبو السعادات المبارك بن محمد، ت606هـ، جامع الأصول من أحاديث الرسول، 11ج، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني-دمشق 1389هـ –1969م.(8/24)
5 - الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد، ت370هـ، تهذيب اللغة، تحقيق عبد الحليم النجّار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، سنة 1384هـ، 1964م.
6 - ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، ت728هـ، مجموع الفتاوى، 37ج، جمع عبد الرحمن بن محمد القاسم، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين-الرياض.
7 - ابن الجزري، الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي، ت833هـ، النشر في القراءات العشر، 2ج، دار الكتب العلمية-بيروت.
8 - ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد، ت456هـ، المحلّى، 11ج، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث-القاهرة.
9 - ابن خلّكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد، ت681هـ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 8ج، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة-بيروت.
10 - ابن السبكي، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، ت771هـ، طبقات الشافعية، 10ج، تحقيق عبد الفتاح الحلو، محمد الطناحي، عيسى البابي الحلبي-القاهرة 1383هـ.
11 - ابن عابدين، محمد أمين بن عابدين الدمشقي الحنفي، ت1252هـ، ردّ المحتار على الدرّ المختار (حاشية ابن عابدين) ، 8ج، دار إحياء التراث العربي-بيروت.
12 - ابن عاشور، محمد الطاهر، ت1284هـ، التحرير والتنوير،30ج، الدار التونسية للنشر 1984م.
13 - ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله، ت543هـ، قانون التأويل، دراسة وتحقيق محمد السليماني، دار القبلة للثقافة الإسلامية-جدة، ط1، 1406هـ – 1986م.
14 - ابن العربي: عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 13ج، دار الكتاب العربي-بيروت.
15 - ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن، 4ج، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة-بيروت.
16 - ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ت571هـ، تبيين كذب المفتري، دار الكتاب العربي-بيروت 1399هـ – 1979م.(8/25)
17 - ابن العماد الحنبلي، أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، ت1089هـ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8ج، دار الفكر-بيروت.
18 - ابن قدامة المقدسي، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد، ت620هـ، روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة.
19 - ابن كثير، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، ت774هـ، البداية والنهاية، ج14، مكتبة الفلاح، الرياض.
20 - ابن كثير، الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم، 4ج، دار المعرفة-بيروت 1403هـ – 1983م.
21 - ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، ت273هـ، سنن ابن ماجه، 2ج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي 1395هـ – 1975م.
22 - أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف، 749هـ، البحر المحيط، 8ج، دار الفكر-بيروت، ط2، 1403هـ – 1983م.
23 - أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث، ت275هـ، سنن أبي داود، 2ج، مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر-بيروت.
24 - أبو زهرة، محمد: محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي-القاهرة 1971م.
25 - الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، 502هـ، المفردات، تحقيق محمد سيد الكيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر-بيروت.
26 - الألباني، ناصر الدين: ضعيف الجامع الصغير، المكتب الإسلامي-بيروت ط3، 1410هـ، 1990م.
27 - الألباني، ناصر الدين، ت1421هـ، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، 9ج، المكتب الإسلامي-بيروت ط1، 1399هـ – 1979م.
28 - الألباني، ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير، 2ج، المكتب الإسلامي-بيروت، ط2، 1399هـ.
29 - الألوسي، شهاب الدين محمود، ت1270هـ، روح المعاني، 30ج، دار الفكر-بيروت، 1408هـ – 1987م.
30 - البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ت256هـ، صحيح البخاري، 5ج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار مطابع الشعب-القاهرة.(8/26)
31 - البخاري، عبد العزيز، ت730هـ، كشف الأسرار، 4ج، دار الكتاب العربي-بيروت، 1974م.
32 - بدوي، عبد الرحمن: مذاهب الإسلاميين، 2ج، دار العلم للملايين-بيروت.
33 - البغوي، أبو محمد بن مسعود الفرّاء، ت516هـ، شرح السنة، 16ج، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، سنة 1400هـ، 1980م.
34 - البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، ت327هـ، مناقب الشافعي،2ج، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث-القاهرة.
35 - الترمذي، محمد بن عيسى، ت279هـ، سنن الترمذي، 5ج، تحقيق أحمد محمد شاكر، المكتبة الإسلامية-بيروت.
36 - الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي الرازي، ت370هـ، أحكام القرآن، 5ج، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي-بيروت، 1405هـ – 1985م.
37 - الجمل، سليمان بن عمر العجيلي، 1204هـ، حاشية الجمل على الجلالين، 4ج، عيسى البابي الحلبي-القاهرة.
38 - الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ت478هـ، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي-القاهرة، 1369هـ – 1950م.
39 - الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله، ت626هـ، معجم البلدان، ج5، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399هـ-1979م.
40 - حامد، عبد الستار: الحسين بن زياد اللؤلؤي وفقهه بين معاصريه، دار الرسالة-بغداد 1400هـ.
41 - حنبل، أحمد، ت241هـ، المسند، 6ج، دار صادر، بيروت، ط1.
42 - الخضري، محمد: أصول الفقه، مكتبة الرياض الحديثة-الرياض.
43 - الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، ت463هـ، تاريخ بغداد، 14ج، دار الكتب العلمية-بيروت.
44 - الخنّ، مصطفى سعيد: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط3، 1403هـ – 1983م.
45 - الدارقطني، علي بن عمر، ت385هـ، سنن الدارقطني، تصحيح عبد الله المدني، دار المحاسن للطباعة-القاهرة 1386هـ – 1966م.(8/27)
46 - الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، ت748هـ، ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء-الرياض.
47 - الذهبي، شمس الدين محمد: سير أعلام النبلاء، 24ج، مؤسسة الرسالة، ط2،
1402هـ – 1982م.
48 - الذهبي، محمد حسين، ت1976م، التفسير والمفسرون، 3ج، 1396هـ – 1976م.
49 - الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي، ت606هـ، التفسير الكبير، 30ج، دار الكتب العلمية-طهران، ط2
50 - الزبيدي، محب الدين أبو الفيض السيد محمد مرتضى، ت1205هـ، تاج العروس، 20ج، تحقيق علي شار، دار الفكر-بيروت، 1414هـ – 1994م.
51 - الزركلي، خير الدين، ت1977م، الأعلام، 8ج، دار العلم للملايين-بيروت، ط5، 1980م.
52 - الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف، ت762هـ، نصب الراية لأحاديث الهداية، 4ج، دار المأمون-القاهرة، ط1، 1357هـ.
53 - السلمان، فريد مصطفى: المصطفى من تفسير آيات الأحكام، ابن خزيمة-الرياض، ط1، 1991م.
54 - السكوني، أبو علي عمر: عيون المناظرات، تحقيق سعيد غراب، منشورات الجامعة التونسية 1976م.
55 - الشوكاني، محمد بن علي، ت1250هـ، نيل الأوطار، 8ج، نشر إدارات البحوث العلمية والإفتاء-الرياض.
56 - الشوكاني، فتح القدير، 5ج، دار الفكر، بيروت، سنة 1403هـ، 1983م.
57 - الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، ت548هـ، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد الكيلاني، دار المعرفة-بيروت، ط2، 1395هـ – 1975م.
58 - الصالح، محمد أديب: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، المكتب الإسلامي-بيروت.
59 - العاصمي النجدي، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم: الروض المربع شرح زاد المستقنع، 7ج، المطابع الأهلية-الرياض، ط1، 1397هـ.
60 - العجلوني، اسماعيل بن محمد، ت1162هـ، كشف الخفاء ومزيل الإلباس، 2ج، مؤسسة الرسالة، ط3، سنة 1403هـ، 1983م.(8/28)
61 - العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، ت852هـ، تقريب التهذيب، دار الرشيد، سوريا، ط1، 1986م.
62 - العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، تهذيب التهذيب، ج14، دار الفكر، بيروت، 1404هـ-1984م.
63 - العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4ج، دار الكتاب العربي-بيروت.
64 - العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 13ج، إدارات البحوث العلمية والإفتاء-الرياض.
65 - العسقلاني أحمد بن علي بن حجر: لسان الميزان، ج8، دار الفكر- بيروت، 1408هـ-1988م.
66 - العسقلاني، تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، 2ج، تعليق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، طبعة المدينة المنورة، سنة 1384هـ، 1964م.
67 - الغرابي، علي مصطفى: تاريخ الفرق الإسلامية، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده-القاهرة، 1367هـ – 1948م.
68 - الفيروز أبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، ت817هـ، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط5، 1416هـ – 1996م.
69 - القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، ت671هـ، الجامع لأحكام القرآن، 20ج، دار الكتاب العربي-القاهرة، 1387هـ – 1967م.
70 - مالك، مالك بن أنس، ت179هـ، الموطأ، تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي-القاهرة.
71 - مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، ت261هـ، صحيح مسلم، 5ج، دار ابن حزم-بيروت، ط1، 1416هـ – 1995م.
72 - المراغي، أحمد مصطفى، ت1371هـ، تفسير المراغي، 10ج، دار الفكر-بيروت.
73 - المعري، أبو العلاء أحمد بن الحسين، ت449هـ، اللزوميات، شرح إبراهيم الأبياري، وزارة الثقافة والإرشاد-القاهرة.
74 - المقّري، أبو العباس أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 8ج، تحقيق إحسان عباس، دار صادر-بيروت 1388هـ.
75 - المكي، الموفق بن أحمد، والكردري، حافظ الدين: مناقب أبي حنيفة، دار الكتاب العربي-بيروت، 1401هـ – 1981م.(8/29)
76 - المنذري، زكي الدين عبد العظيم، ت656هـ، مختصر صحيح مسلم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي-بيروت.
77 - النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، ت676هـ، شرح صحيح مسلم، دار الفكر-بيروت.
78 - الهمذاني، القاضي عبد الجبار، ت415هـ، تثبيت دلائل النبوة، 2ج، تحقيق عبد الكريم العثمان، دار العربية-بيروت.
79 - الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد، ت468هـ، أسباب النزول، تحقيق كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت.(8/30)
مصادر الحافظ ابن حجر وآراؤه
في مسائل القراءات من خلال كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري)
د. يحيى بن محمد حسن زمزمي
الأستاذ المساعد في قسم القراءات - كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد:
فقد عني علماء الحديث وشراحه –رحمهم الله- بقراءات القرآن الكريم، وبذلوا في ذلك جهوداً مشكورة، فرووها بأسانيدهم، ووجهوا مشكلها، واستدلوا بها في بيان معاني الحديث واستنباط الأحكام والترجيح بين الروايات وغير ذلك، وهذا البحث محاولة لإبراز جهد أحد علماء الحديث وشارح أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وهو الحافظ ابن حجر –رحمه الله- (ت852هـ) ، ذلك أنّه علاَّمة مشهود له بالفضل وسعة الاطلاع وحسن التأليف، وقد درس علم القراءات وعنده سند فيها عن شيخه برهان الدين التنوخي المقرئ المجوّد، ثمّ إنّ شرحه للبخاري فتح الباري من أوسع الشروح وأجلّها وأغزرها علماً، وقد أورد فيه القراءات واستخدمها في نحو من (400موضع) فيما وقفت عليه، ونقل هذه القراءات عن مصادر كثيرة منها المطبوع والمخطوط والمفقود، وله في مسائلها آراء وأقوال نفيسة، تثري هذا العلم وتفيد المتخصصين فيه، وهذا البحث خطوة أولى في دراسة جهود هذا العَلَم في خدمة علم القراءات، حصرتُ فيه المصادر التي نقل عنها هذا العِلم وبيّنت حالها ووثقت النقول التي أوردها- غالبا- وبينت معالم منهجه في النقل عنها، ثم أبرزت ما وقفت عليه من آراء وأقوال للحافظ، ونبهت في أثناء ذلك كله على بعض المآخذ والاستدراكات على المصنف رحمه الله فيما يتعلق بالقراءات، وحسب علمي أن أكثر الباحثين في علم القراءات قد أغفلوا جهود المحدثين في هذا الباب، ولم أقف على مؤلف خاص عني بدراسة القراءات في ((فتح الباري)) والله أعلم.
مقدمة:(8/31)
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحاط بكل شيءٍ علماً وأحصى كل شيءٍ عدداً، ثم الصلاة والسلام على خير الخلق والورى، ومن بعثه ربه من أم القرى، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد:
ففي أثناء قراءتي المحدودة في بعض المواضع من الكتاب القيم: ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، لفت نظري كثرة إيراده واستخدامه للقراءات القرآنية، استشهاداً بها في الأحكام واللغة، وتوجيها لها ودراسة لبعض مسائلها وأحكامها، ولم يقتصر ذكره لها في كتاب التفسير أو فضائل القرآن من الصحيح –وإن كان هو الغالب- لكنه أوردها في كثير من الكتب الأخرى.
كل ذلك دعاني للتفكير في جمع وتتبع وحصر هذه المواضع، ثم دراستها في بحث مختصر عن ((القراءات)) في هذا الكتاب المبارك ((فتح الباري)) فإذا بهذه المواضع تبلغ المئات، موزعة على جميع المجلدات، فاضطررت إلى جرد سريع لبعض الكتب منه، وتتبع دقيق للبعض الآخر، فحزرت ما جمعته فبلغ قريباً من (400) موضع، وربما فاتني شئ غير قليل في أثناء الجرد السريع، فلما صنفت هذه المواضع تصنيفاً مبدئياً، رأيت أن جمع الكلام عن القراءات وأثرها ومنهج الحافظ في عرضها والاستدلال بها، في بحث مختصر، قد لا يكون مناسباً لتلك الكثرة المذكورة، وربما أهضم حق البحث والكتاب والمصِّنف بهذا الاختصار، فاستشرت عدداً من أهل الفضل وعلماء الفن، بعد أن استخرت الله عز وجل في المضي في هذا البحث، فاستقر رأيي القاصر، على أن أقسّم الموضوع على عدة أبحاث ( [1] ) ، وقد رأيت أن يكون عنوان البحث الأول - هذا- ((مصادر الحافظ ابن حجر وآراؤه في مسائل القراءات من خلال كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) .
وأما عن أهميّة الموضوع وسبب اختياره فيمكن تلخيصه في الآتي:(8/32)
1- أهميّة علم القراءات وشرفه وفضله، وذلك لتعلقه بأشرف كتاب وأحسن كلام، وأصدق حديث، مع إعراض كثير من طلبة العلم عنه وتهيبهم منه.
2- عدم التفات كثير من الباحثين إلى جهود علماء الحديث في العناية بالقراءات، حفظاً لها ونقلاً وتوجيهاً واستدلالاً، واقتصارهم في البحث على إبراز جهود المفسرين وأهل اللغة إضافة إلى علماء القراءات.
3- الموسوعية والتكامل لدى علماء السلف في جمعهم للعلوم ودراستهم لها، حتى شملت القراءات والتفسير والحديث واللغة وغيرها، فلم يؤدِّ بهم التخصص إلى إهمال بعض العلوم أو القصور فيها، ومن يقرأ سيرهم وينظر في أسماء مشايخهم في كل فن من العلوم، يدرك هذا الأمر غاية الإدراك، ويكفي أن نعلم أن عدد شيوخ ابن حجر قد جاوز (730) شيخاً، ومصنفاته قاربت (300) مصنفاً، وأنه ذكر من أسماء الكتب في الفتح (1430) كتاباً في مختلف الفنون نقل عن كثير منها. ( [2] )
4- أهميّة كتاب ((فتح الباري)) ومكانته العالية عند العلماء قديماً وحديثاً، وكذا منزلة مصنفه الحافظ ((ابن حجر العسقلاني)) المشهود له بالفضل وسعة العلم وحسن التأليف، وكذا أهمية الأصل ((صحيح البخاري)) ومكانة مصنفه رحمة الله عليهما. ( [3] )
5- كثرة إيراد الحافظ ابن حجر للقراءات واستعماله لها واستدلاله بها مما يحتاج معه إلى دراسة لما يورده ومعرفة منهجه وآرائه في ذلك.
6- أن الحافظ ابن حجر –رحمه الله- نقل نقولات كثيرة عن كتب القراءات والتوجيه وغيرها، وبعض تلك الكتب والمصادر، يعد مفقوداً، أو في حكم المفقود، ( [4] ) ولا شك أن فيما نقله زيادة علم وإثراء لمادة هذا الفن العظيم، فينبغي استخراجها للإفادة منها.
7- أن الحافظ ابن حجر معروف بتحريره للمسائل، ودقته في دراستها، وقد حرر بعض مسائل القراءات وأفاض فيها، مما يثري هذا العلم. ( [5] )(8/33)
8- أن الحافظ ابن حجر تلقى علم القراءات، وعنده سند بها عن شيخه برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد التنوخي المقرئ المجوّد المسند الكبير –كما وصفه الحافظ- وقد قرأ عليه الشاطبية تامة، والعقيلة في مرسوم الخط وغيرها، وقد توفي شيخه سنة (800هـ) ، ونزل أهل مصر بموته في الرواية درجة. ( [6] )
كما أن الحافظ اطلع على كتب ابن الجزري ( [7] ) (ت 833هـ) وعنده بها إجازة، وقد أهدى إليه كتابه ((النشر في القراءات العشر)) ( [8] ) وأثنى الحافظ على المصنف ووصفه ب (صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين ابن الجزري) ( [9] )
وأما منهجي في البحث فيمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
1- جمعت كل ما وجدته من مواضع ذكر فيها الحافظ قراءة من القراءات أو أشار إليها، وكان ذلك من خلال جرد سريع لبعض الأبواب والكتب، وتتبع دقيق لبعضها الآخر، فبلغ عدد تلك المواضع قريباً من أربعمائة كما تقدم.
2- صنّفت تلك المواضع تصنيفاً موضوعياً مبدئياً، ففصلت كلامه عن المصادر ونقولاته، عما يتعلق بآرائه وتعليقاته وهكذا.
3- درست كل صنف منها على حدة، لمعرفة أنواع المصادر التي رجع إليها وأثرها في كتابه، واستخراج آرائه في مسائل هذا العلم.
4- راجعت النقول التي أوردها المصنف في هذا الباب وقارنتها بأصولها، لمعرفة منهجه في النقل والاستشهاد، وأشرت إلى المصادر المفقودة أو المخطوطة منها.
5- ترجمت للأعلام الذين نقل عنهم الحافظ في شرحه، وذلك عند ذكر كلامهم أو الكلام عن كتبهم، أما غيرهم ممن يُذكر عرضاً فلم ألتزم بالترجمة لهم إلا ما لزم وباختصار، تجنباً لإطالة الهوامش ما أمكن.
6- نبهت إلى بعض المواضع التي وهم فيها الحافظ في نسبة بعض القراءات إلى الشذوذ أو ضد ذلك.
وأما خطة البحث –بعد هذه المقدمة- فهي على النحو الآتي:
التمهيد: ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: تعريف مختصر بالقراءات وأقسامها، وعلاقتها بعلم الحديث.(8/34)
المبحث الثاني: تعريف مختصر بالحافظ ابن حجر وكتابه ((فتح الباري)) ، ونبذة عن الصحيح ومصنِّفه.
الفصل الأول: مصادره في علم القراءات ومنهجه في النقل عنها.
ويتضمن ما يلي:
1- أنواع المصادر التي نقل عنها القراءات أو ما يتعلق بها.
2- طريقته في النقل عن كل مصدر منها.
3- توثيق النقول من مصادرها الأصلية، وبيان حالها غالبا ً.
4- بعض الملامح العامة في منهجه في النقل عن تلك المصادر.
الفصل الثاني: آراؤه في مسائل القراءات. ويتضمن:
1- أهمية معرفة آراء ابن حجر في مسائل القراءات.
2- آراؤه فيما يتعلق بالأحرف السبعة.
3- آراؤه فيما يتعلق بمصطلحات علم القراءات.
4- آراؤه فيما يتعلق بشروط القراءة المقبولة وحكم القراءة الشاذة.
5- آراؤه في مسائل تتعلق بالقراءة والأداء.
وأخيراً الخاتمة وفيها أهم النتائج ثم ذكر المراجع.
التمهيد
المبحث الأول: تعريف مختصر بالقراءات وأقسامها، وعلاقتها بعلم الحديث.
أ- تعريف القراءات:
القراءات في اللغة: جمع قراءة، وهي مصدر ((قرأ)) ، وهي بمعنى الضم والجمع، يقال: قرأت الشيء قرآناً: أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض، وعليه فمعنى قرأت القرآن: أي لفظت به مجموعاً ( [10] ) .
أما في الاصطلاح فقد عرفها ابن الجزري بقوله: ((القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة)) ( [11] )
ب- أقسامها:
تنقسم القراءات من حيث القبول والرد إلى قسمين:
1- القراءات المقبولة وهي نوعان:
أ- المتواترة: قال ابن الجزري: (كل قراءة وافقت العربية مطلقاً ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديراً وتواتر نقلها، هذه القراءة المتواترة المقطوع بها) أهـ. ( [12] )
ب- الصحيحة المشهورة وهي التي توفرت فيها شروط القراءة من حيث موافقة الرسم والعربية، وصح سندها، لكنها لم تبلغ حد التواتر، وإن كانت مشهورة مستفيضة. ( [13] )(8/35)
ومن المعلوم أن القراءات المقبولة التي تجوز بها القراءة والصلاة عند أكثر أهل العلم هي ما صحّ من قراءات الأئمة العشرة مما وافق الرسم والعربية.
2- القراءات المردودة: وهي التي فقدت أحد شروط القبول، بأن لم يصح سندها أو خالفت الرسم أو العربية. ( [14] )
ج- علاقة القراءات بعلم الحديث:
مما لاشك فيه أن القراءة المتواترة المقبولة هي قرآن مقطوع به، منزل على النبي-e- ومن الأحرف السبعة، كما أن تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات ( [15] ) ، وعليه فلا تخفى العلاقة بين القرآن والحديث النبوي، فكلاهما وحي من الله عز وجل، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ( [16] ) ، وقال e: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ( [17] ) ، ثم إنّ أحوال السنة مع القرآن معلومة، فهي تأتي مؤكدة لمعنى ورد في القرآن أو زائدة عليه أو مبينة له بأيّ نوع من البيان: كتخصيص عامه أو تقييد مطلقه أو بيان مجمله أو تعريف مبهمه أو غير ذلك ( [18] ) ، وهذا ينطبق على كل ما يسمى قرءآناً من القراءات المقبولة، فلها هذه الأحوال مع السنة.
ثم إن كتب الحديث بأنواعها اشتملت على نصوص كثيرة تتعلق بالقراءات ومسائلها ونقلت لنا كثيراً من مروياتها المسندة ( [19] ) ، وقد كان كثير من القراء محدثين أيضاً كعاصم بن بهدلة مثلاً.
المبحث الثاني: تعريف مختصر بالحافظ ابن حجر وكتابه فتح الباري. ( [20] ) ونبذة عن الإمام البخاريّ وصحيحه.
أولاً: التعريف بالحافظ ابن حجر: ويمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
1- هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي ابن محمد بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي المصري القاهري.
2- ولد في شهر شعبان من عام 773هـ ونشأ يتيم الأبوين، وحفظ القرآن وله تسع سنين، وصلى بالناس التراويح في مكة سنة 785هـ، رحل في طلب العلم إلى بلاد عدة منها الإسكندرية والحجاز واليمن والشام.(8/36)
3- بلغ عدد شيوخه أكثر من (730) شيخاً ( [21] ) منهم: الزين العراقي وقد لازمه أكثر من عشر سنوات ودرس عليه الحديث وعلومه، والتنوخي وأخذ عنه علم القراءات وعلو سنده فيها -كما تقدم- والبلقيني وابن الملقن والمجد الشيرازي والهيثمي والعز بن جماعة وغيرهم.
4- من تلاميذه ( [22] ) : الحافظ ابن فهد المكي (ت 871هـ) ، والمحدث المفسر إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885هـ) ، والمؤرخ المحدّث محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) ، والعلاّمة السيوطي (ت911هـ) ، والعلامة زكريا بن محمد الأنصاري (ت 926هـ) .
5- أما عن مصنفاته وآثاره العلمية، فقد بدأ في التأليف وكان له من العمر اثنتان وعشرون سنة، وبلغت مؤلفاته قريباً من ثلاثمائة ( [23] ) ، منها ما هو في علوم القرآن مثل: ((الإتقان في جمع أحاديث فضائل القرآن)) ، ((الإحكام لبيان ما في القرآن من إبهام)) ، ((تجريد التفسير من صحيح البخاري)) ، وكثير منها في الحديث وعلومه منها: ((الفتح)) ، ((إتحاف المهرة بأطراف العشرة)) ، ((الإصابة)) ، ((بلوغ المرام)) ، ((تلخيص الحبير) ، ((لسان الميزان)) ، ((تهذيب التهذيب)) ، ((تقريب التهذيب)) ، وغيرها من الكتب في مختلف الفنون.
6- أثنى عليه العلماء والكُتَّاب ووصفوه بالحفظ والإتقان والتقدم والعرفان، منهم شيخه زين الدين العراقي، وتلميذه السخاوي والحافظ السيوطي ( [24] ) وغيرهم كثير.
7- توفي الحافظ –رحمه الله- في أواخر شهر ذي الحجة سنة (852هـ) ودفن بمصر.
ثانياً: كتابه " فتح الباري بشرح صحيح البخاري":
لقد أحسن الحافظ في هذا الكتاب وأفاد، وشرح وأجاد، بدءاً بجمع نسخ البخاري وضبط نصوصه، ثم بكثرة المصادر العلمية التي استعان بها في شرحه، والتي بلغت –كما تقدم- أكثر من ألف وأربعمائة، ثم بعنايته الفائقة بالحديث من جميع جوانبه، سنداً ومتناً وضبطاً وشرحاً وترجمة للرواة وترجيحاً عند الخلاف، ودراسة للمسائل وعرضاً للأقوال وأدلتها، وتلخيصاً للفوائد من الحديث، وغير ذلك.(8/37)
وفيما يتعلق بالقرآن وعلومه-خاصة- فإنه أفاض في تفسير الآيات القرآنية وذكر أسباب النزول وإعجاز القرآن ووجوه القراءات، ونقل في ذلك عن أمهات الكتب وعن أئمة اللغة والتفسير والقراءات ( [25] ) .
وبالجملة: فإن هذا الكتاب ((فتح الباري)) يعتبر موسوعة علمية جامعة، فقد أودع فيه مصنفه علوماً شتى، وفوائد عدة وهو أكبر وأجمع ما ألفه ابن حجر، وقد استغرق في تأليفه نحو ربع قرن من الزمان، قال عنه السيوطي: (لم يصنِّف أحد من الأولين ولا من الآخرين مثله) ( [26] ) ، ولما قيل للإمام الشوكاني: أما تشرح الجامع الصحيح للبخاري؟ قال: (لا هجرة بعد الفتح) ( [27] ) .
نبذة مختصرة عن الإمام البخاري وصحيحه: ( [28] )
- أما البخاري فهو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بَرْدِزْبَه البخاري الجعفي، أمير المؤمنين في الحديث، ولد في مدينة بخارى سنة 194هـ، ونشأ يتيماً في حجر والدته، ألهمه الله حفظ الحديث وهو ابن عشر سنين أو أقل، ورحل في ذلك إلى الحجاز والشام ومصر والبصرة والكوفة وبغداد، وقد كُتب عنه الحديث وهو دون العشرين، قال عن نفسه: ((كتبت عن ألف شيخ من العلماء وزيادة)) ، وأما عن تلاميذه فهم أكثر من أن يحصروا، قال الفربري ( [29] ) : ((سمع كتاب الصحيح من البخاري تسعون ألفاً)) أهـ، وقد كان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه، وله من المصنفات -غير ((الصحيح)) -: كتاب الأدب المفرد، والتاريخ الكبير، والأوسط، والصغير، والقراءة خلف الإمام، وخلق أفعال العباد، والضعفاء، والعلل، وغيرها. توفي رحمه الله سنة 256هـ.
- وأما كتابه المشهور ب ((صحيح البخاري)) وسماه هو ((الجامع المسند الصحيح المختصر من سنن رسول الله e وأياّمه)) فهو أول ما صُنف في الصحيح المجرد، وقد قال عن نفسه: ((صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته حجة بيني وبين الله))(8/38)
- بلغت أحاديث صحيحه المسندة (7275) بالأحاديث المكررة، وبحذف المكرر نحو أربعة الآف. قال رحمه الله: ((ما أدخلت في كتاب الجامع إلاّ ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول))
قال النووي ( [30] ) : ((اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة)) أهـ. ( [31] )
الفصل الأول: مصادره في علم القراءات، ومنهجه في النقل عنها
لقد نقل الحافظ في الفتح فيما يتعلق بالقراءات ومسائلها عن أكثر من أربعين مصدراً، منها ما هو من كتب القراءات وعلومها كالتوجيه والرسم ونحوهما، ومنها كتب في التفسير وعلوم القرآن، وكتب في الحديث وشروحه، وكتب في اللغة وغيرها، وهناك نقولات عديدة نسبها إلى قائليها، لكنه لم يحدد أسماء الكتب المنقولة عنها ( [32] ) ، فاجتهدت في معرفة أسماء هذه المصادر وتحديد مواضع النقل منها إن كانت موجودة، والتنبيه إلى المفقود منها، مع الإشارة -باختصار- إلى طريقته في النقل عنها جميعاً، ويمكن تقسيم مصادره إلى أربعة أنواع على النحو الآتي:
النوع الأول: المصادر التي تكرر ذكرها ونقل عنها كثيراً ( [33] ) وهي:
1- كتاب ((القراءات)) لأبي عبيد ( [34] ) (ت224هـ)
نقل عنه الحافظ في مواضع عدة ( [35] ) وسمّى الكتاب ومؤلفّه، بل اعتمده واعتبر أن ما فيه إنما هو القراءات المشهورة، فقد قال عن قراءة الأعمش ( [36] ) : ((وما أوتوا من العلم إلاّ قليلا)) ( [37] ) ما نصه: (وليست هذه القراءة في السبعة، بل ولا في المشهور من غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش) ( [38] ) أهـ، وقال في موضع آخر عن قراءة عمر –رضي الله عنه- (وظنّ داود أنّما فتناه) ( [39] ) بتشديد التاء: (وأما قراءة عمر فمذكورة في الشواذ ولم يذكرها أبو عبيد في القراءات المشهورة) . ( [40] )(8/39)
قلت: قراءة " وما أوتوا" المذكورة مخالفة للرسم، وقراءة "فتناه" بتشديد التاء لم تشتهر، وعليه فالقراءتان شاذتان، ولهذا السبب – والله أعلم – لم يذكرهما أبوعبيد في كتابه. ( [41] )
وأما الكتاب المذكور فهو في حكم المفقود -فيما أعلم-، وقد ذكره ابن الجزري وغيره. ( [42] )
2- ((معاني القرآن)) للفراء ( [43] ) (ت:207هـ)
وقد نقل عنه كثيراً ( [44] ) ، ونص على تسمية الكتاب والمؤلف، ومن ذلك قوله في قراءة ((نُصُب)) من قوله تعالى:"إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ" ( [45] ) قال: (وكذا ضبطه الفراء عن الأعمش في ((كتاب المعاني)) وهي قراءة الجمهور) أهـ، وفي نفس الصفحة أيضاً: (والذي في ((المعاني للفراء)) النصب.. الخ) ، وفيها أيضاً: (كذا قال الفراء في المعاني) ( [46] ) أهـ، كما نقل عنه توجيه قراءة ((فصُرْهن إليك)) ( [47] ) بضم الصاد وكسرها فقال: (وعن الفراء الضم مشترك، والكسر القطع فقط.. الخ كلامه) ( [48] ) .
3- كتاب "المصاحف" لابن أبي داود ( [49] ) (ت316هـ)
نقل عنه عدة قراءات ونصّ على تسميته فقال مثلاً في القراءة الشاذة"ألاّ يطَّوّفَ بهما" ( [50] ) : (..حكاها الطبري وابن أبي داود في المصاحف..) الخ ( [51] ) ، وفي موضع آخر: (وأخرج ابن أبي داود في ((كتاب المصاحف)) بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ ((إذا جاء فتحُالله والنّصر)) ) ( [52] ) أهـ.، وفي القراءة الشاذة في آل عمران: (الله لا إله إلاّ هو الحي القيام) ( [53] ) قال: (وأخرج ابن أبي داود في ((المصاحف)) من طرق عن عمر أنه قرأها كذلك) ( [54] ) أهـ.
4-كتاب ((السبعة)) لابن مجاهد ( [55] ) (ت324هـ)(8/40)
وهذا الكتاب نصّ الحافظ على تسميته، ونقل عنه بعض القراءات، وأشار إليه عند كلامه عن بعض مسائلها، فمن القراءات التي نقلها عنه قوله في قراءة ((نُصُب)) المتقدمة آنفاً: (وفي كتاب السبعة لابن مجاهد: قرأها ابن عامر بضمتين) ( [56] ) أهـ، وفي موضع آخر أشار إلى قراءة رواها ابن مجاهد، ولم يذكر اسم الكتاب -وهي موجودة في ((السبعة)) - فقال: (إلا رواية ابن مجاهد عن قنبل..) ( [57] ) .
5- ((إعراب السمين)) = الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي ( [58] ) (ت756هـ)
وقد نقل عنه في مواضع متفرقة، ونصّ على أنه لخصّ بعض اللغات منه، منها أنه ذكر اللغات في ((جبريل)) ثم قال: (لخصته من إعراب السمين) ( [59] ) أهـ، وفي موضع آخر ذكر اللغات في ((أفٍّ)) ثم قال: (..ولخص ضبطها صاحبه ( [60] ) الشهاب السمين ولخصته منه) ( [61] ) أهـ.
قلت: كذا سماه الحافظ ((إعراب السمين)) ، والنقول المذكورة تدل على أنه يريد هذا الكتاب ((الدر المصون)) وهو غير كتاب التفسير له، ومما يؤيد هذا قول السمين نفسه في شرحه على الشاطبية ما نصّه: (وكنت قد ألّفت إعراب الكتاب العزيز في كتاب سمّيته الدر المصون في علوم الكتاب المكنون) أهـ. ( [62] ) ، وكذا قول الحافظ ابن حجر في ترجمته للسمين: (له تفسير القرآن ... ، والإعراب سمّاه الدر المصون) أهـ. ( [63] ) والله أعلم.
6- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبري ( [64] ) (ت310هـ)(8/41)
نقل عنه الحافظ في مواضع عدة، ولكنه في جميعها لم يذكر اسم الكتاب وإنما اكتفى بتسمية الطبري، فمرة ذكر القراءة الشاذة: (ألاّ يطوف بهما) ثم قال: (كذلك حكاه الطبري) ( [65] ) ، ومرة نقل نصاً بلفظ مقارب لكلام الطبري في توجيه قراءة (أشدّ وِطاء) ( [66] ) وعبرّ عنه بقوله: (قال الطبري: هذه القراءة على أنه مصدر..الخ) ( [67] ) ، وفي ثالثة نقل بالمعنى أيضاً وبمعنى مقارب في قراءة (لتركبنّ) ( [68] ) وقال فيه: (قال الطبري: قرأها ابن مسعود وابن عباس وعامة قراء أهل مكة والكوفة بالفتح والباقون بالضم على أنه خطاب للأمة) ( [69] ) أهـ، وفي موضع آخر ذكر القراءة الشاذة (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج) ( [70] ) . وقال عن القراءة نفسها في موضع: ( ... وروى الطبري بإسناد صحيح عن أيوب ( [71] ) عن عكرمة ( [72] ) أنه كان يقرأها كذلك) ( [73] ) أهـ، وفي موضع قال: (وقال الطبري: روي عن جماعة أنهم قرأوا ((بعد أَمَهٍ)) ( [74] )) ( [75] ) أهـ.
قلت: والقراءة المذكورة بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة، قراءة شاذة. ( [76] )
تنبيه "1": مما يرجّح أنّ الحافظ أراد كتاب تفسبر ابن جرير الطبري ولم يرد كتب أبي معشر الطبري ( [77] ) أو غيره ما يلي:
1) أني وجدت جميع النقول التي أوردها، بنصّها - تقريباً- في "تفسير الطبري"، ولم أجد نصاً منها في كتب أبي معشر التي اطلعت عليها.
2) أن كتب أبي معشر في القراءات كتب إسناد ورواية، يندر فيها توجيه القراءات والإحتجاج لها، والنقول التي أوردها الحافظ فيها كثير من التوجيه والإستدلال للقراءات.
3) أن بعض هذه النقول فيها ترجيح لقراءة صحيحة على مثلها ( [78] ) ، وهذا الأمر متكرر عند ابن جرير، ولا يكاد يوجد عند أبي معشر.
4) أن ابن جرير أكثر شهرة من أبي معشر، وتفسيره من أشهر الكتب، وكثير من المحققين إذا أطلق "الطبري" فهو يريد به الأول والأشهر، والله أعلم.(8/42)
تنبيه "2": ذكر الحافظ نقلاً نسبه للطبراني في قراءة ((نصب)) ( [79] ) فقال: (وحكى الطبراني أنه لم يقرأه بالضم إلا الحسن البصري ( [80] )) أهـ. ( [81] )
قلت: يعني ضم النون كما يظهر من السياق وهذا فيه نظر لأن قراءة ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. ( [82] )
والذي يظهر لي –والله أعلم- أن في تسمية "الطبراني" تصحيفاً وأنّ الصحيح: ((الطبري)) حيث لم أعثر على نص للطبراني في معاجمه ولا في غيرها في هذا المعنى، وحيث أن الطبري قد نص في تفسيره على ما ذكره ابن حجر فقال: (وأجمعت قراء الأمصار على فتح النون من قوله ((نصب)) غير الحسن البصري فإنه ذكر عنه أنه كان يضمها مع الصاد) أهـ من تفسير الطبري 12/243
7- ((إعراب الشواذ)) = ((إعراب القراءات الشواذ)) لأبي البقاء العكبري ( [83] ) (ت616) هـ
وقد نصّ الحافظ في مواضع على تسمية العكبري وسمى كتابه ب ((إعراب الشواذ)) فقال في قراءة (الصُوَر) ( [84] ) بفتح الواو: (وأثبتها أبو البقاء العكبري قراءة في كتابه ((إعراب الشواذ)) ) ( [85] ) أهـ، وقال في موضع آخر: (فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ الكلام على من قرأ ((العألمين)) ( [86] ) بالهمز..) الخ. ( [87] ) ، وهناك مواضع نقل فيها الحافظ عنه ولم يحدد الكتاب، منها في أثناء كلامه عن قراءة (فصُرهن) ( [88] ) قال: (ونقل أبو البقاء تثليث الراء في هذه القراءة وهي شاذة) ( [89] ) أهـ.
8- التمهيد لابن عبد البر ( [90] ) (ت463هـ)(8/43)
نقل الحافظ عن ابن عبد البر قراءات كثيرة في موضع واحد، وهو فيما يتعلق بالأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام بن حكيم –رضي الله عنهما- من سورة الفرقان، ولم يسم كتابه -التمهيد- قال: (قلت: وقد تتبع أبو عمر ابن عبد البر ما اختلف فيه القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، فأوردته ملخصاً وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادة على ذلك..) الخ، ثم أورد قراءات كثيرة في هذه السورة ثم قال: (قال ابن عبد البر بعد أن أورد بعض ما أوردته: هذا ما في سورة الفرقان من الحروف التي بأيدي أهل العلم بالقرآن..) ( [91] ) الخ كلامه.
9- ((الجامع الأكبر والبحر الأزخر)) لأبي القاسم اللخمي ( [92] ) (ت629هـ)
وهذا الكتاب أضاف منه الحافظ ما لم يذكره هو ولا ابن عبد البر من أوجه الاختلاف في سورة الفرقان، قال (ثم بعد كتابتي هذا وإسماعه وقفت على الكتاب الكبير المسمىّ بالجامع الأكبر والبحر الأزخر تأليف شيخ شيوخنا أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز اللخمي،الذي ذكر أنه جمع فيه سبعة آلاف رواية من طريق غير مالا يليق، وهو في نحو ثلاثين مجلدة، فالتقطت منه ما لم يتقدم ذكره من الاختلاف فقارب قدر ما كنت ذكرته أولاً..) . ثم أورد تلك القراءات وقال بعدها: (فهذه ستة وخمسون موضعاً ليس فيها من المشهور شيء، فليضف إلى ما ذكرته أولاً فتكون جملتها نحواً من مائة وثلاثين موضعاً. والله أعلم) ( [93] ) أهـ
قلت: والكتاب المذكور في حكم المفقود، والله أعلم، وقد ذكره ابن الجزري وغيره. ( [94] )
10- ((الكامل في القراءات الخمسين)) للهذلي ( [95] ) : (ت465هـ)(8/44)
ذكر الحافظ ابن حجر "الهذلي" في مواضع عدة، دون أن يذكر اسم كتابه، منها قوله في قراءة ((ونُزِّل الملائكة)) ( [96] ) بفتح النون وتشديد الزاي وفتح اللام، قال: (واختارها الهذلي) ( [97] ) أهـ، وفي قراءة ((وهذا مَلِح)) ( [98] ) بفتح الميم وكسر اللام، قال: (ونقلها الهذلي عن طلحة بن مصَرِّف ( [99] )) ( [100] ) أهـ وفي قراءة (فسوف يكون لَزاماً) ( [101] ) بفتح اللام،قال: (ونقلها الهذلي عن أبان بن تغلب) ( [102] ) أهـ، وفي موضع آخر تكلمّ عن لغة كسر الميم في كلمة (المِشْعَر) من قوله تعالى: "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" ( [103] ) وإنكار القراءة بها، ثم قال: (وقيل بل قرئ حكاه الهذلي) ( [104] ) أهـ.
قلت: هذا الكتاب مخطوط وله صورة في مركز البحث بجامعة أم القرى برقم (134/قراءات) .
11- ((فضائل القرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلاّم (ت 224هـ)
نقل عنه في أكثر من موضع وسماه ومؤلفه،منها عندما أورد قراءة أبي هريرة المروية في الصحيح _ وهي شاذة _ (قرات أعين) ( [105] ) بصيغة الجمع، قال: (وصله أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتاب "فضائل القرآن") ( [106] ) أهـ، وفي قراءة "الحي القيام" التي سبق ذكرها قال: [وقد أخرج أبو عبيد ( [107] ) في " فضائل القرآن" من طريق يحي بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر أنه صلّى العشاء الآخرة فاستفتح آل عمران فقرأ (الله لا إله إلاّ هو الحيّ القياّم) ] ( [108] ) أهـ
12- "مجاز القرآن " لأبي عبيدة ( [109] ) (ت209هـ)
هذا المصدر نقل عنه الحافظ معاني بعض الكلمات القرآنية في مواضع وسماه، فقال في بعضها: (هذا كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز") أهـ، ثم نقل عنه في نفس الموضع توجيه قراءة، ولم يذكر المصدر،فقال: (قال أبو عبيدة: ((النَصْب)) ( [110] ) بالفتح هو العَلم الذي نصبوه ليعبدوه، ومن قرأ"نُصُب" بالضم فهي جماعة مثل رَهن ورُهن) أهـ.
قلت: قد وجدت قريباً من هذا الكلام في الكتاب المذكور، فلعل النقل عنه، والله أعلم ( [111] ) .(8/45)
وكذا فعل في موضع آخر فقال: (قال أبو عبيدة:قرئ "بعد أَمهٍ" أي نسيان) أهـ، وكذا هو في المجاز ( [112] ) .
13- ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) لابن جني ( [113] ) (392هـ)
هذا المصدر لم يسمّه الحافظ، وإنما أشار إلى تضعيف ابن جني لقراءة ((ويجعلَ لك قصوراً)) ( [114] ) بنصب اللام، قال: (وضعفها ابن جني) ( [115] ) أهـ، وفي قراءة ((ويوم نحشِرهم)) ( [116] ) بكسر الشين قال: (قال ابن جني: وهي قوية في القياس متروكة في الاستعمال) ( [117] ) أهـ.
قلت: وعبارة ابن جني: (هذا وإن كان قليلاً في الاستعمال فإنه قوي في القياس) أهـ. ( [118] )
وفي قراءة ((وهذا مَلِح)) ( [119] ) بفتح الميم وكسر اللام، قال: (وقال ابن جني يجوز أن يكون أراد مالح فحذف الألف تخفيفاً، قال: مع أن مالح ليست فصيحة) ( [120] ) أهـ.
14- ((القراءات)) لأبي حاتم السجستاني ( [121] ) (ت255هـ)
هذا الكتاب أشار إليه ابن حجر حين ذكر بعض الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين ( [122] ) ، ثم لمّا ذكر قراءة" وهذا مَلِح " بفتح الميم وكسر اللام- المتقدمة آنفاً- قال: (واستنكرها أبو حاتم السجستاني) ( [123] ) أهـ، ولم يحدد كتاباً بعينه، وكذا فعل حين ذكر قراءة ((ولم يُقتروا)) ( [124] ) بضم أولّه من الرباعي، قال: (وأنكرها أبو حاتم) ( [125] ) أهـ.
قلت: والقراءة المذكورة في "يقتروا" قرأ بها نافع وابن عامر وأبو جعفر، ولا وجه لإنكارها. ( [126] )
_ وكذلك فعل في قراءة ((لَزاماً)) بفتح اللام، قال: (أسنده أبو حاتم السجستاني) ( [127] )
قلت: فلعلّ هذه المواضع نقلها عن هذا الكتاب، والله أعلم، وهو كتاب مفقود حسب علمي. ( [128] )
النوع الثاني: المصادر التي نقل عنها أحياناً، ومنها:
15- القراءات للفضل بن شاذان ( [129] ) (ت290هـ)(8/46)
نقل عنه وصل إسناد معلق في الصحيح عن عبد الله بن مسعود في قراءة ((إنني بري)) بالياء وهي شاذة من قوله تعالى:" إنني براء مما تعبدون" ( [130] ) قال: (وصله الفضل بن شاذان في ((كتاب القراءات)) ..) الخ. ( [131] )
قلت: والكتاب مفقود والله أعلم. ( [132] )
16- تفسير عبد الرزاق الصنعاني ( [133] ) (ت211هـ)
وقد نص على تسميته فقال: (وقد ذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة أن ابن مسعود كان يقرؤها ((وهو عليه هين)) ) ( [134] ) أهـ.
قلت: يعني قوله تعالى:" وَهُو أهْوَنُ عليه" ( [135] ) والقراءة المذكورة شاذة وهي مخالفة لرسم المصحف.
17- ((الصحاح)) للجوهري ( [136] ) (ت393هـ)
قال في كلامه عن القراءة الشاذة في كلمة ((الصُوَر)) ( [137] ) : (وذكر الجوهري في الصحاح أن الحسن قرأها بفتح الواو) ( [138] ) أهـ.
18- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( [139] ) (ت671هـ)
نقل عنه قراءة شاذة في (فقد كذَّبوكم) ( [140] ) ولم يسم كتابه، قال: ("فقد كذَبوكم" حكى القرطبي أنها قرئت بالتخفيف) ( [141] ) أهـ.
قلت: ونص كلام القرطبي في تفسيره قال: (وحكى الفراء أنه يقرأ ((فقد كذَبوكم)) مخففاً) ( [142] ) أهـ.
19- تفسير الواحدي ( [143] ) (ت468هـ)
نقل عنه في قراءة لفظة ((المحصنات)) في القرآن، ولم يسم كتابه، قال ما نصه: (قال الواحدي: قرئ ((المحصِنات)) في القرآن بكسر الصاد وفتحها إلا في قوله تعالى: ((والمحصَنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)) ( [144] ) فبالفتح جزماً، وقرئ ((فإذا أحصن)) ( [145] ) بالضم وبالفتح، فبالضم معناه التزويج وبالفتح معناه الإسلام) ( [146] ) أهـ.
قلت: وقد وجدت قريباً من هذا النقل في "الوسيط" للواحدي: (2/33،35) فلعلّ النقل عنه بالمعنى، والله أعلم.
20- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ( [147] ) (ت276هـ)(8/47)
وهذا المصدر سماه الحافظ في موضع حين نقل عنه نصاً يتعلق بالأحرف السبعة فقال: (قال ابن قتيبة في أول ((تفسير المشكل)) له كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم … الخ كلامه) ( [148] ) ، ونقل عن ابن قتيبة في موضع آخر ولم يسمِّ كتابه، وذلك حين تكلم عن كسر الميم في لفظة ((المشعر)) فقال: (قال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذ) ( [149] ) أهـ.
قلت: لم أجد نصاً لابن قتيبة عن هذه الكلمة لا في "مشكل القرآن" ولا في "تفسير غريب القرآن"، وكلاهما له، فربما كان في كتابه (القراءات) وهو مفقود والله أعلم. ( [150] )
21 - معاني القرآن للنحاس ( [151] ) (ت338هـ)
وهذا الكتاب أيضاً لم يذكر الحافظ اسمه، وإنما نقل استنكار مؤلفه لقراءة (الصُوَر) بفتح الواو، بعد أن ذكر كلام الجوهري المتقدم، فقال: (وذكر الجوهري في الصحاح أن الحسن قرأها بفتح الواو، وسبق النحاس فقال: ليست بقراءة) ( [152] ) أهـ.
قلت: وقد ذكر النحاس هذه القراءة في معاني القرآن 2/448
22- الحجة في علل القراءات السبع لأبي على الفارسي ( [153] ) (ت377هـ)
وهذا المصدر كذلك لم يسمه ابن حجر وإنما نقل عنه في توجيه قراءة ((فصرهن)) ( [154] ) بضم الصاد وبكسرها، فقال: (قلت: ونقل أبو علي الفارسي أنهما بمعنى واحد) ( [155] ) أهـ.
قلت: كلام أبي علي في توجيه هذه القراءة طويل، كما في "الحجة" 2/292-294.
23- ((العباب الزاخر واللباب الفاخر للصغاني ( [156] ) (ت650هـ)(8/48)
وهذا الكتاب ذكره الحافظ في مواضع مستشهداً منه في اللغة، مثل كلامه عن كلمة ((بِضْع)) قال: (ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين فإذا جاوز العشرين امتنع …الخ) ( [157] ) ثم نقل عن مصنفه قراءة دون أن يسمي الكتاب، فقال في قوله تعالى: (ائتوني بكتب من قبل هذا أو أثرة من علم) ( [158] ) ما نصه (وذكر الصغاني وغيره أنه قرئ أيضاً ((إثارة)) بكسر أوله ((وأثرة)) بفتحتين وسكون ثانيه مع فتح أوله ومع كسره) ( [159] ) أهـ.
قلت: هذا الكتاب طبعت منه أجزاء متفرقة في العراق، وهو في اللغة ((في عشرين مجلداً. ( [160] )
* ولعل من هذا النوع من المصادر كتب الحديث وشروحه - غير صحيح البخاري- التي نقل عنها بعض مرويات القراءات، ومنها:
24- موطأ الإمام مالك ( [161] ) (ت179هـ)
وقد نقل عنه قراءة شاذة فقال: (.. وعن عائشة: نزلت ((فعدة من أيام أخر متتابعات)) ( [162] ) فسقطت ((متتابعات)) وفي الموطأ أنها قراءة أبي بن كعب) ( [163] ) أهـ
25- مشكل الآثار للطحاوي ( [164] ) (ت321هـ)
أشار إليه عند توجيه القراءة الشاذة (ألاّ يطوف بهما) –المتقدم ذكرها- فقال: (وأجاب الطبري بأنها محمولة على القراءة المشهورة و ((لا)) زائدة، وكذا قال الطحاوي) ( [165] ) أهـ، فلم يسمّ كتابه في هذا الموضع، وإن كان سماه في مواضع أخرى حين نقل عنه بعض ما يتعلق بمسائل الحديث ( [166] ) .
27- نقل عن ابن المنذر ( [167] ) (ت319هـ)
وقد أشار إليه أيضاً بعد نقل قراءة ((ألا يطوف بهما)) ، المتقدمة، فقال: (كذلك حكاه الطبري وابن أبي داود في المصاحف وابن المنذر وغيرهم …) الخ. ( [168] )
قلت: ولعل هذا النقل عن تفسير ابن المنذر الذي سماه في مواضع أخرى. ( [169] ) وهو تفسير كبير في بضعة عشر مجلداً كما ذكره في السير 14/492، وتوجد منه أجزاء مخطوطة. ( [170] )
28- نقل عن ابن التين ( [171] ) (ت611هـ)(8/49)
ذكره عند الكلام على توجيه قراءة ((فصرهن)) –المتقدمة- ولم يسم كتابه، قال: (قال ابن التين: ((صرهن)) بضم الصاد معناها ضمهن، وبكسرها قطعهن) ( [172] ) أهـ
قلت: ولعل هذا النقل عن شرح ابن التين للبخاري وهو مفقود والله أعلم.
النوع الثالث: مصادر ونقول لها علاقة بعلم القراءات وهي مصادر لم ينقل عنها قراءات معينة، وإنما نقل أقوالاً وآراء تتعلق بهذا العلم. وهي قسمان:
أ- مصادر سماها وسمّى مصنفيها.
ب- نقول وأقوال أوردها ونسبها إلى قائليها ولم يسم كتبهم التي نقل عنها.
وأمثلة هذا النوع بقسميه كثيرة، ولذا فسأقتصر على ذكر نماذج منها على وجه الاختصار. فمن القسم الأول:
29- معاني القرآن للزجاج ( [173] ) (ت311هـ)
نقل عنه كلاما له تعلق بتوجيه الآيات الثلاث من قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا شهدة بينكم إذا حضر أحدكم الموت –إلى قوله- والله لا يهدي القوم الفاسقين)) ( [174] ) ونصه: (قال الزجاج في ((المعاني)) : هذه الآيات الثلاث من أشكل ما في القرآن إعراباً وحكماً ومعنى) ( [175] ) أهـ
30- شرح الهداية لأبي العباس المهدوي ( [176] ) (توفي بعد 430هـ)
نقل عنه أقوالاً تتعلق بمبحث الأحرف السبعة، فقد ذكر قول الطبري في ذلك ثم قال: (..ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس بن عمار في ((شرح الهداية)) وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلّها …) ( [177] ) إلى آخر كلامه.
31- شرح السنة للبغوي ( [178] ) : (ت516هـ)
وهذا المصدر نقل عنه في مبحث ((الأحرف السبعة)) نصاً يتعلق برسم المصحف فقال: (وقال البغوي في شرح السنة: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله –e- فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك، قطعاً لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم) ( [179] ) أهـ.(8/50)
قلت: وهذا النص المذكور إنما اختصره الحافظ ولخصه من كلام طويل للبغوي ولم ينقله نصاً. ( [180] )
32- شرح المنهاج للسبكي ( [181] ) (ت756هـ)
وقد نقل عنه الإنكار على من توهم أن القراءات منحصرة في السبعة فقط، قال: (.. وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك كأبي شامة وأبي حيان، وآخر من صرح بذلك السبكي فقال في شرح المنهاج عند الكلام على القراءة بالشاذ: صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذ توهماً منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين …) .الخ كلامه) . ( [182] )
قلت: كذا سمّى الحافظ الكتاب، والمعروف أنّ اسمه (الابتهاج في شرح المنهاج) وهو في شرح "منهاج الطالبين" للنووي في فقه الشافعية، ووصل فيه مؤلفه إلى (الطلاق) ولم يكمله، فأكمله ابنه بهاء الدين أحمد. ( [183] )
33- الشافي لإسماعيل بن إبراهيم (ابن السمعاني) ( [184] ) (ت414هـ)
وقد نقل عنه أيضاً بعض ما يتعلق بالمسألة السابقة –الزيادة على القراءات السبع- فقال: (وقال ابن السمعاني في الشافي: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين..) ( [185] ) الخ كلامه.
قلت: وهذا النقل بكامله ذكره ابن الجزري، ومنه عرفت أن ابن السمعاني الذي ذكره الحافظ بهذه الكنية غير المعروف بها هو إسماعيل بن إبراهيم، فقد نصّ على تسميته وتسمية كتابه (الشافي) ونقل نفس الكلام عنه، والكتاب في القراءات وهو في حكم المفقود والله أعلم. ( [186] )
34- اللوائح ( [187] ) لأبي الفضل الرازي ( [188] ) (ت454هـ)(8/51)
وقد نقل عنه نصاً في المسألة المتقدمة أيضاً فقال: (وقال أبو الفضل الرازي في ((اللوائح)) بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أنّ أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفاً وجرّد طريقاً في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خارجاً عن الأحرف السبعة) ( [189] ) أهـ
35- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة ( [190] ) (ت665هـ)
وحيث إن هذا الكتاب صنفه أبو شامة لبيان حديث (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) ( [191] ) كما نص هو على ذلك ( [192] ) ، لذا فقد نقل عنه ابن حجر في هذه المسألة وما يتعلق بها في أكثر من موضع، وسمى الكتاب ب"الوَجيز" في مواضع، وفي مواضع سمىّ المصنّف ولم يذكر اسم الكتاب. ففي موضع يقول: (وقد قرر ذلك أبو شامة في " الوجيز" تقريراً بليغاً وقال: لا يقطع بالقراءة بأنها منزلة من عند الله إلاّ إذا اتفقت عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المِصر بالقراءة وأجمع أهل عصره ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت عنه فلا..) الخ كلامه. ( [193] )
وفي نفس المسألة أعاد النقل عن أبي شامة ملخِّصاً بعض كلامه، فقال: (وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عُشراً من القرآن فيخلط القراءات،..) الخ كلامه. ( [194] )(8/52)
وفي موضع آخر نقل عن "المرشد الوجيز" دون أن يسميه فقال: (وكذا قال أبو شامة: ونحن وإن قلنا إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه) ( [195] ) أهـ، وفي سياق الرد على من توهم أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة قال: (وقال أبو شامة: لم يُرد ابن مجاهد ما نسب إليه، بل أخطأ من نسب إليه ذلك ... ) ( [196] ) الخ كلامه.
36- "المغرب في ترتيب المعرب" ( [197] ) لأبي الفتح الخوارزمي ( [198] ) (ت610هـ)
هذا المصدر ذكره الحافظ استطراداً في نهاية كلام له عن اختلاف نقلة القراءات في ضبط لفظة ((فصرهن)) وتوجيهها لكنه لم ينسبه إلى أحد، ولم ينقل عنه في غير هذا الموضع – فيما وقفت عليه، ونص كلامه: (وذكر صاحب "المغرب" أن هذه اللفظة بالسريانية وقيل بالنبطية) أهـ. ( [199] )
قلت: ولم أجد هذا النص في "المغرب"، والله أعلم.
- أما القسم الثاني من هذا النوع: وهي النقول والأقوال التي أوردها الحافظ في مسائل القراءات، وسمى أصحابها، ولم يذكر أسماء كتبهم، وهي كثيرة، وسأذكر جملة من هذه النقول وأصحابها والكتب التي وجدتها فيها:
37- "الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب" ( [200] ) (ت437هـ)
نقل ابن حجر عن مكي بن أبي طالب نقولاً مطولة- وخاصة في مبحث الأحرف السبعة- وقد لخص في هذه النقول صفحات كثيرة من " الإبانة" ولم يسمه، ومن ذلك قوله: (وقال مكي بن أبي طالب:هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم، قال: وأما من ظنّ أن قراءة هؤلاء القراء كنافع ( [201] ) وعاصم ( [202] ) هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً..) الخ كلامه. ( [203] )(8/53)
وفي بيان سبب اشتهار القراء السبعة دون غيرهم، نقل نصاً مطولاً، لخّصه من عدة مواضع من الإبانة، مع تقديم وتأخير فيها، فقال: (قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ( [204] ) ويعقوب ( [205] ) ..، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة - مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدراً ومثلهم أكثر من عددهم - أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً..) إلى أن قال: (والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ووافق خط المصحف..) الخ كلامه. ( [206] )
38- "القبس في شرح موطأ ابن أنس" لأبي بكر بن العربي ( [207] ) (ت543هـ)
وهذا المصدر لم يسّمه –كما تقدم- وإنما نقل عنه نصاً بمعناه فقال: (وقال أبو بكر بن العربي ليست هذه السبعة متعينة الجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر ( [208] ) وشيبة ( [209] ) والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم) ( [210] ) أهـ.
قلت: وقد نقل الإمام ابن الجزري هذا القول بلفظ مقارب، ونص على تسمية الكتاب المذكور، وهو بمعناه في القبس. ( [211] )
39- "تبصرة المتذكر" في تفسير القرآن للكواشي ( [212] ) (ت680هـ)
وكذا نقل عنه ولم يسّمه وأورد النقل نفسه ابن الجزري وسمّى الكتاب" التبصرة)) ( [213] ) ، فقال ابن حجر: (وقال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة الآف، ومتى فُقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ) ( [214] ) أهـ.
40- "جامع البيان في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني ( [215] ) (ت444هـ)(8/54)
هذا المصدر نقل عنه الحافظ في موضع ولم يسمّه، فبعد أن ذكر قولين في معنى ((الأحرف السبعة)) وجمع بينهما، قال: (لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نبّه عليه أبو عمرو الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها..) ( [216] ) أهـ.
41- نقل عن أبي حيان ( [217] ) (ت745هـ)
لقد نقل الحافظ فيما يتعلق بالتفسير وغيره عن أبي حيان وسمى كتابه ((البحر)) في مواضع، وفي أخرى: ((تفسير أبي حيان)) ، أما ما يتعلق بالقراءات فقد نقل عنه قولاً ولم يذكر مصدره فقال: (وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راوياً..) الخ كلامه. ( [218] )
قلت: وهذا النص نقله ابن الجزري في النشر: (1/ 41) ولم أقف عليه في "البحر المحيط" فالله أعلم.
النوع الرابع: مصادر ذُكرت عرضاً، ولها تعلق بعلم القراءات.
أعني أن هذه المصادر والكتب سماها الحافظ وأشار إليها، ولكنه لم ينقل عنها نصوصاً محددة وذلك فيما اطلعت عليه من كتابه- وإنما أوردتها لاحتمال أن تكون مراجع للحافظ في علم القراءات، وإن لم ينقل عنها، وسأسردها مع الإشارة إلى مواضع ذكرها:
1- كتاب التيسير لأبي عمرو الداني (الفتح 9/32)
2- متن الشاطبية حرز الأماني للإمام الشاطبي ( [219] ) (الفتح 9/32)
3- كتاب القراءات لأبي عمرو بن العلاء (الفتح 6/602) .
قلت: عبارة الحافظ في هذا الموضع: (لأن المشهور من أولاد العلاء أبو عمرو صاحب القراءات وأبو سفيان ومعاذ..) أهـ، فيحتمل أن يقصد ب"صاحب القراءات" أي المشهور بها، أو صاحب اختيار فيها، ولا يريد تسمية كتاب بعينه، وإن كان مصنفا "معجم المصنفات" عدّوه كتاباً لأبي عمرو، وهو مفقود. ( [220] )
4- القراءات لأبي جعفر الطبري (الفتح 9/31،32)(8/55)
قلت: وهذا الكتاب ذكر في كلام نقله الحافظ عن مكي بن أبي طالب، ثم علق الحافظ على ذلك النقل ومما قاله: (وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلاً) أهـ.
5- القراءات لابن جبير ( [221] ) (الفتح 9/32) ( [222] )
6- القراءات لإسماعيل بن إسحاق القاضي ( [223] ) (الفتح 9/31) ( [224] )
- هذه مجمل المصادر التي ذكرها الحافظ في كتابه مما له علاقة بعلم القراءات، ومما تقدم يمكن تلخيص بعض الملامح العامة في منهج نقله عنها، من خلال النقاط الآتية:
1- أكثر الحافظ من النقل عن المصادر –بمختلف أنواعها وفنونها- فيما يتعلق بمسائل القراءات.
2- تنوعت مصادره في القراءات ومسائلها من حيث الفنون، فنقل عن كتب القراءات والتفسير وإعراب القرآن والحديث واللغة وغيرها.
3- اختلفت مصادره من حيث كثرة أو قلة الرجوع إليها والنقل عنها، كما يظهر من الأنواع الأربعة المذكورة.
4- الغالب في نقله كان بالمعنى، بل يندر جداً أن ينقل كلاماً بنصه.
5- أحياناً يلخص صفحات عديدة من المصدر الذي ينقل عنه ويختصرها في أسطر معدودة وينسبها إلى صاحب المصدر بقوله (قال فلان) .
6- أحياناً ينص على تسمية الكتاب ومؤلفه، وأحياناً يذكر القائل دون تسمية كتابه، وقليلاً ما يذكر اسم الكتاب وحده دون ذكر مصنفه.
7- كثيراً ما يختصر اسم الكتاب أو يشير إليه بما يدل عليه، كقوله: (ذكره الفراء في معانيه) أو (الطبري في تفسيره) .. وهكذا.
8- حرص الحافظ على عزو جميع الأقوال والنقول إلى قائليها، رغم كثرتها، ولم أقف على نص أورده دون أن يذكر قائله أو يشير إليه، وهذا غاية في أمانته رحمه الله تعالى.(8/56)
9- تتبع الحافظ أقوال العلماء واستقصاها في مسائل القراءات –وخاصة في مبحث الأحرف السبعة- مع الإشارة إلى ضعفها أو قوتها، وقد نص على ذلك في بداية كلامه عن معنى (الأحرف السبعة) فقال: (.. ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه، وسأذكر ما انتهى إليّ من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود إن شاء الله تعالى) ( [225] ) أهـ
10- أحياناً ينص الحافظ على انتهاء النقل بقوله: (انتهى) ، وكثيراً ما يعقب على النقل بما يشعر بانتهائه، كأن يذكر قولاً آخر، أو يقول: (قلت) ( [226] ) ، وأحياناً لا يتبين نهاية النقل إلا بالرجوع إلى المصدر الذي نقل عنه. ( [227] )
الفصل الثاني: آراؤه في مسائل القراءات
إن دراسة آراء الحافظ ابن حجر في مسائل القراءات لها أهمية بالغة من حيث:
1/ إنّ الحافظ أحد مشايخ القراءات الذين تلقوا هذا العلم ودرسوه، وله سند بذلك وعنده فيه إجازة من شيخه التنوخي كما تقدم.
2/ إنّ ابن حجر عالم محقق يورد الأقوال في المسألة وينقل عن العلماء المتقدمين، ويرجح ويجمع بين الأقوال، ويرد على الشبه، ويحل المشكلات، ويثرى الموضوع الذي يتناوله.
3/ إنّ بعض مسائل القراءات لا تزال شائكة ومشكلة، وتحتاج إلى توضيح وتحرير، ورأى إمام محقق مثل ابن حجر له قيمته ووزنه فيها.
4/ إنّ علم القراءات له ارتباط وثيق بعلم الحديث، وقد تبيّن ذلك جلياً من خلال النقول والآراء التي أوردها الحافظ في كتابه "الفتح".(8/57)
ومن خلال دراسة وتصنيف تلك المواضع التي أورد فيها القراءات وتكلم عن بعض مسائلها، يمكن تقسيم آرائه فيها إلى قسمين: الأول: آراء خاصة به ومن اجتهاده ونص على نسبتها لنفسه، والثاني: آراء لعلماء سابقين تبناها وأوردها مؤيداً لها، ثم إنّ تلك الآراء بقسميها تنوعت بحسب موضوعاتها: فمنها ما يتعلق بالأحرف السبعة ومنها ما يتعلق بمصطلحات علم القراءات وغير ذلك، وبيان هذه الآراء على النحو التالي:
1- أن القرآن نزل أولاً بلسان قريش ثم أنزل بالأحرف السبعة:
وقد ذكر ذلك في شرحه لحديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد ابن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم، ففعلوا) ( [228] ) .
ونقل في ذلك قول أبي شامة: (يحتمل أن يكون قوله "نزل بلسان قريش " أي ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم …) الخ.، ثم قال الحافظ: (وتكملته: أن يقال: إنه نزل أولاً بلسان قريش أحد الأحرف السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلاً وتيسيراً كما سيأتي بيانه، فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد رأى أن الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي –e – ولما له من الأولية المذكورة) ( [229] ) أهـ.
وقال في موضع آخر تأكيداً لكلام أبي شامة ما نصّه: (ويدل على ما قرره أنّه أنزل أولاً بلسان قريش ثم سهل على الأمة أن يقرؤوه بغير لسان قريش، وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة …) . ( [230] )(8/58)
قلت: وما أكده الحافظ في هذه المسألة قرره أبو شامة في عدة مواضع من كتابه ((المرشد الوجيز)) منها قوله تعليقاً على الحديث المذكور ما نصّه: (قلت: يعني أول نزوله قبل الرخصة في قراءته على سبعة أحرف) أهـ ( [231] ) .
وفي موضع آخر نقل إشارة ابن عبد البر إلى أثر عثمان المتقدم، ثم قال أبو شامة: (قلت: أشار عثمان رضي الله عنه إلى أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس، فجوّز لهم أن يقرؤوه على لغاتهم على ما سبق تقريره، لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين) أهـ. ( [232] )
قلت: وقد نقل هذا القول أيضاً السيوطي في الإتقان: 1/ 169.
2-في معنى "الأحرف السبعة ":
قال: (قوله " باب أنزل القرن على سبعة أحرف " أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة) أهـ، ثم نقل كلام أهل العلم في ذلك وقال: (وسأذكر ما انتهى إليَ من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود إن شاء الله تعالى) ( [233] ) أهـ.
وفي ضمن كلامه عن حديث عمر وهشام – رضى الله عنهما- وفيه " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه " ( [234] ) قال: (قوله " فاقرءوا ما تيسر منه " أي المنزَّل. وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسير على القارئ، وهذا يقوي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش وكذلك عمر، ومع ذلك اختلفت قراءتهما) أهـ. ( [235] ) ثم نقل قولا ذكره أبو شامة عن بعض الشيوخ؛ وهو بمعنى كلامه هذا أي القراءة باللفظ المرادف_ ثم قال:) وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي(8/59)
e، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب:" أقرأني النبي e) ( [236] ) أهـ. وفي جمعه بين من فسر معنى الأحرف باللغات ومن فسرها بالأوجه من المعاني المتفقة قال: (قلت: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات) ( [237] ) أهـ.
قلت: والخلاف في معنى "الأحرف السبعة" قديم ومشهور وطويل، وللعلماء فيه أكثر من أربعين قولاً ( [238] ) ، من أشهرها القولان اللذان جمع بينهما الحافظ، وهما قول من قال: إنّ المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وقد قال به أكثر العلماء – كما ذكره ابن عبد البر- وذهب إليه سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وغيرهم، والثاني قول من قال: إنّ المراد سبع لغات وإليه ذهب أبو عبيد وثعلب واختاره ابن عطية وصححه البيهقي، كما نقله عنهم السيوطي. ( [239] )
3- أن المجموع في المصحف إنما هو بعض الأحرف السبعة:
قال: (والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي e، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي " تجري من تحتها الأنهار " في آخر براءة ( [240] ) ، وفي غيره بحذف "من " وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدّة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدّة هاءات، وعدّة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً، وأمر النبي e بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصاً واحداً وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من اختلاف في زمن عثمان وكفّر بعضهم بعضاً اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي) ( [241] ) أهـ.(8/60)
قلت: والخلاف في هذه المسألة قديم، فقد ذهب جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أنّ المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وممن قال بذلك القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني ( [242] ) ، كما نقله عنه أبو شامة وغيره، حيث قال القاضي ما نصّه: (ليس الأمر على ما توهمتم من أنّ عثمان رضي الله عنه جمعهم على حرف واحد وقراءة واحدة، بل إنما جمعهم على القراءة بسبعة أحرف وسبع قراءات، كلها عنده وعند الأمة ثابتة عن الرسول e) أهـ. ( [243] )
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنّ هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي e على جبرائيل عليه السلام، متضمنة لها لم تترك حرفاً منها.
وقد أورد ابن الجزري هذا القول ثم قال: (قلت: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له) أهـ. ( [244] )
كما أورد الحافظ بعد هذا الرأي نقولات عديدة تؤيد ما ذكر، عن الطبري والبغوي وأبي شامة ومكي وغيرهم. ( [245] )
4- في شروط القراءة المقبولة:(8/61)
وقد نقل أقوال العلماء في ذلك، منهم مكي وابن السمعاني وأبو الفضل الرازي والكواشي، وقد نصوا على الأركان الثلاثة للقراءة الصحيحة، ومن ذلك قول مكي: (والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ووافق خط المصحف …) الخ. وكذا قول الكواشي: (كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة – أي الأحرف السبعة – فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات، عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فُقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ) ( [246] ) أهـ ثم ذكر الحافظ في آخر المبحث كلاماً له يؤيد فيه هذه الشروط، فقال ما نصه: (واستدل بقوله –e– " فاقرءوا ما تيسر منه " على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط المتقدمة، وهي شروط لا بد من اعتبارها، فمتى اختل شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة) ( [247] ) أهـ.(8/62)
قلت: ويلاحظ أن الحافظ لم ينص على اشتراط التواتر، لا في أقواله ولا في الأقوال التي أوردها فيما وقفت عليه وإنما ذكر اشتراط صحة السند مع اشتهارها كما تدل على ذلك بقية أقواله في غير هذا الموضع مما سيأتي ذكره، كما أنّه لم يحصرها في السبع أو العشر، وهو ما نسبه ابن الجزري إلى ((أئمة السلف والخلف)) فقال: (كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصحّ سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة، أم عمن هو أكبر منهم، وهذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرّح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونصّ عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمّار المهدوي وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه) أهـ ( [248] )
تنبيه: ماذكره ابن الجزري هنا من عدم اشتراط التواتر وعدم انحصار القراءات المقبولة في العشر هو قوله المتأخر في المسألة، حيث قد نص على اشتراطه أولاً في كتابه (منجد المقرئين) ثم نسخه بما ذكرته عنه (في النشر) ، وبين فراغه من تأليف الكتابين أكثر من عشرين عاماً ( [249] ) ، ثم إنه صرح برجوعه عن رأيه الأول حيث قال: (ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده، وموافقة أئمة السلف والخلف) ( [250] ) أهـ، كما أشار إلى تردده في المسألة في آخر كتابه "المنجد" بعد توقيعه على الفراغ منه. ( [251] )(8/63)
وفي التأكيد على أنّ القراءات المقبولة ليست منحصرة في القراءات السبع نقل الحافظ كلام أهل العلم في معنى الأحرف السبعة، وفيه بيان أن الأحرف غير " القراءات "، ثم ذكر شروط القراءة المقبولة، ثم قال: (وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل " التيسير والشاطبية "، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك كأبي شامة وأبي حيان وآخر من صرّح بذلك السبكي …) الخ كلامه. ( [252] )
5- في خلط القراءات ( [253] ) :
أورد الحافظ في هذه المسألة نقلاً نصه: (وذكر أبو شامة في الوجيز أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عُشراً من القرآن فيخلط القراءات، فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها، كمن يقرأ مثلاً " فتلقى آدم من ربه كلمات " فلا يقرأ لابن كثير بنصب " آدم " ولأبي عمرو بنصب " كلمات"، وكمن يقرأ " نغفر لكم " بالنون " خطاياكم " بالرفع، قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز والله أعلم) ( [254] ) أهـ. ثم علّق الحافظ على هذا النقل بقوله: (وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء انكار ذلك حتى صرح بعضهم بتحريمه، فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمداً فتابعوهم، وقالوا: أهل كل فن أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإنّ عِلم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة فإنه متى خلطها كان كاذباً على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى، كما قاله الشيخ محي الدين ( [255] ) ، وذلك من الأولوية لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، والله أعلم) ( [256] ) أهـ.(8/64)
قلت: فيظهر مما ذكر أن الحافظ يرى جواز الخلط بين القراءات بمعنى أن يقرأ كل آية-أو نحوها- بقراءة قارئ بشرط أن يكون المقروء به مما توفرت فيه شروط القراءة المقبولة ( [257] ) . وقد قال بجواز ذلك كثير من الأئمة ومنعه بعضهم –كما ذكره ابن الجزري- ثم توسط في المسألة فقال ما ملخصه: (والصواب عندنا في ذلك التفصيل والعدول بالتوسط إلى سواء السبيل فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنع من ذلك منع تحريم،وأما ما لم يكن كذلك فإنّا نفرق بين مقام الرواية وغيرها،فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضاً من حيث إنه كذب في الرواية وتخليط على أهل الدراية،وإن لم يكن على سبيل النقل والرواية بل على سبيل القراءة والتلاوة فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه ولا حظر،وإن كنّا نعيبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات …) الخ كلامه. ( [258] )
6- اعتماده القراءات السبع والمشهورة من غيرها، واعتماده كتاب ((أبى عبيد)) في القراءات المشهورة:
ويتبين هذا من تعليقه على قراءة الأعمش " وما أُوتوا من العلم إلا قليلاً" ( [259] ) الواردة في الصحيح، فقد قال في شرح حديثها ما نصه: (وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش، والله أعلم) أهـ. ( [260] ) وفي موضع آخر ذكر قراءة عمر-رضي الله عنه- التي أوردها البخاري في " وظنّ داود أنّما فتّناه" ( [261] ) بتشديد التاء فقال: (وأما قراءة عمر فمذكورة في الشواذ، ولم يذكرها أبو عبيد في القراءات المشهورة) ( [262] ) أهـ.(8/65)
قلت: وكلامه الأخير يشعر بأنّ ما ذكره أبو عبيد في كتابه كله من القراءات المشهورة، والكتاب المشار إليه حوى قراءات الأئمة السبعة وغيرهم، وقد ذكره ابن الجزري في "النشر"، وكلامه عنه فيه نوع موافقة لرأي الحافظ ابن حجر فيه، مما يفهم من سياق كلامه، قال ابن الجزري: (فإنّ القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهوراً في الأعصار الأول قِل من كُثر، ونَزر من بحر، فإنّ من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين، وذلك أنّ القراء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم كانوا أمماً لا تحصى،وطوائف لا تستقصى،والذين أخذوا عنهم أيضاً أكثر، وهلم جرا،فلما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق وقلّ الضبط وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان في ذلك العصر تصدّى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات،فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئاً مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين) ( [263] )
7- مصطلح القراءة المشهورة عنده:
لقد استخدم الحافظ مصطلح " المشهورة، الشهيرة " مرات كثيرة ( [264] ) ، ويريد بها القراءة المقبولة غالباً، وهو يذكرها في مقابل القراءة الشاذة المردودة، يدل على هذا قوله المتقدم: (وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل التيسير والشاطبية) ( [265] ) أهـ. وقال في قراءتي " يتفيؤا ظلاله" بالتاء وبالياء ( [266] ) : (وتتفيأ في روايتنا بالمثناة الفوقانية أي: الظلال، وقرئ أيضاً بالتحتانية أي شئ، والقراءتان شهيرتان) ( [267] ) أهـ.
قلت: بالتاء قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالياء قراءة الباقين. ( [268] )(8/66)
وفي قراءة " والجار ذي القربى والجار الجنب " ( [269] ) أورد إنكار الفراء لقراءة النصب فيها، ثم قال: (وكأنه نفى المشهور، وإلا فقد قرئ بها أيضاً في الشواذ) ( [270] ) أهـ. ولما نقل جملة من القراءات الشاذة في سورة الفرقان قال بعدها: (فهذه ستة وخمسون موضعاً ليس فيها من المشهور شيء) ( [271] ) أهـ.
قلت: فهذه النصوص عنه تبين أن إطلاقه للمشهور يريد به المقبول من القراءات، ويقابلها الشاذ، وهذا في غالب إطلاقاتها عنده، لكن وقع في موضع واحد – فيما وقفت عليه – أنه عدَّ قراءة الأعمش – وهي شاذة – من المشهور فيما يظهر من كلامه، والله أعلم، حيث قال في قراءة "جِبلاً" من قوله تعالى:"ولقد أضلّ منكم جِبِلاً ( [272] ) ما نصه: (وفيها ( [273] ) قراءات: ففي المشهور بكسرتين وتشديد اللام لنافع وعاصم، وبضمة ثم سكون لأبي عمرو وابن عامر، وبكسرتين واللام خفيفة للأعمش، وبضمتين واللام خفيفة للباقين، وفي الشواذ بضمتين ثم تشديد، وبكسرة ثم سكون، وبكسرة ثم فتحة مخففة، وفيها قراءات أخرى) ( [274] ) أهـ.
قلت: وهذا يؤيد ما تقدم ذكره في شروط القراءة المقبولة عنده، وأنّه لم يحصرها في السبع أو العشر، والله أعلم.
تنبيه: وفي موضع واحد – فيما وقفت عليه أيضاً – وقع منه ضد ذلك، إذ عدَّ قراءة أبي جعفر من غير المشهور فيما يفهم من كلامه، مع أنها قراءة عشرية، إذ أورد قول أبي عبيدة في قوله تعالى: (فلما أن أراد أن يبطِش بالذي هو عدوٌ لهما) ( [275] ) بالطاء مكسورة ومضمومة لغتان، ثم قال: (قلت: الكسر القراءة المشهورة هنا وفي قوله تعالى: "يوم نبطِش البطشة الكبرى " ( [276] ) والضم قراءة أبي جعفر، ورويت عن الحسن أيضاً) ( [277] ) أهـ.
قلت: فلعله أراد بالمشهورة هنا: قراءة الأكثر، والله أعلم.
8 - مصطلح "الجمهور" عنده:(8/67)
استخدم الحافظ مصطلح "الجمهور" في مواضع، وأراد به أكثر القراء العشرة-فيما يفهم من كلامه- في مقابل الأقل منهم، كقوله في قراءة "وإذاً لا يلبثون خِلَفك" ( [278] ) : (قلت: والقراءتان مشهورتان، فقرأ "خَلْفَك" الجمهور، وقرأ "خِلافك" ابن عامر والأخوان، وهي رواية حفص عن عاصم) ( [279] ) أهـ. وكذا قوله في قراءة "هنالك الوَلاية" ( [280] ) : (وقرأ الجمهور بفتح الواو، والأخوان بكسرها) أهـ ( [281] ) .
وفي مواضع أخرى أطلق مصطلح "الجمهور"وأراد به جميع العشرة ومن وافقهم، في مقابل أصحاب القراءات الشاذة، فمن ذلك قوله في قراءة "قاموا كُسالى" ( [282] ) (قلت: وهما قراءتان قرأ الجمهور بالضم وقرأ الأعرج بالفتح، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن السميفع بالفتح أيضاً، لكن أسقط الألف وسكن السين …) الخ. ( [283] ) وكذا في قراءة "أو كانوا غُزًّى" ( [284] ) حيث قال: (وقرأ الجمهور "غزّاً" بالتشديد جمع غاز …) إلى أن قال: (وقرأ الحسن وغيره "غزاً" بالتخفيف) أهـ. ( [285] ) وقال في قراءة "إنّه كان حُوباً" ( [286] ) : (والجمهور على ضم الحاء، وعن الحسن بفتحها) أهـ. ( [287] )
تنبيه (1) : وقع لدى الحافظ وَهْمٌ في نسبة قراءة سبعية إلى الشذوذ، ورجح عليها قراءة " الجمهور" حيث قال: (قوله: باب قوله تعالى " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أَيمان لهم " ( [288] ) قرأ الجمهور بفتح الهمزة من "أيمان" أي لا عهود لهم، وعن الحسن البصري بكسر الهمزة وهي قراءة شاذة، وقد روى الطبري عن طريق عمار بن ياسر وغيره في قوله "إنهم لا أيمان لهم " أي لا عهد لهم، وهذا يؤيد قراءة الجمهور) ( [289] ) أهـ.
قلت: والقراءة المشار إليها بكسر الهمزة هي قراءة ابن عامر، وليست شاذة وربما وافقه فيها الحسن ( [290] ) ، ولا مجال لترجيح قراءة الجمهور عليها، ولعل الحافظ رحمه الله تبع في ذلك الطبري الذي نص على عدم استجازة القراءة بغير الفتح، والله اعلم.(8/68)
تنبيه (2) : ووقع للحافظ وَهْمٌ آخر في قراءة "ولايأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ" ( [291] ) حيث قال: (وقال الفراء: الائتلاء: الحلف، وقرأ أهل المدينة "ولا يَتَأَلَّ" بتأخير الهمزة وتشديد اللام، وهي خلاف رسم المصحف، وما نسبه إلى أهل المدينة غير معروف وإنما نسبت هذه القراءة للحسن البصري) ( [292] ) أهـ.
قلت: والقراءة المذكورة "ولايتأل" عشرية، قرأ بها أبو جعفر المدني ووافقه الحسن، وهى لا تخالف رسم المصحف. قال ابن الجزري:
(وذكر الإمام المحقق أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم القراب في كتابه "علل القراءات" أنه كتب في المصاحف "يتل" قال فلذلك ساغ الاختلاف فيه على الوجهين انتهى) ( [293] ) أهـ.
9- حكم القراءة الشاذة عنده:
وضّح الحافظ موقفه من القراءة الشاذة في ثلاثة مواضع نص على رأيه فيها - فيما وجدته - ( [294] ) وهي:
أ- عند شرحه لحديث ابن عباس – رضى الله عنهما- في سبب نزول قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) ( [295] ) وقراءة ابن عباس لها بزيادة "في مواسم الحج " ( [296] ) حيث قال ما نصه: (وقراءة ابن عباس "في مواسم الحج" معدودة من الشاذ الذي صح إسناده وهو حجة وليس بقرآن) ( [297] ) أهـ.
ب- عند شرحه للحديث نفسه في موضع آخر، حيث ذكر قراءة ابن عباس هذه بعد أن أشار إلى الموضع السابق، وأن الطبري روى بإسناد صحيح عن أيوب عن عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك، ثم قال: (فهي على هذا من القراءة الشاذة وحكمها عند الأئمة حكم التفسير) ( [298] ) أهـ.(8/69)
ج- عند كلامه عن قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءآمنا به) ( [299] ) ، وذكر تفسير مجاهد للآية وقوله: (والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به) . ثم قال الحافظ: (وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية يقتضي أن تكون الواو في " والراسخون" عاطفة على معمول الاستثناء، وقد روى عبد الرازق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به " فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها قراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه) أهـ. ( [300] )
قلت: هذه المواضع التي وقفت فيها على نص صريح من الحافظ في بيان موقفه من القراءة الشاذة. وقد نقل الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه "القراءات الشاذة" نصاً صريحاً عن الحافظ في هذا الباب، لكني لم أقف عليه في الفتح فقال ما نصه: (واستفتي الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني عن حكم القراءة الشاذة فقال: تحرم القراءة بالشاذ وفي الصلاة أشد، ولا نعرف خلافاً بين أئمة الشافعية في تفسير الشاذ أنه ما زاد على العشر، بل منهم من ضيق فقال: ما زاد على السبع) ( [301] ) أهـ.
وقد تقدم عند الكلام عن شروط القراءة المقبولة ما يدل على أنّ الحافظ لم يحصرها في السبع ولا في العشر، فإذا صحّ نقل "القاضي" عنه دلّ على حصرها في العشر ونسخ ما تقدم.
ومن خلال تأمل أقواله السابقة يمكن استخلاص الآتي:(8/70)
1) أنّه أطلق مصطلح " القراءة الشاذّة " على ما صحّ سنده ووافق العربية لكنّه خالف رسم المصحف، وقد وافق في ذلك ما ذكره ابن الجزري في قوله: (فهذه القراءة تسمّى اليوم شاذة لكونها شذّت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحاً، فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها) أهـ ( [302] ) . وقد ذهب إلى هذا الاصطلاح مكي بن أبي طالب وأبو القاسم الهذلي وأبو شامة وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم كثير. ( [303] )
2) أنّه اعتبر القراءة الشاذة – بالمعنى المذكور حجة وليست بقرآن، وأنّ حكمها حكم التفسير. وقد نصّ على هذا كثير من الأئمة، منهم أبو عبيد حيث قال ما ملخصه: (المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة، وتبيين معانيها، كقراءة عائشة وحفصة: (الوسطى صلاة العصر) أي من قوله تعالى" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" ( [304] ) ، وقراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما) أي من قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" ( [305] ) ، وقراءة جابر: (فإنّ الله من بعد إكراههن لهنّ غفور رحيم) . ( [306] ) قال: فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن. وقد كان يُروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل) . ( [307] )
قلت: وقد عبّر ابن الجزري عن حكم هذا النوع بقوله: (فهذا يُقبل ولا يُقرأ به) أهـ. ( [308] )
كما نقل السيوطي عن القاضيين أبي الطيب والحسين وعن الروياني والرافعي والسبكي العمل بالقراءة الشاذة تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد، والله أعلم. ( [309] )
10-موقفه من الترجيح بين القراءات:
الغالب من فعل الحافظ أنه لا يرجح بين القراءات المقبولة فيما وقفت عليه لكن في مواضع قليلة جداً أورد ما يشعر بالترجيح، ومنها:(8/71)
أ- في كلامه عن قراءة "أقتلت نفساً زكيّة" ( [310] ) حيث أورد رواية البخاري: (وكان ابن عباس يقرؤها "زكية") ثم قال: (وهي قراءة الأكثر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "زاكية"، والأُولى أبلغ لأن فعيلة من صيغ المبالغة) ( [311] ) أهـ.
ب- ذكر في قراءة "وقال لأوتيّن مالاً وولداً" ( [312] ) نقلاً عن الطبري فيه ترجيح لقراءة الجمهور، ولم يعلق عليه، فقال: (قراءة الأكثر بفتحتين، والكوفيين سوى عاصم بضم ثم سكون، قال الطبري: لعلهم أرادوا التفرقة بين الواحد والجمع، لكن قراءة الفتح أشمل وهي أعجب إليّ) ( [313] ) أهـ.
ج- بعد أن ذكر قراءة "ما ننسخ من آية أو نُنْسها" ( [314] ) بضم النون وكسر السين بغير همز، ثم قراءة (نَنْسأَها) بفتح النون والسين مع الهمز، قال: (والأول قراءة الأكثر واختارها أبو عبيدة وعليه أكثر المفسرين، والثانية قراءة ابن كثير وأبي عمرو وطائفة) أهـ.
ثم أثناء شرحه للحديث الذي وردت فيه ( [315] ) أورد أثراً عن ابن عباس قال: (خطبنا عمر فقال: إن الله يقول " ما ننسخ من آية أو نَنْسأَها " أي نؤخرها) . ثم قال الحافظ: (وهذا يرجح رواية من قرأ بفتح أوله وبالهمز، وأما قراءة من قرأ بضم أوله فمن النسيان) ( [316] ) أهـ.
قلت: ما ذكره الحافظ من ترجيح أو ما يشعر به لقراءة مقبولة على مثلها، لا يُوافق عليه، إذ قرر أهل العلم: (إذا ثبتت القراءتان لم ترجَّح إحداهما- في التوجيه- ترجيحاً يكاد يسقط الأخرى، وإذا اختلف الإعرابان لم يفضَّل إعراب على إعراب. كما لا يقال بأنّ إحدى القراءتين أجود من الأخرى) . ( [317] )
وقد نبّه على ذلك العلماء حيث نقل السيوطي هذا المعنى عن عدد منهم فقال: (قال الكواشي: ... ، إلاّ أنّه ينبغي التنبيه على شيء وهو أنّه قد تُرجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاٌ يكاد يسقطها وهذا غير مرضي، لأنّ كلاً منهما متواتر.(8/72)
وعن ثعلب أنّه قال: إذا اختلف الإعرابان في القرآن لم أفضّل إعراباً على إعراب.
وقال أبو جعفر النحاس: السلامة عند أهل الدّين، إذا صحت القراءتان ألاّ يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعاً عن النّبيّ e فيأثم من قال ذلك.
وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين قراءة "مَالِكِ"و"مَلِكِ" حتى إنّ بعضهم يبالغ إلى حدّ يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين.
وقال بعضهم: توجيه القراءة الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة) . ( [318] )
11-آراؤه في مسائل أخرى تتعلق بالقراءة والأداء:
أ - رأيه في مقدار المد الأصلى وغير الأصلى:
قال: (فالأول يؤتى فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولاً وقد يزاد على ذلك قليلاً، وما فرط فهو غير محمود) ( [319] ) أهـ.
قلت: وما ذهب إليه في تقدير المدّ الأصلي عبّر عنه أهل التجويد ب"مقدار ألِفَين"، وما ذكره في "المذهب الأعدل" قدّروه "بأربع ألِفَات"، وبعضهم يعبّر عنه ب"الحركات" بدل "الألِفَات"، وهذا مما تحكم المشافهة حقيقته، ويبين الأداء
كيفيّته، وتوضحه الحكاية. ( [320] )
ب- رأيه في القراءة بالأنغام:(8/73)
بعد أن شرح حديث التغني بالقرآن ( [321] ) وذكر الأقوال في معناه، أورد خلاف العلماء في القراءة بالألحان، ثم قال في آخره: (والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسناً "فليحسنه ما استطاع" كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح ( [322] ) . ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسناً بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً فلا شك في أنّه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم) ( [323] ) أهـ.
قلت: هذه المسألة محلّ بحث ونظر، وقد أورد الحافظ خلاف العلماء فيها وخلاصته:
1) أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حدّ القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه حرم، حكاه النووي. ( [324] )
2) اختلف العلماء في القراءة بالألحان، فحكي عن مالك تحريمه، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطّال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبنديجي والغزالي من الشافعية وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة. وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهذا هو المنصوص للشافعي ونقله الطحاوي عن الحنفية.
3) إنّ محل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغيّر أجمعوا على(8/74)
تحريمه. ( [325] ) قال الماوردي فيما حكاه عنه النووي: (القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه، أو قصر ممدود أو مدّ مقصور أو تمطيط يخلّ به بعض اللفظ ويلتبس المعنى، فهو حرام يُفسَّق به القارئ، ويأثم به المستمع، لأنّه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج، والله تعالى يقول: ((قُرْءآناً عربياً غَيْرَ ذِيْ عِوَجٍ)) ( [326] ) ، قال: وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله، كان مباحاً، لأنّه زاد بألحانه في تحسينه) . ثمّ قال النووي: (وهذا القسم الأول من القراءة بالألحان المحرمة معصية ابتلي بها بعض العوام الجهلة، والطغام الغشمة، الذين يقرؤون على الجنائز وفي بعض المحافل، وهذه بدعة محرمة ظاهرة) . ( [327] )
ج) في معنى التلاوة، والفرق يبن لفظتي: "القرآن" و "القراءة":
قال: (قوله: باب قول الله تعالى "قل فأْتُوا بالتَوراةِ فاتْلوها" ( [328] ) مراده بهذه الترجمة أن يبين أن المراد بالتلاوة القراءة، وقد فسرت التلاوة بالعمل، والعمل من فعل العامل، وقال في كتاب "خلق أفعال العباد" ذكر e أن بعضهم يزيد على بعض في القراءة وبعضهم ينقص، فهم يتفاضلون في التلاوة بالكثرة والقلة، وأما المتلو وهو القرآن فإنه ليس فيه زيادة ولا نقصان، ويقال فلان حسن القراءة وردىء القراءة، ولا يقال حسن القرآن ولاردىء القرآن، وإنما يسند إلى العباد القراءة لا القرآن، لأنّ القرآن كلام الرب سبحانه وتعالى، والقراءة فعل العبد، ولا يخفى هذا إلا على من لم يوفق، ثم قال: تقول قرأت بقراءة عاصم، وقراءتك على قراءة عاصم، ولو أن عاصماً حلف أن لا يقرأ اليوم ثم قرأت أنت على قراءته لم يحنث هو، قال: وقال أحمد لا تعجبني قراءة حمزة، قال البخاري: ولا يقال لايعجبني القرآن فظهر افتراقهما) ( [329] ) أهـ.(8/75)
قلت: هذه بعض آراء الحافظ – رحمه الله – في مسائل القراءة، وقد تركت أقوالاً له في هذا الباب اختصاراً. والله أعلم.
الخاتمة وأهم النتائج:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فمن خلال الجهد المتواضع في هذا البحث المختصر في الكتاب البحر " فتح الباري " يمكن تلخيص النتائج الآتية:
1- حاجة علم القراءات إلى مزيد من عناية الباحثين من طلبة العلم دراسةً وتحقيقاً وتحريراً، وذلك لقلة مراجعه المنشورة بالنسبة لغيره من العلوم.
2- لعلماء الحديث وشارحيه جهود مباركة كبيرة في العناية بالقراءات وعلومها تلقياً ونقلاً لها واستدلالاً بها، وهذه الجهود تحتاج إلى من يبرزها من الباحثين، وفي هذا خدمة عظيمة للقرآن الكريم وقراءاته.
3- لقد حوى هذا الكتاب العظيم – فتح الباري- نقولات عديدة عن بعض كتب القراءات المفقودة، وجمع هذه النقول ودراستها يثري علم القراءات ويفيد المعنيين به.
4- لقد أكثر الحافظ – رحمه الله – من إيراد القراءات والاستدلال بها، وله آراء متميزة في كثير من مسائلها.
5- هذا الكتاب – فتح الباري- فيه ركاز عظيم من العلوم والفنون، ويحتاج إلى خدمة كبيرة ودراسة دقيقة، لاستخراج كنوزه ودرره.
6- إنّ إبداء الملاحظات والتنبيه على بعض المآخذ والأوهام لدى الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في بعض مسائل القراءات، لا يعد طعناً في المصنف ولا يقلل من قدره، ولا ينقص من قيمة كتابه، ولكن كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله e.
هذا وأسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، والله أعلم، وقد كان الفراغ منه أول ليلة من رمضان عام 1421هـ بمكة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الهوامش والتعليقات
---
( [1] ) وهي تحت الإعداد أسأل الله أن يعين على إتمامها.(8/76)
( [2] ) انظر "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" لمشهور بن سليمان ورائد صبري ص440، و"المجمع المؤسس" لابن حجر:1/11.
( [3] ) سيأتي التعريف بالحافظ وكتابه في التمهيد لهذا البحث.
( [4] ) انظر على سبيل المثال كلامه عن كتاب (الجامع الأكبر والبحر الأزخر) الفتح 9/36.
( [5] ) ومن ذلك كلامه الطويل عن الأحرف السبعة كما في الفتح 9/23-44.
( [6] ) المجمع المؤسس: 1/88،201.
( [7] ) هو محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، أبو الخير، جامع القراءات وإمامها وألف فيها كتباً جليلة توفي سنة 833هـ (غاية النهاية 2/247) .
( [8] ) المجمع المؤسس 3/225،228.
( [9] ) انظر الفتح 2/421.
( [10] ) انظر اللسان 1/128، القاموس 1/25.
( [11] ) منجد المقرئين ص3.
( [12] ) المنجد ص15.
( [13] ) انظر المنجد ص16.
( [14] ) انظر النشر 1/14.
( [15] ) انظر: فتاوى ابن تيمية (13/391) ، البرهان للزركشي (1/326) ، أضواء البيان (2/8) .
( [16] ) النجم آية:4-5.
( [17] ) أخرجه أحمد في المسند 4/131، وأبو داود 4/10، كتاب السنة، باب لزوم السنة، والطبراني في مسند الشاميين 2/137، وهو حديث صحيح: (انظر صحيح سنن أبي داود للألباني:3/870 رقم 3848) .
( [18] ) انظر الرسالة للشافعي ص91، قواعد التفسير 1/142.
( [19] ) انظر:"القراءات وأثرها في التفسير والأحكام" 1/242.
( [20] ) لقد ترجم الحافظ لنفسه في عدد من مصنفاته مثل: (رفع الإصر عن قضاة مصر، وإنباء الغمر بأخبار العمر، الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) ، كما ترجم له غيره كتلميذه السخاوي في الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، وفي الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 2/36، السيوطي في حسن المحاضرة 1/363، وفي طبقات الحفاظ ص552،وغيرذلك.
( [21] ) انظر المجمع المؤسس في المعجم المفهرس:1/11.
( [22] ) انظر: الجواهر والدرر (خ-ورقة 253-273) ، "الروايات التفسيرية في فتح الباري" لعبد المجيدالشيخ:1/37.(8/77)
( [23] ) انظر الجواهر والدرر (ق150-160) ، "ابن حجر ومصنفاته"، د. شاكر عبد المنعم 1/157-398.
( [24] ) انظر الجواهر والدرر - الباب الثالث، حسن المحاضرة 1/363.
( [25] ) انظر: "الروايات التفسيرية في الفتح" 1/50.
( [26] ) طبقات الحفاظ ص552.
( [27] ) فهرس الفهارس 1/323، وأصله حديث أخرجه البخاري في أول كتاب الجهاد والسير 6/13 (الفتح) ومسلم في كتاب الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة 3/1487.
( [28] ) انظر في ذلك: مقدمة الفتح 465-493، السير 12/391، تذكرة الحفاظ 2/122، تهذيب التهذيب 9/47 وغيرها.
( [29] ) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، المحدث الثقة العالم، راوي الجامع الصحيح عن البخاري، توفي سنة 320هـ (انظر السير15/10) .
( [30] ) هو يحيى بن شرف بن مري حسن بن حسين بن حزام النووي، أبو زكريا، محي الدين، علامة الفقه الشافعي والحديث واللغة، توفي سنة 676هـ (انظر طبقات الشافعية للسبكي 5/165) .
( [31] ) شرح النووي على مسلم: 1/14
( [32] ) ومن ذلك النقل عن الهذلي ومكي بن أبي طالب وأبي علي الفارسي وغيرهم كما سيأتي بيانه.
( [33] ) رتبت المصادر – غالباً- بحسب كثرة ذكر الحافظ لها ونقله عنها، مع التنصيص على تسميتها.
( [34] ) هو: القاسم بن سلاّم –بتشديد اللام- أبو عبيد الأزدي مولاهم، إمام عصره في كل فن من العلم، صنف في القراءات والحديث والفقه واللغة وغيرها، منها القراءات ومعاني القرآن، توفي بمكة سنة 224هـ (انظر غاية النهاية 2/18، السير 10/490) .
( [35] ) انظر على سبيل المثال: 1/224، 6/457، 466، 8/698، 9/34.
( [36] ) هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي، إمام جليل قارئ، توفي سنة 148هـ، انظر (غاية النهاية 1/315، معرفة القراء 1/94) .
( [37] ) يعني آية الإسراء: 85، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) .
( [38] ) الفتح 1/224.
( [39] ) سورة ص آية: 24.
( [40] ) الفتح 6/457.(8/78)
( [41] ) يؤكد ذلك ما توصل إليه الباحث"عبد الباقي سيسي" في رسالته:"اختيارات أبي عبيد.."، حيث تتبع اختياراته فلم يجدها خرجت عن السبعة في حرف منها، وقد نوقشت الرسالة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1421هـ.
( [42] ) انظر الكلام عنه في النشر:1/34، الفهرست ص38.
( [43] ) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي، أبو زكريا المعروف بالفراء، شيخ النحاة، كان يحب الكلام ويميل إلى الاعتزال، له معاني القرآن، الحدود، اللغات، وغيرها توفي سنة 207هـ. انظر (تهذيب التهذيب11/212، غاية النهاية 2/371) .
( [44] ) انظر الفتح 3/226، 10/148، 8/725، 289، 9/34، 35.
( [45] ) المعارج: 43.
( [46] ) الفتح 3/226، وانظر معاني القرآن 3/186.
( [47] ) البقرة 260.
( [48] ) الفتح 8/201 وانظر معاني القرآن 1/174.
( [49] ) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث، أبو بكر السجستاني، ابن الإمام أبي داود صاحب السنن، ثقة مشهور، توفي سنة316هـ (انظر غاية النهاية 1/420) .
( [50] ) من قوله تعالى: "فلا جناح عليه أن يطوّف بهما" البقرة:158.
( [51] ) الفتح 3/499 وانظر كتاب المصاحف 1/287،326.
( [52] ) الفتح 8/734 وانظر المصاحف 1/343،والآية:"إذا جاء نصر الله والفتح"النصر: 1.
( [53] ) والقراءة المتواترة:"الحيّ القيّوم" آل عمران:2.
( [54] ) الفتح 8/666 وانظر المصاحف 1/282. وأثر عمر المذكور رواه عنه أيضاً: أبو عبيد في فضائل القرآن ص 168،والحاكم في مستدركه وصححه (2/278) ، وعزاه السيوطي إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد (الدر المنثور:2/141) ، وإسناده حسن لغيره كما ذكره محقق "كتاب المصاحف":1/283.
( [55] ) هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقرئ، أبو بكر، شيخ القراء في زمانه، أول من سبع السبعة، توفي سنة 324هـ. (انظر غاية النهاية 1/139) .
( [56] ) الفتح 3/226، وانظر السبعة ص651، وكلامه المنقول إنما هو بمعناه.
( [57] ) الفتح 9/34 وانظر السبعة ص468.(8/79)
( [58] ) هو أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود، أبو العباس الحلبي شهاب الدين، المعروف بالسمين النحوي، إمام كبير، ألف تفسيراً كبيراً وإعراباً جليلاً وشرح الشاطبية، توفي سنة 756هـ (انظر غاية النهاية1/152، بغية الوعاة 1/402 وفيه أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي) .
( [59] ) انظر الفتح 6/307، وانظر الدر المصون 2/18-20.
( [60] ) يعني أبا حيان صاحب البحر المحيط، الذي نقلها عن ابن عطية عن أبي الحسن الرماني (انظر الفتح 10/460)
( [61] ) الفتح 10/460 وانظر الدر المصون 7/341.
( [62] ) العقد النضيد في شرح القصيد للسمين الحلبي: لوحة 2ب "مخطوط".
( [63] ) الدرر الكامنة: 1/361.
( [64] ) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، إمام التفسير والقراءات والفقه والتاريخ، له كتاب (القراءات) وغيره، توفي سنة 310هـ (انظر غاية النهاية 2/106) .
( [65] ) الفتح 3/499، وانظر تفسير الطبري 2/54.
( [66] ) المزمل: 6 وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر (انظر النشر 2/393) .
( [67] ) الفتح 3/23، وانظر الطبري 12/283.
( [68] ) الانشقاق: 19.
( [69] ) الفتح 8/698، وانظر الطبري 12/513.
( [70] ) والآية بدون (في مواسم الحج) في البقرة:198.
( [71] ) هو أيوب السختياني، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي مولاهم، إمام حافظ من صغار التابعين، توفي سنة 131هـ.
( [72] ) هو عكرمة مولى ابن عباس، العلامة الحافظ المفسر، أبو عبد الله القرشي مولاهم، المدني، البربري الأصل، تابعي جليل، توفي سنة 105هـ (انظر السير 6/15، 5/12) .
( [73] ) الفتح:3/595، وانظر تفسير الطبري:2/294.
( [74] ) أي قوله تعالى (وادّكر بعد أمة) من سورة يوسف: 45.
( [75] ) الفتح 12/382، وانظر كلام الطبري في تفسيره 7/226.
( [76] ) انظر: المحتسب:1/344، الإتحاف:2/148.(8/80)
( [77] ) هو عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن محمد، أبومعشر الطبري القطان الشافعي، إمام عارف محقق أستاذ ثقة صالح، له مؤلفات في القراءات وغيرها، منها: التلخيص والجامع وسوق العروس والرشاد، توفي سنة 478هـ. (غاية النهاية:1/401) .
( [78] ) انظر مثال ذلك في الفتح:8/429، وانظره في تفسير الطبري:8/376.
( [79] ) من سورة المعارج:43.
( [80] ) هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، مولى زيد بن الثابت، تابعي جليل، وعالم زاهد، توفي سنة (110هـ) انظر السير 4/563.
( [81] ) الفتح 3/226.
( [82] ) انظر النشر 2/391، وفي الإتحاف 2/562: (وعن الحسن بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول) أهـ. وانظرها أيضاً في القراءات الشاذة للقاضي ص:89.
( [83] ) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله، محب الدين أبو البقاء العكبري البغدادي الضرير النحوي الحنبلي، كان ثقة صدوقاً، صنف: إعراب القرآن، إعراب الحديث، إعراب الشواذ، التفسير وغيرها كثير، توفي سنة 616هـ (انظر بغية الوعاة 2/38-40) .
( [84] ) الأنعام:73، ووردت لفظة"الصور" في عدة سور غيرها.
( [85] ) انظر الفتح 8/289، وانظر إعراب القراءات الشواذ للعكبري 1/488.
( [86] ) الفاتحة:2، وغيرها.
( [87] ) الفتح 10/316 وانظر إعراب الشواذ 1/90.
( [88] ) البقرة: 260.
( [89] ) الفتح 8/201، 9/34، وانظر إعراب الشواذ 1/273.
( [90] ) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي، أو عمر، صاحب التصانيف الفائقة، حافظ المغرب في زمانه، محدث ومؤرخ وأديب، عاش 95 عاماً وتوفي سنة 463هـ (انظر السير 18/153، والاعلام8/240) .
( [91] ) انظر الفتح 9/33-36 علماً بأن الحافظ أضاف من الحروف المختلف فيها أكثر مما أورده ابن عبد البر، وانظر التمهيد 8/314.(8/81)
( [92] ) هو عيسى بن عبد العزيز بن عيسى بن عبد الواحد بن سليمان اللخمي، روى الحديث عن ألف وخمسمائة شيخ، له تصانيف كثيرة في القراءات والرسم والتجويد واللغة وغيرها، توفي سنة 629هـ. (انظر بغية الوعاة 2/235، غاية النهاية 1/609) .
( [93] ) الفتح 9/36-38.
( [94] ) انظر: النشر (1/35) ، كشف الظنون (1/425) .
( [95] ) هو يوسف بن علي بن جبارة بن محمد بن عقيل بن سوادة، أبو القاسم الهذلي، أستاذ رحّال، طاف البلاد في طلب القراءات، ولقي في هذا العلم 365شيخاً، كما ذكر ذلك عن نفسه في الكامل، توفي سنة 465هـ (انظر غاية النهاية 2/397، معرفة القراء1/346) .
( [96] ) الفرقان:25.
( [97] ) الفتح 9/34 وانظر الكامل (خ) لوحة: 224أ.
( [98] ) الفرقان:53.
( [99] ) هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب، أبو محمد، الهمداني الكوفي، تابعي كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه، توفي سنة 112هـ (انظر غاية النهاية 1/343) .
( [100] ) الفتح 9/35، وانظر الكامل لوحة:224أ.
( [101] ) الفرقان:77.
( [102] ) الفتح 9/36، وأبان بن تغلب الربعي، أبوسعد، الكوفي النحوي، عالم جليل، توفي سنة 141هـ (انظر غاية النهاية 1/4) .
( [103] ) البقرة:198.
( [104] ) الفتح 3/527، وكلمة (المشعر) وردت في هذا الموضع في حديث رقم 1676 من كتاب الحج من الصحيح، وانظر الكامل لوحة:167ب.
( [105] ) الآية: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) السجدة:17، وانظر القراءة المذكورة في: المحتسب:2/174، الإتحاف:2/367.
( [106] ) الفتح 8/517، وانظر فضائل القرآن ص181.
( [107] ) في الفتح (أبو عبيدة) في كلا الموضعين 8/517،666 وهو خطأ.
( [108] ) الفتح 8/666 وانظر فضائل القرآن ص168. وأثر عمر سبق تخريجه (انظر هامش 52) .
( [109] ) هو معمر بن المثنى، مولى بني تيم أبو عبيدة، اللغوي البصري، عالم باللغة والأدب له نحو 200مصنف، توفي سنة 209هـ، أو نحوها (انظر بغية الوعاة 2/294، الاعلام 7/272) .(8/82)
( [110] ) من قوله تعالى: (إلى نصب يوفضون) ، المعارج: 43.
( [111] ) انظر الفتح 3/226، وانظر مجاز القرآن 2/270.
( [112] ) انظر الفتح 12/382، وانظر مجاز القرآن 1/313.
( [113] ) هو عثمان بن جني الموصلي، أبو الفتح، إمام العربية، صاحب التصانيف، لزم أبا علي الفارسي أربعين سنة توفي سنة 392هـ (انظر السير 17/17، بغية الوعاة 2/132) .
( [114] ) الفرقان:10.
( [115] ) الفتح 9/33، وانظر المحتسب 2/118 وعبارته: (وليس قوياً مع ذلك) أهـ.
( [116] ) الفرقان:17 وهي هنا على قراءة الجمهور بنون العظمة، انظر النشر 2/333، معاني القراءات للأزهري2/214.
( [117] ) الفتح 9/33.
( [118] ) المحتسب:2/119
( [119] ) الفرقان:53.
( [120] ) الفتح 9/35، وانظر المحتسب2/124 بمعناه.
( [121] ) هو سهل بن محمد بن عثمان، أبو حاتم السجستاني، إمام أهل البصرة في النحو والقراءة واللغة والعروض، قال ابن الجزري: (وأحسبه أول من صنف في القراءات) أهـ، توفي سنة 255هـ. (انظر غاية النهاية 1/320، بغية الوعاة 1/606) .
( [122] ) الفتح 9/31.
( [123] ) الفتح 9/35.
( [124] ) الفرقان:67.
( [125] ) الفتح 9/36.
( [126] ) انظر النشر: 2/334.
( [127] ) الفتح 9/36.
( [128] ) وانظر الكلام عنه في الفهرست ص38، كشف الظنون ص1449.
( [129] ) هو الفضل بن شاذان بن عيسى، أبو العباس، الرازي المقرئ، الإمام الكبير، ثقة عالم، قال ابن الجزري: (مات في حدود التسعين ومائتين) أهـ، (انظر غاية النهاية2/10، معرفة القراء1/191) .
( [130] ) الزخرف:26، وانظر القراءة المذكورة في الإتحاف2/455.
( [131] ) الفتح 8/568.
( [132] ) وقد ذكره له في الفهرست ((287)) .
( [133] ) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبوبكر، الحميري مولاهم، الصنعاني، الحافظ الكبير، عالم اليمن، الثقة، توفي سنة 211هـ (انظر الجرح والتعديل 6/38، السير 9/563) .
( [134] ) الفتح 6/287، وانظر تفسير عبد الرزاق 2/102.
( [135] ) الروم: 27.(8/83)
( [136] ) هو إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر، الفارابي، إمام اللغة والأدب، ومن فرسان الكلام والأصول، توفي سنة 393هـ (انظر بغية الوعاة 1/446) .
( [137] ) الأنعام: 73 وغيرها.
( [138] ) الفتح 8/289، وانظر الصحاح 2/716.
( [139] ) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، المفسر، إمام متقن عابد، توفي سنة 671هـ (انظر: مقدمة"الجامع لأحكام القرآن، الأعلام 5/322) .
( [140] ) من سورة الفرقان:19.
( [141] ) الفتح 9/34، والقراءة المذكورة شاذة.
( [142] ) تفسير القرطبي 7/10.
( [143] ) هو علي بن أحمد بن محمد، أبو الحسن، الواحدي النيسابوري المفسر، صاحب الوجيز والوسيط والبسيط في التفسير، إمام كبير، توفي سنة 468هـ (انظر غاية النهاية 1/523) .
( [144] ) النساء:24.
( [145] ) النساء:25.
( [146] ) الفتح 12/161.
( [147] ) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين، توفي ببغداد سنة 276هـ (انظر السير:13/296، الإعلام 4/137) .
( [148] ) الفتح 9/28، وانظر تأويل مشكل القرآن ص39.
( [149] ) الفتح 3/527.
( [150] ) وانظر الفهرست ص86.
( [151] ) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، المفسر المصري النحوي، المعروف بالنحاس أو ابن النحاس، له إعراب القرآن، ومعاني القرآن وغيرها، توفي سنة 338هـ (انظر السير 15/401، بغية الوعاة 1/362) .
( [152] ) الفتح 8/289.
( [153] ) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان، أبو علي الفارسي، المشهور في علم العربية والبارع فيها، توفي ببغداد سنة 377هـ، (انظر غاية النهاية 1/496) .
( [154] ) البقرة:260.
( [155] ) الفتح 8/201.(8/84)
( [156] ) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي القرشي العدوي العمري الصغاني –ويقال الصاغاني- الحنفي، أبو الفضائل، إمام اللغة وصاحب التصانيف، توفي سنة 650هـ. (انظر السير 23/282، بغية الوعاة:1/519) .
( [157] ) الفتح 1/51، وانظر أمثلة أخرى في 2/109، 11/331.
( [158] ) الأحقاف:4.
( [159] ) الفتح 11/532.
( [160] ) انظر السير 23/283، معجم المصنفات ص283، كشف الظنون 2/1122.
( [161] ) هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، الحميري الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة، وحجة الأمة، توفي سنة 179هـ (انظر السير 8/48) .
( [162] ) والآية بدون (متتابعات) من سورة البقرة:185.
( [163] ) الفتح 4/189 وانظر الموطأ 1/305.
( [164] ) هو أبو جعفر، أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، فقيه مشهور، له مؤلفات في الفقه والأحكام وغيرها، توفي سنة 321هـ (انظر السير:15/27، الأعلام 1/206) .
( [165] ) الفتح 3/499، وانظر مشكل الآثار 10/90.
( [166] ) انظر على سبيل المثال 2/223، 7/15، 8/318 وغيرها.
( [167] ) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أبو بكر، فقيه مجتهد حافظ، صاحب تصانيف في الفقه والتفسير وغيرها، توفي سنة 319هـ. (انظر السير 14/490، الاعلام 5/294) .
( [168] ) الفتح 3/499.
( [169] ) انظر الفتح 1/48، 6/620، 621.
( [170] ) انظر معجم المصنفات ص122.
( [171] ) هو عبد الواحد بن التين السفاقصي، له شرح للبخاري سماه (المنجد الفصيح في شرح البخاري الصحيح) توفي سنة 611هـ (انظر كشف الظنون 1/546) .
( [172] ) الفتح 8/201.
( [173] ) هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق، الزجاج، عالم بالنحو واللغة، وله مؤلفات فيها، مات ببغداد سنة 311هـ (انظر بغية الوعاة:1/411، الأعلام 1/40) .
( [174] ) المائدة:106-108.
( [175] ) الفتح 5/410 وانظر المعاني للزجاج: 2/216.(8/85)
( [176] ) هو أحمد بن عمار بن أبي العباس، أبو العباس المهدوي أستاذ مشهور، له مؤلفات في التفسير والقراءات وغيرها، توفي بعد 430هـ (غاية النهاية 1/92) .
( [177] ) الفتح 9/30 وانظر شرح الهداية 1/5.
( [178] ) هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي الشافعي، من أئمة السلف والسنة، صنف في التفسير والحديث مؤلفات قيمة، توفي سنة 516هـ (السير 19/439، الأعلام 2/259) .
( [179] ) الفتح 9/30.
( [180] ) انظر شرح السنة 4/511.
( [181] ) هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي، أبو الحسن، تقي الدين، أحد الحفاظ المفسرين، وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات، توفي سنة 756هـ، (انظر طبقات الشافعية 6/146، غاية النهاية 1/551) .
( [182] ) الفتح 9/32 وانظر كلام السبكي في النشر 1/44،وقد أشار إليه ابنه تاج الدين السبكي في كتابه"منع الموانع"ص335،352
( [183] ) انظر كشف الظنون 2/1873، وقد سمّى مؤلف "معجم المصنفات ص252" الكتاب ب" شرح المنهاج للبيضاوي" وذكر أنه طبع مرات في مصر وبيروت، والذي ظهر لي أنّ هذا كتاباً آخر وهو في علم الأصول، وأما الكتاب الذي ينقل منه الحافظ فهو في الفقه، وقد نقل منه مسائل فقهية في عدة مواضع (انظر الفتح:2/105،314 4/263،2685/64) ، وهو المذكور في ترجمة "تقي الدين السبكي"،ولم أجد عنه شيئاً في فهارس المطبوعات والمخطوطات، كما أني لم أجد النص المنقول في المطبوع –"شرح منهاج البيضاوي"- والله أعلم.
( [184] ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن، أبو محمد، السرخسي، القرّاب، مقرئ وإمام في القراءات والفقه والأدب، وألف كتاباً في مناقب الشافعي، توفي سنة 414هـ وليس في ترجمته من كنّاه بابن السمعاني، فيما وقفت عليه. (انظر السير:17/379،غايةالنهاية:1/160،الأعلام:1/307) .
( [185] ) الفتح 9/32.
( [186] ) انظر النشر:1/46، كشف الظنون 2/1023.(8/86)
( [187] ) كذافي "الفتح" 9/32،وفي الإتقان للسيوطي:1/165: (اللوائح) بالهمز، وفي النشر 1/48،وكشف الظنون 2/473: (اللوامح) بالميم، ولم أقف علىشيئ بخصوصه في فهارس المطبوعات والمخطوطات التي اطلعت عليها، غير أنّ ابن الجزري ذكر في"المنجد ص73"أنّ للمصنِّف كتاباً في معاني حديث "الأحرف السبعة" فربما كان هو والله أعلم.
( [188] ) هو عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار العجلي، الرازي، المقرئ، شيخ الإسلام، الثقة، الورع، مؤلف كتاب (جامع الوقوف) وغيره، توفي سنة 454. (انظر السير 18/135، غاية النهاية 1/361) .
( [189] ) الفتح 9/32، وانظر هذا النقل بنصه تقريباً في النشر 1/43-44.
( [190] ) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، أبو القاسم، المقدسي الشافعي، أبو شامة، حجة علامة حافظ للفنون، وصنف الكثير في أنواع من العلوم، توفي سنة 665هـ (غاية النهاية 1/365) .
( [191] ) الحديث متواتر، وممن أخرجه البخاري 9/23 (الفتح) ك: فضائل القرآن، باب (أنزل القرآن على سبعة أحرف) ، ومسلم 1/560 ك: صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وأبو داود 2/158 برقم 1475، والترمذي في كتاب القراءات برقم 2944 والنسائي في كتاب الصلاة 2/152 وغيرهم.
( [192] ) انظر المرشد الوجيز ص73.
( [193] ) الفتح 9/38، وانظر هذا الكلام بمعناه في المرشد الوجيز ص177.
( [194] ) الفتح 9/38 وانظر كلام أبي شامة بطوله في المرشد الوجيز ص183-185.
( [195] ) الفتح 9/33 والكلام بنص مقارب جداً في المرشد الوجيز ص173.
( [196] ) الفتح 9/31 وانظره في المرشد الوجيز ص146.
( [197] ) في معجم المصنفات ص403: (ولعله المغرب في ترتيب المعرب) أهـ، وهو كتاب مطبوع في مجلد واحد.
( [198] ) هو ناصر بن عبد السيد بن علي، أبو الفتح، الخوارزمي المطرزي، عالم باللغة، وفقيه حنفي، معتزلي، توفي سنة 610هـ (بغية الوعاة 2/311، الأعلام 7/348) .
( [199] ) الفتح 8/201.(8/87)
( [200] ) هو أبو محمد مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي، إمام محقق في القراءات والعربية وغيرها، له نحو من تسعين مصنفاً منها: التبصرة، والكشف، والهداية، وتفسير مشكل القرآن، توفي سنة 437هـ (انظر غاية النهاية 2/309) .
( [201] ) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المشهورين، أقرأ الناس نيفاً عن سبعين سنة، توفي سنة 169هـ (انظر غاية النهاية 2/330) .
( [202] ) هو عاصم بن بهدلة أبي النجود، أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي، شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة، توفي سنة 127هـ (انظر غاية النهاية 1/346) .
( [203] ) الفتح 9/31، وانظر النقل الأول عن مكي في الإبانة ص34، وأما الثاني فهو ملخص لما في ص38-40 من الإبانة.
( [204] ) هو زبان بن العلاء التميمي المازني البصري، أحد القراء السبعة، وأكثرهم شيوخاً، توفي سنة 154هـ (غاية النهاية 1/288) .
( [205] ) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد أبو محمد الحضرمي مولاهم البصري، أحد القراء العشرة، ومقرئ أهل البصرة، توفي سنة 250هـ (غاية النهاية 2/286) .
( [206] ) الفتح 9/31-32، والنقول عن الإبانة ملخصة من الصفجات 97-103.
( [207] ) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر ابن العربي، قاض، من حفاظ الحديث، وصنف في علوم كثيرة، توفي سنة 543هـ (انظر السير:20/197، الأعلام 6/230) .
( [208] ) هو يزيد بن القعقاع، أبو جعفر المخزومي المدني القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي جليل، توفي سنة 130هـ أو نحوها. (غاية النهاية 2/383) .
( [209] ) هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب، إمام ثقة، مقرئ المدينة مع أبي جعفر وقاضيها، مولى أم سلمة، توفي سنة 130هـ (غاية النهاية 1/330) .
( [210] ) الفتح 9/30.
( [211] ) انظر النشر 1/37، وانظر النص المشار إليه بمعناه في القبس 1/402.(8/88)
( [212] ) هو أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع، أبو العباس، الكواشي الموصلي، عالم بالتفسير، وله ثلاثة كتب فيه، وهو من فقهاء الشافعية، توفي سنة 680هـ (انظر غاية النهاية 1/151، الأعلام 1/274) .
( [213] ) النشر 1/44، وانظر اسم الكتاب المذكور في الأعلام 1/274 وقد أشار إلى أنه مخطوط، كشف الظنون 1/295، وسماه "التبصرة في التفسير"، وقد حقق أخيراً في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.
( [214] ) الفتح 9/32.
( [215] ) هو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر، أبو عمرو، الداني الأموي مولاهم القرطبي، المعروف بابن الصيرفي، إمام علامة حافظ، وشيخ مشايخ المقرئين صنف في القراءات وعلومها كتباً عديدة، توفي سنة 444هـ (غاية النهاية 1/503) .
( [216] ) الفتح 9/28 وانظر جامع البيان 1/53، والكتاب"جامع البيان" حقق أخيراً في رسائل علمية بجامعة أم القرى.
( [217] ) هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي، أبو حيان، عالم باللغة والتفسير والحديث والتراجم وغيرها، وله مصنفات فيها، وله منظومة (عقد اللالئ) في القراءات، توفي سنة 745هـ (انظر بغية الوعاة 1/280) .
( [218] ) الفتح 9/30-31
( [219] ) هو القاسم بن فيرُّوه بن خلف بن أحمد، أبو القاسم وأبو محمد، الرعيني الشاطبي الضرير، فقيه مقرئ محدث نحوي، نظم عدة كتب في القراءات، وغيرها توفي سنة 590هـ (السير 21/261، غاية النهاية 2/20) .
( [220] ) انظر"معجم المصنفات" ص328،وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ص38.
( [221] ) هو أحمد بن جبير بن محمد، أبو جعفر، الكوفي، نزيل أنطاكية، من أئمة القراءات، توفي سنة 258هـ (غاية النهاية 1/42، النشر 1/34) .(8/89)
( [222] ) في معجم المصنفات ص328: (قال الحافظ ابن حجر: كان ابن جبير قبل ابن مجاهد وصنف كتاباً في القراءات.. الخ) ، كذا نسبا هذا الكلام إلى ابن حجر، والذي يظهر –والله أعلم- أنه تتمة لكلام مكي بن أبي طالب المنقول بطوله عن الإبانة ص97-103، كما تقدم، وانظر النشر 1/34.
( [223] ) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد، أبو إسحاق الأزدي البغدادي، ثقة مشهور كبير، توفي سنة 282هـ (غاية النهاية 1/162، النشر 1/34) .
( [224] ) وكذا هذا الكتاب إنما ذكر ضمن النقل عن (الإبانة) ص41 كما تقدم، والله أعلم. وانظر النشر 1/34، وقد وقع خطأ في (الفتح) عند ذكر اسم المصنف حيث جاء فيه: (إسماعيل بن إسحاق والقاضي) فزيدت (واو) ، مما أوهم مؤلف "معجم المصنفات" ص327 فعدّه كتابين إحداهما لإسماعيل بن إسحاق، والثاني للقاضي، والتصحيح من الإبانة.
( [225] ) الفتح 9/23.
( [226] ) انظر النقول المتعددة التي أوردها في 9/30-32، 8/622.
( [227] ) انظر على سبيل المثال نقله الطويل عن مكي 9/31-32.
( [228] ) صحيح البخاري: ك. فضائل القرآن، باب "نزل القرآن بلسان قريش والعرب" (9/8 برقم4984) .
( [229] ) الفتح:9/9 وانظر النقل عن أبي شامة في المرشد ص69 وهو نقل بالمعنى.
( [230] ) الفتح:9/28.
( [231] ) المرشدالوجيز: ص92.
( [232] ) نفس المصدر: ص102، وانظر أيضاَ: ص95.
( [233] ) الفتح: 9/23.
( [234] ) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: 9/23 (الفتح) .
( [235] ) الفتح:9/26.
( [236] ) الفتح: 9/27.
( [237] ) الفتح:9/28.
( [238] ) انظر المرشدالوجيز: ص91،الإتقان للسيوطي:1/164.
( [239] ) الإتقان:1/167-168.
( [240] ) التوبة: 100.
( [241] ) الفتح: 9/30.(8/90)
( [242] ) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر الباقلاني، قاض من كبار علماء الكلام، وله مناظرات مع علماء النصارى، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 430هـ. (وفيات الأعيان:1/609، الأعلام:6/176) .
( [243] ) المرشد الوجيز: ص143، وانظر قريباً من هذا الكلام في"نكت الإنتصار لنقل القرآن"للباقلاني: ص378، فلعل النقل عنه بالمعنى، والله أعلم.
( [244] ) انظر النشر: 1/31.
( [245] ) انظر الفتح: 9/30-32.وانظر تفسير الطبري: 1/48 وما بعدها.
( [246] ) انظر النصين في الفتح: 9/32.وانظر الإبانة: (97-103) .
( [247] ) الفتح: 9/38.
( [248] ) انظر النشر:1/9.
( [249] ) انظر النشر:2/469، منجد المقرئين: ص 78.
( [250] ) النشر:1/13.
( [251] ) المنجد: ص 78.
( [252] ) الفتح: 9/32.
( [253] ) كذا سماه الحافظ " الفتح: 9/38" ومعناه: أن يقرأ القارئ عشراً، كل آية بقراءة قارئ، كما وضحه أبو شامة في المرشد الوجيز ص183.
( [254] ) الفتح: 9/38، وهو ملخص لكلام طويل في المرشد: ص183-185.
( [255] ) يعني به الإمام النووي، وقد سمّاه الحافظ ب" الشيخ محي الدين" في عدة مواضع من كتابه: (انظر الفتح:1/306،529 – 2/34 – 9/618، وبيّن مقصوده في مواضع أخرى فسمّاه: (الشيخ محي الدين النووي) كما في الفتح:10/190، وانظر كلام النووي بمعناه في "التبيان" ص:76.
( [256] ) الفتح: 9/38.
( [257] ) انظر توضيح هذا في المرشد الوجيز ص183.
( [258] ) انظر النشر:1/18-19.
( [259] ) يعني آية الإسراء: 85 (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
( [260] ) صحيح البخاري: ك العلم، حديث 125، الفتح: 1/224.
( [261] ) سورة ص آية: 24.
( [262] ) الفتح: 6/457.
( [263] ) النشر:1/33.
( [264] ) انظر أمثلة ذلك في الفتح: 2/21-73،6/425،7/439،8/482.
( [265] ) الفتح: 9/32.
( [266] ) النحل 48.
( [267] ) الفتح: 2/21.
( [268] ) انظر النشر:2/304، الإتحاف:2/185.
( [269] ) يعني آية النساء:36(8/91)
( [270] ) الفتح:8/622.
( [271] ) الفتح:9/38.
( [272] ) من سورة يس:62.
( [273] ) في الفتح (فيهما) ولعل الأصح المثبت بدليل قوله في آخره (وفيها قراءات أخرى) . والله أعلم.
( [274] ) الفتح:8/498، وانظر القراءات في هذه اللفظة في النشر:2/355، المحتسب:2/216، الإتحاف:2/403.
( [275] ) القصص:19.
( [276] ) الدخان: 16، وفي الفتح: يوم يبطش" وهو خطأ فليست بقراءة في هذا الموضع.
( [277] ) الفتح: 6/425، وانظر النشر: 2/274.
( [278] ) من سورة الإسراء:76.
( [279] ) الفتح: 8/393وانظر النشر: 2/308. و"الأخوان": حمزة والكسائي.
( [280] ) من سورة الكهف:44.
( [281] ) الفتح: 8/408،وانظر النشر:2/277، وفيه: (أن خلفاً وافق الأخوين في كسر الواو) .
( [282] ) من سورة النساء:142.
( [283] ) الفتح: 11/178.
( [284] ) من سورة آل عمران: 156.
( [285] ) الفتح: 8/208، وانظر القراءة المذكورة في: المحتسب:1/175، الإتحاف:1/492.
( [286] ) النساء:2.
( [287] ) الفتح: 8/246، وانظر القراءة المذكورة في الإتحاف:1/502.
( [288] ) التوبة: 12.
( [289] ) الفتح: 8/323.وانظر تفسير الطبري:6/330.
( [290] ) انظر النشر:2/278،ولم أجد من نص على نسبتها للحسن إلا في بعض كتب التفسير والتوجيه ومنها تفسير الطبري:6/330، المعاني للفراء: 1/425.
( [291] ) سورة النور:22.
( [292] ) الفتح: 8/489.
( [293] ) النشر:2/331.
( [294] ) أما المواضع الكثيرة التي أورد فيها قراءات شاذة – وهي تزيد على 160 موضعاً فيما وقفت عليه – فهي محل بحث آخر لعل الله أن يتمه، وربما يتبين بدراستها آراء أخرى له في القراءات الشاذة.
( [295] ) البقرة: 198.
( [296] ) وحديثها في البخاري: ك البيوع برقم 2050- الفتح: (4/288) .
( [297] ) الفتح: 4/290.
( [298] ) صحيح البخاري: ك البيوع، حديث رقم: 1770 الفتح: 3/595. وانظر تفسير الطبري:2/294.
( [299] ) آل عمران: 7.
( [300] ) الفتح: 8/210.(8/92)
( [301] ) القراءات الشاذة للقاضي ص9-10، وقد وجدت قريباً من كلام الحافظ في فتوى منسوبة إليه طبعت كملحق مع "منجد المقرئين"بتحقيق: علي محمد العمران (ص241) .
( [302] ) انظر المنجد: ص 16-17.
( [303] ) انظر المرشدالوجيز: ص 172،178، الفتاوى: 13/393.
( [304] ) البقرة: 238.
( [305] ) المائدة: 38.
( [306] ) والآية بدون "لهن" من سورة النور: 33.
( [307] ) انظر: فضائل القرآن لأبي عبيد: ص 195بمعناه.
( [308] ) النشر: 1/14.
( [309] ) انظر الإتقان:1/281.
( [310] ) من سورة الكهف: 74.
( [311] ) الفتح:8/419، وانظر النشر: 2/313.
( [312] ) من سورة مريم: 77.
( [313] ) الفتح: 8/429، وانظر القراءتين في النشر:2/319.وانظر كلام الطبري في تفسيره:8/376 بمعناه.
( [314] ) من سورة البقرة: 106.
( [315] ) وهو في البخاري: ك التفسير برقم 4481.
( [316] ) انظر الفتح: 8/167، وانظر النشر: 2/220.
( [317] ) انظر "قواعد التفسير" د. خالد السبت:1/97.
( [318] ) انظر الإتقان:1/282، وانظره في البرهان للزركشي:1/339.
( [319] ) الفتح: 9/91.
( [320] ) انظر النشر:1/322،333.
( [321] ) في الصحيح: ك فضائل القرآن برقم: 5023.
( [322] ) سنن أبي داود: ك: الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة (2/157) .
( [323] ) الفتح: 9/72.
( [324] ) التبيان في آداب حملة القرآن: ص 88.
( [325] ) ما سبق ملخص من الفتح:9/72.
( [326] ) الزمر: 28.
( [327] ) التبيان: ص89.
( [328] ) آل عمران: 93.
( [329] ) الفتح: 13/508.
المصادر والمراجع
1- ابن أبي داود، أبو بكر عبد الله، ((كتاب المصاحف)) ، تحقيق: د. محب الدين واعظ، وزارة الأوقاف، قطر، ط الأولى 1416هـ.
2- ابن الجزري، شمس الدين محمد بن محمد، ((النشر في القراءات العشر)) ، دار الكتب العلمية، بيروت.
3- ابن الجزري، شمس الدين، ((غاية النهاية في طبقات القراء)) ، مكتبة المتنبي، القاهرة.(8/93)
4- ابن الجزري، شمس الدين، ((منجد المقرئين ومرشد الطالبين)) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1400هـ.
5- ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله، ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) ، تحقيق د. محمد عبد الله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي ط أولى، 1992م.
6- ابن النديم، أبو الفرج محمد، ((الفهرست)) ، دار المسيرة، ط الثانية 1988م.
7- ابن جني، أبو الفتح عثمان، ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات)) ، تحقيق: علي ناصف، ود. عبد الفتاح شلبي، دار سزكين، ط الثانية 1406هـ.
8- ابن حجر، أحمد بن علي، ((إنباء الغمر بأخبار العمر)) ، تحقيق د. حسين حبشي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة، 1391هـ.
9- ابن حجر، أحمد بن علي، ((تهذيب التهذيب)) ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
10-ابن حجر، أحمد بن علي، "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، دار الجيل.
11- ابن حجر، أحمد بن علي، ((رفع الإصر عن قضاة مصر)) ، تحقيق مجموعة من العلماء، المطبعة الأميرية بالقاهرة1957م.
12- ابن حجر، أحمد بن علي، ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) دار المعرفة –بيروت/ بتصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
13- ابن حجر، أحمد بن علي، ((المجمع المؤسس للمعجم المفهرس)) ، تحقيق يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت،1413هـ.
14- ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله، ((التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد)) ، تحقيق: محمد الفلاح،1400هـ.
15- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، ((تأويل مشكل القرآن)) ، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث، ط الثانية1393هـ.
16- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، ((تفسير غريب القرآن)) ، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، 1378هـ.
17- ابن مجاهد، أبو بكر أحمد، ((كتاب السبعة في القراءات)) تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط الثانية(8/94)
18- أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث، ((سنن أبي داود)) ، دار الحديث، بيروت، ط الأولى 1391هـ.
19- أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل، ((المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز)) تحقيق: طيار قولاج، دار صادر، بيروت 1395هـ.
20- أبو عبيد القاسم بن سلام، ((فضائل القرآن)) ، تحقيق: وهبي غاوجي، دار الكتب العلمية، ط الأولى1411هـ.
21- أبو عبيدة، معمر بن المثنى، ((مجاز القرآن)) ، تحقيق د. محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، ط الثانية1401هـ.
22- الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد، ((معاني القراءات)) ، تحقيق د. عيد مصطفى درويش، د. عوض بن حمد القوزي، دار المعارف، ط الأولى 1412هـ.
23- بازمول، د. محمد بن عمر، ((القراءات وأثرها في التفسير والأحكام)) دار الهجرة، ط الأولى 1417هـ
24- البغوي، الحسين بن مسعود، "شرح السنة"، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، ط الثانية، 1403هـ.
25- الباقلاني، أبوبكر محمد بن الطيب، "نكت الانتصار لنقل القرآن" تحقيق: د. محمد زغلول سلام/ منشأة المعارف، الاسكندرية.
26- البنا، أحمد بن محمد، ((إتحاف فضلاء البشر)) ، تحقيق د. شعبان إسماعيل، عالم الكتب، ط الأولى1407هـ.
27- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، ((سنن الترمذي=الجامع الصحيح)) ، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط الثانية 1395هـ.
28- الجوهري، إسماعيل بن حماد، ((الصحاح)) ، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط الثالثة 1404هـ.
29- حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله، ((كشف الظنون)) ، المكتبة التجارية 1414هـ.
30- الخوارزمي، أبو الفتح ناصر بن عبد السيد، ((المغرب في ترتيب المعرب)) ، دار الكتاب العربي، بيروت.
31- الداني، أبو عمرو عثمان بن سعيد، ((جامع البيان في القراءات السبع)) ج1،تحقيق: د. عبد المهيمن طحان، رسالة في جامعة أم القرى، 1406هـ، وأكمل تحقيقه باحثون آخرون.(8/95)
32- الدّلال، عمار وجهاد، ((فهرس الأعلام المترجم لهم في سير أعلام النبلاء)) ، ط الأولى 1409هـ.
33- الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد، ((سير أعلام النبلاء)) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثامنة1412هـ.
34- الذهبي، شمس الدين، ((معرفة القراء الكبار)) ، تحقيق: محمد جاد الحق، مصر، ط الأولى.
35- لزجاج، أبو إسحاق إبراهتيم بن السري، ((معاني القرآن وإعرابه)) ، تحقيق: د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، ط الأولى 1408هـ.
36- الزركلي، خير الدين بن محمود، ((الأعلام)) ، دار العلم للملايين، ط السابعة 1986م.
37- السبت، د. خالد بن عثمان، ((قواعد التفسير جمعاً ودراسة)) ، دار ابن عفان، ط الأولى 1417هـ.
38- السبكي، عبد الوهاب بن علي، "منع الموانع عن جمع الجوامع في أصول الفقه" تحقيق د. سعد الحميري، دار البشائر الإسلامية، ط الأولى 1420هـ.
39- السبكي، علي بن عبد الكافي، "الإبهاج في شرح المنهاج"، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى1404 هـ.
40- السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن، ((الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر)) نشر وزارة الشؤون الإسلامية بمصر، ومصورة مخطوطة الجامعة الإسلامية برقم 9564.
41- السخاوي، شمس الدين، ((الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)) ، دار الجيل، ط الأولى 1412هـ.
42- السمين الحلبي، أحمد بن يوسف، ((الدر المصون في علوم الكتاب المكنون)) ، تحقيق: د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط الأولى 1411هـ.
43- السمين الحلبي، أحمد بن يوسف، "العقد النضيد في شرح القصيد"، مخطوط، حقق د. أيمن سويد جزءاً منه كرسالة من جامعة أم القرى.
44- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر،"الإتقان في علوم القرآن"، مكتبة نزار الباز، ط الأولى1417هـ.
45- السيوطي، جلال الدين، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت.(8/96)
46- السيوطي، جلال الدين، ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي، ط الأولى 1387هـ.
47- السيوطي، جلال الدين، ((طبقات الحفاظ)) ، دار الكتب العلمية، ط أولى 1403هـ.
48- الشافعي، محمد بن إدريس، ((الرسالة)) ، تحقيق: أحمد شاكر.
49- شاكر محمود عبد المنعم، ((ابن حجر العسقلاني مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة)) ، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1417هـ.
50- الشيباني، أحمد بن حنبل، ((مسند أحمد)) ، دار الفكر.
51- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، ((تفسير القرآن العظيم)) ، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1410هـ.
52- الطبراني، سليمان بن أحمد، ((مسند الشاميين)) ، تحقيق: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة، ط الأولى1405هـ.
53- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، ((جامع البيان في تأويل القرآن)) ، دار الكتب العلمية، ط الأولى1412هـ.
54- الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد، ((شرح مشكل الآثار)) ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الأولى1415هـ.
55- عبد الباري، عبد المجيد الشيخ، ((الروايات التفسيرية في فتح الباري)) ، رسالة دكتوراة، عام 1418هـ، الجامعة الإسلامية بالمدينة.
56- العكبري، أبو البقاء عبد الله بن الحسين، ((إعراب القراءات الشواذ)) ، تحقيق: محمد السيد أحمد عزوز، عالم الكتب، ط الأولى1417هـ.
57- الفارسي، الحسن بن أحمد، ((الحجة في علل القراءات السبع)) ، تحقيق: علي النجدي، د. عبد الحليم النجار، د. عبد الفتاح شلبي، الهيئة المصرية للكتاب، ط الثانية.
58- الفراء، أبو زكريا يحي بن زياد، ((معاني القرآن)) ، تحقيق: محمد علي النجار، دار السرور.
59- الفيروز أبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، ((القاموس المحيط)) ، دار الجيل.
60- القاضي، عبد الفتاح، ((البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة)) ، دار الكتاب العريي، ط الأولى1401هـ.(8/97)
61- القاضي، عبد الفتاح، ((القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب)) ، دار الكتاب العريي، ط الأولى1401هـ.
62- القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، ((الجامع لأحكام القرآن)) ، دار الكتب العلمية، ط الأولى1409هـ.
63- مالك بن أنس، ((الموطأ)) ، دار إحياء الكتب العربية، تصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي.
64- محيسن، محمد سالم، ((المغني في توجيه القراءات العشر المتواترة)) دار الجيل – بيروت، ط الثانية1408هـ.
65- مسلم بن الحجاج النيسابوري، ((صحيح مسلم)) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت 1403هـ.
66- مشهور بن حسن سلمان ورائد صبري، ((معجم المصنفات الواردة في فتح الباري)) ، دار الهجرة، ط الأولى 1412هـ.
67- مكي بن أبي طالب، ((الإبانة عن معاني القراءات)) تحقيق: د. عبد الفتاح شلبي، المكتبة الفيصلية، ط الثالثة 1405هـ.
68- المهدوي، أبو العباس أحمد، ((شرح الهداية)) ، تحقيق: د. جازم حيدر، مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى1416هـ.
69- النحاس، أبو جعفر أحمد بن محمد، ((معاني القرآن الكريم)) ، تحقيق: محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى، ط الأولى1409هـ.
70- النسائي، أحمد بن شعيب، ((سنن النسائي" بشرح جلال الدين السيوطي، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب، ط الثانية 1409هـ.
71- النووي، أبوزكريا يحي بن شرف، "التبيان في آداب حملة القرآن"، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دارالبيان، ط الأولى 1403هـ.
72- الهذلي، أبو القاسم يوسف بن علي، ((الكامل في القراءات الخمسين)) ، (مخطوط) ، له صورة في مركز البحث بجامعة أم القرى عن المكتبة الأزهري (رقم 134/قراءات) .
73- الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد، ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد)) ، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار الكتب العلمية، بيروت ط الأولى 1415هـ.(8/98)
الأحاديث والآثار الواردة في سنة الجمعة القبلية
وأقوال العلماء فيها
د. إبراهيم بن علي بن عبيد العبيد
الأستاذ المشارك في كلية الحديث
بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
ملخص البحث
جمعت في هذا البحث الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة مع الكلام عليها صحة وضعفا بناء على قواعد المحدثين، ثم تكلمت على حكم سنة الجمعة القبلية وهل للجمعة سنة قبلية أم لا، وقسمت البحث إلى قسمين:
الأول: جمع الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
والثاني: حكم سنة الجمعة القبلية بذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وبيان الراجح منها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد اً عبده ورسوله.
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاوأنتم مسلمون} ( [1] )
{ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} ( [2] )
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} ( [3] ) أما بعد:
فهذ بحث متواضع جمعت فيه الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة، وسميته: ((الأحاديث والآثار الواردة في سنة الجمعة القبلية وأقوال العلماء فيها)) .
وجعلته في مقدمة ومبحثين:
المبحث الأول: الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
المبحث الثاني: حكم سنة الجمعة القبلية.
وخاتمة تشمل على أهم النتائج في هذا البحث.(8/99)
وقد جمعت أحاديث هذا البحث من كتب السنة ( [4] ) من مظانها، مع تخريجها والحكم عليها بناءً على قواعد المحدثين، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بالعزو إلى من أخرجه من أصحاب الكتب الستة دون غيرهم فإن لم يكن في الصحيحين أو أحدهما فإني أجتهد في تخريجه من دواوين السنة الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وكتب الزوائد وغيرها.
- أرتب الأحاديث في كل مبحث على حسب درجتها الصحيحة فالحسنة فالضعيفة مالم يكن له شاهد من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة فإني أجعله عقبه للعلاقة بينهما.
- إذا صح الحديث من أحد طرقه فإني لا ألتزم الحكم على جميع طرق الحديث اكتفاءً بصحته.
- أنقل أقوال أهل العلم في الحكم على الحديث إن وجدت.
- إذا كان ضعف الحديث ظاهراً فإني لا أستطرد في الكلام عليه.
- أترجم للرواة الذين تدعو الحاجة إلى الترجمة لهم -كمن يدور عليه الحكم على الحديث- من كتاب الكاشف للحافظ الذهبي والتقريب للحافظ ابن حجر مالم أخالفهما بناءً على كلام حفاظ آخرين فإني أبين ذلك.
- إذا لم يكن الراوي من رجال التقريب والكاشف فإني أترجم له من كتب الجرح والتعديل الأخرى.
- أبين الغريب الذي يحتاج إلى بيان من كتب الغريب واللغة.
- مناقشة الأقوال الفقهية وبيان قوتها من ضعفها.
- مناقشة الأدلة من حيث درجتها وصحة الإستدلال بها على القول.
- أنسب كل قول إلى قائله من المصادر الأصلية فإن لم أجده إلا بواسطة أثبته.
-عمل الكشافات العلمية.
-كشاف الأحاديث والآثار.
-كشاف الأعلام.
-كشاف المصادر والمراجع.
-كشاف المواضيع.
هذا وقد بذلت جهدي في إخراج هذا البحث فما كان فيه من صواب فمن توفيق اللهU وما كان من فيه خطأ فأسأل الله العفو والتوفيق للصواب أنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة(8/100)
[1] عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قَال: قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لايغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج لايفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
أخرجه البخاري ( [5] ) من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن ابن وديعة عن سلمان به.
وأخرجه الطبراني ( [6] ) أيضا من طريق آخر عن سلمان مرفوعا مطولا وحسن سنده الهيثمي. ( [7] )
[2] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَال: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)) .
أخرجه مسلم ( [8] ) من طريق روح بن القاسم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به.
[3] عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قَال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى)) .
أخرج أحمد ( [9] ) وابن خزيمة ( [10] ) والطبراني ( [11] ) كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن عمران بن أبي يحيى عن عبد الله بن كعب ابن مالك ( [12] ) عن أبي أيوب به.
وابن إسحاق صرح بالتحديث لكن فيه عمران بن أبي يحيى ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( [13] ) والبخاري في التاريخ ( [14] ) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً وذكره ابن حبان في الثقات. ( [15] )
قَال الهيثمي ( [16] ) : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات ا. هـ.
وفي ذلك نظر ابن إسحاق صدوق وعمران بن أبي يحيى لم يوثقه غير ابن حبان لكن الحديث يشهد له ما قبله حديث سلمان وأبي هريرة.(8/101)
[4] عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قَال: قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة ولبس ثيابه ومس طيباً إن كان عنده ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة ولم يتخط أحداً ولم يؤذه وركع ما قضى له ثم انتظر حتى ينصرف الإمام غفر له ما بين الجمعتين)) .
أخرجه أحمد ( [17] ) من طريق عبد الله بن سعيد عن حرب بن قيس عن أبي الدرداء به وسنده ضعيف.
وحرب بن قيس لم يسمع من أبي الدرداء كما قاله أبو حاتم ( [18] ) .
وحرب هذا ذكره ابن حبان في ثقاته ( [19] ) ونقل البخاري ( [20] ) عن عمارة بن غزية أنه قَال كان رضى.. وقال الهيثمي ( [21] ) : ((رواه أحمد والطبراني في الكبير عن حرب بن قيس عن أبي الدرداء وحرب لم يسمع من أبي الدرداء)) . لكن الحديث يشهد له ما قبله.
[5] عن عطاء الخراساني ( [22] ) قَال: كان نبيشة الهذلي ( [23] ) يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فلم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي قبلها)) .
أخرجه أحمد ( [24] ) قَال: حدثنا علي بن إسحاق ( [25] ) أنا عبد الله ( [26] ) أنا يونس ابن يزيد ( [27] ) عن عطاء الخراساني به.
ورجال إسناده ثقات غير عطاء الخراساني مختلف فيه ( [28] ) وحديثه حسن لكنه لم يسمع من نبيشة كما قاله المنذري ( [29] ) ، وسئل ابن معين ( [30] ) عن عطاء الخراساني لقي أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ((قَال: لا أعلمه)) .
قَال الهيثمي ( [31] ) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أحمد وهو ثقة. ا. هـ. لكن الحديث يشهد له ما قبله
[6] عن نافع قَال: ((كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك)) . ( [32] )(8/102)
أخرجه أبو داود ( [33] ) وابن خزيمة ( [34] ) وابن حبان ( [35] ) والبيهقي ( [36] ) من طريق إسماعيل بن علية عن أيوب عن نافع به وسنده صحيح.
وتابع إسماعيل وهيب عن أيوب عن نافع: ((أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال: هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .
أخرجه أحمد ( [37] ) وسنده صحيح كما قاله العراقي. ( [38] )
وأخرجه ابن أبي شيبة ( [39] ) من طريق ابن عون ( [40] ) عن نافع قَال: ((كان ابن عمر يهجر يوم الجمعة فيطيل الصلاة قبل أن يخرج الإمام)) . ورجال إسناده ثقات.
وأخرجه الطحاوي ( [41] ) من طريق جبلة بن سحيم ( [42] ) عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا لايفصل بينهن بسلام ثم بعد الجمعة ركعتين ثم أربعا)) . ورجال إسناده ثقات.
[7] عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قَالا: قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس ثم صلى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)) .
قَال: ويقول أبو هريرة ((وزيادة ثلاثة أيام)) ويقول: ((إن الحسنة بعشرة أمثالها)) .
أخرجه أبو داود ( [43] ) وأحمد ( [44] ) وابن خزيمة ( [45] ) وابن حبان ( [46] ) والحاكم ( [47] ) والبيهقي ( [48] ) والبغوي ( [49] ) كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد وأبي هريرة به.
وسنده حسن وابن إسحاق صرح بالتحديث كما عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، ويشهد له حديث أبي هريرة وسلمان السابقين ( [50] ) وغيرها.(8/103)
[8] عن أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما قَالا: جاء سليك الغطفاني ورسول الله r يخطب فقال له النبي r: ((أصليت ركعتين قبل أن تجيء؟)) قَال: لا. قَال: ((فصل ركعتين وتجوز فيهما)) ( [51] ) .
أخرجه ابن ماجه ( [52] ) وأبو يعلى ( [53] ) كلاهما من طريق داود بن رشيد ( [54] ) عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وعن سفيان عن جابر ورجال إسناده ثقات كما قَاله ابن القيم ( [55] ) .
وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما ( [56] ) دون قوله ((قبل أن تجيء)) ويحتمل فيها أحد أمور هي:
الأمر الأول: أنها غير محفوظة فقد أخرج أبو داود ( [57] ) عن محمد بن محبوب ( [58] ) وإسماعيل بن إبراهيم ( [59] ) قَالا: حدثنا حفص بن غياث به، ولفظه ((جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له: أصليت شيئا؟ قَال: لا. قَال: صل ركعتين تجوز فيهما))
فداود بن رشيد تفرد بذكر هذه اللفظة ((قبل أن تجيء)) وخالفه محمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم.
ورواه ابن حبان ( [60] ) من طريق داود بن رشيد به، ولم يذكر هذه اللفظة، وهذا يؤيد الاحتمال الثاني كما سيأتي.
ثم إن هذا الحديث رواه جماعة عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا فلم يذكروا هذه اللفظة في المتن ولا في السند أبو صالح عن أبي هريرة ... وهم عيسى بن يونس وأبو معاوية وسفيان الثوري ومعمر وحفص بن غياث وداود الطائي.
أخرجه مسلم ( [61] ) وأحمد ( [62] ) وعبد الرزاق ( [63] ) والطحاوي ( [64] ) وابن خزيمة ( [65] ) وابن حبان ( [66] ) والدارقطني ( [67] ) والبيهقي ( [68] ) .
ورواه أيضا الوليد أبو بشر عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا بدون ذكر هذه اللفظة أخرجه أبو داود ( [69] ) وأحمد ( [70] ) .
ورواه أيضا عمرو بن دينار وأبو الزبير عن جابر مرفوعا بدون هذه اللفظة.
أخرجه البخاري ( [71] ) ومسلم ( [72] ) وأبو داود ( [73] ) والترمذي ( [74] ) والنسائي ( [75] ) وابن ماجة ( [76] ) .(8/104)
وقد غلَّط شيخ الإسلام ابن تيمية هذه اللفظة كما ذكره عنه تلميذه ابن القيم ( [77] ) فقال: ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجة ثم ذكر الحديث، وقال: قَال أبو البركات: وقوله ((قبل أن تجيء)) يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة وليستا تحية للمسجد قَال شيخنا حفيده أبو العباس: وهذا غلط والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر قَال: دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله r يخطب فقال: أصليت؟ قَال: لا. قَال: فصل ركعتين. وقَال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما)) فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجة في الغالب غير صحيحة هذا معنى كلامه. ا. هـ.
الأمر الثاني: أن هذه اللفظة ((قبل أن تجيء)) تصحفت من بعض الرواة أو النساخ، وأصلها ((قبل أن تجلس)) .
قَال ابن القيم ( [78] ) : قَال شيخنا أبو الحجاج المزي: هذا تصحيف من الرواة إنما هو: أصليت قبل أن تجلس. فغلط فيه الناسخ وقال: وكتاب ابن ماجة إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به بخلاف صحيح البخاري ومسلم فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما، قَال: ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف.
وقَال ابن القيم قلت: ويدل على صحة هذا إن الَّذِين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها لم يذكر واحد منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإمام على المنبر واحتجوا به على من منع فعلها في هذه الحال فلو كانت هي سنة الجمعة لكان ذكرها هناك والترجمة عليها وحفظها وشهرتها أولى من تحية المسجد، ويدل عليه أيضا أن النبي r لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد ولو كانت سنة الجمعة لأمر بها القاعدين أيضا ولم يخص بها الداخل وحده. ا. هـ.(8/105)
ومما يؤيد أنها تصحيف أن ابن حبان أخرج هذا الحديث عن داود بن رشيد بدون هذه اللفظة كرواية الجماعة كما تقدم والله أعلم.
الأمر الثالث: أنه على فرض ثبوتها المعنى: قبل تقرب مني لسماع الخطبة.
قَال أبو شامة ( [79] ) : فقوله فيما أخرجه ابن ماجه ((قبل أن تجيء)) يحتمل أن يكون معناه قبل أن تقرب مني لسماع الخطبة وليس المراد قبل أن تدخل المسجد فإن صلاته قبل دخول المسجد غير مشروعة فكيف يسأل عنها وذلك أن المأمور به بعد دخول وقت الجمعة إنما هو السعي إلى مكان الصلاة فلا يشتغل بغير ذلك وقبل دخول الوقت لايصح فعل السنة على تقدير أن تكون مشروعة)) .
[9] عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا)) .
أخرجه الطبراني ( [80] ) من طريق عتاب بن بشير ( [81] ) عن خصيف ( [82] ) عن أبي عنيزة ( [83] ) عن ابن مسعود به. وسنده ضعيف.
قَال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن خصيف إلا عتاب بن بشير.
وقَال الحافظ ابن حجر ( [84] ) : وفي إسناده ضعف وانقطاع.
لكنه صح عن ابن مسعود موقوفا.
أخرجه عبد الرزاق ( [85] ) واللفظ له عن الثوري وابن أبي شيبة ( [86] ) عن هشيم ولم يذكر الصلاة قبل الجمعة وابن المنذر ( [87] ) عن الثوري ولم يذكر الصلاة بعد الجمعة والطبراني ( [88] ) عن الثوري وهمام كلهم عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قَال: كان عبد الله يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا حتى جاء علي فأمرنا أن نصلي بعدها ركعتين ثم أربعا.
وسنده حسن عطاء بن السائب مختلط ( [89] ) لكن سماع الثوري منه قبل الاختلاط كما قَاله الإمام أحمد ( [90] ) والنسائي ( [91] ) وابن الصلاح ( [92] ) وغيرهم.
وأما سماع أبي عبد الرحمن من ابن مسعود فنفاه شعبة ( [93] ) وأثبته البخاري. ( [94] )(8/106)
وقال الإمام أحمد ( [95] ) لما ذكر له قول شعبة وأنه لم يسمع من عثمان ولا من ابن مسعود فلم ينكر عبد الله وقال دع عبد الله فإني أراه وهم. قلت - الأثرم -: ويصح لأبي عبد الرحمن سماع فقال نحو قوله الأول: أراه وهم.
قوله: لم يسمع عبد الله. وأما سماع أبي عبد الرحمن من علي فلم يثبته أبو حاتم ( [96] ) لكن أثبت سماعه منه شعبة ( [97] ) والبخاري ( [98] ) والمثبت مقدم على النافي.
وأخرجه عبد الرزاق ( [99] ) عن معمر عن قتادة أن ابن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات وبعدها أربع ركعات قَال أبو إسحاق: وكان علي يصلي بعد الجمعة ست ركعات وبه يأخذ عبد الرزاق، لكن قتادة لم يسمع من عبد الله كما قَال الهيثمي. ( [100] )
وقَال الإمام أحمد ( [101] ) : ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن أنس وكذا قَال أبو حاتم ( [102] ) نحوه واستثنى ابن سرجس أيضا وظاهر سند عبد الرزاق فيه سقط.
وأخرجه الطبراني ( [103] ) من طريق عبد الرزاق لكن قَال عن معمر عن أبي إسحاق بدل قتادة وأبو إسحاق لم يسمع من ابن مسعود فإنه ولد سنة وفاة ابن مسعود تقريبا. ( [104] )
وأخرجه ابن أبي شيبة ( [105] ) وابن المنذر ( [106] ) من طريق خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله قَال كان يصلي قبل الجمعة أربعا من فعله. وفي سنده خصيف وكذا الكلام في سماع أبي عبيدة من ابن مسعود. قَال أبو حاتم ( [107] ) : لم يسمع من عبد الله بن مسعود.
وقَال الحافظ ابن حجر ( [108] ) : الراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.
وأخرج الطحاوي ( [109] ) من طريق إبرهيم أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا لا يفصل بينهن بتسليم، وصحح الحافظ ( [110] ) فعل ابن مسعود فقال: لما ذكر السنة القبلية للجمعة: وصح عن ابن مسعود من فعله رواه عبد الرزاق.(8/107)
[10] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين)) .
قَال الحافظ: رواه ( [111] ) الطبراني في الأوسط في ترجمة أحمد بن عمرو. ( [112] )
وقال في الفتح ( [113] ) : ((رواه البزار بلفظ ((كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعا))
وفي إسناده ضعف)) . ( [114] )
[11] عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا يجعل التسليم في آخرهن ركعة)) . ( [115] )
أخرجه الطبراني ( [116] ) من طريق محمد بن عبد الرحمن السهمي عن حصين ابن عبد الرحمن السلمي ( [117] ) عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة ( [118] ) عن علي به.
وقَال: لم يرو هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا حصين ولا رواه عن حصين إلا محمد بن عبد الرحمن السهمي.ا. هـ.
وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي قَال ابن عدي ( [119] ) : لابأس به لكن تكلم فيه غير واحد.
قَال البخاري ( [120] ) : لا يتابع في حديثه.
وضعفه ابن معين. ( [121] )
وقَال أبو حاتم ( [122] ) : ليس بمشهور.
وسماع محمد بن عبد الرحمن من أبي إسحاق لم يتبين هل كان قبل الاختلاط أم بعده.
وقَال الحافظ ( [123] ) : رواه الأثرم والطبراني في الأوسط بلفظ ... وفيه محمد ابن عبد الرحمن السهمي وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقَال الأثرم: إنه حديث واه.
[12] عن ابن عباس رضي الله عنهما قَال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا لايفصل بينهن))
أخرجه الطبراني ( [124] ) من طريق بقية بن الوليد ( [125] ) عن مبشر بن عبيد ( [126] ) عن الحجاج بن أرطأة ( [127] ) عن عطية العوفي ( [128] ) عن ابن عباس به وسنده ضعيف جدا.
وأخرجه ابن ماجة ( [129] ) من هذا الطريق بدون ذكر الأربع بعد الجمعة.
قَال النووي ( [130] ) : هو حديث باطل اجتمع فيه هؤلاء الأربعة وهم ضعفاء ومبشر وضاع صاحب أباطيل.(8/108)
قَال الزيلعي ( [131] ) : وسنده واه جدا فمبشر بن عبيد معدود في الوضاعين وحجاج وعطية ضعيفان.
وقَال البوصيري ( [132] ) : هذا إسناد مسلسل بالضعفاء عطية متفق على تضعيفه وحجاج مدلس ومبشر بن عبيد كذاب وبقية هو ابن الوليد يدلس تدليس التسوية.
وقَال الهيثمي ( [133] ) : رواه الطبراني في الكبير وفيه الحجاج بن أرطأة وعطية العوفي وكلاهما فيهما كلام.
وقَال الحافظ ابن حجر ( [134] ) : إسناده ضعيف جدا.
وقَال أيضا ( [135] ) : أخرجه ابن ماجة بسند واه قَال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل.
[13] عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القُرضيِّ ( [136] ) أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قَال ثعلبة: جلسنا نتحدث فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد)) .
أخرجه مالك ( [137] ) والشافعي ( [138] ) والبيهقي ( [139] ) عن ابن شهاب به وسنده صحيح.
وعند الشافعي والبيهقي ((المؤذن)) بدل ((المؤذنون)) .
وصححه النووي ( [140] ) .
[14] عن نافع قَال: ((كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة)) .
أخرجه عبد الرزاق ( [141] ) عن معمر عن أيوب عن نافع به وسنده صحيح.
[15] عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أنه كان يصلي قبل أن يأتي الجمعة ثمان ركعات ثم يجلس فلا يصلي حتى ينصرف)) .
أخرجه ابن المنذر ( [142] ) من طريق أبي عوانة عن سالم ( [143] ) بن بشير بن حجل العيشي عن عكرمة به، ورجال إسناده ثقات وسلم بن بشير قَال الحسيني: مجهول. ( [144] ) لكن قَال ابن معين ( [145] ) : لابأس به وذكره ابن شاهين ( [146] ) وابن حبان ( [147] ) في الثقات.
وهذا الإسناد يخشى فيه من عدم سماع أبي عوانة من سلم بن بشير قَال ابن حبان ( [148] ) في ترجمة سلم: روى عنه أبو عوانة إن كان سمع منه.(8/109)
[16] عن حماد بن سلمة عن صافية ( [149] ) سمعها وهي تقول: رأيت صفية بنت حيي صلت أربعا قبل خروج الإمام، وصلت الجمعة مع الإمام ركعتين.
أخرجه ابن سعد ( [150] ) أخبرنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به.
وفي إسناده صافية ذكرها ابن سعد في الطبقات ولم يذكر فيها جرحا ولا تعديلا.
المبحث الثاني: حكم سنة الجمعة القبلية.
اختلف العلماء في ذلك على قولين هما:
القول الأول: أنه لاسنة للجمعة قبلها وممن قَال بهذا مالك والشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد وعليه أكثر أصحابه وعليه جماهير الأئمة. ( [151] )
واحتجوا على هذا القول بما يأتي:
أولا: حديث ابن عمر في الصحيحين ( [152] ) ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)) .
وجه الدلالة أنه لم يذكر الصلاة قبل الجمعة ولو كان - صلى الله عليه وسلم - يصليها لعدها ابن عمر رضي الله عنهما لأنه ذكر الصلاة قبل الظهر وبعدها وبعد الجمعة ( [153] ) .
ثانيا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ولم ينقل ذلك أحد عنه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لايؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ويؤذن بلال ثم يخطب النبي r الخطبتين ثم يقيم بلال فيصلي النبي r بالناس فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الَّذِين يصلون معه r، ولانقل أحد عنه أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة. ولا وقت بقوله صلاة مقدرة قبل الجمعة بل ألفاظه r فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت ( [154] ) كقوله: ((وصلى ما كتب له)) ( [155] ) .(8/110)
ثالثا: إن هذا هو المأثور عن الصحابة كانوا إذا أتو المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر ( [156] ) فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي ثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثمان ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك ( [157] ) .
رابعا: الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة وقت الزوال ( [158] ) كحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند مسلم ( [159] ) بلفظ ((ثلاث ساعات كان رسول الله r ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف للغروب حتى تغرب)) .
وفي الباب أحاديث بمعناه. ( [160] )
المناقشة:
نوقشت أدلة أصحاب هذا القول:
أما الدليل الأول والثاني:
قَال ابن رجب ( [161] ) - رحمه الله - في الجواب عن ذلك: ((وقد زعم بعضهم أن حديث ابن عمر المخرج في هذا الباب يدل على أن النبي r لم يكن يصلي قبل الجمعة شيئا لأنه ذكر صلاته بعد الجمعة وذكر صلاته قبل الظهر وبعدها فدل على الفرق بينهما.
وهذا ليس بشيء فإن ابن عمر قد روي عنه ما يدل على صلاة النبي r قبل الجمعة كما سبق ( [162] ) ، ولعله إنما ذكر الركعتين بعد الجمعة لأن النبي r كان يصليها في بيته بخلاف الركعتين قبل الظهر وبعدها فإنه كان أحيانا يصليها في المسجد فبهذا يظهر الفرق بينهما وقد ثبت أن النبي r كان إذا عمل عملا داوم عليه ولم يكن ينقضه يوم الجمعة ولا غيرها بل كان الناس يتوهمون أنه كان يزيد في صلاته يوم الجمعة لخصوصه فكانت عائشة تسأل عن ذلك فتقول: ((لا بل كان عمله ديمة)) .
وقد صح عنه أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وأربعا.
وفي صحيح ابن حبان ( [163] ) عن عائشة قَالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج صلى ركعتين وقد رويناه من وجه آخر عن عائشة قَالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي قط إلا صلى ركعتين.(8/111)
وقد كان من هدي المسلمين صلاة ركعتين عند خروجهم من بيوتهم من الصحابة ومن بعدهم، وخصوصا يوم الجمعة، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن عباس وطاووس وأبو مجلز ورغب فيه الزهري، وقال الأوزاعي كان ذلك من هدي المسلمين وقد سبق في باب الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب ما يدل على ذلك أيضا وحينئذ فلا تستنكر أن يكون النبي r كان يصلي في بيته ركعتين قيبل خروجه إلى الجمعة)) .
وهذا الكلام من ابن رجب محل نظر من وجوه:
الأول: قوله فإن ابن عمر قد روى عنه ما يدل على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الجمعة....)) فإن حديث ابن عمر المرفوع منه صلاة الركعتين بعد الجمعة، أما قبل الجمعة فمن فعل ابن عمر كما سيأتي بيان ذلك في الجواب عن الدليل الأول من أدلة أصحاب القول الثاني.
ثانيا قوله: ولعله إنما ذكر ركعتين بعد الجمعة، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في بيته....))
فيقال إن المقام مقام حصر وبيان ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليه قبل الصلوات وبعدها ولهذا في لفظ للبخاري ( [164] ) : ((حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات)) وفي لفظ له ( [165] ) قَال: وحدثتني أختي حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها)) .
فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الجمعة لنقله ابن عمر رضي الله عنهما كما نقل الركعتين بعدها والله أعلم.(8/112)
ثالثا: قوله: وفي صحيح ابن حبان عن عائشة.... هذا الحديث في سنده شريك بن عبد الله القاضي ضعف من قبل سوء حفظه ثم إنه لو صح فهو في الخروج من المنزل للجمعة وغيرها، والمقام هنا في بيان سنة الجمعة القبلية، ولهذا لفظه عند ابن حبان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قَال: قلت لها بأي شيء كان يبدأ رسول الله r إذا دخل عليك وإذا خرج من عندك؟ قالت: كان يبدأ إذا دخل بالسواك وإذا خرج صلى ركعتين)) .
رابعا: ما نقله عن ابن عباس وغيره من الصلاة يوم الجمعة في بيوتهم فهذا فهذا محمول على مطلق التنفل يوم الجمعة لا سنة الجمعة ولهذا ورد عنه أنه يصلي قبل الجمعة ثمان ركعات وابن عمر ثنتي عشرة ركعة وعلي ست وابن مسعود أربعا من غير تقييد بحد كما تقدم. ( [166] )
خامسا: قوله ((وقد سبق في باب الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب ما يدل على ذلك ... ))
فإن هذا في تحية المسجد لا في سنة الجمعة وقد أمر الداخل للمسجد أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين سواء كان يوم الجمعة أو غيره وسواء كان وقت صلاة أو لا. ( [167] )
أما الدليل الرابع:
قَال الشوكاني ( [168] ) : ((وهو مع كون عمومه مخصصا بيوم الجمعة ليس فيه ما يدل على المنع من الصلاة قبل الجمعة على الإطلاق وغاية ما فيه المنع في وقت الزوال وهو غير محل النزاع)) . ا. هـ
وقَال الحافظ ابن حجر ( [169] ) : ((وقد استثنى الشافعي ومن وافقه من ذلك - أي النهي وقت الزوال - يوم الجمعة وحجتهم أنه - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس إلى التبكير يوم الجمعة ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام وجعل الغاية خروج الإمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال فدل على عدم الكراهة.
وجاء فيه حديث عن أبي قتادة مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة)) وفي إسناده إنقطاع وقد ذكر البيهقي ( [170] ) شواهد ضعيفة إذا ضمت قوى الخبر والله أعلم)) . اهـ(8/113)
القول الثاني: أن الجمعة لها سنة قبلها فمنهم من جعلها ركعتين كما قَاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد في رواية وطائفة من أصحابه.
ومنهم من جعلها أربعا وهو رواية عن أحمد وطائفة من أصحابه وأصحاب أبي حنيفة ( [171] ) ، وحكى ابن رجب القول بالسنية عن أكثر العلماء ( [172] ) واختاره.
واحتجوا بما يأتي:
أولا: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك)) .
أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي بسند صحيح. ( [173] )
وجه الدلالة أن قوله: ((يفعل ذلك)) عائد إلى الصلاة قبل الجمعة وبعدها فهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الجمعة. ( [174] )
قَال ابن رجب ( [175] ) : ((وظاهر هذا يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين وهذا فيما وضع للإشارة إلى البعيد أظهر مثل لفظة ((ذلك)) فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة)) .
ثانيا: حديث عبد الله بن المغفل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: ((بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قَال في الثالثة لمن شاء)) متفق عليه ( [176] ) .
وجه الدلالة أنه يدل على مشروعية الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة ( [177] ) .
ثالثا: حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - قَال: قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان)) . ( [178] )
أخرجه ابن حبان ( [179] ) وغيره.
وجه الدلالة أن صلاة الجمعة صلاة مفروضة فيكون بين يديها ركعتان. ( [180] )(8/114)
رابعا: حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما قَالا: ((جاء سليك الغطفاني ورسول الله r يخطب فقال له النبي r: ((أصليت ركعتين قبل أن تجيء؟)) قَال: لا. قَال: ((فصل ركعتين وتجوز فيهما)) .
أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى. ( [181] )
وجه الدلالة قوله: ((قبل أن تجيء)) يدل على أن هاتين الركعتين سنة للجمعة قبلها وليستا تحية المسجد. ( [182] )
خامسا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا لايفصل بينهن)) . ( [183] )
أخرجه الطبراني وابن ماجه موضع الشاهد منه فقط. ( [184] )
سادسا: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا يجعل التسليم في آخرهن ركعة)) . ( [185] )
أخرجه الطبراني ( [186] ) . وفي الباب عن ابن مسعود. ( [187] )
سابعا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين)) ( [188] ) .
أخرجه البزار والطبراني. ( [189] )
ثامنا: عن أبي عبد الرحمن السلمي قَال: كان عبد الله بن مسعود يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعا.
أخرجه ابن المنذر في الأوسط ( [190] ) وغيره وفي بعض ألفاظه ((إنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا)) من فعله. ( [191] )
تاسعا: حديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين وكان لايصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)) .
متفق عليه. ( [192] )
وجه الدلالة أن البخاري بوب على هذا الحديث فقال: باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها.
قَال ابن المنير ( [193] ) : ((كأنه يقول الأصل إستواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه لأن الجمعة بدل الظهر)) .(8/115)
عاشرا: الأحاديث الواردة في مشروعية الصلاة بعد الزوال. ( [194] )
ومن هذه الأحاديث حديث علي - رضي الله عنه - في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار وفيه ((وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها..)) الحديث أخرجه أحمد ( [195] ) والترمذي ( [196] ) والنسائي ( [197] ) وابن ماجة ( [198] ) من طرق عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به مرفوعا وسنده حسن كما قَاله المرداوي. ( [199] )
وأبو إسحاق مختلط لكن من الرواة عنه شعبة وسفيان وهما ممن روى عنه قديما كما ذكره الحافظ ( [200] ) .
وجه الدلالة منه قَال الشوكاني ( [201] ) : ((فيه دليل على استحباب أربع ركعات إذا زالت الشمس)) .
وقَال العراقي ( [202] ) : ((وهي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها)) .
وممن نص على استحباب صلاة الزوال الغزالي في الإحياء في كتاب الأوراد. ( [203] )
الحادي عشر: الأحاديث الدالة على مشروعية الصلاة يوم الجمعة قبل خروج الإمام ( [204] ) كحديث أبي هريرة وأبي سعيد وسلمان الفارسي ونبيشة الهذلي وأبي الدرداء وأبي أيوب وغيرها ( [205] ) ، وفي بعض ألفاظها:
(( ... ثم أتى الجمعة فصلى ما كتب له)) وفي لفظ ((صلى ما بدا له)) وفي لفظ ((وركع ما قضى له)) .
قَال الشافعي ( [206] ) : ((من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام)) .
قَال البيهقي: ((هذا الَّذِي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغب في التبكير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام)) .
الثاني عشر: أنها ظهر مقصورة فثبت لها أحكام الظهر فتكون سنة الظهر القبلية سنة لها. ( [207] )
الثالث عشر: قياسا على الظهر فإن الظهر له سنة قبلية فكذلك الجمعة. ( [208] )(8/116)
قَال العراقي ( [209] ) : ((وهذه الأمور التي استدل بها على سنة الجمعة قبلها إن كان في كل منها على انفراده نظر فمجموعها قوي يضعف معه إنكارها، وأقوى ما يعارض ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يؤذن في زمنه يوم الجمعة غير أذان واحد في أول الوقت وهو على المنبر وذلك الأذان يعقبه الخطبة ثم الصلاة فلا يمكن مع ذلك أن يفعلها النبي r ولا أحد من أصحابه، وبالجملة فالمسألة مشكلة)) اهـ.
المناقشة:
نوقشت أدلة أصحاب هذا القول بما يأتي:
الدليل الأول أجيب عنه أن قوله ((كان يفعل ذلك)) عائد إلى صلاة الركعتين بعد الجمعة في بيته.
قَال ابن القيم ( [210] ) - رحمه الله - فيه: وهذا لاحجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها وإنما أراد بقوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك: أنه كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لايصليها في المسجد وهذا هو الأفضل فيهما كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته وفي السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل بالمسجد فقيل له فقال: كان رسول الله r يفعل ذلك.
وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة فإنه تطوع مطلق، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام كما تقدم من حديث أبي هريرة ونبيسة الهذلي عن النبي r ... اهـ.
وقَال الحافظ ابن حجر ( [211] ) : وتعقب بأن قوله: ((وكان يفعل ذلك)) عائد على قوله: ((ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته)) ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فصلى سجدتين في بيته ثم قَال: كان رسول الله r يصنع ذلك)) أخرجه مسلم.(8/117)
وأما قوله: ((كان يطيل الصلاة قبل الجمعة)) فإن كان المراد به بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا لأنه r كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لاصلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره حيث قَال فيه ((ثم صلى ما كتب له.))
وكذا أبو شامة ( [212] ) أجاب بنحو هذا الجواب
أما الجواب عن الدليل الثاني:
فإنه لايدل على ثبوت سنة راتبة قبل الجمعة كالعصر والعشاء، ثم لو سلم بهذا وأن الحديث يدل على ذلك فإن الجمعة مخصوصة من هذا العموم لظاهر فعل النبي r وأنه لم ينقل أن النبي r بعد أذان المؤذن يوم الجمعة يصلي حتى يوافق هذا الحديث بين الأذان والإقامة.
قَال شيخ الإسلام ابن تيمية ( [213] ) : ((والصواب أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، ولو كان الأذانان على عهده فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قَال: ((بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل ذانين صلاة ثم قَال في الثالثة: لمن شاء)) كراهية أن يتخذها الناس سنه فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر وقبل العشاء الأخرى وقبل المغرب وأن ذلك ليس بسنة راتبة وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب وهو يراهم فلا ينهاهم ولا يأمرهم ولا يفعل هو ذلك فدل على أن ذلك فعل جائز.
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله ((بين كل أذانين صلاة)) وعارضه غيره، فقال الأذان الَّذِي على المنابر لم يكن على عهد النبي r ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده، ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر ويتوجه أنه يقال إن هذا الأذان لما سنه عثمان واتفق المسلمون عليه، صار أذانا شرعيا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب.(8/118)
وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ومن ترك ذلك لم ينكر عليه وهذا أعدل الأقوال وكلام الإمام أحمد يدل عليه..)) اهـ.
وقال العراقي ( [214] ) : ((ولقائل أن يعترض على الاستدلال به بأن ذلك كان متعذرا في حياته - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان بين الأذان والإقامة الخطبة فلا صلاة حينئذ ثم بعد أن حدد عثمان الأذان على الزوراء يمكن أن يصلى سنة الجمعة قبل خروج الإمام للخطبة والله أعلم)) .
وأما الجواب عن الدليل الثالث: أن يقال إن هذا نظير حديث عبد الله بن المغفل - الدليل الثاني - فهو لا يدل على إثبات راتبة قبل الجمعة مثل العصر والعشاء ثم لو سلم بهذا لكانت الجمعة مخصوصة بدليل فعل النبي r أنه لم يصل قبلها.
قَال العراقي ( [215] ) : ((لكن يضعف الاستدلال به من جهة أنه عموم يقبل التخصيص فقد يقدم عليه ما هو الظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك)) .
أما الجواب عن الدليل الرابع فمن وجوه هي:
الأول: أن هذه اللفظة ((قبل أن تجيء)) غلط كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية. ( [216] )
وقَال المزي ( [217] ) : هذا تصحيف من الرواة إنما هو ((أصليت قبل أن تجلس))
فغلط فيه الناسخ وقَال: ((وكتاب ابن ماجة إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به بخلاف صحيح البخاري ومسلم فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما)) .
وقَال ابن القيم ( [218] ) : ((ومما يؤيد هذا - أي الغلط - أن الَّذِين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها لم يذكر واحدا منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها وإنما ذكروه في استحباب تحية المسجد والإمام على المنبر واحتجوا به على من منع فعلها في هذه الحال فلو كانت هي من سنة الجمعة لكان ذكرها هناك والترجمة عليها وحفظها وشهرتها أولى من تحية المسجد)) .
الثاني: إن هاتين الركعتين هما تحية المسجد.(8/119)
قَال أبو شامة ( [219] ) : ((قَال بعض من صنف في عصرنا قوله: ((قبل أن تجيء)) يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة قبلها وليست تحية المسجد كأنه توهم أن معنى قوله قبل أن تدخل المسجد أي أنه صلاها في بيته وليس الأمر كذلك، فقد أخرج هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما وليس في واحد منها هذا اللفظ وهو قوله ((قبل أن تجيء)) فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قم)) دليل على أنه لم يشعر به إلا هو قد تهيأ للجلوس فجلس قبل أن يصلي فكلمه حينئذ وأمره بالقيام وجوز أنه يكون صلى الركعتين عند أول دخوله إلى المسجد قريبا من الباب ثم اقترب من رسول الله r ليسمع الخطبة فسأله أصليت؟ قَال: لا. فقوله فيما أخرجه ابن ماجه ((قبل أن تجيء)) يحتمل أن يكون معناه قبل أن تقرب مني لسماع الخطبة، وليس المراد قبل أن تدخل المسجد فإن صلاته قبل دخول المسجد غير مشروعة فكيف يسأله عنها، وذلك أن المأمور به بعد دخول وقت الجمعة إنما هو السعي إلى مكان الصلاة فلا يشتغل بغير ذلك وقبل دخول الوقت لايصح فعل السنة على تقدير أن تكون مشروعة.
ومن الدليل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل أحدا غير هذا الرجل الداخل عن كونه صلى سنة الجمعة أو لم يصل. دل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتن بالبحث عن ذلك، وإنما لما رآه قد جلس ولم يفعل ما هو مشروع له من تحية المسجد بركعتين أمره بهما ثم قَال: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)) أي أن خطبة الإمام والاستماع لها غير مانع من تحية المسجد ... )) اهـ.(8/120)
الثالث: قَال الحافظ ابن حجر ( [220] ) : ويحتمل أن يكون معنى ((قبل أن تجيء)) أي إلى الموضع الَّذِي أنت به الآن وفائدة الاستفهام: احتمال أن يكون صلاها في مؤخرة المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الَّذِي تخطى، ويؤيده أنه في رواية مسلم ((أصليت الركعتين)) بالألف واللام وهو للعهد ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد.
أما الجواب عن الدليل الخامس والسادس والسابع أي حديث ابن عباس وعلي وأبي هريرة y فإنها أحاديث ضعيفة وقد تقدم الكلام عليها. ( [221] )
قَال الحافظ ابن حجر ( [222] ) : وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم تثبت فيها شيء.
أما الجواب عن الدليل الثامن:
قَال أبو شامة ( [223] ) : ((المراد من صلاة عبد الله بن مسعود قبل الجمعة أربعا أنه كان يفعل ذلك تطوعا إلى خروج الإمام كما تقدم ذكره، فمن أين لكم أنه كان يعتقد أنها سنة الجمعة، وقد جاء عن غير واحد من الصحابة y أكثر من ذلك.
وقَال أبو بكر بن المنذر: روينا عن ابن عمر أنه كان يصلي قبل الجمعة اثنتى عشرة ركعة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يصلي ثماني ركعات ( [224] ) .
وهذا دليل على أن ذلك منهم من باب التطوع من قبل أنفسهم من غير توقيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك اختلف العدد المروي عنهم.
وباب التطوع مفتوح، ولعل ذلك يقع منهم أو معظمه قبل الأذان ودخول وقت الجمعة لأنهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام وقد فعلوا مثل ذلك في صلاة العيد وقد علم قطعا أن صلاة العيد لاسنة لها، وكانوا يصلون بعد ارتفاع الشمس في المصلى وفي البيوت ثم يصلون العيد، روى ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين وبوب له البيهقي بابا في سننه.(8/121)
ثم الدليل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من بيته يوم الجمعة فيصعد منبره ثم يؤذن المؤذن فإذا فرغ أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته ولو كان للجمعة سنة قبلها لأمرهم بعد الأذان بصلاة السنة وفعلها هو - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الأذان الَّذِي بين يدي الخطبة وعلى ذلك مذهب المالكية إلى الآن)) اهـ.
أما الجواب عن الدليل التاسع:
إنه ليس فيه دلالة على اثبات السنة القبلية.
قَال ابن القيم ( [225] ) : ((هذا لاحجة فيه ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء؟ ثم ذكر هذا الحديث أي أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ولم يرد قبلها شيء.
وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين فإنه قَال: باب الصلاة قبل العيد وبعدها.(8/122)
وقَال أبو المعلّى سمعت سعيدا عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد ثم ذكر حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين ولم يصل قبلها ولا بعدها ومعه بلال. الحديث فترجم للعيد مثل ما ترجم للجمعة وذكر للعيد حديثا دالا على أنه لاتشرع الصلاة قبلها ولا بعدها فدل على أن مراده من الجمعة كذلك وقد ظن بعضهم أن الجمعة لما كانت بدلا من الظهر - وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دل الحديث على أن الجمعة كذلك، وإنما قَال: ((وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف)) بيانا لموضع صلاة السنة بعد الجمعة وأنه بعد الانصراف، وهذا الظن غلط منه لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديث ابن عمر t: صليت مع رسول الله r سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد الظهر وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر وإلا لم يحتج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها علم أنه لاسنة لها قبلها)) .اهـ
وقَال أبو شامة ( [226] ) : ((مراده في هذه الترجمة - يعني البخاري - أنه هل ورد شيء في الصلاة قبلها وبعدها؟ ثم ذكر هذا الحديث أي أنه لم يرد إلا بعدها ولم يرد قبلها شيء....)) ثم ذكر نحو كلام ابن القيم المتقدم.
أما الجواب عن الدليل العاشر:
قَال العراقي ( [227] ) : ((ولقائل أن يقول هذه سنة الزوال ففي حديث علي أنه يصلي بعدها أربعا قبل الظهر. ( [228] )
لكنه قَال: وقد يجاب عنه بأنه حصل بالجملة إستحباب أربع بعد الزوال كل يوم سواء فيه يوم الجمعة وغيره وهو المقصود)) . اهـ
لكن قد يقال إن هذا مخصوص منه يوم الجمعة لفعل النبي r كما تقدم.
أما الجواب عن الدليل الحادي عشر:
أن هذه الأحاديث ليس فيها دلالة على سنة الجمعة بل هي تنفل مطلق وهكذا كان هدي الصحابة - رضي الله عنهم -.(8/123)
قَال ابن القيم ( [229] ) عقب حديث أبي هريرة ونبيشة: ((هكذا كان هدي الصحابة y)) .
قَال ابن المنذر ( [230] ) : روينا عن ابن عمر ( [231] ) أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة وعن ابن عباس أنه كان يصلي ثمان ركعات وهذا دليل على أن ذلك منهم من باب التطوع المطلق ولذلك اختلف في العدد المروي عنهم في ذلك.
وقال الترمذي في الجامع وروي عن ابن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا وإليه ذهب ابن المبارك والثوري.
وقَال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري: رأيت أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا يفصل بينهما بالسلام فإذا صلى الفريضة انتظر في المسجد ثم يخرج منه فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس وربما صلى أربعا ثم يجلس ثم يقوم فيصلي ركعتين آخرين، فتلك ست ركعات على حديث علي وربما صلى بعد الست ستا أخر أو أقل أو أكثر. وقد أخذ من هذا بعض أصحابه رواية أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعا وليس هذا بصريح بل ولا ظاهر فإن أحمد كان يمسك عن الصلاة في وقت النهي، فإذا زال وقت النهي قام فأتم تطوعه إلى خروج الإمام فربما أدرك أربعا وربما لم يدرك إلا ركعتين)) . اهـ
وقَال الحافظ ابن حجر ( [232] ) عقب حديث ابن عمر المتقدم أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة: ((وأما قوله ((كان يطيل الصلاة قبل الجمعة)) فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا لأنه r كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لاصلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره حيث قَال فيه ((ثم صلى ما كتب له)) اهـ
أما الجواب عن الدليل الثاني عشر:(8/124)
قَال ابن القيم ( [233] ) : ((وهذه حجة ضعيفة جدا فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر والعدد والخطبة والشروط المعتبرة لها، وتوافقها في الوقت، وليس إلحاق مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى لأنها أكثر مما اتفقا فيه)) .
وقال أبو شامة ( [234] ) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قَال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة. ((هذا دليل على أن الجمعة عندهم غير الظهر وإلا ما كان يحتاج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر ثم لم يذكر لها سنة إلا بعدها دل على أنه لاسنة قبلها)) .
وقَال شيخ الإسلام ابن تيمية ( [235] ) : إن هذا خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين وإن سميت ظهرا مقصورة فإن الجمعة يشترط لها الوقت فلا تقضى، والظهر تقضى والجمعة يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام وغير ذلك والظهر لايشترط لها ذلك فلا يجوز أن تتلقى أحكام الجمعة من أحكام الظهر مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر في حكم وتفارقها في حكم لم يكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل فليس جعل السنة في موارد الاشتراك بأولى من جعلها في موارد الافتراق.(8/125)
الوجه الثاني: أن يقال هب أنها ظهر مقصورة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة لاقبلها ولا بعدها وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم وكان السبب المقتضى لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة كما قَال بعض الصحابة: ((لو كنت متطوعا لأتممت الفريضة)) . فإنه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا وركعتين سنة.
وهذا لأنه قد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتواترة أنه كان لايصلي في السفر إلا ركعتين في الظهر والعصر والعشاء وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع لم يصل بهم بمنى وغيرها إلا ركعتين وكذلك أبو بكر بعده لم يصل إلا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل إلا ركعتين)) اهـ.
أما الجواب عن الدليل الثالث عشر:
قَال ابن القيم ( [236] ) : ((إنه قياس فاسد، فإن السنة ما كان ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو سنة خلفائه الراشدين وليس في مسألتنا شيء من ذلك، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس، لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا لم يفعله ولم يشرعه كان تركه هو السنة ونظير هذا أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس فلذلك كان الصحيح أنه لايسن الغسل للمبيت بمزدلفة ولا لرمي الجمار ولا للطواف ولا للكسوف ولا للإستسقاء لأن النبي r وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات)) .
الترجيح
الَّذِي يظهر والله أعلم رجحان القول الأول وهو أنه ليس للجمعة سنة قبلية وذلك لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة قبلها لامن قوله ولا من فعله وذلك أنه إذا أتى المسجد يوم الجمعة أذن المؤذن ثم خطب ولم ينقل عنه r أنه كان يصلي سنة الجمعة من وجه ثابت.(8/126)
وقد تقدم الجواب عن أدلة أصحاب القول الثاني وأنها مع كثرتها لاتقوى على إثبات السنية لأنها إما صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة.
وقد ذهب أبو شامة ( [237] ) ومحمد عبد السلام خضر ( [238] ) إلى أن جعل سنة للجمعة قبلها بدعة. ( [239] )
قَال أبو شامة ( [240] ) في بدع الجمعة: ((وقد جرت عادت الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك إلى خروج الإمام وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم ومعظمهم المتفقهة منهم أن ذلك سنة للجمعة قبلها كما يصلون السنة قبل الظهر ويصرحون في نيتهم بأنها سنة الجمعة ويقول من هو عند نفسه معتمدا على قوله: إن قلنا الجمعة ظهر مقصورة فلها كالظهر وإلا فلا وكل ذلك بمعزل عن التحقيق والجمعة لاسنة لها قبلها كالعشاء والمغرب وكذا العصر على قول وهو الصحيح عند بعضهم وهي صلاة مستقلة بنفسها حتى قَال بعض الناس هي الصلاة الوسطى وهو الَّذِي يترجح في ظني والعلم لما خصها الله تعالى به من الشرائط والشعائر وتقرير ذلك في موضع غير هذا إن شاء الله تعالى)) .اهـ
وقَال شيخ الإسلام ابن تيمية ( [241] ) : ((والصواب أن يقال ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة)) .
وقَال أيضا ( [242] ) : ((الصلاة قبلها جائزة حسنة وليست راتبة فمن فعل لم ينكر عليه ومن ترك لم ينكر عليه قَال: وهذا أعدل الأقوال، وكلام أحمد يدل عليه وحينئذ يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أنها سنة راتبة أو أنها واجبة فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة ولا واجبة، ولاسيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا. اهـ(8/127)
وقَال ابن القيم: ((وكان إذا فرغ بلال من الأذان أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة، ولم يكن الأذان إلا واحدا وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لاسنة قبلها وهذا أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة فإن النبي r كان يخرج من بيته فإذا رقى على المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة فإذا أكمله أخذ النبي r في الخطبة من غير فصل وهذا كان رأى عين فمتى كانوا يصلون السنة؟ ! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال t من الأذان ... قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة)) .
الخاتمة:
الحمد لله الَّذِي وفق وأعان على اتمام هذا البحث وإنجازه والَّذِي يشتمل على الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة مع الكلام على حكم سنة الجمعة القبلية وقد ظهر لي من خلال هذا البحث الأمور التالية:
- إن مجموع الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة قبل الجمعة (16) حديثا وأثراً منها (12) حديثا وأربعة آثار.
- إن الأحاديث الثابتة هي التي تنص على مطلق التنفل قبل الجمعة.
- إن الأحاديث التي فيها أن النبي r يصلي قبل الجمعة لاتصح.
- إن الأثار عن الصحابة مختلفة في مقدار ما يصلون فبعضهم يصلي أربعا وبعضهم ستا وبعضهم ثمان وبعضهم ثنتي عشرة ركعة.
- إن الأظهر من قولي العلماء أن الجمعة ليس لها سنة قبلها وإنما هو تنفل مطلق كما كان الصحابة يفعلون.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش والتعليقات
---
( [1] ) سورة آل عمران الآبة (102) .
( [2] ) سورة النساء الآية (1) .
( [3] ) سورة الأحزاب الآية (70، 71) .
( [4] ) الصحاح والسنة والمسانيد والمعاجم والزوائد وغيرها من مظانها.
( [5] ) في صحيحه (1/ 301 رقم 843) كتاب الجمعة باب الدهن للجمعة..
( [6] ) في المعجم الكبير (6/ 237 رقم 6089) .
( [7] ) في مجمع الزوائد (2/ 174) .(8/128)
( [8] ) (2/587 رقم 857) كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة.
( [9] ) في مسنده (5/ 420 - 421) .
( [10] ) في صحيحه (3/ 138 رقم 1775) كتاب الصلاة، باب فضل إنصات المأموم عند خروج الإمام....
( [11] ) في المعجم الكبير (4/ 160، 161 رقم 4006، 4007) .
( [12] ) عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري المدني، ثقة يقال له رؤية، مات سنة سبع أو ثمان وتسعين. خ م د س ف. الكاشف (2/ 108) التقريب (319) .
( [13] ) (6/ 307) .
( [14] ) (6/ 419) .
( [15] ) (7/ 240) تعجيل المنفعة (210) .
( [16] ) مجمع الزوائد (2/ 171) .
( [17] ) في مسنده (5/ 198) .
( [18] ) المراسيل (50) الجرح والتعديل (3/ 249) تعجيل المنفعة (94) .
( [19] ) (6/ 230) .
( [20] ) التاريخ الكبير (3/ 61) .
( [21] ) في المجمع (2/ 171) .
( [22] ) عطاء بن أبي مسلم الخراساني واسم أبيه ميسرة، وقيل عبد الله، صدوق يهم كثيرا، ويرسل ويدلس من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين، لم يصح أن البخاري أخرج له. م4. الكاشف (2/ 233) التَّقْرِيب (392) .
( [23] ) نبيشة بن عبد الله الهذلي، ويقال له نبيشة الخير، صحابي قليل الحديث. م4. معرفة الصحابة (5/2702) الإصابة (3/ 554) التَّقْرِيب (559) .
( [24] ) في مسنده (5/ 75) .
( [25] ) علي بن إسحاق السلمي مولاهم المروزي، أصله من ترمذ، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثلاث عشرة. ت. الكاشف (2/242) التَّقْرِيب (398) .
( [26] ) هو ابن المبارك..
( [27] ) يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا في روايته عن الزهري وهما قليلا وفي غير الزهري خطأ من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين على الصحيح، وقيل سنة ستين ومائة. ع. وقال الذهبي: أحد الأثبات. الكاشف
(3/267) التَّقْرِيب (614) .
( [28] ) انْظر: تَهْذِيب الْكَمَال (20 / 106) .(8/129)
( [29] ) في الترغيب والترهيب (1/ 487) .
( [30] ) المراسيل (157) تحفة المراسيل (لوحة 45) .
( [31] ) مجمع الزوائد (2/ 171) .
( [32] ) الضمير في قوله: ((يفعل ذلك)) . يعود على ((يصلي بعدها ركعتين في بيته)) بدليل رواية مسلم أن ابن عمر كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قَال: كان رسول الله r يصنع ذلك. الفتح (2/426) كما قاله الحافظ.
( [33] ) في سننه (1/ 672 رقم 1128) كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد الجمعة..
( [34] ) في صحيحه (3/168 رقم 1836) كتاب الصلاة باب استحباب تطويل الصلاة قبل الجمعة.
( [35] ) في صحيحه - الإحسان (6/227 رقم 2476) كتاب الصلاة، باب ذكر البيان بأن المصطفى r كان يصلي الركعات التي وصفناها في بيته لا في المسجد.
( [36] ) في السنن (3/240) كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة.
( [37] ) في مسنده (2/103)
( [38] ) الفتح الرباني (6/ 76) .
( [39] ) في المصنف (2/ 131) كتاب الصلاة، باب الصلاة قبل الجمعة.
( [40] ) هو عبد الله بن عون.
( [41] ) في شرح معاني الآثار (1/ 335) كتاب الصلاة باب تطوع الليل والنهار كيف هو..
( [42] ) جبلة بن سحيم كوفي ثقة، من الثالثة، مات سنة خمس وعشرين ومائة. ع. ووثقه الذهبي. الكاشف (1/124) التَّقْرِيب (138) .
( [43] ) في سننه (1/ 244 رقم 343) كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة..
( [44] ) في مسنده (3/ 81) .
( [45] ) في صحيحه (3/ 130 رقم 1762) كتاب الصلاة، باب فضيلة التطيب والتسوك ولبس أحسن ما نجد.
( [46] ) في صحيحه - الإحسان (7/ 16- 17 رقم 2778) كتاب الصلاة، باب ذكر البيان بأن السواك ولبس المرء أحسن ثيابه من شرائط الجمعة التي تكفر ما بين الجمعتين من الذنوب.
( [47] ) في مستدركه (1/ 283) كتاب الجمعة، باب من غسل يوم الجمعة ودنا من الإمام ...(8/130)
( [48] ) في سننه (3/243) كتاب الجمعة، باب السنة في التنظيف يوم الجمعة بغسل....
( [49] ) في شرح السنة (4/230 رقم1060) كتاب الصلاة، باب التنظيف والتطيب يوم الجمعة.
( [50] ) رقم (1، 2) .
( [51] ) السبب في إيراد هذا الحديث لفظة ((قبل أن تجيء)) استدل بها بعض العلماء على سنة الجمعة القبلية كما ذهب إليه المجد ابن تيمية في المنتقى (2/22) زاد المعاد (1/434) .
( [52] ) في سننه (1/ 353 رقم 1114) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن دخل المسجد والإمام يخطب.
( [53] ) في مسنده (3/ 449 رقم 1946) .
( [54] ) داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين خ. م. د. س. ق. الكاشف (1/ 221) التَّقْرِيب (198)
( [55] ) زاد المعاد (1/ 434) .
( [56] ) سيأتي تخريجه.
( [57] ) في سننه (1/667 رقم 116) كتاب الصلاة، باب إذا دخل الرجل والإمام يخطب..
( [58] ) محمد بن محبوب البناني البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين. خ. د. س. وقَال الذهبي: ثقة. الكاشف (3/ 82) التَّقْرِيب (505) ..
( [59] ) إسماعيل بن إبراهيم بن معمر بن الحسن الهذلي أبو معمر القطيعي، أصله هروي، ثقة، مأمون، من العاشرة، مات سنة ست وثلاثين ومائتين خ. م. د. س. الكاشف (1/69) التَّقْرِيب (105) .
( [60] ) في صحيحه - الاحسان - (6/ 246 رقم 1116) كتاب الصلاة، باب الأمر للداخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين.
( [61] ) في صحيحه (2/ 596 رقم 875) كتاب الجمعة، باب التحية والإما يخطب عن عيسى ابن يونس.
( [62] ) في مسنده (3/ 316، 317، 389) عن أبي معاوية وسفيان.
( [63] ) في مصنفه (3/244 رقم 5514) كتاب الصلاة، باب الرجل يجيء والإمام يخطب عن معمر والثوري.(8/131)
( [64] ) في شرح معاني الآثار (1/ 365) كتاب الصلاة، باب الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب هل ينبغي له أن يركع أم لا.
( [65] ) في صحيحه (3/167 رقم 1835) كتاب الصلاة، باب أمر الإمام في خطبته الجالس قبل أن يصليها بالقيام ليصليها.
( [66] ) في صحيحه - الاحسان (6/ 247 رقم 2501) كتاب الصلاة، باب ذكر البيان بأن الداخل المسجد والإمام يخطب.
( [67] ) في سننه (2/ 13) كتاب الصلاة، باب في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب..
( [68] ) في سننه (3/ 194) كتاب الجمعة، باب من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام على المنبر ولم يركع ركعتين..
( [69] ) في سننه (1/ 667 رقم 1117) كتاب الصلاة، باب إذا دخل الرجل والإمام يخطب.
( [70] ) في مسنده (3/ 297) .
( [71] ) في صحيحه (1/ 315 رقم 888) كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين. وانظر (رقم 889، 1113) .
( [72] ) في صحيحه وتقدم العزو إليه..
( [73] ) في سننه (1/ 667 رقم 1115) كتاب الصلاة، باب إذا دخل الرجل والإمام يخطب.
( [74] ) في سننه (2/ 384 رقم 510) كتاب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب.
( [75] ) في سننه (3/ 103 رقم 1400) كتاب الجمعة، باب الصلاة يوم الجمعة لمن جاء والإمام يخطب، وفي الكبرى (1/ 528 رقم 1703) .
( [76] ) في سننه (1/353 رقم 1112) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن دخل =المسجد والإمام يخطب كلهم عن عمرو بن دينار عن جابر إلا عند مسلم وابن ماجة والنسائي في الكبرى عن عمرو بن دينار وأبي الزبير عن جابر به.
( [77] ) زاد المعاد (1/434، 435) .
( [78] ) زاد المعاد (1/ 435) ونقل الحافظ نحو هذا الكلام عن المزني في التلخيص (2/ 74) .
( [79] ) الباعث على انكار البدع والحوادث (124) .
( [80] ) في الأوسط (4/ 568 رقم 3971) .(8/132)
( [81] ) عتاب بن بشير الجزري أبو الحسن أو أبو سهل مولى بني أمية صدوق يخطئ من الثامنة، مات سنة تسعين ومائة أو قبلها. خ. د. ت. س. الكاشف (2/ 213) التَّقْرِيب (380) .
( [82] ) خصيف بن عبد الرحمن الجزري أبو عون صدوق سيء الحفظ خلط بآخرة ورمي بالإرجاء، من الخامسة مات سنة سبع وثلاثين ومائة وقيل غير ذلك. 4. وقَال الذهبي: صدوق سيء الحفظ ضعفه أحمد. الكاشف (1/213) التَّقْرِيب (193) .
( [83] ) لم أجد له ترجمة.
( [84] ) الفتح (2/ 426) .
( [85] ) في مصنفه (3/ 247 رقم 5525) كتاب الجمعة، باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها.
( [86] ) في مصنفه (2/ 132) كتاب الصلاة، باب من كان يصلي بعد الجمعة ركعتين.
( [87] ) في الأوسط (4/ 126 رقم 1881) كتاب الجمعة، باب ذكر الدليل على أن الأمر بأن يصلي بعد الجمعة أربعا إنما هو لمن أراد ذلك.
( [88] ) في المعجم الكبير (9/310 رقم 9551، 9552) .
( [89] ) الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة (323، 332، 333) .
( [90] ) تَهْذِيب الْكَمَال (20/90) .
( [91] ) الكواكب النيرات (331) .
( [92] ) مقدمة ابن الصلاح (195) .
( [93] ) المراسيل (107) .
( [94] ) في التاريخ الكبير (5/ 73) .
( [95] ) المراسيل (108) .
( [96] ) المراسيل (107) .
( [97] ) المراسيل (107) .
( [98] ) التاريخ الكبير (5/73) .
( [99] ) في المصنف (3/247 رقم 5524) كتاب الصلاة،، باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها.
( [100] ) مجمع الزوائد (2/195) .
( [101] ) المراسيل (168) .
( [102] ) المراسيل (175) .
( [103] ) في المعجم الكبير (9/310 رقم 9555) .(8/133)
( [104] ) توفي ابن مسعود سنة (32) أول (33) أما أبو إسحاق السبيعي فإنه مات سنة (126) وقيل (127) وقيل (128) وقيل (129) وعمره (96) فتكون ولادته ما بين سنة (30) إلى (32) وقال ابن حبان مولده سنة (29) في خلافة عثمان ... ويقال كان مولده سنة (23) الثقات (5/177) تَهْذِيب الْكَمَال (16/127) (22/112) .
( [105] ) في مصنفه (2/131) كتاب الصلاة، باب الصلاة قبل الجمعة.
( [106] ) في الأوسط (4/ 97 رقم 1845) كتاب الجمعة، باب ذكر الصلاة قبل صلاة الجمعة.
( [107] ) المراسيل (256، 257) .
( [108] ) التَّقْرِيب (656) .
( [109] ) في شرح معاني الآثار (1/335) كتاب الصلاة، باب التطوع بالليل والنهار كيف هو.
( [110] ) التلخيص (2/74) .
( [111] ) التلخيص (2/74) .
( [112] ) لم أجده في المعجم الأوسط في ترجمة أحمد بن عمرو ولا في مجمع البحرين ولا في مجمع الزوائد.
( [113] ) (2/426) .
( [114] ) لم أجد هذا الحديث في كشف الأستار ولا في مختصر زوائد البزار للحافظ ولا في مجمع الزوائد في مظنته.
( [115] ) كذا في المعجم الأوسط ولعلها زائدة أو تكون العبارة ((في آخر ركعة)) ويحتمل أن يكون المعنى ((في آخرهن أي الأربع ركعات)) ركعة فموقع قوله ركعة تمييز.
( [116] ) في الأوسط (2/368 رقم 164) .
( [117] ) حصين بن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي، ثقة تغير حفظه في الأخير من الخامسة، مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون. ع.
وقَال الذهبي: ثقة. الكاشف (1/175) التَّقْرِيب (170)
( [118] ) عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من الثالثة، مات سنة أربع وسبعين ومائة 4. الكاشف (2/41) التَّقْرِيب (285) .
( [119] ) في الكامل (6/2198) .(8/134)
( [120] ) كذا نقله ابن عدي عن ابن حماد، وكذا نقله الحافظ في اللسان (5/245) والَّذِي في التاريخ (1/162) نقل حديث ابن مسعود في الدعاء، وقَال بعده: لايتابع عليه. ونقل ابن عدي أيضا هذا عنه في الكامل (6/2198) .
( [121] ) اللسان (5/245) .
( [122] ) الجرح والتعديل (7/326) .
( [123] ) الفتح (2/426) .
( [124] ) في المعجم الكبير (12/129 رقم 1264) .
( [125] ) بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو محمد صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة، مات سنة سبع وتسعين ومائة وله سبع وثمانون. خت. م4. وقَال الذهبي: وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات. الكاشف (1/106) التَّقْرِيب (126)
( [126] ) مبشر بن عبيد الحمصي أبو حفص، كوفي الأصل متروك رماه أحمد بالوضع، من السابعة له في ابن ماجة حديث واحد. ق. وقَال الذهبي: تركوه. الكاشف (3/104) التَّقْرِيب (519)
( [127] ) الحجاج بن أرطأة بن..... بن هبيرة النخعي، أبو أرطأة الكوفي القاضي، أحد الفقهاء، صدوق، كثير الخطأ والتدليس، من السابعة، مات سنة خمس وأربعين ومائة، بخ. م4. وقَال الذهبي: أحد الأعلام على لين فيه. الكاشف (1/147) التَّقْرِيب (152) .
( [128] ) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي، الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيرا، وكان شيعيا مدلسا من الثالثة، مات سنة إحدى عشرة ومائة. بخ د. ت. ق. وقال الذهبي: ضعفوه. الكاشف (2/235) التَّقْرِيب (393)
( [129] ) في السنة (1/358) رقم 1129) كتاب إقامة الصلاة،، باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة.
( [130] ) خلاصة الأحكام (2/813) .
( [131] ) نصب الراية (2/206) .
( [132] ) مصباح الزجاجة (1/377) .
( [133] ) مجمع الزوائد (2/195) .
( [134] ) التلخيص (2/74) .
( [135] ) الفتح (2/426) .(8/135)
( [136] ) ثعلبة بن أبي مالك القرضي، حليف الأنصار، أبو مالك، ويقال: أبو يحيى المدني مختلف في صحبته، وقال العجلي: تابعي ثقة. خ. د. ق. الكاشف (1/118) التَّقْرِيب (134) .
( [137] ) في الموطأ (1/103) كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب.
( [138] ) في مسنده (1/139 رقم 409) كتاب الصلاة، باب صلاة الجمعة.
( [139] ) في سننه (3/192) كتاب الجمعة، باب الصلاة يوم الجمعة نصف النهار وقبله وبعده حتى يخرج الإمام.
( [140] ) المجموع (4/550) .
( [141] ) لم أجده في المصنف في مظنته ولكن ذكره ابن رجب في فتح الباري بسنده إليه (8/329) .
( [142] ) في الأوسط (4/97 رقم 1844) كتاب الجمعة، باب الصلاة قبل صلاة الجمعة.
( [143] ) كذا وقع في الأوسط والإكمال (157) لكن قَال الحافظ ابن حجر هذا غلط نشأ عن تحريف وإنما هو سلْم بسكون اللام بعدها ميم. تعجيل المنفعة (1/564، 606) وهكذا وقع في التاريخ الكبير (4/157) والجرح والتعديل (4/266) والثقات لابن شاهين (52) وابن حبان (4/334) .
( [144] ) الإكمال (157) .
( [145] ) الجرح والتعديل (4/266) .
( [146] ) (152) .
( [147] ) (4/334) .
( [148] ) في الثقات (4/334) .
( [149] ) صافية ذكرها ابن سعد في الطبقات، وقَال: روت عن صفية بنت حيي رضي الله عنها. الطبقات (8/491) .
( [150] ) في الطبقات (8/491) .
( [151] ) الأم (1/ 197) الباعث على إنكار البدع والحوادث (121) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/189) زاد المعاد (1/432) الانصاف (2/406) ... (3/289) .
( [152] ) البخاري في صحيحه (1/ 317 رقم 895) كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها، ومسلم في صحيحه (1/504 رقم 729) كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.
( [153] ) فتح الباري لابن رجب (8/ 333) .(8/136)
( [154] ) الباعث على انكار البدع والحوادث (120) مجموع الفتاوى (24/188) زاد المعاد (1/432) النيل (3/290) .
( [155] ) تقدم هذا الحديث وما في معناه في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
( [156] ) تقدمت هذه الآثار في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
وانظر الأوسط لابن المنذر (4/98)
( [157] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (120) مجموع الفتاوى (24/188) زاد المعاد (1/432) النيل (3/290) .
( [158] ) نيل الأوطار (3/290) عون المعبود (3/476) .
( [159] ) في صحيحه (1/568 رقم 831) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
( [160] ) انظر: الفتح (2/62) .
( [161] ) فتح الباري (8/ 333، 334) .
( [162] ) يعني به الدليل الأول من أدلة أصحاب القول الثاني، وتقدم تخريجه في الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (6) .
( [163] ) الإحسان (6/ 260 رقم 2514) كتاب الصلاة، باب ذكر ما يستحب للمرء إذا أراد الخروج من بيته أن يودِّعه بركعتين. وفي سنده شريك بن عبد الله القاضي سيء الحفظ.
( [164] ) في صحيحه (1/395 رقم 1126) كتاب التطوع، باب الركعتان قبل الظهر..
( [165] ) في صحيحه (1/394 رقم 1119) كتاب التطوع، باب التطوع بعد المكتوبة..
( [166] ) تقدم تخريجها في الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
( [167] ) وقد سبق تخريج حديث جابر في دخول سليك الغطفاني المسجد والنبي r يخطب في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (7) .
( [168] ) النيل (3/ 290) .
( [169] ) الفتح (2/ 63) .
( [170] ) معرفة السنن (4/ 338 رقم 6329) .
( [171] ) المجموع (4/9) الباعث على إنكار البدع والحوادث (120) مجموع فتاوى ابن تيمية (24/189) فتح الباري لابن رجب (8/333) الانصاف (2/406) النيل (3/289) .
( [172] ) فتح الباري له (8/ 333) .(8/137)
( [173] ) تقدم الكلام على تخريجه في الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (6) .
( [174] ) زاد المعاد (2/ 435) فتح الباري لابن رجب (8/328) (الفتح 2/ 426) .
( [175] ) فتح الباري له (8/ 328) .
( [176] ) أخرجه البخاري في صحيحه (1/225 رقم 598 -601) ومسلم في صحيحه (1/573 رقم 838) .
( [177] ) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (2/187) الفتاوى (24/193) المجموع
(4/ 10) الفتح (2/ 436) النيل (3/289) .
( [178] ) فتح الباري (2/ 426) فيض القدير (5/486) النيل (3/289) .
( [179] ) في صحيحه (6/208 -209 رقم 2455) كتاب الصلاة، باب ذكر الأمر للمرء أن يركع ركعتين قبل كل صلاة فريضة يريد أداءها، من طريق محمد بن عمرو الغزي عن عثمان بن سعيد القرسي عن محمد بن مهاجر - بن أبي مسلم - عن ثابت بن عجلان عن سُلَيم بن عامر عن عبد الله بن الزبير به.
وفيه سليم بن عامر فإن كان هو الخبائري الحمصي فهو ثقة ومما يؤيد هذا أنه يروي عن ابن الزبير.
لكن أخرجه المروزي في قيام الليل - مختصر قيام الليل - (59) من طريق ثابت بن عجلان به لكنه قَال: فيه سليم بن عامر بن أبي عامر وكذا أخرجه ابن عدي في الكامل (2/524) فقال فيه: سليم أبو عامر.
لكن في سنديهما سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف.
قَال الهيثمي في المجمع (2/231) وفيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف.
وقَال الحافظ في التَّقْرِيب (249) سليم بن عامر الشامي أبو عامر صلى خلف أبي بكر من الثانية فرق ابن عساكر بينه وبين الأول - يعني الخبائري الحمصي - فأصاب.
وأخرجه الدارقطني في السنن (2/ 267) كتاب الصلاة، باب الحث على الركوع بين الأذانين في كل صلاة من ثلاثة طرق عن عثمان بن سعيد بن كثير عن محمد بن مهاجر عن سليم بن عامر عن أبي عامر الخبايري عن عبد الله بن الزبير به.(8/138)
فجعلهما اثنان سليم بن عامر عن أبي عامر الخبايري لكن قَال صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطني وفي نسخة صحيحة: سليم بن عامر أبي عامر الخبائري بحذف حرف عن ا. هـ
وهذا يؤيد أن سليم بن عامر واحد وهو الخبايري.
وفي سند الدارقطني مخالفة أخرى وهي أنه سقط منه ثابت بن عجلان بين محمد بن مهاجر وسليم ابن عامر.
لكن الحديث له شاهد يقويه وهو ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن المغفل أن النبي r قَال: بين كل أذانين صلاة ... )) وتقدم قبل هذا الدليل.
( [180] ) طرح التثريب (3/43) .
( [181] ) وتقدم الكلام على تخريجه في مبحث الكلام على أحاديث الصلاة قبل الجمعة رقم (7) .
( [182] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (123) زاد المعاد (1/434) الفتح (2/410) النيل (3/289) .
( [183] ) الفتح (2/426) .
( [184] ) تقدم الكلام عليه في الكلام على أحاديث الصلاة قبل الجمعة رقم (12) .
( [185] ) الفتح (2/426) .
( [186] ) تقدم في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (10) .
( [187] ) تقدم في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (9) .
( [188] ) الفتح (2/426) .
( [189] ) تقدم في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (11) .
( [190] ) تقدم الكلام عليه في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة رقم (9) .
( [191] ) الفتح (2/426) .
( [192] ) البخاري في صحيحه (1/317 رقم 895) كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها. ومسلم في صحيحه (2/504 رقم 729) كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنة الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.
( [193] ) الفتح (2/ 426) زاد المعاد 1/ 432) الباعث على إنكار البدع والحوادث (121) .
( [194] ) نيل الأوطار (3/289) وانْظر: مجمع الزوائد (2/ 219 - 220) .
( [195] ) في مسنده (2/ 262 رقم 650) تحقيق أحمد شاكر.(8/139)
( [196] ) في سننه (2/494 رقم 598) كتاب الصلاة، باب كيف كان تطوع النبي r بالنهار.
( [197] ) في سننه (2/119 رقم 874) كتاب الإمامة، باب الصلاة بعد الظهر.
( [198] ) في السنن (1/367 رقم 1161) كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيما يستحب من التطوع بالنهار.
( [199] ) كفاية المستقنع لأدلة المقنع (62 أ) .
( [200] ) هدي الساري (431) .
( [201] ) النيل (3/77) .
( [202] ) النيل (3/77) .
( [203] ) (1/402) .
( [204] ) الفتح (2/426) النيل (3/289) .
( [205] ) وقد تقدم تخريجها والكلام عليها في مبحث الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة، حديث رقم (1،2،3،4،5، 7) .
( [206] ) النيل (3/289) .
( [207] ) الفتاوى (24/189، 190) الباعث على إنكار البدع والحوادث (122) زاد المعاد (1/132) .
( [208] ) المجموع (4/10) زاد المعاد (1/432)
( [209] ) طرح التثريب (3/43) .
( [210] ) زاد المعاد (1/436) .
( [211] ) الفتح (2/426)
( [212] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (124) وانظر أيضا: عون المعبود (3/478) .
( [213] ) الفتاوى (24/193-194) .
( [214] ) طرح التثريب (3/42-43)
( [215] ) طرح التثريب (43) فيض القدير (5/486) .
( [216] ) زاد المعاد (1/434)
( [217] ) زاد المعاد (1/435)
( [218] ) زاد المعاد (1/435)
( [219] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (123) .
( [220] ) الفتح (2/410) .
( [221] ) في الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
( [222] ) الفتح (2/410،426) .
( [223] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (121) .
( [224] ) وتقدم تخريج هذين الأثرين في الأحاديث الواردة في الصلاة قبل الجمعة.
( [225] ) زاد المعاد (1/433) .
( [226] ) الباعث على انكار البدع والحوادث (122) .
( [227] ) طرح التثريب (3/43) .
( [228] ) يعني أنه صلى سنة الزوال ثم بعدها سنة الظهر القبلية.
( [229] ) زاد المعاد (1/ 436-437) .
( [230] ) في الأوسط (4/97) .(8/140)
( [231] ) تقدم الكلام على هذه الآثار في مبحث الكلام على أحاديث الصلاة قبل الجمعة.
( [232] ) الفتح (2/426) .
( [233] ) زاد المعاد (1/432) .
( [234] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (122) .
( [235] ) الفتاوى (24/190) .
( [236] ) زاد المعاد 1/432) .
( [237] ) الباعث على إنكار البدع والحوادث (119) طرح التثريب (3/41) .
( [238] ) السنن والمبتدعات (84) .
( [239] ) وقد ألف ابن رجب في هذه المسألة جزءا سماه: ((نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة)) ثم اعترض عليه بعض الفقهاء في زمانه فأجاب عن اعتراضهم في جزء سماه ((إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة)) . فتح الباري له (8/335) الانصاف (2/406) .
( [240] ) الباعث على انكار البدع والحوادث (119) .
( [241] ) مجموع الفتاوى (24/193) .
( [242] ) الإنصاف (2/ 406) .
المصادر والمراجع
1 - الإصابة في تمييز الصحابة: للحافظ ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، 1398هـ.
2 - أطراف مسند الإمام أحمد بن حنبل: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق د/ زهير ناصر الناصر، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ.
3 - إكمال إكمال المعلم: للإمام محمد بن خليفة الأبي، تحقيق محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت 1415هـ.
4 - الأم: للإمام الشافعي تصحيح محمد زهيري النجار، دار المعرفة، بيروت.
5 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لأبي الحسين علي بن سلمان المرداوي، تحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
6 - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: لأبي بكر بن المنذر، تحقيق د/ صغير أحمد محمد، دار طيبة، الطبعة الأولى 1405 هـ.
7 - الباعث على إنكار البدع والحوادث: للعلامة أبي شامة، تحقيق/ عادل عبد المنعم، مكتبة ابن سينا.
8 - بذل المجهود في حل أبي داود: للشيخ خليل أحمد الهارنفوري، دار الكتب العلمية، بيروت.(8/141)
9 - تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم: لأبي حفص عمر بن شاهين، تحقيق
د/ عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى.
10 - التاريخ الكبير: للإمام البخاري، توزيع دار الباز، مكة المكرمة.
11 - تاريخ يحيى بن معين: تحقيق أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، في جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399هـ.
12 - تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل: لولي الدين أبي زرعة العراقي مخطوط.
13 - الترغيب والترهيب في الحديث الشريف: للحافظ زكي الدين المنذري، تحقيق مصطفى محمد عماري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
14 - تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، تحقيق د/ إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى 1416هـ.
15 - تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عوامة، دار الرشد، سوريا، الطبعة الأولى 1406هـ.
16 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة، لبنان.
17 - تهذيب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى 1327هـ.
18 - تهذيب الكمال: للحافظ جمال الدين المزي، تحقيق د/ بشار عواد مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى.
19 - الثقات: لأبي حاتم بن حبان البستي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الطبعة الأولى 1399هـ.
20 - جامع الأصول في أحاديث الرسول: للإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
21 - جامع التحصيل في أحكام المراسيل: للحافظ صلاح الدين خليل بن كيلكلدي العلائي، تحقيق حمدي السلفي، الدار العربية، الطبعة الأولى 1398هـ.
22 - الجرح والتعديل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى 1372هـ.(8/142)
23 - خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام: للإمام يحيى بن شرف النووي، تحقيق حسين الجمل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418هـ.
24 - زاد المعاد في هدي خير العباد: لابن القيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثامنة 1405هـ.
25 - السنن -المجتبي-: للحافظ أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق أبي غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لطبعة الثانية 1406هـ.
26 -السنن: لأبي داود السجستاني الأزدي، تحقيق عزه عبيد الدعاس، دار الحديث، سوريا، الطبعة الأولى 1388هـ.
27 - السنن: للحافظ عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
28 - السنن: لأبي عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية 1396هـ.
29 - السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت.
30 - السنن: للحافظ علي بن عمر الدارقطني، تصحيح عبد الله هاشم اليماني. دار المحاسن للطباعة - القاهرة.
31 - السنن الكبرى: للبيهقي، دار الفكر.
32 - السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات: لمحمد عبد السلام خضر. دار الكتب العلمية.
33 - شرح السنة: للبغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403هـ.
34 - شرح مسلم: للإمام النووي، دار الفكر.
35 - شرح مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1415هـ.
36 - شرح معاني الآثار: لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق محمد زهير النجار، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
37 - صحيح البخاري -الجامع الصحيح المسند-: للإمام البخاري، تحقيق د/ مصطفى البغا، دار ابن كثير واليمامة، دمشق، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ.(8/143)
38 - صحيح ابن خزيمة: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق د/ محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390هـ.
39 - صحيح ابن حبان -الإحسان ترتيب الأمير علاء الدين-: للإمام أبي حاتم بن حبان البستي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408هـ.
40 - صحيح مسلم: للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
41 - الطبقات الكبرى: لابن سعد. دار صادر بيروت.
42 - طرح التثريب في شرح التقريب: لزين الدين أبي الفضل العراقي، دار إحياء التراث العربي.
43 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الدين العظيم أبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - المكتبة السلفية.
44 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأبي الفرج بن رجب الحنبلي، تحقيق جماعة من المحققين، نشر مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة 1417هـ.
45 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
46 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني مع شرحه بلوغ الأماني: لأحمد بن عبد الرحمن البنا، دار الشهاب، القاهرة.
47 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: للمناوي، دار الفكر الطبعة الثانية 1391هـ.
48 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: للإمام شمس الدين الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
49 - الكامل في ضعفاء الرجال: للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
50 - كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1404هـ.(8/144)
51 - كفاية المستقنع لأدلة المقنع: لأبي المحاسن جمال الدين المرادي (رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بتحقيقي) .
52 - الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الثقات: لأبي البركات محمد بن أحمد ابن الكمال، تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، دار المأمون للتراث، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1402هـ.
53 - لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية 1390هـ.
54 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: لداماد أفندي، دار إحياء التراث العربي.
55 - مجمع البحرين بزوائد المعجمين: للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1413هـ.
56 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة، الثالثة 1402هـ.
57 - المجموع شرح المهذب: للإمام النووي، دار الفكر.
58 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مكتبة المعارف - الرباط.
59 - مجموعة الرسائل الكبرى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده - مصر.
60 - مختصر قيام الليل: للإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، اختصار المقريزي حديث أكاديمي للنشر والتوزيع - باكستان.
61 - المدونة الكبرى: لإمام دار الهجرة مالك بن أنس، رواية الإمام سحنون بن سعيد، مطبعة دار السعادة، مصر، دار إحياء التراث العربي.
62 - المراسيل: لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، تحقيق شكرالله بن نعمة الله القوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ.
63 - المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم، دار الكتب العلمية.
64 - المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة.
65 - مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود الجارود، دار المعرفة، بيروت.(8/145)
66 - مسند الحميدي: للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، عالم الكتب، بيروت.
67 - مسند الشافعي: ترتيب محمد عابد السندي، تحقيق يوسف الحسيني وعزت الحسيني، دار الكتب العلمية. بيروت 1370.
68 - مسند أبي يعلي الموصلي أحمد بن علي التميمي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى 1404هـ.
69 - مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه: للبوصيري، تحقيق موسى محمد علي، والدكتورة عزة عطية، دار الكتب الحديثة، مصر.
70 - المصنف: للحافظ عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ.
71 - المصنف في الأحاديث والآثار: للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند، الطبعة الثانية 1399هـ.
72 - المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق د/ محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ.
73 - المعجم الكبير: لأبي قاسم الطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مطبعة الأمة، بغداد، ومطابع الزهراء الحديثة، الطبعة الأولى والثانية.
74 - معرفة السنن والآثار: للإمام البيهقي، تحقيق د/عبد المعطي قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية، ودار قتيبة للطباعة والنشر ودار الوعي ودار الوفاء - الطبعة الأولى 1412 هـ.
75 - معرفة الصحابة: لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل العزازي، دار الوطن، 1419هـ.
76 - مقدمة ابن الصلاح لأبي عمر بن الصلاح، دار الكتب العلمية، بيروت 1398 هـ.
77 - المغني: لأبي محمد بن قدامة المقدسي، مكتبة الرياض الحديثة.
78 - موطأ الإمام مالك بن أنس: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العلمية.
79 - نصب الراية لأحاديث الهداية: للعلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي، الطبعة الثانية.
80 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار: للعلامة الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.(8/146)
81 - هدي الساري مقدمة فتح الباري: لابن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تصحيح محب الدين الخطيب، نشر الرئاسة العامة لإدارت البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد، السعودية، الرياض.(8/147)
الكفر الأكبر
أ. د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين
الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض
ملخص البحث
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فهذا بحث في موضوع مهم من مواضيع العقيدة الإسلامية، وهو “ الكفر الأكبر ” وقد اشتمل على مقدمة مختصرة، ومبحثين وخاتمة.
المبحث الأول: تعريف الكفر الأكبر وحكمه.
المبحث الثاني: أنواعه.
وقد تكلمت في الخاتمة عن مسألة مهمة جداً، وهي “ تكفير المعين ” وقد حرصت أن يكون هذا البحث مناسباً للمتوسطين والمتخصصين، فجعلت المتن يناسب المتوسطين، وتوسعت في الحواشي ليستفيد منها المتخصصون، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، والذي ما ترك حقاً إلا بينه وحث عليه ولا ترك أمراً يقدح في دين العبد أو يكون سبباً في خلود المسلم في النار إلا وضحه وحذر منه.
أما بعد:
فهذا بحث في موضوع من أهم موضوعات العقيدة الإسلامية وهو “ الكفر الأكبر ” اتبعت فيه طريقة (المتن والحاشية) وذلك ليكون في المتن شيء من الاختصار بحيث يكون مناسباً للمتوسطين من طلبة العلم وتوسعت في الحواشي ليستفيد منها المتخصصون ومن يريد التوسع في مسائل هذا الموضوع، وقد حرصت في كتابته على سهولة العبارة ووضوح الأسلوب.
وقد اشتمل هذا البحث على هذه المقدمة المختصرة ومبحثين وخاتمة:
المبحث الأول: تعريف الكفر الأكبر وحكمه.
المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر.
الخاتمة: في تكفير المعين، وفي التحذير من التسرع في التكفير.
أسأل الله أن يرزقني الإخلاص والإصابة، وأن ينفع بهذا العمل عباده، وأن يكتب لمؤلفه الأجر والمثوبة، وأن يغفر ذنوبه إنه غفور رحيم جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المبحث الأول: تعريفه وحكمه:(8/148)
الكفر في اللغة: بمعنى الستر والتغطية، يقال لمن غطى درعه بالثوب: قد كفر درعه. ويقال للمزارع: "كافراً" لأنه يغطي البذر بالتراب، ومنه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان "كفراً"؛ لأن فيه تغطية للحق بجحد أو غيره، وقيل: سمي الكافر " كافراً" لأنه قد غطى قلبه بالكفر ( [1] ) .
والكفر في الاصطلاح: اعتقادات وأقوال وأفعال ( [2] ) جاء في الشرع ما يدل على أن من وقع فيها ليس من المسلمين ( [3] )
وحكم الكفر الأكبر هو أن من وقع فيه فليس من المسلمين، وهو مخلد في النار.
وإذا وقع المسلم في الكفر أو الشرك وحكم بكفره فهو " مرتد " يجب قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام ( [4] ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري ( [5] ) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:"" لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري ومسلم ( [6] ) .
المبحث الثاني: أنواع الكفر
للكفر أنواع كثيرة، أهمها:
1- كفر الإنكار والتكذيب:
وهو أن ينكر المكلف شيئاً من أصول الدين، أو أحكامه، أو أخباره الثابتة ثبوتاً قطعياً.
وذلك بأن ينكر بقلبه ( [7] ) ، أو لسانه ( [8] ) أصلاً من أصول الدين، أو حكماً من أحكامه، أو خبراً من أخباره المعلومة من دين الإسلام بالضرورة ( [9] ) والتي ورد في شأنها نص صريح من كتاب الله تعالى، أو وردت في شأنها أحاديث نبوية متواترة تواتراً معلوماً ( [10] ) ، وأجمع أهل العلم عليها إجماعاً قطعياً ( [11] ) ، أو ينكر ما يجزم هو في قرارة نفسه بأنه من دين الله تعالى ( [12] ) .
ومثل الإنكار بالقلب واللسان: أن يفعل ما يدل على إنكاره شيئاً من دين الله تعالى ( [13] ) .
وقد أجمع العلماء على كفر من وقع في هذا النوع – أي كفر الجحود ( [14] ) ؛ لأنه مكذب لكلام الله تعالى وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رادّ لهما ولإجماع الأمة القطعي.(8/149)
ومن أمثلة هذا النوع من أنواع الكفر الأكبر:
أ- أن ينكر شيئاً من أركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين، أو ينكر شيئاً مما أخبر الله عنه في كتابه، أو ورد في شأنه أحاديث متواترة وأجمع أهل العلم عليه إجماعاً قطعياً، كأن ينكر ربوبية الله تعالى أو ألوهيته، أو ينكر اسماً أو صفة لله تعالى مما أجمع عليه إجماعاً قطعياً، كأن ينكر صفة العلم ( [15] ) ، أو ينكر وجود أحد من الملائكة المجمع عليهم كجبريل أو ميكائيل – عليهما السلام – ( [16] ) ، أو ينكر كتاباً من كتب الله المجمع عليها، كأن ينكر الزبور أو التوراة أو القرآن ( [17] ) ، أو ينكر نبوة أحد من الأنبياء المجمع عليهم، كأن ينكر رسالة نوح أو إبراهيم أو هود – عليهم السلام – ( [18] ) ، أو ينكر البعث للأجساد والأرواح، أو ينكر الحساب أو الجنة أو النار، أو ينكر نعيم القبر أو عذابه، أو ينكر أن الله تعالى قدر جميع الأشياء قبل حدوثها.
ومنه أن يصحح أديان الكفار كاليهود أو النصارى أو غيرهم، أو لا يكفرهم ( [19] ) ، أو يقول: إنهم لن يخلدوا في النار، ومنه أن ينسب نفسه إلى غير دين الإسلام ( [20] ) ، ومنه أن ينكر صحبة أبي بكر، أو يقول بردة الصحابة أو أكثرهم، أو يقول بفسقهم كلهم، أو ينكر وجود الجن، أو ينكر إغراق قوم نوح ( [21] ) .
ب- أن ينكر تحريم المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كالسرقة، وشرب الخمر، والزنى، والتبرج، والاختلاط بين الرجال والنساء، ونحو ذلك، أو يعتقد أن أحداً يجوز له الخروج على شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجب عليه الالتزام بأحكامها، فيجوز له ترك الواجبات وفعل المحرمات ( [22] ) ، أو يعتقد أن أحداً يجوز له أن يحكم أو يتحاكم إلى غير شرع الله تعالى.
ج- أن ينكر حِلّ المباحات الظاهرة المجمع على حلها، كأن يجحد أكل لحوم بهيمة الأنعام، أو ينكر حل تعدد الزوجات، أو حل أكل الخبز، ونحو ذلك.(8/150)
د- أن ينكر وجوب واجب من الواجبات المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر وجوب ركن من أركان الإسلام، أو ينكر أصل وجوب الجهاد، أو أصل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أو ينكر سنية سنة من السنن أو النوافل المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر شيئاً من السنن الرواتب، أو ينكر استحباب صيام التطوع، أو حج التطوع، أو صدقة التطوع، ونحو ذلك ( [23] ) .
النوع الثاني: كفر الشك والظن:
وهو أن يتردد المسلم في إيمانه بشيء من أصول الدين المجمع عليها، أو لا يجزم في تصديقه بخبر أو حكم ثابت معلوم من الدين بالضرورة.
فمن تردد أو لم يجزم في إيمانه وتصديقه بأركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين المعلومة من الدين بالضرورة، والثابتة بالنصوص المتواترة، أو تردد في التصديق بحكم أو خبر ثابت بنصوص متواترة مما هو معلوم من الدين بالضرورة فقد وقع في الكفر المخرج من الملة بإجماع أهل العلم ( [24] ) ؛ لأن الإيمان لابد فيه من التصديق القلبي الجازم، الذي لا يعتريه شك ولا تردد، فمن تردد في إيمانه فليس بمسلم، وقد أخبرنا الله تعالى في قصة صاحب الجنة أنه كفر بمجرد شكه في أنه جنته – أي بستانه - لن يبيد – أي لن يخرب - أبداً، وشكه في قيام الساعة، حين قال:] ما أظن أن تبيد هذه أبداً [يريد جنته، وحين قال:] وما أظن الساعة قائمة [، فقال له صاحبه المؤمن:] أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً [[الكهف:35-38] ( [25] ) .(8/151)
ومن أمثلة هذا النوع: أن يشك في صحة القرآن، أو يشك في ثبوت عذاب القبر، أو يتردد في أن جبريل – عليه السلام – من ملائكة الله تعالى، أو يشك في تحريم الخمر، أو يشك في وجوب الزكاة، أو يشك في كفر اليهود أو النصارى، أو يشك في سنية السنن الراتبة، أو يشك في أن الله تعالى أهلك فرعون بالغرق، أو يشك في أن قارون كان من قوم موسى، وغير ذلك من الأصول والأحكام والأخبار الثابتة المعلومة من الدين بالضرورة، والتي سبق ذكر أمثلة كثيرة لها في النوع الأول.
النوع الثالث: كفر الامتناع والاستكبار:
وهو: أن يؤمن بأصول الإسلام وأحكامه بقلبه ولسانه ( [26] ) ، ولكن يرفض الانقياد بجوارحه لحكم من أحكامه ( [27] ) استكباراً وترفعاً.
وقد أجمع أهل العلم على كفر من امتنع من امتثال حكم من أحكام الشرع استكباراً ( [28] ) ؛ لأنه معترض على حكمة الله تعالى، وهذا قدح في ربوبيته جلّ وعلا، وإنكار لصفة من صفات الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة، وهي صفة "الحكمة" ( [29] ) .
وأوضح مثال على هذا النوع من أنواع الكفر: رفض إبليس امتثال أمر الله تعالى بالسجود لأبينا آدم – عليه السلام – استكباراً وترفعاً عن هذا الفعل الذي أمره الله تعالى به، معترضاً على ذلك بأنه هو أفضل من آدم، فلن يسجد له، حيث قال:] أنا خير منه خلقتني من نار وخلقتَه من طين [[الأعراف:12] ، وقال:] أأسجد لمن خلقتَ طيناً [[الإسراء:61] فاعترض على حكمة الله تعالى في هذا الأمر، ورفض الانقياد له من أجل ذلك.
ومن أمثلة هذا الكفر أيضاً أن يرفض شخص الحج تكبراً أن يحج مع الفقراء، أو يمتنع عن الصلاة في المسجد، لئلا يصلي بجانب العامة والفقراء، ونحو ذلك ( [30] ) .
النوع الرابع: كفر السبّ والاستهزاء:
وهو أن يستهزئ المسلم أو يسبّ شيئاً من دين الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى.(8/152)
وذلك بأن يستهزئ بالقول أو الفعل ( [31] ) بالله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته المجمع عليها، أو يصف الله تعالى بصفة نقص، أو يسب الله تعالى ( [32] ) ، أو يسب دين الله تعالى كأن يلعن هذا الدين، أو يلعن دين شخص مسلم، أو يقول: إن هذا الدين متخلف، أو رجعي، أو لا يناسب هذا العصر، أو يستهزئ بملائكة الله تعالى، أو بواحد منهم: كأن يسب ملك الموت، أو خزنة جهنم ( [33] ) ، أو يستهزئ أو يسب شيئاً من كتب الله، كأن يسب القرآن، أو يستهزئ به أو بآية منه بالقول، أو بالفعل بأن يهينه بوضعه في القاذورات ( [34] ) ونحو ذلك، أو يسب أحداً من أنبياء الله المجمع على نبوتهم أو يستهزئ بهم، كأن يسب النبي e أو يستهزئ به، أو يستهزئ بشيء من ما ثبت في القرآن أو السنة من الواجبات أو السنن، كأن يستهزئ بالصلاة، أو يستهزئ بالسواك، أو بتوفير اللحية، أو بتقصير الثوب إلى نصف الساقين مع علمه بأن ذلك من دين الله تعالى، أو يستهزئ بشخص لتطبيقه واجباً أو سنة ثابتة يعلم بثبوتها، وأنها من دين الله، أو يسب مسلماً من أجل التزامه بدين الله تعالى.
وقد أجمع أهل العلم على كفر من سبّ أو استهزأ بشيء مما ثبت أنه من دين الله تعالى، سواء كان هازلاً أم لاعباً أم مجاملاً لكافر أو غيره، أم في حال مشاجرة، أم في حال غضب ( [35] ) ، أم غير ذلك ( [36] ) ؛ لأن الله تعالى قد حكم بكفر من استهزأ بالله تعالى وبآياته وبرسوله محمد e، مع أنهم كما قالوا كانوا يلعبون ويقطعون الطريق بذلك ( [37] ) ، كما قال تعالى:] ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.. [ ( [38] ) [التوبة:66،65] ؛ ولأن من فعل ذلك فهو مستخف بالربوبية والرسالة ومستخف بعموم دين الله تعالى غير معظِّم لذلك كله، وهذا مناف للإيمان والإسلام ( [39] ) .
النوع الخامس: كفر البغض:(8/153)
وهو أن يكره شيئاً من دين الله تعالى ( [40] ) .
وقد أجمع أهل العلم على كفر من أبغض شيئاً من دين الله تعالى ( [41] ) ، لقوله سبحانه: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [[سورة محمد:9] ، ولأنه حينئذٍ يكون غير معظم لهذا الدين ( [42] ) ، بل إن في قلبه عداوة له، وهذا كله كفر ( [43] ) .
ومن أمثلة هذا النوع: أن يكره شيئاً من دين الله مما أجمع أهل العلم عليه، أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى، وقد سبق ذكر بعض الأمثلة عند الكلام على كفر الجحود وكفر السب والاستهزاء، فجميع ما ذكر فيهما من أبغض شيئاً منه فقد كفر.
ومن الكره الذي يوقع في الكفر ويخشى على كثير من المسلمين من الوقوع فيه: أن يفعل المسلم بعض المحرمات ثم يكره أن الله حرمها، أو يترك فعل بعض الواجبات ويكره أن الله أوجبها.
ومن ذلك: أن يتكاسل عن أداء صلاة الفجر في وقتها، فينام عنها حتى تطلع الشمس، ثم يكره أن الله شرعها في هذا الوقت، ويكره أن الله تعالى أوجب الصلاة في المساجد مع جماعة المسلمين.
ومنه أن يأكل الربا أو يتعاطى الرشوة، ويكره أن الله حرمهما، أو يسبل ثيابه أسفل من الكعبين ويكره أن الله حرمه، أو يحلق شعر العارضين والذقن – وهو شعر اللحية – ويكره أن الله أوجب توفيره.
فكل من كره شيئاً من هذه الأمور كفر، ولو فعل الواجب منها وترك المحرم؛ لأن الكفر إنما هو بسبب كرهم لشيء من هذه الأحكام الشرعية لا غير.
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً والتي يخشى على بعض المسلمين من الوقوع فيها: أن يكره الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أجل أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو يكره أحداً من المسلمين لالتزامه بشرع الله، سواء كان من أقاربه أم من غيرهم، أو يكره أن يحكم المسلمون بشرع الله، أو يكره أن يتمسك المسلمون بدينهم ونحو ذلك، فهذا كله من الكفر المخرج من الملة.
النوع السادس: كفر الإعراض:(8/154)
ورد ذكر الإعراض في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، وأصل الإعراض هو: التولي عن الشيء، والصدود عنه، وعدم المبالاة به.
والإعراض عن دين الله تعالى قسمان:
القسم الأول: إعراض مكفر: وهو أن يترك المرء دين الله ويتولى عنه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو يتركه بجوارحه مع تصديقه بقلبه ونطقه بالشهادتين.
وهذا القسم له ثلاث صور، هي:
1- الإعراض عن الاستماع لأوامر الله عز وجل، كحال الكفار الذين هم باقون على أديانهم المحرفة أو الذين لا دين لهم، ولم يبحثوا عن الدين الحق مع قيام الحجة عليهم، فهم أعرضوا عن تعلم ومعرفة أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً، فهم يمكنهم معرفة الدين الحق والسير عليه، ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ولم يرفعوا به رأساً.
2- الإعراض عن الانقياد لدين الله الحق وعن أوامر الله تعالى بعد استماعها ومعرفتها، وذلك بعدم قبولها فيترك ما هو شرط في صحة الإيمان، وهذا كحال الكفار الذين دعاهم الأنبياء وغيرهم من الدعاة إلى الدين الحق، أو عرفوا الحق بأنفسهم، فلم يسلموا، وبقوا على كفرهم، قال الله تعالى:] والذين كفروا عما أنذروا معرضون [[الأحقاف:3] .
3- الإعراض عن العمل بجميع أحكام الإسلام وفرائضه بعد إقراره بقلبه بأركان الإيمان ونطقه بالشهادتين.
فمن ترك جنس العمل بأحكام الإسلام، فلم يفعل شيئاً من الواجبات، لا صلاة ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا غيرها، فهو كافر كفراً أكبر ( [44] ) بإجماع السلف ( [45] ) ، لقوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [[آل عمران:32] ( [46] ) ، ولقوله تعالى:] ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون [[السجدة:22] ، ولآيات أخرى كثيرة تدل على كفر عموم المعرضين، ولأن تركه لجميع الأعمال الظاهرة دليل على خلو باطنه من الإيمان والتصديق الجازم ( [47] ) .(8/155)
القسم الثاني: الإعراض غير المكفر: وهو أن يترك المسلم بعض الواجبات الشرعية غير الصلاة ( [48] ) ، ويؤدي بعضها
النوع السابع: كفر النفاق:
وهو أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلاً في فصل مستقل – إن شاء الله تعالى – عند الكلام على مسائل النفاق.
النوع الثامن: الكفر بموالاة الكافرين:
موالاة الكفار تنقسم إلى قسمين:
1- ولاء كفري. 2- ولاء غير كفري.
وسيأتي الكلام على صور هذين القسمين في باب مستقل عند الكلام على الولاء والبراء - إن شاء الله تعالى -.
خاتمة فصل الكفر الأكبر:
بعد أن بيَّنتُ تعريف الكفر الأكبر وحكمه وأنواعه أحببت التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي: أن المسلم قد يقع في بعض أنواع الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر والتي قال أهل العلم: "من فعلها فقد كفر"، ولكن لا يحكم على هذا المسلم المعيّن بالكفر، وذلك لفقد شرط من شروط الحكم عليه بالكفر ( [49] ) ، أو لوجود مانع من ذلك ( [50] ) ، كأن يكون جاهلاً ( [51] ) ، كما في قصة الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرّقوه ثم يذروا رماده في يوم شديد الريح في البحر ( [52] ) ، فهو قد شك في قدرة الله على إعادة خلقه، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ومع ذلك غفر الله له لجهله وخوفه من ربه ( [53] ) .
ومن موانع التكفير للمعيَّن أيضاً: التأويل. فإذا أنكر المسلم أمراً معلوماً من الدين بالضرورة مثلاً، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان شبهة في تأويل، فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة إذا كان هذا التأويل سائغ في لغة العرب وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة ( [1] ) ، حتى لو بلغه الدليل فيما خالف فيه ولم يرجع، إذا احتمل بقاء الشبهة في قلبه، فإنه لا يحكم بكفره، لقوله تعالى:] ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [[الأحزاب:5] ( [54] ) .(8/156)
ولذلك لم يكفّر بعض العلماء كثيراً من المعتزلة وكثيراً من الجهمية ( [55] ) وكثيراً من غلاة الأشاعرة الذين ينكرون علو الله تعالى ( [56] ) ، ويقولون: إن الله تعالى في كل مكان بذاته ( [57] ) ، ومن أجله أيضاً لم يكفر بعض العلماء بعض من يغلون في الموتى ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى ( [58] ) ، ومن أجله كذلك لم يكفر الصحابة – رضي الله عنهم – الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أموراً كثيرة مجمعاً عليها بين الصحابة إجماعاً قطعياً ( [59] ) .
وعلى وجه العموم فهذه المسألة مسألة كبيرة من مسائل الاجتهاد التي تختلف فيها أنظار المجتهدين، وللعلماء فيها أقوال وتفصيلات ليس هذا موضع بسطها ( [60] ) .
ولهذا ينبغي للمسلم أن لا يتعجل في الحكم على الشخص المعين أو الجماعة المعينة بالكفر حتى يتأكد من وجود جميع أسباب الحكم عليه بالكفر، وانتفاء جميع موانع التكفير في حقه ( [61] ) ،وهذا يجعل مسألة تكفير المعين من مسائل الاجتهاد التي لا يحكم فيها بالكفر على شخص أو جماعة إلا العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد ( [62] ) ، لأنه يحتاج إلى اجتهاد من وجهين: الأول: هل معرفة هذا القول أو الفعل الذي صدر من هذا المكلف مما يدخل في أنواع الكفر الأكبر أو لا؟ . والثاني: معرفة الحكم الصحيح الذي يحكم به على هذا المكلف، وهل وجدت جميع أسباب الحكم عليه بالكفر وانتفت جميع الموانع من تكفيره أو لا؟ ( [63] ) .
والحكم على المسلم بالكفر وهو لا يستحقه ذنب عظيم؛ لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال، وحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر، وهو ليس كذلك، فقد ثبت عن أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" ( [64] ) .(8/157)
ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه النجاة أن لا يتعجل في إصدار الحكم على أحد من المسلمين بالكفر أو الشرك، كما يجب عليه أن يحذر من مجالسة الذين يخوضون في مسائل التكفير وهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد ( [65] ) . والله أعلم.
الحواشي والتعليقات
---
( [1] ) قال الإمام الشافعي في "الأم": الأقضية 6/205: "لم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم ردّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول".
قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/247: "وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة – رضي الله عنهم – لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها ... ". وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/563.
وقال الحافظ في الفتح: استتابة المرتدين. باب ما جاء في المتأولين 12/304: "قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم".
وقال الشيخ محمد بن عثيمين كما في المجموع الثمين 2/63: "النوع الثاني – أي من أنواع الجحود -: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر. الثاني: أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا بمعنى النعمة أو القوة فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفياً مطلقاً، فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى:] بل يداه مبسوطتان [المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر؛ لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مكذب".(8/158)
ويشترط في هذه الشبهة ألا تكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده والتحاكم إلى شريعته الذي هو مدلول الشهادتين، كما يشترط عدم احتمال أن يكون مدعيها مكذباً ومستحلاً على الحقيقة، كحال المنافقين والزنادقة الذين يؤولون ما لا يمكن تأويله، كالذين يؤولون القيامة والجنة والنار بأمور أخرى، كما يشترط أن يكون ما تأوله غير معلوم له بالضرورة، بحيث يكون له فيه شبهة. وينظر في عذر التأويل أيضاً: المغني 12/276، الشفا 2/529،500، مجموع الفتاوى 20/263-268، إيثار الحق على الخلق ص393،377،376، وينظر رسالة "منهج ابن تيمية في التكفير" 1/193-250، ورسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة: ضابط الإعذار بالشبهة ص357-363 وتنظر مراجع عذر الجهل السابقة.
وقال الدكتور محمد الوهيبي في النواقض الاعتقادية 2/27 بعد ذكره للتأويلات التي لا خلاف في عذر صاحبها: "وكذلك هناك تأويلات لا خلاف في عدم العذر بها، كتأويلات الباطنية والفلاسفة وغيرهم من الغلاة، وبين ذلك أصول تختلف الأنظار والاجتهاد في العذر بها من عدمه".
وقال الدكتور عبد الله القرني في ضوابط التكفير ص357: "ولهذا أجمع علماء المسلمين على تكفير الباطنية من نصيرية ودروز وإسماعيلية ونحوهم، وأنهم لا يعذرون بالشبهة؛ لأن حقيقة مذاهبهم أنهم لا يعبدون الله، ولا يلتزمون بشرائع الإسلام، بل يؤولونها بما لا يمكن بحال أن يكون له وجه". وينظر مجموع الفتاوى 35/162،161، إيثار الحق ص377.
وقد ألحق بعض أهل العلم بطوائف الباطنية السابقة الفرق التي تقدح في القرآن وتدّعي أنه محرف، أو أن أكثره مفقود، ولا تعمل بأكثر أحاديث النبي e، ولا تقبلها؛ لأن الصحابة الذين رووها مرتدون في زعمهم. وينظر قول ابن القيم الآتي قريباً.
---(8/159)
( [1] ) انظر لسان العرب، مادة "كفر"، وينظر الفصل لابن حزم 3/211. وقال ابن الجوزي في "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر " ص516، 517: "ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: أحدها الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة: {إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم..} ، والثاني: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة:] واشكروا لي ولا تكفرون [، والثالث: التبري، ومنه قوله تعالى في العنكبوت:] ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض [، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.. [، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد:] أعجب الكفار نباته.. [، يريد الزراع الذين يغطون الحَب".
( [2] ) وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو الفعل.
قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238هـ كما في تعظيم قدر الصلاة لتلميذه محمد بن نصر (ص930) ، رقم (991) : "ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد: فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى وما جاء من عنده ثم قتل نبياً أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً؛ أو ردّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف".
فقد حكى إسحاق – رحمه الله – إجماع السلف على أن من سبَّ الله وسب رسوله e، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله تعالى، أو رد شيئا مما أنزل الله تعالى باللسان فقط مع إيمانه بقلبه بجميع ما أنزل الله أنه يكفر بذلك القول أو الفعل المجرد.(8/160)
وقال الإمام أبوثور المتوفى سنة 240هـ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ص849) : "ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن"، فقد حكى أبوثور – رحمه الله – إجماع السلف على كفر من أظهر كلمة الكفر، ولو قال: إنه تلفظ بها من غير أن يعتقد مدلولها.
وقد حكى أبومحمد بن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" كتاب الإيمان 3/204، 211، 249، 251، 253 الإجماع على التكفير بمجرد النطق ببعض الأمور المكفرة، وبمجرد فعل بعض الأمور المكفرة، وقال 3/209: "بقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر، وبحكم رسول الله e بذلك، وبنص القرآن"، وقال 3/200: "وأما قولهم: إن إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفراً، وأن شتم الله ليس كفراً، ولكنه دليل على أن في القلب كفراً، وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة، لا دليل لهم عليها ولا برهان، لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلاً، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا منقول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن
صفوان، وما كان هكذا فهو باطل وإفك زور، فسقط قولهم هذا من قرب، ولله الحمد رب العالمين، فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول.."(8/161)
وقال ابن حزم أيضاً في آخر المحلى 11/411: "وأما سبّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً. قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام ... ولم يختلفوا في أن فيه – أي في القرآن - التسمية بالكفر والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة كقوله تعالى:] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [وقوله تعالى:] ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [فصح أن الكفر يكون كلاماً" انتهى كلامه بحروفه مختصراً.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في شرح كشف الشبهات ص102: "فهذا المذكور في هذا الباب – أي باب المرتد – إجماع منهم أنه يخرج من الملة ولو معه الشهاداتان لأجل اعتقاد واحد أو عمل واحد أو قول واحد، يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه".
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين كما في مجموعة الرسائل والمسائل 1/659: "المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلام أو اعتقاد أو فعل أو شك ... وهذا ظاهر بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع".
وقال العلامة الصنعاني في "تطهير الاعتقاد" ص26،25: "قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها".
ونقل صاحب المحيط كما في درر الحكام في الفقه الحنفي 1/324 الإجماع من كافة العلماء على كفر من نطق بكلمة الكفر ولو كان غير معتقد لما نطق به.
وقد نقل الشيخ علوي السقاف في رسالة "التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد" عن أكثر من مائة من علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ومن جميع المذاهب الفقهية أن الكفر يكون بمجرد النطق بقول مكفر، وبمجرد فعل مكفر.(8/162)
وينظر ما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من جحد بلسانه شيئاً من دين الله تعالى ص (190) ، وعلى كفر من سب شيئاً من دين الله أو استهزأ أوسخر به بالقول أو الفعل جاداً أو هازلاً ص (194) .
وقد أطال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/199-206 في الرد على من قال: إن الكفر بالقول أو الفعل، وذكر أدلة صريحة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على الكفر بمجرد النطق بأمر مكفر، وبمجرد فعل مكفر، وسيأتي بعض هذه الأدلة عند ذكر الأدلة على أنواع الكفر.
وهذا كله يدل على أن من قال: إن الكفر إنما يكون بالاعتقاد، وأن القول أو الفعل الذي دلت النصوص على أنه كفر ليس كفراً، وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قد أخطأ خطأً كبيراً، ورد دلالة النصوص الشرعية، وخالف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من سلف من هذه الأمة ومن سار على طريقهم.
وقال الإمام النووي في الروضة 10/64: "قال الإمام – أي إمام الحرمين -: في بعض التعاليق عن شيخي: أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً. قال: وهذا زلل عظيم من المعلق، ذكرته للتنبيه على غلطه"، وقد نقل هذا التعليق أيضاً عن إمام الحرمين ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص23 وأيد تخطئته له.
وينظر في الرد على هذا القول أيضاً وفي بيان دلالة النصوص على عدم صحته مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/547، 561، الإيمان لشيخ الإسلام ص484، النونية لابن القيم مع شرحها لابن عيسى 2/118،117، شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص126-134.
ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يطلب الحق أن ينقاد لما دلت عليه النصوص ولما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وكون بعض أهل العلم أخطأ في ذلك فهو يرجى له أجر واحد، لإرادته الحق، ولكن لا يجوز لنا أن نقلده في خطئه. والله أعلم.(8/163)
( [3] ) قال أبو محمد بن حزم بعد ذكره لتعريف الكفر لغة في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: كتاب الإيمان 3/211: "ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن، أو جحد شيء مما أتى به رسول الله e مما صح عند جاحده بنقل الكافة، أو عمل شيئاً قام البرهان بأن العمل به كفر".
وعرفه الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عبد اللطيف في النواقض العملية ص39: بأنه: "اعتقادات وأقوال وأفعال حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان".
( [4] ) هذا إذا كان القتل يسقط بالتوبة، فإن بعض أنواع الكفر يجب قتل من وقع فيها ولو تاب عند بعض أهل العلم، بل إن بعض أهل العلم يرى أن المرتد لا يستتاب، ولا تقبل توبته في جميع المسائل، وذهب آخرون إلى أن التوبة تقبل في جميع المسائل. ينظر الأوسط لابن المنذر (كتاب المرتد) رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة ص648-657، والمحلى 11/188-194، الصارم المسلول ص531،460،361،337، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 27/114-121، روضة الطالبين 10/76،75، فتح الباري: استتابة المرتدين 12/269، كشاف القناع 6/175-178، فتاوى شيخنا ابن باز (جمع د. الطيار ص526) .
( [5] ) رواه البخاري في استتابة المرتدين (6922) .
( [6] ) صحيح البخاري: الديات (6878) ، وصحيح مسلم: القسامة (1676) .
( [7] ) من الإنكار بالقلب أن يعزم على الكفر في الحال أو في المستقبل، فهذا كله ردة؛ لأنه يدل على إنكاره لأصول الإسلام وأنه الدين الحق الذي لا يقبل من أحد سواه، ويدل على إيمانه بأصول الكفر وعلى بغضه للإسلام ومحبته للكفر ورضاه به.(8/164)
( [8] ) أي ينكر ذلك بلسانه، وقلبه مصدقٌ به، إما هزلاً أو استهزاءً كما سيأتي عند الكلام على كفر الاستهزاء، وإما إرضاءً لكافر، أو لمصلحة دنيوية، أو عناداً في حال مشاجرة أوغيرها، أو خوفاً من كافر على ما سيأتي تفصيله ص () ، تعليق () ، وأعظم من هذا الإنكار: أن ينكر بقلبه ولسانه.
( [9] ) المعلوم من الدين بالضرورة هو الأمر المقطوع به الذي يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التصديق به، لكثرة النصوص الواردة فيه وتواترها ونقل العامة والخاصة لهذه النصوص أو لنقلهم الإجماع على ما دلّت عليه، ولا يجد الإنسان في قلبه أدنى شبهة تدعوه إلى إنكاره، فيكون من كذب به مكذباً لهذه النصوص ولإجماع الأمة القطعي، وأقرب مثال لذلك وجوب الصلوات الخمس، فهذا الحكم وردت فيه نصوص مشهورة ينقلها العامة والخاصة، كما أن العامة والخاصة ينقلون إجماع الأمة على وجوبها، وأنها ركن من أركان الإسلام، فيجد أي مسلم نشأ بين المسلمين نفسه مضطراً إلى التصديق بوجوبها، فلا يعذر في إنكار وجوبها، فإن أنكره فقد كفر، ومثله تحريم الزنى، فالنصوص في تحريمه متواترة معلومة يعرفها العامة والخاصة، وإجماع الأمة على تحريمه معلوم يعرفه الخاصة والعامة، وينقل تحريمه الخاصة والعامة بعضهم عن بعض، ولا أحد يشك في تحريمه، فأي مسلم نشأ بين المسلمين يجد نفسه مضطراً إلى التصديق بتحريمه، فإن أنكر تحريمه فقد كذّب النصوص المتواترة وإجماع الأمة المعلوم، فيكون مرتداً.(8/165)
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم باب العبارة عن حدود علم الديانات (ص788) : "حد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه، ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركاً ساكناً في حالٍ واحدة، ومن الضروري أيضاً علم الناس أن في الدنيا مكة والهند ومصر والصين وبلداناً قد عرفوها وأمماً قد خلت". انتهى كلامه مختصراً. وينظر التعريفات مادة "ضرر".
( [10] ) النص المتواتر هو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس.
وجميع نصوص القرآن متواترة؛ لأن كل حرف من القرآن رواه الجمع الغفير عن الجم الغفير، ولذلك من أنكر حرفاً من القرآن كفر، ومن أنكر شيئاً دلّ عليه نص واحد صريح من القرآن كفر، كما أن هناك أحاديث نبوية كثيرة متواترة.
والمتواتر الذي يكفر جاجده هو ما اشتهر عند العامة والخاصة، أو كان مما يعرفه المنكر ضرورة لكونه نشأ بين العلماء ونحو ذلك، ومثله ما إذا أخبر بتواتره بعد إنكاره فاستمر على جحوده له. قال العلامة ابن الوزير في العواصم من القواصم 4/174: "المتواتر نوعان: أحدهما ما علمه العامة مع الخاصة، كمثل كلمة التوحيد، وأركان الإسلام، فيكفر جاحده مطلقاً؛ لانه قد بلغه التنزيل. وثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض".
( [11] ) هذا القيد معلوم؛ لأن المعلوم من الدين بالضرورة مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ولكن ذكرته للتأكيد عليه، ولذكر أهل العلم له. وينظر إيثار الحق (ص156) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/39،38 في تفسير قوله تعالى:(8/166)
] ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم.. [[النساء:115] قال: "وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة، من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن، أما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضاً بأنها مما تبيّن فيها الهدى من جهة الرسول، ومخالف هذا الإجماع قد لا يكفر".
وقال الحافظ السيوطي في الأشباه والنظائر كتاب الردة (ص488) : "منكر المجمع عليه أقسام: أحدها: ما نكفره قطعاً، وهو ما فيه نص وعلم من الدين بالضرورة. الثاني: ما لا نكفره قطعاً، وهو ما = = لا يعرفه إلا الخواص، ولا نص فيه، كفساد الحج بالجماع قبل الوقوف. الثالث: ما يكفر به على الأصح وهو المشهور المنصوص عليه، الذي لم يبلغ رتبة الضرورة، كحل البيع، وكذا غير المنصوص على ما صححه النووي. الرابع: ما لا على الأصح، وهو ما فيه نص، لكنه خفي غير مشهور، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب"، وينظر روضة الطالبين باب تارك الصلاة 2/146، والإعلام بقواطع الإسلام ص28-31، ونهاية المحتاج 7/415،416، وشرح المنهج (مطبوع مع حاشيته للجمل 5/123) .
( [12] ) وذلك بأن ينكره في الظاهر مجاملة أو عناداً لغيره، أو في حال غضب أو مشاجرة أو خصومة ونحو ذلك، مع أنه في قرارة نفسه يعلم أنه من دين الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 12/525: "من خالف ما علم أن الرسول e جاء به فهو كافر بلا نزاع".(8/167)
فمن أنكر شيئاً مما ثبت بحديث صحيح بيّن بعد علمه بهذا الحديث، وأن هذا الأمر من الدين، وليس عنده شبهة في إنكار مادل عليه هذا الحديث، وإنما جحده ظاهراً لإرضاء مخلوق أو لمصلحة دنيوية، أو ما أشبه ذلك لا شك أنه قد وقع في الكفر المخرج من الملة.
وقد ذكر جمع من أهل العلم أن من أنكر حديثاً صح عنده فهو كافر. ينظر تأويل مختلف الحدييث لابن قتيبة ص155، الإحكام لابن حزم الباب الحادي عشر 1/99 فقد نقل هذا عن إسحاق بن راهويه وأقره، وينظر الفصل لابن حزم أيضاً 3/256، وشرح السنة للبربهاري ص31، الإبانة لابن بطة ص211، الروض الباسم لابن الوزير 2/425،426، حاشية الجمل على شرح المنهج 5/123، الدرر السنية 10/181،180،114، مجالس شهر رمضان (المجلس 26 ص 149) ، وينظر كلام شيخ الإسلام في التعليق السابق.
( [13] ) ومن ذلك أن يصلي إلى غير القبلة؛ لأنه يدل على إنكاره الإجماع القطعي والنصوص الدالة على وجوب التوجه إلى الكعبة وعدم صحة صلاة من توجه إلى غيرها. ينظر أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 5/887.
ومثله أن يصلي على غير طهارة عالماً متعمداً، أو يصلي الظهر خمس ركعات عالماً متعمداً.
ومن ذلك – أيضاً – أن يُكره مسلماً على الكفر، فهذا يدل على إنكاره النصوص المحرِّمة لترك المسلم دينه، وللنصوص الدالة على أن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، أو يدل على بغضه للإسلام ومحبته للكفر، فيكون من كفر البغض والكره.(8/168)
وقد ألحق بعض أهل العلم بذلك الطواف بغير الكعبة، كالطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 2/308: "وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك ديناً فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره". ولا شك أن من فعل ذلك قد خالف إجماع الأمة وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن الطواف بغير الكعبة محرم وليس من دين الإسلام، ففعله هذا يدل على إنكاره لهذا المعلوم من الدين بالضرورة.
( [14] ) ينظر في حكاية الإجماع على ذلك قول إسحاق بن راهويه الذي سبق نقله ص (201) .
وقال أبومحمد بن حزم في معرض رده على القائلين بأن قول الكفر وفعل الكفر ليس كفراً وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قال في الفصل 3/204،205: "وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن جحد الله تعالى، أو جحد رسوله e فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً، إما القتل، وإما أخذ الجزية، وسائر أحكام الكفر، وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا، ولا فكروا في هذا، لا رسول الله e ولا أحد من أصحابه، ولا أحد ممن بعدهم".
وقال أيضاً في المرجع نفسه 3/255: "وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله e أتى به فقد كفر"، وينظر آخر مراتب الإجماع له أيضاً ص177.
وقد حكى أيضاً الإجماع على منكر من جحد معلوماً مجمعاً عليه: القاضي عياض في الشفا 2/510-549،528، وأبويعلى في المعتمد في أصول الدين ص272،271، وابن الوزير في إيثار الحق على الخلق ص377،376،156،116،112،402 وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/267،268، و12/525،496، والمرداوي في الإنصاف 27/108، والملا علي القاري في شرح الشفا 2/549،وينظر كتاب توحيد الخلاق ص99، والدرر السنية 1/131.(8/169)
( [15] ) ومن الصفات التي وردت فيها أدلة كثيرة متواترة من الكتاب والسنة صفة العلو لله تعالى، وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص387،386، أن أدلة علو الله بذاته نحو ألف دليل، ثم نقل ما رواه شيخ الإسلام الهروي عن أبي حنيفة أنه قال: "من أنكر أن الله في السماء فقد كفر" ثم قال: "وقصة أبي يوسف في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره".
ومن ذلك أيضاً أن ينفي صفة القدرة، أو ينفي صفة العدل، فيتهم الله تعالى بالظلم، ومنه أيضاً أن ينفي عن الله تعالى صفة الرحمة، ونحو ذلك.
( [16] ) ومن ذلك أن ينكر نزول جبريل - عليه السلام – بالقرآن على نبينا محمد e، أو ينكر أن للنار خزنة، أو أن للجنة خزنة، أو ينكر الكرام الكاتبين، أو ينكر ملائكة القبر، أو ملك الموت.
( [17] ) ومنه أن ينكر أمراً يتعلق بالقرآن مما أجمع العلماء عليه، كأن ينكر آية أو حرفاً من القرآن، أو يقول: إن القرآن ناقص، أو زيد فيه ما ليس منه، أو يزيد فيه، أو ينقص منه حرفاً أو آية.
قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/253: "الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها".(8/170)
( [18] ) ومن ذلك أن ينكر شيئاً مجمعاً عليه يتعلق بأحد من الأنبياء – عليهم السلام -، كأن يعتقد أن جبريل – عليه السلام – غلط في الرسالة، فنزل بالوحي على محمد e وكان مرسلاً به إلى علي بن أبي طالب t كما يقول ذلك بعض غلاة الشيعة الرافضة، أو ينكر معجزة من معجزات الأنبياء المجمع عليها، أو يفضل الأولياء على أحد منهم، أو يعتقد أن أحداً من بني آدم أفضل من النبي e، أو يعتقد أنه لا يجب العمل بالسّنة، أو ينكر صحة حديث متواتر مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ومنه أن يقول: إن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي e.
( [19] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/198: "اليهود والنصارى كفار بلا خلاف من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه من الإسلام"، وحكى أيضاً في المرجع نفسه 3/211 الإجماع على كفر من قال: "إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون".
وحكى الإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من اليهود أو النصارى، أو شك في كفره، أو توقف في ذلك: القاضي عياض في الشفا 2/510، وابن سحمان كما في الدرر 2/361،360.
( [20] ) وذلك بأن يقول عن نفسه: "هو كافر"، أو "هو يهودي"، أو "هو نصراني"، ومثله ما إذا قيل له: هل أنت مسلم. فقال: لا. فهذا كله كفر؛ لأنه إما أنه أن يخبر عن ارتداده فعلاً عن الإسلام، وإما أنه ينسب دين الإسلام إلى الكفر، أو إلى هذه الأديان المحرفة إما اعتقاداً لذلك، وهذا إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإما استهزاء واستخفافاً بدين الإسلام، وهذا كله كفر.(8/171)
( [21] ) ونحو ذلك مما أخبر الله عنه في كتابه من أخبار الأمم الماضية، أو غير ذلك، كأن ينكر وجود السماوات السبع، أو ينكر وجود الشيطان، أو ينكر إخراجه من الجنة، أو يقول بتناسخ الأرواح ونقلها إلى أرواح أخرى، أو ينكر إنزال المنّ والسلوى على بني إسرائيل، أو ينكر قصة أصحاب الكهف، أو ينكر قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ونحو ذلك.
( [22] ) ومن هذا اعتقاد بعض غلاة الصوفية أن بعض مشايخهم يحل له فعل المحرمات، فهذا الاعتقاد كفر بأجماع أهل العلم، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: المسألة الرابعة ص521: "من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق".
ومنه أن يعتقد أن أحداً حرٌّ في نفسه يفعل ما يشاء، كما يتفوه به بعض المنافقين، ومنه أن يعتقد حل موالاة الكفار.
( [23] ) ينظر مدارج السالكين 1/367،366، نهاية المحتاج7/416،415، مغني المحتاج 4/136.
( [24] ) حكى الإجماع على كفر من وقع في هذا النوع ابن حزم في مراتب الإجماع ص177، والقاضي عياض في الشفا 2/524،520، والملا علي القاري في شرح الشفا 2/549، والشيخ عبد الله أبابطين كما في الدرر السنية 10/419، وشيخنا عبد العزيز بن باز كما في فتاويه (جمع د. الطيار 528،527) . وينظر في ذكر الإجماع على بعض مسائل هذا النوع، وفي ذكر بعض أمثلته: الفقه الأكبر مع شرحه للقاري ص227، مجموع الفتاوى 2/368، مدارج السالكين 1/367، قواطع الإسلام ص68،27، الدرر السنية 2/361،360، و10/114، النواقض الاعتقادية 2/69-73، وينظر أكثر مراجع كفر الجحود المذكورة فيما سبق ص (190) ، تعليق (14) .
( [25] ) قال ابن حزم في الفصل 3/195: "فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى، إذ شك في البعث".
ومن هذا النوع من أنواع الكفر: أن يتردد مسلم في أن يكفر أو لا. ينظر روضة الطالبين 10/65، ونهاية المحتاج 7/416.(8/172)
ومما ينبغي التنبُّه له هنا أن هناك فرقاً بين الشك والريب والتردد - وهي معان متقاربة – وبين الوساوس، فالوساوس والخطرات التي يلقيها الشيطان على قلب المسلم لا تضره، ولا يحكم عليه بسببها بكفر أو غيره إذا دفعها وكرهها. ينظر النواقض الاعتقادية 2/73.
( [26] ) وألحق بعض أهل العلم بهذا النوع من أنواع الكفر من صدق بنبوة النبي e من اليهود بقلبه ولكنه لم ينطق بالشهادتين ولم ينقد بجوارحه لأحكام الإسلام تكبراً، كما قال تعالى:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [[البقرة: 89] ، كما ألحق به بعضهم كفر فرعون وملئه، كما قال الله تعالى عنهم:] وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً [[النمل:14] . ينظر النواقض الاعتقادية 2/181،180،135،134.
ولا شك أن كفر هؤلاء اليهود وكفر فرعون وملئه كفر استكبار وكفر جحود أيضاً، فهم جاحدون للحق بألسنتهم، حتى من اعترف من اليهود بصدق النبي e فقط، فهم لم ينقادوا لما جاء به، ولم ينطقوا بالشهادتين وهم جاحدون لوحدانية الله تعالى، وجاحدون لما أخبر الله به في كتابه من أنه تعالى لم يتخذ ولداً، فهم يزعمون أن عزيراً ابن الله، بل لم يظهر منهم ما يدل على أنهم مؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى ولا أنهم مؤمنون بما اشتمل عليه كتاب الله تعالى من الأحكام والأخبار وأصول الإيمان، سوى ما بقي في كتبهم المحرفة من الحق الذي لم يغير. وينظر مجموع الفتاوى 7/561، والصارم المسلول ص520، وينظر ما يأتي في كفر الإعراض ص (196) ، وينظر أيضاً رسالة اليهود فصل "فيمن عرف من اليهود صدق النبي e ولم يسلم بغياً وحسداً" ص243-251 فقد ذكرتُ فيها بعض أخبار اليهود الذين ظهر منهم ما يدل على تصديقهم بنبوة النبي e، ومع ذلك لم يسلموا ولم ينطقوا بالشهادتين ولم ينقادوا للحق.(8/173)
( [27] ) وأعظم منه أن يرفض الانقياد لجميع أحكام الإسلام استكباراً، فمن نطق بالشهادتين وآمن بقلبه بجميع أصول الإسلام وأحكامه، وأقر بذلك بلسانه، ولكنه لم ينقد، فترك جنس العمل بأحكام الإسلام استكباراً وترفعاً فهو كافر كفر استكبار وكفر إعراض كما سيأتي إن
شاء الله.
( [28] ) حكى إجماع العلماء على ذلك الحافظ إسحاق بن راهويه كما في التمهيد 4/226، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في الصارم المسلول ص521، ومجموع الفتاوى 20/97.
( [29] ) ينظر الصارم المسلول ص522،521.
( [30] ) قال ابن القيم في مدارج السالكين 1/367: "وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقدْ له إباءاً واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:] أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [، وقول الأمم لرسلهم:] إن أنتم إلا بشر مثلنا [، وقوله:] كذّبت ثمود بطغواها [، وهو كفر اليهود كما قال تعالى:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [، وقال:] يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [وهو كفر أبي طالب أيضاً، فإنه صدّقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم، ويشهد عليهم بالكفر".(8/174)
هذا وإذا امتنع فرد عن امتثال حكم من أحكام الإسلام غير الصلاة كسلاً ونحوه وليس تكبراً أو جحوداً فلا يكفر، أما إن تركت جماعة واجباً من الواجبات من غير استكبار ولا جحود، كأن تترك دفع الزكاة بخلاً، أو فعلت محرماً من المحرمات من غير استحلال له، كأن تصر على التعامل بالربا، وتمتنع من تركه جشعاً، وكان لهذه الجماعة شوكة ومنعة فقد اختلف أهل العلم في كفر هذه الجماعة، ورجح بعض المحققين ردتهم، لقتال الصحابة لمانعي الزكاة، وتسميتهم لهم بأهل الردة. ينظر الروايتين والوجهين: أول الزكاة 1/221، المغني: أول الزكاة 4/9،8، مجموع الفتاوى 28/519،548-551، و35/57، والشرح الكبير والإنصاف: إخراج الزكاة 7/147-150، الدرر السنية 10/175-178.
( [31] ) من الاستهزاء بالفعل: الإشارة باليد، أو اللسان، أو الشفة، أو العين، أو غيرها مما يدل على الاستهزاء والاستهانة، ومنه إهانة الشيء بوضعه في القاذورات، أو بوضع القدم عليه، أو الجلوس عليه ونحو ذلك، ومنه أن يضرب أو يقتل أو يحارب مسلماً، أو جماعة من المسلمين من إجل إسلامهم،، أو من أجل التزامهم بأحكام الإسلام وتطبيقهم لشرع الله، فإن هذا من أعظم الاستهزاء بدين الله تعالى، وهو أعظم من السبّ.
( [32] ) وذلك كأن يتهم الله تعالى بالظلم، أو يلعن خالقه ورازقه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
( [33] ) كأن يستهزئ بأجنحة الملائكة أو بنزولهم.
( [34] ) قال أبوالبقاء الحنفي في الكليات (ص764) : "والفعل الموجب للكفر هو الذي يصدر عن تعمد، ويكون الاستهزاء صريحاً بالدين، كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات". وينظر منهاج الطالبين مع شرحه مغني المحتاج 4/136، ونهاية المحتاج 7/416، وقواطع الإسلام ص22.(8/175)
( [35] ) ومن الكفر في حال الغضب – والمراد الغضب الذي لا يُفقد المكلف عقله – أن يعلق كفره على أمر مستقبل، وإن كان هذا التعليق في غير حال الغضب، فهو كفر من باب أولى؛ لأنه يدل على استهزائه واستخفافه بدين الإسلام. وينظر روضة الطالبين 10/65، والإعلام بقواطع الإسلام ص18.
( [36] ) حكى ابن حزم في المحلى الإجماع على كفر من سب الله تعالى، وقد سبق نقل كلامه ص (202) ، وذكر في المحلى أيضاً في الصلاة 2/243 أن من فسق النبي e ارتد عن الإسلام بلا خلاف بين أحد من المسلمين.
وحكى القاضي عياض في الشفا 2/549،546،491 الإجماع علىكفر من سب الله تعالى، أو سبّ أحداً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء المتفق عليهم، أو استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء من المصحف، أو استهزأ بشيء منهما.
وذكر في المرجع نفسه 2/394 أنه قد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على قتل وتكفير من سب النبي e أو تنقصه، ثم نقل حكاية الإمام محمد بن سحنون المالكي المتوفى سنة (265هـ) الإجماع على كفر من سب النبي e، والإجماع على قتله، ونقل 2/395،393 حكاية ابن المنذر والخطابي الإجماع على قتله.
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن 2/976: "الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة".
وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص4 بعد نقله حكاية الإجماع عن من سبق ذكرهم، قال: "وتحرير القول فيه: أن السابّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف..".(8/176)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في المرجع السابق: المسألة الرابعة ص512: "إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"، ثم نقل عن بعض العلماء حكاية الإجماع على ذلك، وبيّن غلط من نقل خلافاً في ذلك، وما وجه به القاضي عياض ما نقل عن بعضهم في ذلك، ثم بيّن في ص516 أنه لا ينبغي أن يظن ظان أن في المسألة خلافاً، وبيّن أنه لا يستطع أحد أن يحكي ذلك عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى، ثم قال (ص527) : "فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف علىأن التنقص له كفر مبيح للدم".
وقال شيخ الإسلام أيضاً في مجموع الفتاوى 8/425: "اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم" وينظر الصفدية 2/311.
وقال ابن أمير الحاج الحنفي في التقرير والتحبير 2/267: " وهو – أي المتكلم بالكفر هزلاً – كفر بالنص والإجماع.اهـ. ملخصاً. وقال المرداوي في الإنصاف 27/108: "من أشرك بالله ... أو سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع في الجملة".
وقال ابن نجيم في البحر الرائق 5/134: "من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل".
ونقل ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص62 عن بعض علماء الحنفية حكاية الاتفاق على كفر من سخر بالشريعة أو بحكم منها، وأقره على ذلك.
وذكر ابن العطار تلميذ النووي في آخر كتابه "الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد" ص47: أن أباحنيفة قال بكفر من قال قولاً فيه استهانة بالدين، وأنه لم يخالفه أحد من المسلمين.
وذكر الألوسي في روح المعاني 10/131 أنه لا خلاف بين الأئمة أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.(8/177)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير، باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ص553: "من استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً"، وينظر إبطال التنديد ص246.
وقال شيخنا عبد العزيز بن باز كما فتاويه (جمع د. الطيار ص525) : "سب الدين والرب جل وعلا كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم"، وحكى أيضاً ص527 إجماع العلماء على كفر من سب أو تنقص أو استهزأ بالله أو برسوله e أوسب أحداً من رسل الله أو سب الإسلام.
وينظر فتح الباري: استتابة المرتدين 12/281، الدرر السنية 2/361،360، و10/114، والإرشاد للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص79، والاستهزاء بالدين له أيضاً، والتبيان شرح نواقض الإسلام ص50-53، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين.
( [37] ) رواه ابن وهب كما في تفسير ابن كثير، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (10047) ، وابن جرير في تفسيره (16912) بإسناد حسن، رجاله رجال مسلم.
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10046-10049، 10402،10401) ، وابن جرير في تفسيره (16913-16916) من طرق أخرى متصلة ومرسلة.
( [38] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/204 بعد ذكره لهذه الآية: "نص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، بل جعلهم كفاراً بالاستهزاء نفسه، ومن ادعى غير هذا فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى".
وقال أيضاً 3/256،255: "صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين – فهي كلها آيات الله تعالى – بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر".
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 7/273 في تفسير هذه الآية: "فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف".(8/178)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص559: "إن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه". وينظر فتح المجيد ص516، وأعلام السنة المنشورة ص184،183.
( [39] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/558: "القلب إذا كان متعقداً صدق الرسول e، وأنه رسول الله، وكان محباً لرسول الله معظماً له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب". وقال أيضاً كما في شرح الأصفهانية ص181: "الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء"، وينظر مجموع الفتاوى 7/616، والصارم المسلول ص524،519.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في التيسير ص554: "وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب؟ بل ذلك عين الكفر، لذلك كان الجواب مع ما قبله:] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [".
( [40] ) والأشياء التي يكفر المسلم ببغضها من دين الله تعالى كثيرة، وقد سبق ذكر أمثلة لها عند الكلام على كفر الجحود وكفر السب والاستهزاء، فجميع ما ذكر فيهما من أبغض شيئاً منه فقد كفر.
وقال الشيخ سليمان العلوان في "التبيان شرح نواقض الإسلام" ص45 عند كلامه على هذا النوع: "فمن ذلك ما يتفوه به كثير من الكتّاب الملحدين الذي تغذوا بألبان الإفرنج وخلعوا ربقة الإسلام من رقابهم من كراهيتهم لتعدد الزوجات، فهم يحاربون تعدد الزوجات بشتى الوسائل، وما يعلم هؤلاء أنهم يحاربون الله ورسوله، وأنهم يردون على الله أمره.
ومثل هؤلاء في الكفر والبغض لما جاء به الرسول من يكره كون المرأة ليست بمنزلة(8/179)
الرجل، ككرههم أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وغير ذلك، فهم مبغضون لقول النبي e: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ.." الحديث. متفق عليه، فلذلك تجدهم يمدون ألسنتهم نحو هذا الحديث العظيم: إما بصرفه عن ظاهره، وإما بتضعيفه، بحجة أن العقل يخالفه، وإما بمخالفته للواقع.. وغير ذلك مما هو دالّ ومؤكد لبغضهم لما جاء به الرسول.
وهؤلاء كفار، وإن عملوا بمدلول النص، فهم لم يستكملوا شروط (لا إله إلا الله) ؛ لأن من شروطها: المحبة لما دلّت عليه، والسرور بذلك، وانشراح الصدر، وهؤلاء ضاقت صدورهم وحرجت وأبغضوا ما دلّت عليه، وهذا هو عين فعل المنافقين، الذين يفعلون كثيراً من محاسن الشريعة الظاهرة لشيء ما، مع بغضهم لها".
( [41] ) حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 20/97، وكما في الإقناع (مطبوع مع شرحه كشاف القناع 6/168) ، والشيخ سليمان بن سحمان كما في الدرر السنية 2/361،360.
وينظر الفصل 3/257، مجموع الفتاوى 7/52،51، البحر الرائق 5/130، الزواجر (الكبيرة 55،54) .
( [42] ) فإن من تعظيم هذا الدين محبته، وقد سبق في أركان العبادة أن أهم أركانها "المحبة" فمن لم يحب هذا الدين أو لم يحب بعضه فقد أخل بهذا الركن العظيم، فكيف إذا أبغضه، وكذلك سبق في شروط "لا إله إلا الله" أن من شروطها محبة هذه الكلمة ومحبة ما دلت عليه، فمن لم يحب شيئاً مما اقتضته فقد أخل بهذا الشرط، فكيف إذا كرهه. وينظر مجموع الفتاوى 14/107-109، والصارم المسلول ص524.(8/180)
وقال شيخ الإسلام في رسالة المحبة ص104: "إذا كان أصل الإيمان صحيحاً، وهو التصديق، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه، فلابد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها، وفيه خوف من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها، إما بتوبة، وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك، وإلا فإذا لم يبغضها، ولم يخف الله فيها، ولم يرج رحمته، فهذا لا يكون مؤمناً بحال، بل هو كافر أو منافق".
وقال أيضاً في المرجع نفسه ص194،193: "لم يتنازع العلماء في أن الرضا بما أمر الله به ورسوله واجب محبب، لا يجوز كراهة ذلك وسخطه، وأن محبة ذلك واجبة، بحيث يبغض ما أبغضه الله، ويسخط ما أسخطه الله من المحظور، ويحب ما أحبه، ويرضى ما رضيه الله من المأمور. وإنما تنازعوا في الرضا بما يقدره الحق من الألم بالمرض والفقر. فقيل: هو واجب. وقيل: هو مستحب. وهو أرجح، والقولان في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وأما الصبر على ذلك فلا نزاع أنه واجب".
( [43] ) لا يدخل في هذا النوع أن يكره المسلم فعل واجب لمشقته عليه، أو أن يكره ترك محرم لمحبته لفعله، فإن هذا كره للفعل أو للترك، ولم يكره أن الله أوجب الواجب أو حرم الحرام، فهو كره أن يفعل هذا الواجب أو أن يترك هذا المحرم لا غير، كما قال
تعالى:] كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. [[البقرة: 216] أي تكرهونه من حيث الطبع لما فيه من المشقة عليكم، فيكره المسلم أن يفعله بنفسه لما فيه من المشقة، من تعريض النفس للهلاك وغير ذلك من المشاق، ولكن لا يكره أن الله شرعه، بل يحب ذلك ويرضى به ويعلم أن الخير للأمة في وجوب الجهاد، وأنه ذروة سنام الإسلام.(8/181)
فحال المسلم مع هذا الحكم وأمثاله كحال المريض الذي وصف له الطبيب علاجاً ودواءً فيه مشقة عليه، كأن يصف له شراباً كريه المذاق، أو ينصحه بإجراء عملية جراحية فيها ألم ومشقة، فهو يكره هذا الدواء، لكنه راض عن وصف الطبيب له هذا العلاج، فيكره نفسه عليه، وقد يضعف عن تحمله فيتركه، مع معرفته أن فيه شفاءه، واعترافه بأن فيه نفع له لما يعلم من مهارة هذا الطبيب ونصحه له، وبهذا يجمع بين محبته للمعصية أو كرهه للطاعة طبعاً، وبين رضاه بتقدير الله تعالى وشرعه ومحبته له. ينظر تفسيري البغوي والقرطبي للآية (216) من سورة البقرة، والمفردات ص429، ومدارج السالكين 2/183،182، النواقض الاعتقادية 2/177-179، وينظر التعليق السابق.
وقد اختلف أهل العلم فيما إذا قال: أتمنى أن الله لم يوجب هذا الواجب أو لم يحرم هذا المحرم، فقيل: يكفر، وقيل: لا يكفر. ينظر روضة الطالبين 10/69،68، الإعلام بقواطع الإسلام ص63، والأقرب أنه إن كان يتمنى أن هذا الواجب كان مسنوناً ليسلم من إثم تركه، أو أن هذا المحرم كان مكروهاً ليسلم من إثم فعله لضعفه عن تركه، مع إقراره بأن ما شرعه الله هو الحق والحكمة، لكن خشي من الإثم فلعله لا يكفر، أما إن كان يتمنى ذلك كرهاً لهذا الحكم الشرعي؛ لأنه يحول بينه وبين شهواته، أو لأن إخلاله بهذه الحكم قد يسبب له عقوبة عاجلة من ولي الأمر، أو أنه يرى أن هذا الذي تمناه أنفع للخلق ونحو ذلك، فهذا الأقرب أنه يكفر. والله أعلم.(8/182)
( [44] ) قال الإمام سفيان بن عيينه كما في "السنة" لعبد الله بن أحمد: الإيمان والرد على المرجئة، رقم (745) : "ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم - صلوات الله عليه – وإبليس وعلماء اليهود، أما آدم فسُمِّي عاصياً من غير كفر، وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً، فسُمِّي كافراً، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي e، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسمّاهم الله عز وجل كفاراً، فركوب المحارم مثل ذنب آدم – عليه السلام – وغيره من الأنبياء – عليهم السلام -، وأما ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر، مثل كفر علماء اليهود". انتهى كلامه مختصراً.
وقال الإمام الشوكاني في رسالة: إرشاد السائل إلى دلائل المسائل (مطبوعة ضمن الرسائل السلفية ص43) : "السؤال الثاني: ما حكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم كفار أم لا؟ وهل على المسلمين غزوهم أم لا؟ أقول: من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم..".
( [45] ) قال الإمام الشافعي كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص197: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم، يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر".
وقد حكى الشيخ سليمان بن سحمان الإجماع على هذا الكفر كما في الدرر السنية 2/362،360.(8/183)
وقال الدكتور محمد الوهيبي في رسالة نواقض الإيمان الاعتقادية 2/140 عند كلامه على حكم تارك أركان الإسلام الأربعة بعد الشهاديتين، بعد ذكره لإجماع السلف على كفر تارك جنس العمل: "إن قول السلف في مسألة ترك جنس العمل يختلف عن قولهم في مسألة ترك الأركان، فالأول أمر لم يخالف فيه منهم أحد – أي في كفر تارك جنس العمل – لأنه مقتضى إجماعهم على حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، أما الثاني فهو من مسائل الاجتهاد ... ".
( [46] ) قال البيضاوي في تفسيره 1/156: "وإنما لم يقل: (لا يحبهم) لقصد العموم والدلالة على أن التولي عن الطاعة كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين".
وقال أبوالسعود في تفسيره 1/466: "وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته، فإن سخطه عليهم بسبب كفرهم، والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر".
( [47] ) فتركه لجنس العمل بأحكام الإسلام بجوارحه دليل على أن ما ادعاه من إقراره بقلبه بأركان الإيمان غير صحيح، إذ لو كان مؤمناً حقاً بوجوب عبادة الله دون سواه لما أعرض بجوارحه عن عبادة الله وطاعته كلية، ولو كان مؤمناً حقاً بأن محمداً e رسول من عند الله تجب طاعته لما عصاه في كل ما جاء به وأمر به من الأعمال الظاهرة.
قال أبوطالب المكي كما في الإيمان لشيخ الإسلام ص318: "من كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/611 بعد ذكره أن الإيمان القلبي يمتنع أن يكون موجوداً مع بقاء الإنسان دهراً لا يؤدي أي واجب من الواجبات، قال: "ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله:] وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم(8/184)
سالمون [". ومعنى (سالمون) : ممتنعون عن الصلاة مع قدرتهم على أدائها.
وينظر في هذا النوع من أنواع الكفر أيضاً مجموع الفتاوى 7/645،621، و18/272، مدارج السالكين 1/367،366، النواقض العملية ص 44،43،26، 86-88، 344-357، النواقض الاعتقادية 2/121-139، وينظر الشرط الرابع من شروط "لا إله إلا الله". وينظر ما يأتي في النفاق – إن شاء الله -.
( [48] ) أما ترك الصلوات الخمس فإن تركها المسلم جحداً لفرضيتها كفر إجماعاً، وكذلك لو تركها وأصر على تركها بعد تهديده بالقتل إن استمر على تركها، فتركها حتى قتل، فهذا مرتد أيضاً، لأن إصراره على تركها حتى يقتل دليل على كفره في الباطن وأنه جاحد لوجوب الصلاة، أو دليل على أنه تركها إباءً واستكباراً، وكلاهما كفر.
أما إن تركها المسلم كسلاً وتهاوناً فقد وردت نصوص شرعية كثيرة فيها الحكم بكفره، منها ما رواه مسلم (82) عن جابر قال: قال رسول الله e: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الجزم بكفره وأنه لا حظ له في الإسلام، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك: قال المروزي في تعظيم قدر الصلاة ص925: "ذكرنا الأخبار المروية عن النبي e في إكفار تاركها وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة – رضي الله عنهم – مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك". ثم روى المروزي (978) بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن التابعي الجليل أيوب السختياني أنه قال: "ترك الصلاة كفر لا يختلفون فيه". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (547) ، وقال المروزي أيضاً (990) : "سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله e أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي e إلى يومنا هذا".(8/185)
وذكر ابن حزم في المحلى 2/242 أن هذا قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، وذكر أنه لا يعلم لهم مخالفاً من الصحابة.
وقال الحافظ ابن القيم في كتاب "الصلاة وحكم تاركها" ص50: "فصل دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة. وأما إجماع الصحابة ... " ثم ذكر قول عمر بعدما طعن: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، ثم قال: "قال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه، وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يعلم عن صحابي خلافهم".
وهذا قول أكثر علماء الحديث، وذهب بعض أهل الحديث وبعض متأخري الفقهاء إلى أنه كافر كفراً أصغر. ينظر: تعظيم قدر الصلاة، باب ذكر إكفار تارك الصلاة ص873-1017، الجامع للخلال ص300 وما بعدها، التمهيد 4/224-242، شرح اعتقاد أهل السنة 4/829،825، شرح السنة 2/197، مجموع الفتاوى 20/97، كتاب الصلاة لابن القيم.
( [49] ) فيشترط للحكم بالكفر أن يكون الواقع في الكفر عالماً عامداً، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم: ينظر البحر الرائق 5/134، إعلام الموقعين: فصل اعتبار النيات 3/62.(8/186)
وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه (جمع فهد السليمان 2/126،125) : "للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء كفر، الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى:] ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً [[النساء:115] ، وقوله:] وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون [[التوبة:115] ، وقوله:] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [[الإسراء:15] . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك ... لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك، كما نص عليه أهل العلم".
( [50] ) وذلك كأن يكون مكرهاً، أو جاهلاً جهلاً يعذر مثله به، كحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة عن العلم وأهله ونحو ذلك، أو يكون مخطئاً بسبق لسان أو اجتهاد أو غيرهما، أو يكون ناسياً، أو حاكياً لقوله غيره لتعليم أو شهادة أو غيرهما.
وقد أجمع أهل العلم على أن من وقع في الكفر ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً أنه لا يكفر. ينظر تفسير القرطبي (تفسير الآية الأخيرة من البقرة 3/432) ، إيثار الحق لابن الوزير ص397،395، البحر الرائق لابن نجيم 5/134.
أما الخوف الذي لم يصحبه إكراه: فقيل: إنه ليس عذراً، وقيل: إنه عذر، والأقرب أنه إن كان هناك خوف شديد يقرب من الإكراه، كان عذراً، وإلا فلا، ينظر تعظيم قدر الصلاة ص930، شرح المنهج لزكريا الأنصاري مع حاشيته للجمل 5/122،121، رسالة "حكم موالاة أهل الإشراك": الدليل الرابع عشر.(8/187)
( [51] ) ينظر في مانع الجهل: الفصل 3/249، المغني: الردة 12/277، الشفا 2/530،529،524،523، الإعلام بقواطع الإسلام ص52، رسالة الجهل بمسائل الاعتقاد لعبد الرحمن معاش، ورسالة "ضوابط التكفير عند أهل السنة" للدكتور عبد الله القرني، ورسالة "منهج ابن تيمية في التكفير" 1/251-260، وينظر فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز (جمع د. الطيار ص529،528) فقد فصّل في المسألة، وذكر أن الجهل قسمان: الأول: جهل من نشأ بين المسلمين فهذا لا يعذر في عبادة غير الله من الأصنام والأموات لإعراضه عن السؤال. والثاني: من يعذر بالجهل، كالذي نشأ في بلاد بعيد عن الإسلام، وكأهل الفترة، ثم قال: "فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، لقوله تعالى:] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [، ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك ". وينظر فتاوى الشيخ ابن عثيمين (جمع فهد السليمان 2/124-138) ففيها تفصيل جيد.
( [52] ) رواه البخاري في الأنبياء (3481،3478) ، ومسلم في التوبة (2757،2756) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد، ورواه البخاري (3479) من حديث حذيفة. وقد ذكر ابن الوزير في إيثار الحق ص394 أن هذا الحديث متواتر.
( [53] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/252: "فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره، وخوفه، وجهله ".(8/188)
وقد ذكر ابن حزم في الفصل 3/251-253 أيضاً ثلاثة أدلة أخرى لهذا المانع. أولها: قبول النبي e إسلام كل من أسلم مع أنه جاهل بأكثر مسائل أصول الدين. والثاني: قول الحواريين] يا عيسى هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء [إلى قوله:] ونعلم أن قد صدقتنا [قال: "ولم يبطل بذلك إيمانهم ". والثالث: أن من قرأ القرآن فأخطأ جهلاً لا يكفر، وينظر تأويلمختلف الحديث 81، وإيثار الحق ص394، وينظر أيضاً رسالة منهج ابن تيمية في التكفير 1/243-249، فقد نقل مؤلفها عن شيخ الإسلام في هذا تسعة أدلة قوية.
( [54] ) فمن حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو مخطئ معذور، وهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، والحكم على المكلف إنما هو على ظاهره بإجماع أهل العلم، والله يتولى السرائر، ومن القواعد المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة، ما لم يتحقق القصد إليها، والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة في الظاهر، بل هو يدّعي أنه على الحق، ويصرح بأنه يعتقد ذلك، فيعذر من أجله، فلا يحكم بكفره. ينظر الفصل 3/285، مجموع الفتاوى 7/472، إيثار الحق ص376-406، فتح الباري: استتابة المرتدين 12/273، ضوابط التكفير ص334،333، وينظر ما سبق في كفر الإعراض ص () ، ولهذا لم يكفر عمر رضي الله عنه الذي شرب الخمر معتقداً حلها له؛ لأن لديه شبهة تأويل، مع أنها شبهة ضعيفة واجتهاد أخطأ فيه. والأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (17076) ، ومن طريقه البيهقي في سننه 8/316،315 بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد عند عبد الرزاق وغيره. ينظر: المصنف (17075) ، والإصابة 3/220. وينظر تلخيص الاستغاثة في الرد على البكري ص259.(8/189)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/299: "هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والقولية والمسائل العملية".
( [55] ) ولهذا لم يكفر الإمام أحمد الذين امتحنوه وضربوه ليقول بخلق القرآن، مع أن منهم قضاة وعلماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/508،507: "المحفوظ عن أحمد وغيره من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية والمشبهة وأمثال هؤلاء، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال: إنه جهمي كفّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة". انتهى كلامه ملخصاً.
وهذا الحكم لا يشمل غلاة الجهمية المتهمين بالنفاق والزندقة. قال الحافظ ابن القيم كما في الدرر السنية 10/374: "وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة". وينظر منهج ابن تيمية في التكفير 1/199،198.
( [56] ) ينظر ما سبق ص (208) من قول الإمام أبي حنيفة بكفر من أنكر علو الله تعالى.(8/190)
( [57] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستغاثة في الرد على البكري" – كما في تلخيصه ص 260 – بعد ذكره لقصة قدامة السابقة وبعد ذكره لحديث الرجل الذي أمر بإحراق جسده بعد موته، قال: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائمهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله".
( [58] ) قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كما في الدرر السنية 1/236،235: "فما القول فيمن حرر الأدلة؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة؟ واستمر مصراً على ذلك – أي على قول: يا رسول الله أسألك الشفاعة – حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن(8/191)
ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين: التواطؤ علىهجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم ... ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سريرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أوغيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا = نقل لأنه من جملة علماء المسلمين". قلت: والهيتمي ممن يرى مشروعية الاستشفاع بالنبي e حياً وميتاً. ينظر الجامع لألفاظ الكفر ص162.
( [59] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/95: "لم تكفر الصحابةُ الخوارجَ مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم".
( [60] ) ينظر أيضاً: الدرر السنية 1/520-525، مجموعة التوحيد 1/54، ضوابط التكفير، الباب الثالث: تكفير المعين.
( [61] ) قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار فصل: والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري 4/578:(8/192)
"اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسمل يؤمن بالله ولايوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما. هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: (من دعا رجلاً بالكفر، أوقال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه) . أي رجع، وفي لفظ في الصحيح: (فقد كفر أحدهما) ، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير".
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين كما في الدرر السنية 10/375،374: "وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين.. وأيضاً: فما تنازع العلماء في كونه كفراً، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم e، وقد استزل الشيطان أكثرالناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم، ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطراً، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين! ومحنته من تينك البليتين!! ".
( [62] ) وشروط المجتهد ذكرها أهل العلم في كتب أصول الفقه وغيرها، وهي:
1-أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.(8/193)
2-أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
3-أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4-أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك
5-أن يكون عارفاً بلسان العرب الذي نزل به القرآن وجاءت به السنة، وذلك بمعرفة النحو ومعرفة معاني الحروف والألفاظ ونحو ذلك.
6-أن يعرف من أصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والصريح والظاهر والمجمل والمبين ونحو ذلك؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.
7-أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها، فيعرف تقرير الأدلة وما يتقوم به ويتحقق به، وكيفية نصب الدليل ووجه دلالته علىالمطلوب، ليتمكن من الاستنباط الدقيق للحكم من دليله، وهذا يحتاج إلى طول مجالسة لأهل العلم الذين أخذوه عن أهله والنظر في كيفية استنباطهم.
ينظر روضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر: فصل في حكم المجتهد 2/401-406، وإرشاد الفحول: المقصد السادس ص250-252، والأصول من علم الأصول ص75.
( [63] ) ينظر كلام الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين الذي سبق نقله قريباً، وكلام شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين الذي سبق نقله عند الكلام على شروط الحكم على المعين بالكفر.(8/194)
( [64] ) رواه البخاري (6045) ، ومسلم (61) ، وله شواهد كثيرة. وقال ابن الوزير بعد ذكره لتواتر هذه الأحاديث وذكره ما يشهد لها قال في إيثار الحق ص385: "وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام وتجنبه للكبائر وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدعة لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم".
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام في آخر باب اللعان 4/76 عند شرحه لحديث أبي ذر السابق: "وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم".
( [65] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 35/100: "إن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسملين؛ لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله e؛ وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين:] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [، وفي الصحيح عن النبي e أن الله تعالى قال: قد فعلت ".(8/195)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته التي وجهها لبعض المتسرعين في التكفير، بعد ذكره أنه قد أنكر على رجلين صنعا مثلما صنع هذا المتسرع، قال كما في الدرر السنية 1/467-469: "وأخبرتهم – أي هذين الرجلين – ببراءة الشيخ محمد – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يُكفِّر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه، من العبادات والإلهية، وهذا: مُجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلَّدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيها حكمها،وما يوجب الردة، ويقتضيها، وينصون على الشرك، وقد أفرد ابن حجر، هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام.
وقد بلغنا: عنكم، نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال، والهدايا، ونحو ذلك، من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة والتي لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب. والكلام في هذا: يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها، وعن
تفاصيلها، فإن الإجمال، والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم: في كافيته - رحمه الله تعالى -:
وعليك بالتفصيل والتبيين فال إطلاق والإجمال دون بيان(8/196)
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأذهان والآراء كل زمان".
وينظر ص (199) ، تعليق (62) ، وينظر التعليق السابق.(8/197)
الروح القدس في عقيدة النصارى
((دراسة نقدية في ضوء المصادر الدينية))
د. عبد الله بن عبد العزيز الشعيبي
استاذالشريعة المساعد - قسم العلوم الإنسانية
كلية الملك خالد العسكرية
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
هذا البحث موضوعه ((الروح القدس في عقيدة النصارى)) ويشتمل على دراسة نقدية لبيان بطلان اعتقاد النصارى ألوهيته من خلال المصادر الدينية التي يؤمنون بها، وهي العهد القديم والعهد الجديد، إذ قد تبين فيهما أن حقيقة الروح سواء بإضافتها إلى الله أوإلى القدس أو بدون إضافة، فإن نصوصهم المقدسة لاتدل على ألوهيته، وهي الحقيقة التي أخبر عنها كتاب الله المنزل على خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. ولأجل بيان ضلال النصارى في اعتقادهم ألوهية الروح القدس، فقد تطرق البحث إلى بيان حقيقة الروح القدس في الشرائع الإلهية، ثم بيان مراحل إقرار النصارىألوهيته، ثم بيان مرحلة اعتقادهم ألوهيته، كما تطرق البحث إلى بيان بطلان اعتقادهم أن الروح القدس ليس هو ملاك الله جبريل عليه السلام وعلى اعتقادهم خصوصية حلول الروح القدس على المسيح وعلى المؤمنين من أتباعه. وفي خاتمة البحث جاءت النتائج التي توصلت إليها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المقدمة:
((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)) (الأنعام آية 1) .(8/198)
والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، حين حرف الكلم وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى ظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطرائق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأصلي وأسلم على آله الأطهار، وصحبه الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أمابعد:
فإن الله عزوجل أخبر في الوحي المنزل على الأنبياء والرسل، أن الروح من الحقائق الإيمانية الثابتة، التي يجب على كافة أتباع الرسل اعتقاد وجودها والإيمان بها، إذ جاء ذكرها في الوحي بعضها مضافاً إلى الله، وإلى القدس، وبعضها بدون إضافة، وتدل على معانٍ مختلفة، حسب مناسبة ووردها.
ولقد ضل أهل الكتاب من قبلنا فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض:
((ويقولون نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً)) (النساء 150) ، ومن ذلك الإيمان الذي أرادوا أن يتخذوه سبيلاً، أنهم ضلوا عن الحق في الإيمان بحقيقة الروح، فاليهود يعرفون حقيقة الروح، ويعترفون أن الروح القدس هو جبريل عليه السلام لكنهم زعموا أنه عدوهم من الملائكة، وأما النصارى فإنهم يعرفون بعض حقيقة الروح، لكنهم زعموا أن الروح القدس غير جبريل عليه السلام ويعتقدون أنه إله مع الله والأقنوم الثالث في ثالوثهم المقدس.
أما نحن المسلمين فقد هدانا الله إلى معرفة حقيقة الروح، فقد أخبر الله أنها تدل على معانٍ عدة حسب مناسبة ذكرها في القرآن، كما أخبر الله أنها تدل في الكتب الإلهية السابقة على نفس المعاني التي أنزلها الله في القرآن، لكن أصحاب تلك الكتب من أهل الكتاب ضلوا عن الحق الذي أخبر الله تعالى عنه في كتبهم، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.(8/199)
وهذا البحث سيكون إن شاء الله دراسة نقدية في بيان بطلان اعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس وأنه الرب المحيي، وقد كان اختياري للكتابة في هذا الموضوع لسببين:
الأول: أن موضوع هذا البحث هو الأول حسب علمي الذي يجمع شتات هذا الموضوع المتفرق في بعض مؤلفات علماء المسلمين المختصين في علم جدال أهل الكتاب، من أمثال: الإمام ابن تيمية، والقرافي، والقرطبي، ونصر بن يحيى المتطبب، وغيرهم من علماء المسلمين، فكان هذا البحث إسهاماً متواضعاً في بيان الحق عن حقيقة الروح القدس، كما تشهد بذلك المصادر الدينية من التوراة والإنجيل والقرآن.
الثاني: كثرة مؤلفات النصارى عن الروح القدس إذ لا يخلو مؤلف من مؤلفاتهم في عقيدة التثليث من إثبات اعتقادهم ألوهيته، وأنه الأقنوم الثالث في ثالوثهم المقدس وتأويلهم لنصوص التوراة والإنجيل لإثبات معتقدهم الباطل.
بل وصل بهم الحد إلى محاولة تأويل نصوص القرآن الكريم لتتفق مع عقيدتهم الباطلة (1) .
وكان منهج البحث يقوم على استقراء الأدلة من المصادر الدينية وتحليلها، وبيان الحق فيها بما يتفق مع صريح المعقول وصحيح المنقول، وبيان ضلالهم عن الحق، وأن هذا مما ابتدعوه بأهوائهم، وقرروه بمجامعهم، مخالفين بذلك كتب الله المنزلة على أنبيائه، وبيان أن معتمدهم من القوانين والنواميس التي جعلوها شرائع دينهم بعضه منقول عن الأنبياء، وبعضه عن الحواريين، وكثير منه من ابتداع أحبارهم ورهبانهم الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله.
وسيكون الحديث عن بيان حقيقة الروح القدس في التوراة والإنجيل والقرآن، وبيان مراحل إقرار النصارى ألوهيته، ثم اعتقادهم ألوهيته، وبيان العلاقة بين الروح القدس والمسيح عليه السلام وبينه وبين ملاك الله جبريل عليه السلام.(8/200)
وسيتم الرد على ضلالهم من خلال ما نراه حقاً في نصوصهم المقدسة، الموافقة لكتاب الله المنزل على خاتم المرسلين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المصدق لما قبله من وحي الله المنزل على أنبيائه ورسله. وأود التنبيه إلى أن بعض النصوص الدينية يكون فيها أكثر من وجه للاستشهاد مما يضطرنا لاعادتها أو الاشارة إليها في بعض القضايا التي تتم مناقشتها.
وستكون هذه الدراسة في أربعة مباحث:
المبحث الأول: حقيقة الروح القدس في الشرائع الإلهية.
المبحث الثاني: مراحل إقرار النصارى ألوهية الروح القدس.
المبحث الثالث: مرحلة اعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس.
المبحث الرابع: الروح القدس والمسيح عند النصارى.
المبحث الأول: حقيقة الروح القدس في الشرائع الإلهية
الروح القدس من الحقائق الإيمانية الثابتة في الشرائع الإلهية المنزلة على الأنبياء والرسل، فكل أتباع الشرائع الإلهية يعتقدون وجوده والإيمان به، وبيان ذلك فيما يأتي:
المطلب الأول: حقيقة الروح القدس عند اليهود:
إن التوراة كتاب اليهود المقدس ذكرت الروح مضافة إلى القدس وإلى الله وبدون إضافة، فجاءت الروح بمعنى الوحي بالإلهام، إذ جاء في سفر الخروج: ((وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة)) (2) ، وجاء في سفر حزقيال: ((وحل عليّ روح الرب وقال لي: قل هكذا قال
الرب)) (3) ، وفيه أيضاً: ((وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها)) (4) .(8/201)
وجاءت الروح بمعنى الثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين، إذ جاء في سفر التكوين عن يوسف عليه السلام: ((فقال فرعون لعبيده هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا، ليس بصير وحكيم مثلك)) (5) ، وجاء في سفر المزامير على لسان داود عليه السلام: ((لا تطرحني من قدام وجهك، وروح قدسك لا تنزعه مني)) (6) ، وقول النبي أشعياء: ((أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه، الذي سير ليمين موسى ذراع مجده)) (7) .
وجاءت الروح بمعنى جبريل عليه السلام إذ جاء في سفر أشعياء:
((ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم)) (8) . وجاء عن داؤد عليه السلام: ((روح الرب تكلم بي، وكلمته على لساني)) (9) ، وجاء في سفر دانيال: ((وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال يا جبرائيل فَهِّم هذا الرجل الرؤيا)) (10) ، وفيه أيضاً: ((إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء ... وقال يا دانيال إني خرجت الآن لأعلمك الفهم)) (11) .
وجاء أن الروح تهب القوة والنشاط، إذ جاء في سفر القضاة: ((فحل عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس في يده شئ)) (12) ، وفيه أيضاً:
((وحل عليه روح الرب فنزل إلى أشقلون وقتل منهم ثلاثين رجلاً وأخذ سلبهم)) (13) ، وفيه أيضاً: ((فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب)) (14) .
كما جاءت الروح بمعنى الريح (15) ، وبمعنى روح الإنسان (16) ، وبمعنى الخلق والإحياء (17) ، وبغير ذلك من المعاني.
والروح سواء أكانت مضافة إلى الله، أم إلى القدس، أم بدون إضافة، فإن المعنى أنها صادرة عن الله تعالى (18) ، كما تبين لنا ذلك من النصوص السابقة الدالة على معنى حقيقة الروح، وأنها لا تعني سوى ذلك.(8/202)
واليهود أهل التوراة يعرفون حقيقة معنى الروح، ويعرفون أن الروح القدس هو الذي يأتي بالوحي إلى الأنبياء، وأنه جبريل عليه السلام، وأنه ينفذ أوامر الله، لا يأتي بشيء من عنده، وما هو إلا عبد الله ورسوله، وأحد خلقه من ملائكة الله المقربين، ولكنهم مع كثرة نزوله بالعقاب عليهم لكثرة عصيانهم لله، ومخالفة أمره، كرهوا ملاك الله جبريل، وكرهوا اسمه، واعتبروه عدواً لهم، ومحارباً لهم، فقد ذكرسفر أشعياء هذه العداوة التي ملأت قلوبهم، ونطقت بها أفواههم، إذ جاء فيه: ((إحسانات الرب، اذكر تسابيح الرب حسب كل ما كافأنا به الرب، والخير العظيم لبيت إسرائيل الذي كافأهم به حسب مراحمه وحسب كثرة إحساناته، وقد قال حقاً إنهم شعبي، بنون لا يخونون، فصار لهم مخلصاً، في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم، بمحبته ورأفته هوفكَهم، ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم)) (19) .
هذه العداوة من اليهود للروح القدس جبريل عليه السلام جعلتهم يكرهون ذكر اسمه، لذلك فقد اهتم اليهود بسؤال الأنبياء عن الروح الذي يأتي بالوحي من السماء، فإن كان جبريل قاطعوا النبي ولم يسمعوا له، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرضٍ يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً، قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: ((من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك)) (20) ... الحديث)) (21) .(8/203)
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: الله على نقول وكيل، قال: هاتوا الحديث إلى أن قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة، وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟
قال:جبريل عليه السلام قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل الله عز وجل: ((قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك)) إلى قوله: ((فإن الله عدوٌ للكافرين)) (22) .
وساق ابن جرير بسنده نحواً من هذا الحديث، ثم ذكر روايات أخرى جاء فيها زعم اليهود أن جبريل عدوهم، وأنه يأتيهم بالشدة وسفك الدماء، والحرب والقتال (23) .
فتبين أن هؤلاء اليهود يعرفون حقيقة الروح القدس وأنه جبريل عليه السلام وهو المذكور في كتبهم المنزلة على أنبيائهم.
المطلب الثاني: حقيقة الروح القدس عند النصارى:(8/204)
أما النصارى وهم أيضاً يعتقدون بقدسية كتب اليهود، وهي جزء من كتابهم المقدس ويسمونه بالعهد القديم، ويؤمنون به كإيمانهم بالعهد الجديد (الأناجيل والرسائل) وهو حجة عليهم فيما ورد فيه عن حقيقة الروح القدس، فقد جاء في الأناجيل والرسائل ما يصدق ما جاء في التوراة عن حقيقة الروح القدس، فقد ذكرت تلك الكتب أن الروح القدس عليه السلام كان مع داود عليه السلام: ((لأن داود نفسه قال بالروح القدس قال الرب لربي)) (24) ، وأن المسيح عليه السلام قال لهم عنه: ((فكيف يدعوه داود بالروح)) (25) ، وأنه نزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل، إذ جاء في سفر أعمال الرسل: ((فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة إنه حسناً كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء النبي، قائلاً اذهب إلى هذا الشعب)) (26) ، وجاء في رسالة بطرس الثانية: ((لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس)) (27) ، وذكر سفر أعمال الرسل عداوة اليهود للروح القدس جبريل عليه السلام إذ جاء فيه: ((يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائماً تقاومون روح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم)) (28) ، ومن صفاته أنه روح الله الحي إذ جاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس: ((جبرائيل روح الله الحي)) (29) ، وفي الإنجيل أنه بشر زكريا بميلاد يوحنا عليهما السلام: ((فظهرله ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت)) (30) ، وأخبره في هذه البشارة أن امرأته ستلد له ابناً وتسميه يوحنا، ويكون له فرحاً وابتهاجاً: ((لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس)) (31) ، كما أن مريم أم المسيح وجدت حبلى من الروح القدس:(8/205)
((ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس)) (32)
كما نزل الروح القدس على المسيح عليه السلام، واستمر معه بعد أن عمده يوحنا المعمدان في ماء الأردن: ((ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً، وإذ كان يصلى انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة)) (33) ، وقال يوحنا المعمدان: ((إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه، وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس)) (34) ، وجاء في الإنجيل: ((وفي تلك الأيام جاء يسوع ... واعتمد من يوحنا في الأردن، وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه)) (35)
كما أن الروح القدس مؤيدٌ للمسيح في دعوته ومعجزاته: ((أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في البرية)) (36) ، وجاء أيضاً: ((ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل..... وكان يعلم في مجامعهم)) (37) ، وفي الإنجيل يقول المسيح عليه السلام: ((روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب)) (38) ، ويتحدث سفر أعمال الرسل عن المعجزات التي أيد الله بها المسيح بواسطة الروح القدس، إذ يقول: ((يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه)) (39) ، ففي هذين النصين نجد أن الروح القدس مرادفاً للفظ القوة، أي أنه القوة التي أيد الله بها المسيح عليه السلام واستطاع بهذه القوة شفاء الأمراض، وإجراء المعجزات، بإذن الله تعالى، وهي القوة التي أيد الله بها أنبياءه ورسله، ومن شاء من عباده المؤمنين.(8/206)
كما أخبر المسيح عليه السلام تلاميذه ورسله، بأن الروح القدس سيلهمهم ويؤيدهم، فقال: ((ولكن احذروا من الناس، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس، وفي مجامعهم يجلدونكم وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي، شهادة لهم وللأمم، فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم)) (40) ، وقال عليه السلام: ((ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أوبما تقولون، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة مايجب أن تقولوه)) (41) .
وعند سؤال اليهود للمسيح عليه السلام عن الملاك الذي يؤيده الله به، أخبرهم أنه الروح القدس، فردوا على المسيح رداً قبيحاً، وزعموا أنه روح نجس، ومرة أخرى زعموا أن الروح القدس ((بلعزبول)) يعني رئيس الشياطين، ففي الإنجيل: ((أما الفريسيون فلما سمعوا (أي عن شفاء المسيح للمجنون) قالوا هذا لا يخرج الشياطين إلا ببلعزبول رئيس الشياطين، فعلم يسوع أفكارهم، وقال لهم ... إن كنت أنا ببلعزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون، لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشيطان فقد أقبل عليكم ملكوت الله)) (42) .
ثم حذرهم عليه السلام من القول على الروح القدس إنه روح نجس، فقال: ((لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي)) (34) . وقال أيضاً: ((الحق أقول لكم إن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها، ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية، لأنهم قالوا إن معه روحاً نجساً)) (44) .(8/207)
كما أن يوحنا المعمدان أخبر اليهود أن الذي سيأتي من بعده يعمد بالروح القدس، فقال: ((والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، لذلك لست أهلاً أن أحل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار، الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن، فيحرقه بنار لا تطفأ)) (45) .
وهذا الخبر يحمل بشارة، ويظهر أنها دلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ ورد الكثير من البشارات به في التوراة والإنجيل (46) ، ولكن النصارى لما جعلوا المسيح عليه السلام محوراً لكل الأحداث، قالوا إن يوحنا يتكلم هنا عن المسيح، علماً بأن المسيح كان معاصراً ليوحنا ولم يأت بعده، وكان بنفس السن بفارق ستة أشهر في الميلاد، بدليل أن المسيح تعمد بالماء على يد يوحنا، كما ورد في النصوص السابقة من أناجيل متى ولوقا ومرقس.(8/208)
كما أن (يوحنا) يحيى عليه السلام عرف العلامة على المسيح من نزول الروح القدس عليه مثل حمامة، إذ قال: ((إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه، وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس)) (47) ، وهذا يدل على أنه أمين الوحي جبريل عليه السلام بدليل قوله: ((فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه، وصوت من السموات قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)) (48) ، وهذا الصوت من السموات هو الوحي الذي جاء به جبريل، وهو قوله: ((هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)) ، والبنوة في هذا النص وفي غيره من النصوص الإنجيلية لا يقصد بها البنوة التناسلية، وإنما يقصد بها حنان الله ورعايته له وقربه من الله، بدليل أن الأناجيل تطلق على تلاميذ المسيح وكل الناس المؤمنين بالله بأنهم أبناء الله (49) .
ونزول الروح القدس على المسيح -عليه السلام- على هيئة حمامة، أو نزول غيره من الملائكة على أي هيئة كانت، معلومة عند الأنبياء وأتباعهم، فقد ذكر الله تعالى نزول الملائكة على إبراهيم عليه السلام على هيئة رجال، قال تعالى: ((هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم، قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين)) (50) .(8/209)
وكذلك كان نزول الروح القدس جبريل عليه السلام، على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كان ينزل بعض المرات على هيئته التي خلقه الله عليها (51) ، وينزل في مرات أخرى على هيئة الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي (52) .
وبهذا يتبين لنا من هذه النصوص حقيقة الروح القدس، وأنه كان مع داود عليه السلام وأنه بشر زكريا، ومريم، وأن يحيى والمسيح عليهما السلام وكذلك تلاميذ المسيح ورسله كان يعضدهم الروح القدس، ويحل عليهم، ومنه يمتلئون، ويؤيدهم بالنصر، كما بينت تلك النصوص أن المسيح عليه السلام حذر اليهود من ألفاظ السوء التي يقولونها على الروح القدس، وأن من يفعل ذلك فلن يغفر له لا في الدنيا ولا في الآخرة.
كما بينت تلك النصوص، أن الروح القدس ورد ذكره بمعنى جبريل عليه السلام وبمعنى الوحي الإلهي، وبمعنى النصر والتأييد للمؤمنين، ويبدو أن هذا هو الاعتقاد الذي كان عليه النصارى في حياة المسيح وحواريوه والقرون الثلاثة الأولى لميلاده، بدليل أن الشواهد من مصادرهم الدينية الآنفة الذكر لاتعني سوى ذلك، لأن اعتقادهم ألهيته لم يتقرر إلا بعد رفع المسيح عليه السلام بأربعة قرون، أي في مجمع القسطنطينية سنة 381م، كما سيأتي بيانه.
المطلب الثالث: حقيقة الروح القدس عند المسلمين:
هذه الصفات للروح القدس حسب المصادر الدينية السابقة هي التي صدقها القرآن الكريم المنزل على خاتم المرسلين، والمصدق لما بين يديه من الكتب السابقة، والمهيمن عليها، فقد جاء الروح في القرآن الكريم، على عدة أوجه (53) :(8/210)
أحدها: الوحي الإلهي، قال تعالى: ((ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)) (54) ، وقال تعالى: ((وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا)) (55) ، وقال تعالى: ((يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق)) (56) .
الثاني: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من يشاء من عباده المؤمنين، قال تعالى: ((أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)) (57) .
الثالث: ويأتي الروح بمعنى جبريل عليه السلام قال تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)) (58) ، وقال تعالى: ((قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)) (59) ، وهو روح القدس، قال تعالى: ((قل نزله روح القدس من ربك بالحق)) (60) ، وقال تعالى: ((وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)) (61) ، وقال تعالى: ((إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً)) (62) .
الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود، فأجيبوا بأنها من أمر الله، قال تعالى: ((يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي)) (63) ، وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى: ((يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً)) (64) ، وقال تعالى: ((تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)) (65) .(8/211)
الخامس: المسيح بن مريم، قال تعالى: ((إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) (66) ، وقال تعالى: ((والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين)) (67) ، وقال تعالى: ((ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)) (68) .
ووجه اختصاص إضافة روح عيسى عليه السلام إلى الله تعالى، أنه لما كان الله تعالى خلقه بكلمته، أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى بإذنه عز وجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق الله عز وجل، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل عليه السلام قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ((وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) ، هو كقوله: ((كن فيكون)) (69) .
قال ابن أبي حاتم: ((وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) قال: ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى)) (70) . إنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام قال البخاري بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ماكان من العمل)) (71) ، فقوله في الآية والحديث ((وروح منه)) كقوله تعالى: ((وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعاً منه)) (72) ،(8/212)
أي: من خلقه ومن عنده، وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى.. بل هي لابتداء الغاية، وقال مجاهد في قوله ((وروح منه)) أي: رسول منه، وقال غيره: ومحبة منه، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: ((هذه ناقة الله)) (73) ، وفي قوله: ((وطهر بيتي للطائفين)) (74) ، وكما روي في الحديث الصحيح: ((فأستأذن على ربي في داره)) (75) ، أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد (76) .(8/213)
ويقول الإمام القرافي (77) رحمه الله في معنى الروح: ((إن الروح اسم للريح الذي بين الخافقين، يقال لها ريح وروح لغتان، وكذلك في الجمع رياح وأرواح، واسم لجبريل عليه السلام، وهو المسمى بروح القدس، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ... إن معنى الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام، هو الروح الذي بمعنى النفس المقومة لبدن الإنسان، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه، أنه خلق روحاً نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة، كقول أحد حاملي الخشبة للآخر: طرفي مثل طرفك، وشل طرفك: يريد طرف الخشبة، فجعله طرفاً للحامل، ويقول: طلع كوكب زيد، إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها؟ وكذلك يقول بعض الفضلاء: لما سئل عن هذه الآية، فقال: نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحاً من أرواحه، أي: جميع أرواح الحيوان أرواحه، وأما تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر، فللتنبيه على شرف عيسى عليه السلام، وعلو منزلته، بذكر الإضافة إليه، كما قال تعالى: ((إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان)) (78) ، و ((إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)) (79) ، مع أن الجميع عبيده، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص)) (80) .(8/214)
لكن النصارى مع هذه البينات الصريحة الواضحة عن حقيقة الروح القدس المذكورة في كتب الله السابقة واللاحقة، يأبى عليهم ضلالهم وانحرافهم عن الحق إلا تحريف مثل هذه النصوص المحكمة، وتأويلها على غير مراد الله عز وجل، أحدثوا ذلك وأقروه في مجامعهم بعد عدة قرون من رفع المسيح عليه السلام فأولوا تلك النصوص وحرفوها، وحرفوا الكثير من أحكام تلك الكتب لتوافق اعتقادهم ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، فأحدثوا عقيدة التثليث الذي يتكون عندهم من الآب والابن والروح القدس، وغير ذلك الكثير مما حرفوه وبدلوه، وخالفوا فيه كتب الله المنزلة.
المبحث الثاني: مراحل إقرار النصارى ألوهية الروح القدس
بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المسيح عليه السلام اجتمع الخلف من النصارى في نيقية سنة 325 م، وصدر عن هذا الاجتماع أول قانون إيمان مقدس لهم، أقروا فيه اعتقاد ألوهية المسيح عليه السلام كما أشاروا فيه إلى الروح القدس بقولهم: ((ونؤمن بالروح القدس)) (81) دون أن يذكروا حقيقته والأعمال الموكولة إليه، وإنما أعلنوا إيمانهم به فقط، ولعل عدم ذكرهم لحقيقته لأجل تبرئة أنفسهم من الافتراء اليهودي على الروح القدس.(8/215)
وبعد أكثر من خمسين سنة عقدوا مجمعاً آخر في مدينة القسطنطينية سنة 381م، فأقروا قانون الإيمان السابق في نيقية، ثم أضافوا الاعتقاد بألوهية الروح القدس، مع بيان بعض صفاته، فقالوا: ((ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجد، الناطق في الأنبياء)) (82) ، وجاء أيضاً عن صفات الروح القدس حسب تعبير أحد قديسيهم القدماء قوله: ((الناطق بالناموس، والمعلم بالأنبياء الذي نزل إلى الأردن ونطق بالرسل، وهو يحل في القديسين، وهكذا نؤمن به أي أنه الروح القدس روح الله)) (83) ، كما جاء في قاموس كتابهم المقدس: ((ويعلمنا الكتاب المقدس بكل وضوح عن ذاتيةالروح القدس، وعن ألوهيته، فنسب إليه أسماء الله كالحي، ونسب إليه الصفات الإلهية كالعلم، ونسب إليه الأعمال الإلهية كالخلق، ونسب إليه العبادة الواجبة لله، وإذ حبلت السيدة العذراء حبل بالمسيح فيها من الروح القدس، ولما كتب الأنبياء والرسل أسفار الكتاب المقدس، كانوا مسوقين من الروح القدس، الذي أرشدهم فيما كتبوا، وعضدهم وحفظهم من الخطأ، وفتح بصائرهم في بعض الحالات ليكتبوا عن أمور مستقبلة)) (84) .(8/216)
وبعد أن أقروا في مجمع القسطنطينية قانون مجمع نيقية السابق المتضمن اعتقاد ألوهية المسيح، ثم إضافتهم اعتقاد ألوهية الروح القدس، فقد اكتملت عند النصارى الأقانيم الثلاثة، لكن ذلك لم يحل دون وجود من ينكر بعض هذه الاعتقادات المنافية للتوحيد، فقد كان سبب عقد مجمع القسطنطينية الآنف الذكر الذي أضافوا فيه الاعتقاد بألوهية الروح القدس، أن أسقف القسطنطينية البطريرك مكدونيوس ينكر ألوهية الروح القدس، ويعتقد أنه كسائر المخلوقات، وخادم للابن كأحد الملائكة، وقد ناقشه المجمع، ثم أصدر قراراً بحرمانه وحرمان دعوته، وتجريده من رتبته الدينية (85) ، وهذا يدل على وجود دعاة التوحيد، ومعارضتهم للاعتقادات المنافية له، التي تنسب الألوهية لغير الله.
ثم ظهر الاختلاف حول أم المسيح عليه السلام حيث ظهر من يدعو بأن مريم لاتدعى أم الإله، بل أم الإنسان، وأحدث هذا نزاعاً شديداً بين كنائس النصارى، لأن صاحب هذه الدعوة هو البطريرك نسطور بطريرك كنيسة القسطنطينية.ولأجل حل النزاع في هذه القضية عقدوا مجمع أفسس الأول سنة 431م، وصدر عنه القرار الآتي: ((نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء المقدسة، والدة الإله، لأنك ولدت لنا مخلص العالم، أتى وخلص نفوسنا، المجد لك ياسيدنا وملكنا المسيح، فخر الرسل، إكليل الشهداء، تهليل الصديقين، ثبات الكنائس، غفران الخطايا، نبشر بالثالوث المقدس، لاهوت واحد، نسجد له ونمجده)) (86) .(8/217)
ثم ظهر الاختلاف حول طبيعة المسيح بعد اعتقادهم ألوهيته، فعقدوا مجمعاً في خلقدونية سنة 451م، فقرر الكاثوليك الاعتقاد أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، طبيعة إنسانية كاملة، وطبيعة إلهية كاملة، ومشيئة إنسانية كاملة، ومشيئة إلهية كاملة، وأن الأب مستقل بأقنومه، والمسيح مستقل بأقنومه، وهما متساويان في اللاهوت فقط، وقد رفض الأرثوذكس هذه العقيدة وزعموا أن المسيح هو الله (تعالى الله عن قولهم) ، وقالوا: إن للمسيح طبيعة إلهية واحدة ومشيئة إلهية واحدة، فقرر أساقفة روما مع بعض أساقفة الشرق الحكم بعزل بطريرك الإسكندرية ونفيه؛ لأنه كان يدعي أن للمسيح طبيعة واحدة، ثم نادوا بعقيدة الطبيعتين والمشيئتن، وبعدها رفضت كنيسة الإسكندرية قرارات مجمع خلقدونيه، كما رفضت قرارات المجامع التي عقدت في القسطنطينية بعد ذلك سنة 553 م، وسنة 610 م، وسنة 786م، لمخالفة الذين اشتركوا فيها مع عقيدتهم بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة (87) .
ثم ظهر نزاع آخر بين النصارى بسبب الاختلاف بينهم حول انبثاق الروح القدس، هل هو من الأب فقط، أم من الأب والابن؟ فعقدوا لذلك مجمعاً لحل النزاع في هذه القضية في طليطلة بأسبانيا سنة 589م، فأقروا فيه نفس قانون الإيمان السابق، ثم أضافوا الاعتقاد بانبثاق الروح القدس من الابن أيضاً، وقد أصبحت هذه الزيادة هي عقيدة الكنائس الغربية الكاثوليكية والإنجيلية التي تنص على انبثاق الروح القدس من الأب والابن، ورفضت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية هذه الزيادة،وظلت متمسكة باعتقاد أن الروح القدس منبثق من الأب وحده (88) .(8/218)
ويلاحظ المتتبع لمراحل تكوين العقائد النصرانية كثرةعقد المجامع الدينية التي تصدر قرارات جديدة بإضافات حول العقيدة، وسبب ذلك كثرة المعارضين للعقائد الدخيلة من أنصار دعوة التوحيد، أو من الذين ما زالوا على بقايا من دعوة المسيح، أو من الذين لم يعتقدوا هذه العقيدة أو تلك، فمنهم من ينكر لاهوت المسيح، ومنهم من ينكر لاهوت الروح القدس، ومنهم من ينكر وجود الأقانيم الثلاثة، ومنهم من ينكر عقيدة الصلب والفداء، ويعتقد أن خطيئة آدم قاصرة عليه، ولم تنتقل إلى نسله، وهذه الظاهرة هي السبب في تعدد عقد المجامع، لأن أنصار كل فريق يعقدون اجتماعاً للرد على أنصار الفريق الآخر وإبطال قوله، والنتيجة تنتهي ليس بكثرة العدد وقوة الحجة وموافقة الحق، وإنما بقرار من رجال الدين الذين تدعمهم السلطة السياسية، بما تتفق أهواؤهم ومصالحهم عليه، ثم يحسم الأمر ويتقرر في النهاية أي الفريقين يفوز بالتأييد، وفي كثير من الأحيان تتدخل السلطة السياسية بحسم الأمر حسب ماتراه محققاً لوحدة الا مبراطورية من التمرزق والانقسام.
وشاهد ذلك أن الامبراطور قسطنطين قد أعلن ميوله وعطفه على النصارى من أجل الحفاظ على مقومات النصر على خصمه، فأعلن دفاعه عن مذهب أثناسيوس القائل بالتثليث حينما كانت عاصمة دولته في روما، ومن أجل ذلك رأس مجمع نيقية سنة 325م، وتذكر مصادر النصارى أن أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر لم يكونوا مجمعين على القول بألوهية المسيح، ولكن اجماعهم كان تحت سلطان الإغراء بالسلطة الذي قام به قسطنطين بدفعه إليهم شارة ملكه ليتحكموا في المملكة، فقد دفعهم حب السلطان إلى أن يوافقوا هوى قسطنطين الذي ظهر في عقد مجلس خاص بهم دون الباقين، لاعتقاده إمكان إغرائهم، فأمضى أولئك ذلك القرار تحت سلطان الترغيب أو الترهيب، أوهما معاً، وبذلك قرروا ألوهية المسيح، وقسروا الناس عليه بقوة السيف ورهبة الحكام (89) .(8/219)
وحينما صدر قرار مجمع نيقية ضد أريوس وحرمانه، وتجريده من رتبته الدينية، صدَق قسطنطين على ذلك القرار.
فلما عزم الامبراطور قسطنطين على نقل عاصمة دولته من روما إلى القسطنطينية، والتي يوجد فيها أكثرية نصرانية تعتنق مذهب أريوس، أحضره وعفا عنه، يقول فاسيليف: ((عندما شرع قسطنطين في نقل عاصمته إلى الشرق، وأحس بالحاجة إلى استرضاء سكان القسم الشرقي من الامبراطورية لم يجد غضاضة في تغيير عقيدته أوميوله نحو المذهب الأريوسي)) (90) .
فاستدعى أريوس من منفاه سنة 327م، وعقد له مجمع صور سنة 334م، وألغى قرار الطرد (91) .
ويقال: إن أول امبراطور تعمد باسم الثالوث حسب عقيدة النصارى، هو الامبراطور ثيودوسيوس الكبير الذي رعى عقد مجمع القسطنطينية (92) ، وأنه وقادة الكنيسة تنفسوا الصعداء وشعروا كما شعر الامبراطور قسطنطين وقادة الكنيسة بعد قبول قانون الإيمان النيقوي في سنة 325م، بسرور وارتياح عظيمين؛ لأنهم ظنوا بأن مجمع نيقية استطاع أن يستأصل الهرطقة من جذورها، وأن يعيدوا الوحدة إلى الامبراطورية وإلى الكنيسة المهددتين بالانقسام والاضطراب (93) .
وعندما تقرر رسمياً إقرار الاعتقاد بألوهية الروح القدس في مجمع القسطنطينية سنة 381م، أصدر الامبراطور ثودوسيوس الكبير مرسوماً أعلن فيه: ((حسب تعليم الرسل وحق الإنجيل، يجب علينا أن نؤمن بلاهوت الأب والابن والروح القدس، المتساوي في السلطان، وكل من يخالف ذلك يجب عليه أن ينتظر منا العقوبات الصارمة التي تقتضي سلطتنا بإرشاد الحكمة السماوية أن نوقعها به، علاوة على دينونة الله العادل)) (94) .(8/220)
ويستنتج زكي شنودة في آخر البحث الخامس الذي عقده للحديث عن المجامع: ((أن هذه المجامع كانت في بداية أمرها وسيلة للدفاع عن الإيمان المسيحي، ثم لم تلبث أن أصبحت بعد ذلك أداة في يد الامبراطور لتنفيذ أغراضه، مستغلاً في ذلك مطامع الأساقفة وطموحهم إلى الجاه والنفوذ والسلطان، وهكذا أصبحت المجامع أداة هدم بعد أن كانت أداة بناء، وقد فتحت الباب على مصراعيه للخصومة بين المسيحيين في البلاد المختلفة)) (95) .
ولكن استنتاجه هذا يرفضه سرده هو للأحداث، فإن المجامع من أول لحظة عقدت فيها وهي تحت سلطان الدولة، وشواهد ذلك من كلامه إذ يقول: ((وقد عقد في نيقية عاصمة بثينية بآسيا الصغرى في 20 مايو سنة325ميلادية بأمر الامبراطور قسطنطين الكبير وقد حضره بنفسه)) (96) ، ويقول: ((وعند افتتاح جلسات المجمع دخل الامبراطور قسطنطين وتصدر الاجتماع، ثم ألقى خطاباً حض فيه على فض المشاكل بالحكمة)) (97) ، وقال في مجمع القسطنطينية سنة 381 م: ((وقد عقد في مدينة القسطنطينية بأمر الامبراطور ثاؤدوسيوس الكبير)) (98) ، وقال في مجمع أفسس الأول سنة 431 م: ((وقد عقد في مدينة أفسس بأمر الامبراطور ثاؤدوسيوس)) (99) ، وقال في مجمع أفسس الثاني سنة 449 م: ((وقد عقد مجمع أفسس الثاني سنة 449 ميلادية بأمر الامبراطور تاؤدوسيوس)) (100) .(8/221)
أما في مجمع خلقدونية سنة 451 م فلم يذكر اسم الامبراطور الذي أمر بانعقاده (101) ، فدلت هذه الشواهد على أن ما قاله زكي شنودة ليس مستقيماً؛ لأن المجامع كلها التي تعترف بها الكنيسة القبطية كانت بأمر الامبراطور، والمؤرخون السياسيون يقررون أن الأباطرة جميعاً استخدموا الدين سلاحاً لكسبهم السياسي، ولو كانت المجامع حقاً للدفاع عن الإيمان لما تركت الدين القويم الذي جاء به المسيح عليه السلام، ولما تركت أعمال الحواريين الذين كانوا على الدين الحق، التي لا يوجد شىء منها في قانون الإيمان المقدس عندهم، ولا في وقائع عمل المجامع خاصة فيما يتعلق بالعقيدة التي هي لب الإيمان (102) .
وبعد هذا العرض لمراحل إقراراعتقاد ألوهية الروح القدس عند النصارى نستنتج مايأتي:
1 إقرارهم في مجمع نيقية سنة 325 م، الإيمان بروح القدس، فقالوا: ((ونؤمن بالروح القدس)) دون أن يذكروا حقيقته والأعمال الموكولة إليه.
2 إقرارهم في مجمع القسطنطينية سنة 381 م، إضافة الاعتقاد بألوهية الروح القدس، مع إضافة بعض صفاته، فقالوا: ((ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجد، الناطق في الأنبياء)) ، كما جاء عن أحد قديسيهم، وكذا في قاموس كتابهم المقدس تفصيلات أكثر وضوحاً عن صفات الروح القدس، والأعمال الموكولة إليه، كما سبق الإشارة إلى ذلك.
3 أن من النصارى من ينكراعتقاد ألوهية الروح القدس، كأسقف القسطنطينية البطريرك مكدونيوس،الذي يعتقد أنه كسائر المخلوقات، وخادم للابن كأحد الملائكة.(8/222)
4 اختلاف النصارى حول طبيعة المسيح، بعد إقرارهم اعتقاد ألوهيته، هل هو ذو طبيعتين ومشيئتين إلهية وإنسانية، أم ذو طبيعة واحدة ومشيئة واحدة إلهية وإنسانية؟ واختلافهم أيضاً حول انبثاق الروح القدس، هل هو من الآب فقط، أم من الآب والابن؟ وكان هذا الاختلاف حول طبيعة المسيح وانبثاقه، سبب انقسام النصارى إلى طوائف متعددة، كل طائفة تنكر ما عليه الطائفة الأخرى.
5- كثرة عقد المجامع في مراحل تكوين العقائد النصرانية التي تصدر عنها قرارت أخرى بإضافة عقائد جديدة، وذلك بسبب كثرة المعارضين للعقائد الدخيلة من أنصار دعوة التوحيد، أومن الذين مازالوا على بقايا من دعوة المسيح عليه السلام.
6- اضطراب ميول الأباطرة بين تأييد أصحاب العقائد التي تتفق مع وثنيتهم السابقة، وبين ما يحقق الوحدة إلى إمبراطوريتهم ويجنبها الانقسام والاضطراب، بدليل دعوتهم لعقد هذه المجامع ورعايتهم لها، وتأييدهم ما يرونه محققاً لأهدافهم الشخصية والسياسية.(8/223)
ومن هذا يتبين ضلال النصارى واختلافهم في مراحل إقرار ألوهية الروح القدس،وأنهم ليسوا على شئ، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، إذ قد أقروا ببعض الحق وضلوا عن أكثره، فحين أقروا ببعض الأعمال والوظائف الموكولة إلى الروح القدس، والصفات التي وصفوه بها، وهي قولهم: الناطق في الأنبياء، الناطق بالناموس، والمعلم بالأنبياء، الذي نزل إلى الأردن ونطق بالرسل، روح الله، الذي حبلت منه السيدة العذراء، الذي يؤيد الله به من يشاء من عباده، ويعضدهم ويحفظهم، ويلهمهم، فهذه من صفات الروح القدس جبريل عليه السلام وهذا هو الحق الذي دلت عليه نصوص كتبهم المقدسة من التوراة والإنجيل، وهو الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، هذا إذا كان الروح القدس ليس صفة الله حسب اعتقادهم ألوهيته، لأن صفة الرب القائمة به لاتنطق في الأنبياء، ولاتقوم بتلك الأعمال التي ذكروها، بل هذا كله صفة جبريل عليه السلام وهو الروح القدس كما هو مذكور في الكتب الإلهية، الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء بإلهام الوحي الإلهي، وبالقوة والثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين
كما تبين لنا أن مراحل إقراراعتقاد النصارى ألوهية المسيح عليه السلام وألوهية الروح القدس، وما تمخض عن هذه العقائد من إضافات عقدية واختلافات حولها في أروقة مجامعهم المقدسة، كانت بدافع الرغبة في السلطان من قبل رجال الدين، بإغراء من سلطة الأباطرة، الذين يؤيدون ما يتفق مع رغباتهم وميولهم، وما يتصورون أن يحقق الأمن والاستقرار لوحدة دولتهم من التمزق والانقسام،الذي ينتج عن الاختلافات العقدية، فكانت تلك القرارت العقدية تحت سلطان الترغيب والترهيب، الذي أدى إلى انحراف النصرانية عن مسارها الصحيح كما أنزلها الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم، وآمن به أتباعه من بعده.(8/224)
أما مرحلة اعتقادهم ألوهية الروح القدس بعد مراحل إقرار ألوهيته في مجمع القسطنطينية، بعد هذه المدة التي تجاوزت أكثر من ثلاثة قرون من رفع المسيح عليه السلام فهو مردود وباطل، كما سنعرف ذلك في المباحث القادمة إن شاء الله.
المبحث الثالث: مرحلة اعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس
تقررت عقيدة ألوهية الروح القدس عند النصارى في الاجتماع الذي عقد لهذا الغرض، في القسطنطينية سنة 381م، وأصبحت هذه الإضافة الجديدة التي لم تكن في قانون الإيمان الصادر عن مجمع نيقية سنة 325م، من أصول الإيمان في عقيدتهم، وبه اكتملت الأقانيم الثلاثة المكونة من الآب والابن والروح القدس، وأصبحت عقيدة التثليث دين النصرانية حسب قانون إيمانهم المقدس، واعتبره النصارى: ((هو القانون المعبر عن الإيمان المسيحي الحقيقي، وبناء على ذلك فمن يخالف تعاليم هذا القانون يخالف الإيمان المسيحي ويجب حرمانه)) (103) .
يقول زكي شنودة: ((وقد أجمع المسيحيون فيما عقدوه إبان القرن الرابع من مجامع عالمية أو مسكونية كما اعتادوا أن يسموها على وضع قانون للإيمان يتضمن المعتقد الصحيح لكل المسيحيين، ويقطع السبيل على كل من يحاول تغيير أمر أو تفسير أمر على غير مقتضى هذا القانون، وقد درج المسيحيون جميعاً منذ وضع هذا القانون في القرن الرابع الميلادي إلى اليوم على التمسك به وتلاوتة أثناء الصلاة في كل كنائس العالم دون استثناء)) (104) .
ثم تحدث عن اعتقاد ألوهية الروح القدس فقال: ((هو الأقنوم الثالث من اللاهوت الأقدس، وهو مساوٍ للآب والابن في الذات والجوهر والطبع وكل فضل اللاهوت، وهو روح الله، وحياة الكون ومصدر الحكمة والبركة، ومنبع النظام والقوة، ولذلك فهو يستحق العبادة الإلهية، والمحبة والإكرام والثقة مع الآب والابن)) (105) .(8/225)
ويقول القس يسي منصور: ((إن الروح القدس هو الله الأزلي، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة، وهو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء، والحاضر في كل مكان، وهو السرمدي غير المحدود)) (106) ، ويقول في موضع آخر: ((إن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الآب وغير أقنوم الابن، ومساوٍ لهما في السلطان والمقام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد)) (107) .
فالأقانيم الثلاثة على زعمهم هي: الذات والنطق والحياة، فالذات هو الآب، والنطق أو الكلمة هو الابن، والحياة هي الله روح القدس، ومعنى ذلك في عقيدتهم: أن الذات والد النطق أو الكلمة، والكلمة مولودة من الذات، والحياة منبعثة من الذات حسب اعتقاد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، أو منبعثة من الذات والكلمة حسب اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية والإنجيلية (108) .
ويزعم النصارى أن دليلهم على اعتقاد ألوهية الروح القدس مستمدة من كتابهم المقدس، وأن كل النصوص التي ورد فيها ذكر الروح القدس دليلاً على ألوهيته (109) ، وقد سبق ذكر بعض هذه النصوص ومناقشتها في شواهد سابقة، وسيأتي ذكر بعضها ومناقشتها في شواهد لاحقة، إن شاء الله.(8/226)
ولكن الناظر والمدقق في منطوق هذه النصوص ومفهومها يلاحظ أنه لا يوجد فيها ما يؤيد معتقدهم، فقد ضلوا في الوصول إلى الحق المراد منها، فكان ذلك سبب ضلالهم، لأنهم اعتمدوا على الألفاظ المتشابهة المنقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظاً لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم، وإن لم يكن دليلاً على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك، إما أن يفوضوها، وإما أن يتأولوها كما يصنع أهل الضلال يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية، ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين (110) .
وسنذكر بعض الأمثلة عن تأويلهم قضايا عقدية أخرى غير قضية الروح القدس، تبين منهجهم في التأويل وصرف المعنى عن دلالته الصريحة الواضحة، إلى تأويلات باطلة، ولكنها حسب منهجهم صحيحة طالما أنها تؤدي إلى مطلوبهم كما يعتقدون، ومن هذه الأمثلة على تأويلهم لنصوص كتابهم المقدس، مايأتي:
المطلب الأول: تأويل نصوص التوراة:
يزعم القس بوطر في رسالة صغيرة، سماها الأصول والفروع، ان الله عز وجل بعد أن خلق الإنسان لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بالوحدانية لله من خلال التوراة، ويزعم أن المدقق فيها يرى إشارات وراء الوحدانية، يعني على زعمه أنها تدل على عقيدتهم في التثليث الأب والابن والروح القدس وغير ذلك من المعتقدات التي تأولوا نصوص التوراة للتدليل عليها.(8/227)
يقول القس بوطر: ((بعدما خلق الله العالم، وتوج خليقته بالإنسان، لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بوحدانيته، كما يتبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية، لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات: ((كلمة الله أو حكمة الله، أو روح القدس)) ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني، لأنه لم يكن قد أتى الوقت المعين الذي قصد الله فيه إيضاحها على وجه الكمال والتفصيل، ومع ذلك فمن يقرأ التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المعنى المراد، إذ يجدها تشير إلى أقانيم في اللاهوت، ثم لما جاء المسيح إلى العالم أرانا بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل أن له نسبة سرية أزلية إلى الله، تفوق الإدراك، ونراه مسمى في أسفار اليهود: ((كلمة الله)) وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة، ثم لما صعد إلى السماء أرسل روحاً، ليسكن بين المؤمنين، وقد تبين أن لهذا الروح أيضاً نسبة أزلية إلى الله فائقة، كما للابن، ويسمى الروح القدس، وهو ذات العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا، ومما تقدم نعلم بجلاء أن المسمى بكلمة الله، والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس المذكوران في الإنجيل، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح، وإن وحدة الجوهر لا يناقضها تعدد الأقانيم، وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه لفهم الكتاب المقدس لا يقدر أن يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد، ولا يفسر الروح بالقوة التأثيرية، بل لابد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم متساوين في الكلمات الإلهية، وممتازين في الاسم والعمل، والكلمة والروح القدس إثنان منهم، ويدعى الأقنوم الأول الآب، ويظهر من هذه التسمية أنه مصدر كل الأشياء ومرجعها، وأن نسبته للكلمة ليست صورية بل شخصية حقيقية، ويمثل للأفهام محبته الفائقة، وحكمته(8/228)
الرائعة، ويدعى الأقنوم الثاني الكلمة، لأنه يعلن مشيئته بعبارة وافية، وأنه وسيط المخابرة بين الله والناس، ويدعى أيضاً الابن، لأنه يمثل العقل نسبة المحبة، والوحدة بينه وبين أبيه، وطاعته الكاملة لمشيئته، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه، ونسبة كل الأشياء إليه، ويدعى الأقنوم الثالث الروح القدس، الدلالة على النسبة بينه وبين الآب والابن، وعلى عمله في تنوير أرواح البشر، وحثهم على طاعته ... وبناء على ما تقدم يظهر جلياً أن عبارة الابن لا تشير كما فهم بعضهم خطأ إلى ولادة بشرية، ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد، وإذا أراد الله أن يفهمنا تلك النسبة لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات)) (111) .
يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات:
أولاها: إثبات أن التوراة وجد فيها أصل التثليث، لوحت به ولم تصرح، أشارت إليه، ولم توضح.
وثانيها: أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، وهي في شعبها متغايرة وإن كانت في جوهرها غير متغايرة.
وثالثها: أن العلاقة بين الآب والابن ليست ولادة بشرية، بل هي علاقة المحبة والاتحاد في الجوهر (112) .
ومن الأمثلة على تحريف نصوص التوراة قول القس يسي منصور: ((إذا قالت التوراة: ((وقال الله نصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا)) (113) ، كان ضمير الجمع (نا) الذي تحدث به الله عن نفسه، فإن الله لم يتكلم بصيغة الجمع إلا باعتباره ثلاثة في واحد.
وإذا قالت التوراة: ((فقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفاً الخير والشر)) (114) ، كان المتكلم هو الله ممثلاً في أقانيمه الثلاثة.
وإذا قالت التوراة: ((منذ وجوده أنا هناك.. ولأن السيد الرب أرسلني وروحه)) (115) ، فمفهوم هذا أن ضمير (نا) يشير إلى الابن، و ((السيد الرب)) يشير إلى الأب، ((وروحه)) هو روح القدس.(8/229)
وإذا قالت التوراة على لسان موسى مخاطباً الأسباط الإثنى عشر، معلناً فيهم وصايا الله لهم: ((وهكذا تباركون إسرائيل قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك، يضئ الرب بوجهه عليك ويرحمك، يرفع الرب بوجهه عليك ويمنحك سلاماً، فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم)) (116) ، كان تأويل هذا هكذا: الله الأب يظهر محبته ويحرسهم، وربنا يسوع المسيح يظهر نعمته ويرحمهم، والروح القدس يظهر شركته ويمنحهم سلاماً)) (117) ، وهذا التأويل لا شك أنه من الضلال عن الحق، إذ ليس في تلك النصوص التي استشهد بها ما يشير إلى الأقانيم الثلاثة حسب زعمهم بل إن جميع أسفار العهد القديم لا يوجد فيها ما يؤيد معتقدهم في التثليث، بدليل اعترافهم أنفسهم بذلك، إذ يقول أحدهم: ((إن التعليم عن الروح القدس كأقنوم إلهي في الثالوث القدوس لم يرد في العهد القديم بشكل واضح، شأنه شأن التعليم عن الثالوث الإلهي نفسه، ولكن الروح القدس ذكر في العهد القديم في عدة مواضع)) (118) ، وهذا يعني أن تأويلهم للنصوص بما يوافق معتقدهم من الظن والقول بغير علم، والدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال.
ومن تأويلهم للنصوص زعمهم أن ما تحدثت به التوراة عن ((ملاك الرب)) المقصود به الرب ذاته، يقول عوض سمعان: ((إن كلمة ملاك أو ملاك الرب وردت في الكتاب المقدس مراد بها اسم الرب أو الله، فقد قال زكريا النبي:(8/230)
((مثل الله مثل ملاك الرب)) (119) ، وقال الوحي عن يعقوب: ((جاهد مع الله، جاهد مع الملاك)) (120) ، وقال يعقوب عندما رأى ولدي يوسف: ((الله الذي رعاني، الملاك الذي خلصني، يبارك الغلامين)) (121) ، ثم يعلق عوض سمعان على هذه النصوص بقوله: ((إن كلمة (ملاك) ليست في الأصل اسماً للمخلوق الذي يعرف بها، بل إنها اسم للمهمة التي يقوم بها، وهذه المهمة هي تبليغ الرسائل، فالاصطلاح (ملاك الرب) معناه حسب الأصل: ((المبلغ لرسائل الرب)) ولما كان الرب هو خير من يقوم بتبليغ رسائله؛ لأن كل ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلاناً كاملاً ذات أو مقاصد غير المحدود، لذلك يحق أن يسمى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله ((ملاك الرب)) بمعنى المعلن لمقاصده أو المعلن لذاته، وبالحري بمعنى ((ذاته معلناً أو متجلياً)) لأنه لا يعلن ذات الله سوى الله)) (122) .
هذا التأويل الباطل الذي جاء به النصارى لنصوص التوراة بعد أكثر من ألفي سنة من نزولها على موسى عليه السلام، وعلى الأنبياء من بعده، لم يكن هذا التأويل معروفاً عند من نزلت عليهم، بل كانوا على علم أن الذي يأتيهم بالوحي ويتحدث إليهم هم ملائكة الله، وليس الله ذاته، وكذلك لم يكن هذا التأويل معروفاً عند اليهود وهم أهل التوراة الذين لم يفهموا منها سوى ما بلغهم به أنبياؤهم، بدليل ماسبق ذكره عند الحديث عن حقيقة الروح القدس عند اليهود في المطلب الأول من المبحث الأول.(8/231)
وكذلك أناجيل النصارى التي تحدثت عن وجود الملائكة، وعددهم ووظائفهم، ورسالتهم، لم يأت فيها ذكر أنهم هم ذات الله، يقول المسيح عليه السلام: ((لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء)) (123) ، ويقول أيضاً: ((أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثنى عشر جيشاً من الملائكة)) (124) ، وجاء في الإنجيل: ((وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين، المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة)) (125) . ونصوص أخرى ذكرت أن ملاك الله بشر زكريا بميلاد يوحنا (يحيى عليه السلام) (126) ، وبشر مريم بميلاد المسيح عليه السلام (127) ، وعن السبعة من الملائكة ووظائفهم (128) ، وغير ذلك من النصوص، التي تدل على أن الملائكة خلق من خلق الله، وأنهم رسله إلى من يشاء من خلقه (129) .
وحسب تأويلهم للنصوص، يمكن القول إن تأويل المراد من الملائكة في هذه النصوص الآنفة الذكر هم ذات الله أيضاً، وإذا كان كذلك فهذا يدل على أنهم لا يفرقون بين الله وملائكتة، ولا بين الخالق والمخلوق.
المطلب الثاني: تأويل نصوص الإنجيل:
ومن أمثلة تأويل نصوص الإنجيل، ما جاء في خاتمة إنجيل متى: ((فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس)) (130) ، فزعموا أن تأويل المراد من هذا النص أنه يشير إلى الأقانيم الثلاثة، وأن كل أقنوم منها إلهٌ بذاته (131) .
لكن تأويلهم هذا من التأويل الباطل الذي ضلوا فيه عن الحق، إذ مراد المسيح على فرض صحته عنه خلاف المراد الذي يعتقده النصارى، وللعلماء في تأويل المراد من هذا النص عدة احتمالات: فإما أن يكون مراد المسيح(8/232)
كما يقول الإمام ابن تيمية (132) أي: ((مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله، وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمراً لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول)) (133) ، وإما أن يكون مراد المسيح كما يقول المهتدي نصر بن يحيى المتطبب (134) : ((إن كان صحيحا ً، فيحتمل أن يكون قد ذهب فيه بجميع هذه الألفاظ: أن يجتمع له بركة الله، وبركة نبيه المسيح، وبركة روح القدس، التي يؤيد بها الأنبياء والرسل، وأنتم إذا دعا أحدكم للآخر قال له: صلاة فلان القدس تكون معك، وإذا كان أحدكم عند أحد الآباء مثل جاثليق ومطران أو أسقف، وأراد أن يدعو له، يقول له: صلي علي، ومعنى الصلاة: الدعاء، واسم فلان النبي أو فلان الصالح الذي هو يعينك على أمورك، ويجوز أن يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به، فكيف حكمتم بأنه ذهب إلى هذه الأسماء لما أضافها إلى الله تعالى، صارت إلهية، وجعلتم له أسماء، وهي: الأقانيم الثلاثة، وقد عبرتم في لغتكم أن الأقنوم: الشخص، فكيف استخرجتم ما أشركتموه بالباري تعالى ذكره عما تصفون بالتأويل الذي لا يصح)) (135) .
وإما أن يكون مراد المسيح كما يقول الإمام القرطبي (136) أي:(8/233)
((عمدوهم على تركهم هذا القول، كما يقول القائل: كل على اسم الله، وامش على اسم الله، أي على بركة اسم الله، ولم يعين الآب والابن من هما؟ ولا المعنى المراد بهما؟ فلعله أراد بالآب هنا: الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح، إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به، وأراد بالابن: نفسه، إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك، فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره، ثم لا يبعد أيضاً في التأويل إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب أن يكون مراده به: أنه ذو حفظ له، وذو رحمة وحنان عليه، وعلى عباده الصالحين، فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم، وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار، ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى، لأنه معلمه وهاديه ومرشده، كما يقال: المعلم أبو المتعلم، ومن هذا قوله تعالى في كتابنا: ((ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل)) (137) ، على أحد تأويلاته، ومن هذين التأويلين: يصح حل ما وقع في أناجيلهم من هذا اللفظ، بل هذان التأويلان ظاهران وسائغان فيها)) (138) .
ثم ذكر القرطبي شواهد من أناجيلهم، تدل على أن التأويل الذي ذهب إليه، هو الحق في بيان مراد المسيح من قوله لحوارييه عمدوا الناس باسم الآب والابن والروح القدس (139) .
ومن الشواهد من أناجيلهم التي ترد تأويلهم الباطل وتبطله، ما يأتي:(8/234)
أولاً: إن ذكر الأب في الأناجيل معناه الله سبحانه وتعالى، يقول المسيح عليه السلام في إحدى وصاياه لتلاميذه: ((أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات)) (140) ، ويقول المسيح أيضاً: ((احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات)) (141) ، وغير ذلك الكثير من النصوص التي تشير إلى أن الله عز وجل يطلق عليه لفظ الأبوة (142) . وليس في هذا معنى الأبوة التناسلية أو المفهوم الذي يفهم منه أنه إذا أطلق على الله لفظ الأب أن يكون له ولد، تعالى الله عن ذلك.(8/235)
ثانياً: أن كلمة الابن وردت في عدة نصوص من الأناجيل مضافة إلى الله وبدون إضافة، ومن هذه النصوص، أن إبليس يقول للمسيح: ((إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً)) (143) ، وأنه قال له مرة أخرى: ((إن كنت ابن لله فاطرح نفسك إلى الأسفل)) (144) ، وفي الإنجيل أن المسيح سأل تلاميذه مرة قائلاً: ((من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون، إيليا وآخرون، أرميا أو أحد من الأنبياء، قال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس: أنت هو المسيح ابن الله الحي)) (145) ، وهناك الكثير من النصوص الإنجيلية التي تنسب المسيح أنه ابناً لله، ولكن هناك نصوص أخرى تبين أن هذه النسبة ليست خاصة بالمسيح، بل تلاميذ المسيح وكل المؤمنين هم أبناء الله، وهذا يدل على أن لفظة الابن في الأناجيل المراد بها رعاية الله وعنايته، وقربه من الناس، وحفظه ورحمته لهم، وليست صلة قرابة جسدية، ومن هذه النصوص قول المسيح: ((وصلوا للذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات)) (146) ، وأمرهم عليه السلام أن يقولوا في صلاتهم: ((أبانا الذي في السموات)) (147) ، وغير ذلك من النصوص (148) .
والمراد من هذه النصوص التي تطلق على المسيح عليه السلام وعلى تلاميذه وعلى المؤمنين أنهم أبناء الله على فرض صحتها المراد منها المجاز وليس الحقيقة.
ونظير هذا ما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم، أن اليهود والنصارى قالوا: ((نحن أبناء الله وأحباؤه)) (149) ، ((أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يحبنا، ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده(8/236)
إسرائيل: أنت ابني بكري، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم، ومعلوم أنهم لم يدعو لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه، وحضوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، قال الله تعالى رداً عليهم: ((قل فلم يعذبكم بذنوبكم)) (150) ، أي لو كنتم كما تدعون أبناء الله وأحباؤه، فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟)) (150) .
ثالثاً: أما الرح القدس فإن النصارى يتأولون اعتقاد ألوهيته من عدة نصوص من العهد الجديد، ففي الإنجيل عن الحمل بعيسى عليه السلام أن أم المسيح: ((وجدت حبلى من الروح القدس)) (152) ، وفي الإنجيل أيضاً، أن مريم: ((حبل به فيها من الروح القدس)) (153) ، وفي الإنجيل أيضاً أن السيح قال لتلاميذه: ((فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا، لأن لستم أنتم المتكلمين بل الروح القدس)) (154) ، وفي أعمل الرسل قول بطرس لحنانيا: ((يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس، أنت لم تكذب على الناس بل على الله)) (155) .(8/237)
كما يتأول النصارى اعتقاد ألوهية الروح القدس من أقوال من يسمونه بولس الرسول، الذي نسب إلى الروح القدس مايمكن أن ينسب إلى ذات الله وصفاته وأعماله وعبادته، كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس، مستدلاً بأقوال بولس الرسول التي وردت في هذا المقام (156) ، إذ يقول: ((أما تعلمون أن هيكل الله وروح الله يسكن فيكم)) (157) ، وقوله: ((إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائته أيضاً بروحه الساكن فيكم)) (158) ، وغير ذلك من النصوص التي يستشهدون فيها على أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث من لاهوتهم المقدس، وأنه على زعمهم مساوٍ للأب والابن في الذات والجوهر، وغير ذلك من الصفات التي يزعمون أنها أدلة على إثبات ألوهيته واستحقاقه للعبادة الإلهية (159) ، تعالى الله عن قولهم.
لكن اعتقادهم ألوهية الروح القدس باطل ومردود، ودليل ذلك مايأتي:
1 أن نصوص العهد القديم والعهد الجديد التي ورد فيها ذكر الروح مضافاً إلى الله وإلى القدس وبدون إضافة، جاءت بمعنى الوحي بالإلهام، وبمعنى الثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين، وبمعنى ملاك الله جبريل عليه السلام وبمعنى المسيح عليه السلام كما سبق ذكر الشواهد على ذلك عند الحديث عن حقيقة الروح في المبحث الأول.
كذلك فإن حقيقة الروح حسب تعبير النصارى أنه: ((الناطق في الأنبياء، الناطق في الناموس والمعلم بالأنبياء، الذي نزل إلى الأردن ونطق بالرسل، وأنه الروح القدس روح الله)) فكل هذه المعاني تدل على أن حقيقة الروح القدس لاتدل على مرادهم باعتقاد ألوهيته، إذ لو كان إلهًا، لكان كذلك منذ أن خلق الله تعالى الخلق حتى قيام الساعة، لكن ذلك لم يكن.(8/238)
2 أن عقيدة ألوهية الروح القدس لم تكن معروفة في عصر المسيح عليه السلام ولا في عصر حوارييه، ولا في القرون الثلاثة بعد رفع المسيح، بدليل أنهم في قانون إيمانهم المقدس سنة 325م قالوا: ((ونؤمن بالروح القدس)) ، دون أن يذكروا اعتقادهم ألوهيته، وبعد أكثر من نصف قرن حينما اجتمعوا في القسطنطينية سنة 381م، صدر عنهم قانون آخر أضافوا فيه اعتقادهم ألوهية الروح القدس، فقالوا: ((ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجد، الناطق في الأنبياء)) أي أن اعتقادهم ألوهية الروح القدس جاء بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المسيح، إضافة إلى أن قولهم هذا متناقض وباطل عقلاً ونقلاً، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: ((قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الآب مسجود ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق رباً حياً، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى، ثم جعلتم هذا الثالث مسجود له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقاً بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبًا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح، إذ لا فرق بين حلول الكلمة، وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم، وأيضاً فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالاً في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوماً لا محيد عنه، فإن ما ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا:(8/239)
الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره لوجوه: أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك.
الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك. الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام، وإذ ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين لمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذ ثبت أن النبي يجب تصديقه، لأنه نبي، ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك تصديق كل نبي وتكفير من كذبه. الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير إذ لا دليل على إنتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتاً في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذٍ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلهاً تاماً وإنساناً تاماً كالمسيح وإن لم يعلم ذلك. الخامس: لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلهاً تاماً وإنساناً تامًا، ويكون كل إنسان مركباً من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي فيجعلون نصف كل أدمي لاهوتاً، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر من بعض الوجوه)) (160) .(8/240)
3 ويدل على فساد عقيدتهم أن سبب عقد مجمع القسطنطينية الآنف الذكر أن هناك الكثير من النصارى الذين ما زالوا على عقيدة التوحيد، ينكرون ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، كأسقف القسطنطينية البطريرك مكدونيوس الذي يعتقد أنه كسائر المخلوقات، وخادم للابن كأحد الملائكة، كما أن اختلاف النصارى حول طبيعة المسيح، وحول انبثاق الروح القدس، وغيرها من أصول العقيدة، التي عقدوا من أجلها المجامع المتعددة لتقرير أصولها وما حدث بينهم من انقسامات وما نتج عنها من ظهور طوائف متعددة، كل طائفة تنكر ما عليه الطائفة الأخرى، كل ذلك وغيره يدل على أنهم ضلوا عن الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على المسيح عليه السلام وعلى النبيين من قبله، إذ لو تمسكوا بالوحي لهدوا إلى الصراط المستقيم، الذي من أجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب.
4 كما أن نصوص الإنجيل وأقوال بولس الرسول التي تدل بزعمهم على ألوهية الروح القدس باطلة بنصوص الإنجيل نفسه، وبأقوال بولس نفسه أيضاً، ودليل ذلك مايأتي:
أأن ملاك الله جبريل عليه السلام، بشر زكريا عليه السلام بميلاد يوحنا المعمدان يحيى عليه السلام وأنه يكون عظيماً أمام الرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، إذ جاء في الإنجيل: ((فقال الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت، وامرأتك إليصابات ستلد لك ابناً، وتسميه يوحنا ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم)) (161) ، هذا النص يفيد أن جبريل ملاك الله بشر زكريا بمولد ابنه، وأنه يكون عظيماً أمام الله عز وجل، عفيفاً عن المسكرات، ويؤيده الله بروح القدس، وأنه يرد بني إسرائيل إلى الرب إلههم.(8/241)
وهذا النص لا يستشهد به النصارى دليلاً على اعتقادهم ألوهية الروح القدس، ضمن شواهدهم التي يستدلون بها على ألوهية الروح القدس (162) ؛ لأنه ضد عقيدتهم هذه، ولا أحد من النصارى زعم أن الروح القدس الذي أيد الله به يوحنا، أنه إلهاً بذاته، لأنه كيف يكون إلهًا، ويوحنا نفسه كما في النص يكون عظيماً أمام الله، فلو زعموا أن الروح القدس في هذا النص إلهاً مستقلاً، لانكشف لهم فساد معتقدهم في تأليه الروح القدس.
ب أن ملاك الله جبريل عليه السلام، بشر مريم بميلاد المسيح عليه السلام إذ جاء في الإنجيل: ((وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم ... فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً، وتسمينه يسوع ... فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فأجاب
الملاك، وقال لها: الروح القدس يحل عليك)) (163) ، وفي الإنجيل أيضاً: ((أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس، فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً، ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع)) (164) .
والمراد من الروح القدس الذي حل على مريم في هذين النصين، أحد أمرين: إما أن يكون المراد به جبريل عليه السلام، وهذا يتفق مع ما ذكره الله عز وجل عن مريم في قوله: ((فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً)) (165) ، والروح كما قال المفسرون: هو جبريل عليه السلام (166) .(8/242)
أو أن يكون المراد به الروح التي هي من الله، وهذا يتفق مع قوله تعالى: ((وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) (167) ، ومعنى ((وروح منه)) أي: أن الله أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله: أي: من خلقه، كما يقال في النعمة أنها من الله، وقيل ((روح منه)) أي: من خلقه، كما قال تعالى: ((وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)) (168) ، أي: من خلقه، وقيل: ((روح منه)) أي: رحمة منه، وقيل: ((روح منه)) أي: برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه، وقوله: (منه) متعلق بمحذوف وقع صفة للروح، أي: كائنة منه، وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ) (169) ، ومثله قوله تعالى: ((والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين)) (170) ، وقوله تعالى: ((ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)) (171) .
ت وفي الإنجيل أيضاً أن مريم حينما زارت إليصابات أم يحيى عليه السلام وسلمت عليها: ((فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت إليصابات من الروح القدس)) (172) ، وفي الإنجيل أيضًا:(8/243)
((وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس، وتنبأ قائلاً، مبارك الرب إله إسرائيل)) (173) ، وفي الإنجيل أيضاً: ((وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه، وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب)) (174) ، فهذه النصوص تدل: إما على أن الروح القدس هو جبريل عليه السلام، أو أنه البرهان الذي يؤيد الله به أولياءه من عباده المؤمنين.
ث أن نصوص أناجيلهم ذكرت أن المسيح عليه السلام بعد أن تعمد على يد يحيى عليه السلام: ((وإذا السموات قد انفتحت له فرأي روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه)) (175) ، وأن يحيى شهد أن العلامة التي يعرف بها المسيح، أن يرى أن روح القدس نازلاً ومستقراً عليه: ((قائلاً إني قد رأيت الروح القدس نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرت عليه، وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس)) (176) ، ونزول الروح القدس من السماء يدل على أنه ملك من الملائكة، حيث دلت النصوص أن هذا النازل من السماء هو ملاك الله جبريل عليه السلام.(8/244)
كما أن هذه النصوص قد وصفت الروح بالنزول مثل حمامة، ومن المعلوم أن الروح القدس في عقيدة النصارى، هو الأقنوم الإلهي الثالث، في الثالوث المقدس، فالعجب كيف يرضى النصارى أن يكون الروح النازل بهذه الصفة إلهاً يستحق العبادة مع الله؟ وكيف يكون إلههم ومعبودهم جسماً بهذه الصفة من الطيور المخلوفة؟ إن هذا الاعتقاد لاشك أنه مسبة لمقام الألوهية، إذ لم يعرفوا الله حق المعرفة، ولو عرفوا الله لما أشركوا معه آلهة أخرى، فالله وحده هو المعبود بحق، لا إله غيره ولا رب سواه، وعيسى عبد الله ورسله، والروح القدس هو ملاك الله جبريل عليه السلام المبلغ وحيه إلى أنبيائه ورسله، والواجب عليهم الاعتقاد أن هذا الروح النازل مثل حمامة على المسيح عليه السلام هو ملاك الله جبريل أمين وحي الله إلى المسيح وإلى جميع الأنبياء عليهم السلام، ويدل على ذلك إضافة إلى ما سبق الاشارة إليه من مصادرهم أن من يسمونه بولس الرسول أخبر أن: ((جبرائيل روح الله الحي)) (177) .(8/245)
ج أن في قول نبي الله يحيى بن زكريا في إنجيل متى: ((أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي من بعدى هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار)) (178) ، وقوله أيضاً في إنجيل لوقا: ((أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار)) (179) ، فهذه النصوص تدل على أن التعميد لم يكن باسم الثالوث المقدس كما يعتقد النصارى بل هو بروح القدس فقط، وهذا هو الذي اتفقت عليه نصوصهم المقدسة، أن يحيى عليه السلام شهد وبلغ بني إسرائيل بأن المسيح سيعمدهم بروح القدس، وهذا يدل على بطلان اعتقاد النصارى أن المسيح أمر تلاميذه على زعمهم أن يعمدوا الناس باسم الثالوث المقدس حين قال: ((فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس)) (180) ، علماً أنه لم يرد عن المسيح عليه السلام في الأناجيل والرسائل أنه عمد أحداً من أتباعه باسم الروح القدس، أو بأي واحد من الأقانيم الثلاثة، ولو كان هذا هو الاعتقاد الحق لأمر أتباعه بذلك، بل لقد صرح أن الروح القدس الذي يعلمهم كل شيء لم يأت بعد؛ لأنه سيأتي في وقت لاحق، إذ قال عليه السلام: ((وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم)) (181) ، وقال عليه السلام: ((وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به)) (182) ، وقوله أيضاً: ((ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي)) (183) ، فكيف يكون الروح القدس إلهاً ثالثاً وهو لم يأت بعد؟ وكيف يتعمدون باسم الثالوث المقدس وهم ليسوا على يقين هل جاء كما أخبر المسيح، أم أنه ما زال منتظراً، وأي حاجة لهم بانتظار من يأتي من بعده، وهم قد غفرت ذنوبهم بموت المسيح على(8/246)
الصليب كما يعتقدون يقول المهتدي عبد الأحد داود (184) : ((إن الاعتقاد بأن موت عيسى على الصليب قد فدى المؤمنين من لعنة الخطيئة الأصلية، وأن روحه وبركته وحضوره في القربان المقدس سيبقى معهم إلى الأبد، هذا الاعتقاد تركهم دون حاجة إلى عزاء أو مجئ معزٍّ، ومن ناحية أخرى فإنهم إذا كانوا بحاجة إلى معزٍّ كهذا فإن جميع الادعاءات والمزاعم النصرانية حول تضحية المسيح وتحمله آلام الصلب، تتهافت وتصبح باطلة ... إن فكرة وسيط بين الله والناس هي أكثر استحالة حتى من فكرة المعزي، إذ لا يوجد وسيط بين الخالق والمخلوق، ووسيطنا أو شفيعنا المطلق هو وحدانية الله فقط، إن المسيح كان ينصح بالصلاة إلى الله سراً والدخول في مقصوراتهم وإقفال الأبواب عليهم عند أداء الصلاة لأنه تحت هذه الظروف فقط يستمع ((أبوهم الذي في السماء)) لصلواتهم ويمنحهم بركته وغوثه فإن المسيح لم يستطع أن يعدهم بوسيط أو شفيع، فكيف نستطيع التوفيق بين هذه المتناقضات)) (185) .
أما نحن المسلمين فإننا على يقين أن بشارات المسيح بالمعزي الروح القدس الآتي، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك بعض المهتدين من النصارى (186) ، وغيرهم من الباحثين المسلمين (187) .(8/247)
ح إن الروح القدس كان معروفاً في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين، وليس له مراد يخالف ظاهر ما دلت عليه نصوص الكتب الإلهية التي ورد الاستشهاد بعدة نصوص منها، يؤكد ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: ((وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء والصالحين، والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال الله تعالى: ((وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)) (188) ، في موضعين من البقرة (189) ، وقال تعالى: ((يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس)) (190) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: ((إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه)) (191) ، وقال: ((اللهم أيده بروح القدس)) (192) ... وروح القدس قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى.. قال تعالى: ((يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق)) (193) ، وقال تعالى: ((أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)) (194) ... وإذا كان روح القدس معروفاً في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر، أو وحياً وتأييداً مع الملك وبدون الملك، وليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به، كما قال (المسيح) : ((عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس)) (195) ، ومراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله، وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمراً لهم بالإيمان(8/248)
بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول، فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم ويوافق القرآن والعقل أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح وخطاب سائر الأنبياء)) (196) .
خ أن ما جاء في رسائل بولس من عبارات تنسب إلى الروح القدس مايمكن أن ينسب إلى أسماء الله وصفاته وأعماله وعبادته، وبالأخص قوله:
((نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم، آمين)) (197) ، هذه العبارات هي التي حملت النصارى على الاعتقاد بألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، وهي التي فتحت الباب إلى القول بالتثليث، ومع ذلك فإن استدلالهم بهذه العبارات باطل ومردود، للأدلة الآتية:
1 أنه ليس فيها مايدل على أن لفظ الروح القدس معناه الإله، وليس فيها مايدل على مايمكن أن ينسب إليه من أسماء الله وصفاته وأعماله وعبادته، وأنه على زعمهم الأقنوم الثالث في ثالوثهم المقدس، بل الحق أنها تدل على معنى القوة والثبات التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص العهد القديم والعهد الجديد، فلفظ الروح القدس لاتخرج عن هذا المعنى الذي سبق بيانه في الفقرات السابقة، ولاعن المعاني التي سبق بيانها عند الحديث عن حقيقة الروح القدس في المبحث الأول.(8/249)
2 أنه على فرض أن بولس يعني بهذه العبارات ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس، فإنه يكون قد خالف أقوال المسيح عليه السلام التي تدل على بطلان هذا الزعم الباطل، ويكون قد دعا إلى عقيدة تخالف العقيدة التي دعا إليها المسيح، وشرع خلاف شريعة المسيح، علماً أنه ليس من تلاميذ المسيح ولا من رسله، ولم يشاهد المسيح إطلاقاً، ولا سمعه يبشر بدعوته، بل كان من أشد اليهود عداء للمسيح وأتباعه، فقد كان يسافر من القدس إلى دمشق ليأتي بالنصارى لعقابهم وإنزال الأذى بهم (198) ، ثم بعد زعمه الانضواء تحت ظل النصرانية، ظل موضع شك تلاميذ المسيح في صدق دعواه؛ لأنهم رأوا منه مايخالف دين المسيح عليه السلام فقد اختلف بولس مع برنابا أحد تلاميذ المسيح (199) ، كما أن بطرس رئيس الحواريين أنكر على بولس دعوته التي خالف بها دعوة المسيح (200) ، كما قامت ضده طوائف النصارى في آسيا، ورفضت تعاليمه وإنجيله كما اعترف بذلك في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (201) ، وحين يئس من قبول نصارى الشرق في عصره لتعاليمه الغريبة، فقد التجأ إلى الشعوب الأوربية، وصار يبث بينهم تعاليمه شيئا
فشيئا، حتى تمكن منهم، فأباح لهم كافة المحرمات، ورفع عنهم جميع التكاليف من الشريعة الموسوية التي جاء بها المسيح عليه السلام فوافق مذهبه مشارب الوثنيين في أوربا، فكثر تابعوه ومقلدوه في حياته وبعد مماته، التي خالفوا فيها عقيدة المسيح وأتباعه، كما دل على ذلك رسالته إلى أهل رومية التي أبطل فيها شريعة التوراة (202) .
وبهذا يتبين أن بولس هو الذي وضع البذور التي نقل بها النصرانية من التوحيد إلى التثليث، ووافقت فكرة التثليث الجماهير التي كانت قد نفرت من اليهودية لتعصبها، ومن الوثنية لبدائيتها، فوجدت في الدين الجديد ملجأ لها، وبخاصة أنه أصبح غير بعيد عن معارفهم السابقة التي ألفوها وورثوها عن أجدادهم (203) .(8/250)
وهذا التحريف لدين المسيح الحق الذي أحدثه بولس، اعترف به بعض علماء النصارى قديماً وحديثاً، يقول جورجيا هاركنس من علمائهم: ((وهذا التثليث افترضه بولس في نهاية رسالته الثانية إلى كورنثوس، حيث يعطي الكنيسة بركته بقوله: ((نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم، آمين)) (204) ، وتستعمل هذه الكلمات كبركة في ختام خدمات العبادة لقرون عديدة)) (205) .
وهذا الباب الذي فتحه بولس على النصرانية، ظل كما يقول الدكتور أحمد شلبي: ((مفتوحاً، واستطاع بعض أتباع بولس أن يصيروا من آباء الكنيسة وذوي الرأي فيها، وتم امتزاج تقريباً بين آراء مدرسة الإسكندرية وبين المسيحية الجديدة)) ، ثم ذكر الدكتور شلبي قول (ليون جوتيه) : ((إن المسيحية تشربت كثيراً من الآراء والأفكار الفلسفية اليونانية، فاللاهوت المسيحي مقتبس من المعين الذي صبت فيه الإفلاطونية الحديثة، ولذا نجد بينهما مشابهات كثيرة)) ... )) (206) .
وهكذا فإن بولس سواء قال بألوهية المسيح وألوهية الروح القدس أولم يقل، وسواء قال بالتثليث أولم يقل، فإن أقواله تلك حملت النصارى من بعده على القول بالتثليث، وأصبحت كلماته التي جاء بها في رسائله كتاباً مقدساً، له ماللإنجيل من حرمة واحترام، فتناولها الشراح والدارسون من رجال الدين بكل مايملكون من طاقات البحث والنظر، وخرجوها على كل وجه ممكن أو غير ممكن، فكانت منها تلك الفلسفة اللاهوتية التي شغلت العقل النصراني ولاتزال تشغله، فكانت سبباً من أكبر الأسباب في نقل ديانة المسيح عليه السلام من التوحيد إلى الشرك (207) .(8/251)
ومع صريح ما تدل عليه ظاهر نصوص كتبهم المقدسة بشأن حقيقة الروح القدس، وبطلان اعتقاد النصارى ألوهيته، وأنه الأقنوم الإلهي الثالث في ثالوثهم المقدس، فإنهم يعتقدون أنه غير ملاك الله جبريل عليه السلام كما يعتقدون خصوصية حلول الروح القدس على المسيح وعلى المؤمنين من أتباعه وأنه يلهمهم، وبيان ذلك والرد عليه في المبحث القادم إن شاء الله.
المبحث الرابع: الروح القدس والمسيح عند النصارى
علمنا فيما سبق حقيقة الروح في الكتاب والسنة وفي العهد القديم وفي العهد الجديد، وأنه ورد ذكرها فيها مضافة إلى الله، وإلى القدس، وبدون إضافة، وأنها قد تكون المراد منها الوحي الإلهي، أو القوة والثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين، أو جبريل عليه السلام أو المسيح عليه السلام حسب مناسبة ورودها في التوراة والإنجيل والقرآن، التي تقدم ذكر شواهد منها للدلالة على ذلك.
وفي هذا المبحث سيكون الحديث إن شاء الله في الرد على اعتقاد النصارى أن الروح القدس غير جبريل عليه السلام وعلى اعتقادهم خصوصية حلول الروح القدس على المسيح وعلى المؤمنين من أتباعه وأنه يلهمهم، وبيان ذلك فيما يأتي:
المطلب الأول: جبريل والروح القدس:
يعتقد النصارى أن ملاك الله جبريل عليه السلام غير الروح القدس، ويستدلون على الفرق بينهما ببعض النصوص من كتابهم المقدس، التي تذكر ملاك الله جبريل أنه يأتي بالبشارة لمن يرسله الله إليهم، وأنهم بعد هذه البشارة يحل عليهم الروح القدس، وهذا هو دليلهم على الفرق بينهما.(8/252)
واستناداً على هذا الفرق بينهما فإن جبريل في تعريفهم هو: ((ملاك ذي رتبة رفيعة، أرسل ليفسر رؤيا لدانيال، وبعث مرة في زيارة لنفس النبي ليعطيه فهماً، وليعلن له نبوة السبعين أسبوعاً، وقد أرسل إلى أورشليم ليحمل البشارة لزكريا في شأن ولادة يوحنا المعمدان، وأرسل أيضاً إلى الناصرة ليبشر العذراء مريم بأنها ستكون أماً للمسيح، وقد وصف جبرائيل نفسه بأنه واقف أمام الله)) (208) .
ومن النصوص التي ذكرت بشارة ملاك الله جبريل لمن أرسله الله إليهم، ثم حلول روح القدس عليهم، بشارة جبريل لزكريا بميلاد يوحنا وقوله له:
((ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس)) (209) ، وبشارة جبريل لمريم بميلاد المسيح وقوله لها: ((الروح القدس يحل عليك)) (210) ، وحينما قامت مريم بزيارة إليصابات زوجة زكريا وسلمت عليها: ((فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت إليصابات من الروح القدس)) (211) ، وكذلك زكريا: ((وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس)) (212) .
فهذه النصوص من أدلتهم على الفرق بين جبريل والروح القدس، ثم بعد حين من الزمن اعتقدوا ألوهيته وقالوا في قانون إيمانهم إنه: ((الرب المحيي المنبثق من الآب، المسجود له والممجد مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء)) (213) ، واستدلالهم بتلك النصوص مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، وبيان ذلك:
1 أن الروح القدس في عقيدتهم هو الإله الذي حبلت منه العذراء مريم ببشارة جبريل لها لتلد المسيح (الابن) ، فالأقنوم الثالث حل في بطن مريم لتلد الأقنوم الثاني (الابن) .(8/253)
وهذا الاعتقاد ظاهر البطلان؛ إذ كيف يكون الروح القدس جبريل عليه السلام وهو أحد الملائكة المخلوقين من الله كما عرفنا حقيقته يبشر مريم الإنسان المخلوق، بحلول الإله الروح القدس عليها، لتلد الإله المسيح، فهذا يتنافى مع مقام الإله سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر، وهذا افتراء على الله، تعالى الله عن قولهم.
2 ثم على فرض صحة قولهم كيف يتجسد الإله الأعلى الأقنوم الثاني وهو المسيح، من الإله الأدنى الأقنوم الثالث وهو الروح القدس، في بطن الإنسان المخلوق مريم، وهذا أيضاً من الافتراء والقول على الله وعلى رسله وملائكته بغير علم.
3 كما أن الروح القدس الإله على زعمهم هو الذي حل في أناس مختارين لكتابة الوحي الإلهي، فكيف يكون الوحي الإلهي من الله الأب، إلى الله الروح القدس، ومن ثم إلى أناس مختارين؟ وهذا أيضاً من التناقض والافتراء.
4 كما أن في الإنجيل أن أبا يحيى امتلأ من الروح القدس: ((وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس)) (214) ، وكذلك أم يحيى حين زارتها مريم أم المسيح وسلمت عليها: ((فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت إليصابات من الروح القدس)) (215) ، فهل يعني هذا أن الروح القدس، وهو الإله حسب عقيدتهم حل أيضاً في هؤلاء؟ تعلى الله عن قولهم.(8/254)
5 وإذا كان الروح القدس الإله في عقيدتهم، له كل هذه الأفعال والأعمال، فما هي فائدة وجود إله ثان هو المسيح، وما هو أثره في حياتهم؟ أليس من الواجب على النصارى حينئذ أن يتوجهوا في دعائهم إلى الروح القدس بدلاً من المسيح الذي على زعمهم: ((صعد إلى السموات وجلس عن يمين الأب)) (216) ، والذي على زعمهم أيضاً: ((يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء)) (217) ، وزعمهم هذا يخالف صريح المعقول، وصحيح المنقول، فالمسيح عليه السلام أمرهم أن يتوجهوا في صلاتهم إلى الله وحده الذي له الملك والقوة والمجد إلى الأبد، قال عليه السلام: ((فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفانا اعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين)) (218) .
ثم قال لهم المسيح: ((فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم)) (219) ، وفي الإنجيل: ((ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة، ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع)) (220) ، وقال المسيح عليه السلام: ((ليس كل من يقول لي يارب يا رب يدخل ملكوات السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات)) (221) .
هذه النصوص وغيرها، تفيد أن المسيح عليه السلام كان يأمر تلاميذه بالتوجه إلى الله في الصلاة وطلب المغفرة؛ لأن الله لا يستجيب لأحد مالم يتقه ويفعل مشيئته، ولا أحد يدخل ملكوت السموات ما لم يفعل إرادة الله وحده.(8/255)
ولو كان المسيح نفسه، أو الروح القدس، لهم شيء من هذه الصفات الإلهية، لكان المسيح أولى بها من الروح القدس، فكيف وأن المسيح نفسه يأمر تلاميذة وكل المؤمنين به أن يكون توجههم لله دون سواه، قال المسيح عليه السلام: ((لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد)) (222) ، وقال أيضاً: ((وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته)) (223) .
فالمسيح عليه السلام عبد الله ورسوله، وكذلك الروح القدس هو ملاك الله جبريل عليه السلام فهو رسول الله بالوحي للأنبياء، وبالنصر والتأييد لهم ولغيرهم من أولياء الله الصالحين، كما تبين لنا ذلك عند الحديث عن حقيقة الروح القدس.
6 كما أن في قولهم في قانون إيمانهم: إن الروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب حسب عقيدة الارثوذكس أو المنبثق من الأب والابن حسب عقيدة الكاثوليك والبروتستانت قولهم هذا فيه تناقض واضطراب، فكيف يكون الروح القدس رباً محيياً وهو منبثق من موجد الحياة وهو الله سبحانه وتعالى، أو منبثقاً من الآب والابن، والابن حسب زعمهم مولود من الآب، ومعلوم أن الابن متأخراً عن وجود الآب، وهذا يعني أن الانبثاق من الابن جاء متأخراً، فهل هذا الانبثاق جاء على مرحتلين هذا على فرض صحة معتقدهم الواقع أنهم لن يجيبوا على ذلك بأفضل مما جاء في قانون إيمانهم المقدس.(8/256)
7 ثم إن الروح القدس المنبثق من الآب، أو من الآب والابن، والابن هو المسيح عندهم مولود من الآب، فهل الانبثاق والولادة شيء واحد أم يختلفان؟ ، وهم لن يقولوا إن المسيح مولود من الآب ولادة تناسلية من الله، ولا يعتقدون ذلك، بل سيقولون إن الولادة روحية، لأن المسيح حسب أعتقادهم هو الكلمة التي خرجت من الذات وهو الله فصارت الكلمة ابناً للذات، وصارت الذات أباً للكلمة، وصارت كلاً من الذات والكلمة أقنوماً قائماً بذاته، يدعى الأول الله الأب، ويدعى الثاني الله الابن (224) .
والروح القدس عندهم يمثل عنصر الحياة في الثالوث المقدس، ويعتبر أقنوماً قائماً بذاته، وإلهاً مستقلاً بنفسه، والثالوث المقدس ثلاثة أقانيم هي: الذات والنطق والحياة، فالذات هو الله الآب، والنطق أو الكلمة هو الله الابن، والحياة هي الله الروح القدس، ويعتقدون أن الذات والد النطق أو الكلمة، والكلمة مولودة من الذات، والحياة منبثقة من الذات أو من الذات والكلمة على خلاف بين الكنائس (225) .
ويتضح أنه لا يوجد فرق بين معنى الانبثاق، ومعنى الولادة، إذا كانت روحية، فكلاهما: الابن وهو الكلمة مولود من الله، والروح القدس وهو الحياة منبثق من الله، فيلزم أن يكون الابن والروح القدس أخوين، وأن الله أبوهما، تعالى الله وتقدس عن ذلك.(8/257)
يقول ابن تيمية رحمه الله: ((فقولهم: المنبثق من الآب الذي هو مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقاً لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة أولى بأن تكون من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام، وقد قالوا أيضاً: إنه مع الآب مسجوداً له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجوداً لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقاً من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا. وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلاً من وجوه، منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهراً قائماً بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر. ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائماً بها وحياة الرب صفة قائمة به. ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة إنها منبثقة، والانبثاق لو كان حقاً لكان الكلام أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر أجهل العقلاء كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى على العباد، ووجد فيه من مناقضة التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله ما لا يخفى على من تدبر هذا وهذا، ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه(8/258)
أجمعين)) (226) .
المطلب الثاني: المسيح والروح القدس:
ثبت كما علمنا بالأدلة الصريحة، أن الروح القدس هو جبريل، وجبريل هو الروح القدس، وعليه فإن زعم النصارى حلول الروح القدس على المسيح وحلوله على الملهمين من أتباعه دون سواهم باطل، وبيان ذلك:
1 أنه قد ثبت بالأدلة الصريحة، أن الروح القدس هو ملاك الله الذي ينزل بالوحي الإلهي، وهو الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله، ومن يشاء من عباده وأوليائه الصالحين وأهل التوراة وهم اليهود يعلمون أن روح القدس هو جبريل عليه السلام: ((ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم)) (227) ، لذلك حرصوا على سؤال الأنبياء عن الروح الذي يأتي بالوحي من السماء، فإن كان جبريل أعرضوا عن النبي ولم يسمعوا دعوته، وقد سبق الحديث في بيان عداوتهم له وعن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم، عن الذي يأتيه بالوحي، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك، فأنزل الله تعالى: ((قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك)) إلى قوله: ((فإن الله عدو للكافرين)) (228) .
2 أن جبريل عليه السلام هو روح الله الذي جاء في الإنجيل أن مريم:
((وجدت حبلى من الروح القدس)) (229) ، وهو العلامة التي عرف بها يحيى عليه السلام المسيح أنه يرى: ((الروح القدس نازلاً ومستقراَ عليه)) (230) ، وهو الذي أخبر الله عنه أنه أيد به المسيح عليه السلام، قال تعالى: ((وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)) (231) ، وقوله تعالى: ((إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس)) (232) ، وهو الذي بأمر الله نفخ الروح في مريم، قال تعالى: ((والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين)) (233) .(8/259)
وهو أيضاً الذي نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((قل نزله روح القدس من ربك بالحق)) (234) ، وقوله تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)) (235) ، وغير ذلك من الأعمال التي أوكل الله بها جبريل عليه السلام، كما تقدم بيان ذلك.
3 أن الروح القدس يسمى أيضاً روح الله، ويسمى الروح بدون إضافة ورد ذكر ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن:
1.ففي التوراة أنه يهب القوة: ((فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب)) (236) ، وجاء أيضاً: ((فحل عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس في يده شيء)) (237) ، وجاء أيضاً: ((وحل عليه روح الرب فنزل إلى أشقلون وقتل منهم ثلاثين رجلاً وأخذ سلبهم)) (238) ، وأنه يهب الحكمة والفهم والمعرفة: ((وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة)) (239) ، وأنه يهب قلباً جديداً وروحاً جديداً: ((وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديداً في داخلكم ... وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها)) (240) ، وغيرذلك من النصوص (241) .
2. كما جاء في الإنجيل أن الروح القدس مؤيد للمسيح في دعوته ومعجزاته، إذ جاء فيه: ((وأما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في البرية)) (242) ، وجاء فيه: ((ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل ... وكان يعلم في مجامعهم)) (243) ، ويقول المسيح عليه(8/260)
السلام: ((روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب)) (244) ، وأن الروح هو الذي أيد المسيح في إجراء المعجزات، ففي سفر أعمال الرسل: ((يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه)) (245) ، فالروح القدس في هذه النصوص هي القوة التي أيَّد الله بها المسيح عليه السلام والتي استطاع بها صنع المعجزات وشفاء الأمراض، وهذه القوة العلوية التي تسمى الروح القدس ليست قوة مادية منظورة، وليست إلهاً قائماً بذاته كما يعتقد النصارى وإنما هي قوة روحية قدسية من لدن الله تعالى، كما أيد بها من سبقه من أنبيائه ورسله وأوليائه الصالحين، وهذا هو المعنى الذي دل عليه قول المسيح عليه السلام: ((إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله)) (246) ، فالمسيح عليه السلام يشفي الأمراض ويخرج الشياطين بروح الله، أي بقوة من الله، ولا يتصور أحد أن روح الله التي يقصدها المسيح هنا هي الله ذاته، أو أنها جزء من الله.
كما جاء في الإنجيل أن المسيح عليه السلام أخبر تلاميذه أن روح الله يهب القوة والتأييد فقال: ((وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه)) (247) ، وأنه يهب العلم: ((وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم)) (248) ، وأنه الذي يلهم للحق: ((لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم)) (249) ، وأنه يجب الإيمان به وعدم الكفر به: ((لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي)) (250) .(8/261)
فهذه النصوص من التوراة والإنجيل تفيد أن حلول الروح القدس ليس خاصاً بالمسيح عليه السلام ولا بمن يزعم النصارى أنه يلهمهم ويحل عليهم (251) ، وإنما الروح هو الذي يؤيد الله به من يشاء من عباده، وهذا دليل على أن الروح ليس إلهاً كما يعتقد النصارى، وإنما هو ملاك من ملائكة الله، وهو جبريل عليه السلام.
3. كما جاء في القرآن الكريم ما يصدق ما جاء في الكتب الإلهية السابقة عن حقيقة الروح القدس، وصفاته، والأعمال الموكولة إليه كما سبق الاستشهاد بهذه الآيات في مواضع سابقة (252) ، كما ثبت في السنة النبوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحسان بن ثابت: ((إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه)) (253) ، وقوله: ((اللهم أيده بروح القدس)) (254) ، ويستشهد ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث على عدم خصوصية المسيح بتأييد الروح القدس له دون سواه، فيقول: ((فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين لما نافح عن الله ورسوله، وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام، وأهل الأرض يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يجعل اللاهوت متحداً بناسوت حسان بن ثابت، فعلم أن إخباره بأن الله أيده بروح القدس لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت، فعلم أن التأييد بروح القدس ليس من خصائص المسيح، وأهل الكتاب يقرون بذلك، وأن غيره من الأنبياء كان مؤيداً بروح القدس، كداود وغيره، بل يقولون: إن الحواريين كانت فيهم روح القدس، وقد ثبت باتفاق المسلمين واليهود والنصارى أن روح القدس يكون في غير المسيح، بل في غير الأنبياء)) (255) .
كما بين ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر قول داود عليه السلام:(8/262)
((وروح قدسك لا تنزعه مني)) (256) ، عدم خصوصية الروح القدس بالمسيح عليه السلام فقال: ((هذا دليل على أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس، فعلم بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح، وهم يسلمون ذلك، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح، في داود، وفي الحواريين، وفي غيرهم، وحينئذٍ فإن كان روح القدس هو حياة الله، ومن حلت فيه يكون لاهوتاً، لزم أن يكون إلهاً، لزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود، ويلزم من ذلك أن يكون المسيح فيه لاهوتان: الكلمة، وروح القدس، فيكون المسيح من الناسوت: أقنومين أقنوم الكلمة، وأقنوم روح القدس، وأيضاً فإن هذه ليست صفة لله قائمة به، فإن صفة الله القائمة به، بل وصفة كل موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره، وليس في هذا أن الله اسمه روح القدس، ولا أن حياته اسمها روح القدس، ولا أن روح القدس الذي تجسد منه المسيح، ومن مريم هو حياة الله سبحانه وتعالى، وأنتم قلتم: إنَّا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، ولكن الله سمى لاهوته بها، وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى نفسه، ولا شيئاً من صفاته روح القدس، ولاسمى نفسه ولا شيئاً من صفاته ابناً، فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس، ولصفته التي هي العلم بالابن. وأيضاً فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح، فإذا كانت روح القدس في داود عليه السلام والحواريين وغيرهم بطل ما خصصتم به المسيح، وقد علم بالاتفاق أن داود عبد الله عز وجل، وإن كانت روح القدس فيه، وكذلك المسيح عبد الله وإن كانت روح القدس فيه، فما ذكرتموه عن الأنبياء، حجة عليكم لأهل الإسلام، لا حجة لكم)) (257) .(8/263)
ويدل أيضاً على عدم خصوصية الروح القدس بالمسيح عليه السلام ولا بغيره، أن النصارى يقرون أن الروح القدس ناطق في الأنبياء، إذ قالوا في قانون إيمانهم المقدس: ((الناطق في الأنبياء)) (258) ، ويسمى في زعمهم حياة الله، وإذا كان كذلك فهذا باطل، إذ يقول ابن تيمية رحمه الله: ((وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلهاً معبوداً قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتاً ولاهوتاً، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقاً في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح، وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له)) (259) ، وقال رحمه الله في موضع آخر: ((وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة، فلو استعمل في حياة الله أيضاً لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح، وأما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالاً في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذٍ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح)) (260) .
وبهذا يتبين حقيقة الروح القدس وأنه جبريل عليه السلام وبطلان اعتقاد النصارى ألوهيته، وبطلان اعتقادهم خصوصية المسيح بحلول الروح القدس عليه أو على غيره دون سواهم.
خاتمة البحث:
وبهذا نأتي على ختام هذا البحث في هذه الدراسة العلمية النقدية عن اعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس وأنه الرب المحيي، وقد توصلت إلى النتائج الآتية:(8/264)
1 أن الروح القدس في الكتب الإلهية هو ما يؤيد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين من النصر والتأييد، ويأتي بمعنى الوحي الإلهي، وبمعنى جبريل عليه السلام، لكن أهل الكتاب لا سيما اليهود حرفوا معنى الروح القدس عن جبريل عليه السلام لزعمهم أنه عدوهم، ثم تابعهم النصارى، وبعدها اختلفوا في تأويله، وآل أمرهم في نهاية الأمر إلى تأليهه، لأن تأليههم للمسيح عليه السلام هو الذي قادهم لتأليه الروح القدس، لأنهم تصوروا أنه حين حبلت مريم بحلول الروح القدس فيها، أنها حبلت بالإله المسيح من الإله الروح القدس.
2 إن إقرار ألوهية الروح القدس، حدث بعد رفع المسيح عليه السلام بعدة قرون، وهو من ابتداع الأحبار والرهبان الذين قاوموا عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، وكان إقرارهم لهذا الاعتقاد على مراحل عديدة وبعد النزاع والصراع بين التوحيد والوثنية التي تؤيدها الأباطرة الذين كانوا ما زالوا على وثنيتهم، فجاءت قرارات مجامعهم تبعاً لبدعهم وأهوائهم التي ضلوا فيها عن الحق.
3 أن اعتقادهم ألوهية الروح القدس نتيجة لتأويلهم النصوص المتشابهة وجعلها دليلاً على معتقدهم، وتركهم النصوص المحكمة التي ترد باطلهم وإعراضهم عنها، رغم أنها صريحة في معانيها تؤيدها نصوص الكتب الإلهية السابقة، وأناجيلهم المقدسة، وشهادة القرآن الكريم لما ورد فيها من الحق، ورده لما فيها من الباطل.
4 أن الروح القدس هو جبريل عليه السلام، وكان سبب ضلالهم أنهم زعموا أن الروح القدس غير جبريل، لأنهم حينما رأوا نصوصهم تارة تذكر الروح القدس، وتارة تذكر جبريل ظنوا أنهما شيئان مختلفان، فنسبوا إلى الروح القدس الصفات الإلهية التي جعلتهم يعتقدون ألوهيته، ولو تدبروا الأمر لوجدوهما شيئاً واحداً كما تشهد بذلك نصوصهم المقدسة.(8/265)
5 أن الروح القدس ليس خاصاً بالمسيح فقط ولا بمن زعموا حلوله عليهم، بل إن الله أيد به الأنبياء والرسل السابقين وعباده المؤمنين، ونصوصهم شاهدة في أن روح القدس حل في كثير من الأنبياء، وفي الحواريين وفي غيرهم، وأن روح القدس يأتي بمعنى القوة والنصر والتأييد، وبمعنى
الوحي، وهو أيضاً اسم لجبريل عليه السلام، وهذا يرد باطلهم في الاعتقاد بألوهيته خلاف ما أخبر الله عنه في الكتب الإلهية.
وفي ختام هذه الخاتمة أرجو الله أن أكون قد وفقت للصواب، وأن يكون عملي خالصاً لوجه الله، وبالله التوفيق وهو المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش والتعليقات
(1) انظر على سبيل المثال:
أإبراهيم لوقا المسيحية في الإسلام، الطبعة الأولى سنة 1938، القاهرة.
ب البابا شنودة القرآن والمسيحية، مجلة الهلال، عدد ديسمبر سنة 1970 ص 21 27
ج القمص بولس باسيلي المسيح في التوراة والإنجيل والقرآن، دار نوبار للطباعة، القاهرة، الطبعة الرابعة سنة 1999.
(2) سفر الخروج 31/3
(3) سفر حزقيال 11/5
(4) المرجع السابق 36/2627
(5) سفر التكوين 41/3840
(6) سفر المزامير 51/1012
(7) سفر أشعياء 63/1112
(8) المرجع السابق 63/10
(9) سفر صموئيل الثاني 23/1
(10) سفر دانيال 6/1617
(11) المرجع السابق 9/21
(12) سفر القضاة 14/6
(13) المرجع السابق 14/9
(14) المرجع السابق 3/10
(15) انظر سفر التكوين 1/2
(16) انظر سفر الجامعة 12/7
(17) انظر سفر أيوب 34/14
(18) أي: أن كل ماسوى كلام الله عزوجل مما يصدر عنه تعالى فهو مخلوق، فكل ماسوى الله فهو مخلوق من مخلوقاته.
(19) سفر أشعياء 63/710
(20) البقرة 97
(21) رواه البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى ((من كان عدواً لجبريل)) حديث رقم 4480، وكتاب التوحيد باب ذكر الملائكة، حديث رقم 3207
(22) رواه الإمام أحمد في مسنده ج 1 ص 273، الطبعة الميمنية عام 1405(8/266)
(23) انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 1 ج 1 ص 431 435
(24) إنجيل مرقس 12/36
(25) إنجيل متى 22/43
(26) سفر أعمال الرسل 28/2526
(27) رسالة بطرس الثانية 2/21
(28) سفر أعمال الرسل 7/51 52
(29) رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 3/3
(30) إنجيل لوقا 1/1315
(31) المرجع السابق 1/1315
(32) إنجيل متى 1/18
(33) إنجيل لوقا 3/2122
(34) إنجيل يوحنا 1/3233
(35) إنجيل مرقس 1/910
(36) إنجيل لوقا 4/1
(37) المرجع السابق 4/1415
(38) المرجع السابق 4/18
(39) سفر أعمال الرسل 10/38
(40) إنجيل متى 10/1720، وسفر أعمال الرسل 1/48
(41) إنجيل لوقا 12/1112، وسفر أعمال الرسل 1/48
(42) إنجيل متى 12/2428
(43) المرجع السابق 12/31 32
(44) إنجيل مرقس 3/2830، وإنجيل لوقا 12/10
(45) إنجيل متى 3/1012
(46) ذكر بعض العلماء الكثير من البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل، وذكروا أن من معاني الروح القدس دلالته على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يحيى والمسيح عليهما السلام بشرا بنبي الإسلام ولقباه بالروح القدس، وسيأتي الحديث عن الشاهد الدال على ذلك في المبحث الثالث: المطلب الثاني فقره (ج)
(47) إنجيل يوحنا 1/3233
(48) إنجيل متى 3/1417
(49) انظر إنجيل متى 5/9، 6/910،32/9، وإنجيل يوحنا 20/17، ورسالة بولس إلى أهل رومية 8/1415
(50) الذاريات 2434
(51) انظر صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، حديث رقم 3234، 3235، 3236، وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب قوله تعالى ((ولقد رآه نزلة أخرى)) ، حديث رقم 280287
(52) انظر صحيح البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، حديث رقم 50، وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان باب الإسلام، حديث رقم 1، 5، 7.
(53) ابن القيم الجوزية كتاب الروح 240241
(54) النحل 2
(55) الشورى 52
(56) غافر 1516(8/267)
(57) المجادلة 22
(58) الشعراء 192195
(59) البقرة 87
(60) النحل 102
(61) البقرة 87
(62) المائدة 110
(63) الإسراء 85
(64) النبأ 38
(65) القدر 4
(66) النساء 171
(67) الأنبياء 91
(68) التحريم 12
(69) انظر ابن كثير تفسير القرآن العظيم 1/998
(70) المرجع السابق 1/998
(71) رواه البخاري كتاب الأنبياء باب قوله تعالى ((وإذقالت الملائكة يامريم)) حديث رقم 3435، ومسلم كتاب الإيمان باب من لقي الله وهو غير شاك 1/42
(72) الجاثية 13
(73) الشمس 13
(74) الحج 26
(75) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري من حديث طويل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كتاب التوحيد باب قوله تعالى ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) حديث رقم 7440
(76) انظر ابن كثير تفسير القرآن العظيم 1/898900
(77) الإمام القرافي هو: هو الشيخ الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن المصري الصنهاجي الهفشي، من قبيلة صنهاجه من برابرة المغرب، القرافي المالكي الفقيه الأصولي المفسر، ولد بمصر سنة 626 هجرية، وكان إمام المالكية في عصره، له مصنفات كثيرة في العقيدة والفقه وأصوله، وله في الرد على النصارى مثل: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، تحقيق د. بكر زكي عوض، وأدلة الوحدانية في الرد على النصرانية، تحقيق عبد الرحمن دمشقية، توفي القرافي رحمه الله في جمادى الآخرة سنة 684 هجرية. (انظر كشف الظنون 2/1153، وهدية العارفين 1/99، وحسن المحاضرة 1/127، والأعلام للزركلي 1/9495)
(78) الأنفال 41
(79) الحجر 42
(80) الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة 8286
(81) حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/631
(82) المرجع السابق 4/665666
(83) حنانيا إلياس كساب مجموعة الشرع الكنسي ص 247
(84) قاموس الكتاب المقدس، مادة (روح القدس) ص 414(8/268)
(85) انظر حنانيا إلياس كساب مجموعة الشرع الكنسي ص 258259،وزكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/176
(86) القس يوسف أسعد العذراء في التاريخ الكنسي ص 53
(87) انظر زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/179
(88) انظر حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/666
(89) انظر محمد أبو زهرة محاضرات في النصرانية ص 155
(90) رؤوف شلبي ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ص 217
(91) انظر المرجع السابق ص 210، 217
(92) انظر أندرو ملر مختصر تاريخ الكنيسة 1/301
(93) انظر حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/632
(94) أندروملر مختصر تاريخ الكنيسة 1/301
(95) زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/180
(96) المرجع السابق 1/171
(97) المرجع السابق 1/172
(98) المرجع السابق 1/175
(99) المرجع السابق 1/176177
(100) المرجع السابق 1/178
(101) المرجع السابق 1/179
(102) انظر رؤوف شلبي ياأهل اللكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ص 229
(103) حنا جرجس الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/631
(104) موسوعة تاريخ الأقباط 1/142
(105) المرجع السابق 1/246
(106) رسالة التثليث والتوحيد ص 45
(107) المرجع السابق ص 260
(108) انظر حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/666
(109) انظر زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/246 247
(110) انظر ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/317
(111) محمد أبو زهرة محاضرات في النصرانية ص 121122
(112) المرجع السابق ص 123
(113) سفر التكوين 1/36
(114) المرجع السابق 2/22
(115) سفر أشعياء 47/16
(116) سفر الخروج 20/17
(117) يسي منصور رسالة التثليث والتوحيد ص 37، 42
(118) القمص ميخائيل جرجس علم اللاهوت العقيدي 1/181
(119) سفر زكريا 22/8
(120) سفر هوشع 12/3
(121) سفر التكوين 48/1516
(122) الله.. طرق إعلانه عن ذاته ص 12
(123) إنجيل متى 22/30
(124) المرجع السابق 26/53
(125) إنجيل لوقا 2/1314
(126) انظر المرجع السابق 1/1315(8/269)
(127) انظر المرجع السابق 1/2635
(128) انظر رؤيا يوحنا اللاهوتي 8/26،17/1
(129) انظرإنجيل متى 1/19،2/13،2/1920
(130) إنجيل متى 28/19
(131) انظر القمص ميخائيل جرجس علم اللاهوت العقيدي 1/147 150، وانظر زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/246247
(132) ابن تيمية: هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني الدمشقي، أبو العباس، ولد عام 661 هجرية، يعتبر منكبار الأئمة المجتهدين، ومن علماء الإسلام المشهورين، ومن كبار المصلحين، له تصانيف تزيد على أربعة آلاف كراسة، عالم في التفسير والفقه وأصوله، والحديث والمنطق، من مؤلفاته في جدال النصارى: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والرسالة القبرصية، توفي رحمه الله عام 728 هجرية. (انظر الذهبي تذكرة الحفاظ 4/1496، وابن كثير البداية والنهاية 14/163، والشوكاني البدر الطالع 1/63)
(133) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/99
(134) المتطبب هو: نصر بن يحيى بن عيسى بن سعيد المتطبب، كان نصرانياً فأسلم، واشتهر بالمهتدي، من نصارى البصرة، وكان طبيباً وأديباً، لايعرف سنة ولادته، عاش بعد سنة 449 هجرية، كان عالماً بديانة قومه، أسلم بعد نظر وبحث وروية، كتب رسالة في الرد على النصارى سماها: النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية، كانت وفاته بالبصرة في شهر رمضان سنة 589 هجرية (انظر: كشف الظنون 2/1957-1958، وهدية العارفين 2/492، ومعجم الأدباء 20/40-41، وعيون الأنباء 2/329-330، وانظر ترجمة وافية للمتطبب د. محمد السحيم مسلموا أهل الكتاب 1/191-200)
(135) النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص 126(8/270)
(136) القرطبي: هو شمس الدين: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي، لم يذكر العلماء سنة ولادته، من كبار المفسرين، مؤلف كتاب (الجامع لأحكام القرآن) وله مؤلفات أخرى، وينسب إليه كتاب في الرد على النصارى باسم (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، وإظهار محاسن دين الإسلام، وإثبات نبوة محمد عليه السلام) (انظر نفح الطيب 1/428، والديباج المذهب 317، وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان 219)
(137) الحج 78
(138) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام 1/ 6465
(139) انظر المرجع السابق 1/6570
(140) إنجيل متى 5/4445
(141) المرجع السابق 6/1
(142) انظر إنجيل متى 6/4،6/9،17/11، 17/21،26/52-53،ولوقا 10/22-23، ويوحنا 8/25-29
(143) إنجيل متى 4/3
(144) المرجع السابق 4/6
(145) المرجع السابق 16/1316
(146) المرجع السابق 5/45
(147) المرجع السابق 6/9
(148) انظر المرجع السابق 5/9، ويوحنا 8/41
(149) المائدة 18
(150) المائدة 18
(151) ابن كثير تفسير القرآن العظيم 2/56
(152) إنجيل متى 1/18
(153) المرجع السابق 1/20
(154) إنجيل مرقس 13/11
(155) أعمال الرسل 5/3
(156) انظر قاموس الكتاب المقدس، مادة (الروح القدس) ص 414، وانظر إلياس مقار إيماني أو (القضايا المسيحية الكبرى) ص 183
(157) رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/16
(158) رسالة بولس إلى أهل رومية 8/11
(159) انظر القمص ميخائيل جرجس علم اللاهوت العقيدي 1/181-189، وانظر زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/246-247
(160) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/251-252
(161) إنجيل لوقا 1/13-15
(162) انظر على سبيل المثال:
أالقمص ميخائيل جرجس علم اللاهوت العقيدي 1/147-150
ب زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/246-247
(163) إنجيل لوقا 1/26-35
(164) إنجيل متى 1/18-21
(165) مريم 17(8/271)
(166) انظر ابن جرير جامع البيان عن تأويل آي القرآن مج 9 ج 16/60
(167) آل عمران 171
(168) الجاثية 13
(169) محمد بن علي الشوكاني فتح القدير 1/540-541
(170) الأنبياء 91
(171) التحريم 12
(172) إنجيل لوقا 1/41
(173) المرجع السابق 1/67-68
(174) المرجع السابق 2/25-26
(175) إنجيل متى 3/13-17
(176) إنجيل يوحنا 1/32-33
(177) رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 3/3
(178) إنجيل متى 3/11
(179) إنجيل لوقا 3/16
(180) إنجيل متى 28/19
(181) إنجيل يوحنا 14/26
(182) المرجع السابق 16/13
(183) المرجع السابق 15/26
(184) عبد الأحد داود، كان اسمه قبل إسلامه: دافيد بنجامين كلداني، كان قسيساً للروم من طائفة الكلدان، ولد في أروميا من بلاد فارس سنة 1867 م، وتلقى تعليمه الابتدائي في تلك المدينة، سافر إلى روما وتلقى العلوم النصرانية فيها، وفي عام 1895 م تم ترسيمه كاهناً، أسهم في كتابة ونشر بعض المقالات عن الكنائس الشرقية، وكان يقوم بمهمة الوعظ والتعليم، كما تقلد مناصب أخرى، هداه الله إلى الإسلام وألف في الرد عليهم ومن كتبه: 1- الإنجيل والصليب، 2- محمد في الكتاب المقدس. (انظر ترجمة وافية عنه: د. محمد بن عبد الله السحيم مسلموا أهل الكتاب، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام1417 هجرية، ج 1 ص237-259)
(185) محمد في الكتاب المقدس ص 220
(186) انظر عبد الأحد داود محمد في الكتاب المقدس ص 117 وما بعدها، وانظر إبراهيم خليل أحمد محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص 89
(187) انظر أحمد حجازي السقا البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل 2/268-299، وكتابه: أقانيم النصارى ص 42-58، وانظر محمد رواس قلعة جي محمد في الكتب المقدسة ص 11-16
(188) البقرة 87
(189) البقرة 253
(190) المائدة 110(8/272)
(191) رواه البخاري كتاب الصلاة باب الشعر في المسجد، حديث 453، وكتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة، حديث 3213، وكتاب المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، حديث 4123، وكتاب الأدب باب هجاء المشركين، حديث 6152، ورواه مسلم كتاب فضائل الصحابة، حديث 151153، 157
(192) المراجع السابقة نفس الأحاديث
(193) غافر 15
(194) المجادلة 22
(195) إنجيل متى 28/19
(196) ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/97-99
(197) رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 13/14
(198) انظر أعمل الرسل 8/1-3، 9/1-3، 22/1-11، وانظر رسالة بولس إلى أهل غلاطية 1/13-14
(199) انظر أعمال الرسل 15/35-41
(200) انظر رسالة بطرس الثانية 3/14-16
(201) انظر رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 1/15
(202) انظر رسالة بولس إلى أهل رومية 3/28، 7/6
(203) انظر د. أحمد شلبي المسيحية ص 233
(204) رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 13/14
(205) بماذا يؤمن السيحيون؟ ص 71
(206) انظر د. أحمد شلبي المسيحية ص 133-134، نقلاً عن ليون جوتيه المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ص 93
(207) انظر النقول عن مشاهير رجال اللاهوت النصراني في بيان حقيقة الثالوث:
أالأستاذ عبد الكريم الخطيب المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل ص 304-313
ب الدكتور أحمد شلبي المسيحية ص 139-146
(208) قاموس الكتاب المقدس مادة (جبرائيل) ص 245
(209) إنجيل لوقا 1/5 15
(210) المرجع السابق 1/26 35
(211) المرجع السابق 1/39 41
(212) المرجع السابق 1/67
(213) حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي 4/666، وزكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط 1/143
(214) إنجيل لوقا 1/6768
(215) المرجع السابق 1/41
(216) حنا الخضري تاريخ الفكر المسيحي4/666، وزكي شنودة موسوعة تارخ الأقباط 1/143
(217) المرجعين السابقين نفس الجزء والصفحة
(218) إنجيل متى 6/9-13
(219) المرجع السابق 6/14-15(8/273)
(220) إنجيل لوقا 9/31
(221) إنجيل متى 7/21
(222) إنجيل متى 4/10، وإنجيل لوقا 4/8
(223) إنجيل يوحنا 17/3-4
(224) انظر محمد مجدي مرجان الله واحد أم ثالوث ص 104
(225) انظر المرجع السابق ص 116
(226) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/159-160
(227) سفر أشعياء 63/10
(228) البقرة 97، والحديث سبق تخريجه، انظر هامش (21)
(229) إنجيل متى 1/18
(230) إنجيل يوحنا 1/33-34
(231) البقرة 87
(232) المائدة 110
(233) الأنبياء 91
(234) النحل 102
(235) الشعراء 193- 195
(236) سفر القضاة 3/10
(237) المرجع السابق 14/6
(337) المرجع السابق 14/19
(239) سفر الخروج 31/3
(240) سفر حزقيال 36/2627
(241) انظر سفر القضاة 15/14
(242) إنجيل لوقا 4/1
(243) المرجع السابق 4/14-15
(244) المرجع السابق 4/18
(245) سفر أعمال الرسل 10/38
(246) إنجيل متى 12/28
(247) إنجيل يوحنا 14/16-17، وانظر أعمال الرسل 1/8
(248) إنجيل يوحنا 14/26
(249) إنجيل متى 10/20، ومرقس 13/11، ولوقا 12/12
(250) إنجيل متى 12/31-32
(251) انظر أعمال الرسل 2/4، 4/31، 6/3، 6/5، 11/22-24، 13/52، 13/9، وانظر إنجيل لوقا 1/41، 8/67
(252) سبق ذكر هذه الآيات عند الحديث عن حقيقة الروح القدس في المبحث الأول
(253) سبق تخريج هذا الحديث، انظر هامش (191)
(254) سبق تخريج هذا الحديث، انظر هامش (192)
(255) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/256
(256) سفر المزامير 51/11
(257) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/125
(258) حنانيا إلياس كساب - مجموعة الشرع الكنسي ص 247
(259) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/120
(260) المرجع السابق 2/.140
المصادر والمراجع
أولاً: المراجع الإسلامية:
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري.
3- صحيح مسلم.
4- مسند الإمام أحمد.(8/274)
5- ابراهيم خليل أحمد محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، مكتبة الوعي العربي، القاهرة، الطبعة الخامسة، بدون تاريخ.
6- أحمد حجازي السقا البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن، دار البيان العربي، القاهرة 1977م.
7- أحمد حجازي السقا أقانيم النصارى، دار الأنصار، القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ.
8- أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، مطابع المجد، القاهرة، بدون تاريخ.
9- أحمد بن إدريس القرافي الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة، تحقيق د. بكر زكي عوض، مكتبة وهبة، القاهرة، بدون تاريخ.
10- إسماعيل بن الخطيب بن كثير تفسير القرآن العظيم، ضبط حسين إبراهيم زهران، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
11- رؤوف شلبي يا أهل الكتاب تعلوا إلى كلمة سواء، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية 1400هـ.
12- عبد الأحد داود محمد في الكتاب المقدس، ترجمة فهمي شما، طبع ونشر رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر، الطبعة الأولى 1405هـ.
13- عبد الله الترجمان تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، تحقيق عمر وفيق الداعوق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.
14- محمد بن جرير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت 1405هـ.
15- محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية كتاب الروح، تحقيق د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ.
16- محمد بن أحمد القرطبي الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، تحقيق أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة، بدون تاريخ.
17- محمد أبو زهرة محاضرات في النصرانية، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1404هـ.
18- محمد بن علي الشوكاني فتح القدير، دار المعروفة، بيروت، بدون تاريخ.(8/275)
19- محمد مجدي مرجان الله واحد أم ثالوث، دار النهضة العربية، القاهرة، بدون تاريخ.
20- محمد رواس قلعة جي محمد في الكتب المقدسة، دار السلام للطباعة والنشر والتأليف، بيروت، الطبعة الثالثة 1400هـ.
21- نصر بن يحيى المتطبب النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية، تحقيق د. محمد
عبد الله الشرقاوي، دار الصحوة للنشر، القاهرة، 1406هـ.
ثانياً: المراجع النصرانية:
22- كتاب النصارى المقدس:
(أ) العهد القديم، طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
(ب) العهد الجديد، طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
23- أندرو ملر مختصر تاريخ الكنيسة، بدون ناشر ولا تاريخ.
24- إلياس مقار إيماني أو (القضايا المسيحية الكبرى) دار الثقافة، بدون ناشر ولا تاريخ.
25- بطرس عبد الملك وآخرون، قاموس الكتاب المقدس، بدون ناشر ولا تاريخ.
26- حنا جرجس الخضري تاريخ الفكر المسيحي، دار الثقافة، القاهرة 1981م.
27- حنا نيا إلياس كساب مجموعة الشرع الكنسي، بدون ناشر ولا تاريخ.
28- زكي شنودة موسوعة تاريخ الأقباط، بدون ناشر ولا تاريخ.
29- عوض سمعان الله.. طرق إعلانه عن ذاته، بدون ناشر ولا تاريخ.
30- ميخائيل جرجس علم اللاهوت العقيدي، مركز الدلتا للجمع التصويري بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1994م.
31- يسي منصور رسالة التثليث والتوحيد، بدون ناشر ولا تاريخ.
32- يوسف أسعد العذراء في التاريخ الكنسي، بدون ناشر ولا تاريخ.(8/276)
هدي الصحابة رضوان الله عليهم
مفهومه - مصادره - نماذج منه
د/ رضا محمد صفي الدين السنوسي
الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الإسلامية
كلية الآداب - جامعة الملك عبد العزيز
ملخص البحث
يركز البحث على بيان مفهوم هدي الصحابة - رضوان الله عليهم - فهم الطليعة المؤمنة التي حملت عبء الرسالة، وقامت بالدعوة، وجاهدت في سبيل نشر هذا الدين، والبحث يبين تعريف الصحابي، ومكانة الصحابة - رضوان الله عليهم - مع بيان المصادر العلمية التي نستقي منها هديهم - رضوان الله عليهم - وقد ذكر في هذا البحث بعض النماذج لهديهم حتى يحصل الاقتداء والتأسي بهم، والبحث يبين كيف استطاع الصحابة - رضوان الله عليهم - أن يحافظوا على هذا الدين وعلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أبرز هذا البحث الجهود العظيمة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحب والتوقير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال وحرصهم على طلب العلم وغيره من الجهود المباركة.
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مصابيح الدجى، وقدوة لمن أتى، وجعل محبتهم واجبة على من أتى بعدهم، وجعلهم الأسوة والقدوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أحمد ربي وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:(8/277)
إن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم الطليعة المؤمنة التي حملت عبء الرسالة، بهم قامت الدعوة، وبهم أظهر الله الإسلام، وأعلى كلمة الحق، فهم الذين بذلوا الأموال والأنفس رخيصة في سبيل الله، نصروا الدين، وكسروا الأصنام، وأعلوا كلمة لا إله إلا الله في كل مكان، لقد ضربوا أروع الأمثلة في الصبر على البلاء، والتضحية والفداء، وصلابة العقيدة، ورسوخ اليقين، فكانوا مثالاً لكل مسلم يحمل بين جوانبه حقيقة الإيمان، وسمو الهدف، فواجب على الأمة أن تحبهم وأن تتولاهم وأن تتأسى بهم فيما فعلوه، نصرة للدين وحباً لرسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -.
إن للصحابة - رضوان الله عليهم - صفات مميزة، وسمات بارزة، يعرفون بها، وفي هذا البحث سوف نعرض لهذا الموضوع الهام وسيكون هذا البحث من مقدمة أبين فيها أهمية هذا البحث وفصلين وخاتمة.
الفصل الأول: هدي الصحابة ومصادره، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الهدي لغة.
المبحث الثاني: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً.
المبحث الثالث: تعريف هدي الصحابة وبيان المقصود منه.
المبحث الرابع: المصادر التي نستقى منها هدي الصحابة - رضوان الله عليهم -
الفصل الثاني: نماذج من هديهم رضوان الله عليهم، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثاني: توقيرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثالث: جهادهم في سبيل الله بالأموال والأنفس.
المبحث الرابع: زهدهم في الدنيا وبعدهم عن الترف.
المبحث الخامس: حرصهم على العلم ومسارعتهم إليه.
المبحث السادس: خطبهم ومواعظهم.
المبحث السابع: أخلاقهم التي اتصفوا بها.
المبحث الثامن: فقههم وآراؤهم الاجتهادية.
الخاتمة: وأذكر فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، ثم أتبع ذلك بفهارس عامة، فهرس للمصادر والمراجع، وفهرس آخر للموضوعات.(8/278)
وفي الختام أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجعل عملي هذا في الأعمال المقبولة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وحسن الختام عند انتهاء الأجل، وأن ينفع بهذا البحث الكاتب والقارئ إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الأول: هدي الصحابة ومصادره
قبل الشروع في الحديث عن هدي الصحابة - رضوان الله عليهم - ينبغي أن نعرف كلمة هدي ونعرف الصحابة - رضوان الله عليهم - حتى نستطيع أن نتعرف على معنى هذا التركيب (هدي الصحابة) .
المبحث الأول: تعريف الهدي لغة:
تعريف الهدي لغة: الهدي والهدية ويكسر الطريقة والسيرة يقال فلان يهدي فلان أي يفعل مثل فعله ويسير سيرته، ومنه قولهم: ما أحسن هديه أي سمته وسكونه وهو حسن الهدي والهدية أي الطريقة والسيرة وما أحسن هديته.
وقال زياد بن زيد العدوي:
ويخبرني عن غائِب المرءِ هديُه كفى الهديُ عما غيبَ المرءَ مخبراً ( [1] )
والهدي: ما أهدي إلى مكة من النعم ومنه قوله تعالى: {حتى يبلغ الهدي محله} ( [2] ) .
ومنه قول الفرزدق:
حلفت برب مكةَ والمصلّى وأعناقِ الهدِىِّ مقلَّداتِ ( [3] )
والهدي إذا أطلق انصرف إلى الطريقة والسيرة يبين هذا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
1 - أخرج مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم. ويقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى. ويقول: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)) ( [4] ) .(8/279)
قال النووي: خير الهدي هدي محمد، أي أحسن الطرق طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - يقال: فلان حسن الهدي أي الطريقة والمذهب ( [5] ) .
2 - أخرج الإمام أحمد في مسنده بسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني لست أدري قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي يشير إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهدوا هدي عمار وعهد ابن أم عبد رضي الله عنهما)) ( [6] ) .
قال الزبيدي: واهدوا بهدي عمار، أي سيروا بسيرته وتهيئوا بهيئته ( [7] ) .
المبحث الثاني: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً:
تعريف الصحابي في اللغة مشتق من الصحبة وهي في اللغة بمعنى الملازمة والانقياد وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه
قال الزبيدي: صحبه، يصحبه صحابة، بالفتح ويكسر وهم أصحاب وأصاحيب وصحبان والصاحب المعاشر، واستصحبه دعاه إلى الصحبة ولازمه، وكل ما لازم شيئاً فقد استصحبه ( [8] ) .
وقال الأصفهاني: الصاحب الملازم إنساناً كان أو حيواناً أو مكاناً أو زماناً ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن، وهو الأصل والأكثر، ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته.
ويقال للمالك الشيء: هو صاحبه وكذلك لمن يملك التصرف فيه قال تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} ( [9] ) .
والإصحاب للشيء: الانقياد له وأصله أن يصير له صاحباً ( [10] ) .
تعريف الصحابي في اصطلاح العلماء:
لقد تباينت أقوال العلماء في تعريف الصحابي ( [11] ) والذي يعنينا في هذا المقام هو تعريف علماء الحديث وعلماء الفقه والأصول لهم.
أ - تعريف الصحابي عند المحدثين:
هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة، مؤمناً به، بعد بعثته، حال حياته ومات على الإيمان ( [12] ) .
وهذا التعريف هو الذي مال إليه أكثر أهل الحديث.(8/280)
يقول الإمام أحمد بن حنبل: بعد أن ذكر أهل بدر فقال ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه ( [13] ) .
وقال الإمام علي بن المديني: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( [14] ) .
وقال الإمام البخاري: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه ( [15] ) .
ب - تعريف الصحابي عند الفقهاء والأصوليين:
هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة، مؤمناً به، بعد بعثته، حال حياته، وطالت صحبته، وكثر لقاؤه به، على سبيل التبع له، والأخذ عنه، وإن لم يرو عنه شيئاً، ومات على الإيمان ( [16] ) .
قال الدكتور عياده الكبيسي: والراجح في تعريف الصحابي هو ما ذهب إليه جمهور المحدثين وذلك لشرف منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلو قدره وأن لصحبته - صلى الله عليه وسلم - مزية تختلف عن صحبة غيره ( [17] ) .
وبعد أن عرفنا معنى كلمة هدي وأتبعناها بشرح معنى الصحابي وتعريف العلماء له نستطيع الآن أن نعرف ما نحن بصدده وهو هدي الصحابة.
المبحث الثالث: تعريف هدي الصحابة:
هو السيرة التي سلكوها، والنهج الإيماني الذي ساروا عليه وأثر فيهم وذلك باتباعهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتدائهم به، واقتداء غيرهم بهم - رضوان الله عليهم -
والمقصود بهذا هو دراسة تحليلية لحياة الصحابة - رضوان الله عليهم - واستخلاص العبر والعظات من حياتهم، وأخذ الأسوة والقدوة منهم، والوقوف على السمات البارزة، باعتبارهم خير هذه الأمة بعد نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.(8/281)
1 - أخرج الإمام أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ ( [18] ) .
2 - أخرج أبو نعيم بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا على الهدي المستقيم والله رب الكعبة ( [19] ) .
المبحث الرابع: المصادر التي نستقي منها هدي الصحابة رضوان الله عليهم:
إن المصادر التي نرجع إليها للوقوف على هدي الصحابة - رضوان الله عليهم - كثيرة من أهمها:
أولاً - القرآن الكريم:
إن القرآن الكريم هو المصدر الأول لاستنباط سيرة هذا الجيل الذي تربى على القرآن في مدرسة النبوة على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم لم يذكر أسماء الصحابة بالتعيين إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} ( [20] ) لكن الآيات الكثيرة التي نزلت فيهم - رضوان الله عليهم - يمكننا أن نرجع إلى أسباب نزولها فنقف على الصحابي الذي نزلت فيه هذه الآيات، وإلى كتب التفسير التي تفسر الآية وتبين المعاني العظيمة التي ذكرت فيها.
وسأذكر بعض الآيات وأترك للقارئ الكريم الرجوع إلى كتب التفسير وأسباب النزول للوقوف على أسماء الصحابة الذين أشير إليهم.(8/282)
1 - قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ( [21] ) .
2 - قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} ( [22] ) .
3 - قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً} ( [23] ) .
4 - قال تعالى: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} ( [24] ) .
ثانياً: كتب السنة النبوية المطهرة:
لقد جاءت كتب السنة تتحدث عن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكر مالهم من الفضل والمكانة التي نالوها بما قدموا من تضحيات عظيمة في سبيل الله، وما بذلوه من الأنفس والأموال إيماناً بالله وطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث في هذا كثيرة جداً، فلو رجعنا إلى كتب السنة في أبواب متفرقة مثل كتاب المناقب، كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتاب مناقب الأنصار، كتاب المغازي وغيرها.
ولو جمعنا الأحاديث التي رويت في هذه الأبواب من صحيح البخاري، لبلغت قرابة ألف حديث هذا في كتاب البخاري في هذه الأبواب الأربعة، فكيف لو درسنا الكتاب كله واستخرجنا هذه الأحاديث، لبلغت أكثر من ذلك هذا كله يدل على مدى العناية العظيمة بما يتعلق بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم محل الأسوة والقدوة لمن جاء بعدهم.
ثالثاً: كتب السيرة النبوية:(8/283)
تعد هذه الكتب مصدراً هاماً في معرفة أخبار الصحابة - رضوان الله عليهم - وذكر وقائعهم وسيرهم، وجهادهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل حدث من أحداث السيرة له ارتباط بالصحابة - رضوان الله عليهم -، في الهجرة، في الغزوات، في الصلح، في بناء الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة فكل أحداث السيرة تدور حول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم -
رابعاً: كتب التاريخ:
وهذه الكتب قد احتوت على مادة غزيرة تحكي تفصيلات واسعة عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن هذه الكتب التي تتحدث عن تاريخ الإسلام:
أ - تاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 هـ.
ب - الكامل في التاريخ للإمام محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630 هـ.
ج - تاريخ الإسلام للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ.
د - البداية والنهاية للإمام عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير المتوفى سنة 774 هـ. وغيرها من الكتب إلا أن هناك كتباً قد تخصصت في تراجم الصحابة وذكر سيرهم ومآثرهم وبعض أقوالهم التي تروى عنهم ومن هذه الكتب:
خامساً: كتب التراجم والطبقات:
1 - الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد البصري المتوفى سنة 230 هـ.
2 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي المتوفى سنة 463 هـ.
وقد ضَمَّن كتابه هذا جملة من تراجم الصحابة إلا أنه لم يستوعبهم وفاته من أسمائهم الكثير وقد ترجم لقرابة 3650 صحابياً.
3 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لعز الدين بن الأثير الجزري المتوفى سنة 630 هـ.
وقد اعتمد في كتابه هذا على ابن مندة وأبي نعيم والاستيعاب وجملة من ترجم لهم 7702.
4 - تجريد أسماء الصحابة للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ وجملة من ترجم لهم 4190 صحابياً.(8/284)
5 - الإصابة في تمييز الصحابة للإمام أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ وكتابه هذا أجمع كتاب في ذكر أسماء الصحابة حيث يشتمل على تراجم 12304 من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه هذا أصل في أسماء الصحابة وقد عول عليه كثير من العلماء ولم يؤلف مثله في فنه إلى غير ذلك من الكتب التي ألفت في هذا الباب.
6 - حياة الصحابة رضي الله عنهم للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي.
الفصل الثاني: نماذج من هدي الصحابة رضوان الله عليهم
إن النماذج لهدي الصحابة كثيرة جداً وسوف نقتصر في هذا البحث على بعض النماذج ونشرع في تعريفها والحديث عنها مع ضرب الأمثلة لذلك وهذه النماذج هي:
المبحث الأول: حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثاني: توقيرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثالث: جهادهم في سبيل الله بالأموال والأنفس.
المبحث الرابع: زهدهم في الدنيا وبعدهم عن الترف.
المبحث الخامس: حرصهم على العلم ومسارعتهم إليه.
المبحث السادس: خطبهم ومواعظهم.
المبحث السابع: أخلاقهم التي اتصفوا بها.
المبحث الثامن: فقههم وآراؤهم الاجتهادية.
المبحث الأول: حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
إن الإيمان بالله عز وجل هو أسمى المطالب التي يسعى الموفقون من عباد الله لتحصيله، لأن الإيمان بالله حقاً وصدقاً هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة، ولهذا الإيمان المنشود دعامة لابد منها، وهذه الدعامة هي الحب الحقيقي للرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم -، فمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الوسيلة الموصلة إلى محبة الله عز وجل، ومحبة الله ورسوله هي الدين كله، وعليها مدار الهداية والتقوى والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} ( [25] ) .(8/285)
إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركن ركين في حقيقة الإيمان فلا يتم إيمان عبد إلا بمحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج البخاري ومسلم واللفظ للبخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ( [26] ) .
وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)) ( [27] ) .
وحقيقة المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقتضي المتابعة له - صلى الله عليه وسلم - وموافقته في حب المحبوبات، وبغض المكروهات، ونصرة دينه بالقول والفعل، والتخلق بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بما جاء به من شرائع وسنن وتقديم أمره - صلى الله عليه وسلم - على كل شيء، إذ الحب الحقيقي هو الذي يكون فيه المحب تابعاً لمحبوبه - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأخلاقه، متأسياً به في كل شأن من شؤون حياته، إن المؤمن لا يزكو ولا يصلح قلبه إلا إذا سكنت محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلبه، والحديث عن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الإيمان الصادق، والطريق الحق، وهو حديث ذو شجون يحبه المؤمن، ويحن إليه دائماً لأنه به يعلم حقيقة الإيمان الذي استقر في قلبه.
وعندما نتحدث عن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرز لنا القمم الشامخة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ضربوا أروع الأمثلة في ذلك الحب العظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقد قطعوا مراتب المحبة وأقسامها حتى وصلوا إلى أعلى مراتبها بالغين الكمال في ذلك، لقد امتزجت محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أجسامهم وأرواحهم والأمثلة على ذلك كثيرة.
الأمثلة:(8/286)
1 - أخرج البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: ((لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مُجوب عليه بحجَفهٍ له.
وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمرُ معه بجعْبهٍ من النبل فيقول: انثُرها لأبي طلحة، قال: ويُشرفُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إلى القوم فيقوُل أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك ... الحديث)) ( [28] ) .
2 - أخرج أبو داود بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله الرجل يُحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم، قال: ((أنت يا أبا ذر مع من أحببت، قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت، قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) ( [29] ) .
3 - أخرج الطبراني في الأوسط بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا رسول الله، والله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا آراك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل جبريل بهذه الآية:
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين} ( [30] ) الآية ( [31] ) .
قال الهيثمي رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة ( [32] ) .(8/287)
4 - أخرج الحاكم بإسناده عن محمد بن سيرين قال ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما قال: فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟)) فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال: ((يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟)) قال نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمه إلا أن تكون بي دونك، فلما انتهيا إلى الغار، قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجرة فدخل واستبرأ ثم قال انزل يا رسول الله فنزل فقال عمر والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه ولم يخرجاه.
قال الذهبي: صحيح مرسل ( [33] ) .
5 - ذكر القاضي عياض أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ ( [34] ) .
المبحث الثاني: توقيرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
قال ابن كثير - رحمه الله -: التوقير هو الاحترام والإجلال والإعظام ( [35] ) .
إن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره في حياته وبعد وفاته شعبة من شعب الإيمان.(8/288)
قال البيهقي: باب في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره - صلى الله عليه وسلم - قال: وهذه منزلة فوق المحبة لأنه ليس كل محب معظماً إلا أن الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه.
قال: وقد بسط الحليمي - رحمه الله - الكلام في ذلك فقال: معلوم أن حقوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجل وأعظم وأكرم وألزم وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم، والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لما أطعناه وآوانا إلى جنات النعيم فأية نعمة توازي هذه النعم وأية منه تداني هذه المنن ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته وتوعدنا على معصيته، ووعدنا باتباعه الجنة فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العمل هذه الدرجة، فحق علينا إذاً أن نحبه ونجله ونعظمه ونهيبه أكثر من إجلال كل عبد سيده وكل ولد والده ( [36] ) .
وقد أمرنا مولانا سبحانه في كتابه العزيز بتوقير نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى:
{لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} ( [37] ) وفي القرآن الكريم آيات كثيرة جاءت لتؤكد وجوب توقيره - صلى الله عليه وسلم - منها قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} ( [38] ) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ( [39] ) ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ( [40] ) .
وغير ذلك من الآيات التي توجب توقيره وتعظيمه، وتبين للأمة مكانة هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -.(8/289)
ولقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - أعرف الأمة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك فقد كانوا أعرف وأعلم بقدره ومنزلته - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم.
ولهذا كان تعظيمهم وتوقيرهم لرسول الله أشد وأكبر من غيرهم والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
الأمثلة:
1 - أخرج البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية في حديث طويل وفيه، ثم إن عروة - بن مسعود - جعل يرمُقُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه قال فوالله ما تنَخَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُخامة إلا وقعت في كف رجُل منهم فدلكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهُم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادُوا يقتتَلون على وضُوئه، وإذا تكلموا خَفضَوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ... الحديث ( [41] ) .
2 - أخرج مسلم بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث إسلامه وفيه - وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولوسئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ... الحديث ( [42] ) .(8/290)
3 - أخرج مسلم بسنده عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفل وأبو أيوب في العلو وقال فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنحوا فباتوا في جانب ثم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - السفل أرفق، فقال لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - في العلو وأبو أيوب في السفل فكان يصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه، فصنع له طعاماً فيه ثوم فلما رُد إليه سأل عن موضع أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه، فقال: أحرام هو؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، ولكني أكرهه، فقال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ( [43] ) .
4 - أخرج ابن حبان بسنده عن أسامة بن شريك قال كُنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسنا الرخم ما يتكلم منا مُتكلم، إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، فقال ((أيها الناس إن الله قد وضع عنكم الحرج إلا امرءاً اقترض من عرض أخيه فذاك الذي حرج وهلك)) .
قالوا: أفنتداوى يا رسول الله؟ قال: ((نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء غير داء واحد. قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: الهرم. قالوا: فأي الناس أحب إلى الله يا رسول الله؟ قال: أحب الناس إلى الله أحسنهم خلقاً)) ( [44] )
5 - ذكر القاضي عياض عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافر ( [45] ) .
المبحث الثالث: جهادهم في سبيل الله بالأنفس والأموال:(8/291)
جاء النبي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رحمه لأمته، جمع الله به القلوب، ووحد به الكلمة، وأنار به السبيل وقطع به عن العرب حروب الثأر والعار، وحدد اتجاه السيف من أداة عدوان وإنتقام، إلى أداة دفاع وردع ودعوة للإيمان، وجهاد في سبيل الرحمن لإعلاء كلمة لا إله إلا الله.
إن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد في مقاتلة الكفار لقد شرع الله الجهاد وجعله فريضة من أعظم الفرائض وركناً من أقوم الأركان وواجباً من أجل الواجبات قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} ( [46] ) .
ولما كان أمر الجهاد عظيماً فإن ثواب المجاهدين عظيم كذلك فدرجة المجاهدين عند الله أعظم الدرجات وثوابهم أجزل الثواب يبين هذا نبي الملحمة - صلى الله عليه وسلم -.
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)) ( [47] ) .
وقد شرع الله الجهاد لحكم عظيمة ومنافع كبيرة فالجهاد يحفظ للأمة بقاءها ويشد بنيانها ويثبت سلطانها ويعلي كلمتها، ويحقق أهدافها في نشر هذا الدين، وبه يرهب الأعداء وهو علاج لكل فساد وطغيان.(8/292)
ولهذا فإن الله سبحانه قد فرض الجهاد على الأنبياء وأتباعهم وكان سيد المجاهدين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قد جاهد الأعداء في غزوات كثيرة.
أخرج مسلم بسنده عن بريدة رضي الله عنه قال غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة قاتل في ثمان منها ( [48] ) ولمكانة الجهاد في نفسه - صلى الله عليه وسلم - فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمنى ألا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله.
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم اقتل ثم أحيا، ثم اقتل ثم أحيا، ثم اقتل)) ( [49] ) .
وقد أدرك أصحابه - رضوان الله عليهم - فضل الجهاد وعظيم منزلته عند الله فتسابقوا - رضوان الله عليهم - في بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله سبحانه وضربوا أروع الأمثلة في جهاد أعداء الله فباعوا أنفسهم لمولاهم الله سبحانه فعوضهم بها الجنة قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} ( [50] ) .
ولقد كانوا - رضوان الله عليهم - فرسان السيف والسنان وضربوا لمن جاء بعدهم أروع الأمثلة في بذل النفس والمال في سبيل الله تعالى.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً - رضوان الله عليهم أجمعين -
الأمثلة:(8/293)
1 - أخرج مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل وفيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض قال: يقول عُمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال بخ بخ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قولك بخ بخ. قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)) ( [51] ) .
2 - أخرج مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه قال عمي الذي سُميت به - يعني أنس بن النضر - لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً، قال فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غُيبت عنه، وإن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراني الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. قال فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال فقاتلهم حتى قتل قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية قال فقالت أخته عمتي الرُبيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} [23 / الأحزاب] قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه ( [52] ) .(8/294)
3 - أخرج الحاكم بسنده عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة ففرغها عثمان في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها ويقول ماضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم قالها مراراً)) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي: صحيح ( [53] ) .
4 - أخرج أبو داود بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً)) ( [54] ) .
5 - أخرج الحاكم بسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال ((لي إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك رسول الله كيف تجدك؟ قال فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت له: يا سعد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليك السلام ويقول لك خبرني كيف تجدك؟ قال على رسول الله السلام وعليك السلام قل له يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم شفر يطرف قال وفاضت نفسه رحمه الله)) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: صحيح ( [55] ) .
المبحث الرابع: زهدهم في الدنيا وبعدهم عن الترف(8/295)
في غمار الشهوات الطاغية على الناس، وفي سُعار التكالب على هذه الحياة الدنيا، والحرص على شهواتها ولذاتها الفانية، وفي الطوفان الجارف للناس، نحو الخلود إلى الدنيا والاستزادة منها، ينبغي على المؤمن التقي أن لا يركن إلى هذه الدنيا الفانية، بل يجعلها وسيلة يتوسل بها إلى بلوغ الآخرة الباقية لأن الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، لهذا كان عليه أن يزهد في الدنيا لبلوغ الآخرة والزهد هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة.
وقد عُني القرآن عناية واضحة بهذا فراح يحث أتباعه على إيثار الآخرة على الفانية قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى} ( [56] ) وقال تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} ( [57] ) وجاء الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم - فضرب لنا المثل الأعلى في الزهد والإعراض عن ملذات الحياة أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارزق آل محمد قوتاً)) ( [58] ) ومن زهده - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج من الدنيا ولم يشبع ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز البر بل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي بالقليل من الزاد وكان - صلى الله عليه وسلم - ينام على الحصير وكان فراشه - صلى الله عليه وسلم - من أدم وحشوه ليف ولما أراد الصحابة - رضوان الله عليهم - أن يجعلوا له فراشاً ليناً أعرض - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك يبين هذا ما أخرجه الترمذي بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: مالي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ( [59] )(8/296)
ولقد فهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة هذه الدنيا فجعلوها مطية يتوصلون بها إلى الآخرة فكانوا من أزهد الناس في هذه الحياة قال بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- تابعنا الأعمال كلها فلم نر في أمر الآخرة أبلغ من زهد في الدنيا ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الزهاده في الدنيا راحة القلب والجسد ( [60] ) .
ولقد أدرك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة هذه الدنيا فجعلوها وسيلة لبلوغ الآخرة وضربوا أروع الأمثلة في الزهد فيها وعدم اشغال القلب بها والأمثلة على ذلك كثيرة.
الأمثلة:
1 - أخرج الترمذي بسنده عن محمد بن كعب القرظي قال حدثني من سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: خرجت في يوم شات من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخذت إهاباً معطوباً فحولت وسطه فأدخلته عُنقي وشددت وسطي فحزمته بخوص النخل، وإني لشديد الجوع ولو كان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعام لطعمت منه فخرجت ألتمس شيئاً، فمررت بيهودي في مال له وهو يسقى ببكرة له فاطلعت عليه من ثلمة في الحائط فقال مالك يا أعرابي؟ هل لك في كل دلو بتمرة؟ قلت: نعم فافتح الباب حتى أدخل. ففتح فدخلت فأعطاني دلوه. فكلما نزعت دلواً أعطاني تمرة حتى إذا امتلأت كفي أرسلت دلوه وقلت حسبي فأكلتها ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت المسجد فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ( [61] ) .(8/297)
2 - أخرج ابن شبه بسنده عن حفص بن أبي العاص قال: كان عمر رضي الله عنه يغدينا بالخبز والزيت والخل. والخبز واللبن، والخبز والقديد. وأول ذلك اللحم الغريض. يأكل وكنا نُعذر، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فكله طعام. وكان يقول: مالكم لا تأكلون؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك. قال: يا ابن أبي العاص أما تراني عالماً أن ارجع إلى دقيق ينخل في خرقة فيخرج كأنه كذا وكذا؟ أما تراني عالماً أن اعمد إلى عناق سمينة فنلقى عنها شعرها فتخرج كأنها كذا وكذا، أما تراني عالماً أن اعمد إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء وأصب عليه من الماء فيصبح كأنه دم الغزال؟ قال قلت: أحسن ما يبعث العيش يا أمير المؤمنين. قال أجل والله لولا مخافة أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في لين عيشكم ولكن سمعت الله ذكر قوماً فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} ( [62] ) ( [63] ) .
3 - أخرج أبو داود بسنده عن حميد بن هلال قال: أوخي بين سلمان وأبي الدرداء. فسكن أبو الدرداء الشام وسكن سلمان الكوفة. فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك أما بعد: فإن الله قد رزقني بعدك مالاً وولداً وأنزلت الأرض المقدسة. قال: فكتب سلمان إليه: سلام عليك أما بعد فإنك كتبت إلي أن الله رزقك بعدي مالاً وولداً. وإن الخير ليس بكثرة المال والولد ولكن الخير أن يعظم حلمك. وأن ينفعك علمك. وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة. وأن الأرض لا تعمل لأحد. فاعمل كأنك تُرى واعدد نفسك في الموتى ( [64] ) .(8/298)
4 - أخرج أبو داود بسنده عن ابن سيرين قال: لما بعث عمر حذيفة إلى المدائن ركبوا إليه ليتلقوه. فتلقوه على بغل تحته إكاف، وهو معترض عليه رجليه من جانب واحد، فلم يعرفوه، فأجازوه فلقيهم الناس، فقالوا: أين الأمير؟ قالوا هو الذي لقيتم، فركضوا في أثره. فأدركوه وفي يده رغيف وفي الأخرى عِرق وهو يأكل، فسلموا عليه. قال: فنظر إلى عظيم منهم فناوله العرق والرغيف قال فلما غفل حذيفة ألقاه أو قال أعطاه خادمه ( [65] ) .
5 - أخرج أبو داود بسنده عن نافع قال: إن كان ابن عمر ليقسم في المجلس الواحد ثلاثين ألف درهم، ثم يأتي عليه الشهر ما يأكل مزعة لحم. قال: قلت فهل كان ياكل اللحم شهراً؟ قال: إذا صام أو سافر فإنه كان أكثر طعامه ( [66] ) .
المبحث الخامس: حرصهم على العلم ومسارعتهم إليه(8/299)
الإسلام دين العلم والمعرفة. ولقد حثّ أمته على طلب العلم وإعمال الفكر والعقل والبحث والتفكير في كل ميدان من ميادين العلم، وكل مجال من مجالات الحياة. وما ذلك إلا لأن العلم روح الحياة، وأساس النهضات وعماد الحضارات، ووسيلة التقدم والرقي للأفراد والجماعات، والإسلام دين الحياة الصالح لكل زمان ومكان هو دين ودنيا، عبادة وحياة، دين جامع يربط الإنسان بالعبادة والقيم والأخلاق، دين يتغلغل في صميم الحياة ويضع الأسس والقواعد التي تكفل السعادة للبشر على ظهر هذه الأرض والشريعة الإسلامية قائمة على العلم والدعوة إليه ومعجزة الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم - كانت كتاباً يتلألأ بالعلم الصحيح والمعرفة الحقة. وأول آية نزلت من هذا الكتاب المبارك نزلت تدعو للعلم وتعظم شأن المعرفة قال تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم} ( [67] ) . ولما كان العلم يسمو بالإنسان ويرفع قدره فقد أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لآدم لما فضله به عليهم من العلم. ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان قدوة الداعين إلى العلم بأقواله وأفعاله وطلب من أمته طلب العلم والسعي لبلوغ ذلك، وبين لهم الجزاء المنتظر لمن طلب العلم وسعى إليه.
أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) ( [68] ) ولقد كان لعناية المعلم الأول صلوات الله وسلامه عليه الأثر الكبير في صحابته(8/300)
- رضوان الله عليهم - وسعيهم لطلب العلم وحرصهم عليه مع العمل بما قد تعلموا، وعظم أمر العلم عندهم وارتفعت درجة العلماء بين صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصبح العلم هو المجال الرحب الذي يتنافسون فيه ويبادرون إليه فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول اغدو عالماً أو متعلماً ولا تغدوا إمعة بين ذلك ( [69] ) .
ولقد رحل الصحابة - رضوان الله عليهم - في طلب العلم ونشره وخرجوا إلى الشام ومصر والكوفة والبصرة يعلمون الناس فهم - رضوان الله عليهم - حفظة القرآن الذين نقلوه إلينا غضّاً طرياً كما أنزل وهم أوعية السنة النبوية المباركة فقد حفظوها ونقلُولها للناس كما سمعوها من الرحمة المهداة صلوات الله وسلامه عليه. ولقد كانوا يطبقون ما يتعلمون من العلم في واقع حياتهم اليومية فتعلموا العلم والعمل معاً، وكانوا أسوة وقدوة لمن جاء بعدهم، ولقد ضربوا لمن جاء بعدهم أروع الأمثلة في الحرص على العلم والسعي إليه والعمل به - رضوان الله عليهم أجمعين -
الأمثلة:(8/301)
1 - أخرج أحمد في مسنده بسنده عن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتريت بعيراً ثُم شددت عليه رحلي. فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس. فقلت للبواب: قل له جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القصاص. فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن اسمعه. قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عُراةً غُرلاً بهماً. قال: قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء. ثم يناديهم بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعُه من قرب أنا الملك. أنا الديان. لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حتى أُقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصّه منه. حتى اللطمة. قال: قلنا: كيف وإنا نأتي الله عز وجل عُراة غُرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)) ( [70] ) .
2 - أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد أتستطيع أن تُريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم. فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين. ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ثم غسل رجليه ( [71] ) . قلت: وفي هذا إشارة إلى حرصهم على العلم والتعليم والتعلم.
3 - أخرج أحمد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان(8/302)
عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تباهي بها الملائكة عليهم السلام)) ( [72] ) .
4 - أخرج البخاري بسنده عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً. ثم يتلو {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم} ( [73] ) إن اخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وإن اخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أحوالهم. وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه. ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون ( [74] ) .
5 - أخرج أبو يعلى بسنده عن حميد قال: سئل أنس عن كسب الحجام فلم يقل فيه حلالاً ولا حراماً. وقال: قد احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني أهله - فخففوا من غلته، أو من ضريبته، وقال خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز ( [75] ) .
المبحث السادس: خطبهم ومواعظهم
لقد بلغ العرب من الفصاحة والبلاغة والبيان ما لم تبلغه أمة من الأمم قبلهم وكان الشعراء والبلغاء هم فخر القبيلة وعزها ومجدها، إذا قالوا فالقول قولهم، وإذا تكلموا فالكلمة كلمتهم كلامهم يرفع ويخفض، يرفع أناساً ويضع آخرين، بلغ من عز الكلمة وشرفها ومكانتها عند العرب أن كانت تعلق في جوف الكعبة، أقدس مكان عندهم وأشرفه وأعز بنيان لديهم.(8/303)
وعندما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جاءهم بمعجزة لم يأت بها نبي ألا وهي كتاب الله الذي كان يتلى ويقرأ بينهم كتاب فاق كلامه كلام البشر، وعلا قدره على الإنسن والجن.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس وأبلغهم وأخطبهم. وقد أعطاه مولاه جوامع الكلم يبين هذا ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بعثت بجوامع الكلم ( [76] ) .
إن فصاحته - صلى الله عليه وسلم - في ذروة الكمال، بُعد عن التكلف في القول، جزالة في اللفظ وضوح في الدلالة، دقة في الوصف والتعبير، ابداع في التشبيه والتصوير، إيجاز في القول، مطابقة لمقتضى الحال، وكان لحركته وإشارته أثر كبير في إثارة الانتباه وتنبيه الغافل، وهي تعين على الحفظ فمن ذلك أنه ذكر القلب، فأشار إلى صدره الشريف وقال: التقوى هاهنا. وذكر فضل كافل اليتيم. فقرن بين السبابة والوسطى وفرق بينهما، إن خطبه - صلى الله عليه وسلم - تلامس شغاف القلب وتؤثر فيه تأثيراً عظيماً.
ومنه - صلى الله عليه وسلم - تعلم الصحابة - رضوان الله عليهم - فنون الخطابة ولقد بلغت الخطابة زمن الخلفاء الراشدين المكانة المرموقة، فكان الخلفاء خطباء يخطبون الناس في الجمع والأعياد ويخطبون في الجيوش ويوجهون القادة وكانت خطبهم اقتباساً من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة فاكتسبت بذلك قوة التأثير، ووصلت إلى شغاف القلوب، وكانت تقوم على الحقائق الملموسة والمسائل الواقعية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها.
الأمثلة:
1 - أخرج أبو داود بسنده عن قيس: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه قال: وُلّيتُ أمركم ولست بخيركم. فإن أنا أحسنت فأعينوني. وإن أنا أسأت فسددوني وإن لي شيطاناً يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا اوثر في أجسادكم ولا أبشاركم ( [77] ) .(8/304)
2 - أخرج أبو داود بسنده عن قبيعة بن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بصالح الاخوان، أكثر اكتسابهم. فإنهم زين في الرخاء، وعدة عند البلاء، ولا تسأل عما لم يكن حتى يكون. فإن في ما كان منعه عن ما لم يكن، ولا تهاون بالحلف بالله فيهينك الله، وذل عند الطاعة. واستغفر عند المعصية. ولا تستعن على حاجتك إلا من يحب نجاحها. ولا تستشر إلا الذين يخافون الله. ولا تصحب الفاجر فتعلم من فجوره وتخشع عند القبور ( [78] ) .
3 - أخرج أبو داود بسنده عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: ألا انبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله ولم يؤمنهم مكر الله. ولم يترك القرآن إلى غيره. ألا لا خير في عبادة ليس فيها الفقه. ولا خير في فقه ليس فيه تفهم. ولا خير في قراءة ليس فيها تدبر ( [79] ) .
4 - أخرج أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - ثلاث حقاً على الله أن يفعلهن بالعبد، يأتيه عبد لا يشرك به شيئاً فيكله إلى غيره، ولا يجعل من لهم سهم في الإسلام كمن لا سهم له. ولا يحب رجل قوماً إلا حشره الله معهم يوم القيامة، والرابعة أرجو أن يكون نفعاً لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستره في الآخرة ( [80] ) .(8/305)
5 - أخرج أبو داود بسنده عن علي بن حوشب عن أبيه أنه سمع أبا الدرداء رضي الله عنه على المنبر يخطب الناس وهو يقول: إني لخائف يوم ينادي مناد فيقول: يا عويمر. فأقول: لبيك رب لبيك. فيقول: أما علمت؟ فأقول: نعم. فيقال: كيف عملت فيما علمت؟ فتأتيني كل آية من كتاب الله زاجرة أو آمرة فتسألني فريضتها فتشهد علي الآمرة بأني لم أفعل. وتشهد علي الزاجرة بأني لم أنته. أو اترك؟ فأعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عقل لا ينفع، ومن صوت لا يسمع. وأعوذ بالله من دعاء لا يجاب ( [81] ) .
المبحث السابع: أخلاقهم التي اتصفوا بها
إن أجمل شيء يتجمل به الإنسان في هذه الحياة تقوى الله وحسن الخلق. فالتقوى تجعله من عباد الله المكرمين، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} ( [82] ) وحسن الخلق يدخله في عباد الله الصالحين الذين سبقت له من الله سبحانه الحسنى وزيادة. وقد فازوا بعز الدنيا ونعيم الآخرة.
أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة. قال: تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار. قال: الفم والفرج ( [83] ) .(8/306)
إن الدين الإسلامي هو دين الأخلاق والسجايا الحميدة، إن مكارم الأخلاق أساس هذا الدين، فالإسلام يربط دائماً بين الإيمان والأخلاق، فكمال الأخلاق يدل على قوة الإيمان، وضعف الأخلاق يدل على ضعف الإيمان، فالأخلاق الفاضلة هي المنارات الزاهرة التي تضيء الدنيا، وتشع على الوجود بالأمان والاطمئنان والاستقرار، وربُنا سبحانه وتعالى لم يرسل رسله المكرمين إلا ليكونوا هداة الأمة إلى الحق وإلى مكارم الأخلاق. ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الموصوف بالخلق العظيم وصفه مولانا سبحانه في محكم التنزيل قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ( [84] ) وقد بين لنا - صلى الله عليه وسلم - بأقواله وأفعاله مكانه الأخلاق والدرجة العالية التي يصل إليها أهل الأخلاق الحسنة.
أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً خياركم خياركم لنسائه خلقاً)) ( [85] ) .
ويرتقي صاحب الخلق الحسن إلى درجة القرب من مجلس الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ليحظى بالشرف العظيم بمصاحبة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في يوم القيامة.
أخرج الترمذي بسنده عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون)) ( [86] ) .(8/307)
ولقد طبق الصحابة - رضوان الله عليهم - ما سمعوه من حبيبهم - صلى الله عليه وسلم - من حث على الأخلاق الحسنة وتمسك بها وعمل بها وما شاهدوه منه - صلى الله عليه وسلم - من كمال أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا نماذج عظيمة لمن جاء بعدهم في التمسك بالأخلاق الفاضلة، والعمل بها مع أهلهم وإخوانهم بل حتى مع أعدائهم والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
الأمثلة:
1 - الصبر عند المصيبة:
أخرج البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم: هو اسكن ما كان، فقربت إليه العشاء فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: وار الصبي فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: أعرستم الليلة؟ قال: نعم. قال: اللهم بارك لهما في ليلتهما. فولدت غلاماً. قال لي أبو طلحة: احفظه حتى نأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أمعه شيء؟ قالوا: نعم، تمرات فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فيّ الصبي فحنكه بها وسماه عبد الله ( [87] ) .
2 - الوفاء بالعهد:
أخرج مسلم بسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل قال: فأخذنا كفار قريش قالوا: انكم تريدُون محمداً؟ قلنا ما نريدهُ، ما نُريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم ( [88] ) .
3 - الحياء:(8/308)
أخرج أحمد في مسنده عن الحسن وذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه وشدة حيائه. فقال: إن كان ليكون في البيت والباب عليه مُغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء أن يُقم صُلبه ( [89] ) .
4 - التواضع:
أخرج الحاكم بسنده عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فأتوا على مخاضه وعمر على ناقة له فنزل عنها. وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله ( [90] ) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
5 - الخشية من الله:
أخرج البخاري بسنده عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - قال أبو شهاب بيده فوق أنفه ( [91] ) -.
المبحث الثامن: فقههم وآراؤهم الاجتهادية
لقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعليم أصحابه - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم الاجتهاد في الأحكام وعد ذلك العمل مما يثاب عليه المجتهد.
أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) ( [92] ) .(8/309)
وهذا التوجيه النبوي الكريم طبقه الصحابة - رضوان الله عليهم - فكانوا يجتهدون في حياته - صلى الله عليه وسلم - وهو - صلى الله عليه وسلم - يقرهم على ذلك إذا أصابوا ويُبين لهم الأولى إذا خالفوا الصواب.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحداً منهم)) ( [93] ) ولهذا لما انقضى عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تم فيه التشريع الإلهي في الكتاب والسنة وتم الأصلان العظيمان اللذان يرجع إليهما وبدأ عصر الصحابة رضوان الله عليهم وبدأ الفقه بالنمو والاتساع فقد واجه الصحابة وقائع وأحداثاً ما كان لهم بها عهد في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لابد من معرفة حكم الله فيها كما أن الفتوحات الإسلامية وما ترتب عليها من ظهور قضايا ومسائل جديدة استلزمت معرفة حكم الشرع فيها لهذا قام الصحابة بمهمة التعرف على أحكام هذه المسائل والوقائع الجديدة فاجتهدوا واستعملوا آراءَ هم على ضوء قواعد الشريعة ومبادئها العامة ومعرفتهم بمقاصد الشريعة وهكذا استطاع الصحابة - رضوان الله عليهم - أن يواكبوا تلك الأحداث والوقائع وأن يستنبطوا لها الأحكام وذلك بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجدوا فيهما الحكم تحولوا إلى الاجتهاد واعملوا ما أداهم إليه اجتهادهم.
وهذا المنهج يظهر في تطبيقات الصديق والفاروق وابن مسعود وغيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -(8/310)
ذكر ابن قيم الجوزية - رحمه الله - عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى، وإذا لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون، قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به ( [94] ) .
وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك ( [95] ) .
واجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم في المسائل والأحداث كان يتبعه اختلاف أو اتفاق فالاختلاف في الرأي نتيجة حتمية للاجتهاد واختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - في الاجتهاد يرجع إلى أسباب وهذه الأسباب قد أشار إليها الدكتور عبد الكريم زيدان فقال: ((يرجع اختلاف الفقهاء في هذا العصر إلى جملة أسباب نذكر منها ما يلي:
أولاً: اختلافهم بسبب علم البعض بالسنة وعدم علم البعض الآخر.
ثانياً: اختلافهم بسبب عدم وثوقهم بالسنة فقد يجهل أحدهم السنة فإذا رويت له ربما لا يطمئن بروايتها ولا يثق براويها لأي سبب كان فلا يأخذ بها فمن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يثق بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها حيث قالت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرض لها نفقة ولا سكنى لما طلقها زوجها بائناً.
ثالثاً: اختلافهم بسبب اختلافهم في فهم النصوص فمن ذلك اختلافهم في العدة هل هي ثلاثة أطهار أو ثلاث حيضات ومرد اختلافهم إلى المقصود بكلمة القرء.
رابعاً: اختلافهم بسبب الاجتهاد فيما لا نص فيه)) ( [96] ) .
واجتهادهم في ذلك العصر كان يقوم على أساس واقعي فقد اقتصر اجتهادهم على الحوادث التي وقعت فعلاً فلا اجتهاد عندهم على الوقائع الافتراضية.(8/311)
وبهذا استطاع الصحابة - رضوان الله عليهم - أن يسايروا ذلك العصر الذي كانوا فيه وأن يجتهدوا في الوقائع التي وقعت لهم وأن يستنبطوا لها الأحكام فكان فعلهم هذا إثراء للفقه الإسلامي وسنذكر بعض الأمثلة على فقههم وآرائهم الاجتهادية - رضوان الله عليهم أجمعين -
الأمثلة:
1 - أخرج مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليه ( [97] ) .
فهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه إنما أراد به زجر الناس عن هذا فإن الناس في زمانه كثر منهم إيقاعهم الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد وهذا خلاف المشروع فأراد عمر زجرهم عن هذا فإن الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ما كانوا يكثرون من إيقاع الطلاق على هذا النحو بل كان ذلك نادراً عندهم أما في زمن عمر فقد كثر ذلك فأوقع عمر عليهم ما أرادوا فجعل الثلاث ثلاثاً.
2 - أخرج البخاري بسنده عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها. فإن جاء أحد يخبرك بها إلا فاستنفقها. قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب. قال ضالة الإبل؟ فتمعر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)) ( [98] ) .(8/312)
فهذا الحديث صريح في النهي عن التقاط ضالة الإبل وهذا الحكم هو الذي عليه العمل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكن لما جاء عثمان رضي الله عنه رأى من المصلحة أن تباع الإبل ثم إذا جاء صاحبها أعطي ثمنها وإنما فعل عثمان رضي الله عنه هذا خوفاً من أن تمتد يد غير أمينة إلى هذه الإبل فتأخذها وذلك لتغير الناس عما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما فكان فعله هذا من باب المصلحة لحفظ أموال الناس.
أخرج مالك بسنده عن ابن شهاب قال كانت ضوال الإبل في زمان عمر ابن الخطاب إبلاً مؤبله تناتج لا يمسها أحد حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ( [99] ) .
3 - أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاماً قُتل غيلة فقال عمر لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم ( [100] ) .
وقد جاءت رواية البيهقي مبينة العدد الذي قتله عمر رضي الله عنه بالغلام. أخرج البيهقي بسنده عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً ( [101] ) وهذا الذي ثبت عن عمر رضي الله عنه ثبت أيضاً عن علي رضي الله عنه أنه قتل جماعة قتلوا رجلاً واحداً.
أخرج البيهقي بسنده عن سعيد بن وهب قال خرج قوم وصحبهم رجل فقدموا وليس معهم فاتهمهم أهله فقال شريح شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلا حلفوا بالله ما قتلوه، فأتوا بهم علياً رضي الله عنه قال سعيد وأنا عنده ففرق بينهم فاعترفوا، قال فسمعت علياً رضي الله عنه يقول: أنا أبو حسن القرم فأمر بهم علي رضي الله عنه فقتلوا ( [102] ) .
وهذا الذي ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أن الجماعة تقتل بالواحد. أمر لم يخالفهم فيه أحد.(8/313)
ولذا ثبت الحكم عند العلماء أن الجماعة تقتل بالواحد إذا اشتركوا في قتله.
4 - حد السارق أن تقطع يده وقد جاء هذا مذكوراً في الكتاب الكريم قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم} ( [103] ) .
فإذا سرق السارق قطعت يده إذا توافرت الشروط الموجبة للقطع.
وفي عام المجاعة سنة 18 هـ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب الناس شدة عظيمة حتى إن الناس قد اضطروا للسرقة للحفاظ على حياتهم لهذا رأى عمر رضي الله عنه أن يوقف تطبيق الحد عليهم وذلك لأن عمر رضي الله عنه أدرك علة إقامة الحد وعرف أن الاعتداء على مال الغير فيه القطع إذا تحققت الشروط الموجبة للقطع لكن الناس في عام المجاعة كانوا في ضيق شديد جداً مما دفعهم إلى سرقة الطعام الذي يقيم حياتهم إنها الضرورة التي دفعتهم لذلك لذا أوقف عمر رضي الله عنه إقامة الحد عليهم.
ذكر ابن قيم الجوزية - رحمه الله - عن عمر رضي الله عنه قال لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة قال السعدي فسألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العذق النخله. وعام سنة: المجاعة. فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: أي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا. إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة ( [104] ) .
والذي فعله عمر رضي الله عنه هو اعمال للقاعدة الفقهية ((الضرورات تبيح المحظورات)) .
5 - اختلف الصحابة - رضوان الله عليهم - في الرجل يطلق امرأته ثلاثاً وهو مريض هل ترثه؟
ذهب عثمان بن عفان رضي الله عنه أنها ترثه إذا مات وهي في العدة أو بعد انقضاء العدة.
أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عثمان رضي الله عنه قال: ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف حين طلقها في مرضه بعد انقضاء العدة ( [105] ) .(8/314)
وأخرج البيهقي بسنده عن ابن أبي مليكة قال سألت عبد الله بن الزبير عن رجل طلق امرأته في مرضه فبتها قال أما عثمان رضي الله عنه فورثها وأما أنا فلا أرى أن أورثها ببينونته إياها ( [106] ) .
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه ذهب إلى أنها ترثه إذا توفي في عدتها وهو لا يرثها إن ماتت في العدة.
أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن شريح قال أتاني عروة البارقي من عند عمر في الرجل يطلق امرأته ثلاثاً في مرضه: إنها ترثه ما دامت في العدة ولا يرثها وهذا الذي ذهب إليه عمر رضي الله عنه مروي أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في المطلقة ثلاثاً وهو مريض قالت: ترثه ما دامت في العدة ( [107] ) .
وهذا أبي بن كعب رضي الله عنه كان يرى أنها ترثه ما لم تتزوج أو يبرأ زوجها من مرضه أخرج البيهقي بسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال في الذي يطلق وهو مريض لا نزال نورثها حتى يبرأ أو تتزوج وإن مكث سنة ( [108] ) .
الخاتمة:
وأذكر فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث وهي:
1 - إن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم نجوم الهداية وحلية الأيام فدراسة سيرهم وهديهم من أهم الدراسات فهم الأسوة والقدوة لهذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -.
2 - إن شرف الصحبة عظيم جداً وأن الصحابة قد أدركوا هذا الشرف فقاموا بما يجب عليهم نحو هذا التشريف العظيم من الدعوة والعمل والتطبيق لهذا الدين.
3 - إن المصادر التي نستقي منها هدي الصحابة كثيرة وأهمها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكتب التراجم والتاريخ فعلينا الاهتمام بهذه المصادر واستنباط المواضيع منها.
4 - إن الصحابة - رضوان الله عليهم - ضربوا لهذه الأمة المثل الأعلى في حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوقيرهم له.(8/315)
5 - إن التربية النبوية الكريمة لهؤلاء الأصحاب أثرت فيهم تأثيراً عظيماً فقد بذلوا الأموال والأنفس في سبيل الدفاع عن هذا الدين ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وكانوا قدوة لمن جاء بعدهم - رضوان الله عليهم -
6 - لقد حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على إعمار الآخرة واعتبروا الدنيا طريقاً موصلاً للجنة فأحسنوا فيها العمل لما ينفعهم في الآخرة.
7 - إن الدراسات حول هدي الصحابة قليلة فإن هذا الجانب المهم لم يحض بالعناية الكافية التي يستحقها.
8 - ينبغي إعادة دراسة تراجم الصحابة والاهتمام بذلك ومحاولة وضع الموسوعات العلمية عن سيرهم وحياتهم ومآثرهم.
9 - محاولة وضع المناهج العلمية عن هدي الصحابة وتدريسها للطلاب ليسهل عليهم الاقتداء والتأسي بهؤلاء الأفاضل فهم خير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -.
10 - لقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم التشريع على أكمل الوجوه فطبقوه وأحسنوا الاجتهاد والاستنباط واستطاعوا أن يسايروا العصر الذي كانوا فيه وأن يضعوا الأحكام لما استجد عندهم من الأحكام.
الهوامش والتعليقات
---
( [1] ) تاج العروس، فصل الهاء، باب الواو والياء 10 / 407.
( [2] ) سورة [البقرة، آية 196] .
( [3] ) تاج العروس، فصل الهاء، باب الواو والياء 10 / 408.
( [4] ) صحيح مسلم ح 867، 2 / 592.
( [5] ) صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 154.
( [6] ) مسند الإمام أحمد 5 / 399 والحديث حسن.
( [7] ) تاج العروس 10 / 407.
( [8] ) تاج العروس فصل الصاد من باب الباء 1 / 332.
( [9] ) سورة [التوبة، آية 40] .
( [10] ) مفردات ألفاظ القرآن ص 475.
( [11] ) وقد جمع زميلنا الدكتور / عياده أيوب الكبيسي هذه الأقوال في كتابه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة.
( [12] ) صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة ص 39.
( [13] ) الكفاية في علم الرواية ص 99.
( [14] ) فتح المغيث 3 / 93.(8/316)
( [15] ) المصدر السابق 3 / 93.
( [16] ) صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة ص 62.
( [17] ) المصدر السابق ص 71 - 74.
( [18] ) مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط ح 3600 (6 / 84) والحديث حسن.
( [19] ) حلية الأولياء 1 / 305.
( [20] ) سورة [الأحزاب، آية 37] .
( [21] ) سورة [آل عمران، آية 173] .
( [22] ) سورة [النور، آية 37 - 38] .
( [23] ) سورة [الأحزاب، آية 23 - 24] .
( [24] ) سورة [الحشر، آية 9] .
( [25] ) سورة [آل عمران، آية 31] .
( [26] ) صحيح البخاري ح 15 (فتح الباري 1 / 80) ، صحيح مسلم ح 44 (1 / 67) .
( [27] ) صحيح البخاري ح 14 (فتح الباري 1 / 80) .
( [28] ) صحيح البخاري ح 4064 (فتح الباري 7 / 458) مجوب عليه بحجفه، أي مترس بترس.
( [29] ) سنن أبي داود ح 5126 (5 / 344) قال الألباني صحيح الإسناد صحيح سنن أبي داود 3 / 965.
( [30] ) سورة [النساء، آية 69] .
( [31] ) المعجم الأوسط ح 480 (1 / 296) .
( [32] ) معجم الزوائد ومنبع الفوائد (7 / 7) .
( [33] ) المستدرك للحاكم 3 / 6.
( [34] ) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2 / 22.
( [35] ) تفسير ابن كثير 4 / 185.
( [36] ) شعب الإيمان 2 / 193.
( [37] ) سورة [الفتح، آية 9] .
( [38] ) سورة [النور، آية 63] .
( [39] ) سورة [الحجرات، آية 1] .
( [40] ) سورة [الحجرات، آية 2] .
( [41] ) صحيح البخاري ح 2731 (فتح الباري 5 / 414) .
( [42] ) صحيح مسلم ح 192 (1 / 112) .
( [43] ) صحيح مسلم ح 2053 (3 / 1623) .
( [44] ) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ح 486 (2 / 236) والحديث إسناده صحيح.
قوله اقترض من عرض أخيه، معناه نال منه وعابه وقطعه بالغيبة.
( [45] ) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2 / 40.
( [46] ) سورة [الصف، آية 10 - 13] .
( [47] ) صحيح البخاري ح 2790 (فتح الباري 6 / 13) .
( [48] ) صحيح مسلم ح 1814 (3 / 1448) .(8/317)
( [49] ) صحيح البخاري ح 2797 (فتح الباري 6 / 19) .
( [50] ) سورة [التوبة، آية 111] .
( [51] ) صحيح مسلم ح 1901 (3 / 1510) بخ بخ: كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه.
قرنه: أي جعبه النشاب. مسلم (3 / 1510) .
( [52] ) صحيح مسلم ح 1903 (3 / 1512) .
( [53] ) المستدرك للحاكم 3 / 102.
( [54] ) سنن أبي داود ح 1678 (2 / 312) قال الألباني حسن، صحيح سنن أبي داود 1 / 315.
( [55] ) المستدرك للحاكم 3 / 201.
( [56] ) سورة [الأعلى، آية 16 - 17] .
( [57] ) سورة [الرعد، آية 26] .
( [58] ) صحيح البخاري ح 6460 (فتح الباري 11/340) قوتاً أي كفايتهم من غير إسراف.
( [59] ) سنن الترمذي ح 2377 (4 / 588) قال الألباني صحيح، صحيح سنن الترمذي 2 / 280.
( [60] ) إحياء علوم الدين للغزالي (4 / 224) .
( [61] ) سنن الترمذي ح 2473 (4 / 645) .
( [62] ) سورة [الأحقاف، آية 20] .
( [63] ) تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبه 2 / 695. قلت وإسناده حسن.
( [64] ) الزهد لأبي داود السجستاني ح 266 ص 256 قال المحقق رجاله ثقات.
( [65] ) المصدر السابق ح 283 ص 269 قال المحقق إسناده صحيح.
( [66] ) المصدر السابق ح 307 ص 287 قال المحقق إسناده حسن.
( [67] ) سورة [العلق، آية 1 - 5] .
( [68] ) سنن الترمذي ح 2646 (5 / 33) قال الترمذي حسن.
( [69] ) جامع بيان العلم وفضله (1 / 140) .
( [70] ) مسند الإمام أحمد (3 / 495) والحديث إسناده حسن.
( [71] ) صحيح البخاري ح 185 (فتح الباري 1 / 383) .
( [72] ) مسند الإمام أحمد (3 / 265) والحديث إسناده حسن.
( [73] ) سورة [البقرة، آية 159 - 160] .
( [74] ) صحيح البخاري ح 118 (فتح الباري 1 / 285) .
( [75] ) مسند أبي يعلى ح 3758 (6 / 403، 404) قال محققه إسناده صحيح.
القسط البحري: عود معروف طيب الريح مدر نافع تبخر به النساء والأطفال. النهاية في غريب الحديث 4 / 60.(8/318)
( [76] ) صحيح البخاري ح 7013 (فتح الباري 12 / 496) .
( [77] ) الزهد لأبي داود السجستاني رقم 31 ص 54 قال محققه إسناده حسن.
( [78] ) المصدر السابق رقم 89 ص 108 قال محققه إسناده حسن.
( [79] ) المصدر السابق 111 ص 126 قال محققه إسناده حسن.
( [80] ) المصدر السابق 135 ص 148 قال محققه إسناده صحيح.
( [81] ) الزهد لأبي داود السجستاني رقم 226 ص 226 قال محققه إسناده لا بأس به.
( [82] ) سورة [الطلاق، آية 5] .
( [83] ) سنن الترمذي ح 2004 (4 / 363) قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
( [84] ) سورة [القلم، آية 4] .
( [85] ) سنن الترمذي ح 1162 (3 / 466) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
( [86] ) سنن الترمذي ح 2018 (4 / 370) قال الترمذي - حسن - قال الألباني: صحيح، صحيح سنن الترمذي 2 / 196.
( [87] ) صحيح البخاري ح 5470 (فتح الباري 9 / 733) .
( [88] ) صحيح مسلم ح 1787 (3 / 1414) .
( [89] ) مسند الإمام أحمد ح 543 (1 / 554) قال الشيخ شعيب، رجاله ثقات.
( [90] ) المستدرك 1 / 62.
( [91] ) صحيح البخاري ح 6308 (فتح الباري 11 / 123) .
( [92] ) صحيح البخاري ح 7352 (فتح الباري 13 / 393) .
( [93] ) صحيح البخاري ح 946 (فتح الباري 2 / 555) .
( [94] ) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 / 62.
( [95] ) نفس المصدر 1 / 62.
( [96] ) المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية د/ عبد الكريم زيدان ص 107 - 108.
( [97] ) صحيح مسلم ح 1472 (2 / 1099) .
( [98] ) والبخاري ح 2427 (فتح الباري 5 / 100) .
حذاؤها: أي خفها. سقاؤها: أي جوفها والمراد استغنائها عن الحفظ بما ركب في طبعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب فلا تحتاج إلى ملتقط (فتح الباري 5 / 104) .
( [99] ) الموطأ ح 1445 ص 416.
مؤبله: أي مقتناه في عدم تعرض أحد إليها. تناتج: أي تنتاج بعضها بعضاً. (شرح الزرقاني على الموطأ 4 / 55) .(8/319)
( [100] ) صحيح البخاري ح 6896 (فتح الباري 12 / 280) .
غيله: أي سراً (فتح الباري 12 / 281) .
( [101] ) السنن الكبرى للبيهقي (8 / 41) .
( [102] ) المصدر السابق (8 / 41) .
( [103] ) سورة [المائدة، آية 38] .
( [104] ) اعلام الموقعين (3 / 10) .
( [105] ) مصنف ابن أبي شيبة (5 / 217) .
( [106] ) السنن الكبرى للبيهقي (7 / 362) .
( [107] ) مصنف ابن أبي شيبة (5 / 219) .
( [108] ) السنن الكبرى للبيهقي (7 / 363) .
المصادر والمراجع
1 - إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، طبعة دار المعرفة.
2 - إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن قيم الجوزية، طبعة دار الجيل، سنة الطبع 1973 م.
3 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ترتيب الأمير علي الفارسي، تحقيق شعيب الأرناؤوط طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1408 هـ.
4 - تاج العروس من جواهر القاموس للإمام محمد بن مرتضى الزبيدي، طبعة مكتبة الحياة.
5 - تاريخ المدينة المنورة لعمرو بن شبه البصري، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، طبعة دار الأصفهاني جدة.
6 - تفسير ابن كثير للإمام إسماعيل بن كثير القرشي، طبعة دار الفكر.
7 - جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق أبو الاشبال الزهيري، طبعة دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية 1416 هـ.
8 - حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، طبعة المكتبة السلفية.
9 - الزهد، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق ضياء الحسن السلفي، الناشر الدار السلفية، الطبعة الأولى، 1413 هـ.
10 - سنن أبي داود للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني، تعليق عزت الدعاس، وعادل السيد، طبعة دار الحديث، الطبعة الأولى 1388 هـ.
11 - سنن الترمذي للإمام محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، طبعة دار إحياء التراث العربي.(8/320)
12 - السنن الكبرى للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند، الطبعة الأولى.
13 - شرح الزرقاني على الموطأ للإمام محمد الزرقاني، طبعة دار الفكر، 1355 هـ.
14 - شعب الإيمان للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق محمد بسيوني زغلول، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1410 هـ.
15 - الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للإمام القاضي أبي الفضل عياض اليحصبي، طبعة دار الفكر.
16 - صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة د/ عياده أيوب الكيسي، طبعة دار القلم، الطبعة الأولى 1457 هـ.
17 - صحيح سنن أبي داود اختصار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1409 هـ.
18 - صحيح سنن الترمذي اختصار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي الطبعة الأولى 1408 هـ.
19 - صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، ضبط محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الحديث، الطبعة الأولى 1412 هـ
20 - صحيح مسلم بشرح النووي شرح الإمام محي الدين أبو زكريا شرف النووي طبعة المطبعة المصرية.
21 - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1410 هـ.
22 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث للإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1403 هـ.
23 - الكفاية في علم الرواية للإمام أبي بكر أحمد بن ثابت البغدادي، طبعة دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية.
24 - المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية د/ عبد الكريم زيدان، طبعة دار الوفاء، الطبعة الأولى 1412 هـ.
25 - المستدرك على الصحيحين للإمام محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم، طبعة دار الكتب العلمية.(8/321)
26 - مسند أبي يعلى للإمام أحمد بن علي التميمي، تحقيق حسين سليم أسد، طبعة دار المأمون، الطبعة الأولى 1404 هـ.
27 - مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن محمد الشيباني، طبعة دار الفكر، الطبعة الثانية 1398 هـ.
28 - مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن محمد الشيباني، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، طبعة دار الفرقان، الطبعة الرابعة.
29 - مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن محمد الشيباني، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418 هـ.
30 - المصنف في الأحاديث والآثار للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق الأستاذ عبد الخالق الأفغاني، طبعة الدار السلفية، الطبعة الثانية 1399 هـ.
31 - معجم الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، طبعة دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة 1402 هـ.
32 - المعجم الأوسط للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق د/ محمود الطحان، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1405 هـ.
33 - مفردات ألفاظ القرآن العلامة الراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان داوودي، طبعة دار القلم، الطبعة الأولى 1412 هـ.
34 - الموطأ للإمام مالك برواية يحيى الليثي، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1405 هـ.
35 - النهاية في غريب الحديث للإمام مجد الدين أبي السعادات المعروف بابن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة المكتبة الإسلامية(8/322)
حجية قول الصحابي عند السلف
د. ترحيب بن ربيعان بن هادي الدوسري
أستاذ مساعد في قسم أصول الفقه كلية الشريعة
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
فكرة البحث ونتائجه:
ذكرت فيه: أن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن جليل القدر كبير الفائدة فهو علم يجمع في أدلته بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
عرفت الصحابي لغة واصطلاحاً، وذكرت بعضاً من فضائل الصحابة من الكتاب والسنة.
بينت أن قول الصحابي حجة عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سار على طريقتهم، وقد حكى بعض العلماء الإجماع في ذلك.
وإنما نشأ الخلاف في الاحتجاج بقول الصحابي فيما بعد، كالخلاف الذي حصل في الاحتجاج بالقياس بعد أن لم يكن فيه خلاف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة حتى تبنى ذلك الظاهرية ومن سلك سبيلهم.
وقد توصلت إلى نتائج هامة جداً أهمها:
1-أن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة كانوا يرون حجية قول الصحابي، حتى أن بعض أهل العلم حينما رأى كثرة ما نقل عنهم في ذلك حكى الإجماع فيها.
2-أن من نسب إلى الأئمة الأربعة أو أحدهم عدم القول بحجية قول الصحابي لم يحرر أقوالهم تحريراً صحيحاً.
3-أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف فإن ذلك القول هو فهم الصحابة. وأنه الحق.
4-أكمل البحوث فيها بحث الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم إعلام الموقعين (4/118-153) ، والعلائي الشافعي في كتابه إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، إلا أن بحث ابن القيم أشمل منه وأكمل.
المقدمة:
أهمية الموضوع:-
الحمد لله، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على النبي المختار محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، وبعد:-(8/323)
فإن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن خطيره، وعظمته تكمن في أنه القواعد الكلية التي يتوصل بها المجتهد إلى ضبط فقهه الشرعي.
وأما خطورته فتكمن فيما أُدخل فيه من المباحث الكلامية العقائدية المنحرفة، والفلسفية السفسطية التي حرفته عن طريق من سلف من أئمة الهدى والحق.
وقد جمع فضيلة الدكتور محمد العروسي عبد القادر –حفظه الله ووفقه –في كتابه النافع الماتع الفريد في بابه والذي عنونه ب (المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين) ( [1] ) كثيراً مما أُدخل في علم الأصول وليس منه، فقال:-
(والمقصود من هذا الكتاب ليس تجريد المسائل التي ليست من أصول الفقه فحسب بل وأيضاً لأزيل الغطاء – إن شاء الله – عن أقوال ومفاهيم قررها المتكلمون والمصنفون في مسائل هذا العلم –أصول الفقه -، أو ذكروها عرضاً ضمن تلك المسائل، وهي أقوال مخالفة لما استقر عليه الأمر الأول ويحسبها قراء هذا العلم أنها من الحقائق المسلمة المفروغ منها، وكثير من المسائل الكلامية التي ذكرت في أصول الفقه لم تقرر على وجهها الصحيح، أو ذكرت على الوجه الصحيح لكنها بنيت على أصل مخالف للأصل الذي دل عليه القرآن والذي مضى عليه الصحابة وأئمة السلف....
ومن أمثلة هذه الاستدلالات والتقريرات المحيرة في كتب الأصول، الاستدلال على أن العبد مجبور على فعله بوقوع التكليف بما لا يطاق، واستدلوا بتكليف أبي لهب وغيره بالإيمان مع أن القرآن أخبر أنه لا يؤمن، فكان من ذلك أن بعض المصنفات في الأصول انتحلت مذهب نفي الأفعال الاختيارية للإنسان، وخلطوا ببعض أقوال المرجئة كالوقف في ألفاظ العموم في آيات الوعيد والتوقف في دلالات الأمر التي فيها دخول النار للعصاة كما يقرر الباقلاني وغيره.
وسبقهم في ذلك الوعيدية من المعتزلة فأدخلوا في الأصول تأثيم المجتهد المخطئ وضموا إلى ذلك اعتقاداً محرماً من تكفير وتفسيق وتخليد في النار.(8/324)
وهذه المسائل الكلامية الواردة في كتب أصول الفقه لا يدرك ما تؤدي إليه من التزامات باطلة إلا قليل من طلبة العلم …) انتهى كلامه باختصار.
طرق التأليف في علم أصول الفقه:-
لقد ظهرت ثلاث مدارس أصولية وطرائق للتأليف في علم أصول الفقه، هي:-
أولاً:- طريقة الشافعية أو المتكلمين ( [2] ) :- وهذه الطريقة اعتنت بتحرير القواعد والمسائل الأصولية وتحقيقها تحقيقاً منطقياً نظرياً دون تعصب لمذهب بعينه. وهي تميل ميلاً شديداً إلى الاستدلال العقلي والجدلي؛ فيثبت أصحابها ما أثبته الدليل – في نظرهم - وينفون ما نفاه بغية الوصول إلى أقوى القواعد وأضبطها.
وهذه الطريقة لم تقصر بحثها على ما سبق بل أدخلت فيه كثيراً من المسائل الكلامية العقائدية المنحرفة والمباحث المنطقية والفلسفية؛ذلكم أن جلّ من كتب في هذه الطريقة هم من علماء الكلام من أشاعرة ومعتزلة، وهؤلاء لهم مؤلفات كثيرة في العقائد، فقاموا بنقل تلك المباحث العقدية إلى المسائل الأصولية؛ لأن أغلى ما يملكه الشخص عقيدته، كما أن جزءاً من علم أصول الفقه إنما هو مستمد من العقيدة كما هو مقرر في كتب أصول الفقه.
وممن كتب على هذه الطريقة في أصول الفقه وله مؤلفات عقدية ما يأتي:-
1-عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي (ت415هـ) ألف في الأصول كتابه العمد، وفي العقيدة المغني في أبواب التوحيد والعدل ( [3] ) .
2-محمدبن الطيب بن محمد بن جعفر المعروف بالباقلاني الأشعري المالكي (ت403هـ) ألف في أصول الفقه التمهيد وفي العقيدة المقدمات في أصول الديانات وحقائق الكلام ( [4] ) .
3-محمد بن علي الطيب أبو الحسين المعتزلي الشافعي (ت 436هـ) ألف في الأصول كتابه المعتمد وألف في العقيدة كتابه شرح الأصول الخمسة ( [5] ) .(8/325)
4-عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الأشعري الشافعي (ت478هـ) ألف في أصول الفقه كتابه البرهان وألف في العقيدة كتباً منها الإرشاد في أصول الدين، والشامل، والرسالة النظامية ( [6] ) .
5-محمد بن محمد بن محمد الغزالي الأشعري الشافعي (ت505هـ) ألف في أصول الفقه المستصفى وفي العقيدة كتباً منها الاقتصاد في الاعتقاد، وإحياء علوم الدين، والأربعين في أصول الدين ( [7] ) .
6-محمد بن عمر بن الحسين الرازي الأشعري الشافعي (ت606) ألف في أصول الفقه كتابه المحصول وفي العقيدة أساس التقديس واللوامع البينات في شرح أسماء الله تعالى والصفات وكتاب التوحيد ( [8] ) .
7-علي بن أبي على سيف الدين الآمدي الأشعري الشافعي (ت631) ألف في أصول الفقه الإحكام وفي العقيدة كتابه أبكار الأفكار ( [9] ) .
8-أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي القرافي المالكي الأشعري (ت684) ألف في أصول الفقه التنقيح، وفي العقيدة شرح الأربعين للرازي في أصول الدين، وكتاب الانتقاد في الاعتقاد ( [10] ) .
9-عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي الأشعري الشافعي (ت685) ألف في أصول الفقه منهاج الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة طوالع الأنوار، والإيضاح في أصول الدين ( [11] ) .
10-محمد بن عبد الرحيم بن محمد صفي الدين الهندي الأشعري الشافعي (ت715) ألف في أصول الفقه كتابه نهاية الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة الفائق في التوحيد ( [12] ) .
ثانياً:- طريقة الفقهاء أو الحنفية ( [13] ) :- وهذه الطريقة تولى تأسيسها علماء الحنفية حيث وجهوا عنايتهم إلى تقرير القواعد الأصولية وتحقيقها على ضوء ما ورثوه عن أئمتهم من مسائل فقهية حيث قاموا باستخلاص قواعدهم الأصولية منها؛ فقواعدهم الأصولية تبع لمسائلهم الفقهية وهي تتطور وتتحور تبعاً لها.(8/326)
وقد نشأ عن ذلكم التأصيل اصطدام في كثير من الأحيان بين ما قعدوه وبين ما نقل من الأحاديث النبوية مما جعلهم يختلفون في طريقة تخريجها على تلك القواعد الأصولية.
وقد مثَّل ابن القيم -رحمه الله – لمخالفتهم للسنة النبوية بسبب قاعدتهم الأصولية التي تقول: (الزيادة على النص نسخ) فقال ( [14] ) :- (ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخاً له لبطلت أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع في صدورها وأعجازها، وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يُعمل بها....
ولا يمكن أحد طرد ذلك ولا الذين أصلوا هذا الأصل بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع، منها ما هو مجمع عليه،ومنها ما هو مختلف فيه) انتهى باختصار.
وقد ناقش ابن القيم – في كتابه آنف الذكر- هذه القاعدة وغيرها من القواعد الموهومة مناقشة علمية لا مثيل لها، فمن أراد الدر المكنون فليرجع إليه.
أقول: إن جلَّ المنتسبين إلى هذه الطريقة هم - أيضاً – ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة، وقد جمعوا في التأليف بين التأليف في علم أصول الفقه وعلم الكلام (العقيدة) فكانت النتيجة كالنتيجة التي حصلت في المدرسة الأولى.
وممن جمع من علماء هذه الطريقة بين الكتابة في العلمين ما يأتي:-
1-محمد بن محمد بن محمود أبومنصور الماتريدي الحنفي (ت 333هـ) ألف في الأصول كتابه مآخذ الشريعة وكتاب الجدل، وفي العقيدة كتاب التوحيد ( [15] ) .
2-عبد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي الماتريدي الحنفي (ت430هـ) ألف في أصول الفقه كتابه تقويم الأدلة وفي العقيدة الأمد الأقصى ( [16] ) .
3-عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الماتريدي الحنفي (ت710هـ) ألف في أصول الفقه منار الأنوار وشرحه كشف الأسرار وفي العقيدة ألف كتابه عمدة عقيدة أهل السنة والجماعة، وشرح العقائد النسفية ( [17] ) .(8/327)
4-عمر بن اسحاق الغزنوي سراج الدين أبوحفص الماتريدي الحنفي (ت773هـ) ألف في الأصول شرح البديع وشرح المغني للخبازي وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض ( [18] ) .
5-محمد بن محمد بن محمود البابرتي الماتريدي الحنفي (ت786هـ) ألف في أصول الفقه شرح أصول البزدوي وفي العقيدة كتابه المسمى ب (العقيدة في التوحيد) وشرح تجريد النصير الطوسي ( [19] ) .
ثالثاً:- طريقة المتأخرين ( [20] ) :- وهذه الطريقة جمعت بين الطريقتين السابقتين، فاهتمت بتنقيح القواعد الأصولية وتحقيقها وإقامة البراهين على صحتها، كما أنها اهتمت بتطبيق هذه القواعد على المسائل الفقهية وربطها بها.
والذين كتبوا في هذه الطريقة هم –أيضاً-مزيج من العلماء السابقين وغيرهم.
وممن كتب فيها جامعاً معها الكتابة في العقائد –أيضاً - ما يأتي:-
1-محمد بن عبد الواحد المشهور بابن الهمام الماتريدي الحنفي (ت861هـ) ألف في أصول الفقه التحرير وفي العقيدة كتابه المسايرة ( [21] ) .
2-محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير باد شاه الماتريدي الحنفي (ت987هـ) ألف في أصول الفقه كتابه تيسير التحرير وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض ( [22] ) .
3-محب الله بن عبد الشكور الماتريدي الحنفي (ت1119هـ) ألف في الأصول كتابه مسلم الثبوت.
وما ذكرته من مؤلفين ومؤلفات في إحدى طرق التأليف السابقة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر.
أول من صنف في علم أصول الفقه ( [23] ) :-
إن أول من صنف في علم أصول الفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) – عليه رحمة الله – حيث ألف رسالتين؛ الأولى في بغداد تلبية لطلب إمام الحديث فيها في وقته عبد الرحمن بن مهدي – رحمه الله -، والثانية بعد استقراره في مصر.(8/328)
والتي تناقلها العلماء جيلاً بعد جيلٍ حتى وصلت إلينا هي الرسالة الأخيرة والتي اشتهرت باسم (الرسالة) ، وهي رسالة أصولية سنية سلفية جديرة بالاهتمام والعناية قراءة وتدريساً وشرحاً يُبَيِّنٌ غامضها.
ولم يقتصر الشافعي – رحمه الله – على الرسالة بل ألف كتباً أخرى في مسائل من أصول الفقه منها:-
أ-كتاب جماع العلم.
ب-اختلاف الحديث.
ج-صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
د-إبطال الاستحسان.
فجعل من نفسه –رحمه الله- قدوةً حسنةً لمن جاء من بعده من أئمة السلف لا سيما ممن كتب منهم في علم أصول الفقه. فساروا سيرته وسلكوا طريقته، فكتب بعضهم كتباً مفردة في أصول الفقه شملت كل مسائل العلم أو جلها،
والبعض الآخر كتب في بعضها سواء أفردها بمؤلف أو ضمنها بعض مؤلفاته الأخرى. فكانوا بمجموعهم يمثلون طريقة أو مدرسة الشافعي بحق.
وممن كتب من العلماء الأعلام على هذه السيرة وهذه الطريقة، أعني الطريقة الشافعية السنية السلفية كل من:-
1-إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) – رحمه الله – كتب كتاباً في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وآخر في أخبار الآحاد.
2-أمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) –رحمه الله – ضمن كتابه الصحيح مباحث في أخبار الآحاد، والاعتصام بالكتاب والسنة.
3-خطيب أهل السنة الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت276هـ) – رحمه الله – ألف كتابه تأويل مشكل القرآن، وكتابه تأويل مختلف الحديث.
4-إمام أهل السنة في المشرق وحافظها الإمام أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب (ت463هـ) – رحمه الله – ألف كتابه الفقيه والمتفقه حيث ضمنه كثيراً من المباحث الأصولية.
5-حافظ أهل السنة في المغرب الإمام يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت463هـ) –رحمه الله – صنف كتابه جامع بيان العلم وفضله وضمنه – أيضاً – كثيراً من المباحث الأصولية الهامة لاسيما الجزء الثاني منه.(8/329)
6-الإمام الأصولي الفقيه منصور بن محمد بن عبد الجبار أبو المظفر السمعاني (ت489هـ) – رحمه الله - حيث ألف كتابه قواطع الأدلة للرد على أبي زيد الدبوسي الحنفي في كتابه تقويم الأدلة.
7-الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (ت620هـ) – رحمه الله - حيث ألف كتاباً في أصول الفقه سماه: (روضة الناظر وجنة المناظر) .
8-الإمام المجاهد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني تقي الدين أبو العباس ابن تيمية (ت728هـ) – رحمه الله – حيث تطرق في كثير مما كتبه – في رسائله التي كان يبعث بها إلى من سأله أو استفتاه - لمسائل كثيرة ومختلفة من أصول الفقه فحررها أحسن تحرير وأدقه. ومن نظر في مجموع الفتاوى له علم ذلك علم اليقين.
9-الإمام المجاهد العابد محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي شمس الدين أبو عبد الله ابن قيم الجوزية (ت751هـ) –رحمه الله – حيث ألف في أصول الفقه كتابه الفذ أعلام الموقعين، كما ضمن بعض كتبه بعض المسائل الأصولية والتي بحثها من جميع جوانبها كما في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
10-الإمام القدوة مفتي الأمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي التميمي (ت1376هـ) – رحمه الله – حيث ألف رسالة في أصول الفقه طبعت ضمن مجموعة من كتبه.
11-الإمام الحافظ اللغوي الفقيه المفسر الأصولي الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (ت1393هـ) - رحمه الله – حيث أملى شرحاً على روضة الناظر لابن قدامة أصبح فيما بعد يعرف ب (مذكرة أصول الفقه) ونثر علماً جماً من علم أصول الفقه في كتابة أضواء البيان.
والناظر في تلك المؤلفات يجدها قد قامت ببيان الأصول الفقهية السنية ونصرتها، وزيفت في الوقت نفسه الأصول الفاسدة الكاسدة، وناقشتها مناقشة إنصاف وعدل فبان عَوَرُ تلك الأصول وزيفها لكل ذي نظر.
سبب اختيار الموضوع:-(8/330)
لقد رأيت من المناسب – لا سيما في هذا الوقت – أن أتناول مسألةً مهمةً من المسائل الأصولية بالكتابة فيها لكونها مَعْلَمَاً كبيراً من معالم أصول فقه السلف كاد أن يندرس وسط كثرة الكتابات مختلفة المشارب والمناهل.
وهذه المسألة هي: حجية قول الصحابي.
والبحث فيها من حيث هي أي من غير بحث في علاقتها بالأدلة الشرعية الأخرى كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو تبيين المجمل ونحوها.
وقد حدا بي للكتابة فيها – غير ما سبق – أمور منها:-
1-إبراز مكانة الصحابة في فهم مراد الله وفهم مراد رسوله وبيان أنهم أعلم الناس بذلك وبالقواعد الأصولية بلا منازع.فهم المصطفون الأخيار والقدوة الحسنة والأنموذج الفذ في امتثال الشرع قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً سراً وعلانية في المنشط والمكره وفي اليسر والعسر وفي جميع الأحوال.
2-بيان أن السلف الصالح ومن تبعهم من الأئمة الأربعة كانوا يحتجون بقول الصحابي مطلقاً وهو أصل من أصولهم الفقهية خلافاً لمن انتسب إليهم وخالفهم فيه، بل ونسب إليهم مذهبه هذا.
3-بعض من كتب في علم أصول الفقه حين تطرق للمسائل الأصولية – ومنها ما نحن بصدد بيانه - تطرق إليها وهو غافل عن منزلة الصحابة في سائر فنون العلم، كاللغة والفصاحة والبيان والنثر والشعر…الخ حيث كان علمهم في ذلك كله سليقة، وفطرة، أما علم هؤلاء فمكتسب.
كما أن من خاض فيها خاض بما يحمله من علم كلام وفلسفة ومنطق مع فرضه للمسائل والأغلوطات فيها.
كما جَهِل - أيضاً – عدم حاجة الصحابة – رضي الله عنهم - إلى معرفة رجال الإسناد والبحث في السند وما يتعلق به كما هو مقرر في علم المصطلح؛ لأنهم عدول بتعديل الله ورسوله، كما لا يحتاجون –أيضاً – إلى ما احتاجه غيرهم من علوم الآلة كما يقال.(8/331)
لذا فإن من توفيق المرء وحسن علمه وعمله أنه إذا تطرق لأقوال الصحابة رضي الله عنهم أو بحث فيما يتعلق بهم استحضر في ذهنه أنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وأن الله قد اصطفاهم لحمل رسالته، وأنهم تلقوا العلم من فيّ رسول صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره ومشاهدة جميع أحواله؛ ففهموا –حق الفهم – مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما علموا.
وليستحضر أن الطعن فيهم -ولو بالإشارة - طعن في الدين.
قال أبو زرعة ( [24] ) – رحمه الله -:- (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم فأعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) .
وقال الإمام البربهاري ( [25] ) –رحمه الله -:- (واعلم أن من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم أنه إنما أراد محمداً وقد آذاه في قبره) .
4-إن من أراد الحق والعمل به فلن يجد طريقاً يوصله إلى ذلك إلا عن طريق الصحابة – رضي الله عنهم – لقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن الفرقة الناجية – بعد ذكره للفرق الهالكة – من هي يا رسول الله قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ( [26] ) لذا فإن ضلال الناس –قديماً وحديثاً – عن الصراط المستقيم سببه الأعظم ترك ما كان عليه الصحابة –رضي الله عنهم – وعدم الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم.
وإن انحراف كثير من دعاة الصحوة الإسلامية – كما يقولون – في هذا العصر إنما سببه عدم العودة بالمدعوين إلى الحق المبين المقطوع به بيقين، وعدم تعليقهم بالناجين المقطوع بنجاتهم في سيرهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وجميع ما أثر عنهم.(8/332)
فإن الحق هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وهم الناجون بيقين، فقد بُشر بعضهم بالجنة وهم يمشون على الأرض، ورضي الله عن الجميع بقوله جل وعلا:- {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة 100] فبدلاً من توجيه الدعاة المدعوين إلى الاقتداء بأولئك الكرام المشهود لهم بالخيرية في الدنيا والآخرة واتباعهم، قاموا بتوجيههم إلى الاقتداء واتباع أناس لم تكن لهم هذه الميزة، مع العلم بأن ما أُثر عن هؤلاء الأشخاص من علمٍ ففيه حقٌ، وفيه باطلٌ كثير، بل فيه صد عن الهدي القويم –بقصد أو من غير قصد-؛ فنشأت جماعات دعوية كثيرة ضمت بين جنباتها – إلا من رحم الله – أكثر الفرق الإسلامية من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وماتريدية وخوارج وروافض ومتصوفة وغير ذلك فَغُيِّرت الأسماء، والحقائق كما هي.
فأردت - بهذا البحث - النصح للجميع، وبيان ضرورة الاهتداء والاقتداء بسيرة سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمة المهديين.
5-بيان أن الأئمة الأربعة – رحمهم الله تعالى –إنما هم متبعون لأقوال الصحابة مقتفون لآثارهم لا مخالفون لها. وبيان غلط من نسب إليهم أو إلى أحدهم خلاف ذلك.
6-تشجيع طلاب العلم لمراجعة ما كُتب في علم أصول الفقه وتمييز ما علق به مما ليس منه، والتنبيه على المسائل والأصول والأدلة المخالفة للكتاب أو السنة وما كان عليه سلف الأمة، مسترشدين في ذلك بما كتبه العلماء
الربانيون.
خطة البحث:
قمت بتقسيم البحث إلى مقدمة وستة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة فقد اشتملت على أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وخطة البحث.
وأما المباحث فهي على النحو التالي:
المبحث الأول:- في تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني:- في فضل الصحابة في القرآن إجمالاً.(8/333)
المبحث الثالث:- في فضل الصحابة في السنة النبوية إجمالاً.
المبحث الرابع:- في حجية قول الصحابي.
المبحث الخامس:- في الآراء الحادثة في المسألة.
المبحث السادس:- في أدلة العلماء على حجية قول الصحابي.
وأما الخاتمة فقد ضمنتها أهم نتائج البحث.
منهجي في الدراسة:
سرت في هذا البحث على النهج التالي:-
1-قمت بتعريف الصحابي لغة واصطلاحاً معتمداً في الاصطلاح على أئمة السنة والحديث لكونهم هم أهل الشأن والاختصاص.
2-حررت موطن النزاع ناسباً الآراء إلى قائليها من كتبهم أنفسهم فإن لم يكن ثمة كتاب فبواسطة النقل عن شيوخ المذهب.
3-ذكرت موطن الآيات من كتاب الله وذلك بذكر السورة ورقم الآية فيها.
4-خرجت الأحاديث والآثار الواردة في البحث من مظانها من غير استقصاء لشهرتها.
5- ميزت أقوال الأئمة الأربعة عن سائر أقوال من انتسب إليهم ممن خالفهم ولم أذكر من وافقهم من اتباعهم إلا ما ندر؛ لأن العبرة بالأئمة.
6-بدأت حين ذكر الأدلة على حجية قول الصحابي بالأدلة من الكتاب ثم السنة ثم النقول السلفية القولية والعملية التي تدل على إجماعهم على الاحتجاج به وأخيراً الأدلة العقلية.
7-لم أذكر شبهات المخالفين في المسألة في هذا البحث؛ لأن الغرض منه إنما هو عرض مذهب السلف وأدلتهم ليتبع وتتبع.
8-لم أترجم للأعلام الواردة أسماؤهم في البحث لشهرتهم، ولعدم الحاجة إلى ذلك، ولئلا يُثقل البحث بما يمكن الاستغناء عنه.
9-استفدت في بحثي استفادةً كبيرةً جداً مما كتبه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم إعلام الموقعين فقد رأيته – حسب علمي – أشمل ما كُتب في الموضوع وأكمله، فقمتُ بترتيب أدلته واختصار ما يمكن اختصاره منها وحذف ما رأيته مكرراً مع زيادة على ما ذكره مما ظهر لي حين القراءة في الموضوع.
الدراسات المعاصرة في الموضوع:(8/334)
لا تكاد تخلو كتب أصول الفقه من ذكر هذه المسألة إلا أن بعض الكتب الأصولية تختلف فيما بينها في طريقة عرض المسألة وتناولها لها وذكر الأدلة والمناقشات التي دارت فيها بين الإيجاز والإطناب في بعض دون بعض، وقد وجدت بعض المؤلفات قد أفردتها بالتأليف المستقل لأهميتها في نظر مؤلفيها.
وقد اطلعت على الكثير والكثير مما كتب فيها في كتب الأصول على وجه العموم أو في الكتب التي أفردتها بالبحث.
ومن المؤلفات العصرية التي تناولت مسألتنا بالبحث ولو في ناحية منه ما يأتي:-
أولاً:- كتاب الصحابة وجهودهم في حفظ السنة للدكتور عمر يوسف حمزة.
ثانياً:- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للحافظ خليل بن كيكلندي العلائي الشافعي.
ثالثاً:- قول الصحابي في التفسير الأندلسي حتى القرن السادس للأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
رابعاً:- الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي للدكتور السيد محمد نوح.
خامساً:- الصحابي وموقف العلماء من الاحتجاج بقوله للدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الدرويش.
سادساً:- قول الصحابي وأثره في الأحكام الشرعية.تأليف / بابكر محمد الشيخ الفاني.
سابعاً:- مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف للدكتور عبد الكريم بن علي النملة.
ثامناً:- قول الصحابي وأثره في الفقه الإسلامي للدكتور شعبان محمد إسماعيل.
تاسعاً:- حجية مذهب الصحابي دراسة أصولية لعبد الرحمن حللي.
عاشراً:-مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم للدكتور عبد الرحمن البر.
حادي عشر:- الصحابة ومكانتهم في الإسلام لنور عالم خليل الأميني.
ثاني عشر:- حجية قول الصحابي لفضل الله الأمين فضل الله.
وجميع هذه المؤلفات تطرقت لتعريف الصحابي في اللغة والاصطلاح مع تفاوت في بعضها حسب الغاية من الكتابة في الموضوع فبعضها أوسع في العرض والمناقشة من البعض الآخر.(8/335)
وممن توسع في ذكر التعريفات الاصطلاحية ومناقشة جمعيها الأستاذ الدكتور عبد الكريم النملة في كتابه مخالفة الصحابي للحديث، حيث تكلم عليها في ستين صفحة تقريباً. والدكتور السيد محمد نوح تكلم عليها في عشر صفحات من القطع المتوسط في كتابه الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي.
أما بالنسبة لحجية قول الصحابي فبعض المؤلفين السابق ذكرهم لم يتطرق للمسألة البتة مثل الدكتور عمر يوسف حمزه في كتابه الصحابة وجهودهم في حفظ السنة، والدكتور عبد الكريم بن علي النملة في كتابه مخالفة الصحابي للحديث، والدكتور عبد الرحمن البر في كتابه مناهج وآداب الصحابة، ونور عالم في كتابه الصحابة ومكانتهم في الإسلام.
وبعضهم تكلم عنها باختصار شديد مثل الدكتور السيد محمد نوح في كتابه الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي حيث ذكرها في ثلاث صفحات، والأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي في كتابه قول الصحابي في التفسير الأندلسي تكلم عليها في خمس عشرة صفحة. وأما الدكتور شعبان محمد إسماعيل فقد تكلم عليها في خمسين صفحة من القطع الصغير في كتابه قول الصحابي وأثره في الفقه الإسلامي.
وأما الذين تطرقوا إلى هذه المسألة بنوع من التفصيل وذكر للآراء والأدلة ومناقشتها وترجيح ما رأوه صواباً فهم:-
1-العلائي في كتابه إجمال الإصابة في أقوال الصحابة.
2-الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الدرويش في كتابه الصحابي وموقف العلماء من الاحتجاج بقوله.
3-بابكرمحمد الشيخ الفاني في كتابه قول الصحابي وأثره في الأحكام الشرعية
4-عبد الرحمن حللي في كتابه حجية مذهب الصحابي دراسة أصولية.
5-فضل الله الأمين فضل الله في رسالته حجية قول الصحابي.
إلا أن كلاً منهم قد تطرق لها من منظوره، ورجح ما يراه صواباً، وقد يتفق البعض في الترجيح إلا أنهم – أحياناً – قد اختلفوا في طريقة الترجيح.(8/336)
وبعضهم قد أطال في مناقشة الأدلة وذكر الاعتراضات عليها، والبعض الآخر ذكرها باختصار.
وجميعهم قد ضم إلى هذه المسألة – أعني حجية قول الصحابي – مسائل رأوا وثيق صلتها بالموضوع كتخصيص الحديث بقول الصحابي وتقييده به، وحمل الصحابي الحديث على أحد محمليه، وحمل الصحابي الحديث على خلاف ظاهره، ومخالفة الصحابي الحديث بالكلية، وحكم تفسير الصحابي، وذكر أثر الاختلاف في حجية قول الصحابي في الفقه الإسلامي في بعض المسائل الفقهية، وذكر أسماء المفتين من الصحابة وطبقاتهم، ونحو ذلك.
وكما قلت – آنفاً – لقد استفدت كثيراً مما كتبه هؤلاء -جزاهم الله خير الجزاء - إلا أني تطرقت لحجية قول الصحابي من منظور معين - وهو ما حاولت إبرازه – ألا وهو حجية قول الصحابي عند السلف –رضي الله عنهم – من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة – رحمهم الله تعالى – مع الاجتهاد في توثيق نسبة أقوالهم إليهم، وبيان زيف ما لم يثبت عنهم، أو ما نسب إليهم مما أشتهر عنهم خلافه. ثم ذكرت أقوال من جاء بعدهم فيها.
كما أني استقصيت –حسب ظني - أدلة أئمة السلف في هذه المسألة، فهدفي وغايتي بيان قول السلف والأئمة الأعلام، وذكر أدلتهم، مع عدم إلتزامي ذكر أدلة المخالفين لهم ممن جاء من بعدهم. فليس الدافع لي في الكتابة في الموضوع هو نصب الخلاف بين السلف وغيرهم، وإنما – كما قلت – الدافع الرئيس للكتابة فيه هو: بيان وإيضاح قول السلف فيها، وتمييزه عن غيره، وذكر أدلتهم وحججهم فيما ذهبوا إليه، ولم أتطرق - كما ذكرت سابقاً - إلى علاقة قول الصحابي بالأدلة الشرعية الأخرى كتقييده للمطلق وتخصيصه للعام وحمل المجمل على أحد محامله وغيرها من المسائل لهذا السبب، ولعل الله أن ييسر لي فيما بعد بحث هذه المسائل بحثاً أصولياً دقيقاً.
هذا ...
وقد سميت هذا البحث:- ب (حجية قول الصحابي عند السلف) .(8/337)
سائلاً المولى جل في علاه أن ينفعني به في الدنيا والآخرة وينفع به كذلك كل من قرأه أونظر فيه.
المبحث الأول: في تعريف الصحابي
الصحابي لغة ( [27] ) :- منسوب إلى الصحابة - كالأنصاري منسوب إلى الأنصار -، وهي مصدر صحبَ يَصحُبُ صُّحبَةً بمعنى لازم ملازمةً ورافق مرافقةً وعاشر معاشرة.
وفي الاصطلاح:- قال الإمام البخاري ( [28] ) رحمه الله تعالى في تعريفه:- بأنه من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين.
وقال الإمام علي بن المديني ( [29] ) - رحمه الله - في تعريفه:- بأنه من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار.
وقال الإمام أحمد رحمه الله في تعريفه للصحابي ( [30] ) : بأنه كل من صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه.له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه،وسمع منه، ونظر إليه.
والملاحظ من تعريف هؤلاء الأئمة الأعلام – أئمة الحديث والسنة في وقتهم والقدوة لمن بعدهم – اتفاقهم في تعريفهم للصحابي، وعلى هذا جرى جل أئمة الحديث من بعدهم وبعض الأصوليين ( [31] ) .
بل حكى أبو الحسن الأشعري إجماع السلف على ذلك حيث قال في كتابه (رسالةٌ إلى أهل الثغر بباب الأبواب) ( [32] ) :- (الإجماع السابع والأربعون: وأجمعوا على أن الخيار بعد العشرة في أهل بدر من المهاجرين والأنصار على قدر الهجرة والسابقة، وعلى أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة، أو رآه ولو مرةً مع إيمانه به وبما دعا إليه أفضل من التابعين بذلك) .(8/338)
قال أبو زرعة الرازي ( [33] ) – رحمه الله -: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه) وفي رواية: (ممن رآه وسمع منه) قاله لما قيل له – رضي الله عنه -: أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: (ومن قال ذا؟ قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قبض رسول الله …) فذكره، فقيل له: هؤلاء أين كانوا؟ وأين سمعوا منه؟ فقال: (أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه بعرفة)
وذهب جمهور الأصوليين من معتزلة ومتكلمين وفقهاء إلى اشتراط طول الصحبة، وكثرة اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، على سبيل التبع له، والأخذ عنه. ولهذا قالوا: إن الرجل لا يوصف ولو أطال مجالسة العالم بأنه من أصحابه إذا لم يكن على طريق التبع له والأخذ عنه ( [34] ) .
ومما لا شك فيه أن المعول عليه في تعريف الصحابي إنما هم أئمة الحديث والسنة؛ لأنهم هم أهل الشأن والاختصاص ( [35] ) ،كما أن المعول عليه في المباحث اللغوية هم علماء اللغة وأربابها. فعلماء الحديث -مثلاً- يقومون بتعريف الصحابي، وعلماء الأصول يبحثون ما يتعلق بحجية قوله من عدمه، كما أن الأصولي يقرر القواعد الأصولية ليأتي الفقيه فيأخذها مسلمةً ويبني عليها فقهه.(8/339)
وقد بَيّن بدران أبو العينين بدران ( [36] ) الصلة بين الفقيه والأصولي فقال: (وهذه القواعد الأصولية التي وضعها الأصولي، يعمد إليها الفقيه ويستخدمها – كقواعد مسلم بها – في استنباط الحكم الشرعي العملي الجزئي من الدليل، فهو إذا أراد التوصل إلى الحكم الشرعي الوارد في قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام 151] ينظر في هذا النص فيجده من النواهي؛ فيقصد إلى قاعدة الأصولي في النواهي وهي " النهي يفيد التحريم فيتوصل بهذه القاعدة إلى حكم القتل وأنه التحريم … وهكذا يتضح مدى استعانة الفقيه بالقواعد الأصولية في استدلاله وتوصيله إلى الحكم.
وبهذا تكون:
مهمة الأصولي البحث عن القواعد الكلية، والأدلة الإجمالية من حيث دلالتها على الأحكام، ومهمة الفقيه البحث في الأدلة الجزئية، بواسطة استخدام القواعد الأصولية لأجل التوصل إلى الأحكام الشرعية العملية من الأدلة الجزئية التي تتعلق بمسألة بخصوصها وتدل على حكم معين) انتهى باختصار.
ومما يدل على صحة تعريف أهل الحديث للصحابي، وأنه الحق الواجب اتباعه دون ما عداه وأنه حقيقة شرعية مطابقة للحقيقة اللغوية خلافاً لما زعمه جمهور الأصوليين ما رواه مسلم في صحيحه ( [37] ) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (يأتي على الناس زمان. يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) .(8/340)
وفي لفظ آخر: (يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( [38] ) – رحمه الله -: - (وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين: على أن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هو من رآه مؤمناً به وإن قلت صحبته؛ كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره. وقال مالك: من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك. وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع، يقال: صحبه شهراً؛ وساعة.
وقد تبين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمناً به؛ فإنه لا بد من هذا.)
وقال ( [39] ) –أيضاً -: ( ... والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه مؤمناً، فله من الصحبة بقدر ذلك....
فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به.
وهذه الخاصية لا تثبت لأحدٍ غير الصحابة؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم) انتهى كلامه.
المبحث الثاني: في فضل الصحابة – رضي الله عنهم - في القرآن الكريم إجمالاً(8/341)
قال تعالى:- {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة 100]
وقال تعالى:- {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة 117]
قال تعالى:- {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً} [الفتح 18،19]
وقال تعالى:- {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً} [الفتح 29]
وقال – أيضاً – {لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران 164]
وقال – أيضاً – {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة 128]
وقال سبحانه {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الشعراء 215]
المبحث الثالث: في فضل الصحابة - رضي الله عنهم - في السنة النبوية إجمالاً
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:- لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شي قدير} [البقرة 284](8/342)
قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب. فقالوا:- أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أَنزلت هذه الآية، ولا نطيقها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة 285]
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم.
{ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} . قال: نعم.
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم.
{واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم. ( [40] )
عن عويم بن ساعدة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم وزراء، وأنصاراً، وأصهاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل) ( [41] )
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلست في عصابة من فقراء المهاجرين … الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى عليه وسلم: (أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذاك خمسمائة عام) ( [42] )(8/343)
عن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق، وننقل التراب على أكتادنا ( [43] ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم. لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار) ( [44] )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع، موالي ليس لهم مولىً دون الله ورسوله) ( [45] )
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن مالك في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) وسكت عن العاشر، قالوا: ومن هو العاشر؟ فقال: ((سعيد بن زيد)) – يعني نفسه -.
ثم قال: لموقف أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه سلم يَغبَرُّ فيه وجهه خير من عمل أحدكم، ولو عُمِّر عُمُرَ نوح) ( [46] )
المبحث الرابع: في حجية قول الصحابي
من المستحسن قبل الشروع في ذكر الخلاف في حجية قول الصحابي، وتحرير موطن النزاع فيه أن أُبَيِّن ما المراد بقول الصحابي.
فأقول - وبالله التوفيق - إن المراد بقول الصحابي ( [47] ) :- هو ما ثبت عن أحد من الصحابة - ولم تكن فيه مخالفة صريحة لدليل شرعي - من رأي أو فتوى أو فعل أو عمل اجتهادي في أمر من أمور الدين.
وتسمى هذه المسألة عند الأصوليين بأسماء منها:- قول الصحابي أو فتواه أو تقليد الصحابي أو مذهب الصحابي.
بل ذهب الشاطبي ( [48] ) - رحمه الله - إلى أن السنة تطلق على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع - أيضاً - إلى حقيقة الإجماع.(8/344)
وبناء على ما سبق فإن الصحابي إذا قال قولاً:-
- فلا يخلو من أن يشتهر قوله ويوافقه سائر الصحابة على ذلك.
- أو يخالفوه.
- أو لا يشتهر أو لا يعلم اشتهر أم لم يشتهر.
فإن اشتهر قوله ووافقه الصحابة فهو إجماع ( [49] ) .
وإن اشتهر فخالفوه فالحجة مع من سعد بالدليل.
وحينئذٍ الحجة فيه لا في كونه قول صحابي.
وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا؟ . فهذا هو موطن النزاع.
والذي عليه العلماء السابقون والأئمة المتبوعون أبوحنيفة ومالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله تعالى – وجمهور أصحابهم أنه حجة.
قال أبوحنيفة ( [50] ) – رحمه الله -: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات عن الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب … فلي أن أجتهد كما اجتهدوا. انتهى
وقال ( [51] ) – أيضاً -:- (ما بلغني عن صحابي أنه أفتى به فأقلده ولا أستجيز خلافه) .
وقال ( [52] ) – أيضاً-:- (عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة) .
بل قال فيمن هو دونهم:- (من كان من أئمة التابعين وأفتى في زمن الصحابة وزاحمهم في الفتوى وسوغوا له الاجتهاد، فأنا أقلده، مثل شريح، والحسن، ومسروق بن الأجدع، وعلقمة) ( [53] ) .
وعن أبي يوسف قال ( [54] ) : سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الثقات أخذنا به، فإذا جاء عن أصحابه لم نخرج عن أقاويلهم، فإذا جاء عن التابعين زاحمتهم.
قال محمد بن حمدان بن الصباح ( [55] ) :- ( ... وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين، وإلا قاس وأحسن القياس) .(8/345)
وقال الحسن بن صالح ( [56] ) : كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
وقد اتضح تمسكه بهذا الأصل في تطبيقاته الفقهية حيث قال ( [57] ) : من رغب عن سيرة علي رضي الله عنه في أهل القبلة فقد خاب وخسر.
وقال ( [58] ) – أيضاً –: ما ملكت أكثر من أربعة آلاف درهم منذ أكثر من أربعين سنة إلا أخرجته، وإنما أمسكها لقول علي رضي الله عنه: (أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة؛ ولولا أني أخاف أن ألجأ إلى هؤلاء ما تركت منها درهماً واحداً)
قال نعيم بن حماد ثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول ( [59] ) :- إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين. وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم. وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
وأما جمهور الحنفية ( [60] ) فهم على قول إمامهم.
وأما الإمام مالك ( [61] ) –رحمه الله - فتصرفه في "موطئه " دليل على أنه يرى أن قول الصحابي حجة ( [62] ) .
قال الشاطبي –رحمه الله – في الموافقات ( [63] ) :- (ولما بالغ مالك في هذا المعنى –أي اتخاذ الصحابة قدوة وسيرتهم قبلة – بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة) .
قال العلامة الفقيه حسن بن محمد المشاط المالكي في كتابه (الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة) ( [64] ) : وهذا هو المشهور عن مالك.
وأما الإمام الشافعي –رحمه الله – فمنصوص قوله قديماً وحديثاً هو أن قول الصحابي حجة ( [65] ) .(8/346)
فقد قال رحمه الله في كتابه الأم ( [66] ) –وهو من الكتب الجديدة -:-ما كان الكتاب أو السنة موجودين، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتباعهما. فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحد منهم. ثم كان قول الأئمة:- أبي بكر أو عمر أو عثمان - رضي الله عنهم - إذا صرنا فيه إلى التقليد، أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزمه الناس، ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر، وقد يأخذ بفتياه ويدعها، وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم، ولا يعتني العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام، وقد وجدنا الأئمة ينتدبون، فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا وأن يقولوا فيه، ويقولون، فيخبرون بخلاف قولهم، فيقبلون من المخبر، ولا يستنكفون عن أن يرجعوا لتقواهم الله، وفضلهم في حالاتهم، فإذا لم يوجد عن الأئمة، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الأمانة، أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم.
ثم قال:- والعلم طبقات.
الأولى:- الكتاب والسنة، إذا ثبتت السنة.
الثانية:- الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة
الثالثة:- أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم له مخالفاً منهم.
الرابعة:- اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
الخامسة:- القياس على بعض هذه الطبقات) انتهى كلامه ( [67] ) .
قال ابن القيم ( [68] ) رحمه الله تعالى:- (هذا كله كلامه في الجديد.(8/347)
ثم قال: قال البيهقي ( [69] ) - بعد أن ذكر الكلام السابق، وفي الرسالة القديمة للشافعي بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم - قال:- وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ أمر استدرك فيه علم أو استنبط وآراؤهم لنا أجمل وأولى بنا من رأينا ومن أدركنا ممن نرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا. وكذا نقول ولم نخرج من أقوالهم كلهم.
قال البيهقى ( [70] ) :- وقال في موضع آخر:- فإن لم يكن على القول دلالة من كتابٍ ولا سنةٍ كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أحب إليّ أن أقول به؛ من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم، وحكام....فإن اختلفوا صرنا إلى القول الذي عليه دلالة وقلّ ما يخلو اختلافهم من ذلك. وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر. فإن تكافؤا نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجاً عندنا. وإن وجدنا للمفتين في زماننا أو قبله اجتماعاً في شيء لا يختلفون فيه تبعناه. وكان أحد طرق الأخبار الأربعة، وهي كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم القول لبعض أصحابه،ثم اجتماع الفقهاء.
فإذا نزلت نازلةٌ لم نجد فيها واحدةً من هذه الأمور فليس في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي. فهذا كلام الشافعي رحمه الله ورضي عنه بنصه) .
قال ابن القيم ( [71] ) –رحمه الله -:- ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع عنه بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له.
وقال ( [72] ) – أيضاً -:- (أما القديم فأصحابه مقرون به وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة.
وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جداً؛ فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك أنه يحكي أقوالاً للصحابة في الجديد ثم يخالفها؛ ولو كانت عنده حجة لم يخالفها.(8/348)
وهذا تعلق ضعيف جداً؛ فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى في نظره منه لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة. بل خالف دليلاً لدليلٍ أرجح عنده منه.
وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقاً لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص بل يعضدها بضروب من الأقيسة فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر.
وهذا - أيضاً - تعلق أضعف من الذي قبله. فإن تظاهر الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديماً وحديثاً ولا يدل ذكرهم دليلاً ثانياً وثالثاً على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل) . انتهى كلامه رحمه الله.
قال الربيع بن سليمان ( [73] ) :- (قال الشافعي: لا يكون أن تقول إلا عن أصل، أو قياس على أصل.
والأصل: كتاب أو سنة، أو قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الناس) .
قال يونس بن عبد الأعلى ( [74] ) :- (قال لي محمد بن إدريس الشافعي: لا يقال للأصل: لم ولا كيف) .
وقد أطلت النقل عن الإمام الشافعي في تقرير مذهبه لأني قد رأيت جلّ من كتب في علم أصول الفقه ينسب إليه قولاً جديداً وهو عدم قوله بحجية قول الصحابي بناء على بعض تخريجات بعض المنتسبين إلى مذهبه أخذاً من تصرفات الإمام نفسه مع بعض الأدلة.
ولأن نسبة القول إلى أحد الأئمة – لا سيما وقد اشتهر عنه ما يخالفه صريحاً من قوله - قضية هي في غاية الخطورة، مع ما تورثه من كثرة في الأخذ والرد في تصحيح أو تزييف ما نسب إليه ( [75] ) .
وأما كون الإمام أحمد - رحمه الله تعالى – من القائلين بحجية قول الصحابي فهذا القول أشهر من علم في رأسه نار؛ ذلك أنه – رحمه الله – قد جعل الاعتماد على قول الصحابي هو الأصل الثاني من أصول مذهبه ( [76] ) . بل إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل ( [77] ) .(8/349)
قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله ( [78] ) :- قلت لأبي عبد الله: حديث عن رسول الله مرسل برجال ثبت أحبُّ إليك، أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت؟
قال أبو عبد الله – رحمه الله -: (عن الصحابة أعجب إليّ) .
ومما يدل على احتجاجه بقول الصحابة –رضي الله عنهم – قوله في كتابه (السنة) ( [79] ) :- (بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة) .
وقال عبدوس بن مالك العطار ( [80] ) :- سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-يقول: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين …..)
قال ابن القيم ( [81] ) -رحمه الله-:- وأئمة الإسلام كلهم على قبول قول الصحابي.
المبحث الخامس: في الآراء الحادثة في المسألة
لقد اختلف الناس بعد أئمتهم في حجية قول الصحابي إلى مذاهب مختلفة، أهمها ما يأتي:-
1-عدم حجيته مطلقاً، وبه قالت الأشاعرة ( [82] ) ، وأكثر المتكلمين ( [83] ) ، والمعتزلة ( [84] ) .
2-عدم حجيته إلا فيما لا يدرك بالقياس، وبه قال الكرخي ( [85] ) ، وأبو زيد ( [86] ) .
3-عدم حجيته إلا إذا خالف قوله القياس، وبه قال بعض الحنفية، وابن برهان، والغزالي في المنخول ( [87] ) .
4-عدم حجيته إلا إذا كان الصحابي من أهل الفتوى، وبه قال بعض الحنفية ( [88] ) .
المبحث السادس: في أدلة علماء الأمة في حجية قول الصحابي ( [89] )
لقد تنوعت أدلة علماء الأمة وأئمتها وتعددت في إثبات حجية قول الصحابي، فدارت أدلتهم بين آي الكتاب، وأحاديث نبوية، واتفاق سلف الأمة قولاً وعملاً على الاحتجاج به، وصريح المعقول.
وإليك – أخي القارئ – ذكرها مفصلة من غير إطنابٍ مُمِلٍّ ولا إيجازٍ مُخِلٍّ.(8/350)
أولاً:- الكتاب:- لقد وردت في هذا الشأن آيات كثيرات استدل بها أئمة الهدى على حجية قول الصحابي، من ذلك ما يأتي:-
1-قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة 100]
وجه الدلالة ( [90] ) :- أن الله أثنى على من اتبعهم فإذا قالوا قولاً فاتبعهم متبع عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم فيجب أن يكون محموداً على ذلك وأن يستحق الرضوان. ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عامياً. فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذٍ.
وقد أُعترض على وجه الدلالة بما يأتي:-
الاعتراض الأول:- إن المراد باتباعهم:- هو أن يقول ما قالوا بالدليل وهو سلوك سبيل الاجتهاد لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد.
والدليل عليه: قوله {بإحسان} . ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان؛ لأنه لو كان مطلق الاتباع محموداً لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان.
وقد أجيب عن هذا الاعتراض بما يأتي:-
إن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد. لوجوه:-
أحدها:- أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله:- {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] {واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف 158] {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء 115]
ونحوه لا يتوقف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل.
الثاني:- أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يتبع فيه كل أحد. فمن قال قولاً بدليل صحيح وجب موافقته فيه.(8/351)
الثالث:-أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا تجوز. فإن لم تجز فهو المطلوب. وإن جازت مخالفتهم فقد خولفوا في خصوص الحكم واتبعوا في أحسن الاستدلال. فليس جعل من فعل ذلك متبعاً لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفاً لمخالفته لهم في عين الحكم.
الرابع:- أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعاً لهم أصلا. بدليل أن من خالف مجتهداً من المجتهدين في مسألة بعد اجتهادٍ لا يصح أن يقال اتبعه،وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده. بأن يقال اتبعه في الاستدلال أو الاجتهاد.
الخامس:- أن الاتباع:- افتعال من اتبع. وكون الإنسان تابعا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه. وكل واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعاً للآخر ولا مفتقراً إليه بمجرد ذلك حتى يستشعر موافقته، والانقياد له؛ ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلاً في اجتهاده أو فتواه اتفاقاً أنه متبع له.
السادس:- أن الآية قصد بها مدح السابقين، والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين. وبتقدير ألا يكون قولهم موجباً للموافقة ولا مانعاً من المخالفة بل إنما يتبع القياس – مثلاً - لا يكون لهم هذا المنصب، ولا يستحقون هذا المدح، والثناء.
السابع:- أن من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعاً لهم بمجرد مشاركتهم في صفةٍ عامةٍ وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به؛ لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته. وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم – وكلاهما مؤثرٌ – كان التفريق رعايةً للفارق أولى من الجمع رعايةً للجامع.
الاعتراض الثاني:- لم لا يجوز أن يراد بالاتباع اتباعهم في أصول الدين.(8/352)
والجواب عن هذا الاعتراض:- بأن يقال:- إن تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه لا يصح؛ لأن الاتباع عام ولا مخصص؛ ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعاً لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها.
ولو أقر المخالف بوجوب اتباعهم في أصول الدين، فلئن يجب اتباعهم في فروعه من باب أولى.
و أيضاً - فإنه إذا قيل:- فلان يتبع فلاناً. واتبع فلاناً. وأنا متبع فلاناً. ولم يقيد ذلك بقرينة لفظيةٍ ولا حاليةٍ فإنه يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتى فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف. ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم؛ فيكون الاتباع سبباً له؛ لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سببٌ ( [91] ) . وإذا كان اتباعهم سبباً للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال.
الاعتراض الثالث:- لم لا يكون المراد من قوله جل وعلا {بإحسان} أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم.
ويكون المقصود أن السابقين قد وجب لهم الرضوان وإن أساءوا لقوله صلى الله عليه وسلم:- (وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال:- اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ( [92] ) .
والجواب عن هذا الاعتراض بأن يقال:- إن قوله تعالى:- {بإحسان} ليس المراد به أن يجتهد وافق أو خالف؛ لأنه إذا خالف لم يتبعهم فضلاً عن أن يكون بإحسان.
ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم. لكن الاتباع لهم:- اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول. فلا بد مع ذلك أن يكون المتبع محسناً بأداء الفرائض واجتناب المحارم لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولاً.(8/353)
-وأيضاً - فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم - ولا يقدح فيهم اشتراط الله ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم - وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} [الحشر 10]
الاعتراض الرابع:-لم لا يجوز أن يكون المراد بالثناء على من اتبعهم كلهم. وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه.
والجواب عن هذا الاعتراض من وجوه:-
الأول:- إن الآية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم.
كما أن قوله:- {والسابقون الأولون...... والذين اتبعوهم} [التوبة 100] يقتضي حصول الرضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله:- {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة 100] ، وكذلك في قوله:- {اتبعوهم} ؛ لأنه حكم علق عليهم في هذه الآية فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين.
الثاني:- إن الأصل في الأحكام المعلقة بأسماء عامة ثبوتها لكل فردٍ فردٍ من تلك المسميات ( [93] ) . كقوله:- {أقيموا الصلاة} [البقرة 43]
وقوله:- {لقد رضي الله عن المؤمنين} [الفتح 18]
وقوله تعالى:- {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة 119]
الثالث:-إن الأحكام المعلقة على المجموع يؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد كقوله:- {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} [البقرة 143]
وقوله:- {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس} [آل عمران 110] وقوله:-
{ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء 115] ؛ فإن لفظ الأمة، ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة، وأفراد المؤمنين، بخلاف لفظ السابقين:- فإنه يتناول كل فرد من السابقين.(8/354)
الرابع:- الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن. فمن اتبع جماعتهم إذا اجتمعوا، واتبع آحادهم فيما وجد عنهم - مما لم يخالفه فيه غيره منهم - فقد صدق عليه أنه اتبع السابقين.
أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال اتبع السابقين؛ لوجود مخالفته لبعضهم لا سيما إذا خالف هذا مرةً وهذا مرةً.
وبهذا يظهر الجواب عن اتباعهم إذا اختلفوا فإن اتباعهم هناك قول بعض تلك الأقوال باجتهاد واستدلال إذ هم مجتمعون على تسوية كل واحد من تلك الأقوال لمن أدى اجتهاده إليه فقد قصد اتباعهم أيضاً.
أما إذا قال الرجل قولاً ولم يخالفه غيره فلا يعلم أن السابقين سوغوا خلاف ذلك القول.
الخامس:- إن الآية تقتضي-أيضاً - اتباعهم مطلقاً.
فلو فرضنا أن الطالب وقف على نص يخالف قول الواحد منهم فقد علمنا أنه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه.
أما إذا رأينا رأياً فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي.
السادس:- لو لم يكن اتباعهم إلا فيما أجمعوا عليه كلهم لم يحصل اتباعهم إلا فيما قد علم أنه من دين الإسلام بالاضطرار؛ لأن السابقين الأولين خلق عظيم ولم يعلم أنهم أجمعوا إلا على ذلك؛ فيكون هذا الوجه هو الذي قبله وقد تقدم بطلانه. إذ الاتباع في ذلك غير مؤثر.
-وأيضاً - فجميع السابقين قد مات منهم أناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وحينئذٍ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لو فرضنا أحداً يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين؛ فحاصله أن التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين.
-وأيضاً - فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذر فكيف يتبعون كلهم في شئ لا يكاد يعلم.
السابع:- إن الصحابة - رضي الله عنهم - ما استحقوا منصب الإمامة والاقتداء بهم إلا لكونهم هم السابقين، وهذه صفةٌ موجودة في كل واحدٍ منهم فوجب أن يكون كل منهم إماماً للمتقين كما استوجب الرضوان والجنة.(8/355)
الاعتراض الخامس:-إن الثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه وإنما يدل على جواز تقليدهم وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى. أما أنه دليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه.
والجواب عن هذا الاعتراض من وجوه:-
الأول:- إن الآية تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان. وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام؛ فلا يكون اتباعهم قولاً بغير علم بل قولاً بعلم، وهذا هو المقصود وحينئذٍ فسواء يسمى تقليداً أو اجتهاداً.
الثاني:- إن كان تقليد العالم للعالم حراماً - كما هو قول الشافعية والحنابلة – فاتباعهم ليس بتقليد؛ لأنه مرضي. وإن كان تقليدهم جائزاً أو كان تقليدهم مستثنى من التقليد المحرم فلم يقل أحد إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان. فعلم أن تقليدهم خارجٌ عن هذا؛ لأن تقليد العالم إن كان جائزاً فتركه إلى قول غيره أو إلى اجتهاد جائز – أيضاً - بالاتفاق. والشيء المباح لا يستحق به الرضوان.
الثالث:- إن رضوان الله هو غاية المطالب التي لا تنال إلا بأفضل الأعمال. ومعلوم أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال. بل الاجتهاد أفضل منه. فعلم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم، وأن اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان الله. فلا ريب أن رجحان أحد القولين يوجب اتباعه.وقولهم أرجح بلا شك. ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين.
الرابع:- إن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان. والتقليد وظيفة العامة. فأما العلماء فإما أن يكون مباحاً لهم أو محرماً. إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف. وهو واجب عليهم. فلو أريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة ذلك النصيب الأوفى وكان حظ علماء الأمة من هذه الآية أبخس الحظوظ. ومعلوم أن هذا فاسد.(8/356)
الخامس:-رضوان الله عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ؛ فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يعفى له عنه. فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه أقرب منه إلى أن يرضى عنه. وإذا كان صواباً وجب إتباعه لأن خلاف الصواب خطأ. والخطأ يحرم إتباعه إذا علم أنه خطأ. وقد علم أنه خطأ فيكون الصواب خلافه.
السادس:- إذا كان اتباعهم موجباً للرضوان لم يكن ترك اتباعهم موجباً للرضوان. لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده وعدمه. لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء. وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه. وهذا هو المطلوب.
السابع:- إن طلب رضوان الله واجب؛ لأنه إذا لم يوجب رضوانه. فإما سخطه أو عفوه. والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة، وذلك لا تُباح مباشرته إلا بالنص. وإذا كان رضوانه إنما هو في اتباعهم واتباع رضوانه
واجب. كان اتباعهم واجباً.
الثامن:- إن الله - سبحانه وتعالى - إنما أثنى على المتبع بالرضوان ولم يصرح بالوجوب؛ لأن إيجاب الاتباع يدخل فيه الاتباع في الأفعال، ويقتضي تحريم مخالفتهم مطلقاً. فيقتضي ذم المخطئ، وليس كذلك، أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعد ما ثبت أن فيها رضا الله تعالى.
-وأيضاً - فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضده، بخلاف الأفعال فقد يكون رضا الله في الأفعال المختلفة، وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين.
أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك. فإذا ثبت أن في قولهم رضوان الله تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو. فوجب إتباعه.
الاعتراض السادس:- لم لا يكون المراد بقوله تعالى {السابقون} : - هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم. فما الدليل على اتباع من أسلم بعد ذلك؟(8/357)
فالجواب عنه بأن يقال:-إذا ثبت وجوب اتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود على أنه لا قائل بالفرق.
وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم.
الاعتراض السابع:- إن قوله تعالى: {والذين اتبعوهم بإحسان} يدخل فيه بعض الصحابة وهم من عدا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، من الذين اسلموا ولم يهاجروا والذين اسلموا بعد فتح مكة فكل هؤلاء من الصحابة بالاتفاق ومع هذا فهم مأمورون بالاتباع بإحسان أو داخلون فيمن أمر بالاتباع بإحسان، والآية أمرت باتباع السابقين من المهاجرين والأنصار فقط.
فالجواب عن هذا بأن يقال: إذا ثبت وجوب اتباع هؤلاء للسابقين من المهاجرين والأنصار فغيرهم من باب أولى.
و أيضاً - الآية شهادة من الله بأن جميع الصحابة مرضي عنهم، ولهم الجنة سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار أو من لم يهاجر أو أسلم بعد الفتح.
فَمَنْ أراد رضى الله، والجنة فعليه باتباعهم بإحسان.
2- قوله تعالى:- {اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون} [يس 20]
هذا قصه الله سبحانه وتعالى عن صاحب ياسين على سبيل الرضاء بهذه المقالة والثناء على قائلها والإقرار له عليها.
وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون. بدليل قوله تعالى خطاباً لهم {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران 103] ولعلَّ: من الله واجب.
وقوله تعالى:- {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد 47]
وقوله تعالى:- {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.سيهديهم} [محمد 4،5]
وقوله تعالى:- {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت 69] .
وكل منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه فيكون الله قد هداهم.(8/358)
وكل من هداه فهو مهتد. فيجب اتباعه بالآية.
3- قوله تعالى:- {واتبع سبيل من أناب إلي} [لقمان 15] وأول المنيبين إلى الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مأمور صلوات ربي وسلامه عليه باتباع سبيل المنيبين من الأنبياء والمؤمنين السابقين، والأمر له أمر لأمته، وأول أمته هم صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فكل من الصحابة منيب إلى الله. فيجب اتباع سبيله. وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله.
والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى أن الله تعالى قد هداهم وقد قال:- {ويهدي إليه من ينيب} [الشورى 13]
4- قوله تعالى:- {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف 108] فأخبر تعالى أن الرسول يدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة. ومن دعا إلى الله على بصيرة، وجب اتباعه؛ لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به} [الأحقاف 31]
ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالماً به. والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله؛ لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى.
هذا وإن كان يدخل فيه غير الصحابة إلا أن دخول الصحابة في هذه الآية دخول أولي.
فإذا أثر عن أحدٍ من الصحابة قول أو فعل ولم تكن فيه مخالفة صريحة لنص شرعي ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافه فالواجب حينئذٍ اتباعه؛ لأنه دعاء إلى طاعة الله؛ وإلا خلا ذلك العصر من ذلك الحق، وهو باطل.
5- قوله تعالى:- {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل 59] قال ابن عباس ( [94] ) :- هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل عليه قوله تعالى:- {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر 32](8/359)
وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية. فيكون قد صفاهم من الأكدار. والخطأ من الأكدار. فيكونون مصفين منه. فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم.
ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعدُهُم فلا يكون قول بعضهم كدراً؛ لأن مخالفته الكدر. وبيانه يزيل كونه كدراً، بخلاف ما إذا قال بعضهم قولاً ولم يخالف فيه. فلو كان باطلاً ولم يَرُدَّهُ رادٌّ لكان حقيقة الكدر.
وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء.
6- أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله:- {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ 6] .
وقوله:- {حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً} [محمد 47]
وقوله:- {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة 11] .
واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي للعهد:- أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانوا قد أوتوا هذا العلم كان اتباعهم واجباً؛ ولأن من بعدهم تبع لهم في ذلك.
ولأن من المحال أن يجهل الصحابة الحق والهدى ويهتدي إليه المتأخرون.
ولأن للصحابة خاصية لا يشركهم فيها أحد فهم قد تعلموا العلم والعمل في مدرسة النبوة تحت رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، بعد أن وقفوا على أسرار التشريع ومقاصده وحكمه، فكانوا يجتهدون بين يديه فيقر المصيب ويصوب المخطيئ، وكانوا يسألونه عما أشكل عليهم وخفي ويحاورونه ويشاركونه الرأي؛ لذا فإنهم قد فهموا منه الكثير ووقفوا على أمور لا تدرك بالنقل والرواية عنه صلى الله عليه وسلم ( [95] ) ، فكانت لهم تلك الميزة والخاصية فكانت أقوالهم ليست كأقوال غيرهم.(8/360)
7-قوله تعالى:- {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران 110] .
شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر. إذ الصواب معروف بلا شك والخطأ منكر من بعض الوجوه.
ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة. وإذا كان هذا باطلاً. علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع. وذلك يقتضي أن قوله حجة ( [96] ) ، ولما سبق ذكره في الدليل السابق.
8-قوله تعالى:- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة 119]
قال غير واحد من السلف ( [97] ) :- هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أنهم أئمة الصادقين. وكل صادق بعدهم بهم يأتم في صدقه. بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم.ومعلوم أن من خالفهم في شئ وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإن ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه.
فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط. وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب ( [98] ) بحيث لا يستحق اسم المؤمن وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال معه شئ من الإيمان.
وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل معه شئ من العلم. ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية.
ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني. فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شئ من الأشياء وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم. ومن فهم أن الله أراد منا ذلك فقد غلط غلطاً عظيماً في فهم مراد الرب تعالى من أوامره.(8/361)
فإذا أمرنا بالتقوى والبر والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك.
وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء.
9-قوله تعالى:- {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة 143] .
ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمةً خياراً عدولاً.
هذا حقيقة الوسط. فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم. وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة.
والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم. فهم شهداؤه؛ ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم. لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء وأمر ملائكته أن تصلى عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم.
والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق. فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به.كما قال تعالى:- {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف 86] .
فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقاً من غير علمه به. وقد يعلمه ولا يخبر به.
فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم.
فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفةً لحكم الله ورسوله ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق بل انقسموا قسمين:- قسماً أفتى بالباطل، وقسماً سكت عن الحق. وهذا من المستحيل؛ فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعاً. ونحن نقول لمن خالف أقوالهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه.(8/362)
10-أن قوله تعالى:- {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج 78] .
فأخبر تعالى أنه اجتباهم.
والاجتباء:- كالاصطفاء - وهو افتعال. من اجتبى الشيء يجتبيه. إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه ( [99] ) .
فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين. ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده. فيبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبة والعبودية ويختاروه وحده إلهاً محبوباً على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم. فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم. فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه وآثرهم بذلك على من سواهم
ثم أخبرهم تعالى أنه يسر عليهم دينه غاية التيسير ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم. ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام. فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره.
ثم أخبر تعالى أنه نوه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسماهم عباده المسلمين قبل أن يظهرهم ثم نوه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناءً بهم ورفعةً لشأنهم وإعلاءً لقدرهم. ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس. فيكونون مشهوداً لهم بشهادة الرسول، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم. فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين.(8/363)
والمقصود أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم. - والله المستعان -.
11- قوله تعالى:- {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران 101]
فنقول الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله. فهم مهتدون. فاتباعهم واجب.
أما المقدمة الأولى فتقريرها في قوله تعالى:- {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج 78] – ونحوها من الآيات - ومعلوم كمال تولى الله تعالى ونصره إياهم أتم نصره. وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام فهم مهديون بشهادة الرب لهم بلا شك. واتباع المهدي واجب شرعاً وعقلاً وفطرةً بلا شك.
وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه.
12- قوله تعالى:- عن أصحاب موسى – {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة 24] .
فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم؛ إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. فإن الداعي إلى الله تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة وكف النفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته. فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى.(8/364)
ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى. فهم أكمل يقيناً وأعظم صبراً من جميع الأمم. فهم أولى بمنصب هذه الإمامة. وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم وثنائه عليهم وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون وأنهم خيرة الله وصفوته. ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق ويظفر به المتأخرون. ولو كان هذا ممكناً لانقلبت الحقائق. وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم وهذا كما أنه محالٌ حساً وعقلاً فهو محال شرعاً.- وبالله التوفيق -.
13- قوله تعالى:- {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً} [الفرقان 74] .
وإمام بمعنى: قدوة ( [100] ) . وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة والأسوة.
وقد قيل:هوجمع آمم ( [101] ) كصاحب وصحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار.
وقيل: هو مصدر ( [102] ) كقتال وضراب أي ذوي إمام.
والصواب:- الوجه الأول. فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم؛ لأنهم قدوة القدوة بعد رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق ويظفر به المتأخرون.
والتقوى واجبة، والائتمام بهم واجب. ومخالفتهم فيما أفتوا به مخالف للائتمام بهم.
وإن قيل:- نحن نأتم بهم في الاستدلال وأصول الدين.
فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية.
ثانياً:- الأحاديث النبوية ( [103] ) :
لقد وردت أحاديث كثيرة تحض على الاقتداء بالصحابة على وجه العموم وعلى وجه الخصوص أيضاً، إلا أنه ينبغي التنبيه على أن القول بحجية قول الصحابي لا يعني أبداً القول بعصمتهم بل هم بشر يصيبون ويخطئون، إلا أن خطأهم أقل من خطأ غيرهم بكثير، كما أن إصابتهم للحق أكثر من إصابة غيرهم ممن جاء من بعدهم.(8/365)
وينبغي – أيضاً – أن يستحضر القارئ حين قراءته لهذا المبحث أن المراد بحجية قول الصحابي: هو ما أثر عن الصحابة أو أحدهم من قول أو فعل أو فتيا ولم يعلم له مخالف في ذلك بل لم ينقل إلينا إلا قوله أو فعله أو فتياه.
ومما ينبغي استحضاره – أيضاً – أن الحجة في قول الصحابي ليست في قوله لذاته؛ بل لأن الشارع ضمن حفظ الحق أبداً إلى أن تقوم الساعة، وأنه لا يخلي عصراً من العصور منه، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9] . فلو قال الصحابي قولاً ولم يكن صواباً بل الصواب في غيره ولم ينكره عليه أو يخالفه فيه أحد ممن عاصره حتى انقضى ذلك العصر، ثم جاء من بعده فقال بخلاف قوله لكان ذلك العصر قد خلا من ناطق بالحق، بل كانوا مطبقين على الباطل، فهذا هو الذي ينكر.
وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز لمن جاء بعدهم مخالفتهم أو مخالفة أحدهم إذا لم ينقل عن أحد ممن عاصره خلافه، كما لو اختلفوا – أعني الصحابة – على قولين لم يجز لمن جاء بعدهم إحداث قول ثالث خارجٍ عن القولين.
وكما قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً منها ما يأتي:-
1- ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة أنه قال:- (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ( [104] ) .(8/366)
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً. وذلك يقتضي تقديمهم في كل بابٍ من أبواب الخير. وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقاً. فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأوا هم لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن. ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لأن من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة. ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه. ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها.
فياسبحان الله أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة.-سبحانك هذا بهتان عظيم-.(8/367)
2- ما روى مسلم في صحيحه ( [105] ) من حديث أبي موسى الأشعري قال:- صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا. فخرج علينا. فقال:- (ما زلتم ههنا) . فقلنا:- يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال:- (أحسنتم وأصبتم) -ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء -. فقال:- (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) .
ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء.
ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم.
–وأيضاً - فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه. فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحرزاً لهم. وهذا من المحال.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - (إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح) ( [106] ) .
قال الحسن ( [107] ) :- قد ذهب ملحنا فكيف نصلح.
ووجه الاستدلال أنه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به. فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحاً لهم. وهذا محال.
يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام، فالصواب به صلاح الأنام. فلو أخطأوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه. فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحاً لهم.(8/368)
4- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وفي لفظ:- (فو الذي نفسي بيده) ( [108] ) . وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح فإذا كان مد أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند الله من مثل أحد ذهباً من مثل خالد وأضرابه من أصحابه – مع أنه رضي الله عنه هو منهم - فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبين المحال.
5- قول النبي صلى الله عليه وسلم:- (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً. فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً …) الحديث ( [109] ) . ومن المحال أن يحرم الله الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره ويعطيه من بعدهم في شئ من الأشياء.
6- حديث العرباض بن سارية قال:- وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة. ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل:- يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟
فقال:- (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة. وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلالة) ( [110] ) .
قال ابن القيم ( [111] ) :- (وهذا حديث حسن إسناده لا بأس به. فقرن سنة خلفائه بسنته. وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته. وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ. وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته. ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم؛ لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون. ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين) .(8/369)
كما يؤخذ من الحديث أنه إذا قال الصحابة قولاً أو أحدهم ثم خالفهم من لم يعاصرهم كان مبتدئاً لذلك القول ومبتدعاً له، فهو من محدثات الأمور فلا يجوز أتباعهم فيه.
7- حديث حذيفة قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. واهتدوا بهدي عمار. وتمسكوا بعهد ابن أم عبد) ( [112] ) .
قال الترمذي:- هذا حديث حسن غريب ( [113] ) .
ووجه الاستدلال به ما تقدم في تقرير المتابعة ( [114] ) .
8-حديث أبى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- (إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا) الحديث ( [115] ) .
فجعل الرشد معلقاً بطاعتهما فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما
9- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما:- (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما) ( [116] ) .
وفي لفظ (لو اجتمعتما ما عصيناكما) ( [117] ) .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يخالفهما ولا يعصيهما لو اتفقا. ومن يقول:- قولهما ليس بحجة. يجوز مخالفتهما وعصيانهما.
10- أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر وعمر فقال:- (هذان السمع والبصر) ( [118] ) .
أي هما مني منزلة السمع والبصر، أوهما من الدين بمنزلة السمع والبصر.
ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما، وأيضا لخلا ذلك العصر من الحق بل كان أهله على الباطل، وهذا باطل.
11- ما رواه مسلم في صحيحه ( [119] ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (قد كان فيمن خلا من الأمم أناس مُحَدثَّون. فإن يكن في أمتي أحد. فهو عمر) .
والمُحدَّث ( [120] ) :هو المتكلم الذي يلقي الله في روعه الصواب. يحدثه به الملك عن الله.(8/370)
ومن المحال أن يختلف هذا ومن بعده – أي من لم يعاصره - في مسألة ويكون الصواب فيها مع المتأخر دونه؛ فإن ذلك يستلزم أن يكون ذلك الغير هو المُحدَثُ بالنسبة إلى هذا الحكم دون أمير المؤمنين رضي الله عنه. وهذا وإن أمكن في أقرانه من الصحابة فإنه لا يخلو عصرهم من الحق. إما على لسان عمر، وإما على لسان غيره منهم. وإنما المحال أن يفتي أمير المؤمنين المُحدث بفتوى أو يحكم بحكم ولا يقول أحد من الصحابة غيره ويكون خطأ ثم يوفق له من بعدهم فيصيب الحق ويخطئه الصحابة.
12-حديث عقبة بن عامر حيث قال:-سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:- (لو كان بعدي نبي لكان عمر - وفي لفظ - لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر) ( [121] ) .
قال الترمذي ( [122] ) :- حديث حسن.
ومن المحال أن يختلف من هذا شأنه ومن بعده من المتأخرين في حكم من أحكام الدين ويكون حظ عمر منه الخطأ وحظ ذلك المتأخر منه الصواب.
13- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود:- (اقرأ عليَّ) قال:- أقرأ وعليك أنزل. قال:- (إني أحب أن أسمعه من غيري) فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكف عبد الله بن مسعود. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم فحمد الله وأثنى عليه في أول كلامه وأثنى على الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق وقال:- (رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً ورضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) ( [123] ) .
ومن قال ليس قوله بحجة وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف له لم يرض للأمة ما رضيه لهم ابن أم عبد ولا ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
14- ما قاله عبادة بن الصامت وغيره:- (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم) ( [124] ) .(8/371)
ونحن نشهد بالله أنهم وفوا بهذه البيعة وقالوا بالحق وصدعوا به ولم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يكتموا شيئاً منه مخافة سوط ولا عصاً ولا أمير ولا وال كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم.
فمن المحال أن يوفق هؤلاء للصواب ويحرمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
15- ما ثبت في الصحيح ( [125] ) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى المنبر فقال:- (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله) .فبكى أبو بكر. وقال:- بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا لبكائه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل خير. فكان المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر أعلمنا به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:- (إن أَمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر) ( [126] )
ومن المعلوم أن فوت الصواب في الفتوى لأعلم الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وظفر فلان وفلان من المتأخرين بهذا من أمحل المحال.
ومن لم يجعل قوله حجة يجوز ذلك. بل يحكم بوقوعه.- والله المستعان -.
16-حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:- (بينما أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن. فقيل لي:- اشرب فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلتي عمر. قالوا:- فما أولت ذلك. قال:- العلم) ( [127] ) .
ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أو حكم لا يعلم أن أحداً من الصحابة خالفه فيه وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادة.
17-حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً. فقال:- (من وضع هذا؟ قالوا:- ابن عباس. فقال:- (اللهم فقهه في الدين) ( [128] ) .(8/372)
وقال عكرمة:- قال ابن عباس:- ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:- (اللهم علمه الحكمة) ( [129] ) ومن المستبعد جداً بل الممتنع أن يفتي حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة مستجابة قطعاً أن يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة، ولا يخالفه فيها أحد من الصحابة ويكون فيها على خطأ، ويفتى واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه ويكون الصواب معه فيظفر به هو ومقلدوه ويحرمه ابن عباس والصحابة.
18- أنهم إذا قالوا قولاً أو بعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتدئاً لذلك القول ومبتدعاً له. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:- (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة) ( [130] ) .
وقول من جاء بعدهم يخالفهم فهو من محدثات الأمور، فلا يجوز أتباعه.
ثالثاً: الآثار السلفية ( [131] ) :-
لقد نُقلت عن أئمة السلف من الصحابة وتابعيهم نقول قولية وعملية كثيرة، دالة على تعظيم الصحابة وتعظيم أقوالهم وأفعالهم وسيرهم وتحض في الوقت نفسه على اقتفاء جميع ما أُثر عنهم.
أ-الآثار المروية عن الصحابة في ذلك:-
لقد جاءت آثار كثيرة عن الصحابة –رضي الله عنهم - تدل على شهرة الاحتجاج بأقوال الصحابة السابقين في المسائل التي ليس فيها دليل من الكتاب أو السنة أو اتفاق سابق.
بل في هذه الآثار حض للتابعين لهم للعمل بذلك.
وإليك – أخي القارئ – بعضاً منها:-
1- ما كتبه عمر رضى الله عنه إلى أهل الكوفة جاء فيه:- (قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي) ( [132] ) .
فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود ويسمعوا قولهما.(8/373)
ومن لم يجعل قولهما حجة يقول لا يجب الإقتداء بهما ولا سماع أقوالهما إلا فيما أجمعت عليه الأمة ومعلوم أن ذلك لا اختصاص لهما به بل لا فرق فيه بينهما وبين غيرها من سائر الأمة.
2- ما قاله عمر بن الخطاب لطلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهما- حينما رآه لابساً ثوباً مصبوغاً وهو محرم:- (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ... ) ( [133] )
3- قول علي – رضي الله عنه –:- (ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر) ( [134] ) .
ومن المحال أن يكون من بعده من المتأخرين أسعد بالصواب منه في أحكام الله تعالى.
4- قول ابن مسعود رضى الله عنه:- (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد. فاختار محمداً؛ فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه. ثم نظر في قلوب الناس بعده. فاختار له أصحابه، فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم. فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن. وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح) ( [135] ) .
ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظفر به من بعدهم.
وأيضاً - فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم، فإما أن يكونوا قد رأوه حسناً أو يكونوا قد رأوه قبيحاً. فإن كانوا قد رأوه حسناً، فهو حسن عند الله. وإن كانوا قد رأوه قبيحاً ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد، وكان من أنكره بعدهم خيراً منهم وأعلم. وهذا من أبين المحال.
5- وقوله – أيضاً -:- " من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً. قوم اختارهم الله لصحبه نبيه. وإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم. واتبعوا آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" ( [136] ) .(8/374)
ومن المحال أن يحرم الله أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم.
6- وقوله:- (ما رأيت عمر إلا وكأن بين عينيه ملكا يسدده) ( [137] ) .
ومعلوم قطعاً أن من كانت هذه حاله فهو أولى بالصواب ممن ليس كذلك.
7-وقوله ( [138] ) :-اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلالة.
8-وقوله ( [139] ) :- أيضاً - إنا نقتدي ولا نبتدي. ونتبع ولا نبتدع. ولن نضل ما تمسكنا بالأثر.
9-وقوله ( [140] ) :- أيضاً - إياكم والتبدع. وإياكم والتنطع. وإياكم والتعمق. وعليكم بالدين العتيق.
10- وقوله ( [141] ) :- أيضاً - أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال؛ أمور تكون من كبرائكم فأيما مُرَيَّةٌ أو رُجَيِّلٌ أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول. فأنا اليوم على السنة.
11- قول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:- " اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً.
ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً " ( [142] ) .
ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق.
12- ما قاله جندب بن عبد الله لفرقه دخلت عليه من الخوارج فقالوا:- ندعوك إلى كتاب الله. فقال:- أنتم. قالوا:- نحن. قال:- أنتم. قالوا:- نحن. فقال:- يا أخابيث خلق الله. في اتباعنا تختارون الضلالة أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى. أخرجوا عني ( [143] ) .
ومن المعلوم أن من جوز أن تكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم. وقد دعاهم إلى كتاب الله؛ فإن كتاب الله إنما يدعو إلى الحق. وكفى ذلك إزراء على نفوسهم وعلى الصحابة.(8/375)
13- حديث أبى ذر –رضي الله عنه - حيث قال:- مر فتى على عمر - رضي الله عنه - فقال عمر:- نعم الفتى. قال:- فتبعه أبو ذر. فقال:- يا فتى استغفر لي. فقال:- يا أبا ذر استغفر لك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:- استغفر لي قال:- لا أو تخبرني. قال:- إنك مررت على عمر فقال:- نعم الفتى. وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:- (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) ( [144] )
ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها من جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظه ولا ينكره عليه أحد من الصحابة ويكون الصواب فيها حظ من بعده.
هذا من أبين المحال.
14- ما رواه الأعمش عن شقيق قال:- (قال عبد الله:- والله لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر) . فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي. فقال:- (قال عبد الله:- والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم) ( [145] ) .
ومن أبعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شئ من الأشياء.
15- ما رواه زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال:- (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- الأنصار منا أمير ومنكم أمير. فأتاهم عمر قال:- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم الناس. قالوا:- بلى. فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر. فقالوا:- نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر) ( [146] ) .
قال ابن القيم ( [147] ) – رحمة الله عليه -:- (ونحن نقول لجميع المفتين أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلدتموه بغيرها، ولا سيما من قال من زعمائكم إنه يجب تقليد من قلدناه ديننا ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق رضى الله عنه.
اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك ونعوذ بك أن نطيب به نفساً) انتهىكلامه.(8/376)
16- قول علي ( [148] ) :-رضي الله عنه - لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته.
فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأمة قائم بالحق في ذلك الحكم؛ لأنهم بين ساكت ومخطئ. ولم يكن في الأرض قائم لله بحجة في ذلك الأمر. ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر حتى نبغت نابغة فقامت بالحجة وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر.
وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع.
17- ما رواه ابن عيينة عن عبد الله بن أبى يزيد قال:- كان ابن عباس إذا سئل عن شئ وكان في القرآن أو السنة قال به. وإلا قال بما قال به أبو بكر وعمر. فإن لم يكن قال برأيه ( [149] ) .
فهذا ابن عباس واتباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف حتى إنه يخالف لما قام عنده من الدليل أكابر الصحابة يجعل قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول الله ورسوله ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة.
18-وقال ابن عباس ( [150] ) :- عليك بالاستقامة، اتبع ولا تبتدع، اتبع الأثر الأول ولا تبتدع.
وما نقل عن واحد من الصحابة من قول أو فعل – ولم يكن ثمة غيره - أثر يجب اتباعه.
19-قيل لعلي رضي الله عنه حينما دخل الكوفة:- أنزل بالقصر الأبيض. فقال ( [151] ) : (لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك) فنزل في الرحبة.
20-قال ابن عباس ( [152] ) للخوارج حين ناظرهم:- (جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله) .
ب - الآثار المنقولة عن التابعين في ذلك:-
لقد كثرت النقول عن التابعين كثرة يصعب حصرها في الحض على اتباع الصحابة في جميع شؤونهم وذلك بالرجوع إلى أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وسيرهم للاهتداء والاقتداء بها، معتبرةً قول الواحد من الصحابة حجةً يصار إليها.(8/377)
ولكثرتها – كما قلت – حكى بعض العلماء الإجماع على أن التابعين يرون حجية قول الصحابي كما سيأتي-إن شاء الله -.وسأقتصر على أوضحها دلالة،فمن ذلك:-
1-قول شريح ( [153] ) :- إنما اقتفي الأثر، فما وجدت في الأثر حدثتكم به.
2-قول إبراهيم النخعي ( [154] ) :- لو بلغني أنهم - يعنى الصحابة - لم يجاوزوا بالوضوء ظفراً لما جاوزته به. وكفى بنا على قوم إزراءً أن نخالف أعمالهم.
3-وقوله ( [155] ) – أيضاً -: لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسحوا على ظفر لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم.
4-ما كتبه عمر بن عبد العزيز ( [156] ) إلى بعض عماله حيث قال:- أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما قد جرت به سنته، وكفوا مؤونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها. فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، وأعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق والحمق.فإن السابقين عن علم وقفوا وببصر نافذ قد كفوا وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا.
5-وقوله ( [157] ) :- أيضاً - قف حيث وقف القوم. وقل كما قالوا. واسكت كما سكتوا؛ فإنهم عن علم وقفوا. وببصر ناقد كفوا. وهم على كشفها كانوا أقوى. وبالفضل لو كان فيها أحرى. فإنهم السابقون ولئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث بعدهم حدث فما أحدثه إلا من خالف سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفى فما دونهم مَقصر ولا فوقهم محسر. ولقد قصر عنهم أقوام فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا. وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.(8/378)
6-وقوله ( [158] ) - أيضاً –:- سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاة الأمر بعده سننا. الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دينه.ليس لأحد تغييرها،ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها. فمن اقتدى بما سنوا اهتدى. ومن استنصر بها نصر. ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
قال الشاطبي ( [159] ) عن هذا القول: - (ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكاً جداً ….. وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة) .
7-قول الأوزاعي ( [160] ) :- عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم.
8-وقوله ( [161] ) –أيضاً -:- اصبر نفسك على السنة. وقف حيث وقف القوم. وقل بما قالوا وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم … ولو كان هذا خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم؛ وإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم الله وبعثه فيهم، ووصفهم بما وصفهم به. فقال:- {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآية [الفتح 29]
9-قول الشعبي ( [162] ) :- ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه. وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش.
أقول:- مما سبق نقله من آثار وغيرها حكى العلائي إجماع التابعين على الاحتجاج بقول الصحابي فقال ( [163] ) : - (والوجه السادس: وهوالمعتمد: أن التابعين أجمعوا على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم، والأخذ بقولهم، والفتيا
به، من غير نكير من أحد. وكانوا من أهل الاجتهاد أيضاً.(8/379)
قال مسروق: وجدت علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ستة: عمر وعلي وأُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وقال -أيضاً -: كان أصحاب القضاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ستة: عمر وعلي وعبد الله وأُبيّ وزيد وأبو موسى رضي الله عنهم.
قال الشعبي: كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر وعلي وعبد الله وزيد بن ثابت يشبه بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض.
وكان علي وأبو موسى وأُبيّ بن كعب يشبه علم بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض.
وقال علي بن المديني: لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. ثم ذكر أصحاب كل واحد منهم من التابعين الذين كانوا يفتون الناس بقول ذلك الصحابي.
ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصحابي فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع.
ثم هذا مشهور –أيضاً– في كل عصر لا يخلو عنه مستدل بها، أو ذاكر لأقوالهم في كتبه) انتهى بحروفه.
ويؤيد ما ذكره العلائي ما قاله ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين ( [164] ) حيث قال: (إنه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله في فتاوى الصحابة وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم. وتصانيف العلماء شاهدة بذلك ومناظرتهم ناطقة به.(8/380)
قال بعض علماء المالكية:- أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله. وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به ولا نصبه دليلاً للأمة فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة ووجدت ذلك طرازها وزينتها. ولم تجد فيها قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة.ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم ولا ما يدل على ذلك.
وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظاً ومعنىً قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التأويل، وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم.
قال جابر:- كنا نعزل والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله فما عمل به من شئ عملنا به. في حديث حجة الوداع؛ فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره.
فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال) انتهى كلامه.(8/381)
ويؤيد ما سبق – أيضاً- ما ذكره الشاطبي ( [165] ) حيث قال:- (وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم في الشريعة، وأنهم مما تجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه) .
رابعاً:- المعقول ( [166] ) :- وذلك بأن يقال:
إن الصحابي إذا قال قولاً أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنا ومدارك نشاركه فيها.
فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شفاها أومن صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع. وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه؟ فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث ( [167] ) وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيْ من مشاهده بل صحبه من حين بعث بل قبل البعث إلى أن توفي وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته، وكذلك أَجِلَّة الصحابة روايتهم قليلة جداً بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافاً مضاعفةً ( [168] ) فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين ( [169] ) وقد روى عنه الكثير ( [170] ) .
إلا أنهم كانوا يتمثلون سنة المصطفى عليه السلام أتم تمثل وامتثال فكانت أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم بمثابة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعملون بكل بما علموا.(8/382)
قال أبو عبد الرحمن السلمي ( [171] ) :- (أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن فكنا نتعلم القرآن والعمل به وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم) .
يوضح ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه ( [172] ) وعبد الرزاق في مصنفه ( [173] ) في قصة صلح الحديبية حيث جاء فيها قول المسور بن مخرمة رضي الله عنه:- (ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
بعينيه. قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر؛ تعظيماً له) الحديث.
وعن ابن سيرين قال: - (كنت مع ابن عمر بعرفات، فلما كان حين راح رحت معه، حتى أتى الإمام فصلى معه الأولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لي حتى أفاض الإمام فأفضنا معه، حتى انتهى إلى المضيق دون
المأزمين، فأناخ، فأنخنا، ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته) ( [174] )
قال أنس بن مالك ( [175] ) رضي الله عنه: - (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم – فعسى أن يكون قال: ستين رجلاً – فيحدثنا الحديث، ثم يدخل، فنتراجعه بيننا، هذا ثم هذا، فنقوم كأنما زُرِع في قلوبنا)
وعن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال:- (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا، حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا) ( [176] )(8/383)
فقول القائل:- لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره.
قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم. فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ( [177] ) ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مراراً ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( [178] ) .
فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه:-
أحدها:- أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني:- أن يكون سمعها ممن سمعها منه.
الثالث:- أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهماً خفي علينا.
الرابع:- أن يكون قد اتفق عليها ملؤُهُم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.
الخامس:- أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله الفعل فيكون فهم ما لا نفهمه نحن.
وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة بجب اتباعها.
السادس:- أن يكون فهم ما لم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في فهمه. والمراد غير ما فهمه.
وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة.
ومعلوم قطعاً أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين هذا ما لا يشك فيه عاقل. وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب. والعمل به متعين. ويكفى العارف هذا الوجه.
قلت: هذا الوجه وإن كان وقوعه عقلاً مُمكِناً إلا أنه مما لا يجوز وقوعه -ولم يقع - شرعاً لمخالفته قول الحق تبارك وتعالى:- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9] .(8/384)
فلو وقع لنصب الله عليه دليلاً – كأن ينكره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من صحابته -يبين بطلانه لئلا تعمل الأمة بالضلال وتعتقد الباطل طيلة المدة السابقة حتى جاء المتأخرون فزيفوه واهتدوا للحق الذي خفي على أولئك الكرام، ومجرد تصوره يكفي للحكم ببطلانه.
أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوباً، وأعمق علماً، وأقل تكلفاً، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى.
فالعربية:- طبيعتهم وسليقتهم.
والمعاني الصحيحة:- مركوزة في فطرهم وعقولهم.
ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل.
ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين.
بل قد غنوا عن ذلك كله.
فليس في حقهم إلا أمران:-
أحدهما:- قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.
والثاني:- معناه كذا وكذا.
وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما. فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما.
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة.
فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة.
والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة.
وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة.
وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور.
فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية - إن كان لهم همم تسافر إليها - وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة.(8/385)
وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها ثم صار إليها وافاها بذهن كالٍ، وقوة ضعيفة، وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة تضعف قوته عند العمل المشروع. كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني فإذا جاءه قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالة وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه فإذا طالب قلبه بمحبة الله فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره. فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس فإذا جاء إلى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالة فأعطي بحسب ذلك.
والمقصود أن الصحابة أغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط.
هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان، وصفائها، وصحتها، وقوة إدراكها وكماله، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية.
فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟
ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم. -والله المستعان-.
خامساً: ومما يدل على حجية قول الصحابي ما ذهب إليه جمهور العلماء – ومنهم الأئمة الأربعة - من أنه إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث بعدهم ( [179] ) كما لو أجمعوا على قول واحد؛ فإنه يحرم إحداث قولٍ ثانٍ.
فقول الصحابي – الذي لم يشتهر أو لم يعلم اشتهاره من عدمه – ليس هو حينئذ أقل حالاً أو شأناً في الاحتجاج به، وعدم مخالفته من عدم جواز إحداث قول ثالث حين اختلافهم على قولين معلومين.(8/386)
سادساً: ومما يدل – أيضاً – على حجية قول الصحابي اتفاق العلماء قاطبة على أن البدعة هي ( [180] ) :- كل ما أحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التقرب إلى الله، ولم يكن قد فعلها الرسول ولا أمر بها، ولا أقرها، ولا فعلتها الصحابة.
ومن هذا – وأمثاله - يظهر جلياً أن فعل الصحابي لشيء أو قوله به يجعله حجة، إذ لو لم يكن حجة كان بدعةً - ولا قائل بهذا من أهل العلم والهدى -، وإذا لم يكن قوله بدعةً فهو موافق للشرع، وهذا هو المطلوب.
خاتمة البحث:
أحمد الله جل جلاله على جميع نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، كما أحمده وأشكره على أن يسر لي إتمام هذا البحث والذي أسأله جلّ في علاه أن ينفعني به في الدنيا والأخرى وأن يجعله موضع قبول عند كل من قرأه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا....
وقد توصلت – ولله الحمد – إلى نتائج طيبة أثناء بحثي في هذه المسألة أجمل أهم نتائجها فيما يأتي:-
1- نقلت تسعةً وعشرين أثراً مروياُ عن الصحابة والتابعين كلها تدل على أنهم كانوا يرون حجية قول الصحابي، حتى أن بعض أهل العلم حينما رأى ذلك حكى الإجماع فيها.
2-توصلت إلى أن الأئمة الأربعة من أصولهم الفقهية الاحتجاج بقول الصحابي مطلقاً، وقررت تلك الحقيقة بالرجوع إلى أقوال الأئمة في مؤلفاتهم الأصيلة أو ما نقل عنهم بواسطة تلاميذهم الذين أخذوا عنهم العلم مباشرة، أو الذين أصبحوا أئمة في مذاهبهم.
3-كما توصلت –أيضاً - إلى أن كثيراً ممن كتب في المسألة لم يحرر أقوال الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى - تحريراً صحيحاً بل أحياناً ينسب إلى بعضهم أقوالاً غير صحيحة لا تتناسب مع ما اشتهر عنه، وأحياناً تعارض وتخالف ما نص عليه الإمام في آخر ما كتبه كما هو الحال مع الشافعي رحمه الله تعالى.(8/387)
وبعض المنتسبين للأئمة خرَّج لهم أقوالاً غير ما نقله أئمة المذهب المتقدمين عنهم -مع العلم بأن الإمام لم يُنقل عنه إلا قول واحد - أخذاً من تصرفات الإمام في بعض المسائل المروية عنه كما هو الحال مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
4-توصلت إلى أن من كتب في هذه المسألة قد غفل غفلةً عظيمةً عن أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف أن ذلك القول هو فهم الصحابة –رضي الله عنهم – كما دلّ عليه قوله تعالى:- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9] إذ لو لم يكن ذلك القول موافقاً للذكر لما تكفل الله بحفظه، وعلى زعم المخالف يكون الأمر بالعكس، حيث حفظ الله الباطل بنقله وترك الحق فلم ينقله إلينا؛ وحينئذٍ فقد وصل إلينا الباطل ولم يصل إلينا الحق بل اندثر باندثار ذلك الجيل المعاصر لذلك الصحابي، وهذا باطل.
وعليه: فإني أظن أن المسألة هذه لما أُخذت بمعزل عن النظر في هذه الآية بهذه الطريقة توصل من توصل إلى القول بعدم حجية قول الصحابي.
5-كما توصلت إلى أن أكمل البحوث في هذه المسألة – من حيث الأدلة والمناقشة - هو ما قام به الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم أعلام الموقعين عن رب العالمين (4/118-153) .
وأما من حيث تقسيم المسألة والاستدلال لكل قسم فهو العلائي الشافعي في كتابه إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، إلا أن ابن القيم أشمل منه وأكمل.
6- توصلت إلى أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف أن ذلك القول هو الحق، إذ لو كان قول ذلك الصحابي خطأً محضاً وباطلاً لنصب الله جل وعلا له من الصحابة من يخالفه لئلا ينقلب الباطل حقاً فيُعمل بالباطل في ذلك العصر وما بعده من العصور حتى جاء المتأخر فبين خطأه وبطلانه، ولكونه مخالفاً لقوله تعالى:- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9] فلو لم يكن ذلكم القول حقاً لما حُفظ ولما نُقل إلينا إذ لو كان ثمة غيره لنقل - أيضاً- للآية.(8/388)
فهل يهدي الله الأوائل للعمل بالحق الذي لم يُنقل إلينا، ويُضل الأواخر فتعمل بالباطل الذي نقل إليها؟! أقول: ليس هذا من حكمة الله وعدله ورحمته.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الهوامش والتعليقات
---
( [1] ) انظر: المسائل المشتركة (5-7) .
( [2] ) انظر: كتاب أصول الفقه الإسلامي لبدران (15) وأصول الفقه للبرديسي (12) وأصول الفقه تاريخه ورجاله (36-37)
( [3] ) انظر: الأعلام (3/273) .
( [4] ) انظر: الفتح المبين (1/221-222) .
( [5] ) انظر: المصدر السابق (1/237) .
( [6] ) انظر: المصدر السابق (1/260-262) .
( [7] ) انظر: المصدر السابق (2/8-10) .
( [8] ) انظر: المصدر السابق (2/47-49) .
( [9] ) انظر: المصدر السابق (2/57-58) .
( [10] ) انظر: انظر: المصدر السابق (2/86-87) .
( [11] ) انظر: انظر: المصدر السابق (2/88) .
( [12] ) انظر: لسان العرب (1/519) المعجم الوسيط (1/507)
( [13] ) انظر: كتاب أصول الفقه الإسلامي لبدران (17) وأصول الفقه للبرديسي (15) وأصول الفقه تاريخه ورجاله (35) .
( [14] ) انظر: إعلام الموقعين (2/306 –307) .
( [15] ) انظر: الفتح المبين (1/182-183) .
( [16] ) انظر: المصدر السابق (1/236) .
( [17] ) انظر: الفتح المبين (2/108) وأبجد العلوم (3/119) .
( [18] ) انظر: الفتح المبين (2/188) وتاج التراجم (223-224) .
( [19] ) انظر: تاج التراجم (276-277) والفتح المبين (2/201) .
( [20] ) انظر: كتاب أصول الفقه الإسلامي لبدران (18-19) وأصول الفقه للبرديسي (18-20) وأصول الفقه تاريخه ورجاله (38-40) .
( [21] ) انظر: الفتح المبين (3/36-39) .
( [22] ) انظر: الأعلام (6/41) ومعجم المؤلفين (9/80) .
( [23] ) انظر: كتاب أصول الفقه الإسلامي لبدران (11) وأصول الفقه للبرديسي (9) وأصول الفقه تاريخه ورجاله (26) .
( [24] ) انظر: الكفاية للخطيب البغدادي (49) .(8/389)
( [25] ) انظر: شرح السنة (54) .
( [26] ) رواه الترمذي في سننه (5/26-27) برقم 2641 والحاكم في المستدرك (1/128-129) والبغوي في شرح السنة (1/213) وانظر: تعليق الشيخ العلامة الألباني –رحمه الله – عليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/356-367) رقم 203، 204.
( [27] ) انظر: لسان العرب (1/519) المعجم الوسيط (1/507) .
( [28] ) في صحيحه (4/188) وانظر: -أيضاً - فتح المغيث (4/77) .
( [29] ) انظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/ 243) وفتح الباري (7/ 5) وفتح المغيث (3/86) .
( [30] ) انظر: كتاب تحقيق الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة (30، 35) والكفاية للخطيب (51) .
( [31] ) انظر: تعريف الصحابي اصطلاحاً عند المحدثين في: الباعث الحثيث (179) ونزهة النظر (55) والإصابة (1/10) وتدريب الراوي (1/208-212) وقواعد التحديث (200) والمقنع في علوم الحديث (2/491) وعلوم الحديث لابن الصلاح (263) .
( [32] ) انظر: (171) .
( [33] ) انظر: المقنع في علوم الحديث (2/497) وقال الشافعي: (روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه من المسلمين نحو من ستين ألفاً) . انظر: الباعث الحثيث (185) .
( [34] ) انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/172) والإحكام للآمدي (2/82) وحاشية الجلال المحلي على جمع الجوامع وتعليق البناني عليه (2/165-166) وفتح الغفار (2/94) وفواتح الرحموت (2/158) وارشاد الفحول (62) وتيسير التحرير (3/66-67) وكشف الأسرار للبخاري (2/384) وقواطع الأدلة (2/486) والمقنع في علوم الحديث (2/491) وعلوم الحديث لابن الصلاح (293) وفتح المغيث (3/86) ومخالفة الصحابي للحديث (31-66) وقول الصحابي وأثره في الفقه الإسلامي (16-19) وقول الصحابي وأثره في الأحكام الشرعية (1-2) ومناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم (12) وحجية قول الصحابي (1-11) .(8/390)
( [35] ) وما يروى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. لا يصح عنه لأن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي وهوضعيف في الحديث. انظر: - التقييد والإيضاح (283) .
( [36] ) انظر: أصول الفقه الإسلامي له (32-35) وانظر: - أيضاً - أصول الفقه للبرديسي (31-32) .
( [37] ) انظر: (4/1962) .
( [38] ) انظر: مجموع الفتاوى (20/298) .
( [39] ) انظر: المصدر السابق (4/ 464-465) .
( [40] ) رواه مسلم في كتاب الإيمان (1/115-116) .
( [41] ) رواه الحاكم في المستدرك (3/ 632) وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
( [42] ) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 63، 96) وقال عنه الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع الصغير وزيادته (8) : ضعيف.
( [43] ) جمع:كتد والكتد -بفتح التاء وكسرها - مجتمع الكتفين، وهو الكاهل.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/149) .
( [44] ) رواه البخاري في صحيحه (4/225) .
( [45] ) رواه البخاري في صحيحه (4/157) .
( [46] ) رواه الحاكم في مستدركه (3/440) وأبوداود في سننه (4/212) والترمذي في سننه (5/651) وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
( [47] ) انظر:- قول الصحابي في التفسير الأندلسي (18) وقول الصحابي وأثره في الأحكام الشرعية (23) وإتحاف ذوي البصائر (4/259) .
( [48] ) انظر: الموافقات (4/4،7) .
( [49] ) انظر هذه المسألة في: المعتمد (2/66) والإحكام لابن حزم (4/615) وإحكام الفصول (407) والبرهان (1/699) والمستصفى (1/271) والتمهيد لأبي الخطاب (3/324) وبيان المختصر (1/576) وكشف الأسرار للبخاري (3/229) وشرح الكوكب المنير (2/212) ، (4/422) وإرشاد الفحول (74) .
( [50] ) ذكره الصيمري في كتابه أخبار أبي حنيفة وأصحابه (10) .(8/391)
( [51] ) انظر: كتاب شرح أدب القاضي (1/185-187) .
( [52] ) انظر: كتاب ذم الكلام وأهله (5/207) .
( [53] ) انظر: المصدر السابق.
( [54] ) انظر: كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه (10 –11) .
( [55] ) انظر: تاريخ بغداد (13/339-340)
( [56] ) انظر: كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه (11) .
( [57] ) انظر: المصدر السابق (13) .
( [58] ) انظر: كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه (50-51) .
( [59] ) انظر: إعلام الموقعين (4/123) .
( [60] ) كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي اليسر وسعيد البردعي وأبي بكر الرازي والسرخسي والبزدوي والنسفي والسمرقندي وعبد العزيز البخاري وغيرهم.
انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/217) وكشف الأسرار للنسفي (2/174) وميزان الأصول (481، 485) وأصول السرخسي (2/105، 108) وتيسيرالتحرير (3/132) .
( [61] ) انظر: شرح تنقيح الفصول (445) والإشارة في أصول الفقه للباجي (250) وشرح الكوكب الساطع (2/453) ونثر الورود على مراقي السعود (2/572-573) ونشر البنود (258) وكشف الأسرار للبخاري (3/217) وروضة الناظر (2/525) والبحر المحيط (6/54) ومفتاح الوصول للتلمساني (203) .
( [62] ) نص على ذلك ابن القيم –رحمه الله– في كتابه إعلام الموقعين (4/120) بل قال فيه (1/33) (وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس) .
( [63] ) انظر: (4/80) .
( [64] ) انظر: (215) .
( [65] ) انظر: كتاب الأم (7/265) والبحر المحيط (6 / 55، 60) والمحصول (2/564) وقواطع الأدلة (3/290) والإحكام للآمدي (4/130) والبرهان (2/1362) .
( [66] ) انظر: (7/265) .
( [67] ) وقد نقل هذا الكلام بعينه كل من البيهقي في المدخل إلى السنن (109- 110) والزركشي في البحر المحيط (6/55) .
( [68] ) انظر: إعلام الموقعين (4/122) .
( [69] ) انظر: المدخل إلى السنن الكبرى (110-111) .
( [70] ) انظر: المصدر السابق.(8/392)
( [71] ) انظر: إعلام الموقعين (4/ 122) .
( [72] ) انظر: المصدر السابق.
( [73] ) انظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/367) .
( [74] ) انظر: المصدر السابق.
( [75] ) أقول: لقد اجتهدت في البحث عن أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى فوجدتهم جميعاً ينصون بصريح القول على حجية قول الصحابي. ثم وجدت من ينتسب إليهم يترك هذا الصريح المحكم ويتمسك بما تشابه من أقوالهم وأفعالهم – وهو قليل جداً ولو لم تكن متعارضة – فيعتبر ذلك مسوغاً له في أن يحكي عنهم أو عن أحدهم القولين أو الثلاثة، بل وأكثر من ذلك، مما يزيد الطين بلة. ولو أنهم أرجعوا المتشابه من كلام الأئمة إلى محكمه لكان خيراً لأولئك ولمن جاء بعدهم.
( [76] ) انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (115- 116) والمسودة (300-301) وإعلام الموقعين (1/30) والعدة لأبي يعلى (4/1181) وأصول مذهب الإمام أحمد (435-436) وبدائع الفوائد (4/32) .
( [77] ) انظر: أصول مذهب الإمام أحمد (336-339) .
( [78] ) انظر: (2/165) .
( [79] ) انظر: (78) .
( [80] ) انظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/241) .
( [81] ) انظر: إعلام الموقعين (4/ 123) .
( [82] ) انظر: المعتمد (2/71) والبرهان (2/1358) وأصول السرخسي (2/105) وأصول الجصاص (3/361) والمستصفى (1/260) والمنخول (474-475) والتمهيدلأبي الخطاب (3/330-333) وروضة الناظر بتحقيق النملة (2/525) والمحصول (2/562) والإحكام للآمدي (4/130) والتحصيل (2/319) والبحر المحيط (6/54) وحاشية العضد (2/287) وبيان المختصر (3/275) وكشف الأسرار للبخاري (3/217،229) وتيسير التحرير (3/133) وشرح المنهاج (2/771) وشرح تنقيح الفصول (445) والإبهاج (3/192) والمسودة (300-301) وشرح الكوكب المنير (4/422) وتخريج الفروع على الأصول (179) وفواتح الرحموت (2/186) وأثر الأدلة المختلف فيها (339) وقواطع الأدلة (3/289) .(8/393)
( [83] ) كالغزالي وأبي الخطاب والآمدي وابن الحاجب والرازي والبيضاوي وغيرهم.
انظر: - المستصفى (1/260) والإحكام (4/120) وبيان المختصر (3/275) والمحصول (2/562) وشرح المنهاج (2/771) والإبهاج (3/192) والبحر المحيط (6/54) وشرح الروضة للطوفي (2/185) .
( [84] ) انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/217) وشرح الروضة للطوفي (2/185) والبحر المحيط (6/54) .
( [85] ) انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/217) .
( [86] ) انظر: انظر: المصدر السابق.
( [87] ) انظر: قواطع الأدلة (3/294) وكشف الأسرار للبخاري (3/217) والبحر المحيط (6/59) والمنخول (474) .
( [88] ) انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/224)
( [89] ) انظر: هذه الأدلة والمناقشات التي فيها في كتاب ابن القيم –رحمه الله – إعلام الموقعين (4/123-153) فجميعها مُلَخَصَة مما ذكره.
( [90] ) انظر: -أيضاً - إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (57) .
( [91] ) وهذا باتفاق، وذلك مثل قوله تعالى:- (فاقتلوا المشركين) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله عليه السلام:- (مطل الغني ظلم) ونحو ذلك.
انظر: شرح الكوكب المنير (4/42-43) وجمع الجوامع مع حاشية البناني (2/244) ونشر البنود (2/136) ونثر الورد (2/471) .
( [92] ) رواه البخاري في صحيحه (5/ 9-10) في باب فضل من شهد بدراً.
( [93] ) انظر: شرح الكوكب المنير (3/112) وإجابة السائل (300) وجمع الجوامع مع حاشية البناني (1/405) .
( [94] ) انظر: تفسير ابن كثير (3/381) وفتح القدير (4/ 148) .
( [95] ) يوضحه: أن التلميذ الذي لازم شيخه مدة طويلة حضراً وسفراً يعلم من أحواله وأقواله وأفعاله ويعلم ما الذي يحبه ويرضيه ويعلم ما الذي يسخطه ويبغضه ويكرهه أكثر من غيره. والصحابة رضي الله عنهم لهم السبق مع رسولهم أكثر ممن سواهم في ذلك، فقد كانوا يعرفون من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رضاه وغضبه.(8/394)
( [96] ) وانظر: -أيضاً – إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (56) والموافقات (4/74) وما بعدها.
( [97] ) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 414) وفتح القدير (2/414) .
( [98] ) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه عنه مسلم في صحيحه (1/76) .
( [99] ) انظر: القاموس المحيط (1638) .
( [100] ) انظر: تفسير ابن جرير الطبري (19/53-54) وفتح القدير للشوكاني (4/89) القاموس المحيط (1392) والمعجم الوسيط (1/27) .
( [101] ) انظر: تفسير ابن جرير الطبري (19/53-54) وفتح القدير للشوكاني (4/89) .
( [102] ) انظر: المصدرين السابقين.
( [103] ) انظر: هذه الأدلة والمناقشات التي فيها في كتاب ابن القيم –رحمة الله – إعلام الموقعين (4/136-147) .
( [104] ) انظر: صحيح البخاري (4/189) باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
( [105] ) انظر: (4 / 1961) .
( [106] ) رواه البغوي في السنة (14/72-73) وابن المبارك في الزهد (200) حديث رقم (275) والرازي في علل الحديث (2/354) وأبو يعلى في مسنده (5/151) قال محققه: إسناده ضعيف.
( [107] ) انظر: المصادر السابقة.
( [108] ) رواه البخاري في صحيحه (4 / 191) .
( [109] ) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/ 483) .
( [110] ) رواه أبو داود (5/ 36) وأحمد في مسنده (5/ 220-221) وابن ماجة في سننه (1/15-16) والترمذي في سننه (5/44) .
( [111] ) انظر: إعلام الموقعين (4/139-140) والموافقات (4/76) .
( [112] ) رواه الترمذي في سننه (5/672) .
( [113] ) انظر: المصدر السابق.
( [114] ) انظر: (ص30) وما بعدها.
( [115] ) رواه مسلم في صحيحه (1/472) .
( [116] ) رواه أحمد في مسنده (4/227) .
( [117] ) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/438) وفي المعجم الأوسط (6/17) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/68) .
( [118] ) رواه الحاكم في المستدرك (3/69) وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(8/395)
( [119] ) (4/ 1864) .
( [120] ) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/350) وشرح السنة للبغوي (14/83) .
( [121] ) رواه الترمذي في سننه (5/ 619) .
( [122] ) انظر: انظر: المصدر السابق.
( [123] ) رواه مسلم في صحيحه (1/551) والحاكم في المستدرك (3/ 319) .
( [124] ) رواه البخاري في صحيحه (8/ 122) والحاكم في المستدرك (3/356) .
( [125] ) أي صحيح البخاري (4/ 191) .
( [126] ) رواه مسلم في صحيحه (4/1854) .
( [127] ) رواه البخاري في صحيحه (4/ 198) ، (8/ 74) .
( [128] ) رواه البخاري في صحيحه (1/ 45) .
( [129] ) رواه البخاري في صحيحه (4/217) .
( [130] ) رواه ابن ماجة في سننه (1/15-16) والترمذي في سننه (5/44) وقال عنه: حسن صحيح.
( [131] ) انظر: هذه الأدلة في إعلام الموقعين (4/150) وما بعدها، والموافقات (4/78-79) .
( [132] ) رواه ابن سعد (1/ 8) والطبراني في الكبير (9/85) .
( [133] ) رواه مالك في الموطأ (1/326) .
( [134] ) رواه الفسوي في تاريخه (1/ 461-462) وأبو نعيم في الحلية (1/42) .
( [135] ) رواه الطيالسي في مسنده (33) وأحمد في المسند (1/ 379) والخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1 / 166-167) .
( [136] ) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/119) .
( [137] ) رواه الطبراني في الكبير (9/186) .
( [138] ) انظر: سنن الدارمي (1/49) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/86) .
( [139] ) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللآلكائي (1/86) .
( [140] ) انظر: سنن الدارمي (1/40) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/87) .
( [141] ) انظر: سنن الدارمي (1/51) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/86) .
( [142] ) انظر: صحيح البخاري (8/140) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/90) .
( [143] ) انظر: إعلام الموقعين (4/139) .(8/396)
( [144] ) رواه أبوداود في سننه (3/138-139) وابن ماجة في سننه (1/108) والحاكم في المستدرك (3/93) وقال عنه: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
( [145] ) رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1 /462-463) والحاكم في المستدرك (3/86) .
( [146] ) رواه أحمد في المسند (1/21،396) والحاكم في المستدرك (3/67) .
( [147] ) انظر: كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض (98) .
( [148] ) انظر: حلية الأولياء (1/80) والرد على من أخلد إلى الأرض (98) .
( [149] ) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 127) .
( [150] ) انظر: ذم الكلام وأهله (1/189) ، (2/185) .
( [151] ) انظر: البداية والنهاية (7/264) .
( [152] ) انظر:جامع بيان العلم وفضله (2/127) .
( [153] ) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/42) .
( [154] ) انظر: الإبانة (1/362) .
( [155] ) انظر: الإبانة (1/361) .
( [156] ) انظر: الإبانة (1/321- 322) .
( [157] ) انظر: المصدر السابق (1 / 322) .
( [158] ) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللآلكائي (1/94) .
( [159] ) انظر: الاعتصام (1/87) .
( [160] ) انظر: ذم الكلام وأهله (2/173) والمدخل إلى السنن الكبرى (199)
( [161] ) انظر: ذم الكلام وأهله (5/117-118) .
( [162] ) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/40) والمدخل إلى السنن الكبرى (437)
( [163] ) انظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (66-67) .
( [164] ) انظر: (4/152) .
( [165] ) انظر: الموافقات (4/77) .
( [166] ) انظر: إعلام الموقعين (4/147) وما بعدها.
( [167] ) انظر: تدريب الرواي (2/218) .(8/397)
( [168] ) فأبو بكر الصديق لو روى حديثاً واحداً أو نقل فعلاً من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل يوم صحب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ إسلامه إلى أن توفاه الله عز وجل لبلغ مجموع مروياته أكثر من ثمانية ألآف حديثٍ فكيف لو روى أكثر من ذلك كم ستبلغ مروياته؟!!
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لو حدث بثلاثة أحاديث في خطب الجمع التي خطبها منذ توليه الخلافة حتى توفاه الله لبلغت ألفاً وخمسمائة حديثٍ تقريباً.
ولو روى بقية الصحابة لا سيما الذين آمنوا به أولاً وهاجروا معه والذين نصروه ولازموه من المهاجرين والأنصار مثل عثمان، وعلي، وبلال، وأبو ذرٍ،وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأمهات المؤمنين وغيرهم لم يحصها عدٌّ. وانظر: أيضاً التعليقين (178،179) .
( [169] ) انظر: الإصابة (4/204) .
( [170] ) روى خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً. انظر: تدريب الراوي (2 / 216) .
( [171] ) انظر: سير أعلام النبلاء (4/269) وطبقات ابن سعد (6/172) .
( [172] ) انظر: (3/180) .
( [173] ) انظر: (5/ 336) .
( [174] ) رواه أحمد في مسنده (2/131) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/175) : ورجاله رجال الصحيح.
( [175] ) أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده (7/131) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/161) : وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف.
( [176] ) رواه مسلم في صحيحه (4/2217) .
( [177] ) قال ابن سيرين: إن ابن مسعود كان إن حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأيام تربد وجهه، وقال: هكذا أو نحوه، هكذا أو نحوه.
وقال الشعبي: جالست ابن عمر سنة فلم أسمعه يذكر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/398)
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم من أحد يحدث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شئ إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى.
انظر: سنن الدارمي (1/59) والمدخل إلى السنن الكبرى (433) .
( [178] ) قال السرخسي في أصوله (2/108) :- (فقد ظهر من عادتهم أن من كان عنده نص فربما روى، وربما أفتى على موافقة النص مطلقاً من غير رواية، ولا شك أن ما فيه احتمال السماع من صاحب الوحي مقدم على محض الرأي) .
( [179] ) ولم يخالف في ذلك إلا بعض المتكلمين والظاهرية وبعض الحنفية. وقولهم هذا مردود لكونه مسبوقاً باتفاق أهل العلم قبلهم.
انظر: هذه المسألة بأقوالها وأدلتها ومناقشاتها في: الرسالة (595) وما بعدها والإحكام لابن حزم (4/561) والمعتمد (2/44) وإحكام الفصول (429) والبرهان (1/706) وأصول السرخسي (1/310،318-319) والتمهيد لأبي الخطاب (3/310) والمستصفى (1/198) والمحصول (2/62) والإحكام للآمدي (1/242) وبيان المختصر (1/590) والمسودة (292) وتيسير التحرير (3/250) وشرح الكوكب المنير (2/264) .
( [180] ) انظر: تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين (10) وكتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث (86-88) وحقيقة البدعة وأحكامها (1/260-267) وكتاب الحوادث والبدع (39-40) .
المصادر والمراجع
1- أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تأليف / صديق بن حسن القنوجي (ت1307هـ) ، طباعة دار الكتب العلمية. بيروت – لبنان.
2- الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، تأليف / عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري (ت 387هـ) ، تحقيق رضا بن نعسان معطي، طبع دار الراية – الرياض – السعودية، الطبعة الأولى 1409هـ – 1988م.(8/399)
3- الإبهاج في شرح المنهاج، تأليف / علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756هـ) وولده عبد الوهاب بن علي (ت 771هـ) ، صححه جماعة من العلماء، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1404هـ –1984م
4- أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، تأليف / مصطفى سعيد الخن، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة 1402هـ-1982م
5- إجابة السائل شرح بغية الآمل، تأليف / محمد بن إسماعيل الصنعاني (1182هـ) ، تحقيق / القاضي العلامة حسين بن أحمد السياغي والدكتور حسن محمد الأهدل، طبع مؤسسة الرسالة بيروت – لبنان -، الطبعة الأولى 1406هـ – 1986م
6- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، تأليف / خليل بن كيكلندي صلاح الدين العلائي الشافعي (ت 761هـ) ، تحقيق / محمد سليمان الأشقر – نشر مركز المخطوطات والتراث في جمعية إحياء التراث بالكويت، الطبعة الأولى (1407هـ –1987م) .
7- إحكام الفصول في أحكام الأصول، تأليف / سليمان بن خلف الباجي (ت474هـ) ، تحقيق / الدكتور عبد الله محمد الجبوري، طبع مؤسسة الرسالة –بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م
8- الإحكام في أصول الأحكام، تأليف / علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (ت 631هـ)
9- الإحكام في أصول الأحكام، تأليف / علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري (ت456هـ) ، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – طبعة 1405هـ –1983م، وطبع دار الآفاق الجديدة للنشر –بيروت – لبنان – طبعة 1403هـ 1983م
10- أخبار أبي حنيفة وأصحابه، تأليف / حسين بن علي الصيمري (ت 436هـ) ، تحقيق / أبوالوفاء الأفغاني، نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد (الهند) طبع بمطبعة المعارف الشرقية–حيدر آباد – الهند، الطبعة الثانية –1394هـ-1974م(8/400)
11- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تأليف / محمد بن علي الشوكاني (ت1255هـ) طبع دار المعرفة –بيروت – لبنان، الناشر / عباس أحمد الباز – مكة المكرمة
12- الإشارة في أصول الفقه، تأليف / سليمان بن خلف بن سعد الباجي (ت450هـ) ، تحقيق / عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، الناشر مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة – الرياض، الطبعة الثانية 1418هـ – 1997م
13- الإصابة في تمييز الصحابة، تأليف / أحمد بن علي محمد العسقلاني (ت852هـ) ، الناشر دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان
14- أصول السرخسي، تأليف / محمد بن أحمد السرخسي (ت 490هـ) ، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، الناشر / لجنة إحياء المعارف النعمانية – حيدر آباد الدكن – الهند.
15- أصول الفقه، تأليف / محمد زكريا البرديسي، طبع / دار الفكر – بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة 1407هـ – 1987م
16- أصول الفقه الإسلامي، تأليف / بدران أبو العينين بدران، الناشر / مؤسسة شباب الجامعة.
17- أصول الفقه تاريخه ورجاله، تأليف / الدكتور شعبان محمد إسماعيل، طبع / دار المريخ للنشر – الرياض، الطبعة الأولى 1401هـ – 1981م
18- أصول مذهب الإمام أحمد دراسة أصولية، تأليف / الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1410هـ –1990م
19- الاعتصام، تأليف / إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، تحقيق / محمد رشيد رضا، طبع دار المعرفة – بيروت – لبنان، طبعة 1402هـ – 1982م
20- الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، تأليف / خير الدين الزركلي.، طبع دار العلم للملايين. بيروت لبنان.
21- أعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف / محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751هـ) ، تعليق / طه عبد الرؤوف سعد، الناشر / دار الجيل – بيروت – لبنان(8/401)
22- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، تأليف / إسماعيل بن عمر بن كثير (ت774هـ) ، تحقيق / أحمد بن محمد شاكر، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية.
23- البداية والنهاية، تأليف / أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت774هـ) ، تحقيق / د. أحمد أبوملحم،ود. علي نجيب عطوي،والأستاذ فؤاد السيد، والأستاذ مهدي ناصر الدين، والأستاذ علي عبد الساتر، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م
24- البحر المحيط في أصول الفقه، تأليف / محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (ت794هـ) ، طبع دار الصفوة، الناشر / وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الطبعة الثانية 1413هـ –1992م
25- بدائع الفوائد، تأليف / محمد بن أبي بكر الدمشقي ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) ، طبع دار الكتاب العربي.
26- البرهان في أصول الفقه، تأليف / عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت478هـ) ، تحقيق / عبد العظيم الديب، طبع دولة قطر – على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الطبعة الأولى 1399هـ.
27- بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، تأليف / محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني (ت749هـ) ، تحقيق / الدكتور محمد مظهر بقا، طبع دار المدني للطباعة والنشر والتوزيع – جدة – السعودية، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى
28- تاج التراجم في طبقات الحنفية، تأليف / قاسم بن قطلوبغا (ت879هـ) ، تحقيق / محمد خير رمضان يوسف، طبع دار القلم – مشق – سوريا، الطبعة الأولى 1413هـ – 1992م
29- تاريخ بغداد، تأليف / أحمد بن على الخطيب البغدادي (ت 463هـ) ، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان
30- تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، تأليف / أحمد بن حجر آل بوطامي، الطبعة الثالثة1407هـ – 1987م(8/402)
31- التحصيل من المحصول، تأليف / محمود بن أبي بكر الأرموي (ت682هـ) ، تحقيق / عبد الحميد علي أبو زنيد، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ– 1988م
32- تخريج الفروع على الأصول، تأليف / محمود بن أحمد الزنجاني (ت656هـ) ، تحقيق / محمد أديب صالح، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الخامسة1404هـ – 1984م
33- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تأليف / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911هـ) ، تحقيق / عبد الوهاب عبد اللطيف، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية1399هـ – 1979م
34- تفسير القرآن العظيم، تأليف / إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، طبع دار المعرفة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى1407هـ –1987م
35- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح، تأليف / عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت806هـ) ، طبع ونشر / مؤسسة الكتب الثقافة-بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1411هـ – 1991م
36- التمهيد في أصول الفقه، تأليف/محفوظ بن أحمد بن الحسن أبي الخطاب الكلوذاني (ت510هـ) ، تحقيق / الدكتور مفيد محمد أبو عمشه، الناشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، طبع دار المدني – جده – السعودية، الطبعة الأولى 1406هـ –1985م
37- تيسير التحرير، تأليف / محمد أمين المعروف بأمير باد شاه، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان
38- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تأليف / محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، طبع شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثالثة1388هـ – 1968م
39- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، تأليف / يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت463هـ) ، تقديم / الأستاذ عبد الكريم الخطيب، طبع المطبعة الفنية، الناشر / دار الكتب الإسلامية – القاهرة – مصر، الطبعة الثانية 1402 هـ – 1982م(8/403)
40- حاشية الجلال المحلي على جمع الجوامع، تأليف / محمد بن أحمد المحلي، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية1356هـ – 1937م
41- حاشية العضد على مختصر ابن الحاجب، تأليف / عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الأيجي
(ت756) ، مراجعة وتصحيح / الدكتور شعبان محمد إسماعيل، الناشر / مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة – مصر، طبع سنة1403هـ – 1983م
42- حجية قول الصحابي، تأليف / فضل الله الأمين فضل الله، وهي عبارة عن رسالة أعدت لمرحلة الماجستير في أصول الفقه بالجامعة الإسلامية، للعام الجامعي 1401هـ –1402هـ طبعت على آلة كاتبة
43- حجية مذهب الصحابي دراسة أصولية، تأليف / عبد الرحمن حللي.
44- حقيقة البدعة أحكامها، تأليف / سعيد بن ناصر الغامدي، الناشر / مكتبة الرشد – الرياض – السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م
45- حلية الأولياء، تأليف / أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (ت 430هـ) ، تحقيق / عبد الحفيظ سعد عطية، طبع دار السعادة / على نفقة محمد إسماعيل ومحمد أمين أفندي، الطبعة الأولى 1392هـ –1972م
46- ذم الكلام وأهله، تأليف / عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (ت481هـ) ، تحقيق / عبد الرحمن بن عبد العزيز الشبل، الناشر / مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة – السعودية، الطبعة الأولى 1416هـ –1996م
47- الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، تأليف / عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي (ت911هـ) ، تحقيق خليل الميس، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ –1983م
48- الرسالة، تأليف / محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) ، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، طبع المكتبة العلمية – بيروت – لبنان
49- روضة الناظر وجنة المناظر، تأليف / محمد بن عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي(8/404)
(ت620هـ) ، تحقيق الدكتور عبد الكريم بن علي النملة، طبع مكتبة المعارف – الرياض – السعودية، الطبعة الثانية 1404هـ –1984م
50- الزهد، تأليف / عبد الله بن المبارك المروزي (ت 181هـ) ، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر / مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان
51- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، تأليف / محمد ناصر الدين الألباني، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة 1405هـ – 1985م
52- السنة، تأليف / عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت287هـ) ، ومعه " ظلال الجنة في تخريج السنة " للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبع المكتب الإسلامي –دمشق – سوريا، الطبعة الأولى 1400هـ
53- سنن أبي داود، تأليف / سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت 275هـ) ، طبع دار الحديث – حمص – سوريا، الطبعة الأولى 1394هـ 1974م
54- سنن ابن ماجة، تأليف / محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) ، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء الكتب العربية – مصر – القاهرة، الناشر / دار الحديث
55- سنن الترمذي، تأليف / محمد بن عيسى بن سورة (ت 279هـ) ، تحقيق / أحمد محمد شاكر، طبع ونشر / شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1398هـ – 1978م
56- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، تأليف / أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق / طه عبد الرؤوف سعد، طبع دار الفكر – بيروت – لبنان، الناشر / مكتبة الكليات الأزهرية – مصر، الطبعة الأولى 1393هـ – 1973م
57- سنن الدارمي، تأليف / عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) ، تحقيق / السيد عبد الله هاشم يماني، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة، طبعة 1386هـ 1966م
58- سير أعلام النبلاء، تأليف / محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) ، تحقيق / شعيب الأرناؤط ومحمد نعيم العرقسوسي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة التاسعة 1413هـ(8/405)
59- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، تأليف / هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللآلكائي (ت418هـ) ، تحقيق / د. أحمد سعد حمدان، الناشر / دار طيبة للنشر والتوزيع – الرياض – السعودية
60- شرح السنة، تأليف / حسين بن مسعود البغوي (ت 516هـ) ، تحقيق / شعيب الأورناؤط ومحمد زهير الشاويش، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1403هـ – 1983م
61- شرح الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع، تأليف / عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ) ، تحقيق / محمد الحبيب بن محمد، الناشر / مكتبة نزار مصطفى الباز – مكة المكرمة – السعودية، الطبعة الأولى 1420هـ – 1999م
62- شرح الكوكب المنير، تأليف / محمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بابن النجار (ت 972هـ) ، تحقيق / الدكتور محمد الزحيلي، والدكتور نزيه حماد، طبع دار الفكر – دمشق – سوريا، الناشر / مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى
63- شرح مختصر الروضة، تأليف / سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي (ت716هـ) ، تحقيق / د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى1410هـ –1990م
64- شرح المنهاج، تأليف / محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني (ت 749هـ) ، تحقيق / د. عبد الكريم بن علي النملة، الناشر / مكتبة الرشد – الرياض – السعودية، الطبعة الأولى 1410هـ
65- الصحابة وجهودهم في حفظ السنة، تأليف / الدكتور عمر يوسف حمزة، الناشر/ دار أسامة للنشر والتوزيع – الأردن – عمان، الطبعة الأولى 1996م
66- الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي، تأليف / الدكتور السيد محمد نوح.، طبع دار والوفاء للطباعة والنشر –مصر، الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م
67- الصحابة ومكانتهم في الإسلام، تأليف / نور عالم خليل الأميني، طبع دار الصحوة للنشر والتوزيع – القاهرة – مصر، الطبعة الأولى1409هـ –1989م(8/406)
68- الصحابي وموقف العلماء من الاحتجاج بقوله، تأليف / الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الدرويش، طبع مكتبة الرشد للنشر والتوزيع – السعودية – الرياض، الطبعة الأولى 1413هـ
69- صحيح البخاري، تأليف / محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256) ، طبع المكتبة الإسلامية – استانبول – تركيا، الناشر / مكتبة العلم – جدة – السعودية
70- طبقات الحنابلة، تأليف / محمد بن أبي يعلى (ت 524هـ) ، الناشر / دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت – لبنان
71- الطبقات الكبرى، تأليف / محمد بن سعد كاتب الواقدي (ت203هـ) ، تحقيق / إحسان عباس، الناشر / دار صادر – بيروت – لبنان
72- العدة في أصول الفقه، تأليف / محمد بن حسين الفراء أبو يعلى (ت458هـ) ، تحقيق / أحمد بن علي سير المباركي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1400هـ –1980م
73- علل الحديث، تأليف / عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) ، تحقيق / محب الدين الخطيب، طبع دار السلام – حلب، القاهرة على نفقة الشيخ محمد نصيف وشركاه، طبع سنة 1343هـ
74- علوم الحديث، تأليف / عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المشهور بابن الصلاح (ت643هـ) ، تحقيق / الدكتور نور الدين عتر، طبع المكتبة العلمية – بيروت – لبنان، طبعة1401هـ
75- فتح الباري شرح صحيح البخاري، تأليف / أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) ، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، طبع بإشراف محب الدين الخطيب في دار المعرفة – بيروت – لبنان
76- فتح الغفار بشرح المنار، تأليف / زين الدين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم (ت970هـ) ، طبع مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة الأولى 1255هـ 1936م
77- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، تأليف / محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250هـ) ، طبع شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده – مصر، الطبعة الثانية 1383هـ – 1964م(8/407)
78- الفتح المبين في طبقات الأصوليين، تأليف / عبد الله مصطفى المراغي، الناشر محمد أمين دمج وشركاه – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1394هـ –1974م
79- فتح المغيث شرح ألفية الحديث، تأليف / محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) ، تحقيق / عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر / المكتبة السلفية – المدينة المنورة – السعودية، الطبعة الثانية1388هـ
80- الفصول في الأصول (أصول الجصاص) ، تأليف / أحمد بن على الرازي الجصاص (370هـ) ، تحقيق / الدكتور عجيل جاسم النشمي، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م
81- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، تأليف / عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، طبع المطبعة الأميرية – بولاق – مصر، الطبعة الأولى 1324هـ
82- القاموس المحيط، تأليف / محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ – 1986م
83- قواطع الأدلة في أصول الفقه، تأليف / منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني (ت489هـ) ، تحقيق / الدكتور / عبد الله بن حافظ حكمي، الطبعة الأولى 1419هـ – 1998م
84- قواعد التحديث، تأليف / محمد جمال الدين القاسمي، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1399هـ
85- قول الصحابي في التفسير الأندلسي حتى القرن السادس، تأليف / الدكتور فهد الرومي، الناشر / مكتبة التوبة بالرياض، الطبعة الأولى 1420هـ – 1999م
86- قول الصحابي وأثره في الأحكام الشرعية، تأليف / بابكرمحمد الشيخ الفاني، رسالة - مطبوعة على الآلة الكاتبة - مقدمة إلى كلية الشريعة بجامعة الإمام، محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1400هـ، للحصول على درجة الماجستير في أصول الفقه.
87- قول الصحابي وأثره في الفقه، تأليف / الدكتور شعبان محمد إسماعيل، الناشر / دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع –القاهرة – مصر، الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م(8/408)
88- كتاب الأم، تأليف / محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) ، الناشر / مكتبة الكليات الأزهرية – مصر – بإشراف / محمد زهدي النجار، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى1381هـ - 1961م
89- كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، تأليف / عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (ت 665هـ) ، طبع دار الراية للنشر والتوزيع – الرياض – السعودية، الطبعة الأولى1410هـ 1990م
90- كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، تأليف / خليل بن كيكلندي صلاح الدين العلائي الشافعي (ت 761هـ) ، تحقيق / الدكتور / عبد الرحيم بن محمد القشقري، طبع دار العاصمة – الرياض – السعودية، الطبع الأولى 1410هـ – 1990م
91- كتاب الحوادث والبدع، تأليف / محمد بن الوليد الطرطوشي (ت530هـ) ، تحقيق / علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد، الناشر / دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع – الدمام – السعودية، الطبعة الأولى 1411هـ – 1990م
92- كتاب شرح أدب القاضي للخصاف، تأليف / عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري حسام الدين المعروف بالصدر الشهيد (ت536هـ) ، تحقيق / محيي هلال السرحان، طبع مطبعة الإرشاد – بغداد، الناشر / وزارة الأوقاف العراقية، الطبعة الأولى 1397هـ – 1977م
93- كشف الأسرار شرح المصنف على المنار، تأليف / عبد الله بن أحمد المعروف بالنسفي (710هـ) ، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م
94- كشف الأسرار في أصول فخر الإسلام البزدوي، تأليف / عبد العزيز بن أحمد البخاري (ت 730هـ) ، الناشر / الصدف ببشرز – كراتشي – باكستان.
95- الكفاية في علم الرواية، تأليف / أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي (ت463هـ) ، الناشر / المكتبة العلمية – المدينة المنورة- السعودية
96- لسان العرب، تأليف / محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، طبع دار صادر – بيروت – لبنان(8/409)
97- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف / علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) ، الناشر / دار الريان للتراث – القاهرة – مصر، طبع سنة 1407هـ
98- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب / عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، طبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين.
99- المحصول في علم الأصول، تأليف / محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت606هـ) ، طبع دار الكتب العلمية –بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ –1988م
100- مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، تأليف / أ. د. عبد الكريم بن علي النملة، الناشر / مكتبة الرشد للنشر والتوزيع- الرياض – السعودية، الطبعة الثانية 1420هـ –1999م
101- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، تأليف / عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق / الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1401هـ –1981م
102- المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، تأليف / محمد العروسي عبد القادر، طبع دار حافظ للنشر والتوزيع –جده – السعودية، الطبعة الأولى 1410هـ –1990م
103- المستدرك على الصحيحين، تأليف / محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم (ت405هـ) ، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
104- المستصفى من علم الأصول، تأليف / محمد بن محمد الغزالي (ت 505هـ) ، طبع المطبعة الأميرية –بولاق –مصر، الطبعة الأولى –1324هـ
105- المسند، تأليف / سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي (ت 204هـ) ، الناشر / مكتبة المعرفة – الرياض – السعودية
106- مسند أبي يعلى الموصلي، تأليف / أحمد بن علي بن المثنى التميمي (ت307هـ) ، تحقيق / حسين سليم أسد، طبع دار المأمون للتراث – دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م
107- مسند الإمام أحمد، تأليف / أحمد بن حنبل الشيباني، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الخامسة 1405هـ –1985م(8/410)
108- المسودة في أصول الفقه، تأليف / عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، وعبد الحليم بن عبد السلام، وأحمد بن عبد الحليم، جمع / أحمد بن محمد الحنبلي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبع / مطبعة المدني – السعودية - مصر
109- المصنف، تأليف / عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ) ، تحقيق / حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر/ المجلس العلمي، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1403هـ – 1983م
110- المعتمد في أصول الفقه، تأليف / محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت436هـ) ، تقديم / خليل الميس، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ –1983م
111- المعجم الأوسط، تأليف / سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) ، تحقيق / طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر / دار الحرمين – القاهرة – مصر، طبع سنة 1415هـ
112- المعجم الكبير، تأليف / سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) ، تحقيق / حمدي عبد المجيد السلفي، طبع مطبعة الوطن العربي – العراق، الطبعة الأولى 1400هـ
113- المعجم الوسيط، تأليف / د. إبراهيم أنيس، ود. عبد الحليم منتصر، وعطية الصوالحي، ومحمد خلف الله، الطبعة الثانية
114- المعرفة والتاريخ، تأليف / أبو يوسف يعقوب الفسوي (ت277هـ) ، تحقيق / الدكتور أكرم ضياء العمري، الناشر / مكتبة الدار – المدينة المنورة – السعودية، الطبعة الأولى 1410هـ
115- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، تأليف / محمد بن أحمد المالكي التلمساني (ت771هـ) ، تحقيق / عبد الوهاب عبد اللطيف، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، طبعة سنة 1403هـ – 1983م
116- المقنع في علوم الحديث، تأليف / عمر بن علي الأنصاري المشهور بابن الملقن (ت804هـ) ، تحقيق / عبد الله بن يوسف الجديع، طبع دار فواز – الأحساء – السعودية، الطبعة الأولى1413هـ(8/411)
117- مناقب الشافعي، تأليف / أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ) ، تحقيق / السيد أحمد صقر، طبع مكتبة دار التراث – القاهرة – مصر، الناشر / دار النصر للطباعة – القاهرة – مصر، الطبعة الأولى 1391هـ – 1971م
118- مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، تأليف / الدكتور عبد الرحمن البر، الناشر / دار اليقين للنشر والتوزيع- المنصورة – مصر، الطبعة الأولى 1420هـ –1999م
119- المنخول من تعليقات الأصول، تأليف / محمد بن محمد بن محمد الغزالي (ت505هـ) ، تحقيق / محمد حسن هيتو، طبع دار الفكر -دمشق – سوريا، الطبعة الثانية 1400هـ –1980م
120- الموافقات في أصول الشريعة، تأليف / إبراهيم بن موسى اللخمي المالكي (ت790هـ) ، تعليق / عبد الله دراز، طبع دار المعرفة –بيروت – لبنان
121- الموطأ، تأليف / مالك بن أنس، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، طبع / دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه
122- ميزان الأصول في نتائج العقول، تأليف / محمد بن أحمد السمرقندي (ت539هـ) ، تحقيق / الدكتور محمد زكي عبد البر، طبع / مطابع الدوحة الحديثة – الدوحة – قطر، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م
123- نثر الورود على مراقي السعود، تأليف / محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، تحقيق / الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي، طبع دار المنارة – جدة – السعودية، الناشر / محمد محمود محمد الخضر القاضي، الطبعة الأولى 1415هـ – 1995م
124- نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، تأليف / أحمد بن علي العسقلاني (ت 852هـ) ، الناشر / مكتبة طيبة – المدينة المنورة – السعودية، طبع سنة 1404هـ
125- نشر البنود على مراقي السعود، تأليف / عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1409هـ – 1988م(8/412)
126- النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف / مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606هـ) ، تحقيق / طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، طبع دار الفكر – بيروت – لبنان(8/413)
قاعدة
الإسلام يعلو ولا يُعلى
دراسة تأصيلية وتطبيقية
د. عابد بن محمد السفياني
أستاذ مساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة أم القرى
ملخص البحث
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد: فإن القاعدة الفقهية (الإسلام يعلو ولا يُعلى) قد وردَ النصّ الشرعي بها، واستدلّ بها الفقهاء - رحمهم الله - في أبواب متعددة، ولم تذكر هذه القاعدة في كتب القواعد إلا نادراً مع أهميتها.
وقد اشتمل هذا البحث على بيان المصادر الفقهية لهذه القاعدة، وتأصيل أدلتها الشرعية الدالة على وجوب العمل بها واعتبارها في الأحكام، كما اشتمل على أبرز التطبيقات من الأبواب الفقهية ذات الصلة بهذه القاعدة، واشتمل أيضاً على تطبيقات معاصرة.
وقد التزمت في هذا البحث بالمنهج الفقهي في دراسة القاعدة الفقهية من حيث شرح مفرداتها، وعزوها، وتوثيقها، وجمع الأدلة من الكتاب والسنّة على ثبوتها، وإبراز الفروع الفقهية، وتخريج الأحاديث وعزوها إلى مصادرها وبيان مرتبتها.
هذا وقد ذكرت التطبيقات من كتاب النكاح والطلاق والبيع والإجارة والاسترقاق وأحكام أهل الذمّة والسير والجهاد واللقيط والقصاص والقضاء والفتوى.
وذكرت بعض التطبيقات المعاصرة، وبينت ارتباطها بهذه القاعدة وبيان أثرها على بعض المسائل المستجدة.
وقد توصلت في هذا البحث إلى نتائج ذكرتها في الخاتمة بعد دراسة هذه القاعدة تأصيلاً وتطبيقاً.
والله الموفق، وهو نِعم المولى ونِعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أصحابه والتابعين لهم بإحسان.. أما بعد:(8/414)
فإنّ هذه القاعدة الفقهية (الإسلام يعلو ولا يُعلَى) قاعدة جليلة القدر، قد ورد النصّ الشرعي بها، واستدلّ بها الفقهاء - رحمهم الله - في أبواب فقهية متعددة. ومن الأسباب التي تدلّ على أهمية هذا البحث ما يلي:
1- بيان المصادر التي ذكرت هذه القاعدة وتوثيقها، خاصة أنّ كتب القواعد في الجملة لم تهتمّ بهذه القاعدة كما اهتمّت بالقواعد التي هي أقلّ رتبةً منها.
2- بيان الأدلة الشرعية الدالة على وجوب العمل بهذه القاعدة واعتبارها في الأحكام.
3- جمع أبرز التطبيقات الفقهية من الأبواب الفقهية المشتهرة المبنية على هذه القاعدة.
4- ضمّ بعض المسائل المعاصرة لتطبيقات هذه القاعدة.
منهج البحث:
1- شرح مفردات القاعدة.
2- عزو القاعدة وتوثيقها.
3- جمع الأدلة على إثباتها.
4- ذكر أبرز الفروع الفقهية من الأبواب المشتهرة المبنية عليها.
5- التزام طريقة المؤلفين في القواعد من حيث ذِكر الفرع المبنى على القاعدة مع عدم التفصيل في مسائل الخلاف (1) .
6- تخريج الأحاديث وعزوها إلى مصادرها المعتمدة، مع بيان الصحيح منها والضعيف.
7- وضع فهرس للمراجع وآخر لمسائل البحث.
خطة البحث:
قمتُ بجمع أدلة القاعدة من النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة، واستقراء نصوص الفقهاء التي تدلّ على استدلالهم بهذه القاعدة من المذاهب المشهورة، وتتبعتُ أبرز الفروع الفقهية من الأبواب ذات العلاقة المرتبطة بها، وجعلت ذلك في مباحث:
المبحث الأول: شرح مفردات القاعدة وبيان معناها.
المبحث الثاني: عزو القاعدة وتوثيقها.
المبحث الثالث: الأدلة على إثباتها.
المبحث الرابع: التطبيقات الفقهية:
المطلب الأول: في النكاح والفرقة.
المطلب الثاني: في البيع والإجارة والاسترقاق.
المطلب الثالث: في أحكام أهل الذمّة.
المطلب الرابع: في أحكام اللقيط.
المطلب الخامس: في القصاص.
المطلب السادس: في القضاء والفتوى.(8/415)
ثم خاتمة البحث أذكر فيها أهمّ نتائجه..
هذا وأسأل الله - عز وجل - القبول والتوفيق والسداد في القول والعمل. وما كان فيه من صواب فَمِن الله سبحانه وتعالى، وما كان فيه من خطأ وتقصير فأستغفر اللهَ - عز وجل - منه، وأسأله المعونة على تداركه، إنه سميعٌ مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدوعلى آله وصحبه أجمعين..
المبحث الأول: شرح مفردات القاعدة وبيان معناها
تشتمل قاعدة (الإسلامُ يعلو ولا يُعلَى) على هذه الألفاظ: (الإسلام) و (يعلو) (ولا يُعلَى) .
1- (الإسلام) والاستسلام: الانقياد، والإسلام: إظهار الخضوع وإظهار الشريعة والتزام ما أَتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويقال: فلانٌ مُسْلم: أي: مستسلم لأمر الله، وفلان مُسلم: أي: مُخلص لله العبادة، مِن قولهم: سَلَّمَ الشيءَ لفلان: أي: خلَّصه، وَسَلِمَ له الشيء:
أي: خلَصَ له.
وقوله تعالى: {ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّة} ، [البقرة 208] ، أي: ادخلوا في السِّلم: أي: الإسلام وشرائعه كلها، والسَّلْمُ: الانقياد والاستسلام، والتَّسْليم: بذل الرِّضا بالحكم (2) .
و (الشريعة في كلام العرب: مشرعة الماء، وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويسقون) (3) ، (والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماءُ عَداً لا انقطاع فيه، ويكون ظاهراً معيناً لا يُسقى بالرشاء) (4) .
ويشمل لفظ الشريعة:
أولاً: التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب} [الشورى 13] .(8/416)
ثانياً: الأحكام الشرعية، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة 48] .
ثالثاً: ويُطلق لفظ الشريعة على التوحيد والأحكام، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الجاثية 18] .
والإسلامُ شامل لذلك كله، فيدخل فيه قبول الدين كله.
ومنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد لله بالطاعة، والخلوص من الشرك.
وهذه المعاني الشرعية تتناسب تناسباً ظاهراً مع المعاني اللغوية، فقد وردَ في النصوص السابقة في لغة العرب: أنّ معنى (فلانٌ مسلم) : أي: مخلص، والاستسلام: الانقياد، والتسليم: الرّضا بالحكم، والإسلام: إظهار الخضوع والالتزام بالشريعة، والشريعة تشمل التوحيد وسائر الأحكام.
2- (يعلو ولا يُعلَى) : العلوّ ضدّ السفل، والعُلوّ: الارتفاع، والمَعْلاةُ: كسب الشرف، والجمع: (المعالي) ، والعَلْياءُ: كلّ مكان مُشْرِفٍ، ويقال: عَلِيَ في المكارم يَعْلَى عَلاءً، وعلا في المكان يَعلو عُلوّاً (5) .
وعلا الشيء عُلوّاً فهو عَليّ، وتَعلَّى.
والأعلى: هو الله سبحانه، وهي صفته، والعَلياء: (السماء) اسم لها. والعلو: ارتفاع أصل البناء. و {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي عِلّيِّين} أي: في أعلى الأمكنة.
وعليّ: اسم، فإما أن يكون مِن القوة، وإما أن يكون مِن علا يَعلو (6) .
ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران 139] قال القرطبي في هذه الآية: بيان لفضل هذه الأمّة؛ لأنّه خاطبهم بما خاطب به أنبياءَه؛ لأنّه قال لِموسى: {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} ، وقال لهذه الأمة: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْن} (7) .
فالمؤمن هو (الأعلى) ، ودينه الإسلام يعلو ولا يُعلى.(8/417)
والمعاني اللغوية تتناسب مع المعنى الشرعي لهذه القاعدة؛ لأنّ المؤمن قويٌّ بإيمانه، فلا يهن ولا يحزن؛ لأنّه هو الأعلى، فدينه الإسلام، وهو للناسِ كافة، ختم الله به الرسالات، ولا يقبل ديناً سواه، وقد شرّف الله به المسلم، إذْ أوجبَ عليه التحاكم إليه؛ لشرف هذا المنهج، ولأنه دين الفطرة. ومِن شرف المسلم أنّ اللهَ جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين والكافرين والمشركين لا يعلمون، وكل هذه المعاني المتضمنة في هذه القاعدة تنبني عليها فروع تطبيقية كما سيأتي معنا في المباحث التالية بإذن الله.
المبحث الثاني: عزو القاعدة وتوثيقها
نصَّ على هذه القاعدة جمال الدين بن عبد الهادي (8) ، فقال:
(القاعدة الثلاثون: الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) (9) .
وذكرها من المعاصرين الشيخ محمد صدقي البورنو فقال:
(القاعدة الثالثة والثلاثون بعد المائتين: الإسلام يعلو ولا يُعلَى) (10) .
وهذه القاعدة علّل بها بعض فقهاء الصحابة والتابعين؛ فقد روى ابن حزمٍ بسنده عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في اليهودية أو النصرانية تُسلم تحت اليهودي أو النصراني قال: (يُفرَّق بينهما؛ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) (11) .
قال ابن حزم: (وبه يفتي حمّاد بن زيد (12)) (13) .
فظاهر ما رواه ابن حزم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه علل بالمعنى الذي تضمنته هذه القاعدة، وكذا ما نقله ابن حزم عن حماد بن زيد ظاهره أنه كذلك.
وقد اعتبر أصحاب المذاهب الفقهية هذه القاعدة في علل الأحكام الشرعية:
1- قال السرخسي (14) - معلّلاً بهذه القاعدة -: (إذا أسلمَ أحد الزوجين فإنّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلى عليه، فلا يكون اعتقاد الآخر معارضاً لإسلام المسلم منهما) (15) .(8/418)
وقال ابن عابدين (16) : (إذا أسلمَ أحدُ الزوجين يفرّق بينهما؛ لأنّه بإسلام أحدهما ظهرت حرمة الآخر؛ لتغير اعتقاده، واعتقاد المصرّ لا يعارض إسلام المسلم؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى) (17) .
2- وقال القرافي (18) : (وكره مالك تعليم المسلم عند الكفار كتابهم؛ لأنّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلَى عليه) (19) .
3- وقال الشيرازي (20) : (وإذا أسلمَ أحدهما - أي: أحد الأبوين - والولد حَمْلٌ تبعهُ في الإسلام؛ لأنّه لا يصحّ إسلامه بنفسه، فتبع المسلم منهما؛ لأنّ الإسلام أعلى، فكان إلحاقه بالمسلم منهما أَولى) (21) .
وقال ابن حجر الهيتمي (22) : (ويحكم بإسلام اللقيط (23) إذا كان من أبوين كافرَين ثم أسلم أحدهما؛ لأنّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلَى) (24) .
4- وقال ابن قدامة (25) : (الولد يتبع أبويه في الدين، فإذا اختلفا وجبَ أن يتبع المسلم منهما، كولد المسلم من الكتابية، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى..) (26) .
وقال الشيخ منصور بن يونسف البهوتي (27) : (واللقيط مسلم إذا وُجد في دار الإسلام؛ لظاهر الدار، وتغليب الإسلام، فإنه يعلو ولا يُعلى عليه..) (28) .
5- ونقل ابن حزم تعليل ابن عباس بهذا المعنى الذي تضمنته هذه القاعدة، واستفاد من ذلك في فروعٍ كثيرةٍ سيأتي ذِكرها - إن شاء الله تعالى - (29) .
المبحث الثالث: الأدلة على إثباتها
1- قال البخاري: حدّثنا علي بن عبد الله حدّثنا سفيان قال: قال عبد الله: سمعتُ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ((كنتُ أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولد، وأمي من النساء)) (30) .
ورواه معلَّقاً فقال: كان ابن عباس رضي الله عنهما مع أمّه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دينِ قومه، وقال: ((الإسلام يعلو ولا يُعلَى)) (31) .(8/419)
2- حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((الإسلام يعلو ولا يُعلى)) رواه حماد ابن زيد عن أيوب عن عِكرمة عنه في اليهودية والنصرانية تكون تحت النصراني أو اليهودي فتُسلِم هي، قال: ((يُفرّق بينهما؛ الإسلام يعلو ولا يُعلَى)) .
قال ابن حجر: (وذكره ابن حزم في المحلى عن طريق حماد بن زيد بلفظه) (32) ، حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما في اليهودية أو النصرانية تُسْلِم تحت اليهودي أو النصراني، قال: ((يُفرّق بينهما؛ الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه)) (33) .
3- روَى البيهقي عن حشرج بن عبد الله بن حشرج حدثني أبي عن جدي عنه أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله أصحابه، فقالوا: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((هذا عائذ ابن عمرو وأبو سفيان؛ الإسلام أعزُّ مِن ذلك، الإسلام يعلو ولا يُعلَى)) (34) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح - تعليقاً على صنيع الإمام البخاري في الترجمة بعد أن ذكر أنّ عباس وأمّه مِن المستضعفين، قال البخاري: وقال: ((الإسلام يعلو ولا يُعلى)) -:
(كذا في جميع نسخ البخاري لم يُعين القائل، وكنتُ أظنّ أنه معطوفٌ على قول ابن عباس، فيكون مِن كلامه، ثمّ لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير (35) ، ورأيته موصولاً مرفوعاً من حديث غيره، أخرجه الدارقطني (36) ومحمد بن هارون الروياني في مسنده (37) من حديث عائذ ابن عمرو المزني بسندٍ حسن) . ثم ذكر الحديث بلفظه (38) .
والحديث في سنده عبد الله بن حشرج وأبوه، وهما مجهولان، ويتقوّى - كما قال الألباني رحمه الله - (39) بالحديث الذي بعده.(8/420)
4- حديث معاذ، وذكره الزيلعي في نصب الراية قال: رواه نهشل في تاريخ واسط، حدّثنا إسماعيل بن عيسى ثنا عمران بن أبان ثنا شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن عبد الله ابن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي عن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان يعلو ولا يُعلى)) (40) .
قال الألباني - رحمه الله -: (ذكره الزيلعي وسكتَ عنه، وتبعه الحافظ. وإسناده ضعيف؛ من أجل عمران بن أبان، وهو أبو موسى الطحان الواسطي. قال الحافظ في التقريب: ضعيف (41)) (42) .
قال الألباني: (وبقية رجاله ثقات معروفون غير إسماعيل بن عيسى، وهو بغدادي واسطي وثّقهُ الخطيب وغيره) (43) .
والحديث حسن مرفوعاً بمجموع طرقه (44) ، وكذلك صحّ موقوفاً عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما (45) .
5- وقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران 139] .
قال القرطبي (46) : (في هذه الآية بيان لفضل هذه الأمّة؛ لأنّه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه؛ لأنّه قال لِموسى: {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه 68] ، وقال لهذه الأمّة: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْن} ، وهذه اللفظة مشتقّة من اسمه الأعلى، فهو سبحانه العلي. وقال للمؤمنين: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْن} ) (47) .
6- وقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [البقرة 221] .(8/421)
فالأَمَة المؤمنة خير من المشركة، والذي جعلها أفضل وأعلى هو الإسلام. وكذلك قوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِين} أي: لا تزوّجوهم بالمؤمنات حتى يؤمنوا.
قال القرطبي: (وأجمعت الأمة على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجهٍ؛ لِما في ذلك من الغضاضة على الإسلام) (48) . أي: لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى، وهي مُسلِمة، فإذا نكحها المشرك كان عليها غضاضة وعلى دينها.
7- قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء 141] .
قال الشوكاني - مستدلاًّ بهذه الآية على أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى:
( {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ولو كان للكافر أن يقتصّ من المسلم لَكان في ذلك أعظم سبيل. وقد نفى اللهُ تعالى أن يكونَ له عليه السبيل نفياً مؤكّداً ... ومن ذلك حديث: ((الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه)) ) (49) .
قال الشوكاني مرجّحاً مذهب الجمهور في أنه لا يُقتل مسلمٌ بكافر، وأنه لا مساواة في القصاص؛ لحديث: ((لا يُقتل مسلمٌ بكافر..)) (50) ، ولحديث:
((الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه)) ، ويجب على المسلم الدية (51) .
المبحث الرابع: التطبيقات الفقهية
المطلب الأول: في النكاح والفرقة:
قال ابن عبد الهادي: (القاعدة الثلاثون: الإسلام يعلو ولا يُعلى) ، وفرّع عليها فقال: (ولا يتزوّج الكافرُ مسلمةً، ولا يوَلَّى على مسلم) (52) .
قال القرطبي: (وأجمعت الأمّة على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجهٍ؛ لِما في ذلك من الغضاضة على الإسلام) (53) . أي: لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى.
وإذا أسلمت النصرانية أو اليهودية تحت النصراني أو اليهودي يُفرق بينهما، كما أفتى بذلك ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره ابن حزم (54) ، وكذا إذا أسلمَ أحدُ الزوجين وأَصَرَّ الآخَر على الكفر؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى (55) .(8/422)
المطلب الثاني: في البيع والإجارة والاسترقاق:
ومن المسائل في هذا المطلب:
- أن لا يسترقّ كافرٌ مُسْلِماً (56) .
- وإذا أسلمَ عبدُ الكافر أُجبِر على بيعه، ولا تصحّ مكاتبته؛ لأنّ فيها استدامةً لملكه عليه (57) .
- وكما أنه لا يستديم ملكه عليه لا يستخدمه قهراً بملك اليمين، ذكرهُ السّرخسي في شرح السير الكبير، وقال: (وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الإسلام يعلو ولا يُعلى)) ) (58) .
قال الشوكاني: (والأحاديث.. تدلّ على أنّ عبد الحربي إذا أسلم صارَ حرّاً بإسلامه) (59) .
ومن مسائل هذا الباب: أنه يكره للمسلم أن يقبل العمل الذي فيه إهانة عند الكافر. ومِن الفقهاء مَن منعه. وكذا لا يجوز أن يؤجر المسلم نفسه عند كافر لخدمته؛ لأنّ فيه إذلالاً للمسلم وعزّاً للكافر، والمسلمُ أعلى (60) .
المطلب الثالث: في أحكام أهل الذمّة والمعاهدة:
ومِن فروع هذا الباب التي تندرج تحت هذه القاعدة ما يلي:
- أنه لا تجوز الهدنة مع الكفار على ما يبذل لهم من غير ضرورة؛ لأنّ في ذلك إلحاقاً للصَّغار بالإسلام.
- وكذا لا يجوز أن يقول لهم الإمام: هادنتُكم ما شئتم، ولا يصحّ العقد؛ لأنّه جعل الكفار محكَّمين على المسلمين. قال الشيرازي: (لِحديث: الإسلام يعلو ولا يُعلى) (61) ، وإذا جُعل الكفار مُحكَّمين على المسلمين فإنّ العلوّ يكون لهم، وهذا مخالف للقاعدة.(8/423)
- ومِن فروعها: منع أهل الذمّة مِن إحداث بناءٍ يعلو بناءَ جيرانهم من المسلمين. قال ابن عابدين: (مطلب في منعهم من التعلي في البناء على المسلمين) ، ثمّ علل ذلك بأنّ استعلاءه في البناء خلاف الصغار (62) . يعني الوارد في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة 29] .
- ومنها: منع المساواة في البناء. قال في المهذب: (لأنَّ القصد أن يعلو الإسلام) (63) .
- ومنها: منع أهل الذمّة من صدور المجالس، وإلجاؤهم إلى أضيق الطرق (64) .
- وكذا منعهم من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم وبنائهم (65) .
- ومنها: أن لا تبنى الكنيسة في الإسلام، ولا يجدد ما خرب فيها (66) .
- ومنها: منعهم من الدعوة إلى الكفر والفساد، فلا يجوز لهم أن يجهروا بكتابهم أو يُظْهِروه (67) ؛ لأنّ الإسلام هو الأعلى، وأنّ دينهم منسوخ، فكيف إذا كانوا يدعون إلى المذاهب الأرضية المنحرفة والقوانين البشرية التي تطلق الحريات وتدعو إلى الفساد في الأرض، فلا ريب في وجوب المنع من انتشار الأفكار البشرية المنحرفة. قال شيخ الإسلام: (ومَن بدّل شرع الأنبياء وابتدع شرعاً فشرعُه باطل لا يجوز اتّباعه، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله} ، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنّهم تمسكوا بشرعٍ مبدلٍ منسوخ) (68) .(8/424)
ولا نكره أهل الذمّة على تغيير معتقدهم إذا خضعوا لسلطان الإسلام؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} ، ولكن نُلزمهم بالأحكام الشرعية العامّة في المعاملات والجنايات وما يلحق بها، وتكون هذه الأحكام ضوابط لتصرّفاتهم كما هي ضوابط لتصرفات المسلمين في دار الإسلام (69) .
- ومن المسائل المعاصرة التي تتبع المسألة السابقة في تحريمها والمنع منها:
تحريم ما سُمّي بِ (زمالة الأديان) ؛ لأنّ الأديان منسوخة بدين الإسلام، كما أنّ اليهودية والنصرانية وغيرها مبدلة، والزمالة تقتضي النديّة والمساواة، والإسلام أعلى.
- ومثلها تحريم وحدة الأديان، وهو الخلط بينها، ولا يجوز خلط الإسلام وشرائعه بغيره من الشرائع والأديان، فالإسلام أعلى.
- ومنها: تحريم بناء مسجدٍ وكنيسة في موضع واحد.
- وكذا: تحريم طبع المصحف والتوراة أو الإنجيل في كتاب واحد (70) .
ويجب دعوة أهل الكتاب والمشركين من سواهم إلى ترك الشرك وإلى كلمة سواء، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وأنّ رسالة الإسلام خاتمة الرسالات، وأنّ أديانهم منسوخة به، وأنّ أهل الكتاب وغيرهم من المشركين على عبادة غير الله، وأنّ ما عندهم هو الباطل، وما عندنا هو الحقّ، ولا يجتمع الحقّ والباطل، لا في زمالةٍ ولا وحدة ولا كتاب، بل يُدعى أهل الكتاب وغيرهم من المشركين إلى ترك الشرك والدخول في الإسلام، والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران 64] .(8/425)
- ومن فروعها: إذا أسلمَ من أولاد الكافر الكتابي وبقي آخرون على كفرهم واختصموا، حَكَمْنا بينهم بالإسلام؛ لأنّه أعلى؛ ولشرف المسلم.
قال الدَّردير (71) في الشرح الكبير: (وحُكِم بين الكفار بحكم المسلم، إن لم يأْبَ بعضٌ، إلا أن يسلمَ بعضٌ فكذلك، أي: يحكم بينهم بِحكم المسلم من غير اعتبار الآبي؛ لشرف المسلم) (72) ، أي: لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى.
ومنهم مَن قال: يُورّث المسلم من أبيه الذمي؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى (73) .
ومن المسائل المعاصرة: توريث المسلم من قريبه الكافر. قال بعض المعاصرين بأنّ: المسلم يرث من قريبه الكافر غير الحربي (74) ، فإذا أسلمَ النصراني أو اليهودي ورثَ من قريبه الكافر، ولا نمنعه من الإرث؛ لأنّا لو منعناه لتضرر بسبب إسلامه، ولأنّ الإسلامَ أعلى، وجعلوا الكفار المعاهدين - الذين بيننا وبينهم مسالمة وهم ليسوا تحت أحكامنا - مثل الكفار من أهلِ الذمة الذين تحت أحكامنا. والفقهاء إنما تكلموا في أهل الذمّة، ولم يتكلموا في المعاهدين من غيرهم.
المطلب الرابع: أحكام اللقيط:
ومِن فروع هذه القاعدة في هذا الباب: أنّ اللقيط - في الدار التي اختطها المسلمون - محكومٌ بإسلامه، وإن كان فيها أهل ذمّة؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى (75) .
ويفرّق بين دار الإسلام ودار الكفر بأنّ شرف الأولى اقتضى الاكتفاء بالإمكان وإن بَعُدَ (76) .
- وكذا دار الإسلام إذا غلب عليها الكفار وفيها مسلمون حُكم بإسلام لقيطها؛ تغليباً للإسلام (77) .
- ومنها: إذا التقطَ مسلمٌ وكافرٌ طفلاً محكوماً بكفره - أي: مِن أبوين كافرَين - فالمسلم أحقّ به؛ لأنّه يصير مسلماً، والترجيح بالإسلام ولو كان المسلم فقيراً والكافر غنياً (78) .
- ومنها: أنه ليس للكافر التقاط طفل مسلم؛ لأنّه لا ولاية لكافرٍ على مسلم (79) .
- ومن فروعها: أنّ الولد يتبع المسلم من أبويه إذا اختلفا في الدين.(8/426)
قال ابن قدامة: (الولد يتبع أبويه في الدين، فإذا اختلفا وجبَ أن يتبع المسلمَ منهما، كولد المسلم من الكتابية، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى. ويترجح بأشياء، منها: أنه دين الله الذي رضيه لعباده، وبعث به رسله دعاةً لخلقه إليها. ومنها: أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق، وأداء الجزية، وفي الآخرة من سخط الله وعذابه ... ) (80) .
وقال الشيرازي: (إنّ الولد يتبع المسلم من أبويه؛ لأنّ الإسلام أعلى) (81) .
المطلب الخامس: في القصاص:
ومِن فروعها: أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى، والكفر نقص، والإسلامُ كمال، ولا مساواة بين مسلم وكافر في القصاص.
قال ابن عبد الهادي: (القاعدة الحادية والثلاثون: الكفر ناقص) ، وفرّع عليها أنّ الكافر يُقتل بالمسلم، ولا يُقتل مُسلمٌ بكافر (82) .
قال الشوكاني - مرجحاً مذهب الجمهور في أنه لا يُقتل مسلمٌ بكافر، وأنه لا مساواة في القصاص -: (ومِن ذلك: حديث ((الإسلام يعلو ولا يُعلى)) ) ، ويجب على المسلم الدية (83) .
المطلب السادس: في القضاء والفتوى:
ومِن مسائل هذا الباب: أنّ الإسلام شرط في القاضي، ولا يصحّ قضاء غير المسلم؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى (84) .
- منع مشاركة القاضي القانوني للقاضي الشرعي في الحكم؛ لأنّ الشريعة لا تقبل المشاركة؛ ولأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى.
- إبطال الردّ إلى غير الشريعة الإسلامية، وإبطال الحكم والتحاكم إلى القوانين الوضعية وتقديمها على الشريعة (85) ؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى.
- وجوب توحيد المصدر في التشريع، فلا يجوز أن يكونَ مع الشريعة مصدر مشارك في التشريع (86) ؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى.(8/427)
- يجب على المفتي الالتزام بشروط الفتوى لبيان حكم الشريعة في الوقائع والمسائل المستجدة (87) ، وأن لا يُطوّع أحكام الشرع الحنيف للواقع المنحرف عن الحق؛ لأنّ الشرع حاكم، وهو أعلى، وواقع الناس مَحْكُومٌ به، وإذا حَكَّمَ المفتي الأعراف الفاسدة في النصوص الشرعية فقد عكس، ومَن عَكَس انعَكسَ.
- منع تقديم العقل على الوحي المنزّل من عند الله؛ لأنّ الشرع حاكم والعقل تابع، ولو قُدِّمت أفكار العقول البشرية على الشريعة لَكانت الشريعة محكومة والعقل البشري حاكماً، وهذا باطلٌ (88) ، والإسلامُ يعلو ولا يُعلى.
نتائج البحث:
هذه أبرز النتائج التي توصلتُ إليها بعد دراسة هذه القاعدة، وهي:
1- أن هذه القاعدة قد وردَ النصّ الشرعي بها.
2- أن هذه القاعدة لها أهمية كبرى في الدراسات الفقهية المتعلقة بتحديد العلاقة بين المسلمين والكفار، سواء الحربيين، أو المُعاهدين، ويشملهم ما يُسمّى حديثاً بِ (القانون الدولي) ، أو ما يسميه الفقهاء: (أحكام الجهاد والسير) . وكذلك فإنّ (أحكام أهل الذمّة) يدخلُ كثير منها تحت هذه القاعدة.
3- أن هذه القاعدة لها أثر في المسائل الفقهية التي تختلف بين دار الإسلام ودار الكفر فيما يخصّ أحكام اللقيط، واختلاف الدين بين الزوجَين، وأثر ذلك على الطفل، وخاصة بعد التوسع في علاقة المسلمين بالأمم الأخرى، وانتشار المسلمين في العالَم، فلا تكاد تجد موضعاً في العالَم يخلو منهم.(8/428)
4- أن هذه القاعدة من أعظم ما يميز المسلم ويبعده عن التأثر بالكفار، والانهزام أمام أفكارهم وقوانينهم ومذاهبهم وهديهم، فهي تُميز المسلم في مصدر التشريع، وصحّة الاعتقاد، وتكشف عن بطلان الدعوات المعاصرة، ومنها: وحدة الأديان، أو زمالة الأديان، أو التشريعات الباطلة التي ما أنزل الله بها مِن سلطان، وتحول بين المسلم وبين التحاكم إلى شرائع الكفار متى ما عَلِم أنه هو الأعلى، وأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى.
5- أن هذه القاعدة لا يظهر لها أثر كبير فيما يخص علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وإنما يظهر أثرها بجلاء فيما يخص علاقة المسلمين بالكفار، كما تبيّن ذلك من الفروع الفقهية السابقة، وكذلك فيما يتعلق بِحُكم نكاح المشرك للمسلمة، وولاية الكافر على المسلم أو المسلمة، وحُكم استرقاق الكافر للمسلم، وحُكم عمل المسلم عند الكافر في الأعمال التي فيها إهانة.
6- أنّ الفقهاء أكثروا من استعمال هذه القاعدة، واعتمدوا عليها في كثير من الأبواب الفقهية، وفرعوا عليها المسائل. وهذا يدلّ على أهمّيتها عندهم.
7- أنّ كتب القواعد الفقهية لم تكن لها عناية بهذه القاعدة كما يجب، بخلاف كتب الفقهاء المتقدمة والمتأخرة التي ظهر فيها عناية الفقهاء بهذه القاعدة من حيث بناء الفروع عليها.
8- أنه يجب العناية بدراسة القواعد وتتبّع كتب الفقه الإسلامي، واستخراج القواعد التي لم تجد العناية الكافية في كتب القواعد المشهورة، ثم بيان أهمية تلك القواعد والكشف عن فروعها، وخاصة ذات الصلة الكبيرة بالمستجدّات
المعاصرة.
وفي الختام نسأل الله - عز وجل - أن ينصرَ دينه، ويُعلي كلمته، وأن يجمع المسلمين على الحقّ، وأن يرزقنا العزّة في الدنيا والآخرة. {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون} [المنافقون 8] .
الهوامش والتعليقات(8/429)
( [1] ) وما ظهرت الحاجة إلى التنبيه إليه أُشير إلى ذلك في الهامش. وأما التفصيل في الفروع المختلف فيها واستيعاب الأدلة وإجراء المناقشات بين الأدلة؛ فهذا يختص به (فقه الخلاف) أو ما سُمّي بِ (الفقه المقارن) .
(2) اللسان، لأبي الفضل جمال الدين بن منظور، ط: دار صادر، مادة: سَلِمَ 2/293-295؛ الصحاح 5/1951، مادة: سَلِم؛ تاج اللغة وصِحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط: 1402هـ.
(3) اللسان، مادة: شرع.
(4) اللسان، مادة شرع؛ والصحاح 6/2357.
(5) مجمل اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس (ت: 395هـ) ، مادة: علو 3/625، ط1، 1404هـ.
(6) اللسان، مادة: علا.
(7) تفسير القرطبي 4/217.
(8) هو يوسف بن عبد الهادي الصالحي الحنبلي المعروف بِ (ابن المِبْرَد) ، له مؤلفات كثيرة، منها: مغني ذوي الأفهام، وتحفة الوصول إلى علم الأصول، وبحر الدم فيمن تكلّم فيه الإمام أحمد بمدحٍ أو ذمّ، وتوفي سنة (909هـ) .
انظر: شذرات الذهب، لابن العماد (8/43) ، ط: دار إحياء التراث العربي؛ الأعلام، للزركلي (8/226) ، ط: الثامنة، دار العلم للملايين، 1989م.
(9) مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة الأحكام (ص: 180) ، صححه وعلق عليه: الشيخ / عبد الله عمر بن دهيش، ط: الثالثة، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع.
(0 [1] ) موسوعة القواعد الفقهية (1/397) ، ط: الثانية، مكتبة التوبة.
(1 [1] ) المحلى (4/314) ، ط: دار الفكر؛ وفتح الباري (3/220) ، ط: المكتبة السلفية.
(2 [1] ) هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي مولاهم البصري، شيخ العراق في عصره، وأحد الحفاظ المجوّدين، توفّي سنة (179هـ) .
انظر: الأعلام (2/271) .
(3 [1] ) المحلى (4/314) .(8/430)
(4 [1] ) هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل، فقيه حنفي، من كبار علماء الأصول، ومِن مؤلفاته: المبسوط في الفقه، وأصول السرخسي، وشرح السير الكبير، وتوفّي سنة (483هـ) .
انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لابن أبي الوفاء القرشي (3/78) ، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، ط: الأولى، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1398هـ.
(5 [1] ) المبسوط (5/40) ، ط: دار المعرفة.
(6 [1] ) هو: محمد أمين بن عمر الدمشقي، إمام الحنفية في عصره، له: نسمات الأسحار على شرح المنار، ومجموعة رسائل، وتوفي سنة (1252هـ) .
انظر: الأعلام (6/42) ؛ معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة (9/77) ، ط: مكتب المثنى ودار إحياء التراث العربي، (بيروت - لبنان) .
(7 [1] ) ردّ المحتار على الدرّ المختار، لابن عابدين (3/187) ، ط: الثانية، دار الفكر، 1399هـ - 1979م، بتصرف يسير.
(8 [1] ) هو: أحمد بن إدريس الصنهاجي المالكي، إمام في الفقه والأصول، له: الفروق، والذخيرة، ونفائس الأصول.. وغيرها، وتوفّي سنة (684هـ) .
انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لابن فرحون (ص: 62) ، ط: دار الكتب العلمية؛ شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد مخلوف، (ص: 188) ، ط: دار الفكر للطباعة والنشر.
(9 [1] ) الذخيرة (5/403) ، تحقيق: محمد بوخبزة، ط: الأولى، دار الغرب الإسلامي.
(20) هو: إبراهيم بن علي الفيروزآبادي، من كبار فقهاء الشافعية، له مؤلفات كثيرة، منها: المهذب، والتنبيه في الفقه، واللمع، والتبصرة في الأصول، وتوفّي سنة (476هـ) .
انظر: وفيات الأعيان، لابن خلكان (1/29) ، تحقيق: إحسان عباس، ط: دار صادر؛ طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي (4/215) ، تحقيق: محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، ط: إحياء الكتب العربية.
(21) المهذب (5/273) ، ط: مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.(8/431)
(22) هو: أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي الأنصاري الشافعي، أخذ عن الشيخ زكريا الأنصاري وغيره، وأفتى ودرس وعمره دون العشرين، ومن مؤلفاته: الزواجر عن اقتراف الكبائر، وشرح الأربعين النووية، وتحفة المحتاج في شرح المنهاج.. وغيرها، وتوفّي سنة (973هـ) .
انظر: شذرات الذهب (8/371) ؛ الأعلام (1/234) .
(23) اللقيط في اللغة: فعيل بمعنى مفعول كالملقوط، والأنثى منه لقيطة، واللقط: أخذ الشيء من الأرض. ومنه قوله تعالى: {فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص 8] .
انظر: لسان العرب (7/392) .
وفي اصطلاح الفقهاء: طفل لا يعرف نسبه ولا رقّه نُبذ أو ضلّ.
انظر: ردّ المحتار على الدرّ المختار (4/269) ، ط: الثانية؛ الخرشي على مختصر خليل (7/130) ، ط: دار صادر؛ مغني المحتاج (2/418) ، ط: دار إحياء التراث العربي؛ التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع (ص: 184) ، ط: المطبعة السلفية؛ أحكام اللقيط في الفقه الإسلامي، لعمر بن محمد السبيل، (ص: 10-17) .
(24) تحفة المحتاج بشرح المنهاج (6/351) ، بهامش حواشي الشرواني والعبادي، ط: دار صادر، (بيروت) .
(25) هو: عبد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي، شيخ الحنابلة، وصاحب العمدة، والمقنع، والكافي، والمغني، وروضة الناظر.. وغيرها، وتوفّي سنة (620هـ) .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (2/133) ، ط: دار المعرفة؛ شذرات الذهب (5/88) .
(26) المغني (9/18) ؛ (6/112) .
(27) هو: شيخ الحنابلة في مصر ومحرر مذهبهم، له: كشاف القناع، وشرح منتهى الإرادات، والروض المربع.. وغيرها، وتوفّي سنة (1051هـ) .
انظر: السحب الوابلة، لابن حميد (3/1131) ، تحقيق: عبد الرحمن العثيمين وبكر أبو زيد،
ط: الأولى، مؤسسة الرسالة، 1416هـ - 1996م؛ الأعلام (7/307) .
(28) كشاف القناع عن متن الإقناع (5/226) ، ط: عالم الكتب، بيروت.(8/432)
(29) انظر: المحلى (9/18) ؛ (6/112) .
(30) صحيح البخاري مع الفتح (3/219) ، باب: إذا أسلمَ الصبي فماتَ هل يُصلَّى عليه؟. ط: المكتبة السلفية.
(31) المصدر السابق (3/218) .
(32) فتح الباري (3/220) ، ط: المكتبة السلفية.
(33) المحلى (4/314) .
(34) أخرجه البيهقي (6/205) ، ط: دار الفكر.
(35) ثم قال: (ثم وجدته من قول ابن عباس كما كنت أظنّ، ذكره ابن حزم في المحلى) .
انظر ما سبق (ص: 7) .
(36) سنن الدارقطني (2/176-177) ، ط: الأولى، دار الكتب العلمية، 1417هـ - 1996م.
(37) مسند الروياني (2/37) ، ط: الأولى، مؤسسة قرطبة، 1416هـ - 1995م.
(38) الفتح (3/220) .
(39) عارضَ الألباني - رحمه الله - في تحسين الحديث، وقال: في سنده عبد الله بن حشرج، وهو وأبوه مجهولان. ونقل قول ابن أبي حاتم، والحافظ في لسان الميزان (4/278) ، للحافظ ابن حجر، تحقيق: خليل محمد العربي، ط: الأولى، 1416هـ - 1996م، دار المؤيد للنشر والتوزيع؛ والزيلعي في نصب الراية (3/213) ؛ والدارقطني في سننه (2/176-177) ؛ والذهبي. ثم قال الألباني: ويمكن أن يحسن لغيره؛ لحديث معاذ. ثم ذكره.
انظر: الإرواء (5/106-107-108) .
(40) نصب الراية (3/213) ، ط: الثانية، مكتبة الرياض الحديثة.
(41) تقريب التهذيب (2/87) ، تحقيق: الشيخ / خليل مأمون شيحا، ط: الثانية، دار
المعرفة، 1417هـ - 1997م.
(42) إرواء الغليل (5/108) ، ط: المكتب الإسلامي.
(43) إرواء الغليل (5/108) .
(44) إرواء الغليل (5/108) .
(45) صحيح البخاري مع الفتح (3/218) .
(46) هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المالكي، من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، والتذكرة في أمور الآخرة، وتوفّي سنة (671هـ) .
انظر: الديباج المذهب (2/308) ؛ شذرات الذهب (5/325) .
(47) تفسير القرطبي (4/217) .
(48) تفسير القرطبي (3/72) .(8/433)
(49) نيل الأوطار (7/12) ، ط: دار الجيل، (بيروت) .
(50) صحيح البخاري مع فتح الباري (12/260) .
(51) نيل الأوطار (7/12) .
(52) مغني ذوي الأفهام (ص: 180) ؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/231) ؛ المحلى (6/473) .
(53) تفسير القرطبي (3/72) ؛ وانظر ما سبق (ص: 13) .
(54) انظر ما سبق (ص: 10) .
(55) انظر ما سبق (ص: 8) .
(56) شرح كتاب السير الكبير، أملاه: محمد بن أحمد السرخسي (1/129) ، تحقيق: صلاح
المنجد، ط: مؤسسة قرطبة؛ مغني ذوي الأفهام (ص: 180) .
(57) المصدر السابق (1/129) .
(58) المصدر السابق (1/129) .
(59) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (8/13) . وقال في منتقى الأخبار (8/11) : (باب: أنّ عبد الكافر إذا خرجَ إلينا مسلماً فهو حرّ) ، وذكر أحاديث الباب. وقال الزهري:
(مضت السنة أنه لا يسترقّ كافرٌ مسلماً) . انظر: السير الكبير (1/129) ؛ المحلى (4/321) .
(60) المغني (5/410) ، ط: 1389هـ، الناشر: مكتبة القاهرة.
وانظر: مختصر الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: 519) .
(61) المهذب (2/260) .
(62) حاشية ابن عابدين (4/211) .
(63) المهذب (2/254-255) ؛ المغني (6/356) ؛ مغني ذوي الأفهام (ص: 180) .
(64) المغني (6/356) .
(65) المصدر السابق (6/356) .
(66) المغني (6/356) ؛ مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/635-639) ، نشر وزارة الشؤون الإسلامية، المملكة العربية السعودية.
(67) مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية (ص: 517) ، ط2، 1406هـ، دار ابن القيم، صححه: محمد حامد الفقي.
(68) مجموع الفتاوى الكبرى (35/365) .
(69) شرعت في بحث عنوانه: (ضوابط حرية المعتقد في الشريعة لأهل الذمة) ، نسأل الله إتمامه.
(70) انظر في هذا كتاباً بعنوان: (إبطال نظرية الخلط بين الأديان) ، لفضيلة الشيخ الدكتور / بكر أبو زيد.(8/434)
(71) هو: أحمد بن محمد العدوي المالكي، له: شرح على مختصر خليل، ومتن في الفقه أيضاً، وتوفّي سنة (1201هـ) .
انظر: فهرس الفهارس (1/293-294) ، لعبد الحي الكتاني، ط: الثانية، دار الغرب الإسلامي، (بيروت - لبنان) ، 1402هـ - 1982م.
(72) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/486) .
(73) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (4/17-18) ، ط: دار الكتب العلمية.
هذا وقد نقل الفقهاء الإجماع على عدم توريث المسلم من الذمي - كما هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - وعلى هذا لو تحاكموا إلينا في ميراثهم أو في غيره حكمنا بينهم بالإسلام؛ لشرف المسلم. وليس المقصود هنا تحقيق النفع المادي للمسلم، إذِ المعلوم على مذهب المالكية وبقية المذاهب المذكورة منع المسلم من إرث أبيه الذمي، وإنما الحكم بينهم بالإسلام؛ لصحة منهج المسلم وشرف دينه. والدليل على منعه حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي رواه الجماعة إلا مسلماً: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلم)) ، صحيح البخاري مع فتح الباري (12/50) .
وذهب معاذ ومعاوية رضي الله عنهما إلى توريثه؛ لحديث: ((الإسلام يزيد ولا ينقص)) ، وعلله بعضهم بقاعدة (الإسلام يعلو) . وهذا القول مخالف لمذاهب أهل العِلْم، وعلوُّ الإسلام لا يدلّ على لزوم توريثه؛ لانتفاء الولاية بين المسلم والكافر. وحديثهم في إسناده مقال، وهو مجمل، ومعناه - إن صحّ - زيادة الإسلام واستمراره. ودليل الجمهور نصّ في منع التوارث بين المسلم والكافر.
انظر: تفصيل المسألة في: المغني (6/367) ؛ حاشية العدوي على الخرشي (2/355) ؛ بداية المجتهد (2/322) ؛ أحكام القرآن، للجصاص (2/101) ؛ إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد (4/17-18) ؛ فتح الباري (12/50) ؛ نيل الأوطار (6/83-84) ؛ أحكام أهل الذمة، لابن القيم (2/462-464) ، ط: دار العلم.(8/435)
وانظر تخريج حديث: ((الإسلام يزيد ولا ينقص)) في: تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، لابن الملقن (20/311-312) ، تحقيق: د / عبد الله سعاف اللحياني، ط: الأولى، دار حراء.
(74) قلت: الكفار أصناف: منهم المحاربون، ومنهم أهل الذمة، وهم الذين دخلوا تحت أحكامنا ووجبت علينا حمايتهم ودفع الضرر عنهم ونصرتهم على مَن اعتدى عليهم، ومنهم مَن بيننا وبينهم معاهدات ومسالمة بوضع الحرب بين الطرفين، كما صالَحَ النبي عليه الصلاة والسلام كفارَ مكة في صلح الحديبية، ومنهم المستأمن، وهو مَن دخل دار الإسلام بأمان ثم يعود إلى بلاده. المغني (9/332) .
وانظر رسالة: دار الإسلام ودار الكفر والعلاقة بينهما، لعابد السفياني (ص: 78) .
فأما الكفار المحاربون فالعلماء متفقون على منع التوارث بينهم وبين المسلمين؛ لعموم حديث: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلم)) ، وقد سبق، ولأنّ الإرث فيه معنى المناصرة، ولا مناصرة بينهم.
وأما الكفار من أهل الذمة فلا توارث بينهم وبين أقاربهم من المسلمين عند الجمهور.
وأما توريث المسلم من قريبه الكافر غير الذمي وغير الحربي، وهو الصنف الثالث، أي: المعاهد الذي بيننا وبينهم مُسالمة ومُعاهدة، فهذا لم يقل به أحد من أهل العِلْم - فيما أعلم -، ودليل ذلك أن الخلاف المنقول في كتب الفقه إنما هو في مسألة إرث المسلم من قريبه الذمي؛ لأنّ أهل الذمّة تحت أحكامنا قد أَعطوا الجزية وهم صاغرون، وتجب علينا نُصرتهم على مَن اعتدى عليهم، فاختلف الفقهاء في جواز توريث المسلم مِن قريبه الذمي، فالجمهور على المنع، وهو الراجح؛ لعموم الحديث، والباقون على الجواز؛ لوجود تلك المعاني في العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة، وهذا بخلاف العلاقة بين المسلمين والمعاهدين من غير أهل الذمّة.
(75) المغني (6/112) ، تحقيق: محمد الزيني، ط: مكتبة القاهرة، 1389هـ.(8/436)
(76) تحفة المحتاج بشرح المنهاج، لابن حجر الهيتمي (6/351) .
(77) المغني (6/113) ؛ حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج (6/351) ؛ التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع (ص: 184) ، ط: الثانية، المكتبة السلفية، 1406هـ.
(78) المغني (6/121) .
(79) المغني (6/120) .
(80) المغني (9/18) . وانظر: منتقى الأخبار مع نيل الأوطار (7/227-228) ، قال: (باب: تبع الطفل لأبويه في الكفر ولِمن أسلم منهما في الإسلام، وصحة إسلام المميز) . واستدلّ على ذلك بأحاديث..
(81) المهذب (2/239) ؛ (2/260) ؛ وانظر: المحلى (4/322-323) ؛ فتح الباري، للحافظ ابن حجر (3/218-220) ؛ تحفة المحتاج مع حواشيه (6/353) .
(82) مغني ذوي الأفهام (ص: 180) .
والظاهر أنّ هذه القاعدة التي ذكرها ابن عبد الهادي تُبنى على قاعدة: (الإسلام يعلو ولا يُعلى) ؛ لأنّه كمال، والكفر نقص.
(83) نيل الأوطار (7/12) .
وانظر: المغني (8/273) ؛ المحلى (10/352) ؛ التشريع الجنائي في الإسلام، لعبد القادر عودة (2/122) ، ط: دار التراث العربي.
(84) لم أطّلع على مَن علل بالقاعدة في هذا الموضع.
وانظر اشتراط الإسلام في القاضي في: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/437) ، ط: دار الكتب العلمية، 1418هـ؛ شرح الخرشي على مختصر خليل (7/138) ، ط: دار الكتاب الإسلامي؛ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (8/238) ، ط: دار الكتب العلمية، 1414هـ؛ شرح منتهى الإرادات (3/464) ، ط: دار الفكر.
(85) تحكيم القوانين، للعلامة: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، (ص: 1-6) .
(86) تحكيم القوانين (ص: 1-6) .
(87) انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم (1/47) ، ط: دار الجيل.
(88) انظر أصل المسألة في: الموافقات، للإمام الشاطبي (1/78-79) ، (1/87) ؛ وشرح العقيدة الطحاوية، (ص: 181-183) ، للقاضي علي بن علي ابن أبي العزّ، ط1، بيروت، 1405هـ.
المصادر والمراجع(8/437)
1- أحكام أهل الذمّة، لابن قيم الجوزية، تحقيق: د. صبحي الصالح، ط2، دار العلم، 1401هـ.
2- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد، ط: دار الكتب العلمية.
3- إرواء الغليل، لمحمد بن ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، 1399هـ - 1979م.
4- الأعلام، للزركلي، ط8، دار العلم للملايين، 1989م.
5- إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، ط: دار الجيل، 1973م، قدّم له: طه عبد الرؤوف سعد.
6- البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين بن إبراهيم المصري المعروف بابن نجيم، ط: دار الكتب العلمية، 1418هـ.
7- تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، لابن الملقن، تحقيق: د / عبد الله سعاف اللحياني، ط1، دار حراء.
8- تحفة المحتاج بشرح المنهاج، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، ط: دار صادر، (بيروت) .
9- التشريع الجنائي في الإسلام، لعبد القادر عودة، ط3، دار التراث العربي، 1977م.
10- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، دار الفكر، لبنان، 1401هـ.
11- تقريب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: الشيخ / خليل مأمون شيحا، ط2، 1417هـ - 1997م، دار المعرفة.
12- التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع، لأبي الحسن المرداوي، ط2، المكتبة السلفية، 1406هـ.
13- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لابن فرحون، ط: دار الكتب العلمية.
14- الذخيرة، لأحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد بو خبزة، ط1، دار الغرب الإسلامي.
15- ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، ط: دار المعرفة.
16- ردّ المحتار على الدرّ المختار، لابن عابدين، ط2، دار الفكر، 1399هـ - 1979م.
17- السحب الوابلة، لابن حميد، تحقيق: د / عبد الرحمن العثيمين وبكر أبو زيد، ط1، مؤسسة الرسالة، 1416هـ - 1996م.
18- سنن الدارقطني، للدارقطني، ط1، دار الكتب العِلْمية، 1417هـ - 1996م.(8/438)
19- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد مخلوف، ط: دار الفكر للطباعة والنشر.
20- شذرات الذهب، لابن العماد، ط: دار إحياء التراث العربي.
21- شرح الخرشي على مختصر خليل، ط: دار الكتاب الإسلامي وط: دار صادر.
22- شرح العقيدة الطحاوية، للقاضي علي بن علي بن أبي العزّ، ط1، بيروت، 1405هـ، تحقيق: بشير محمد عيون، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق.
23- شرح كتاب السير الكبير، أملاه: محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق: صلاح المنجد، ط: مؤسسة قرطبة.
24- شرح منتهى الإرادات، لمنصور بن يونس البهوتي، ط: دار الفكر.
25- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط3، 1402هـ.
26- صحيح البخاري مع فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ط: المكتبة السلفية.
27- طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، تحقيق: محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، ط: إحياء الكتب العربية.
28- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ط: المكتبة السلفية.
29- فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني، ط2، دار الغرب الإسلامي، (بيروت - لبنان) ، 1402هـ - 1982م.
30- كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس البهوتي، ط: عالم الكتب، بيروت.
31- لسان العرب، للعلاّمة: أبي الفضل جمال الدين ابن منظور، الناشر: دار صادر، بيروت.
32- لسان الميزان، للحافظ ابن حجر، تحقيق: خليل محمد العربي، ط1، 1416هـ - 1996م، دار المؤيد للنشر والتوزيع.
33- المبسوط، لمحمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، ط: دار المعرفة.
34- مجمل اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، ط1، 1404هـ.
35- مجموع الفتاوى، لابن تيمية، نشر وزارة الشؤون الإسلامية، المملكة العربية السعودية.
36- المحلى، لابن حزم، ط: دار الفكر.(8/439)
37- مختصر الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: محمد حامد الفقي، ط2، 1406هـ، دار ابن القيم.
38- مسند الروياني، لمحمد بن هارون الروياني، ط1، مؤسسة قرطبة، 1416هـ - 1995م.
39- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، ط: مكتب المثنى ودار إحياء التراث العربي، (بيروت، لبنان) .
40- المغني، تأليف: أحمد بن محمد بن قدامة، تحقيق: د. طه محمد الزيني، الناشر: مكتبة القاهرة، 1389هـ.
41- مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة الأحكام، صححه وعلق عليه: الشيخ / عبد الله عمر بن دهيش، ط3، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع.
42- المهذب، لإبراهيم بن علي الشيرازي، ط: مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.
43- الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي، تعليق: عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
44- موسوعة القواعد الفقهية، لمحمد صدقي البورنو، ط2، مكتبة التوبة.
45- نصب الراية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي، ط: الثانية، مكتبة الرياض الحديثة.
46- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لمحمد بن أحمد الرملي، ط: دار الكتب العلمية، 1414هـ.
47- نيل الأوطار، لمحمد بن علي الشوكاني، ط: دار الجيل (بيروت - لبنان) ، الأولى، 1412هـ - 1992م.
48- وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، ط: دار صادر.(8/440)
المسائل الفقهية المتعلقة بالمغتربين
في صلاة الجمعة والعيدين والجنائز
د. عبد الكريم بن يوسف الخضر
أستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك سعود - كلية التربية - الرياض
ملخص البحث
يعيش المسلم المغترب في بلاد الكفار معيشة تختلف عن معيشة المسلم في بلاد المسلمين. وذلك لوجود بعض الصعاب التي تعترض طريقه، ومن أهم هذه الصعاب وجود الفوارق الواضحة في المسائل والأحكام الفقهية بين ما يكون في بلاد المسلمين وما يكون في بلاد الكفار. ولذلك يحتاج المسلم المغترب إلى معرفة هذه المسائل والأحكام ليكون على بصيرة من أمره، وعلى علم في دينه، فلا تختلط عليه أحكام غربته مع أحكام إقامته في بلاد المسلمين. وهذا البحث الذي بين أيدينا حاول أن يعالج جانباً من هذه الجوانب ولذلك عنى بثلاثة أمور في جانب عبادة المغترب وهي:
1 - صلاة الجمعة وقد بحثت فيها:
أ - حكم إذن الإمام بإقامتها.
ب - العدد الذي يشترط لإقامتها.
ج - حكم الخطبة بغير اللغة العربية.
2 - صلاة العيدين وقد بحثت فيها حكم إقامتها للمغتربين.
3 - الجنائز وقد بحثت فيها:
أ - حكم وضعها في تابوت قبل الدفن.
ب - حكم دفن المسلم في مقابر الكفار.
ج - حكم زيارة قبور الكفار.
ثم ختمت البحث بخاتمة وضعت فيها أهم النتائج التي تم التوصل إليها في هذا البحث.
وأسأل اللَّه الكريم أن يتقبل هذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه وأن ينفع به من كتبه وقرأه، والحمد لله رب العالمين.
المقدمة:
الحمد لله العفو العليم، التواب العزيز الرحيم، اللطيف الشكور الكريم، مالك الملك الجواد الحليم، أحمده حمد من يعترف بفضله وآلائه، ويسأله المغفرة لتقصيره في القيام بواجباته، وأشهد أنه اللَّه الذي لا إله إلا هو المتفرد بكبريائه المتعالي عن خلقه المختص بأسمائه وصفاته.(8/441)
وأشهد أن محمد بن عبد اللَّه الرسول النَّبِيّ الأمي خاتم أنبيائه، أرسله إلى عامة خلقه وجميع أوليائه، ليبين لهم طريق الحق من طريق الغواية، وأصلي وأسلم عليه وعلى أصحابه وأزواجه ومن اقتفى سنته يرغب بالهداية، أما بعد:
فهذا بحث متواضع في أهم المسائل التي تختص بالمسلمين المغتربين في صلاة الجمعة والعيدين والجنائز أسميته: المسائل الفقهية المتعلقة بالمغتربين في صلاة الجمعة والعيدين والجنائز.
سبب اختيار الموضوع وأهميته:
حينما يقيم المسلم المغترب في مكان اغترابه فإنه يرغب في ممارسة شعائر دينه التي ميزه اللَّه بها وتفضل عليه بشرعها. ومنها صلاة الجمعة وصلاة العيدين. ودفن الجثمان بعد الصلاة عليه.
والأصل أن المسلم المغترب لا يختلف في أحكامه عن المسلم غير المغترب الذي يقيم في بلاده خاصة في وجوب إظهار شعائر الدين الظاهرة، ما لم يخف على نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه، ومن أظهر الشعائر صلاتا الجمعة والعيدين.
ولذلك فقد وجدت بضع مسائل في هذه الشعائر الظاهرة يحتاج إليها المسلم المغترب في غربته. رغبت في بحثها واستقصاء أقوال الفقهاء فيها ومعرفة ما يترجح من هذه الأقوال بالأدلة الصريحة الصحيحة، علّي في ذلك أكون قد أسهمت إسهاماً قليلاً قليلة في تجلية بعض الإشكالات الفقهية التي قد تعترض طريق إخواننا المسلمين في بلاد الغربة ( [1] ) .
خطة البحث:
انتظمت خطة البحث في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
المقدمة وقد اشتملت على:
أ - سبب اختيار الموضوع وأهميته.
ب - خطة البحث.
الفصل الأول: في صلاة الجمعة. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: إذن الإمام في إقامة الجمعة.
المبحث الثاني: العدد الذي تقام فيه الجمعة.
المبحث الثالث: حكم الخطبة بغير العربية.
الفصل الثاني: في حكم صلاة العيد للمغتربين.
الفصل الثالث: في الجنائز. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حكم زيارة قبور المشركين.(8/442)
المبحث الثاني: الدفن في التابوت.
المبحث الثالث: حكم دفن المسلم المغترب في مقابر الكفار.
هذا ما يسر اللَّه لي جمعه من المسائل الفقهية المتعلقة بالمغتربين في صلاة الجمعة والعيدين والجنائز، فإن كان ما ذكرته فيها صواباً فمن اللَّه وحده وله الحمد والنعمة والفضل، وإن يكن ما ذكرته فيها خطئًا فمن نفسي والشيطان، وأستغفر اللَّه العظيم منه، والحمدلله رب العالمين.
الفصل الأول: في صلاة الجمعة:
المبحث الأول: إذن الإمام في إقامة الجمعة
اختلف الفقهاء في اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يشترط لصحتها إذن الإمام.
وهذا قول المالكية ( [2] ) ، والشافعية ( [3] ) ، ورواية عند الحنابلة ( [4] ) .
القول الثاني: أنه يشترط لصحتها إذن الإمام.
وهذا قول الحنفية ( [5] ) ، ورواية عند الحنابلة ( [6] ) .
القول الثالث: أن إذن الإمام شرط لوجوبها لا لجوازها.
وهذا رواية عند الحنابلة ( [7] ) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
عن عبيد اللَّه بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم ( [8] ) .
وجه الدلالة: أن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه لم ينكر على من صلى الجمعة خلف إمام الفتنة، مع أن هذا الإمام صلى بدون إذن الإمام الأعظم وهو عثمان ابن عفان، مما يدل على عدم وجوب إذن الإمام في إقامة الجمعة.
الدليل الثاني:
أن علياً صلى الجمعة بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد وصوب ذلك عثمان وأمر بالصلاة معهم ( [9] ) .
وجه الدلالة: أن صلاة علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه الجمعة بالناس وعثمان رضي اللَّه عنه محصور دليل على جواز صلاة الجمعة بدون إذن الإمام.
الدليل الثالث:(8/443)
أن صلاة الجمعة من فرائض الأعيان فلم يشترط لها إذن الإمام كالظهر ( [10] ) .
الدليل الرابع:
أن صلاة الجمعة صلاة تشبه سائر الصلوات فتكون مثلها في عدم اشتراط إذن الإمام فيها ( [11] ) .
دليل القول الثاني:
أنه لا يقيم صلاة الجمعة إلا الأئمة في كل عصر فصار ذلك إجماعاً على عدم جواز إقامتها بدون إذن الإمام ( [12] ) .
نوقش: أن ما ذكرتموه من الإجماع لا يصح لأن الناس يقيمون الجُمُعات في القرى من غير استئذان أحد، ثم لو صح أنه لم يقع إلا ذلك لكان إجماعاً على جواز ما وقع لا على تحريم غيره. كالحج يتولاه الأئمة وليس بشرط فيه ( [13] ) .
أما القول الثالث فلم أجد له أدلة خاصة به.
الترجيح:
بعد النظر في هذه المسألة ومعرفة الأقوال الواردة فيها والاطلاع على أدلتها ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة منها تبين لي - واللَّه أعلم بالصواب - أن القول الراجح هو القول الأول وهو أنه لا يشترط إذن الإمام في صحة إقامة صلاة الجمعة. وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة ولضعف دليل القول الثاني وعدم سلامته من المناقشة. ولتعذر إمكانيته خاصة على أولئك المغتربين من المسلمين الذين يقيمون في بلاد الكفار، فلا يمكنهم الحصول على إذن إمام البلد الذي يقيمون فيه، ولو استطاعوا الحصول على إذنه فإنه يستطيع منعهم إقامتها برجوعه عن إذنه فيها في أي وقت، وبالتالي يُحرم المسلمون المقيمون في تلك البلاد من إقامة الجمعةإلا بإذن إمام البلد الكافر وهذا بعيد لأن فيه جعل سبيل للكافرين على المسلمين، واللَّه لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً. قال تعالى: {ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ( [14] ) .
المبحث الثاني: العدد الذي تقام فيه الجمعة
قد يوجد بعض المسلمين في بلد من بلاد الكفار ويرغبون في إقامة صلاة الجمعة ولكنهم عدد قليل، فهل يصح منهم إقامة صلاة الجمعة بالعدد القليل وما هو أقل عدد يمكن أن تقام فيه صلاة الجمعة.(8/444)
اختلف أهل العلم في العدد الذي تقام فيه الجمعة على أقوال كثيرة، أهمها:
القول الأول: أنها تنعقد بثلاثة رجال.
وهذا القول رواية عند الحنابلة ( [15] ) ، وقول أبي يوسف من الحنفية ( [16] ) ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ( [17] ) .
القول الثاني: أنها تنعقد بأربعين رجلاً.
وهذا مذهب الشافعية ( [18] ) ، والرواية المشهورة عند الحنابلة ( [19] ) .
القول الثالث: أنها تنعقد بخمسين رجلاً.
وهذا رواية عند الحنابلة ( [20] ) .
القول الرابع: أنها تنعقد باثني عشر رجلاً.
وهذا القول مذهب المالكية ( [21] ) .
القول الخامس: أنها تنعقد بأربعة.
وهذا مذهب الحنفية ( [22] ) ، ورواية عند الحنابلة ( [23] ) .
القول السادس: أنها تنعقد باثنين فما فوق.
وهذا مذهب ابن حزم ( [24] ) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي الدرداء رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -يقول: " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" ( [25] ) .
وجه الدلالة: أن الصلاة في هذا الحديث عامة تشمل الجمعة وغيرها، فإذا كانوا ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة ومنها صلاة الجمعة فإن الشيطان قد استحوذ عليهم. وهذا يدل على وجوب صلاة الجمعة على الثلاثة، ولا يمكن أن يقال: أنها تجب على الثلاثة، ثم يقال: إنها لا تصح من الثلاثة، لأن إيجابها عليهم ثم قولنا إنها غير صحيحة تضاد معناه: أمرناهم بشيء باطل والأمر بالشيء الباطل حرام ( [26] ) .
الدليل الثاني: قال اللَّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللَّه وذروا البيع ... } الآية ( [27] ) .
وجه الدلالة: أن هذه الصيغة الواردة في الآية صيغة الجمع فيدخل فيها الثلاثة، فيكون الثلاثة مأمورون بالسعي إلى صلاة الجمعة وهذا يدل على أنها تنعقد بهم ( [28] ) .(8/445)
الدليل الثالث: أن هذا العدد أقل الجمع فهو يتناوله اسم الجمع فتنعقد به الجماعة كالأربعين ( [29] ) .
الدليل الرابع: أن المثنى في حكم الجماعة حتى يتقدم الإمام عليهما، وفي الجماعة معنى الاجتماع، وذلك يتحقق بالمثنى ( [30] ) .
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
قال الإمام أحمد في رواية الأثرم: بعث النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -مصعب بن عمير إلى أهل المدينة فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين وكانت أول جمعة جمعت ( [31] ) .
وجه الدلالة: أن هذا الأثر يدل على أن العدد الذي تنعقد به الجمعة هو أربعون رجلاً، فاقتصر عليه إذ التجميع تغيير فرض فلا يصار إليه إلا بنص أو اتفاق، ولم يثبت ذلك. مما يدل على عدم انعقاد الجمعة بأقل من هذا العدد ( [32] ) .
يناقش:
بأنه إن صح هذا الأثر فإن بلوغهم هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً فلا يصح الاستدلال به، فلم يقل أنهم أمروا أن يجمعوا فلما بلغوا أربعين أقاموا جمعة، فلو كان لفظ الحديث هكذا لكان فيه شيء من الاستدلال. أما والحالة هذه فليس فيه شيء من الاستدلال ( [33] ) .
الدليل الثاني:
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمّع بنا في هزم النّبيت ( [34] ) من حرة بني بياضة ( [35] ) في نقيع يقال له: نقيع الخضمات ( [36] ) ، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون ( [37] ) .
وجه الدلالة: حيث دل هذا الأثر على أن أول جمعة جمعت في المدينة كان عدد من جمع بهم أربعين مما يدل على أن هذا العدد هو العدد الذي تنعقد به الجمعة.
يناقش من وجهين:
الوجه الأول: أن فيه محمد بن إسحاق، وهو مختلف فيه ( [38] ) .(8/446)
الوجه الثاني: أن هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً فلا يصح الاستدلال به؛ لأنه لم ينص على أنهم أمروا بإقامة الجمعة فلم يقيموها حتى بلغوا أربعين، مما يدل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعين، بل قصارى ما أفاد هو أن العدد الذي أقيمت به أول جمعة في المدينة بناء على هذا الأثر هو أربعون.
الدليل الثالث:
عن جابر بن عبد اللَّه قال: مضت السنة أن في كل ثلاثة إمام أو في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطر، وذلك أنهم جماعة ( [39] ) .
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يفيد أن أقل عدد تنعقد به صلاة الجمعة وصلاة العيد هو أربعون. مما يدل على أنها لا تنعقد بأقل من ذلك.
يناقش: بأن هذا الحديث ضعيف ( [40] ) فلا يصح الاستدلال به ( [41] ) .
دليل القول الثالث:
عن أبي أمامة أن نبي اللَّه- صلى الله عليه وسلم -قال: " على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك " ( [42] ) .
وجه الدلالة: أن هذا الحديث نص على عدم جواز انعقاد الجمعة بأقل من خمسين رجلاً. لأنها لا تجب على من هم أقل من ذلك.
نوقش: أن هذا الحديث ضعيف فلا يصح الاستدلال به ( [43] ) .
أدلة القول الرابع:
الدليل الأول:
عن جابر بن عبد اللَّه قال: بينا النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر. قال: ونزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} ( [44] ) ( [45] ) .
وجه الدلالة: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -استمر في صلاة الجمعة مع أنه لم يبق معه بعد انصراف الناس للعير إلا اثنا عشر رجلاً، وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة، فيكون أقل عدد تنعقد به الجمعة اثني عشر رجلاً ( [46] ) .(8/447)
نوقش: أن هذا العدد الذي بقي مع النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -وقع اتفاقاً ولم يكن قصداً، فربما يبقى أكثر، وربما يبقى أقل، فلا يكون فيه دليل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة اثنا عشر رجلاً ( [47] ) .
الدليل الثاني: أن مصعب بن عمير حين بعثه النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة جمع بهم وهم اثنا عشر رجلاً ( [48] ) .
نوقش من وجهين:
الأول: أن هذا لا يصح إسناده فلا يصح الاستدلال به ( [49] ) .
الوجه الثاني: أنه لو صح فإنه لا يكون فيه دليلاً على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة اثنا عشر؛ لأنا نقول أن هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً. فربما لو اجتمع أقل من ذلك لجمع بهم مما يدل على أن هذا لا يدل على أن أقل عدد تقام به الجمعة اثنا عشر ( [50] ) .
أدلة القول الخامس:
الدليل الأول:
قال اللَّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللَّه وذروا البيع ... } الآية ( [51] ) .
وجه الدلالة: أن ما ذكر في الآية يقتضي منادياً وذاكراً وهو المؤذن والإمام والاثنان يسعون لأن قوله: "فاسعوا" لا يتناول إلا المثنى، ثم مادون الثلاث ليس بجمع متفق عليه فإن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع، فالمثنى وإن كان فيه معنى الجمع من وجه فليس بجمع مطلق واشتراط الجماعة ثابت مطلقاً ( [52] ) .
يناقش: أن الخطاب في الآية لعموم المؤمنين بوجوب إقامة صلاة الجمعة إذا نودي لها. وأقل ما تتجه له صيغة الخطاب في الآية هم الثلاثة لأنهم أقل الجمع فتنعقد الجمعة بثلاثة لأنهم أقل الجمع.
الدليل الثاني:
عن أم عبد اللَّه الدوسية قالت: قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -: " الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلاَّ أربعة " ( [53] ) .(8/448)
وجه الدلالة: أن هذا الحديث أثبت أن الجمعة تقام في القرية وإن لم يكن فيها إلاَّ أربعة، وهذا يدل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة هو أربعة وأن ما كان أقل من ذلك فإنه لا تنعقد به الجمعة.
يناقش: أن هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به لأن فيه معاوية بن يحيى ومعاوية بن سعيد وهما مجهولان ( [54] ) .
الدليل الثالث:
أن الأربعة عدد يزيد على أقل الجمع المطلق أشبه الأربعين ( [55] ) .
يناقش: أن الجمعة يكفي فيها أقل الجمع وهو ثلاثة لأنه تنعقد به الجماعة ولا داعي للزيادة عليه طالما أنه يكفي، فتنعقد الجمعة به. ثم إنه لا داعي لأن يكون العدد يشبه الاربعين حتى تنعقد به الجمعة لأنه لم يثبت أن الجمعة لا تنعقد إلاَّ بالأربعين.
دليل القول السادس:
" إن الاثنين جماعة فيحصل الاجتماع، ومن المعلوم أن صلاة الجماعة في غير الجمعة تنعقد باثنين بالاتفاق، والجمعة كسائر الصلوات فمن ادعى خروجها عن بقية الصلوات، وأن جماعتها لابد فيها من ثلاثة فعليه الدليل" ( [56] ) .
نوقش: أنه لابد في صلاة الجمعة من جماعة تستمع الخطبة من الخطيب وأقلها اثنان والخطيب هو الثالث: فيتبين أنه لابد في صلاة الجمعة من ثلاثة خطيب ومستمعان وأن الاثنين لا يكفيان؛ لأن أحدهما يكون خطيباً والآخر يكون مستمعاً ( [57] ) .
الترجيح:(8/449)
بعد الاطلاع على هذه المسألة والنظر في الأقوال الواردة فيها ومعرفة أدلة هذه الأقوال، ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة من هذه الأدلة تبين لي - واللَّه أعلم بالصواب- أن القول الراجح هو القول الأول وهو أن الجمعة تنعقد بثلاثة رجال فإذا وجد ثلاثة رجال من أهل الجمعة صحت إقامة صلاة الجمعة في المكان الذي يقيمون به. وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة ولعدم سلامة أدلة الأقوال الأخرى من المناقشة؛ ولأن هذا العدد أقل الجمع الذي يمكن أن يحصل به اجتماع، خاصة حينما يتقدم الإمام للخطبة والصلاة فيكون خلفه اثنان وبالتالي تكتمل الجماعة ويحصل الاجتماع، واللَّه أعلم.
المبحث الثالث: حكم الخطبة بغير العربية
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها لا تصح بغير العربية لغير الحاجة، وتصح للحاجة.
وهذا قول عند الشافعية ( [58] ) ، ومذهب الحنابلة ( [59] ) ، وقول الصاحبين من الحنفية ( [60] ) ، وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية ( [61] ) .
القول الثاني: أنه تشترط الخطبة بالعربية ولا تصح بغيرها.
وهذا مذهب المالكية ( [62] ) ، والشافعية ( [63] ) ، والرواية الصحيحة عند الحنابلة ( [64] ) .
القول الثالث: أنه يستحب الخطبة بالعربية ويصح بغيرها.
وهذا قول أبي حنيفة وهو المعتمد عند الحنفية ( [65] ) ، وقول عند الشافعية ( [66] ) ، ورواية عند الحنابلة ( [67] ) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول:
أن الخطبة لا تكون إلاَّ بالعربية لمن يفهمها ويعرفها ويحصل الفائدة المرجوة منها ولكن إذا كان المستمعون لها لا يفهمونها ولا يعرفونها ولا يحصلون الفائدة المرجوة منها إذا كانت بالعربية فإنه يجوز أن تكون بلسانهم الذي يعرفونه لا بالعربية، وذلك لأن المقصود من الخطبة الوعظ والإرشاد والتوجيه وهذا يأتي لمن لم يفهم الخطبة لكونها ألقيت بغير لسانه ولغته.
الدليل الثاني:(8/450)
أن الخطبة بالعربية ليست مقصودة لذاتها حتى يمكن أن يقال بعدم صحتها بغيرها حتى ولو لم يفهمها الناس المستمعون بل هي مقصودة لما فيها من تعليم وتوجيه وإرشاد للمستمعين لها وهذا لا يحصل لمن لم يفهمها ويعرفها لكونها ألقيت بغير لغته التي يفهمها.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
عن مالك بن الحويرث قال: أتينا إلى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أوقد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم " ( [68] ) .
وجه الدلالة: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -أمر في هذا الحديث بأن يصلي المسلم كما رأي النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -يصلي ويقتدي به في أحواله كلها وخاصة الصلاة، وخطبة الجمعة جزء من الصلاة التي ينبغي أن يقتدي المسلم فيها بالنبي- صلى الله عليه وسلم -، وبما أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -كان يخطب الجمعة بالعربية فإنه ينبغي ألا تخطب الجمعة إلاَّ بالعربية ولا تصح بغيرها، اقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم -.
يناقش: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -إنما كان يخطب بالعربية لأنه عربي ويخطب بقوم عرب فلا حاجة للخطبة بغيرها، وهذا ما نقول به عند عدم الحاجة للخطبة بغيرها، وأما حينما يكون هناك حاجة للخطبة بغيرها كأن يكون الذين تلقى عليهم الخطبة غير عرب ولا يفهمون العربية فإنه يصح أن يخطب بهم بلغتهم من أجل تحصيل المقصود من الخطبة وهو الوعظ والإرشاد والنصح، مما لا يتحصل لوقلنا بوجوب الخطبة بالعربية لهم.
الدليل الثاني:(8/451)
أننا نقول بوجوب الخطبة باللغة العربية لاتباع السلف والخلف حيث لم يعهد منهم الخطبة بغير العربية ( [69] ) .
يناقش: أن السلف والخلف الذين ذكرتم إنما كانوا يخطبون باللغة العربية لأنهم كانوا يخطبون بأناس يعرفون العربية، وهذا مما لا شك فيه أنه ينبغي الخطبة في مثل هذه الحالة باللغة العربية لعدم الحاجة للخطبة بغيرها.
الدليل الثالث:
أن الخطبة ذكر مفروض فيشترط فيها أن تكون باللغة العربية كتكبيرة الإحرام والتشهد ونحوها ( [70] ) .
يناقش: أنه لا يسلم لكم أنه يلزم أن تكون جميع الأذكار المفروضة باللغة العربية لأنه يلزم من هذا القول إثبات فرضية تعلم العربية على جميع المسلمين وهذا قول مرجوح لقول اللَّه تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فيالدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} ( [71] ) .
وبناء على هذا فإننا نقول بعدم وجوب تعلم العربية على جميع المسلمين فإذا قلنا بهذا القول فإننا نقول إنه يمكن أن تكون بعض الأذكار بغير العربية عند الحاجة لذلك ومنها الخطبة.
دليل القول الثالث:
أن المقصود من الخطبة الوعظ وهو حاصل بكل اللغات فتصح الخطبة بأي لغة كانت ( [72] ) .
يناقش: أن الأصل في الخطبة أن تكون باللغة العربية إذا كان المستمعون يفهمونها ويعرفونها ولا تصح بغيرها لفعل النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -وأصحابه من بعده، وأما إن كان المستمعون لا يفهمون ولا يعرفون العربية فإنه لا بأس من الخطبة بغيرها للحاجة لذلك.
الترجيح:(8/452)
بعد النظر في الأقوال الواردة في هذه المسألة والاطلاع على أدلتها ومناقشة ما لم يستقيم من هذه الأدلة تبين لي - واللَّه أعلم بالصواب- أن القول الراجح فيها هو القول الأول وهو أن الأصل في الخطبة أن تكون بالعربية ولا تصح بغيرها عند عدم الحاجة لذلك، وتصح بغيرها عند الحاجة لذلك بشرط قراءة الآيات باللغة العربية ثم ترجمة معانيها بلغة الخطبة. وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة ولضعف أدلة الأقوال الأخرى وعدم سلامتها من المناقشة، ولأن المقصود من الخطبة الوعظ والإرشاد وهذا إذا كان بلغة لا يفهمها من ألقيت عليه فإنه يفوت المقصود منها وتكون عديمة الجدوى بخلاف ما إذا كانت بلغة يفهمها من ألقيت عليه فإنه يفهمها ويستفيد منها ويتعظ بها، ثم إن كثير من المسلمين في العصر الحاضر لا يعرفون العربية وفي إلزامهم بتعلم العربية مشقة كبيرة عليهم قد لا يقدرون عليها وقد تكون سبباً في صدهم وأعراضهم عن الإسلام كما أنه لا يلزم من الإسلام أن يكون الإنسان متقناً للغة العربية، فلا يعقل بعد هذا أن يمنع إلقاء الخطبة بغير العربية وتفويت فوائدها المرجوة منها بسبب أمر ليس في مقدور المسلم العجمي تعلمه وتحصيله.
الفصل الثاني: في حكم صلاة العيد للمغتربين
يمر على المغتربين في وقت غربتهم أيام عيد الفطر وعيد الأضحى وهي أيام شرع اللَّه فيها صلاة العيد وجعلها فيها من شعائر الإسلام الظاهرة التي ينبغي المحافظة عليها.
فما حكم صلاة العيد للمغتربين؟
القول الأول: أنها فرض كفاية.
وهو قول عند المالكية ( [73] ) ، وقول عند الشافعية ( [74] ) ، ومذهب الحنابلة ( [75] ) .
القول الثاني: أنها سنة.
وهو رواية عند الحنفية ( [76] ) ، والمشهور عند المالكية ( [77] ) ، ومذهب الشافعية ( [78] ) ، ورواية عند الحنابلة ( [79] ) .
القول الثالث: أنها واجبة.(8/453)
وهو الرواية الصحيحة عند الحنفية ( [80] ) ، وقول عند المالكية ( [81] ) ، ورواية عند الحنابلة هي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ( [82] ) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدلوا بأدلة تدل على الوجوب في الجملة ومنها:
الدليل الأول:
قال اللَّه تعالى: {فصل لربك وانحر} ( [83] ) .
وجه الدلالة: أن هذه الآية أمرت بأداء صلاة العيد والأمر يقتضي الوجوب إلا بصارف يصرفه من الوجوب إلى الندب ولا صارف هنا.
الدليل الثاني:
عن أم عطية رضي اللَّه عنها قالت: " أمرنا -تعني النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم - - أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين ( [84] ) .
وجه الدلالة: أن الأمر يقتضي الوجوب إلا بصارف يصرفه من الوجوب إلى الندب ولا صارف هنا. وإذا كان النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -أمر النساء بحضور صلاة العيد مع أنهن لسن من أهل الاجتماع لعدم مشروعية صلاة الجماعة لهن في المسجد. فإن الرجال من باب أولى فيكون شهود العيد في حقهم أوجب.
الدليل الثالث:
أن مواظبة ومداومة النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -عليها وعدم تخلفه عنها يدل على وجوبها ( [85] ) .
يناقش: أن الأصل في المداومة على الشيء إذا لم يكن فيه أمر الاستحباب ( [86] ) .
الدليل الرابع:
أن صلاة العيد من أعلام الدين وشعائره الظاهرة فكانت واجبةكالجمعة ( [87] ) .
يناقش: أن من أعلام الدين وشعائره ما ليس واجباً على الأعيان بل هو واجب كفائي، كالأذان والإقامة فليس كل ما كان من أعلام الدين وشعائره واجباً على الأعيان.
الدليل الخامس:
أنها لو لم تكن واجبة لم يجب قتال تاركيها كسائر السنن. يحققه أن القتال عقوبة لا تتوجه إلى تارك مندوب كالقتل والضرب ( [88] ) .(8/454)
يناقش: أنه إنما جاز قتال تاركيها لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة لا يجوز لأي مجتمع تركها بالكلية ولذلك جاز قتال تاركيها لعدم إظهارهم لهذه الشعيرة المهمة من شعائر الإسلام فأصبح هذا المجتمع الذي لا يظهرها في المجتمعات الكافرة فجاز قتاله حتى يظهرها ليتميز عن غيره من المجتمعات.
الدليل السادس:
أن صلاة العيد صلاة شرعت لها الخطبة فكانت واجبة على الأعيان ( [89] ) وليست فرضاً كالجمعة.
يناقش: أن هذا قياس مع الفارق حيث إنها تختلف عن الجمعة لأن خطبة الجمعة واجبة واستماعها واجب بخلاف صلاة العيد فخطبتها غير واجبة واستماعها غير واجب.
ما سبق من الأدلة دل على وجوب صلاة العيد في الجملة وأما أدلة عدم وجوبها على الأعيان فهي:
الدليل الأول: أن صلاة العيد صلاة لا يشرع لها الأذان فلم تكن واجبة على الأعيان كصلاة الجنازة ( [90] ) .
الدليل الثاني: أن صلاة العيد لو كانت واجبة على الأعيان لوجبت خطبتها، ووجب استماعها كالجمعة ( [91] ) .
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
عن طلحة بن عبيد اللَّه قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها؟ قال:لا إلا أن تطوع. قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -: وصيام رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -الزكاة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: واللَّه لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -: أفلح إن صدق" ( [92] ) .(8/455)
وجه الدلالة: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -بين للأعرابي في هذا الحديث عدم وجوب أي صلاة سوى الصلوات الخمس مما يدل على سنية ما عداها من الصلوات. ومن ضمن الصلوات صلاة العيد فتكون سنة.
يناقش: أنه لا حجة لكم فيه لأن الأعراب لا تلزمهم الجمعة لعدم الاستيطان فالعيد أولى ( [93] ) .
الدليل الثاني:
عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنهما قال: سمعت رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -يقول: خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد، من جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند اللَّه عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند اللَّه عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ( [94] ) .
وجه الدلالة: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -لم يذكر في هذا الحديث سوى الصلوات الخمس المفروضة مما يدل على سنية ما عداهن.
يناقش: أن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -إنما صرح بوجوب الخمس وخصها بالذكر دون ما عداها لتأكدها ووجوبها على الأعيان، ووجوبها على الدوام وتكرارها في كل يوم وليلة، وغيرها يجب نادراً ولعارض كصلاة الجنازة والمنذورة والصلاة المختلف فيها فلم يذكرها ( [95] ) .
الدليل الثالث:
أن صلاة العيدين صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تجب ابتداءً بالشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف ( [96] ) .
يناقش: أن هذا القياس لا يصح لأن كونها ذات ركوع وسجود لا أثر له، بدليل أن النوافل كلها فيها ركوع وسجود، وهي غير واجبة، فيجب حذف هذا الوصف لعدم أثره، ثم ينقض قياسهم بصلاة الجنازة وينتقض بكل حال بالمنذورة ( [97] )
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بعموم الأدلة التي دلت على وجوب صلاة العيد في الجملة ( [98] ) ، وقالوا بأنها باقية على عمومها لعدم وجود دليل يخص أو يستثني بعض المسلمين دون بعض، وقد سبق مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة منها.
الترجيح:(8/456)
بعد النظر في هذه المسألة والاطلاع على الأقوال الواردة فيها ومعرفة أدلة هذه الأقوال ومناقشة ما يحتاج إلى مناقشة من هذه الأدلة تبين لي أن القول الراجح هو القول الأول وهو أن صلاة العيد فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الجميع وإن لم يقم بها من يكفي أثم الجميع.
وذلك لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة ولعدم استقامة أدلة الأقوال الأخرى، واللَّه أعلم.
الفصل الثالث: في الجنائز
المبحث الأول: حكم زيارة قبور المشركين
عندما يوجد المغترب في بلاد الكفار فإن أغلب القبور التي تكون موجودة فيها تكون قبور كفار، وقد يرغب المسلم المغترب في زيارتها أو قد يضطر لزيارتها إما مجاملة لزميل له أو نحو ذلك، فهل يجوز له زيارة قبور المشركين أم لا يجوز له ذلك؟
اتفق جمهور الفقهاء ( [99] ) على أنه يجوز للمسلم أن يزور قبور الكافرين والمشركين وذلك لأنه يتحصل له من هذه الزيارة تذكر الموت والدار الآخرة والتي علل بها المصطفى- صلى الله عليه وسلم -الإذن العام بزيارة القبور، دون تفريق بين قبور المسلمين وقبور الكافرين.
استدلوا على ذلك بما يأتي:
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: " زار النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت " ( [100] ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه وتعالى أذن للنبي- صلى الله عليه وسلم -أن يزور قبر أمه وهي مشركة مما يدل على جواز زيارة قبور المشركين.
قال ابن تيمية: ولهذا تجوز زيارة قبورالمشركين لهذه العلة كما ثبت في الصحيحين عن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -أنه زار قبر أمه ( [101] ) .
وقال النووي: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى ( [102] ) .
الدليل الثاني:(8/457)
عن بريدة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم -: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الاسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً " ( [103] ) .
وجه الدلالة: عموم قول النَّبِي- صلى الله عليه وسلم -: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، حيث كان النهي عن زيارة القبور عاماً سواء كانت قبور مسلمين أو قبور كفار، فجاء الإذن بزيارتها عام أيضاً فيشمل قبور المسلمين وقبور الكفار أيضاً.
المبحث الثاني: حكم الدفن في التابوت
هناك بعض البلاد غير الإسلامية تشترط وضع جثمان الميت مهما كان في تابوت. سواء كان هذا الميت مسلماً أو غير مسلم. وقد يموت في هذه البلاد أحد من المسلمين الذين يعيشون فيها، فهل يجوز أن يضع المسلم قريبه المتوفى في تابوت إذا اشترطت سلطات البلد الذي يوجد فيه وضعه في هذا التابوت أم لا يصح منه ذلك؟
اتفق جمهور الفقهاء ( [104] ) من الحنفية ( [105] ) ، والمالكية ( [106] ) ، والشافعية ( [107] ) ، والحنابلة ( [108] ) على أنه ينبغي أن يكفن الميت ويوضع في قبره بدون تابوت حيث يكره وضع الميت في تابوت إلا عند الحاجة إلى ذلك كأن تكون الأرض ندية أو رخوة لا تتماسك حتى يوضع فيها الميت، أو كانت أرضاً مسبعة تكثر فيها السباع التي تعتدي على الأموات بنبش قبورهم وأكلهم أو أن تكون سلطات البلد الذي يقيم فيه المغترب تلزم بوضع جثمان الميت في تابوت ثم دفنه فيه كما هو حال بعض الدول الأوربية، أو نحو ذلك، فإنه لا يكره في هذه الحالة وضع الميت في تابوت للحاجة إلى ذلك.
وقد استدلوا بالأدلة الآتية:
الدليل الأول:
أن وضع الميت ودفنه في تابوت لم ينقل عن النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -مما يدل على عدم مشروعيته ( [109] ) .
الدليل الثاني:(8/458)
أن وضع الميت ودفنه في تابوت تشبه بالكفار حيث إنه من عملهم وقد ورد النهي عن التشبه بهم ( [110] ) .
الدليل الثالث:
أن دفن الميت في الأرض أنشف لفضلاته حيث يعجل بنشوف فضلاته وتأخر إنتانه بخلاف وضعه في تابوت حيث إنه يساعد على تأخر نشوف فضلاته وسرعة إنتانه ( [111] ) .
الدليل الرابع:
أن عدم إدخال التابوت معه في قبره ولا شيء مما مسته النار تفاؤلاً بألا يمس الميت النار ( [112] ) .
الدليل الخامس:
أن في الدفن في التابوت إضاعة مال مع عدم ورود ذلك عن السلف ( [113] ) .
المبحث الثالث: حكم دفن المسلم في مقابر الكفار
قد يموت المسلم المغترب في بلد اغترابه ولا يستطيع ورثته دفنه في مكان خاص بالمسلمين لعدم وجود مقابر خاصة بالمسلمين في البلد الذي مات فيه. أو لا يجدون بلداً من بلاد المسلمين تسمح سلطاته باستقبال جثمان الميت المسلم لدفنه في مقابرها.
فهل يجوز دفنه في مقابر الكفار أم لا يجوز ذلك؟
اتفق جمهور الفقهاء من الحنفية ( [114] ) ، والمالكية ( [115] ) ، والشافعية ( [116] ) ، والحنابلة ( [117] ) . على أنه لا يجوز دفن المسلم في مقابر الكفار. إلا عند الضرورة كأن يموت المسلم في بلد كفار لا يوجد فيه مقبرة خاصة بالمسلمين،
ولا يستطيع ورثته نقله إلى بلد من بلاد المسلمين لدفنه فيها لعدم قدرتهم المالية على ذلك أو لأنهم لا يجدون بلداً من بلاد المسلمينتسمح سلطاته باستقبال جثمان الميت المسلم لدفنه فيها. فإنه يجوز في هذه الحالة دفن المسلم في مقابر الكفار.
وهذا ما أفتى به مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الثالث المنعقدة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من
8-13 صفر 1407 الموافق 11-16 أكتوبر 1986م ( [118] ) .
الخاتمة:(8/459)
أحمد اللَّه حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه على ما وهب من نعم، وما دفع من نقم، وما رزق من شكر، وما تجاوز وعفا عن ذنب وخطيئة، وعلى ما ستر من عيب، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين ليهدي به اللَّه من شاء هدايته ويدله على طريق الخير القويم، ويضل به من سبقت عليه الضلالة إلى يوم الدين. صلاة وسلاماً ما تعاقب الليل والنهار الجديدين إلى أن يرث اللَّه الأرض فيبعث اللَّه العالمين، وبعد:
فإن مما لا شك فيه ولا ريب أن لكل شيء بداية، وله في ذات الأمر نهاية وهذا البحث من الأشياء التي كانت لها بداية فكان لابد له من نهاية يختم بها وينهي الحديث عنه بالحديث عنها، فجعلت خاتمته في أهم النتائج التي توصلت إليها فيه وهي:
1 -أنه لا يشترط إذن الإمام في صحة إقامة صلاة الجمعة سواء كان ذلك في بلاد المسلمين أم في بلاد الكافرين.
2 - أن صلاة الجمعة تنعقد بثلاثة رجال وهم إمام يخطب واثنان يستمعان. فإذا وجد ثلاثة رجال من أهل الجمعة، صحت إقامة صلاة الجمعة في المكان الذي يقيمون فيه.
3 - أن الأصل في الخطبة أن تكون باللغة العربية ولا تصح بغيرها عند عدم الحاجة لذلك، وتصح بغير العربية عند الحاجة لذلك إذا كان المستمعون لا يفهمون العربية ولا يعرفونها بشرط قراءة الآيات القرآنية بالعربية ثم تترجم معانيها بلغة الخطبة.
4 - أن صلاة العيد فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم بها من يكفي أثم الجميع.
5 - أنه يجوز للمسلم أن يزور قبور الكافرين والمشركين؛ لأنه يتحصل له من هذه الزيارة تذكر الموت والآخرة كما يتحصل من زيارة قبور المسلمين.(8/460)
6 - أنه ينبغي أن يكفن الميت المسلم ويوضع في قبره بدون تابوت، حيث يكره وضع الميت في تابوت إلاَّ عند الحاجة إلى ذلك كأن تكون الأرض ندية أو رخوة لا تتماسك حتى يوضع فيها الميت أو كانت أرض مسبعة تكثر فيها السباع التي تعتدي على الأموات بنبش قبورهم وأكلهم أو أن تكون سلطات البلد الذي يقيم فيه المغترب المتوفى تُلزم بوضع جثمان الميت في تابوت ثم دفنه فيهكما هو حال بعض الدول الأوربية ونحو ذلك، فإنه لا يكره في هذه الحالة وضع الميت في تابوت للحاجة إلى ذلك.
7 - أنه لا يجوز دفن المسلم في مقابر الكفار إلاَّ عند الضرورة كأن يموت المسلم المغترب في بلد كفار لا يوجد فيه مقبرة خاصة بالمسلمين ولا يستطيع ورثته نقله إلى بلد من بلاد المسلمين لدفنه فيها لعدم قدرتهم المالية على ذلك أو لأنهم لا يجدون بلداً من بلاد المسلمين تسمح سلطاته باستقبال جثمان الميت المسلم لدفنه فيها؛ فإنه يجوز في هذه الحالة دفن المسلم في مقابر الكفار.
هذه هي أهم النتائج والثمرات التي تم التوصل إليها في هذا البحث المتواضع، فأسأل اللَّه العظيم ذا الوجه الكريم والسلطان العظيم البر العفو الرحيم، أن يتقبله عنده وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يغفر فيه الزلة ويمحو الخطيئة ويتجاوز عن الخلل وأن يجبر العثرة وأن يثقل به موازين من بحثه وكتبه وقرأه وطبعه وأن يجعله من العمل الصالح الذي يسر النظر إليه يوم القيامة. آمين، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش والتعليقات
---
(1) هناك مسألة تتعلق بهذا الموضوع وهي مسألة: "إقامة صلاة الجمعة في معابد الكفار" لم أذكرها هنا لأنه سبق لي بحثها في بحث آخر مستقل بعنوان "أحكام المغتربين الفقهية في الصلاة" فأردت عدم تكرارها هنا؛ لأنه يشترط في البحوث المقدمة للترقية في الجامعات عدم التكرار وفي حالة طباعة هذا البحث طباعة مستقلة سوف أذكرها تتميماً للفائدة.(8/461)
(2) ابن رشد، بداية المجتهد1/116، محمد الدسوقي، حاشية الدسوقي1/374، عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني على موطأ مالك1/515.
(3) الشافعي، الأم 1/156، السيد البكري، إعانة الطالبين 2/58، زين الدين المليباري، فتح المعين 2/58، محمد الغزالي، الوسيط 2/269.
(4) محمد بن مفلح، الفروع 2/81، ابن قدامة، المغني 3/206، إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/164.
(5) السرخسي، المبسوط 2/25، ابن الهمام، شرح فتح القدير 2/26، محمد البابرتي، شرح العناية 2/26.
(6) محمد بن مفلح، الفروع 2/11، إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/164، ابن قدامة، المغني 3/206.
(7) محمد بن مفلح، الفروع 2/11، إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/164.
(8) رواه البخاري. صحيح البخاري 1/171، كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع.
(9) ابن قدامة، المغني 3/206-207.
(10) انظر: المرجع السابق الجزء نفسه ص207.
(11) انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
(12) المرجع السابق نفس الجزء ص206.
(13) المرجع السابق نفس الجزء ص207.
(14) سورة النساء، الآية: 141.
(15) ابن قدامة، المغني 3/204، إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/152، علي المرداوي، الإنصاف 2/378.
(16) السرخسي، المبسوط 2/34، علي المرغيناني، الهداية 2/31، ابن الهمام، شرح فتح القدير 2/31، محمد البابرتي، شرح العناية 2/31.
(17) إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/152، علي المرداوي، الإنصاف 2/378.
(18) الشافعي، الأم 1/190، الماوردي، الإقناع 1/51، سليمان البجيرمي، حاشية بجيرمي على الخطيب 2/170.
(19) ابن قدامة، المغني 3/204، إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/152، علي المرداوي، الإنصاف 2/378، ابن ضويان، منار السبيل 1/139.
(20) نفس المصادر السابقة نفس الأجزاء والصفحات.
(21) محمد الدسوقي، حاشية الدسوقي 1/377، الخطاب، مواهب الجليل 2/161، أحمد الدردير، الشرح الكبير 1/376.(8/462)
(22) السرخسي، المبسوط 2/24، علي المرغيناني، الهداية 2/31، ابن الهمام، شرح فتح القدير 2/31، محمد البابرتي، شرح العناية 2/31.
(23) إبراهيم بن مفلح، المبدع 2/152، علي المرداوي، الإنصاف 2/378.
(24) ابن حزم، المحلى 3/249، 289.
(25) رواه أبو داود. سنن أبي داود 1/371، كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة واللفظ له، ورواه النسائي 2/106-107، كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الطاعة، ورواه الإمام أحمد في المسند 5/196، وصححه ابن خزيمة، انظر: صحيح ابن خزيمة 2/371، كتاب الإمامة في الصلاة، باب التغليظ في ترك صلاة الجماعة في القرى والبوادي واستحواذ الشيطان على تاركها، والحاكم في المستدرك 1/330، كتاب الصلاة. وقال الحاكم: هذا حديث صدوق رواته، شاهد لما تقدمه متفق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش، وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلاَّ عن الثقات. المستدرك 1/331. ووافقه الذهبي في التلخيص 1/331، ورواه البيهقي. السنن الكبرى 3/54، كتاب الصلاة، باب فرض الجماعة في غير الجمعة على الكفاية، ورواية ابن حبان، الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان 3/267، كتاب الصلاة، باب فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها، ذكر استحواذ الشيطان على الثلاثة إذا كانوا في بدو أو قرية ولم يجمعوا الصلاة، والبغوي في شرح السنة 2/369، كتاب الصلاة، باب التشديد على ترك الجماعة (ح794) .
(26) انظر: ابن عثيمين، الشرح الممتع 5/52.
(27) سورة الجمعة، الآية: 9.
(28) انظر: ابن قدامة، المغني 3/204.
(29) المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
(30) السرخسي، المبسوط 2/24.(8/463)
(31) الزركشي، شرح الزركشي 2/194، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/160، 161، كتاب الجمعة، باب أول من جمع، وباب الإمام يجمع حيث كان ولم يذكر العدد، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3/196، كتاب الجمعة، باب وجوب الخطبة وأنه إذا لم يخطب صلى ظهراً أربعاً.
(32) الزركشي، شرح الزركشي 2/195.
(33) انظر: ابن عثيمين، الشرح الممتع 5/48.
(34) الهَزْم: ما اطمأن من الأرض. انظر: ابن منظور، لسان العرب 12/608، حرف الميم، فصل الهاء، مادة (هزم) .
و (النَّبيت) بطن من الأنصار وهو عمرو بن مالك بن الأوس. معجم البلدان 5/405.
(35) بياضة: بطن من الأنصار وهو بياضة بن عامر بن رزيق بن عبد حارثة من الخزرج.
ياقوت الحموي، معجم البلدان 5/405.
(36) نقيع الخضمات: موضع حماه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، لخيل المسلمين وهو من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة يسلكه العرب إلى مكة منه. ياقوت الحموي، معجم البلدان 5/301.
(37) رواه أبو داود. سنن أبي داود 1/645-646، كتاب الصلاة، باب الجمعة في القرى، واللفظ له. ورواه ابن ماجة. سنن ابن ماجة 1/343-344، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في فرض الجمعة، والحاكم في المستدرك 1/417، كتاب الجمعة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم، التلخيص مع المستدرك 1/417.
(38) قال الأثرم عن أحمد هو حسن الحديث. وقال مالك: دجال من الدجاجلة. وقال البخاري رأيت علي بن عبد اللَّه يحتج بحديث ابن إسحاق. قال وقال علي: ما رأيت أحداً يتهم ابن إسحاق. وقال أبو زرعة الدمشقي وابن إسحاق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه. وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: ابن إسحاق ليس بحجة. انظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 9/43، 44.(8/464)
(39) رواه الدارقطني. سنن الدارقطني 2/4، أول كتاب الجمعة، باب من تجب عليه الجمعة، واللفظ له، ورواه البيهقي. السنن الكبرى 1/177، كتاب الجمعة، باب العدد إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة.
(40) لأن في إسناده عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري البالسي. قال البيهقي: وهو ضعيف. السنن الكبرى 3/177، قال أحمد: اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به. انظر: محمد آبادي، التعليق المغني على الدارقطني 2/4.
(41) انظر: الزركشي، شرح الزركشي 2/195، ابن عثيمين، الشرح الممتع 5/49.
(42) رواه الدارقطني. سنن الدارقطني 2/4، أول كتاب الجمعة، باب من تجب عليه الجمعة.
(43) لأن في إسناده جعفر بن الزبير متروك. سنن الدارقطني 2/4، وقال ابن معين: شامي لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال: ليس بثقة. وقال أحمد: اضرب على حديث جعفر. انظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 2/91.
(44) سورة الجمعة، الآية: 11.
(45) رواه مسلم. صحيح مسلم 1/590، كتاب الجمعة، باب في قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} .
(46) انظر: ابن قدامة، المغني 3/205.
(47) ابن عثيمين، الشرح الممتع 5/50.
(48) ذكره البيهقي. السنن الكبرى 3/179، كتاب الجمعة، باب العدد إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة.
(49) البيهقي، السنن الكبرى 3/179، وقال البيهقي: وهذا منقطع وإن صح فإنما أراد بمعونة الاثنى عشر النقباء الذين بعثهم النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم في صحبتهم أو على أثرهم إلى المدينة ليقرىء المسلمين فيصلي بهم. السنن الكبرى 3/179.
(50) انظر: ابن حزم، المحلى 3/250.
(51) سورة الجمعة، الآية: 9.
(52) السرخسي، المبسوط 2/24.(8/465)
(53) رواه الدارقطني، سنن الدارقطني 2/7، 8، كتاب الجمعة، باب الجمعة على أهل القرية، ورواه البيهقي، السنن الكبرى 3/179، كتاب الجمعة، باب العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة.
(54) انظر: ابن حزم، المحلى 3/249، والبيهقي، السنن الكبرى 3/179، وقال الدارقطني: لا يصح هذا عن الزهري كل من رواه عنه متروك، انظر: سنن الدارقطني 2/8، ومدار الحديث بجميع طرقه كله على الزهري، ولم يثبت سماعه عن أم عبد اللَّه الدوسية، فالحديث مع ضعف رواته منقطع أيضاً، فلا ينتهض للاحتجاج به. محمد آبادي، التعليق المغني على الدارقطني 2/7.
(55) انظر: ابن قدامة، المغني 3/205.
(56) ابن عثيمين، الشرح الممتع 5/52، وانظر: ابن حزم، المحلى 3/250-251.
(57) انظر: المرجع السابق نفس الجزء ص53
(58) النووي، روضة الطالبين 2/26، محمد الرملي، نهاية المحتاج 2/317، أحمد القليوبي، حاشية قليوبي 1/278.
(59) علي المرداوي، الإنصاف 5/219، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/298.
(60) محمود العيني، البناية 2/206، ابن الهمام، شرح فتح القدير 1/249، محمد البابرتي، شرح العناية 1/249.
(61) اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية، الفتاوى الإسلامية للجنة 1/405.
(62) محمد الدسوقي، حاشية الدسوقي 1/378، أحمد الدردير، الشرح الكبير 1/378، الشيخ عليش، تقريرات الشيخ عليش 1/378، محمد الخرشي، شرح الخرشي 2/78، علي العدوي، حاشية العدوي 2/78.
(63) النووي، روضة الطالبين 2/26، النووي، المجموع 4/521، محمد الرملي، نهاية المحتاج 2/317، محمد الشربيني، مغني المحتاج 1/286، سليمان الجمل، حاشية الجمل 2/28، أحمد القليوبي، حاشية قليوبي 1/278.
(64) علي المرداوي، الإنصاف 5/219، محمد بن مفلح، الفروع 2/113، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/298.(8/466)
(65) محمود العيني، البناية 2/206، ابن الهمام، شرح فتح القدير 1/249، محمد البابرتي، شرح العناية 1/249.
(66) النووي، روضة الطالبين 2/26، النووي، المجموع 4/522.
(67) علي المرداوي، الإنصاف 5/219.
(68) رواه البخاري، صحيح البخاري 1/155، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، واللفظ له، ورواه مسلم، صحيح مسلم 1/465، 466، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة.
(69) انظر: محمد الشربيني، مغني المحتاج 1/286.
(70) انظر: النووي، المجموع 4/522، محمد الشربيني، مغني المحتاج 1/286.
(71) سورة التوبة، الآية 122.
(72) انظر: النووي، المجموع 4/522.
(73) محمد عليش، منح الجليل 1/458، محمد الخرشي، شرح الخرشي 2/98، أحمد الصاوي، بلغة السالك 1/187.
(74) إبراهيم الشيرازي، المهذب 1/125، النووي، المجموع 5/2.
(75) ابن قدامة، المغني 3/253، علي المرداوي، الإنصاف 2/420، محمد بن مفلح، الفروع 2/137.
(76) ابن نجيم، البحر الرائق 2/158، الزيلعي، تبيين الحقائق 1/224.
(77) ابن عبد البر، الكافي ص77، ابن جزي، القوانين الفقهية ص83، محمد المواق، التاج والإكليل 2/109، محمد عليش، منح الجليل 1/458، صالح الأبي، جواهر الإكليل 1/101، محمد الخرشي، شرح الخرشي 2/98، أحمد الصاوي، بلغة السالك 1/187.
(78) إبراهيم الشيرازي، المهذب 1/125، النووي، المجموع 5/2، بدر الدين الزركشي، البحر المحيط 1/386.
(79) علي المرداوي، الإنصاف 2/420، محمد بن مفلح، الفروع 2/137.
(80) ابن نجيم، البحر الرائق 2/157، ابن عابدين، منحة الخالق على البحر الرائق 2/158، الزيلعي، تبيين الحقائق 1/223.
(81) محمد عليش، منح الجليل 1/458، أحمد الصاوي، بلغة السالك 1/187.
(82) علي المرداوي، الإنصاف 2/420، محمد بن مفلح، الفروع 2/137، ابن تيمية، الاختيارات الفقهية ص150.(8/467)
(83) سورة الكوثر الآية: 2.
(84) رواه البخاري. صحيح البخاري 2/8، كتاب العيدين، باب خروج النساء والحيض إلى المصلى، ورواه مسلم. صحيح مسلم 1/605-606، كتاب صلاة العيدين، باب إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال، واللفظ له.
(85) انظر: ابن قدامة، المغني 3/254.
(86) ابن عثيمين، الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/150.
(87) انظر: ابن قدامة، المغني 3/254.
(88) انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
(89) انظر: المرجع السابق نفس الجزء ص253.
(90) المرجع السابق نفس الجزء ص254.
(91) المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
(92) رواه البخاري. صحيح البخاري 1/17، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام. وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} ، واللفظ له، ورواه مسلم. صحيح مسلم 1/40-41، كتاب الإيمان، باب بيانالصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
(93) انظر: ابن قدامة، المغي 3/254.
(94) رواه أبو داود 1/295-296، كتاب الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات، ورواه النسائي. سنن النسائي 1/230، كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس واللفظ له، ورواه ابن ماجة. سنن ابن ماجة 1/448، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها. ورواه مالك في الموظأ 1/123، كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر، ورواه الدارمي، سنن الدارمي 1/370، كتاب الصلاة، باب في الوتر، وقال ابن عبد البر: وهو صحيح ثابت لم يختلف عن مالك فيه. الشوكاني، نيل الأطار 1/365.
(95) انظر: ابن قدامة، المغني 3/254.
(96) المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
(97) المرجع السابق نفس الجزء ص255.
(98) سبقت هذه الأدلة عند ذكر أدلة القول الأول في هذه المسألة ص22-24.(8/468)
(99) علي المرداوي، الإنصاف 2/562، ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/344، 27/377، لأبي الطيب محمد آبادي، عون المعبود 9/41، علي البعلي، القواعد والفوائد الأصولية 1/167، النووي، شرح النووي على صحيح مسلم 7/45، ابن حجر، فتح الباري 3/179، وقال ابن حجر في فتح الباري: قال صاحب الحاوي لا تجوز زيارة قبر الكافر وهو غلط. انتهى. وحجة الماوردي قوله تعالى {ولا تقم على قبره} الآية [التوبة:] وفي الاستدلال به نظر لا يخفى " فتح الباري 3/179.
(100) رواه مسلم. صحيح مسلم 1/671، كتاب الجنائز، باب استئذان النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.
(101) ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/344.
(102) النووي، شرح النووي على مسلم 7/45.
(103) رواه مسلم. صحيح مسلم 1/672، كتاب الجنائز، باب استئذان النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه
(104) جاء في نهاية المحتاج: " ويكره دفنه في تابوت بالإجماع ". محمد الرملي، نهاية المحتاج 3/30، وانظر: محمد الشربيني، مغني المحتاج 1/363، وانظر: النووي، المجموع 5/287-288.
(105) الزيلعي، تبيين الحقائق 1/245، ابن نجيم، البحر الرائق 2/194، الكاساني، بدائع الصنائع 1/318، ابن عابدين، حاشية ابن عابدين 1/599، علاء الدين الحصكفي، الدر المختار 1/599.
(106) عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني 2/100، محمد المواق، التاج والإكليل 2/234، محمد عليش، منح الجليل 1/502.
(107) محمد الرملي، نهاية المحتاج 3/30، محمد الشربيني، مغني المحتاج 1/363، الكوهجي، زاد المحتاج 1/421، عميرة، حاشية عميرة 1/349، أحمد القليوبي، حاشية قليوبي 1/349، النووي، المجموع 5/287، 293.(8/469)
(108) منصور البهوتي، كشاف القناع 2/134، علي المرداوي، الإنصاف 2/546، محمد ابن مفلح، الفروع 2/270، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/349، ابن قدامة، المغني 3/435.
(109) انظر: ابن قدامة، المغني 3/435، منصور البهوتي، كشاف القناع 2/134.
(110) انظر: منصور البهوتي، كشاف القناع 2/134، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/349، ابن قدامة، المغني 3/435.
(111) انظر: منصور البهوتي، كشاف القناع 2/134، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/349، ابن قدامة، المغني 3/435.
(112) انظر: منصور البهوتي، كشاف القناع 2/134، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/349، ابن قدامة، المغني 3/435.
(113) عميرة، حاشية عميرة 1/349.
(114) ابن عابدين، حاشية ابن عابدين 1/599، محمود العيني، البناية 3/280-281.
(115) صالح الأبي، جواهر الإكليل 1/114، 115، 116، 117، محمد عليش، منح الجليل 1/501، عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني 2/100.
(116) أحمد القليوبي، حاشية قليوبي 1/349، عميرة، حاشية عميرة 1/349، النووي، روضة الطالبين 2/142.
(117) منصور البهوتي، كشاف القناع 2/124، منصور البهوتي، شرح منتهى الإرادات 1/257، ابن قدامة، المغني 3/513 -514، علي المرداوي، الإنصاف 2/557، محمد بن مفلح، الفروع 2/285.
(118) مجمع الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثالث 2/1400.
المصادر والمراجع
1 - آبادي، أبو الطيب محمد. التعليق المغني على الدارقطني: مطبوع مع سنن الدارقطني، الناشر: عالم الكتب، بيروت، ط. الرابعة 1416هـ/1986م.
2 - آبادي، أبو الطيب محمد. عون المعبود شرح سنن أبي داود: الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط. الأولى، 1410هـ/1990م.(8/470)
3 - ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد المتوفى عام (681هـ) . شرح فتح القدير: الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
4 - ابن تيمية، أحمد بن عبد السلام. الإختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: اختارها علي البعلي الدمشقي المتوفى عام (803هـ) : الناشر المؤسسة السعيدية بالرياض، مطابع الدجوى عابدين.
5 - ابن جزي، أبي عبد الله محمد بن أحمد المتوفى عام (741هـ) . القوانين الفقهية: الناشر دار الكتب العربي، بيروت، ط-الثانية 1409هـ.
6 - ابن حزم، أبو محمد علي المتوفى عام (456هـ) . المحلى بالآثار: الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
7 - ابن حنبل، الإمام أحمد المتوفى عام (241هـ) . المسند: الناشر دار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
8 - ابن رشد الحفيد، أبو الوليد محمد بن أحمد المتوفى عام (595هـ) . بداية المجتهد ونهاية المقتصد: الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، توزيع مكتبة الرياض الحديثة.
9 - ابن ضويان، إبراهيم بن محمد، المتوفى عام (1253هـ) . منار السبيل في شرح الدليل: الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، ط. الخامسة (1402هـ) .
10 - ابن عابدين، محمد أمين الشهير، المتوفى عام (1252هـ) . منحة الخالق على البحر الرائق: مطبوع مع البحر الرائق. الناشر: مكتبة رشيدية، باكستان، طبع في المطبعة العربية - باكستان.
11 - ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد، المتوفى عام (463هـ) . الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط-الأولى 1407هـ.
12 - ابن قاسم، عبد الرحمن بن محمد وابنه محمد. مجموع فتاوى شيخ الإسلام: الناشر الرئاسة العامة لشؤون الحرمين، طبع بإدارة المساحة العسكرية، القاهرة 1404هـ.(8/471)
13 - ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد المتوفى عام (620هـ) . المغني: تحقيق عبد الله التركي، وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان.
14 - ابن مفلح، أبو اسحاق إبراهيم المتوفى عام (884هـ) . المبدع في شرح المقنع: الناشر المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
15 - ابن مفلح، محمد المتوفى عام (763هـ) . الفروع: الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
16 - ابن منظور، أبي الفضل محمد بن مكرم. لسان العرب: الناشر: دار صادر، بيروت - لبنان، ط. الأولى 1410هـ/1990م.
17 - ابن نجيم، زين العابدين ابراهيم المتوفى عام (970هـ) . البحر الرائق شرح كنز الدقائق: الناشر مكتبة رشيدية، باكستان، المطبعة العربية.
18 - الأزهري، صالح عبد السميع الآبي. جواهر الأكليل شرح مختصر خليل: الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
19 - البارتي، محمد بن محمود المتوفى عام (786هـ) . شرح العناية على الهداية: مطبوع مع شرح فتح القدير، الناشر دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت، لبنان.
20 - البجيرمي، سليمان البجيرمي. حاشية البجيرمي: الناشر دار الفكر، ط-الأخيرة 1401هـ.
21 - البخاري، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل المتوفى عام (256هـ) . صحيح البخاري: الناشر دار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
22 - البهوتي، منصور بن يونس البهوتي المتوفى عام (1051هـ) . كشاف القناع عن متن الإقناع: الناشر مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
23 - البهوتي، منصور بن يونس المتوفى عام (1051هـ) . شرح منتهى الإرادات: الناشر دار الفكر.
24 - البيهقي، أبو بكر أحمد بن حسين المتوفى عام (458هـ) . السنن الكبرى: الناشر دار المعرفة، بيروت، توزيع مكتبة المعارف، الرياض.
25 - الجمل، سليمان الجمل. حاشية الجمل على المنهج: دار الفكر.(8/472)
26 - الحاكم، أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الله المتوفى عام (405هـ) . المستدرك على الصحيحين: الناشر دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ، ط- الأولى.
27 - الحصكفي، علاء الدين محمد بن علي، المتوفى عام (1088هـ) . الدر المختار شرح تنوير الأبصار: الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
28 - الحطاب، أبو عبد اللَّه محمد المغربي، المتوفى عام (954هـ) . مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: الناشر: دار الفكر، ط. الثانية 1398هـ.
29 - الحموي، أبو عبد اللَّه ياقوت. معجم البلدان: الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
30 - الحنبلي، علي بن عباس البعلي، المتوفى عام (803هـ) . القواعد والفوائد الأصولية: الناشر: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1375هـ/1956م.
31 - الخرشي، محمد المتوفى عام (1101هـ) . شرح الخرشي على مختصر خليل: الناشر دار الكتاب الإسلامي لإحياء ونشر التراث الإسلامي، القاهرة، مصر.
32 - الخطيب، محمد الشربيني المتوفى عام (977هـ) . مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: الناشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377هـ.
33 - الدارقطني، علي بن عمر المتوفى عام (375هـ) . سنن الدارقطني: الناشر عالم الكتب، بيروت، لبنان، ط-السابعة 1406هـ.
34 - الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل المتوفى عام (255هـ) . سنن الدارمي: نشر وطبع بدار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
35 - الدرير، أبو البركات أحمد، المتوفى عام (1201هـ) . الشرح الكبير: الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
36 - الدسوقي، محمد عرفة الدسوقي المتوفى عام (1230هـ) . حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: الناشر دار الفكر للطباعة والنشر.
37 - الدمياطي، سيد البكري بن السيد محمد شطا المصري. إعانة الطالبين: طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي.(8/473)
38 - الذهبي، شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عثمان، المتوفى عام (748هـ) . تلخيص المستدرك: الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط. الأولى، 1411هـ.
39 - الزرقاني، عبد الباقي. شرح الزرقاني على مختصر خليل: الناشر دار الفكر، بيروت، لبنان.
40 - الزركشي، بدر الدين بن محمد بن بهادر، البحر المحيط: الناشر: دار الكتبي.
41 - الزركشي، شمس الدين محمد بن عبد اللَّه، المتوفى عام (772هـ) . شرح الزركشي على مختصر الخرقي: طبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض.
42 - الزيلعي، فخر الدين عثمان المتوفى عام (743هـ) . تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: الناشر دار الكتاب الإسلامي، ط-الثانية بمطابع الفاروق، القاهرة.
43 - السجستاني، سليمان بن الأشعث المتوفى عام (275هـ) . سنن أبي داود: نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص، سوريا، ط-الأولى 1388هـ.
44 - السرخسي، أبو بكر بن أبي سهل المتوفى عام (490هـ) . المبسوط: الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ودار المعرفة، بيروت.
45 - الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس، المتوفى (204هـ) . الأم: الناشر دار المعرفة، بيروت، لبنان.
46 - الشافعي الصغير، محمد بن أبي العباس الرملي المتوفى عام (1004هـ) . نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط-الأخيرة 1404هـ.
47 - الشوكاني، محمد المتوفى عام (1255هـ) . نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
48 - الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي، المتوفى عام (476هـ) . المهذب: الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط. الثانية، 1379هـ.
49 - الصاوي، أحمد بن محمد. بلغة السالك لأقرب المسالك: الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة- مصر، ط. الأخيرة، 1372هـ.(8/474)
50 - الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام المتوفى عام (211هـ) . مصنف عبد الرزاق: الناشر المجلس العلمي في الهند، مطابع دار العلم، بيروت.
51 - العثيمين، محمد بن صالح. الشرح الممتع على زاد المستقنع: الناشر: مكتبة آسام، الرياض، المملكة العربية السعودية.
52 - العدوي، علي. حاشية العدوي: مطبوع مع شرح الخرشي، الناشر: دار الكتاب الإسلامي لإحياء ونشر التراث الإسلامي، القاهرة - مصر.
53 - العسقلاني، أحمد بن حجر المتوفى عام (852هـ) . تهذيب التهذيب: الناشر دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
54 - عليش، محمد، المتوفى عام (926هـ) . منح الجليل شرح على مختصر خليل: الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان ط. 1409هـ.
55 - عميرة، شهاب الدين أحمد أبو يعلى المتوفى عام (957هـ) . حاشية عميرة على شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين: الناشر مطبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
56 - العيني، أبو محمد محمود. البناية في شرح الهداية: الناشر: دار الفكر ببيروت، ط. الثانية، 1411هـ/1990م.
57 - الغزالي، محمد بن محمد، المتوفى عام (505هـ) . الوسيط: الناشر: دار السلام، القاهرة، ط. الأولى 1417هـ.
58 - القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد المتوفى عام (255هـ) . سنن ابن ماجه: نشر وطبع بدار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
59 - القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج المتوفى عام (261هـ) . صحيح مسلم: الناشر دار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
60 - القليوبي، شهاب الدين أحمد بن أحمد المتوفى عام (1069هـ) . حاشية قليوبي على شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين: الناشر مطبعة دار إحياء الكتب العربية، مصر.
61 - الكاساني، علاء الدين أبي بكر بن مسعود المتوفى عام (587هـ) . بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ط-الثانية 1406هـ.(8/475)
62 - الكوهجي، عبد اللَّه بن حسن. زاد المحتاج بشرح المنهاج: الناشر: المكتبة العصرية، بيروت - لبنان، 1409هـ.
63 - مجلة مجمع الفقه الإسلامي. الناشر مجمع الفقه الإسلامي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
64 - المرداوي، علي الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى عام (885هـ) . الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل: الناشر مكتبة السنة المحمدية ط- الأولى 1374هـ، توزيع مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
65 - المرغيناني، أبو الحسن علي بن أبي بكر، المتوفى عام (593هـ) . الهداية شرح بداية المبتدي: مطبوع مع شرح فتح القدير، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
66 - المليباري، زين الدين بن عبد العزيز. فتح المعين: الناشر: دار الفكر، بيروت.
67 - المواق، أبو عبد اللَّه محمد بن يوسف العبدري، المتوفى عام (897هـ) . التاج والإكليل لمختصر خليل: مطبوع مع مواهب الجليل، الناشر: دار الفكر، ط. الثانية، 1398هـ.
68 - النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب المتوفى عام (303هـ) . سنن النسائي " المجتبى ": نشر وطبع بدار الدعوة، اسطنبول، تركيا.
69 - نظام، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند. الفتاوى الهندية المسماة "بالفتاوى العالمكيرية": الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط. الرابعة.
70 - النووي، أبو زكريا محيي الدين المتوفى عام (676هـ) . المجموع شرح المهذب: الناشر دار الفكر.
71 - النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف المتوفى عام (676هـ) . روضة الطالبين وعمدة المفتين: الناشر المكتب الإسلامي، دمشق، سوريا ط-الثالثة.
72 - النيسابوري، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، المتوفى عام (311هـ) . صحيح ابن خزيمة: الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، ط. الثانية، 1412هـ/1992م.(8/476)
حياة القائد بين القدوة والاقتداء
د. علي بن حسن علي القرني
كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة
ملخص البحث
إن القدوة الذي دار معظم ما ورد في هذا البحث عن دوره وأهميته هو ما تفتقده أمتنا اليوم في شتى مناحي الحياة وميادينها ولو فُعِّل دور القدوة اليوم بالشكل الذي يطالبنا به ديننا لتغير الحال إلى ما تصبوا إليه الأمة من عزة وسؤدد فقدناه.
لقد ركز البحث على فئة هي من أكبر فئات المجتمع تأثيراً إذا ما تحسست دورها فيما يتعلق بالاقتداء منها وبها ألا وهم (القادة) القادة في كل ميدان يرأس فيه إنسان مجموعة من الناس سواء كان قائداً عسكرياً أو مدنياً وقد تم في هذا البحث إعطاء تعريف محدد للقائد في اللغة والاصطلاح.(8/477)
وبينت الفرق بين الأسوة والقدوة وأن بينها عموم وخصوص ثم حاولت أن أزيد المعنى وضوحاً حول مفهوم القدوة فحاولت أن أدون الأساس النفسي في عملية الاقتداء. بعدها جاء بيان أنواع القدوة وأنها لا تخرج بحال عن نوعين قدوة صالحة وهو ما ركز عليه البحث، وقدوة سيئة وهو ما حذر منه البحث، كما تضمن البحث بيان أصول القدوة الصالحة وأنها تعود إلى أصلين هامين هما حسن الخلق، وموافقة القول للعمل ولأن البحث يدور حول القائد ودوره في عملية الاقتداء ركزت على أنه لا مناص للقائد من دوره كقدوة لكن عليه أن يكون قدوة صالحة لا سيئة كما ركزت أيضاً على أن عليه في الوقت نفسه أن يكون مقتدياً بقائد القادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها كان التأكيد على أهمية القدوة الصالحة وبيان آثارها الحميدة أما الفصل الثاني فقد دار حول بيان وتوضيح دور آخر للقائد لا يقل أهمية عن الدور الأول ألا وهو دور القائد في الدعوة والاحتساب بين أفراده تخلل ذلك تزويده بشيء من فقه الدعوة والاحتساب فبعد أن بينت ما يجب أن يعد به القائد نفسه ليكون مستعداً للقيام بهذا الواجب فيما يتعلق بصفاء العقيدة من الشرك وسلامة الأخلاق من الانحراف والتحصين بالعلم زودته بتعريف للمحتسب والحسبة وبينت له أهمية الحسبة في حياته بخاصة وحياة المسلمين بعامة كما أنني عددت له شروط المحتسب وآدابه ثم جاء بيان شروط إنكار المنكر، وخطوات إنكار المنكر ومراتب تغيير المنكر، وختمت تلك الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالاحتساب ببيان شروط وضوابط تغيير المنكر بالقلب فبمجموع هذه القواعد الفقهية للاحتساب يكون القائد مستعداً للقيام بهذا الدور الحيوي الهام.
وختمت البحث بخاتمة بينت فيها بعض التوصيات والنتائج سائلاً الله أن أكون وفقت في هذا الملخص لإعطاء فكرة مفهومة للبحث والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
المقدمة:(8/478)
الحمد لله الذي أمر بالإقتداء وأصلي وأسلم على من جعله ربه قدوة لكل قدوة محمد وعلى آله وصحبه وبعد. فإن القائد الذي هو محط أنظار مرؤسيه قدره أنه قدوة لا مناص له من ذلك، ومن هنا جاء إعداد هذا البحث الذي ركزت فيه على ما يتعلق بالقدوة الصالحة التي نريد للقائد المسلم أن يتمثلها وقد جعلته في فصلين.
في الفصل الأول أوضحت مفهوم القدوة، وأهميتها والفرق بين القدوة والأسوة، وكذلك بيَّنت دور الأساس النفسي في عملية الإقتداء، ثم ذكرت أنواع القدوة وأصول القدوة الصالحة، وختمت الفصل بنقطة مهمة جداً ألا وهي القائد بين القدوة والإقتداء حاولت فيها أن أبيَّن أن القائد الذي هو قدوة كما تقرر في النقاط قبلها هو في الوقت نفسه مقتدياً بقائد القادة محمد رسول الله وغيره من قادة الأمة الأفذاذ.
أما الفصل الثاني وهو بعنوان القائد قدوة ومحتسب بين أفراده فقد ركزت فيه على تزويد القائد بشيء من فقه الحسبة الذي هو عدته في إصلاح نفسه ومن ثم استصلاح من هم تحت مسئوليته من مرؤسيه وبهذا أكون قد أوضحت أهمية بل وخطورة الدور الذي يمثله القائد من خلال منصبه والموقع الذي يتبوأه سواء كان قائداً عسكرياً أو مدنياً فإذا ما أدرك كل قائد هذه الأهمية للموقع الذي هو فيه عمل مجتهداً على الوفاء بمتطلباته منصبه الذي هو تكليف قبل أن يكون تشريف ومطلب قبل أن يكون مغنم وبتحقق هذا من قبله يتحقق للأمة الذي يمثلها هذا القائد الناجح العز والتقدم والرقي.
نسأل الله أن يحقق للأمة الإسلامية كل ما تصبو إليه من عز وسؤدد إنه القادر على ذلك وحده وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده
وهذا البحث ليس الا جهدا متواضعا فيما يتعلق بالقدوة بشكل عام الى جانب جهود سبقته خدمت الموضوع وبينت الدور العظيم بل والحساس للقدوة لعل من ابرزها فيا اطلعت عليه الكتب التاليه:
1.القدوة الصالحة اخلاق قرآنية ونماذج ربانية للاستاذ حسين ادهم جار(8/479)
2.القدوة الصالحة وأثرها في الدعوة للدكتور /علي بن حسن القرني.
الفصل الأول: القدوة وأهميتها
تمهيد:
إن استقامة المؤمن على دينه، وقوة علاقته بربه، وحسن خلقه وتعامله يعكس التَدَّين الحقيقي لجوهر تلك النفس التي بين جنبيه، والذي يفيض عنها ذلك التأثير الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب فيكون كل ذلك مدعاة للتأثير والاقتداء.
وفي هذا الفصل سأحاول أن أتعرض لبيان مفهوم القدوة الصالحة التي أراها لازمة للقائد بحكم المكانة التي هو فيها فيعمل على تقمصها بدل أن يتقمص ضدها فهو لا محالة متقمص إحداهما شاء أم أبى لأن موقعه ومكانه بين مرؤسيه هو مكان اقتداء كذلك سأشير إلى أهمية هذا الدور الذي هو فيه وهو (القدوة) حتى يتحسس خطورته فيختار لنفسه ما ينقذها ويليق بها. ويبعدها عن ما يشينها وبالتالي يكون سبباً في فشل قيادته والقدح في سيرته وفيه سيكون. بيان الفرق بين القدوة والأسوة، والأساس النفسي في عملية الإقتداء، وانواع القدوة، واصول القدوة الصالحة، ثم يكون ختام الفصل اهمية القدوة الصالحة 0
تعريف القدوة:
في اللغة:
جاء في المعجم الوسيط (1) (القدوة: يقال فلان قدوة إذا كان يقتدى به، ولي بك قدوة. ومنها قوله (اقتدى به، أي فعل مثل فعله تشبهاً به) .
وفي لسان العرب (2) (القدوة من التقدم، يقال فلان لا يقاديه أحد ولا يباريه أحد ولا يجاريه أحد وذلك إذا تميز في الخلال كلها) .
أما في الاصطلاح:
(فالاقتداء هو طلب موافقة الغير في فعله) (3) .
والقدوة هو الأسوة والعكس، فالأسوة كما يقول القرطبي رحمه الله (هو ما يتأسى به أي يعتزي به فيقتدي به في جميع أحواله) (4) .(8/480)
ومن خلال ما جاء في كتب اللغة وبعض كتب التفسير عن القدوة يتضح لنا أن القدوة لا تتحقق بصفة واحدة، ولكن يلمح ابن منظور في لسان العرب إلى شمول القدوة للصفات كلها، فلا يتحلى بخلة دون خله ومن هنا وجب على القائد المسلم الذي نريده أن يكون قدوة صالحة أن يتمثل شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ويطبق كل ما أثر عنه في سلوكه وأخلاقه ويتأسى به في كل أفعاله.
كذلك اتضح لنا من التعريفات ضرورة أن تكون الخلال التي يتخلق بها أصلية لا مصطنعة، وكلما كانت الصفات والخلال الحسنة فطرية ومترسخة في الإنسان كان تأثيرها في الغير أكبر، وكان داعي التخلق بها والاقتداء والمحاكاة منهم أشد.
وإذا قلنا إن الصفات يجب أن تكون خلقية فطرية أو مغروسة بالتمرن والتخلق وطيبة تجذب الآخرين وتدعوهم للمحاكاة فإنه ينبغي أن يكون القدوة أيضاً قدر الإمكان حسن الهيئة غير ذميمها حتى تنجذب إليه الأعين وأن يكون لين الجانب غير فظ، يقول الحق تبارك وتعالى في شأن قدوة كل قدوة محمد صلى الله عليه وسلم (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (5) .
وأجمل ما تكون الخلال التي يتخلق بها القدوة إذا كانت مستوية مستقيمة على دينه وخاضعة له أو نابعة منه. ثم إن من الأفضل أن يكون القدوة ذا طريقة واضحة حتى يسهل الاقتداء به على ضوئها دون غموض.
والاقتداء فيه معنى التشبه فأنت إذا اقتديت بشخص ما قلدته فإذا حصل تقليده حصل التشبه به. ومن الناحية الشكلية فإن لفظة القدوة تذكر باعتبار صاحبها وتؤنث باعتبار اللفظ فللذكر والأنثى تطلق كلمة (قدوة) لا فرق.
هل القدوة هي الأسوة؟(8/481)
مر بنا أحد المعاني في التعريفات بما يفيد أن القدوة هي الأسوة ومع ذلك فإن المتتبع يجد أن كلا اللفظتين وإن ظهر بينهما توافق في المعنى في بعض الجوانب إلا أن هذا التوافق ليس على إطلاقه فلا تزال بين اللفظتين فروقاً يمكن حصرها في أن:
(1) التأسي أشد في بابه من الاقتداء.
(2) التأسي يجعل معنى الالتزام من الغير بشكل أقوى ولذلك فإنها جاءت مع النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره أفضل الأنبياء والمرسلين (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … الآية) (6) .
أما القدوة فقد جاءت مع غيره من الأنبياء والصالحين من الصحابة وغيرهم (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (7) يعني بالأنبياء والرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم جميعاً، وكذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (8) .
الأساس النفسي في عملية الاقتداء:
إن فكرة وجود القدوة تقوم على أساس منطوقة تأثير الطباع في الطباع. (وحاجة الناس إلى القدوة النابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع هي التقليد، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل، والقوي، والرئيس، كما تدفع غريزة الانقياد في القطيع جميع أفراده اتباع قائده واقتفاء أثره) (9) . وعلى هذا الأساس يتضح لنا أن عملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل ولكنها كما تقدم غريزة مغروسة في نفس كل إنسان تظهر متى وجد واحد من عناصرها الثلاثة وهي:
(1) الرغبة في المحاكاة والاقتداء:(8/482)
فالطفل أو الفتى مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها نحو محاكاة من يعجب به في لهجة الحديث، أو أسلوب الحركة، أو المعاملة، وهذا التقليد قد يكون في حسنات السلوك وقد يكون في سيئاته، وقد تلاحظ في بعض المرؤسين مع قائدهم شيء من هذا فتجد المقتدي (المقلد) يقلد رئيسه وقائده في بعض الحركات حتى في طريقة ونبرة الصوت وحركة الشفائف، وهذا لاحظناه في أوساط قواتنا المسلحة ممن يعجبوت ببعض قادتهم ويتأثرون بهم.
(2) الاستعداد للتقليد:
لكل مرحلة من العمر استعدادات وطاقات محددة وعلى هذا نجد الإسلام لم يأمر الأطفال بالصلاة قبل سبع سنوات، ولا يمنع ذلك من ترك الطفل يقلد أبويه بحركات الصلاة قبل أن يبلغ السابعة ومن الظروف التي تهيب بالناس جميعاً استعداداً لتقليد الأزمات والكوارث والآلام الاجتماعية التي يتحول معها القائد ليكون أباً وبطلاً يحاكيه كل مرؤسيه في كل سلوك من حياته ومن تلك الأسباب أيضاً الشعور بالضعف أمام القوة فالمغلوب يقلد الغالب. كما يقول ابن خلدون في مقدمته (المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه) (10) .
(3) الهدف:
إن لكل تقليد هدفاً وقد يكون هذا الهدف معروفاً لدى المقلد وقد لا يكون معروفاً، فعدم وضوح الهدف أو معرفته تكون لمجرد المحاكاة والتقليد فقط، وأما وضوحه فقد يرتقي معه وعي التقليد لدى المقلد حتى يصبح عملية فكرية يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز وعندها يرتقي بهذا التقليد إلى مفهوم راق في الإسلام، يطلق عليه (الاتباع) وأرقى هذا الاتباع ما كان على بصيرة (11) ، يقول الحق تبارك وتعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (12) .(8/483)
فإذا ما أدرك القائد هذا وعرفه كان لزاماً عليه أن يراعي وجود هذه الغريزة لدى مرؤسيه، فيجتهد بعد ذلك أن لا يعمل ولا يتصرف إلا على وحي مما كان عليه قدوته وقدوة المسلمين بعامة نبينا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون القائد قد استثمر هذه الفطرة عند مرؤسيه فيما يعود على الجميع بالنفع والفائدة.
أنواع القدوة:
عند النظر في وضع الكلمة اللغوي وما جاء في تعريفها اصطلاحاً نتبين بدقة أن المُعرفين لكلمة القدوة يميلون إلى صرفها نحو الوجه الحسن فينحازون بها إلى القدوة الصالحة المؤثرة في الغير ويعتبر هذا المنحى أساسياً وظاهراً في الوضع اللغوي ومن أوضح الأدلة على بيان ذلك وبيان معالم القدوة الصالحة قوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة …) (13) .
فالقدوة الحسنة هي التي تأست وتمثلت شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ومجاهدته وخلقه واقتفت أثره في كل شيء ونهجت نهجه وتمسكت بسنته ولا بأس أن نستأنس بمثال ساقه صلى الله عليه وسلم يوضح فيه أثر كلا النوعين من القدوة؛ القدوة الصالحة والقدوة السيئة ليُقرِب المعنى ويرسخ المفهوم ويوضح الأثر الذي يمكن أن يتركه القدوة في نفوس مقلديه والذين يحاكون أخلاقه وتصرفاته يقول صلى الله عليه وسلم (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك (14) وإما أن تبتاع منه (15) وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) (16) .(8/484)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المثال المحسوس أراد أن يبين تلك الآثار التي يمكن أن يتركها الجليس الصالح - والذي يمثل القدوة الحسنة – فيمن يجالسه فالمسلم إذا اختار جليسه الصالح ثم اقتدى به يكون قد ضمن لنفسه الاقتداء بقدوة صالحة ولو أردنا أن نقف على بعض الآثار التي يتركها الجليس الصالح فيمن يجالسه لوجدنا أنه يأمر جليسه بالخير والمعروف وينهاه عن الشر ويسمعه القول الصادق والعلم النافع ثم هو يعرفك عيوب نفسك ويشغلك عن ما لا يعنيك وهو دائماً يدلك على الخير ويرغبك فيه ويحذرك من الشر وما يزال معك على هذا الحال حتى يكون فعلاً كبائع المسك الذي لا يمكن أن ينالك منه إلا ما كان طيباً.
وهكذا يكون كل قدوة في الخير لا يصدر عنه إلا ما كان خيراً يفيض على عقول الناس كما تفوح رائحة المسك من بسطة بائعه.
وقد ينحرف الإنسان في سلوكه ويدبر أموراً مضره ويحفر حفراً للشر يريد بها غيره. فيصير عندئذ قدوة سيئة يحتذي حذوه كل من فسدت طويته، وساء خلقه، وفي هذا نرى أرباب الشر في كل مكان يتزعمهم أقواهم تدبيراً ويسمى هذا النوع بالقدوة السيئة، وبالطبع فإن القدوة السيئة هو على نقيض ما هو عليه القدوة الصالحة الذي يتأسى بشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم والقدوة السيئة يتمثل أخلاق الشياطين من الجن والإنس، والقائد لاشك يدرك أنه قدوة شاء ذلك أم أباه، فإذا كان الأمر كذلك فلا بديل أبداً في أن يختار النوع الأول وهو أن يكون قدوة صالحة، وبذلك يضمن أن لا يصدر عنه في تصرفاته وأخلاقه إلا ما يخدم مصلحته ومصلحة مرؤسيه.
ومن هذا نخلص إلى القول بأن أنواع القدوة لا تخرج عن نوعين قدوة صالحة وقدوة سيئة.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي (17) (الأسوة نوعان أسوة حسنة وأسوة سيئة فالأسوة الحسنة هي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن نهج نهجه، وأما الأسوة بغيره إذا خالف (أي خالف الرسول) فهو الأسوة السيئة.(8/485)
أصول القدوة الصالحة (18) :
إن أصول القدوة الصالحة التي يكون بها القائد قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين كبيرين هامين هما: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول. فإذا تحقق هذان الأصلان حسنت سيرة القائد وأصبحت سيرته الطيبة دعوة صامتة إلى كل خلق إسلامي جميل وإن فاته هذان الأصلان ساءت سيرته وصارت قيادته مثلاً سيئاً يُنَفّر الطيبين من حوله.
فأما الأصل الأول وهو حسن الخلق فعلى القائد أن يتمثل كل الأخلاق الإسلامية الحميدة مثل الصدق، الأمانة، الصبر، الرحمة، التواضع، المخالطة التي تتخللها المودة والمحبة، العطف، الإيثار والرفق وما إلى ذلك.
وأما الأصل الثاني هو موافقة العمل للقول فإن على القائد أيضاً أن يحذر كل الحذر أن تخالف أفعاله أقواله فإن النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا يوافق فعله قوله ولهذا حذرنا الله عن ذلك بقوله
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (19) .
والقائد الذي لا يعتني بهذا الأصل من أصول القدوة مثله كمثل طبيب قام أمام الناس يشرح أضرار التدخين مستعيناً في ذلك بكل الوسائل والأدلة التي تثبت ما يقول ثم فجأة ومع متابعة من يتكلم معهم له وانجذابهم إلى ما يقول نراه يخرج سيجارة من جيبه ويشعلها أمامهم ثم يبدأ يدخنها!!!؟
القائد قدوة ومقتدياً(8/486)
كما سبق تقريره من قبل من أن القائد لا ينفك عن كونه قدوة فهو في الوقت نفسه مقتدياً ومقلداً ومتأسياً بسلفه من قادة الأمة الإسلامية وأولهم أسوة وقدوة كل قدوة محمد رسول الله وصحبه. إن القائد يحاكي سيرة المثل الكامل نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه الحق تبارك وتعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة …) (20) والذي قالت فيه زوجه عائشة وهي تصف خلقه عليه الصلاة والسلام (كان خلقه القرآن) أي أنه صاغ نفسه في فعله وقوله على نحو مما جاء في القرآن فأصبح قرآناً يمشي على الأرض، إن القائد عليه أن يحاكي سيرته وفي الوقت نفسه يدرس كل جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام يدرس سلوكه، عبادته، حلمه، تواضعه، زهده، جوده، كرمه، رحمته، شجاعته، قوته، حسن سياسته، تدبيره، ثباته على المبدأ. ويعلم القائد وهو يفعل كل ذلك أن هذا منه موافق لما كان يقوم به الصحابة في شأن التأسي برسول الله، فلقد كانوا يُدَرِسُون سيرته ويحاكون كل ما عرفوه عنه قليه وكثيره بل كانوا يغرسون ذلك في نفوس أبنائهم يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد عاش زمناً بعد رسول الله (كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن) (21) . والقائد معني بدراسة تلك المغازي قبل أي أمر آخر، وبعدها ينظر في سيرته الأخرى عليه الصلاة والسلام فإنه المعلم الذي ينزل عليه الوحي برسالة الإسلام ليبلغها للناس جميعاً، وهو صاحب المدرسة التي تخرج منها قادة أمم وعباقرة حروب ورجال إصلاح وعلماء وفلاسفة ورواد حضارة، ولم يكن هذا الإنجاز الرائع أمراً يسيراً وهيناً فيكفي أن نقارن بين حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده حتى ندرك السر في هذا التحول الكبير فلقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده فكانت مدرسته خير مدرسة وجدت بين البشر وجمعت قلوبهم على الحق وقادتهم(8/487)
إلى الخير وحملت مشاعل الحرية والحضارة للإنسانية جمعاء ولقد حقق القادة الذين تخرجوا من مدرسة النبوة أعظم الفتوحات في تاريخ البشرية في مدة هي بمقاييس ذلك الزمن قياسية جداً ففي أقل من مائة عام غطت فتوحاتهم جزءاً كبيراً من العالم القديم (وامتدت من الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلس غرباً وبلغ عدد قادة الفتح الإسلامي مئتان وستة وخمسين قائداً منهم مئتان وستة عشر قائداً من الصحابة والباقون من التابعين) (22) .
هؤلاء القادة هم ومن جاء بعدهم من قادة الأمة الإسلامية جميعهم ينبغي للقائد الذي نعنيه في هذا البحث أن يحاكي أفعالهم ويقرأ سيرهم فإذا أحسن القائد في محاكاة كل هؤلاء فإنه بلا أدنى شك سيصبح قدوة حسنة يستفيد منه غيره ممن تنالهم قيادته، وهو موضع اقتداء لهم، وبهذا يصبح من الدعاة إلى الله لا بمقاله فقط ولكن بحاله وسلوكه، وبسيرته الطيبة التي يحاكي ويقلد فيها من أُمر بتقليده والتأسي به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا يتبين أهمية الدور الذي يقوم به ويمثله بل وخطورته إن لم يحسن القيام به.
أهمية القدوة الصالحة
إن للقدوة الصالحة التي يمثلها القائد أثراً فعالاً في حياة من يرأسهم وهو مسئول عنهم، لها أثر في تربيتهم وإصلاحهم.(8/488)
ذلك أن القدوة نموذج إنساني يعيش ممثلاً ومطبقاً لذلك المنهج الرباني الذي جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذا النموذج يعيش واقعاً عملياً يحقق تطبيق ذلك المنهج من خلال السلوك والتصرفات التي تُرى بالعين فتترك أثراً عميقاً في نفوس الناس الذين يعيشون من حوله مما يجعلهم يأخذون ويقبلون ما يقوله أو يفعله دون تردد أو ريبة لأن ما يمثله هو الإسلام الذي صاغ نفسه على وفق ما دعى إليه الإسلام فجعل منه نموذجاً قرآنياً يدب على الأرض ولنستعيد هنا أيضاً ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئلت عن خلق رسول الله قالت: (كان خلقه القرآن) فكأنها بوصفها هذا جعلت من الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً يراه الناس ويلمسونه من خلال تمثله في سلوكه وكل تصرفاته لدقة وقوة تمسكه وتطبيقه لما جاء في القرآن الكريم.
وعلى هذا يكون القائد الداعية، مثلاً حياً لكل المبادئ التي يعتنقها، مثلاً ترنوا إليه أعين مرؤسيه وتنجذب إليه نفوسهم حتى يستمدوا من الفضائل التي يفترض أن يحملها فينير لهم طريق الخير.
ألا وإن مما يمكن أن نبين به أهمية القدوة هو ذلك المثال العظيم والأثر الكبير الذي مثلته القدوة في نشر الإسلام في كثير من أصقاع الدنيا بواسطة تلك النماذج المتحركة التي دعت إلى الإسلام بأفعالها قبل أقوالها، فاستقطبت تلك النماذج ملايين البشر دخلوا في دين الله دونما فتح ولا جهاد تلك النماذج تمثلت في أعداد ليست بالكثيرة من التجار المسلمين والزوار الذين أدخلوا بسيرتهم وتمسكهم بتعاليم دينهم كل هذه الأعداد إلى الإسلام.
والقائد وهو يتحسس هذه الأهمية للقدوة سيسعى وبكل ما أوتي إلى أن يجعل من نفسه قدوة صالحة يستميل بها مرؤسيه نحوه لإنجاز ما يناط به وبهم من مهام وأعمال على الوجه الذي يرضي.(8/489)
كما أن على القائد أن يدرك أيضاً أن هناك خطورة حقيقية في حال عدم تحسسه لأهمية الدور الذي هو فيه فعليه أن يأخذ جانب الحيطة والحذر في كل تصرفاته وأن لا يأتي إلا ما يراه خيراً يرضي ربه ويحض به جنده لأنه في نظر أفراده ومرؤسيه إن صح لنا أن نشبهه كالشاشة البيضاء الناصعة البياض التي يمكن أن ترى عليها أدنى الملوثات.
وإن المرؤسين حول قائدهم الذي هو قدوتهم ينظرون إليه دائماً نظرة الناقد وفي الوقت نفسه المُقلد الذي يَتَلقون عنه، وهم يحسبون عليه كل حركاته وسكناته سواء شعر بذلك أم لم يشعر لأنه كما كررنا في نظر مرؤسيه مصدر إقتداء، ومادام على هذا الحال فإنهم يرون فيه الكمال مما يجعله في أعينهم فاضلاً وبالتالي يجب تقليده والأخذ عنه، فإذا وفق في أن يكون سلوكه طيباً وعمله يوافق قوله كان فعلاً قدوة صالحة يجب التأسي به والأخذ عنه. أما إذا كان غير ذلك كان والعياذ بالله قدوة سيئة يصبح في الأخذ عنه وتقليده خطورة على مرؤسيه ومن ثم على قواته المسلحة التي ينتمي إليها، لأنه بموجب رتبته ووظيفته مع مرؤسيه بمثابة الغالب. والمغلوب دائماً مولع بتقليد الغالب وهذه سنة من سنن الحياة فطر الناس عليها، وقد تقدم قول ابن خلدون في مقدمته (المغلوب دائماً أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه) (23) .(8/490)
والكمال الذي أشار إليه ابن خلدون ينقسم إلى قسمين؛ القسم الأول هو مقدار ما يملكه الإنسان من مبادئ وهو ما يعنينا هنا والقسم الثاني هو الكمال في الساعد والسلاح والقائد في الحقيقة أنه يملك من الصلاحيات ما يؤهله لبلوغ ذلك الكمال بما يجعله في موضع الاتباع والاقتداء من قبل المرؤسين مهما تضاءل هذا المقدار مادام المُقلد فاقداً له، ومن أجل هذا استحق القائد مرتبة الاقتداء الذي قد يحسنها فيكون قدوة صالحة وقد يسيء استخدامها فيكون قدوة سيئة.
والقدوة الصالحة من أهم وسائل التأثير في الآخرين سيما إذا كان هؤلاء الآخرين هم في مرتبة أقل كما قلنا من مرتبة القدوة، ولذلك فإن كثيراً من الناس لا يعمل ويطبق ما يقال له إلا إذا رأى ذلك الذي قيل له واقعاً يشاهده بعينه في عمل القدوة وفعله، عندها تزداد قناعة المقلد ويعلم أن الأمر الذي يطلب منه أن يحاكيه ويقلده ليس من باب المستحيلات أو المعجزات التي لا يمكن تطبيقها وإنما هو من باب الممكنات التي يتيسر فعلها، قال الإمام الشاطبي رحمه الله (إذا وقع القول بياناً فالفعل شاهد له ومصدق، وبيانه وتفصيله أن العالم إذا أخبر عن إيجاب عبادة من العبادات أو لزوم فعل من الأفعال ثم فعله هو لم يخل به مقتضى ما قاله فيه، عند ذلك يقوي اعتقاد إيجابه وينتهض العمل به عند كل من سمعه وأخبر عنه ورآه يفعله) (24) .
ومن هنا تظهر النتائج العكسية عندما يخالف العمل القول من قبل القدوة يظهر شعور لدى المقلدين والأتباع بأن ذلك الأمر غير ممكن العمل به فيعملون بضده معتمدين على ما شاهدوه من قدوتهم وهنا تكمن خطورة الاقتداء عندما ينحرف صاحبه.(8/491)
وأريد أن أختم هذه الأهمية لعملية الاقتداء بما ذكر سيد سابق وفقه الله في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) إذ يقول: (والقدوة الطيبة والأسوة الحسنة لها شأن كبير وأثر بعيد المدى في نفس الإنسان ونجاحه في الحياة، إذ هي هاد يشير إلى المثل الحي والفضيلة المجسمة وعرض للنماذج البشرية الصالحة التي يراد محاكاتها والاقتداء بها. وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي برسل الله وأنبيائه الذين تقدموه فقال تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (25) .
ومن كل ما تقدم في هذا الفصل يصبح الأمر واضح في نظر القائد وضوح الشمس بأنه قدوة وأن هذه المكانة التي هو فيها توجب عليه أن يتلمس مستتبعاتها فيدرك أنه مؤهل لأن يمارس واجباً آخر يقوم بدور مهم ألا وهو الدعوة إلى الله عز وجل الذي لا فكاك له منه ويتبين ذلك من خلال أسطر الفصل بعده (القائد قدوة ومحتسب بين أفراده) .
الفصل الثاني: القائد قدوة ومحتسب بين أفراده
تقرر معنا في الفصل قبله أن القائد قدوة وأنه لا مناص له من هذا الدور مادام يشغل منصب القيادة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من وقفة نحدد فيها ملامح شخصية القدوة بشكل عام وكيف يمكن إعداده حتى يكون ذلك عوناً له كيما يعد نفسه على وحي من ذلك فيكون متصفاً بصفات القدوة الصالحة التي بها ينجح في قيادته ودعوته إلى الله بين أفراده.
وفي نقاط مختصرة نستطيع أن نحدد تلك الملامح للقدوة التي جاءت في القرآن من خلال النقاط التالية:(8/492)
(1) أن القدوة (القائد) صنف من البشر قد اختاره الله لأن يكون راعياً ومسئولاً عن رعيته وهذا يوجب عليه أن يكون محتسباً في الدعوة إلى الله وهذا التشريف له بهذه المسئولية هو في الوقت نفسه تكليف يقول الله في شأن هذا التكليف (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) (26) ، ويقول (الله يجتبي إليه من يشاء) (27) ، ويقول (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (28) .
(2) إن القدوة وهو مختار، ملزم بمتابعة منهج لا يحيد عنه، وهذا المنهج هو ما جاء به الإسلام يقول الحق موجهاً كل أتباع هذا الدين (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (29) .
(3) أن القدوة تحوطه عناية الله وتوفيقه مادام مستقيماً على منهج الله ومطبقاً له في نفسه ومع الآخرين وهذه العناية وهذا التوفيق متمثل في نصر الله له وتثبيته له يقول الله في ذلك (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) (30) ويقول تعالى (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) (31) .
(4) أن القدوة الذي يحالفه النصر من الله والتوفيق والثبات على منهجه يكون قد أصبح في درجه تؤهله بأن يكون قدوة صالحة يأمر بكل معروف وينهى عن كل منكر، وعندها تحصل له الخيرية التي وعد الله بها من يقوم بذلك ويحصل له الاجتباء والاختيار يقول الحق تبارك وتعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية) (32) ، ويقول (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) (33) .(8/493)
هذه إذن نقاط بارزة يجب أن تظهر في شخصية القدوة الذي يجب على الأمة أن تعد أبناءها الذين سيصبحون في يوم ما قادة لأمتهم يحملون رسالتها ويدعون إلى مبادئها، ولن يكونوا على مستوى هذه المهمة، إلا إذا تم لهم ذلك الإعداد الذي يتطلبه إعداد القدوة، وهذا الإعداد يتطلب أن ندرك أن الإنسان الذي يمثل هذا الدور (دور القدوة) يولد ومعه بعض الصفات الموروثة التي يمكن استغلالها وصقلها، ومن هذه الصفات الذكاء، والفطرة المستقيمة (كل مولود يولد على الفطرة … الحديث) . أما الصفات المكتسبة من البيئة التي يعيش فيها الشاب كالتقاليد واللغة والروح الجماعية والانعزالية وغيرها فيمكن استغلالها وتوجيهها في نفس هذا الشاب على نحو ما تدعو إليه عقيدته ويسير في مرضات ربه. ولو فتشنا من حولنا كيف يتم إعداد الفرد الذي يراد له أن يمثل فكرة مذهبية، أو سياسية كما هو الحال مثلاً في مدارس ما يسمى بالتبشير (التنصير) لرأينا العجب، في ضخامة الجهود التي تبذل والوسائل والأساليب التي تتخذ لكي تعد هذا الشخص للقيام بأعباء هذه المهمة التي سيتولاها في التنصير، فهم مثلاً يقومون باختيار طلاب هذه المدارس بواسطة شروط معينة ثم يقومون بعد ذلك بعزله عن مجتمعه تماماً لكي يتكون تكويناً خاصاً في بيئة أعدت له خصيصاً، ثم بعد ذلك تخرجه إلى الناس وقد انغرست فيه هذه المبادئ وأصبح ينشرها ويدافع عنها كأقوى وأخلص ما يكون.
فما أحرى القائد وقد بلغ من العقل والوعي والإدراك لأَبعاد ما هو فيه من مسئولية، أن يعد نفسه الإعداد المناسب لكي يتولى مهمة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين مرؤسيه على أكمل وأحسن ما يمكن، وأنه إذ يقوم بإعداد نفسه إعداداً يتناسب وعظم المسئولية المنوطة به، يجب أن يدرك أن ذلك لا يتأتى له إلا إذا فقه دينه، وعلم بمقاصده حتى تكون دعوته واضحة والاقتداء به مأمون.(8/494)
ولعل من أبرز وأهم ما يمكن أن يُعد به القدوة لكي تتحقق الثمرة من الاقتداء به أن يُهتم بثلاث أساسيات في ذلك، هي ركائز لا يكون القائد قدوة صالحة دون وجودها في ثقافته وتربيته وهذه الركائز هي العقيدة، الأخلاق، والعلم.
فأما العقيدة ودورها في تكوين القدوة فهو دور أساسي يفوق في أهميته وضرورته. وأثره في حياة المسلم بصفة عامة، والقدوة بصفة خاصة، كل المؤثرات والأسباب الأخرى. وقائد ليس له عقيدة لا يكون محل اقتداء (بل هي قضية مصيرية تمّيز بين القائد الحق المؤمن وبين القائد المزيف) (34) فالعقيدة الراسخة ضرورة لكل قائد وليس بقائد حقاً من لا يتحلى بعقيدة راسخة تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤسيه على حد سواء إذ أن تبادل الثقة بين القائد ورجاله تجعلهم يسيرون وراءه للموت، وهم قطعاً لا يسيرون إلى الموت وراء قائد لا يثقون به. والعقيدة هي التي تشكل في القائد الشخصية المتميزة التي تعرف هدفها وتعمل على تحقيقه. وأما إعداد القدوة خُلقياً فإننا نعني بذلك الإعداد الخلقي للقدوة بأن يكون مع الناس جيَّاش العواطف كبير القلب ينبسط للخير ويفرح به للآخرين ويحرص عليه، وينقبض عن الشر ويضيق به، ويفر منه وهذا هو جوهر الإيمان (35) .
ولو تتبعنا اهتمام الإسلام بأمر الأخلاق التي اعتبرناها ركيزة أساسية في إعداد القدوة لعرفنا مدى أهمية إعداد القدوة خُلُقياً وتزويده بالأخلاق الإسلامية، ثم لوجدنا أن مبعث الأخلاق يستند إلى نص إلهي يحقق للإنسان نمواً اجتماعياً وحضارياً، والأخلاق الإسلامية ليست في جانب دون آخر بل هي شاملة لكل الجوانب التي تمس معاملات وآداب المسلم (فالأخلاق الإسلامية تدفع بطبيعتها إلى التكامل في البناء الاجتماعي الذي يقوم بتوطيد العلاقات الإنسانية بين الناس على أسس الإيمان والإخلاص.(8/495)
والأخلاق الإسلامية وإن اتفقت مع بعض الأخلاق غير الإسلامية في المسمى إلا أنها تختلف عنها من حيث المصدر والتحلي والتطبيق. فالإسلام في باب الأخلاق يُوصل الأخلاق الأساسية الإنسانية ويوطد أركانها في جانب، ويوسع في تطبيقها بحيث تشمل مظاهر الحياة الإنسانية كلها في جانب آخر، وخذ لذلك مثالاً للصبر، فمهما بلغ الرجل الغاية في الصبر واستولى على الأمر في حلبته، فلابد أن يقف تحمله وينفذ ثباته عند حد معلوم إذا كان لأغراض عاجلة ويستمد قوته ويتغذى من الجذور الفكرية للشرك والعبودية المادية.
أما الصبر الذي يستجلب قوته من جذور التوحيد والذي لا يبتغي من ورائه إلا وجه الله تعالى فهو كنز مكنون لا تصل إليه يد السارق (36) .
والإسلام يُظهر ويُبرز قيمة الفضائل الخلقية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم سيما الإنسان الذي نتكلم عنه هنا وهو القائد (القدوة) .
ويمكن تلخيص وجهة نظر الإسلام في شأن تربية الإنسان المسلم وإعداده خلقياً في النقاط التالية التي وردت في كتاب سيد سابق (دعوة الإسلام)
ومنها:
(1) أن الإنسان خلق مزوداً بقوى واستعدادات يمكن أن توجه إلى الخير كما يمكن أن توجه إلى الشر، مع التفاوت في ذلك لأن الناس كما قال عليه الصلاة والسلام (معادن كمعادن الذهب والفضة) (37) .
(2) أن كل إنسان مسئول عن تهذيب نفسه وإصلاحها، يقول الله عز وجل (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (38) .
(3) أن تزكية النفس وإصلاحها هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة وإهمالها هو سبيل الخسران (والعصر إن الإنسان لفي خسر … الآية) .(8/496)
(4) إصلاحها وتزكيتها ويتمثل في التخلص من الهوى وفي كبت الشهوة والارتفاع عن المادة والسمو عن النقائص الخلقية فإن الهوى داعية للشر والفساد وصاد عن الحق وصارف عن الهدى والرشاد كما أنه مطية للشيطان وباب ينفذ منه إلى بني آدم (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) (39) .
(5) وهذا التخلص من الهوى يحتاج إلى مجاهدة شاقة، صبر، وجلد فإن طريق الوصول إلى تلك المرتبة التي نريد أن يصل إليها القدوة ليست مفروشة بالورود والرياحين يقول صلى الله عليه وسلم (… وحفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره …) (40) .
فإذا تربى القدوة تربية خلقية على هذا الأساس ضمن لنفسه التحلي بهذه الفضائل الخلقية التي تؤهله لمهمته كقدوة، والفضائل والأخلاق التي دعى إليها الإسلام كثيرة لعل من أبرزها؛ الصدق، الأمانة، العفاف، الوفاء، الشجاعة، التضحية، الإيثار، قوة الإرادة، الصبر، التفاني في سبيل الحق، الصبر والثبات، الطاعة، التذلل لله، الإخاء والحب في الله والبغض في الله، الرحمة، الحياء، الثقة، العفاف، العزة، والجود، الكرم، الأخلاق، التواضع، الحلم، الرفق وكل ما خلق يحبه الله ودعى إليه القرآن أو ورد في السنة.
وأما تحصين القدوة بالعلم فلأن العلم فعلاً حصانة من الزلل بل هو له بمثابة السلاح للجندي في ميدان المعركة. وهو الوسيلة الضرورية لإيصال ما يفترض أنه يملك من الخير والفضائل إلى الآخرين وهذا هو في الحقيقة أثر العلم وفائدته بعد أن يكون القدوة قد حصله وتحصن به.(8/497)
وإلى جانب كون العلم وسيلة لتوصيل ذلك الخير الذي يفترض أن يحمله ليُقتدى به على أساسه فهو في الوقت نفسه ذو فائدة للقدوة إذ به (أي العلم) يمكن أن يحصن نفسه من الزلل لأن العلم نور يهتدي به المسالم في دياجير الحياة وظلماتها، فبالعلم يُميز بين الخطأ والصواب، وأنظر معي إلى قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه يوصي كميل بن زياد بأن يحصل العلم ويحترس به ويتحصن (يا كميل العلم خير من المال، فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال) (41) .
والقدوة الذي يعد إعداداً عقيدياً ليقوم بالدعوة إلى الله يعتبر ربانياً لأنه يعلم الناس الخير يقول الله تعالى في ذلك (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) (42) .
وقد اختلف العلماء حول هذه النسبة فبعض العلماء قال سموا بذلك لأنهم يربون العلم (أي يقومون به) وزيدت الألف والنون للمبالغة (43) .
في حين أن البعض يقول أن تلك النسبة إلى الرب فيقال هو رباني لأنه يقصد تنفيذ ما أمره الله به من العلم والعمل.
فإذن القدوة بتلقيه العلم ثم بتعليمه للناس يكون ربانياً وهذه منزلة شريفة لا ينالها إلا إذا كان عالماً ومعلماً للخير. ولذلك اهتم الإسلام بأمر العلم اهتماماً كبيراً ورغب فيه ترغيباً عظيماً دل كل ذلك على أهميته وضرورته ويكفي في الدلالة على ذلك أن أول آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دعوة إلى العلم (إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم … الآية) (44) .
والنصوص التي جاءت تحث على تحصيل العلم كثيرة جداً، يكفي أن أحد الباحثين قام بإحصاء تلك الآيات التي تلفت أنظار الناس إلى أسرار الكون وتحثهم على استجلاء غامضها فبلغت خمس القرآن (45) .(8/498)
أما حامل العلم فمنزلته في الإسلام رفيعة والنصوص التي جاءت تبين ذلك كثيرة جداً ويكفينا أن نثبت هنا قليلاً منها؛ أولها أن الله رفعهم بقوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) ، ويقول سبحانه:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) (46) ، ويقول (العلماء ورثة الأنبياء) ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.
والآثار أيضاً في فضله كثيرة أكثر من أن نستقصيها هنا لعل من أبرزها قول عبد الله بن المبارك رحمه الله عندما سئل (فقيل له: من الناس؟ قال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين) . قال الغزالي (حجة الإسلام) تعليقاً على هذا القول من ابن المبارك، قال: (فلم يجعل (يعني ابن المبارك) غير العالم من الناس، لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم. فالإنسان بما هو شريف لأجله؛ فليس ذلك بقوة شخصيته فالجمل أقوى منه، ولا بعظم خلقته فالفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فالسباع أشجع منه، ولا بأكله فالثور أوسع بطناً منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم) (47)
ومن كل ما تقدم وغيره كثير، يتبين لنا مدى أهمية هذا السلاح للقدوة في أي موقع كان من مواقع الحياة قائداً أو غير قائد.
ولكن القائد حاجته لهذا السلاح كبيرة لأنه محتسب للخير والعمل به بين أفراده يأمرهم بكل معروف وينهاهم عن كل منكر حتى يوفي بمسئوليته التي استرعاه الله إياها (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته …) (48) .
القائد محتسب مكلف:(8/499)
قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن القيام بالاحتساب الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعين على فئات من المجتمع دون أخرى، وهذا فهم لاشك بأنه قاصر. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فريضة لا تسقط إلا بالأداء، والمسلم مطلوب منه أن يقوم بهذا الواجب على حسب علمه وقدرته وفي شأن هذا الوجوب يقول الحق تبارك وتعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (49) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (50) والوجوب في هذين النصين هو وجوب عيني لا كفائي ولا يسقط إلا بالأداء لأن (من) في النصين السابقين هي للبيان وليست للتبعيض كما يقول أهل اللغة (51) .
وعلى هذا فالوجوب في حق القائد جاء من جهتين الأولى كونه مسلماً، والثانية كونه مسئولاً، فأصبح بالثانية محتسباً مكلفاً يترتب عليه من الوجوب ما لا يترتب على المحتسب المتطوع.
فإذا علم هذا فإن الأمر يحتاج إلى أن نزود القائد القدوة المحتسب بشيء من فقه الحسبة، حتى يكون أداءه مميزاً وعمله منضبطاً بضوابط الشرع. وما سنثبته هنا تعريف الحسبة والمحتسب حتى نُكون مفهوماً وإطاراً عاماً لهذا العمل ومن يقوم به، ثم نحاول أن نبين طرفاً من أهمية الحسبة وبعدها. نتعرف على الشروط الواجب توفرها في المحتسب وكذا الآداب ومن ثم نحدد شروط إنكار المنكر، وخطوات إنكار المنكر، ومراتب تغيير المنكر، وآخر ذلك نتلمس ضوابط إنكار المنكر بالقلب، محاولين أن تكون كل هذه في نقاط مختصرة وعلى من أراد التوسع في ذلك العودة لكتاب الحسبة في الماضي والحاضر بين ثبات الأهداف وتطور الأسلوب) المجلد الأول للباحث، وهذا استعراض موجز لتلك الأحكام في الكتاب نفسه:
أولاً: تعريف الحسبة:(8/500)
في اللغة يقول ابن منظور في لسان العرب (الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله) (52) .وتعاريفها واشتقاقها كثيرة يجمع بينهما هذا التعريف: (الحسبة لغة من احتساب الأجر عند الله على العمل،وطلب ثوابه، بإنكار المنكر والأمر بالمعروف في حسن تدبير ونظر) (53) .
وأما تعريفها في الاصطلاح فكما جاء في كتاب (الحسبة في الماضي والحاضر) وهي من أكثر المصطلحات إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، التي اختلف في معناها وتعددت تعاريفها، وذلك في الغالب ناشئ عن اختلاف الأفهام والنظرة للدور الذي يقوم به المكلف بها داخل المجتمع، ولكن سأحاول أن أثبت هنا أشهر تعريفين لهذا المصطلح حسب ما أراه؛ أولهما تعريف الماوردي في كتابه القَيم (الأحكام السلطانية) (54) حيث يقول (الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي المنكر إذا ظهر فعله) .
وثانيهما تعريف آخر أحسبه جامعاً مانعاً للحسبة وهو (الحسبة عمل يقوم به المسلم لتغيير منكر ظاهر أو أمر بمعروف داثر من خلال ولاية رسمية أو جهود تطوعية، وعلى المكلف بها ما ليس على المتطوع) (55) .
وفدلكة ومحترزات هذا التعريف تتمثل في أنه يعطي صورة واضحة وشمولية للحسبة وأنها فريضة إسلامية عينية، أو كفائية على حسب حال المتولي لها مكلفاً أو متطوعاً فهي عينية في حق المكلف كالمعنى معنا في هذا البحث وهو (القائد) وكفائية في حق التطوع كما قرر ذلك الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية بقوله (إن فرضه (أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) متعين على المحتسب (الوالي) بحكم الولاية وفرضه على غيره داخل فروض الكفاية) (56) .(9/1)
كما أنه قد روعي في هذا التعريف أن يشتمل على ما يقوم به المحتسب للوالي والمتطوع وأنه (أي الاحتساب) عمل لا يسمى حسبة إلا إذا أتى من المسلم، ولو جاء من غيره فلا يسمى حسبة وإن وافق صورته، ولم يغفل فيه تلك الضوابط والقيود التي قررها الفقهاء من قبل، كقيود ظهور المنكر وترك المعروف ثم أشير في نهاية التعريف إلى أن هناك فرقاً بين احتساب كل من المكلف والمتطوع وبهذا كان هذا التعريف في نظري جامعاً مانعاً.
ثانياً: أهمية الحسبة:
إن قيام الحسبة في أي مجتمع كان هي بمثابة صِمَام أمان لذلك المجتمع، أو هي بمثابة جهاز صيانة دائمة في أوساط المجتمع، تحول بين أفراد ذلك المجتمع وبين الوقوع في مخالفة الشرع. فالحسبة بمفهومها الشمولي العام لا غنى عنها لأمة أو مجتمع يريد أن يطبق منهج الله في أرضه فبقيامها تحصل له الخيرية الواردة في قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية) (57) .
ولا أبالغ إذا قلت بأن نظام الحسبة الذي هو نظام إسلامي أصيل وهو الوجه العملي التطبيقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو لحُمة هذا الدين (الإسلام) ، بل الشريان الذي تسري من خلاله الأخوة الإسلامية، والمودة، والتراحم، والترابط الذي يجب أن يتم بين الأمة أفراداً وجماعات.
فكيف يمكن أن تتصور مجتمعاً ضاع فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتشرت فيه المنكرات؟ إنه مجتمع لا يمكن أن تنتظم الحياة فيه، ويأمن فيه المسلم على ضروراته الخمس؛ الدين، العرض، النفس، المال، العقل.
ولذلك نرى أن أمة من الأمم قد فضلها الله يوم أن كان هذا الأمر قائماً فيها، فلما اندثر فيها مقَتَها الله ولعنها (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (58) .(9/2)
والحسبة نوع من أنواع التكافل الإجتماعي ألم يقل الحق سبحانه وتعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله) (59) .
بل عدَّه ابن تيمية (بأنه القطب الأعظم في الدين الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمَّت وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد) (60) .
ونختم استعراض هذه الأهمية بذكر ذلك المثال الرائع الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبين فيه مدى خطورة ضياع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مجتمع فهو يقول (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذي من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجواونجوا جميعاً) (61) .
ولأهمية الحسبة وشرف منزلتها في الإسلام فإنه كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها (62) .
وانطلاقاً من هذه الأهمية للحسبة فإن تعلما ومعرفة أحكامها وفقهها لا يقل أهمية عن ما نوهنا عنه اعلاه (فالاحتساب من أدق العلوم وأسماها، ولا يدركه ويقوم به إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب، ولا تسند ولايته إلا لمن له قدرة قدسية مجردة عن الميل والهوى) (63) . واكتملت في حقه الشروط والآداب التي قررها الفقهاء والتي يأتي بيانها.
ثالثاً: تعريف المحتسب:
كما مر معنا في تعريف الحسبة من أنه قد تعددت تعاريفها فإن تعريف المحتسب أيضاً قد تعددت تعاريفه وسأختار أحدها ثم أناقشه.(9/3)
(فالمحتسب مسلم يسعى لتغيير المنكر وإقامة المعروف وفقاً لمنهج الشريعة إمتثالاً لأمر الله وطلباً لثوابه متولياً ومتطوعاً) (64) ، ففي قولي (مسلماً) أعني أن غير المسلم لا يعتبر عمله وإن كان تغييراً للمنكر حسبة، لأن من أول شروط المحتسب كما سيأتي أن يكون مسلماً، ولأن دافع المسلم في تغيير المنكر وإقامة المعروف غير دافع الكافر، فالأول دافعه تعبدي بخلاف الثاني. وقولي (وفقاً لمنهج الله) قيد لئلا يتجاوز المحتسب وهو يؤدي واجبه، ما أمر به الشرع ونهى عنه، وأما قولي (إمتثالاً لأمر الله) فلأننا عرفنا فيما تقدم أن القيام بالحسبة واجب على المسلم يؤديه مع غيره، وأما قولي (وطلباً لثوابه فإنه مر معنا في تعريف الحسبة لغوياً أن المسلم يقوم بذلك ويرجو عليه الثواب من الله، وأما قولي (متولياً أو متطوعاً) فحتى لا يفهم أن الحسبة لا تكون إلا من المكلف من قبل ولي الأمر كما فهمه بعض من عَّرف الحسبة، مما لم نستعرض تعريفه، فإذا كان الذي يُعِّرف الفاعل للعمل هو العمل نفسه فالمكلف والمتطوع في ذلك سواء.
رابعاً: شروط المحتسب:
حتى ينهض المحتسب بعمله على الوجه الذي يرضي فلابد من توفر مستلزمات في نفسه أولها وأهمها توفر شروطاً معينة بذل الفقهاء جهوداً مشكورة في تحديدها.
والشروط التي حددها الفقهاء للمحتسب على ضربين؛ شروط متفق عليها وأخرى مختلف فيها.
أ. الشروط المتفق عليها.
(1) الإسلام: وهذا شرط بدهي في كل الواجبات الدينية إذ أن ما يقوم به المحتسب هو من الواجبات الدينية التي يراد بها نصرة الدين وإعلاء كلمته. وغير المسلم جاحد لأصل الدين فكيف يكون من أهل الوجوب فيه، ثم إنه لا ولاية لكافر على مسلم. ثم إن تكليف غير المسلم للقيام بعمل المحتسب هو إكراه له على القيام بعمل لا يعتقده، ولا إكراه في الدين كما جاء في القرآن.(9/4)
(2) التكليف: الاحتساب واجب شرعي ولا وجوب على غير المكلف وحد التكليف البلوغ من المكلف، وهذا يدخل في شروط الوجوب، فأما إمكان الفعل فلا يستدعي إلا العقل إذ بإمكان الصغير المميِّز أن يقوم بعمل المحتسب وليس لأحد منعه من ذلك.
(3) العلم. واشتراط العلم أمر يتطلبه حُسن الأداء حتى يكون أمر المحتسب ونهيه تبعاً لأمر الله وأمر رسوله فإن المراجع في تحديد القبح والحسن هو كتاب الله وسنة رسوله، فلربما استحسن بعض الناس بعقله ما قبحه الشرع أو استقبح ما حسن الشرع، وعلى هذا نجد قولاً لابن تيمية رحمه الله يقوله فيه (ولا يكون عمله (أي المحتسب) صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه في الدين كما قال عمر بن عبد العزيز يرحمه الله: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) . وكما قال معاذ رضي الله عنه: (العلم إمام العمل والعمل تابعه) (65) .
(4) القدرة: يقول الله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وأي واجب في أحكام الشريعة الإسلامية لا يكون إلا في حدود القدرة ووسع المكلف. فيشترط في المحتسب القدرة وإلا سقط عنه الوجوب عند الجمهور وعدم القدرة قد يكون حسياً لضعف، أو مرض، أو غي، أو ضرس في اللسان وغيرها، وقد يكون معنوياً كأن يتوقع المحتسب أن يصيبه شر في نفسه أو ماله أو عرضه، وليس من عدم القدرة مجرد الهيبة فقط، ولذلك روى الترمذي وغيره (أن لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه) (66) . وعدم القدرة إذا ثبت يرفع الوجوب عن المكلف في المرتبتين الأولى والثانية (أي مرتبة تغيير المنكر باليد واللسان) ، أما المرتبة الثالثة وهي مرتبة التغيير بالقلب فلا يرتفع الوجوب في حقه وستأتي ضوابط الإنكار بالقلب بعد قليل.
(5) أن يكون ذا رأي وصرامة وقوة في الدين.(9/5)
(6) أن يكون عفيفاً متورعاً عن أموال الناس؛ لأن ذلك يُؤثِّر بشكل مباشر على عمله ويهز شخصيته في نظر المحتسب عليهم ومن ذلك الهدية في كثير من الأحيان.
ب. الشروط المختلف فيها:
1. العدالة.
2. الاجتهاد.
3. إذن الإمام.
4. الذكورة.
5. الحرية.
هذه الشروط الخمسة هي التي حصل بين الفقهاء اختلاف فيها إذ أن بعضهم يرى أن في إشتراطها تضييق لدائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تتوافق مع منطوق عموم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، أما البعض فيشترطها أو بعضها احتياطاً للقيام بهذه المهمة الجليلة متأولين في ذلك نصوصاً من الكتاب والسنة. والكلام يطول في إثبات أدلة كل فريق ورد الفريق الثاني وأنا أرى أن هذا ليس مكان بسطها ويمكن لمن أراد التقصي أن يعود لذلك في مظانها في كتب الفقه (أبواب الحسبة) .
فأما الذين إشترطوا العدالة فهم قليل في مقابل من لم يشترطها، وأما إذن الإمام فالذين إشترطوها أيضاً قليل وهم يشترطونها في حق المحتسب المتطوع، أما المحتسب المكلف، فإنهم يرون أن قرار التولية يشتمل على الإذن وغيره (67) ، وهذا ينسحب على قرار تعيين القائد، وأما شرط الإجتهاد، فلو قلنا به لضاقت جداً دائرة المعروف والنهي عن المنكر، حتى يصبح الذين يقومون به فئة قليلة من المجتمع وخرج بذلك فئات كثيرة لا تخرجهم نصوص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قلنا بأنها تجعل القيام به من فروض الأعيان على من رآه وكان مسلما.
وكذلك بالنسبة لإشتراط الذكورة فنحن نكون باشتراطها قد عطلنا وأعفينا نصف المجتمع من القيام بهذا الواجب الشرعي العظيم مع أنه يمكن للمرأة أن تحتسب في وسطها وفي بيتها، ولكن رد بعضهم وقال نشترط الذكورة فقط في ولاية الحسبة وما عداها لا نشترط الذكورة.(9/6)
والذين اشترطوا الحرية قالوا لأن العبد وقته لسيده وبذلك فليس له أن يحتسب إلا بإذنه، والصحيح أنه مسلم يمكنه أن يأمر وينهي في حدود استطاعته وقدرته ولا يعفيه الرق من هذا الواجب الإسلامي الجليل.
خامساً: آداب المحتسب:
لابد للمحتسب من أن يتحلى بآداب ذاتية تجعل منه نموذجاً يمثل الإسلام في أبهى وأحسن صورة ليكون ذلك أدعى للآخرين لامتثال أمره ونهيه والاقتداء بفعله وآداب المحتسب التي نريد أن نثبتها هنا تنقسم إلى قسمين أولهما ذاتية يحققها في نفسه وآداب مع الآخرين تظهر عند احتسابه عليهم.
أ. الآداب الذاتية:
(1) الإخلاص.
(2) التقوى.
(3) أن يعمل بما يقول ولا يكون قوله مخالفاً لفعله.
(4) المواظبة على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(5) التحلي بالصبر فهو عدة عظيمة لمهمته وسلاح يحتاج له لإنجازها.
(6) عليه أن يكون حذراً فطناً لا ينخدع بحيل المستهترين وألاعيب العابثين.
(7) عليه أن يكون على وعي بعلم الواقع وثقافة العصر الذي يعيشه.
ب. آدابه مع الآخرين:
(1) الرفق واللين في القول وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره ونهيه.
(2) الحلم والأناة وعدم تعجل العقوبة.
(3) أن يتعامل مع الناس بالصدق والأمانة وعدم الخيانة.
(4) محاولة تقليل علائقه عند الآخرين حتى لا تؤثر على عمله.
(5) أن يكون باعثه العطف والشفقة على المعاصي (لأنه (أي - المحتسب – بمثابة الطبيب) .
سادساً: شروط إنكار المنكر:
بقدر حرص المحتسب على تغيير المنكر، وإزالته، فإن ذلك لا يكون سبباً كافياً لوقوعه فيما يبطل إحتسابه. لأن لكل منكر ضوابط ومعايير تسمى شروط إنكار المنكر، ومن أبرزها ما يلي:
أ - وجود منكر يستدعي الإحتساب. وضابطه الوجود (أي يكون منكراً ظاهراً دون الحاجة إلى الإجتهاد، فكل ما هو محل للإجتهاد لا محل فيه للإنكار على سبيل الإلزام.(9/7)
ب - أن يكون المنكر المحتسب فيه محذور الوقوع في الشرع. لأن المعروف ما جعله الشرع معروفاً، والمنكر ما جعله الشرع منكراً.
ج - أن يكون المنكر قد وقع فعلاً أو ظهرت العزيمة على فعله، والمنكر الذي وقع لابد أن تتجمع لدى المحتسب المكلف أدلة كافية ومنها الظهور، إذ بدون الظهور يوقع المحتسب نفسه في محذور شرعي آخر هو التجسس وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه كتاب الله) (68) . والظهور ظهوران؛ ظهور حقيقي ومثاله رجل خلى بآخر ليقتله، وظهور حكمي ومثاله تتبع مرتكب الجريمة بعد خروجه مباشرة من مكان وقوعها.
د - أن يدفع المنكر المحتسب فيه بأيسر منه فإذا كان يدفع بأشد ترك الإحتساب.
سابعاً: خطوات إنكار المنكر:
اتفاق شبه تام بين الفقهاء الذين استنبطوا أحكام الحسبة وخطوات إنكار المنكر فهم يرون أن على المحتسب أن يأخذ الأمر خطوة خطوة، فلا يثبت على أول خطوة يبدأها في الإنكار ولا يقفز إلى آخر خطوة يستدعي الأمر الوصول إليها، فهو لا يحاسب ويعاقب لأول زلة تبدو من المحتسب عليه، لأن العصمة في الخلق مفقودة إلا من عصمه الله كالأنبياء والرسل. ومن هذا المنطلق وجب على المحتسب أن يسلك طريقاً اتفق على تسميته مراتب الإحتساب أو خطوات إنكار المنكر وهي على النحو التالي:
أ - التعريف بالمنكر وأنه محذور الوقوع في الشرع.
ب - الوعظ بما يهز النفوس ويبعد عن الإثم بأسلوب الترغيب والترهيب.
ج - الزجر والتأنيب بالقول، والشدة في التهديد، وهجن الخطاب، وهذا في حق من لم تنفع معه الخطوتان السابقتان.
د - إذا لم تنفع الخطوات السابقة ينتقل إلى مرحلة أقوى وهي إزالة المنكر بالقوة حيث من شأن هذه الخطوة أن تحول بين الفاعل وما يريد ارتكابه من منكر كإراقة الخمر لمن يريد شربه.(9/8)
هـ - إيقاع العقوبة التي هدد بها المحتسب وهذه الخطوة ليست لكل المحتسبين وإنما هي للمحتسب المكلف (القائد) وليست لكل محتسب لا يملك صلاحية إيقاع العقوبة. لكن عليه الرفع لمن يستطيع إيقاع تلك العقوبة على فاعل المنكر.
ثامناً: مراتب تغيير المنكر:
هذه المراتب مدارها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (69) ، وهذه المراتب كما لاحظنا تختلف عن الخطوات السابقة فالخطوات تبدأ من الأخف للأشد بينما المراتب تبدأ من الأشد للأخف. كذلك فالتغيير فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين بينما الإنكار فرض عين، ومن الفروق بينهما أيضاً أن التغيير يحتاج إلى قوة، بينما الإنكار لا يحتاج إلى تلك القوة، ومن الفروق أيضاً أن الخطوات تكون قبل وقوع المنكر بينما مراتب تغيير المنكر تكون أثناء الوقوع في المنكر وبعده
تاسعاً: شروط وضوابط التغيير بالقلب:
عرفنا في مراتب تغيير المنكر بأنها تبدأ بالقوة، ثم اللسان وهي أخف، ثم تنتهي للتغيير بالقلب، وقد يعجز بعض الناس عن القيام بما تتطلبه المرتبتين الأولى والثانية لأسباب كثيرة ولكنه لا يعجز أحد مهما كان ضعفه من الإنكار بالقلب ومن ثم التغيير بواسطة هذه المرتبة سيما إذا تحسس المسلم الضوابط والشروط التي يجب أن يتحلى بها المُغيِّر بهذه المرتبة. إذ أن التغيير كما جاء في نص الحديث يقتضي الوجوب حسب الإستطاعة لكن لم يُستثنى أحد من هذا الوجوب. وبعض الناس تراه يرى المنكر أو يجالس أهله ولا يغير فتقول له لماذا لم تُغير المنكر؟ قال لا أستطيع ولكن أنكرته بقلبي !! أي أنه يدعي أنه انتقل إلى المرتبة الأخف في التغيير. قلنا له ما رأينا شيئاً من ضوابط هذا التغيير بالقلب؟ قال وما هي تلك الضوابط؟ قلنا له الآتي:(9/9)
أ - تغيير ملامح الوجه: فإن من اغتاظ من أمر بدت علائم الغضب على وجهه وبما يشعر من حوله أنه غاضب ومستاء حتى ولو لم يتكلم.
ب - كثرة الحركة في المكان، وتوالي الزفرات: فهذا أيضاً يشعر صاحب المنكر الذي تجالسه ولا تستطيع أن تكلمه لشره أو لكونه رئيساً كبيراً وتخافه بأنك منكر لما يفعل ويقوم به.
ج - مفارقة المكان: وهذا أقل وأسهل ما يمكن أن يفعله المنكر بالقلب وهو في متناول كل أحد يقول الحق تبارك وتعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره … الآية) (70) .
وفي ختام هذا الفصل أود القول بأن النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كفيل بأن يصور للمحتسب كل هذه الأحكام المتعلقة بالحسبة في مواقف عملية حدثت في حياته عليه الصلاة والسلام.
الخاتمة:
لاشك أن كل أمة تعمل جاهدة عل تحقيق عزها ومجدها والأمة التي تتكون من مجموعات ومؤسسات وقطاعات وولايات يقود كل منها قائد تريد من هذا القائد أن يحقق أهدافها من خلال تبصره لمتطلبات قيادته وعمله بإخلاص وتفان في ذلك.
والقائد الذي يعد إعداداً صحيحا هو الذي يحقق لأمته عزها ومجدها بل وسؤددها , وما أحوج أمة الإسلام اليوم إلى وجود مثل هؤلاء القادة الذين ينشأون وهم على وعي تام بأهداف أمتهم ورسالتها بما يؤدي إلى نجاحهم وهذا ما نتمناه لأمة الأسلام التي تحمل أمانة هذا الدين العظيم وإبلاغه للناس وتحقيق عبودية العباد لربهم وهذا يتحقق بإذن الله تعالى بالتربية بالقدوة التي بها انتشر الإسلام وتخرج القادة من مدرسة النبوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) وفي هذا البحث المقتضب حاولت مجتهدا أن أبرز تلك الأهمية لواحدة من أهم وأنجح وسائل التربية ألا وهي القدوة التي تخرج بها قادة الأمة ونشر بها الإسلام في أصقاع المعمورة.
أهم نتائج البحث:(9/10)
إن البحث فيما يتعلق بالقدوة وإعدادها هو من البحوث التي يصعب الإتيان على كل ما يتعلق بها وما ذاك إلا لأهمية الموضوع ودقة وحاجة الباحث فيه إلى تجارب تثريه وهذا مالا يتوفر لكل أحد 0
وأني ببحثي هذا فيما يتعلق بالاقتداء وفي حق فئة مهمة جدا وهم (القادة) قد توصلت إلى نتائج لعل من أبرزها:
1 - أن دراسة القدوة والتأكيد عليها من أبرز الدراسات التي تحتاجها الأمة اليوم وباستمرار حتى يعم ويسترسخ مفهوم أهميتها في أذهان الناس.
2 - أن أمتنا الإسلامية اليوم التي أهملت الاعتناء بمثل هذه الدراسة قد خسرت كثيرا ولو عادت للاهتمام بها لعاد إليها الكثير من عزها ومجدها المفقود.
3 - أن التركيز على فئة القادة من خلال مراحل التعليم والدورات هو من الأهمية بمكانة الصدارة.
4 - إلى جانب التركيز على دور القدوة فإن القادة بل كل أفراد المجتمع بحاجة ماسة وملحة بدورهم فيما يتعلق بالاحتساب (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ما ركزت عليه في هذا البحث أيضا) .
5 - أني أوصي بأن يكون ضمن مناهج التعليم العام ما يبرز أهمية القدوة حتىيتربى عليها شباب الأمة وقادة مستقبلها إما من خلال مادة مستقلة لذلك أو ضمن موضوعات مواد أخرى والله الموفق وهو المعين سبحانه وتعالى.
الهوامش والتعليقات
---
(1) لمجموعة من المؤلفين 2/321، الطبعة الثالثة.
(2) ابن منظور 15/171، طبعة دار صادر، بيروت.
(3) فتح القدير للإمام محمد بن علي الشوكاني 2/137، طبعة دار الفكر.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/237، طبعة دار الثقافة.
(5) سورة الأنعام، الآية 90.
(6) سورة الأحزاب، الآية 21.
(7) سورة آل عمران، الآية 90.
(8) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة. رقم 1233.
(9) أصول التربية الإسلامية وأساليبها: عبد الرحمن النحلاوي، ص229، طبعة دار الفكر.(9/11)
(10) أصول التربية الإسلامية وأساليبها: عبد الرحمن النحلاوي، ص229، طبعة دار الفكر.
(11) أصول التربية الإسلامية وأساليبها: عبد الرحمن النحلاوي، ص229، طبعة دار الفكر.
(12) سورة يوسف، الآية 108.
(13) سورة الاحزاب الآية 21.
(14) سورة الاحزاب الآية 21.
(15) أي يهدي إليك.
(16) أي تشتري منه.
(17) رواه البخاري في كتاب البيوع باب (38) ورواه مسلم في كتاب البر باب (146)
(18) تفسير كلام المنان 6/208 (بتصرف) .
(19) القدوة الصالحة (أخلاق قرآنية ونماذج ربانية) : حسين أدهم جرار، ص17.
(20) سورة الصف، الآيتان 2 – 3.
(21) سورة الأحزاب، الآية 21.
(22) القدوة الصالحة أخلاق قرآنية ونماذج ربانية، مصدر سابق، ص27.
(23) مجلة الأزهر، الجزء الثاني، ذو الحجة 1401هـ: بقلم اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص53.
(24) انظر مقدمة ابن خلدون، مصدر سابق، ص 33.
(25) الموافقات، 3/317 للإمام الشاطبي (بتصرف) .
(26) الدعوة إلى الإسلام لسيد سابق، ص69 طبعة دار الكتاب العربي، الزرقاء، الأردن والاية في سورة الانعام رقمها (90) .
(27) سورة الحج، الآية 75.
(28) سورة الشورى، الآية 13.
(29) سورة الأنعام، الآية (90) .
(30) سورة الأنعام، الآية 153.
(31) سورة الروم، الآية 47.
(32) سورة آل عمران، الآية 110.
(33) سورة الأنعام، الآية 87.
(34) اللواء الركن/محمود شيت خطاب، بين العقيدة والقيادة.ص 48
(35) دعوة الإسلام: سيد سابق، ص65، طبعة دار الفكر، بيروت.
(36) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية: أبو الأعلى المودودي، ط2، مؤسسة الرسالة ص 98.
(37) رواه مسلم. في كتاب الفضائل الباب 199 والبخاري في كتاب الانبياء الباب 19
(38) سورة الشمس.الاية 7
(39) سورة الجاثية، الآية 23.
(40) رواه مسلم.في كتاب الجنة باب (1) وبو داود في كتاب السنة باب (21)(9/12)
(41) الاسس الاخلاقية للحركة الاسلامية مصدر سابق.
(42) سورة آل عمران، الآية 79.
(43) فتح الباري: لابن حجر 1/171، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(44) سورة العلق الاية (1) .
(45) هذا هو الإسلام: مصطفى السباعي، ص17، ط المكتب الإسلامي.
(46) متفق عليه. رواه البخاري في كتاب العلم باب 10 ومسلم في كتاب الامارة باب 175
(47) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، صفحة 1/7، طبعة دار الندوة الجديدة.
(48) رواه البخاري في كتاب الجمعه باب 11 وسلم في كتاب الامارة باب 20
(49) سورة أل عمران، الآية 104.
(50) رواه مسلم.
(51) انظر تفسير الآية في فتح القدير للشوكاني 1/369 ط دار الفكر.
(52) لسان العرب لابن منظور 1/314.
(53) الاحكام السلطانية للماوردي ص240
(54) الحسبة في الماضي والحاضر مصدر سلبق 1/6
(55) الاحكام السلطانية مصدر سابق ص241
(56) الاحكام السلطانية مصدر سابق ص241
(57) سورة أل عمران، الآية 110.
(58) سورة المائدة، الآيتان 78 – 79.
(59) سورة التوبة.الاية 71
(60) انظر إحياء علوم الدين للغزالي 2/306.فقد حكاه عن ابن تيمية
(61) رواه البخاري في كتاب الشركه باب 6.
(62) الأحكام السلطانية للماودي، مصدر سابق.ص241
(63) معالم القربة في أحكام الحسبة، لابن الأخوة، ص4.
(64) الحسبة في الماضي والحاضر، مصدر سابق، ص88.
(65) الحسبة في الإسلام، لابن تيمية، مصدر سابق، ص84 – 85.
(66) رواه الترمذي في كتاب الفتن الباب رقم (26) وقال: حديث حسن صحيح وهو جزء من حديث طويل
(67) هموم المثقفين: د/محمد إمام، ص106.
(68) رواه الإمام مالك في الموطأ 2/825 والحاكم في المستدرك 4/244 وقال عن صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(69) رواه مسلم في كتاب الايمان باب 7 واحمد 3/202
(70) سورة النساء، الآية 140.
المصادر والمراجع(9/13)
1- إحياء علوم الدين للإمام (حجة الإسلام) الغزالي، طبعة دار الندوة الجديدة.
2- أصول التربية الإسلامية وأساليبها، عبد الرحمن النحلاوي، طبعة دار الفكر.
3- الأحكام السلطانية للماوردي.
4- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، أبو الأعلى المورودي، طبعة دار الرسالة.
5- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، طبعة دار الثقافة.
6- الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
7- الحسبة في الماضي والحاضر، د/ علي بن حسن القرني، طبعة دار الرشد بالرياض.
8- الدعوة إلى الإسلام، لسيد سابق، طبعة دار الكتاب العربي - الأردن.
9- السيرة النبوية، لابن هشام، طبعة دار العلم.
10- القدوة الصالحة (أخلاق قرآنية ونماذج ربانية) ، حسين أدهم جرار، طبعة دار الضياء - الأردن.
11- المستدرك للحاكم.
12- المعجم الوسيط في اللغة، لمجموعة من المؤلفين.
13- الموافقات، للإمام الشاطبي.
14- تفسير كلام المنان، لفضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي.
15- حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني.
16- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الألباني، طبعة مكتبة المعارف - الرياض.
17- سنن ابن ماجه، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد.
18- سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن سوره.
19- شرح المواهب، للزرقاني.
20- صحيح الإمام البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
21- صحيح الإمام مسلم، أبي الحسين مسلم بن حجاج.
22- عظماؤنا في التاريخ، د/ مصطفى السباعي، طبعة المكتب الإسلامي.
23- فتح الباري، شرح صحيح البخاري لابن حجر، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
24- فتح القدير (تفسير) ، للإمام محمد بن علي الشوكاني، طبعة دار الفكر.
25- لسان العرب، لابن منظور، طبعة دار صادر - بيروت.
26- كتاب إصلاح المساجد، لمحمد بن ناصر الدين الألباني.
27- مجلة الأزهر، الجزء الثاني، ذو الحجة 1401 هـ.(9/14)
28- محمد رسول الله (سيرة) ، الأستاذ محمد صادق عرجون، طبعة دار القلم - دمشق.
29- مسند الإمام أحمد بن حنبل.
30- معالم القربة في أحكام الحسبة، لابن الأخوة.
31- مقدمة ابن خلدون، طبعة دار الهلال - بيروت.
32- هذا هو الإسلام، د/ مصطفى السباعي، طبعة المكتب الإسلامي.
33- هموم المثقفين، للدكتور / محمد إمام.(9/15)
الدعوة في السودان
وتأثرها بالدعوة السلفية
" دراسة تاريخية وثائقية "
د. عمر سالم عمر بابكور
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة أم القرى - كلية الشريعة والداسات الإسلامية - قسم التاريخ الإسلامي
ملخص البحث
رغم أن إعلان محمد أحمد “ المهدية ” قد يباعد بينه وبين ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن المتتبع لسيرته سواء منذ بداية دعوته وبعد إعلان المهدية ومن خلال تراثه الفكري بعد المهدية المتمثل في منشوراته ومجالسه وخطبه بالإضافة إلى حكومته الإسلامية التي أقامها في السودان، وسياسته الخارجية التي حملت التوجيه الإسلامي الخالص، يلاحظ مدى عمق العلاقة بين المهدية في السودان ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية.
فقد تأسى محمد أحمد “ المهدي ” بالشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ بداية دعوته فقد ظل فترة من الزمن يدعو سلماً بالمواعظ والكتب والرسائل والوفود، للعودة إلى منابع الدين الأولى وترك البدع ومظاهر الشرك، وإحياء سنن الشريعة، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ومحاربة الفساد.. وهذا يتفق مع ما جاء في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية منذ بدايتها أيضاً وحملات رسائله بالدعوة إلى بعض بلدان وإمارات نجد.(9/16)
ثم نلاحظ أسلوبه الجهادي وعقيدته السلفية ومنهجه السلفي في الإصلاح في معظم مناشيره التي تغطي الفترة منذ إعلانه المهدية في “ أبا ” حتى فتح “ الخرطوم ” ونهاية الحكم القائم وعموم دعوته، مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتبليغ الدعوة وإزالة مظاهر الشرك والبدع وإقامة مجتمع إسلامي في حكمه، وظهرت عقيدته السلفية بوضوح في تلك المناشير وأيضاً منهجه السلفي للإصلاح ونلاحظ الاتفاق في المضمون فيما دعا إليه الاثنين من العودة بالإسلام إلى عصوره الزاهرة وترك البدع والمنكرات وإن اختلفا في الأسلوب لأن كل واحد منهما كان يخاطب قومه باللغة التي يفهمونها وكان هم كل منهما منصرفاً إلى المعاني لا إلى العبارات.
مقدمة:
بدأت دعوة محمد أحمد الإصلاحية عندما بني جامعاً للصلاة وخلوة للتدريس والتعبد وبدأ في بث أفكاره ومبادئه بين سكان جزيرة أبا والقبائل المجاورة لها، سالكاً منهجاً قويماً في العبادة والزهد والغيرة علي الدين وداعياً إلي بناء مجتمع ديني يأخذ مقوماته من المجتمع الذي أقامه الرسول صلي الله عليه وسلم، وصحابته، واستطاع أن يكسب لأفكاره ومبادئه الكثير من الاتباع والمريدين، عاهدوه علي السمع والطاعة، والتمسك بأوامر الدين، والانتهاء عن نواهيه، والاستعداد إلي نصرة الحق، وإقامة سنن الشريعة الإسلامية.(9/17)
ثم انتقلت دعوته الإصلاحية إلي طور جديد عندما أعلن أمام صفوة من العلماء ورجال الدين وبعض رجال الدولة الذين حضروا حفل ختان أولاد شيخه محمد شريف سنة 1878 م أن ما أقدم عليه شيخه من إجازة الرقص والغناء واللهو في الحفل مخالف للشريعة الإسلامية، ورغم أن ما أعلنه سّبب الخلاف والقطيعة بينه وبين شيخه إلا أنه قد خرج من هذا الخلاف منتصراً عليه ومؤيداً من قطاعات عريضة من السودانيين بسبب قوة تدينه وغيرته علي الشريعة والإسلام، وصار حديث العلماء ورجال الدين والعامة بعد أن أذاع أنه أنفصل عن شيخه لأنه خالف الشريعة والسنة، فأصبح شخصية لها محبة خاصة في قلوب السودانيين.
فاستغل محمد أحمد (المهدي) هذا الانتشار وتلك الشهرة التي حققها في بث ونشر أفكاره ومبادئه والتمكين لها في جميع أنحاء السودان فبدأ في تقوية اتصالاته بالعلماء ورجال الدين والإصلاح فكتب إلي بعض العلماء ورجال الدين المرتبطين بالحكم التركي المصري يدعوهم إلي الزهد في الدنيا وشهوتها، والإقبال إلي الآخرة 00 وكتب أيضاً إلي بعض رجال الدين والعلماء يعلمهم أن الدين قد أصبح غريباً بسبب شيوع البدع ومظاهر الشرك ويدعوهم للوقوف معه لإقامة الدين وأحياء سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم 0
وأعقب ذلك بالانطلاق بدعوته يجوب ربوع السودان يوثق أواصر التفاهم بينه وبين نظار القبائل والعلماء ورجال الدين وشيوخ الطرق وأصحاب الشأن في البلاد، يدعوهم إلي العودة إلي تعاليم الدين الصحيح ونبذ البدع ومظاهر الشرك، ومحاربة الفساد واستطاع بالفعل أن يخرج من تلك السياحات والرحالات بشهرة واسعة، وبعشرات الألوف من المؤيدين المخلصين لدعوته 0(9/18)
وكانت قمة دعوته الإصلاحية عندما وضع رسالته (أثناء رحلته الأولي إلى غرب السودان سنة 1297هـ 1880م) التي حض فيها أتباعه علي تطهير الإيمان الذي فسد وأنحط بفساد الحكمة، وعدم احترام الموظفين أركان الدين، فكانت دعوة صريحة لتغيير الأوضاع للعودة بالمسلمين وبالبلاد إلي الدين الصحيح، والرجوع إلي أيام الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته، وإقامة مجتمع إسلامي مماثل لمجتمعه يلتزم في حكمه بالشريعة الإسلامية الغراء.
وعندما أيقن محمد أحمد من إمكانية نجاح دعوته فكر في الشكل والأسلوب الذي يناسب ظروف السودان حينذاك، فأهتدي إلي فكرة إسلامية أخذ بها بعض المصلحون والمجددون في تاريخ الإسلام وحظيت بانتشار واسع في السودان ظهور المهدي عندما يشتد الظلم والجور في المجتمع وتجعله رمزاً للعدل والخير والصلاح التي طالما أنتظرها المسلمون في السودان لتنقذهم من الأوضاع السيئة والتي تمثلت في المظالم والمفاسد الخلقية وشيوع البدع التي عمت المجتمع السواد ني المسلم، فأعلن (في سنة 1898 هـ / 1881 م) أنه المهدي، مؤيداً من الله ورسوله، ليعود بالمسلمين إلي الدين الصحيح ويقيم الحكم الإسلامي القائم علي الالتزام بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.
ورغم أن إعلان محمد أحمد " المهدية " قد يباعد بينه وبين ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن المتتبع لسيرته سواء منذ بداية دعوته وبعد إعلان المهدية ومن خلال تراثه الفكري بعد المهدية المتمثل في منشوراته ومجالسه وخطبه بالإضافة إلي حكومته الإسلامية التي أقامها في السودان، وسياسته الخارجية التي حملت التوجيه الإسلامي الخالص، يلاحظ مدى عمق العلاقة بين المهدية في السودان ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية.(9/19)
فقد تأسي محمد أحمد " المهدي " بالشيخ محمد بن عبد الوهاب منذ بداية دعوته فقد ظل فترة من الزمن يدعو سلماً بالمواعظ والكتب والرسائل والوفود، للعودة إلي منابع الدين الأولي وترك البدع ومظاهر الشرك، وأحياء سنن الشريعة، والزهد في الدنيا والإقبال علي الآخرة، ومحاربة الفساد 00 وهذا يتفق مع ما جاء في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية منذ بدايتها أيضاً وحملات رسائله بالدعوة إلى بعض بلدان وإمارات نجد.
ثم نلاحظ أسلوبه الجهادي وعقيدته السلفية ومنهجه السلفي في الإصلاح في معظم مناشيره التي تغطي الفترة منذ إعلانه المهدية في " أبا " حتى فتح " الخرطوم " ونهاية الحكم القائم وعموم دعوته، مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتبليغ الدعوة وإزالة مظاهر الشرك والبدع وإقامة مجتمع إسلامي في حكمه، وظهرت عقيدته السلفية بوضوح في تلك المناشير وأيضاً منهجه السلفي للإصلاح ونلاحظ الاتفاق في المضمون فيما دعا إليه الاثنين من العودة بالإسلام إلي عصوره الزاهرة وترك البدع والمنكرات وإن اختلفا في الأسلوب لأن كل واحد مهما كان يخاطب قومه باللغة التي يفهمونها وكان هم كل منهما منصرفاً إلي المعاني لا إلي العبارات.
وقد ظهرت تأثر محمد أحمد الشديد بالتعاليم والمبادئ السلفية وجاءت دعوته في منشوراته إلي التوحيد الخالص وإفراد العبودية لله، ومنع الحلف بغير الله، ومنع الاستغاثة بغير الله لو كان نبياً رسولاً أو ملكاً 00 بالإضافة إلي تحريم التسمية بالعبودية لغير الله، وهدم القباب ومنع التوسل إلي الأولياء الصالحين 00 تجسيد حي وقوي لأقوال أعلام السلف وعلي رأسهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأيضاً كل خطب محمد أحمد المدونة تحث علي الزهد في الدنيا وطلب الآخرة وتتضمن دعوة قوية للجهاد، وأسلوبه فيها يعتمد علي كثرة الاستشهاد من القرآن الكريم والسنة المطهرة وهو يتأسى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب في خطبه.(9/20)
ويمكن أن نقول أن التأثر والمحاكاة بل والاقتباس قد ظهر واضحاً في العقيدة " الجانب النظري " القول والاعتقاد في تراث محمد أحمد وسيرته، وإن لم تظهر نفس الألفاظ والمعاني لأن كل واحد منهما كان يخاطب قومه بلغة يفهمونها ولكن المضمون واحد.
أما " الشريعة " أو الجانب العملي وموقف محمد أحمد من المذاهب والمدارس الفقهية المختلفة، ففي تراثه وسيرته ما يؤكد عمق العلاقة بينه وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وخاصة ما أقدم عليه من ممارسات سلفية، وظهرت بقوة دعوة الشيخ السلفية واضحة جلية فيما دعا إليه المهدي من فتح باب الاجتهاد، واتفقت الوجه السلفية في دعوته للاجتهاد مع ما دعا إلي الشيخ محمد عبد الوهاب لنفس الهدف.
فقد أمر محمد أحمد أنصاره بالرجوع إلي الكتب العلمية رغم حفاوته بالقرآن الكريم الذي أصدر أمراً عاماً بتدريسه إجبارياً متأسياً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وإذا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد حرم الدخان وشدد تلاميذه في التحريم فإن محمد أحمد في مجالسه قد حرم التنباك تحريماً قاطعاً وأعتبره من جملة الخبائث وشربه حرام وثمنه حرام.
بالإضافة إلي أن محمد أحمد كان يشجع نوابه وعماله علي الاجتهاد وعدم التعليق بالأئمة متأسياً في ذلك بالشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وظهرت ممارساته السلفية بقوة واضحة جلية في منشوراته والتي حملت اسم "الأحكام والآداب " والتي خالف بها المهدي علماء عصره فيما جرت به العادة من الفتوى تبعاً للمذاهب الفقهية المعروفة. لذلك لم يكن بدعاً أو عجباً أن يعلن محمد أحمد إلغاء المذاهب والطرق الصوفية حتى لا يبقي إلا الدين الخالص، ويمكن أن نقول أنه كان سلفياً مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهو قد نفذ تعاليم السلفية في القصاص والسرقة والزنا والحدود الشرعية عامة.
الصلات القديمة بين شبه الجزيرة العربية والسودان:(9/21)
مما لاشك فيه أن الصلات بين أفريقية عامة والسودان خاصة وشبه الجزيرة العربية، عميقة الجذور، موغلة في القدم، فقد كانت شبه جزيرة العرب – علي مر العصور – مستودعاً بشرياً عظيماً، ومنبعاً لموجات بشرية تتدافع في تيارات متتالية علي مدي العصور والأجيال نحو الأقطار المجاورة، وكانت أهم هذه الموجات وأسبقها في الزمان بحكم الجوار وسهولة الانتقال تلك الموجات المتجهة نحو شرق القارة الأفريقية عن طريق باب المندب ثم عبر طرق البحر الأحمر كلها ( [1] ) .
ومما يزيد من عمق هذه الصلات أن هناك بعض النظريات التي تتحدث عن غياب البحر الأحمر (كحاجز مائي) كله بين آسيا وأفريقيا وتقول بوحدة " أصل البجة " ( [2] ) وقدماء المصريين النابع من الجزيرة العربية ( [3] ) .
بالإضافة إلي أن البحر الأحمر لم يكن حاجزاً صعباً يمنع الاتصال بين شواطئه الأسيوية العربية، وشواطئه الأفريقية، فلم يكن من الصعب اجتيازه بالسفن الصغيرة، ومن المؤكد أن بلاد البجة في شرق السودان هاجر إليها الحضارمة قبل الإسلام ( [4] ) .
وكان بفضل هذه الصلات والتي تمثلت في انتقال العرب من شبه الجزيرة العربية إلي مناطق كثيرة في أفريقيا ولعل أهمها منطقة وادي النيل، أن تزايدت المؤثرات العربية وأصبحت تلك المناطق الأفريقية شبه عربية، وقطعت في عروبتها شوطاً طويلاً عبر آلاف السنين وذلك عندما ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ( [5] ) .
وقد دفعت هذه الصلات والهجرات العربية ببعض الباحثين ( [6] ) في تاريخ السودان إلي الترجيح بأن سودان وادي النيل قد عرف الثقافة العربية الجاهلية بكل مقوماتها العقائدية والفكرية قبل أن يعرف الثقافة الإسلامية التي صاحبت الدعوة الإسلامية، وأن تأثيرات الدماء العربية والثقافة أيضاً لم يكن مقصوراً علي الجهات التي تقابل الجزيرة العربية في السودان الشرقي بل تجاوزتها إلي السودان الأوسط، والسودان الغربي أيضاً.(9/22)
ونخلص فيما سبق إلي أن الصلات والعلاقات كانت قائمة بين شبه الجزيرة العربية والسودان، وأن أجزاء كثيرة من سودان وادي النيل قد تأثرت بما يحدث بشبه جزيرة العرب بفضل الانتقال والاستقرار السلمي للعرب في أرض السودان.
ومن ثم لم يكن مستغرباً أن تجد الدعوة الإسلامية في شرق أفريقيا " الحبشة " الملاصقة للسودان ملجأها الأول بالإضافة إلي سرعة انتشار الإسلام في أجزاء كثيرة من أفريقيا في سنوات الإسلام الأولي مما يدفعه دليلاً علي عمق وقدم الصلات والوشائج والارتباط بين شبه الجزيرة العربية ومناطق شرق السودان.
نفوذ الدعوة الإسلامية إلي السودان:
بقيام الدعوة الإسلامية وتوطيدها في شبة الجزيرة العربية وبداية انتشارها وسيطرتها علي مصر في شمال وادي النيل بحملة عمرو بن العاص، لم تنقطع العلاقات والصلات العربية بالسودان بل زادت بفضل قوة الدعوة الإسلامية وأصبح هناك طريقان ( [7] ) أو مدخلان نفذا منهما العرب والدعوة الإسلامية من شبه الجزيرة العربية إلي السودان وهما:
الأول: المدخل الشرقي عبر البحر الأحمر مباشرة، الثاني: المدخل الشمالي عبر مصر، وأن كان هناك ترابط كبير بين المدخلين، وسوف نعرض بإيجاز دور كل واحد منهما في تطوير أبعاد تلك العلاقات، واستمرار هذا الاتصال.
أولاً: المدخل الشرقي (عبر البحر الأحمر)
تكاد المراجع التاريخية تجمع على أن الكثير من قبائل الجزيرة العربية أو على الأدق بعض البطون منها قد قامت بهجرات واسعة مباشرة عبر البحر الأحمر إلي شرق السودان وخاصة بعد قيام الدعوة الإسلامية، ومن أشهر هذه الانتقالات والهجرات، انتقال " جهينه" من منطقة " ينبع " من الجزيرة العربية إلي شرق السودان ( [8] )
وجهينة اسم لقبيلة عربية مشهورة هي فرع من قضاعة، وأهم وحدات هذه المجموعة القبائل الآتية:(9/23)
1- قبيلة رفاعة وتمتد مواطنها علي جانبي النيل الأزرق في السودان من السفوح الحبشية إلي المقرن، والشماليين منهم يمارسون الزراعة والتجارة، أما الجنوبيين فالبداوة سائدة بينهم وهم ينقسمون إلي قسمين:
رفاعة الشرق (شرقي النيل الأزرق) ويطلق عليهم ناس أبو جن ورفاعه الهوى (غربي النيل الأزرق) ويطلق عليهم ناس أبو روف، وقد حل بهم اضطهاد شديد في عهد الخليفة عبد الله حين رفض شيخ القبيلة (يوسف المرضي أبو روف) القدوم إلي أم درمان. لمبايعة الخليفة، فقبض عليه وأعدم في أم درمان.
2- قبيلة الشكرية، ويعيشون في إقليم البطانة وينتقلون بإبلهم شمالاً حتى شندي وجنوباً إلي النيل الأزرق وأهم مراكزهم بلدة أبو دليق جنوب شرقي شندى ورفاعة علي النيل الأزرق والفاشر علي العطبرة والقضارف.
وقد كان للشكرية شأن كبير أيام الحكم المصري، وكان لها أسرة حاكمة يتزعمها الشيخ أحمد أبو سن وكان موضع ثقة الحكومة فعندما قصد مرسي باشا حمدي حكمدار السودان القاهرة لمقابلة الخديوي إسماعيل، اصطحب معه أحمد بك أبو سن وعدداً من كبار السودانيين، فأنعم عليهم الخديو بالرتب والهدايا وكان نصيب الشيخ أحمد سيفا مذهباً وخمائل ذات قيمة ( [9] )
ويلاحظ أن موطن هذه المجموعة الأولي لقبائل جهينة (رفاعة والشكرية) في أقاليم النيل الأزرق والبطانة أي في النصف الشرقي من السودان.
أما المجموعة الثانية فيطلق عليها المجموعة الفزارية وتعيش في شرقي كردفان ووسطها ومن أشهر قبائلها دار حامد فى شمالي الأبيض، ويعملون بالزراعة ورعي الإبل.
وأهم قبائل المجموعة الثانية هي:
1- البقارة ويطلق هذا اللفظ علي شعبة جهينة التي تعيش جنوبي كردفان ودارفور، ويعملون كما يدل اسمهم في رعي البقر.
ويمتد إقليم البقارة غرباً حق بحيرة تشاد إلي إقليم واداى والبرنو كما أن حدودهم الجنوبية تتاخم أقاليم الزنوج حيث يعيش الدنكا والفرتيت.(9/24)
وإقليم البقارة واسع جداً في امتداده من الشرق إلي الغرب، فيقع بين النيل الأبيض وبحيرة تشاد في حين أنه محدود في امتداده من الشمال إلي الجنوب فيقع بين خطي عرض 11ْ و 13ْ وإن كانت بعض الوحدات تمتد جنوبي هذا الخط كالحمر الرزيقات.
ويتوزع البقارة علي النحو التالي:
في كردفان: بنوسليم علي النيل الأبيض بين الجمع في الشمال والشلك في الجنوب ويليهم غرباً أولاد حميد ويعيشون حول تقلي ( [10] ) ثم الحوازمة وينتشرون بين الأبيض ودلنج وتالودي ثم المسيرية غربي دلنج وأخيراً الحمر في الركن الجنوبي الغربي من كردفان شمالي بحر العرب.
في دارفور: ويمتدان من الشرق إلي الغرب علي الترتيب التالي:
الزريقات فالهبائية والتعايشة وبنوهلبه
2- الكبابيش وتملك أعدادا كبيرة من الإبل بالإضافة إلي الضأن أيضاً، ومواطنهم محورها وادي المِلك. وقد فتك بهم الخليفة عبد الله فتكا ذريعاً لما خرجوا عليه.
3- الحمر: Hamar ويعيشون علي الأطراف الغربية لكردفان علي حدود دارفور وتمتد أوطانهم بين خطى عرض 12ْ و 14 ْ، وقد عملوا على نصرة المهدية بخلاف الكبايش فانتهز الحمر لسلبهم الشطر الأعظم من قطعانهم.
ولا يتم الحديث عن العناصر العربية في شمالي السودان دون الإشارة إلى مجموعة الكواهلة وهى لا تنتسب إلى الجعليين أو الجهنيين، رغم أنهم من عرب شبه الجزيرة، وأوطانهم موزعة في جهات متعددة أخصها النيل الأبيض فيفصلون بين قبيلتين جعليتين هما الجموعية والجمع ( [11] )
ومنهم قبيلتنا الحسانية والحسينات وهي تعمل في الزراعة ورعي الإبل.
وهناك قسم ثان من الكواهلة استوطن شمالي كردفان جنوب ديار الكبابيش ويعملون في رعي الإبل.
أما الشعبة الثالثة فتعيش علي العطبرة والنيل الأزرق ويشتغل أفرادها بالزراعة ورعي الإبل والغنم والماعز.(9/25)
والكواهلة ( [12] ) يرجعون نسبهم إلي الزبير بين العوام رضي الله عنه كما يرجع الجعليون نسبهم إلي العباس عم النبي صلي الله عليه وسلم.
وانتقال جماعات من عرب " هوازن " عبر البحر الأحمر واستقرارهم في أرض البجة، وعرفوا باسم " الحلانقة " ( [13] ) ، وأيضاً عرب " الكواهلة " الذين جاءوا من جزيرة العرب مباشرة عبر البحر الأحمر واستقروا في الإقليم الساحلي بين سواكن وعيذاب ( [14] ) .
بالإضافة إلي بعض البطون من قبائل أخري لعل أشهرها ربيعه وبلي ورفاعه وغيرها ( [15] ) .
وبجانب هذا الانتقال والاتصال السلمي للقبائل العربية بمناطق شرق السودان، فقد امتد النفوذ السياسي والسيطرة الإسلامية في عهد الأمويين إلي مواني البحر الأحمر علي الساحل الأفريقي فقد تم احتلال جزائر " دهلك " ( [16] ) في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك الأموي (65-86هـ / 685 –705م) ومما يؤكد استمرار سيطرة الدولة الإسلامية في عهد الأمويين علي تلك الجزيرة القاحلة عند مدخل البحر الأحمر في الجنوب الشرقي للسودان أن الخليفة هشام ابن عبد الملك الذي أعقب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد جعلها منفي لأصحاب التيارات الفكرية المخالفة في عهده ( [17] )
وزادت سيطرة الدولة الإسلامية في عهد العباسيين علي معظم مناطق شرق السودان الداخلية عندما استطاع الخليفة " المأمون " أبن " هارون الرشيد " بحمله " عبد الله بن الجهم" سنة 831م، ومن بعدة الخليفة المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بحمله محمد بن عبد الله القمي " سنة 856م بإخضاع البجه في شرق السودان للحكم الإسلامي، وهي القبائل الحامية التي تعيش بين النيل والبحر الأحمر ( [18] ) .
ففي الشمال ينتشر بشاريو (أم علي) بين البحر الأحمر وأسوان بينما يتركز بشاريو (أم ناجي) حول العطبرة.
ثم هناك بنو عمار ( [19] ) في المرتفعات الواقعة غربي سواكن والمنحدرات التي تليها غرباً، وتمتد أوطانهم حتى العطبرة.(9/26)
وأكثر هذه القبائل عدداً وأشدها مراسا في الهدندوه، ويعمل الشماليون منهم في الرعي، في حين يمارس الجنوبيون الزراعة.
وأخيراً نجد بني عامر ( [20] ) ، وهم أهدأ عيشاً من سائر البجه، ومواطنهم في طوكر وخور بركه.
وقد تأثرت قبائل البجة بالدعوة المهدية وأثرت عليها تأثيراً يتفاوت بين كل قبيلة وأخري وأحياناً بين أقسام القبيلة الواحدة.
وعندما قامت الثورة المهدية كان بشاريو الشمال (أم علي) بمنأى عن المهدية، فلم تستطع أن تخضعهم لها، ومن جانبها عملت الحكومة المصرية علي استبقاء ولائهم لها بتوزيع الغلال عليهم ( [21] ) . في حين حارب بشاربو الجنوب
(أم ناجي) في صف عثمان دقنه قائد المهدية في شرقي السودان ( [22] ) .
أما أبو عمار فقد أثرت فيهم الدعوة المهدية تأثيراً شديداً، وكان معظمهم يقف من الحكومة المصرية موقفاً ودياً، علي أن هذا لم يمنع البعض منهم من أن يقاتل إلى جانب عثمان دقنه، مما أدي إلي انقسام القبيلة علي نفسها انقساما شديداً، بقيت آثاره حتى وقت قريب.
أما الهدندوه، فقد كان لها دور أكبر وأخطر مما كان لسائر البجة. فهي قد أسهمت في الدعوة المهدية إسهاماً جدياً وحاربت تحت قيادة عثمان دقنه، وبذلك شغلت الحكومة المصرية في السودان الشرقي فترة طويلة وهي التي قامت بقطع طريق بربر – سواكن.
ولم يبق إلا بنو عامر، وهؤلاء كانوا في عهد المهدية ينتشرون بين طوكر ومصوع، وقد اتصلت الأقسام التي تحيط بطوكر بالمهدية اتصالا وثيقاً، في حين قاوم بعضها المهدية، والأمر الذي لا شك فيه أن الكثيرين من بني عامر يؤيدوا الدعوة المهدية ( [23] ) وأصبحت بذلك الأراضي الواقعة شرق النيل من جنوب أسوان إلي جنوب دهلك – مصوع جزءاً من الدولة الإسلامية ( [24] ) .(9/27)
وبالفعل صاحب هذا الامتداد والنفوذ الإسلامي هجرات بطون بعض القبائل والجماعات العربية التي استقرت في تلك المناطق ونشرت معها ثقافتها الإسلامية وأصبحت ترتبط ارتباطا وثيقاً بالدولة الإسلامية، وخاصة موانئ السودان الشرقية والتي ارتبطت بموانئ الحجاز عقب السيطرة العثمانية على الشرق العربي ثم الحرمين في الحجاز، فأصبحت المواني الشرقية والغربية للبحر الأحمر مثل جده، وسواكن ومصوع، وزبيد اليمن، والحديدة، وزيلع تحت سلطة " والي " الحجاز التركي ( [25] ) ، وكان من الطبيعي أن تكون تبعية موانئ السودان الشرقي الإدارية للحجاز – في عهد العثمانيين– واستفادة سكان تلك المناطق من الامتيازات ( [26] ) التي منحها العثمانيون لسكان الحرمين قد شجع الكثير من القبائل العربية علي الهجرة والاستقرار في مناطق شرق السودان، ولعل أشهر الهجرات الجماعية الحديثة هجرة قبيلة الرشايدة إلى شرق السودان ( [27] ) .
وكل هذا بلا شك سواء انتقالات القبائل وبطونها من الجزيرة العربية إلي السودان الشرقي والسيطرة الإسلامية علي تلك المناطق ساهم في نشر العقيدة الإسلامية ( [28] ) .
وما صاحبها ونتج عنها من أفكار سلفية وجعلها متأثرة دائماً بما يحدث في شبه جزيرة العرب.
ثانيا: المدخل الشمالي (عبر مصر)
عندما فتح المسلمون مصر كان شمال السودان ووسطه يعتنق المسيحية منذ القرن السادس الميلادي، وقد قامت فيه ممالك مسيحية ( [29] ) لعل أهمها مملكة المغيرة وعاصمتها "دنقلا" ومملكه علوه وعاصمتها " سوبا " وما أن استتب الأمر لعمرو بن العاص بعد فتح مصر سنة 624 م حتى سير حملة جنوباً لغزو النوبة المسيحية وفتحها باسم الإسلام، ولتأمين حدود مصر الجنوبية، ولكن هذه الحملة قوبلت بمقاومة عنيفة ولم تستطع التوغل جنوباً، كانت فرصة لتسرب بعض العرب إلي داخل السودان.(9/28)
ونجد أن " عبد الله بن سعد بن أبي السرح " الذي خلف " عمرو بن العاص " في حكم مصر، استطاع بعد قتال شديد مع النوبة المسيحية أن يفرض عليهم معاهدة عرفت "بالبقط " يفسرها المؤرخون بأنها معاهدة حسن جوار، أو عدم اعتداء بتعبير حديث تحقق لمصر الإسلامية الاطمئنان علي سلامة أراضيها من ناحية الجنوب، واشترطت علي النوبة المسيحية حفظ مصالح المسلمين وحريتهم الدينية والتجارية ( [30] ) .
وتكاد المراجع التاريخية ( [31] ) تجمع علي أن الفترة اللاحقة لفتح مصر وسيطرة المسلمين علي شمال أفريقيا قد شهدت هجرات عربية واسعة للاستقرار في السودان.
وأصبح تدفق العرب إلي السودان مرتبطاً بالأحداث التاريخية والصراعات السياسية في الدولة الإسلامية، فقد عرف السودان اللاجئين السياسيين من العرب كبني أمية الذين فروا من وجه العباسيين إلي بلاد النوبة ( [32] ) التي تمتد من أسوان، وقد أطلق العثمانيون عليها أسم "أرض البرابرة " وتضم هذه المنطقة أجزاء في شمال وجنوب الحدود المصرية السودانية الحالية. ويعيش السكان فيها علي ضفتي النيل ويمثلهم حالياً: السكوت، والمحس، ويطلق عليهم أسم النوبيين المستعمرين، وكانوا في بداية الأمر زراعيين ( [33] ) يعيشون علي الشريط الضيق علي جانبي النيل أو في الجزر النهرية – وبعضها عظيم الاتساع نسبياً – وتروي من فيضان النهر بواسطة السواقي النهرية التي تعتبر من الممتلكات الهامة ( [34] ) .(9/29)
وقد سيطرت قبيلتا الجوابرة والغربية علي المنطقة بين أسوان، ووادي، ونشروا سلطانهم علي كثير من القبائل الصغيرة ( [35] ) ، ثم حدث نزاع بينهما فاستنجدت قبيلة الغربية بالسلطان سليم الأول الذي أرسل سرية " من البوشناق ( [36] ) بقيادة حسن قوصي طردت الجوابرة إلي دنقلة، وأمتد بهذا النفوذ العثماني، وأسس البوشناق قلاعاً وأقاموا الحاميات وحملوا لقب " كشاف " وعرفوا بالغز، ومنحهم السلطان العثماني امتيازات ورثها أبناؤهم وأحفادهم ومنها: إعفائهم من شتي الالتزامات المالية التي فرضها السلطان سليم الأول علي أملاكه كلها، بل أجري عليهم معاشاً سنوياً. ورغم ذلك كان حسن قوصي يرسل ما يسمي بالميري سنوياً إلي والي مصر وان كان – في الواقع مستقلاً عنه.
وفي عهد الخليفة المعتصم العباسي أصبح يحكم مصر ولاه من الترك المنافسين للعرب، مما أقصي العرب عن مكانتهم المرموقة، وآثار في نفوسهم الامتعاض والتذمر، وأخذوا في الهجرة جنوباً إلي السودان، وزاد هذا التدفق في عهد المماليك في مصر، الذي شب صراع بينهم وبين العرب ونظروا إليهم كمتمردين وخارجين عن القانون مما دفع الكثير من القبائل العربية للهجرة إلي السودان واختلطوا بالسكان المحليين وانتشر دينهم ولغتهم ( [37] ) .
وكانت النتيجة الحتمية لكل هذا التدفق العربي الإسلامي إلي السودان والاستقرار فيه، ليس فقط تغير طبيعة الحياة الاجتماعية هناك، بل تخطاها إلي تغير الأوضاع السياسية أيضاً، فأمام تكاثر الهجرات العربية للنوبة " وحالة الفوضى التي أصبحت عليها المنطقة نتيجة غزوات سلاطين المماليك أيضاً، فقد استطاع هؤلاء العرب المسلمون بمساعدة من أسلم من النوبيين في القضاء سليماً علي الدولة المسيحية في دنقلة في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي وأصبح الحكم في شمال السودان إسلامياً ( [38] ) .(9/30)
وبسقوط دولة المغيرة في " دنقلة " وسيطرة القبائل العربية علي شمال السودان، انفتح الباب علي مصراعيه لتلك القبائل فتدفقت جنوباً، وأخذوا يكونون بيئاتهم القبلية ومجتمعاتهم ويتجمعون ويتوحدون، ودولة علوه تنتظر مصيرها المحتوم، وجاءت الخطوة الأخيرة في مستهل القرن السادس عشر الميلادي حين تحالف العرب المهاجرون من الشرق والشمال مع الفونج ( [39] ) القادمين من الجنوب أو الغرب وقضوا علي دولة " علوة نهائياً، انتهت بذلك ممالك السودان المسيحية، وأعلن رسمياً سيطرة الدين الإسلامي بقيام دولة الفونج الإسلامية والقبائل العربية المتحالفة معها في شمال وشرق ووسط السودان في عام 1504م ( [40] ) .
والحقيقة أن رواد الثقافة الإسلامية في السودان قبل قيام دولة الفونج كان معظمهم من التجار والبدو – وهم ممن تنقصهم المعرفة الدقيقة بالفقه الإسلامي ( [41] ) – والذين اهتموا بنشر الدعوة الإسلامية وكسب المسيحيين والوثنيين مركزين علي المبادئ العامة دون التفاصيل. ورغم مشاركة بعض العلماء لهاتين الفئتين إلا أن جهودهم ظلت محدودة، فيروي أن أول من أشتهر من هؤلاء العلماء هو الشيخ " غلام الدين بن عابد اليمني " ( [42] ) في دنقلة، وأيضاً أولاد عون السبعة ( [43] ) ، الذين ظهروا في نواحي " أبو حليمة " على النيل الأزرق وتولي أحدهم منصب القضاء.
وقد شهد القرن السادس عشر الميلادي الانتشار الكبير للطرق الدينية والذي يرجع في الأصل إلي ضعف الحركة العلمية، وضعف الفقهاء وجمود معاهد العلم والتعليم واقتصارها علي الطريقة التقليدية التي تقوم علي الحفظ والتكرار، فضلاً عن أن خمول الحكومة الإسلامية في القرون الأربعة الماضية أوجد لدى الناس فراغاً كان لابد من ملئه، وكان لابد أيضاً للناس أن يجتمعوا حول شئ ما.
ويرتبطون به ويوثقون هذا الارتباط وإلا ازداد أمرهم سوءاً مما أدى إلي زيادة الإقبال علي هذه الطرق.(9/31)
وفي رأي البعض أن السوداني فيما يبدو ميال إلي الاعتزاز بالانتساب إلي مجموعة معينة: إلي قبيلة أو حزب أو جمعية أو طريقة أو نقابة، أو لعل في نفسه إحساساً داخلياً يدفعه إلي الانتظام في سلك العبادة المنتظمة، وهو إحساس وليد أجيال أو قرون ( [44] ) .
مهما يكن من أمر فان نظام الطريقة كنظام القبيلة أو ككل نظام اجتماعي له تطوراته الخاصة، فالطريقة قد تتفرغ عنها طريقة أخري والاختلافات بصفة عامة ضئيلة بين الأصل والفرع ومما يستوقف النظر الزيادة الواضحة في عدد شيوخ الطرق الذين هم من أصل مغربي.
أما عن نشأة هذه الطرق فيرى البعض أن الإسلام في السودان في عهد سلطنة الفونج لم يتأثر بمصر بقدر تأثره بالحجاز وذلك بسبب قرب المسافة بين السودان والأراضي المقدسة. وكان من نتيجة ذلك أن كثيراً من السودانيين درس في مكة والمدينة.
ومن ناحية أخري قدم كثير من رجال الدين إلي سلطنة الفونج من مكة، وهذا الاتصال أدي إلي ظهور الطرق الدينية في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) ولم تكن هذه الطرق علي درجة من التنظيم كالتي نعرفها اليوم بل بدأت بأفراد من الصالحين قدموا إلي السودان، وأسسوا لأنفسهم (زوايا) أو خلوة ( [45] ) .
وقد ازدهرت هذه الطرق في ظل سلطنة الفونج إزهاراً كبيراً، ودليلنا علي ذلك هذه المجموعة الغنية من السير التي وردت في (طبقات محمد النور ود. ضيف الله) ، وهي تدل دلالة واضحة علي مدي قوة الأثر الذي خلفته تعاليمهم في البلاد ( [46] ) ، إذ وجدوا تربه خصبة بين السكان، ولم يلبث خلفاؤهم – وقد أصبحوا سودانيين - أن نالوا مكانة مرموقة لدي سلاطين الفونج في المسائل الدينية والسياسية علي السواء بل وبدأ الناس يلتمسون وساطتهم عن طريق صلتهم بالحكام، وازداد تعلقهم بهم ( [47] ) .(9/32)
ويتهم البعض أغلب السكان في السودان بالجهل والأمية إذ أن سلاطين الفونج كانوا يؤسسون لدين جديد بعد القضاء علي مملكة علوة المسيحية – رحبوا بكل من يتحدث إليهم باسم الدين، فأدي ذلك إلي أن السودان لم يجتذب إليه العلماء النابهين فحسب بل جاء معهم أيضاً من يدعون العلم والمعرفة.
وقد اشتهر في الإسلام عدد من مؤسسي الطرق الدينية مثل عبد القادر الجيلاني (1079 – 1186م) من العراق وأبو الحسن الشاذلي (1196 – 1258 م) من المغرب وقد توفي في طريق عيذاب بين النيل والبحر الأحمر وهو في طريقه إلي الحجاز.
وقد وصلت الشاذلية إلي السودان علي يد الشريف أحمد أبو دنانه قبل سقوط مملكة علوة، واستقر في بربر سنة 849 هـ 1445م وبقيت الخلافة في سلالته.
أما الطريقة القادرية الجبلانية فقد وصلت بعد ذلك بقرن من الزمان حوالي سنة 1550 وقيل أيضاً أن أول خليفة لها في السودان هو إدريس أبن أرباب (1507 – 1561) وهو من المحس كما نالت الشاذلية أيضاً نفوذاً كبيراً أيام الفونج علي يد خوجلي ابن عبد الرحمن (المتوفى في 1743) وهو أيضاً من المحس وكان قادريا ثم أنضم للشاذلية لما زار مكة.
وبدأت الطريقة المجذوبية (وقد تفرعت عن الشاذلية) تنتشر في شمال السودان في بداية القرن الثامن عشر علي يد حمد بن محمد المجذوب الجد الأكبر للمجاذيب (1693-1776) وأصبحت لأسرته مكانة فيه في الدامر ( [48] ) .
وقد أورد لنا محمد ضيف الله في طبقاته تراجم وسير لمائتين من شيوخ هذه الطرق وما تردد عن معجزاتهم.(9/33)
وفى الحقيقة يمكننا أن نقول أن آفة هذه الطرق هو ارتباطها في بعض الحالات بالخرافات وقد يرجع الكثير منها للأصول الوثنية التي كان عليها الناس قبل وصول الإسلام فبعض هؤلاء كان يدعي القدرة علي الرؤيا (vision) وهذه تلعب دوراً كبيراً في الحياة الدينية في السودان إلي الوقت الحاضر. وهي " رؤيا " بالتحليق في السماوات وأحياناً يدعون رؤيا النبي صلي الله عليه وسلم نفسه استناداً إلي الحديث الشريف الوارد في صحيح البخاري عن أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " من رآني في المنام، فقد رآني حقاً لأن الشيطان لا يتمثل بي " ( [49] ) وعلي ذلك فرؤيا النبي مصدقة لدي العامة من المسلمين. ولهذا الحديث أهميته، فإن المهدي محمد أحمد والخليفة عبد الله أيضاً من بعده سوف يلجأن للرؤيا لتبرير أعمالهما وقراراتهما.
بل وبعض هؤلاء كان يزعم بأن الشريعة التي تنطبق أحكامها علي عامة الناس لا تسري عليه، لأنه يرتبط بالله ارتباطاً وثيقاً ( [50] ) . ويطلق علي أمثال هؤلاء الملامتيه ( [51] ) .
وكان الملامتية في السودان كنظرائهم من ملاميتة البلاد الإسلامية الأخرى – حسبما جاء في طبقات ود ضيف الله ( [52] ) .
وأدعي لبعض أن لهم القدرة علي تحويل الماء إلي سمن وعسل وإلي اليوم يقولون في السودان عن الفقيه الماهر (هو فقي يروب ألما) وأشهر هؤلاء حسن ود حسونه المتوفى سنة 1664 وادعوا أنه كان لديه القدرة على ذلك ( [53] ) ، وإذا تناقل الناس ادعاءات قدرة الشيخ حسن ود حسونه، فليس من المستغرب بعد ذلك أن يؤمنوا بما كان يدعيه محمد أحمد والخليفة عبد الله من بعده برؤيا النبي صلي الله عليه وسلم. فالخليفة عبد الله أصدر منشور المعروف في بداية حكمة لتأييد حقه في الخلافة، وجاء فيه أنه ابتلع شعره من شعر المهدي عند مقبرته، وهي شعره لا تعدلها الدنيا بأكملها، فانكشف عنه الغطاء ( [54] ) .(9/34)
هذه هي المرحلة الأولي التي مرت بها الطرق في السودان، أما المرحلة الثانية فقد جاءت نتيجة لحوادث دارت خارج السودان.
إذ بدأ أن مرحلة الجمود التي كان يمر بها العالم الإسلامي قد قاربت النهاية وظهرت حياة جديدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ويرجع ذلك أصلاً إلي رد الفعل الذي أحدثه التوسع الاستعماري الأوربي في الدول الإسلامية مما أدي إلي ظهور طرق جديدة تلتزم بالاتجاه الجديد.
ففي عام 1800 دخلت السودان الطريقة السمانية علي أيدي أحد أفراد قبيلة الجموعية وهو أحد الطيب البشير ولم يلبث أن تبعه خلق كثيرون من بين أفراد الجموعية والكواهلة والحلاويين في الجزيرة ( [55] ) .
وكان شيخ هذه الطريقة وقت ظهور محمد أحمد هو الشريف محمد نور الدائم الذي كان شيخاً للمهدي ثم أنفصل عنه محمد أحمد واتخذ لنفسه طريقته الخاصة.
ولعل أحدا لم يحرز نفوذاً في السودان كما أحرزه السيد أحمد بن إدريس الفاسي (1760 – 1837) ، وهو أحد كبار المصلحين الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعمل أتباعه علي نشر طريقته بين المسلمين والوثنيين علي السواء، ورغم أنه أسس الطريقة الإدريسية التي لا تزال تمارس نشاطها في السودان ومركزها في دنقله، وهناك فروع لها في عسير تنتمي إلي هذه الطريقة، إلا أن تأثير أحمد بن إدريس الأكبر جاء عن طريق تلاميذه وهم:
1- محمد المجذوب الصغير 1796 – 1832.(9/35)
2- محمد عثمان الميرغني 1796 – 1832، مؤسس الطريقة الميرغنية أو الختمية في الشمال والشرق، وهي واسعة الانتشار، وهي قد سبقت الفتح المصري بقليل، ومثل هذه الطرق كانت تعطف علي الحكم المصري، لأنها بحكم تكوينها ووجودها ليست سودانية بالمعني الوطني الحرفي، بل هي إسلامية لها أتباع وأسانيد وموارد خارج حدود السودان الضيقة، فالميرغني ولد في الحجاز عام 1793م، وحين زار السودان لأمور تتعلق بالطريقة في عام 1817 تزوج امرأة من دنقلة، وكان أبنه الحسن نائبه في السودان وخلفه عام 1853 م عقب وفاته، وقد ذهب محمد عثمان إلي أن طريقته قد أتت علي كل الطرق الأخرى وأتمتها ولذلك أعلن عليها (خاتم الطرق) ومنهما الختمية وهي أكبر منافس للمجذوبية.
3- محمد بن علي السنوسي المتوفى في عام 1856 م، ولعله أشهر تلاميذ أحمد ابن إدريس، وأصله من الجزائر وانتقل إلي الجزيرة العربية واتصل بأحمد بن إدريس، ثم عاد إلي أفريقيا لينشر طريقته في ليبيا ( [56] ) .
وقد كانت هناك طريقة ثانية سودانية صرفة وهي الإسماعيلية التي أسسها إسماعيل بن عبد الله 1793 – 1863 في الأبيض بإذن من الشيخ محمد عثمان الميرغني، وكان خليفته محمد المكي من أكبر أنصار الخليفة عبد الله وقد انتشرت طريقته في بعض جهات كردفان ( [57] ) .
وقد كان للطرق تأثير كبير علي الناس لدرجة لم يكن من السهل عليهم قبول فكرة المهدى والمهدويه، ولكن ما أن عزز محمد أحمد دعوته بانتصاراته العسكرية المذهلة، حتى نقل الناس ولاءهم له.(9/36)
وكان أول عمل للمهدية هو إلغاء الطرق كلها بعد أن أنكر شيوخها دعوته فضلاً عن أن هذه الطرق كانت تقاسم محمد أحمد الولاء والسلطة ( [58] ) ومحمد أحمد كان في الأصل تابعاً للطريقة السمانية، وكان يقول أن أتباع المهدي هم أتباع الني صلي الله عليه وسلم وخلاصة القول، أن تنظيم الحياة الدينية في السودان ظاهرة واضحة لا تزال تحتفظ بأهميتها حتى الوقت الحاضر، وكما رأينا فإن كثيراً من الطرق يرجع لأزمنة حديثة نسبياً وبعضها سبق الفتح المصري بقليل إن لم يكن دخل البلاد مع الفتح وعاصر الحكم المصري. ولا ينفرد السودان وحده بهذه الظاهرة التي تميز بها التاريخ الإسلامي في العصور الحديثة، حيث عمت الطرق الدينية وتعلق بها العامة بل وامتدت إلي بعض الخاصة أيضاً.
وإلى جانب هذه النزعة، هناك وجه آخر للحياة الدينية وهي ناحية الفقهاء ( [59] ) .
الفونج وصلاتهم بالجزيرة العربية:-
كان طبيعياً أن يصاحب قيام دولة إسلامية فى السودان ( [60] ) محاولات من القائمين على الحكم فيها لتوثيق علاقاتهم بالدول الإسلامية وخاصة فى النواحي الثقافية والدينية، لتبدأ حركة علمية تقوم بشرح تفاصيل الدعوة الإسلامية ومبادئها للناس لنهيهم عما يتعارض من عاداتهم ومعتقداتهم مع الإسلام والعقيدة الصحيحة.
وتتفق المراجع التاريخية ( [61] ) على أن الحركة العلمية والثقافية التي صاحبت قيام دولة الفونج كان مصدرها مصر والحجاز، وسوف نقصر حديثنا عن الحجاز فقط كمصدر لهذه الثقافة الدينية وذلك حسب مقتضى البحث.(9/37)
فقد كان طبيعياً أن يرنو السلاطين دولة الفونج بأبصارهم إلى الحجاز وتوثيق علاقتهم به فبالإضافة إلى شرف الانتماء إلى آل البيت، فإن الحج إلى البيت الحرام كان أملاً يراود الملوك والعلماء والتجار والعامة وأيضاً التجارة وسهولة الاتصال مباشرة بالحجاز من سواكن عبر البحر الأحمر ( [62] ) ، كل هذا بلا شك أسهم في التشجيع على قيام علاقات ثقافية بين السودان والحجاز، وأثر مباشرة في انتقال الثقافة الحجازية إلى السودان بفضل بعض السودانيين الذين خرجوا من بلادهم إلى الحجاز يطلبون العلم، وأيضاً بعض المشايخ الذين وفدوا إلى السودان من الحجاز لنشر أفكارهم ومبادئهم.
ومن العلماء الذين تذكروهم الراويات والذين حضروا من الحجاز إلى السودان السيد " أحمد البيلي " الذي ولد فى مكة ودرس بالحرم المكي، ثم هاجر للسودان عن طريق جدة، وعبر البحر الأحمر عن طريق سواكن إلى أن نزل بمدينة " شندي " حوالي 932هـ /1526م ثم سار إلى " مروى " حتى أستقر فى " تنقاس " ( [63] ) ، وتزوج هناك ويقال أنه نال تكريماً من الملوك ( [64] ) .
ومن العلماء أيضاً الذين وفدوا إلى السودان من المدينة المنورة الشيخ عيسى بن بشارة الأنصاري، والذي أسس مدرسة للتعليم بقرية " كترانج " التي تقع على الضفة اليمني للنيل الأزرق على بعد 36 ميلاً جنوب الخرطوم، وقد أقبل الناس على الشيخ عيسى وأبناءه وأحفاده يتلقون عليهم العلم، وكان الشيخ عيسى بارعاً فى المذهبين المالكي والشافعي ونابغة فى العلوم المعقولة والمنقولة ( [65] ) .
ويذخر طبقات " ود ضيف الله " ( [66] ) بالعديد من العلماء السودانيين الذين ذهبوا إلى الحجاز سواء للحج أو للمجاورة والدراسة والتعليم، وكذلك من حضر من العلماء والشيوخ إلى السودان لنشر الدعوة الإسلامية والثقافة الدينية.(9/38)
ولعل أشهر العلماء الذين قدموا من الحجاز إلى السودان على الإطلاق هو الشيخ " تاج الدين البهاري " ( [67] ) الذي جاء إلى السودان تلبيةً لدعوة أحد التجار السودانيين المشهورين بتجارة الرقيق والثراء ( [68] ) .
ويقال أن الشيخ " تاج الدين " أستقر فى أرض الجزيرة بالسودان حوالي سبع سنوات، تمكن فيها من إدخال الطريقة القادرية الجيلانية وسلك العديد من المريدين، وقد قام هؤلاء بتسليك غيرهم بعد عودة شيخهم مرة ثانية إلى الحجاز ( [69] ) .
ومن أشهر من تتلمذ على يده من القائمين على الحكم فى السودان وقتذاك الشيخ عجيب الكبير ( [70] ) والذي كان له الفضل الكبير فى وضع أسس للحياة الإسلامية الثقافية فى السودان وجعلها تأخذ طابعها العلمي المنظم ( [71] ) .
ويرى د. حسن إبراهيم حسن أن أثر العلماء والشيوخ الذين حضروا من الحجاز إلى السودان فى عهد الفونج " فى أنهم لم يكتفوا بإنشاء الزوايا فى بلاد الفونج فقط بل عملوا على نشر الإسلام فى مناطق أخرى من السودان حيث مضى بعضهم صوب الغرب حتى بلغوا دار فور.
ولا شك أنه كان لموقع دار فور الفريد أثر كبير فى تنوع السلالات التي يضمها هذا الإقليم من ناحية، وتعرضه لمؤثرات ثقافية من ناحية أخرى.
وقد أمكن تقسيم هذه السلالات إلى خمس مجموعات:
المجموعة الأولي ومصدرها إقليم تبتي وما يليه من ناحية الغرب إلى أواسط الصحراء الكبرى وهي تضم القرعان والبدايات والزغاوة وهي تمتد بهذا الترتيب من الشمال إلى الجنوب حتى المنحدرات الشمالية لجبال مرة.
المجموعة الثانية ومصدرها إقليم النوبة وهي الميدوب ومركزهم جبل ميدوب على مسيرة ستة أيام شمال شرقي الفاشر والتنجر وتقع ديارهم إلى الشرق من جبل مرة وقيل أنهم كانوا يحكمون البلاد ثم أغتصبها منهم الغور.(9/39)
المجموعة الثالثة وهي التي تأثرت بالهجرات والثقافة النوبية ولكنها لم تتأثر كثيراً بالدماء النوبية وهي تتألف من البرتي Berti ومركزهم جبل (تقابو) على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشمال من الفاشر والداجو ومركزهم جبل داجو 0
المجموعة الرابعة وهي المجموعة الغربية ومصدرها الأقاليم الجنوبية من ليبيا أو ما كان يعرف باسم السودان الفرنسي الممتد حتى حوض نهر النيجر.
وتشتمل على عناصر من الفلاتا والميمة والبرتو والتكارنة المراريت وينتشرون بين كبكابية وكلكل.
المجموعة الخامسة وهي أقدم هذه المجموعات وتضم خمسة قبائل هي القمر ومركزهم يقع على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشمال من كلكل ويليهم تماماً من جهة الغرب والجنوب الغربي الارتجا وهم فى نظر البعض جماعة واحدة ثم المساليط ويقعون بين الغور شرقاً ووادي غرباً ودار تاما شمالاً ودار سولا جنوباً.
وأخيراً الغور ووطنهم الرئيسي الجبال ومركزهم جبل مرة والأرجح أنهم أقدم هذه العناصر جميعأً ولعل هذا ما يبرر تسمية الإقليم باسمهم ( [72] ) .
ومن أوائل السودانيين الذين سافروا الحجاز فيما يعرف هو العجمي الذي جاور بمكة، وسكن فى رباط العباسي، وانقطع للذكر والعبادة ومات دون أن يتزوج ( [73] ) .
وأيضاً الشيخ عبد الله دفع الله العركي الذي حج أربعاً وعشرين حجة اثنتي عشرة ذهاباً وإياباً واثنتي عشرة جواراً وأشتهر هناك بالعلم ودرس في مكة وعاد إلى بلاده مرشداً للناس ( [74] ) .
وهناك فئة كانت تسافر للحجاز طلباً للعلم ( [75] ) والانتساب لطريق من الطرق الصوفية فالشيخ حمد المجذوب (1693-1776) ذهب إلى هناك، وأخذ الطريقة الشاذلية عن الفقيه " على الداروى " المغربي، وصار من مريديها في الحجاز، ثم نشرها بعد عودته بين مريديه من الجعليين وبعض البجة ( [76] ) .(9/40)
و" محمد بن عدلان الحوشابي الشايقي " قرأ علم الكلام والمنطق والأصول على الفقيه " عبد الله المغربي " عالم المدينة المنورة، ثم قدم إلى " تنقاس" من دار الشايقيه، فقرأ بها القرآن، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان عالماً مجدداً ( [77] ) .
ونلاحظ أيضاً أن بعض علماء السودان قد أشاد بهم علماء الحرمين والحجاز فمثلاً الشيخ " جنيد ولد طه " أعطاه الله قبولاً تاماً عند الملوك والسلاطين " ولا سيما أهل الحرمين والحجاز وحده ( [78] ) وعبد اللطيف بن الخطيب عمار برع فى مجال التدريس هناك، وقد مدحه أحد علماء الحجاز، وقال عنه " عالم الديار السنارية وعلامة الأقطار الإسلامية ( [79] ) .
ولم يكتف السودانيين بالدراسة والتعليم فقط فى الحجاز ( [80] ) بل جلب الكثيرون منهم معهم من هناك العديد من الكتب العربية الدينية والثقافية فيقال أن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ صالح بان النقى ملأ من الكتب التي طلبها من الحجاز ومصر ست خزانات ( [81] ) .
ويقال أيضاً أن " عمار بن عبد الحفيظ أحضر معه نحو رحلين أو ثلاثة من الكتب ( [82] ) .
إذن ثمة عوامل أدت إلى توطيد وتوثيق أواصر الصلة بين الحجاز والسودان اعتبارا من عهد الفونج تميزت برحيل علماء من السودان للحج والمجاورة والعلم والتجارة ثم العودة لنشر الثقافة الإسلامية بين السودانيين فقد كانوا فور عودتهم يبادرون بتأسيس الخاوي والمساجد ويعلمون فيها الناس القرآن والدين بالإضافة إلى بعض الشيوخ الذين حضروا من الحجاز إلى السودان لنشر مبادئ الشريعة الإسلامية.
عندما أعلن الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته السلفية فى نجد لم يكن يقصد أن تكون حدود دعوته شبه الجزيرة العربية فقط، بل كانت دعوته عمومية للعالم الإسلامي كله ليعود إلى منهج السلف فى الدعوة والحكم، وكانت دعوة صريحة لرفض قيام نظام حكم مخالف للحكم الإسلامي فى ديار المسلمين.(9/41)
لذلك عقب نجاح الدعوة فى قلب نجد، وتمكينها فى شبه الجزيرة العربية،بسيطرتها على الحجاز نهائياً سنة 1221هـ/ 1805م، انطلقت الدعوة من الحرمين لأهميتها الدينية عند المسلمين إلى بلاد الإسلام فى محاولة منها لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن حقيقة الدعوة، وبالتالي نشرها فى أرجاء العالم الإسلامي.
وكان نصيب الجناح الأفريقي الإسلامي من نشر تلك الدعوة عظيم، حيث يتفق الباحثون والمؤرخون ( [83] ) على أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية لقيت استجابة سريعة في القارة الأفريقية، وخاصة شمال وشرق وغرب القارة ونطاق الصحراء الكبرى الأفريقية الإسلامية.
فإذا كانت هذه الاستجابة والانتشار لدعوة الشيخ فى أفريقيا، فماذا كان نصيب السودان؟ وهو الأكثر قرباً واتصالا بشبه الجزيرة العربية عامة والحجاز خاصة، ومن حمل إليه أفكار ومبادئ الدعوة، وكيف نفذت إليه؟
للإجابة على تلك التساؤلات سأقوم بعرض إحدى المنافذ التي انتقلت من خلالها الدعوة إلى داخل السودان وأقصد بها المنفذ الشرقي المتمثل فى " الحجاز وعسير " بحكم الجوار والاتصال، مستعرضاً دور الدعاة فى بث تلك الأفكار والمبادئ التي تدعو بالعودة إلى العقيدة الصحيحة، ونبذ البدع، ومظاهر الشرك.
المنفذ الشرقي " الحجاز وعسير"
لم يكن المسلمون فى السودان حكام ورعية قد سمعوا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية فور إعلانها رسمياً فى نجد، وأثناء توحيدها فى قلب شبه الجزيرة العربية على يد أنصار الدعوة ودور آل سعود، فمن الطبيعي أن يكونوا قد سمعوا بها وتساءلوا عن حقيقتها بعد الحرب الدعائية ( [84] ) الضخمة التي قام بها الأشراف فى الحجاز.(9/42)
وترقبوا بين مادح وقادح للدعوة نهاية الصراع الحربي بين الأشراف فى الحجاز وأنصار الدعوة فى نجد والذي أستمر من سنة 1205هـ إلى سنة 1213هـ لمنع سيطرة الدعوة على الحرمين وانتشارها هناك، وكان طبيعياً أن يزداد التأييد والقبول أو الرفض والمعارضة من بعض السودانيين لأفكار ومبادئ الدعوة بعد سيطرتها نهائياً على الحجاز ( [85] ) .
وبسيطرة الدعوة نهائياً سياسياً ودينياً على الحجاز والمناطق المواجهة ( [86] ) لشرق السودان على البحر الأحمر منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كان من السهولة انتقال الأفكار والمبادئ السلفية عبر البحر الأحمر إلى منطقة شرق السودان وخاصة أنه لم يكن هناك شئ يمنع ذلك فى تلك المناطق البعيدة عن الحكومات المركزية.
كان الحجاز ومنطقة عسير أكثر مناطق شبه الجزيرة العربية اتصالاً بالسودان بحكم سهولة الاتصال وقرب المسافة، والإقليم الإداري الواحد ( [87] ) لذلك وجد أنصار الدعوة المتحمسين الفرصة أمامهم بعد سيطرتهم على الحجاز المنفذ الطبيعي لبث ونشر الدعوة إلى أقطار العالم الإسلامي وجدوا الفرصة لنشر مبادئهم ودعوتهم إلى السودان.
وقد تحولت المهدية من دعوة تدعو إلى تطهير المجتمع من مفاسده وتنادى بإصلاح الملة والعمل بالقرآن الكريم والسنة إلى دولة إسلامية قوية تقوم سلطاتها على أسس ثلاثة:
أولاً: القيادة العليا، وكانت تتمركز فى شخص محمد أحمد ذاته والخلفاء الثلاثة عبد الله بن محمد وعلى بن محمد حلو ومحمد شريف، بالإضافة إلى كبار قواد المهدية أمثال عبد الرحمن النجومي وعثمان دقنة ومحمد الخير
عبد الله خوجلي وحمدان أبو عنجة وغيرهم هذا فضلاً عن الأشراف أقارب المهدي.
ثانياً: النظام المالي الذي استحدثته المهدية وأمكنها بواسطته تصريف الشئون المالية والاقتصادية للدولة.
ثالثاً: النظام القضائي الذي كان مسئولاً عن الفصل فى المنازعات وإصدار الأحكام ( [88] ) .
القيادة العليا:(9/43)
كانت أول وظيفة فى المهدية هي وظيفة نائب المهدي،ولقد ظهرت هذه الوظيفة فى جزيرة (آبا) وكان الذي يتولاها يقوم بالأعمال المدنية والعسكرية معاً، وقد ظهرت بعد حلول المهدي بقدير وظيفة الخليفة التي حلت محل نائب المهدي ( [89] ) ولو أن البعض يرى أن هذه الوظيفة ظهرت قبل أن يخرج المهدي من جزيرة آبا ( [90] ) .
وكان لفظ الخليفة يطلق على كل أعوان المهدي الذين يقومون بالإدارة العسكرية والمدنية بصرف النظر عن مكانتهم والأدوار التي يقومون بها، ثم جاء تحول كبير، إذ أجرى المهدي أول تعديل فى أنظمة الدولة، ومقتضى هذا التعديل أقتصر استعمال لفظ الخليفة على قادة الرايات مثل عبد الله وعلى حلو وشريف، وأبطل استعماله على غيرهم، واستخدم بعد ذلك لفظ " الأمير " بدل الخليفة للدلالة على باقي القواد، وكان المقصود من لفظ " الخليفة " فى التنظيمات الجديدة هو قيادة الراية وكان المهدي هو رأس هذا التنظيم والقائد الأعلى للجيش، ويليه فى المكانة والقوة شقيقه محمد عبد الله الذي تولى القيادة العامة وكان الخلفاء " قادة الرايات " مسئولين أمامه ( [91] ) .
ومن أشهر هذه الرايات: الراية الزرقاء ( [92] ) وكان يقودها الخليفة عبد الله والراية الخضراء ويقودها الخليفة على محمد حلو والراية الحمراء ويقودها الخليفة محمد شريف وكانت الراية الزرقاء تتألف من البقارة أهل الغرب،وقد تزايد عددها باستمرار وخاصة بعد الهجرة من آبا إلى قدير حتى بانت أكثر الرايات عدداً.
أما الراية الخضراء فكانت تتألف من قبيلتي دغيم وكنانة، وهم من البقارة النازلين بالجزيرة.
وأخيراً كانت هناك الراية الحمراء وتتألف من الأشراف والأنصار الذين ينتمون إلى القبائل التي تعيش على النيل أو بالقرب منه.(9/44)
وكانت هناك أيضاً راية بيضاء هي راية المهدي نفسه وكان يقودها شقيقه محمد عبد الله وكانت بمثابة راية القيادة، ورغم أن القوات التي كانت تنضوي تحت لواء هذه الراية قد أدمجت فيما بعد فى قوات الخليفة شريف، إلا أن الراية ذاتها بقيت إلى أواخر عهد المهدية.
ويقال أنه كانت هناك راية صفراء كان المنة إسماعيل يرفعها إلى أن سقطت الأبيض، ثم عرضت على السيد محمد المهدي السنوسى، ثم طمسها النسيان بعد خلاف المنة مع المهدي، وبعد ذلك أضيفت قوات هذه الراية إلى الراية الزرقاء والتي يقودها محمد عبد الله.
وينبغي أن نشير هنا إلى تطور كبير حدث فى التنظيم الحكومي فى عهد المهدي عقب سقوط الأبيض الذي قتل فيه محمد عبد الله شقيق المهدي، كما قتل أيضاً كبار مستشاريه، وبذلك خلا الجو لعبد الله، ولم يعد الناس يذكرونهم إلا قليلاً، مع أن مركزهم فى الواقع كان أعلى من مركز الخليفة عبد الله وبقية الخلفاء حتى هذه الواقعة ( [93] ) .
ومما يلفت النظر أن مكانة الخلفاء الثلاثة قد ارتقت من حيث المراتب، وهذا التطور حدث بعد سقوط الأبيض، أما قبل ذلك، فرغم أن المهدي عنى بإيجاد نظام المراتب فى المهدية فإنه لم يخطط لها نظاماً تفصيلياً، واكتفى بوضع الحد الأدنى لهذه المراتب، فقال أن أدنى اتباعه له مرتبة.
وكان يلي الأمراء فى المرتبة العسكرية ضباط يحملون لقب " مقدم " ( [94] ) وقد استبدله المهدي فيما بعد بلقب " نقيب ".
ويقول (هولت) أنه يبدو أن لفظ " نقيب " لم يلق قبولاً، وأستدل على ذلك بأن المنشورات كانت ترسل فى عهد الخليفة باسم " العملاء والمقاديم ( [95] ) هذا بالرغم من أنه توجد منشورات كثيرة صادرة عن الخليفة وموجهة إلى العملاء والنقباء.(9/45)
وقد أشار (شقير) إلى أن المهدي أقام مجلساً للشورى يتألف من سبعة أمناء برئاسة أحد الأشراف للفصل فى المسائل الإدارية عقب سقوط الخرطوم، كانت قراراتهم تحمل ختم المهدي بعد موافقة الخليفة عليها ( [96] ) .
وليس هناك سوى أربع وثائق تحمل قرارات هذا المجلس فى تظلمات تقدم بها بعض سكان الخرطوم مما نزل بهم، ويرى (هولت) أن الشهور الستة ما بين سقوط الخرطوم ووفاة المهدي، كانت بلا شك كافية للبت فى هذه المطالب والتظلمات ( [97] ) .
النظام المالي:
يعد النظام المالي هو الأساس الثاني الذي قامت عليه الدعوة المهدية، وقد نشأت الحاجة إلى وضع نظام مالي بسبب الغنائم الوفيرة من أسلحة وذخائر ودواب وأموال وسلع ورقيق التي وقعت فى أيدي المهدية، وقد حاول المهدي أن يبين حكم الشرع أن الغنيمة هي ملك للجماعة الإسلامية توزع عليها حسب حاجتها وليست ملكاً للأفراد.
وبعد سقوط الأبيض بدأ من الواضح ضرورة وضع أساس لجهاز يدير الشئون المالية للدولة، وهو الذي أطلق عليه " بيت المال " وهو نفس الاسم الذي كان يطلق على الإدارة المالية فى العهود الإسلامية، ويبدو أن أحمد سليمان وهو من قبيلة المحس ومن أقرب المقربين للمهدي كان يتولى شئون بيت المال هذا، قبل أن يعلن المهدي توليته لهذا المنصب رسمياً فى جمادى الثانية 1300هـ (إبريل مايو 1883) ( [98] ) وبعد انتصار شيكان، وضع المهدي أساساً لتوزيع الغنائم طبقاً للشريعة الإسلامية، فكان يناله شخصياً بوصفه قائداً للجماعة خمس الغنائم، ويوزع الباقي على هذه الجماعة أي يذهب إلى بيت المال (98) .
ويبدو أن المحاربين كان يخفون الغنائم ولا يقدمون عنها بياناً ( [99] ) ورغم تحذير المهدي من إخفاء الغنيمة، فقد استمروا يخفونها بعد وفاته وتوليه الخليفة بدليل المنشورات الكثيرة التي أصدرها الخليفة يحذرهم من ذلك.(9/46)
ثم فرضت ضريبة العشر وهي الزكاة على الماشية والغلال، وقد طلب المهدي من الأصحاب والخلفاء بصفة خاصة أن يعاونوا عبد الله فى جمع الغنائم والزكاة من أجل بيت المال ( [100] ) وقد أطلق على هذه العملية "خدمة حقوق الله ".
النظام القضائي:
أخذت المهدية باعتبارها قائمة على دعوة دينية سلفية وعلى اعتبار أيضاً أن المهدي يقتدي أثر رسول الله صلي الله عليه وسلم ببعض النظم والوظائف القضائية التي عرفت في الدولة الإسلامية الأولي، وكان على رأس تلك الوظائف وظيفة " قاضى الإسلام " فبالرغم من أن المهدي كان القاضي الأعلى في دولته مثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، إلا أنه أسند منصب " قاضي القضاة " أو قاضى الإسلام إلى الشيخ أحمد ودجباره ( [101] ) ، وجعل دونه قضاة ونوابا كثيرين ( [102] ) .
فانتشرت بذلك المحاكم الشرعية فى أقاليم المهدية المختلفة، وكان القاضي يأتي بالدرجة الأولي من حيث المرتبة بعد أمير الإقليم مباشرة ويتبعه إداريا، لأن المهدي كان يرى أنه ليس هناك حداً فاصلاً بين الدين والدولة متأسياً بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى حكومتها الإسلامية، حيث يقول أحمد جمعة ( [103] ) ولم يكن حكام الأقاليم يشرفون على كل الأمور بمفردهم بل كان إلى جانبهم بعض الموظفين مثل قضاة الشرع الذين كانوا يقومون بإصدار الفتاوى فى الأحكام الشرعية، ويفصلون فى الخصومات التي تقع بين الناس ويشرفون على تنفيذ أحكام الدين فى الأقاليم.
وكان أيضاً قضاة المهدية ( [104] ) فى الأقاليم مستقلين فى أحكامهم، ويحكمون فى المسائل الشرعية الأهلية وينظرون أيضاً الدعاوى البسيطة التي لا تستلزم وقتاً طويلاً وكانت الدعاوى الكبيرة أو الشائكة ترفع إلى قاضى الإسلام فى أم درمان.(9/47)
ورغم أن فترة حكم الخليفة عبد الله شهدت تداخلاً واضحاً فى شئون القضاء، إلا أن مصادر أحكام المهدية ( [105] ) كانت قائمة على الشرع وتستند إلى الكتاب والسنة، واجتهادات المهدي، فنفذت الحدود الشرعية، فرجمت الزاني والزانية، وجلدت شارب الخمر، وقطعت يد السارق ( [106] ) .
وفى النهاية يمكن القول أن أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية فى دعوة المهدي الإسلامية والتي لاحظنا أن المهدي التزم فيها تماما بالعودة إلى " مجتمع " السلف ونظمه وتشريعاته ظهر واضحاً، وظهر المهدي بما أقدم عليه من نظام إسلامي للحكم متأسياً بما نفذته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى قلب شبه الجزيرة العربية.
الخاتمة:
أهم النتائج التي توصل إليها الباحث:
أن الصلات والعلاقات بين شبه الجزيرة العرب وسودان وادي النيل عميقة الجذور موغلة فى القدم فبعيداً عن النظريات التي تقول بغياب الحاجز المائي (البحر الأحمر) وبوحدة أصل سكان المنطقتين منذ فجر التاريخ واعتبارهم منطقة واحدة، فقد تأثرت أجزاء كبيرة من سودان وادي النيل عبر عصور التاريخ وقبل إعلان الإسلام بما يحدث بشبه جزيرة العرب بحكم الجوار وسهولة الاتصال، وبفضل الانتقال والاستقرار السلمي للعرب الذين انتقلوا بعقائدهم ثقافتهم إليها، وأصبحت تلك المناطق شبه عربية قبل ظهور الإسلام فى جزيرة العرب.
ثم ازدادت وتطورت الصلات والعلاقات بينهما بفضل قوة الدعوة الإسلامية التي نهضت فى جزيرة العرب منذ القرن السابع الميلادي ونفذت إلى سودان وادي النيل عبر عدة قرون من خلال انتقال كثير من القبائل العربية وبطونها واستيطانها مناطق واسعة من السودان، بالإضافة إلى محاولات القوى الإسلامية المستمرة لمد نفوذها وسيطرتها على تلك المناطق، وتمثل ذلك فى نشر العقيدة الإسلامية وما صاحبها ونتج عنها من أفكار سلفية وجعل تلك المناطق متأثرة دائماً بما يحدث فى شبه جزيرة العرب.(9/48)
وبقيام سلطنات إسلامية فى سودان وادي النيل منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي كان طبيعياً أن يصحبها محاولات من حكام تلك السلطنات وعلى رأسهم سلاطين دولة " الفونج " لتوطيد وتوثيق علاقاتهم مع دول العالم الإسلامي وخاصة " الحجاز " باعتباره مهبط الوحي ومنبع الدعوة والحرمين، وخاصة فى النواحي الدينية والثقافية لتبدأ حركة علمية تقوم بشرح تفاصيل الدعوة الإسلامية ومبادئها للناس لنهيهم عما يتعارض من عاداتهم ومعتقداتهم مع الإسلام والعقيدة الصحيحة، وتميز توطيد وتوثيق الصلات الثقافية بين المنطقتين برحيل علماء السودان للحج والمجاورة والعلم والتجارة ثم العودة لنشر الثقافة الإسلامية بين السودانيين من خلال تأسيس الخلاوي والمساجد والمدارس الدينية، بالإضافة إلى بعض الشيوخ الذين حضروا من الحجاز إلى السودان لنشر مبادئ الشريعة الإسلامية،وكان لهذا أثره المباشر فى انتقال الثقافة الإسلامية التي تميز بها الحجاز فى هذا العصر، وانتشار الإسلام في المجتمع السوداني.
وقد كان معظم العلماء الذين أرسو قواعد الشريعة الإسلامية فى السودان (طوال حكم الفونج) من العلماء الذين لهم نزعة إسلامية وغلبت عليهم جميعاً الروح السنية، مما جعلهم قريبين من الإسلام الصحيح بانتهاجهم الشريعة الإسلامية القائمة على الالتزام بالكتاب والسنة وأقوال وأفعال السلف الصالح.(9/49)
وفى تلك الأثناء التي سيطرت فيها الثقافة الإسلامية على الحجاز والسودان على حداً سواء وتميزت بالارتباط الثقافي الوثيق بينهما، وتأثر السودان الثقافي بما يحدث بشبه جزيرة العرب وخاصة الحجاز، قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية فى نجد بقلب شبه جزيرة العرب وتوطدت دعائمها طوال النصف الثاني من القرن 18م، فى الحجاز والمناطق المواجهة لشرق السودان على البحر الأحمر منذ أوائل القرن 19م، وباعتبار أن السودان كيان إسلامي قريب الصلة والتأثر بما يحدث فى الحجاز وشبه جزيرة العرب عموماً فكان طبيعياً أن تظهر فيه أصداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، فلم يكن هناك ما يمنع انتشار أفكار ومبادئ الدعوة إلى تلك المناطق البعيدة وقتذاك عن الحكومات المركزية والمرتبطة ثقافياً بما يحدث فى الحجاز، وقد كان طبيعياً أن يستغل أنصار دعوة الشيخ مواسم الحج وتوافد الحجيج على الحرمين ومنهم بلا شك حجاج السودان الذين كانوا ينقلون بسهولة مباشرة من موانئ السودان الشرقي إلى الحجاز ليوضحوا حقيقة دعوتهم والدعوة لأفكارهم ومبادئهم بين فئات الحجيج.
ومن هنا بدأت الدعوة السلفية في الانتشار إلى السودان،واستطاعت أن تنفذ فيه أيضاً بفضل بعض رجال مصلحين، وتحول الإسلام بفضلهم إلى دعوات إيجابية تميزت بتأثرها بما يجرى على الساحة الإسلامية من دعوات للإصلاح، وقد كان لهؤلاء الفضل الأكبر فى تقبل كثير من السودان لأفكار ومبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية (التي يتفق الباحثون على أنها لقيت استجابة سريعة فى القارة الأفريقية وقتذاك) تحت ستار إصلاحي ملتزم بالكتاب والسنة.(9/50)
وإذا كانت دعوة الشيخ السلفية قد نفذت مباشرة إلى السودان عن طريق استغلال مواسم الحج والدعاة وبفضل دور بعض رجال إصلاحيين، إلا أننا لا يمكن أن نغفل طريق أخر غير مباشر نفذت منه أيضاً تلك الأفكار والمبادئ وهو الفتح المصري للسودان الذي ساهم بما قدمه من تسهيلات ودعم لزيادة أعداد السودانيين الدراسيين فى الأزهر وفتح أمامهم باب الاتصالات والتأثر بما يحدث فى عالم الإسلام من دعوات إصلاحية، بجانب الدعم والتشجيع لبعض رجال الطرق الإصلاحية لنشر أفكارهم ومبادئهم فى السودان بالإضافة إلى تشجيع القائمين على العملية التعليمية هناك وعدم التدخل فيها، والإصلاحات التي أدخلت فى مجال المواصلات.
كل هذا ساهم بلا شك وسّهل للعلماء والدعاة التنقل بين أرجاء السودان الفسيح ويسر نقل لأفكار والمبادئ والدعوات الإصلاحية سواء من مصر أو من الحجاز، وانتشارها فى سودان وادي النيل.
وكان نتاج ذلك كله أن استطاعت دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب النفاذ إلى السودان برغم سيطرة الأفكار الأخرى على الحياة الفكرية حينذاك، ولكن مع دعوة محمد أحمد تهيأت فرص أكبر لدخول وانتشار الأفكار والمبادئ السلفية إلى سودان وادي النيل كنتيجة طبيعية لاستمرار واستقرار وإعادة نشاط وبث دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية من جديد بفضل أنصارها ومؤيدها فى شبه جزيرة العرب وعلى رأسهم آل سعود بانتهاجهم الحكم الإسلامي القائم على مبادئ الشريعة الإسلامية وتعاليم الدعوة.
أما النتائج التي ترتبت على تأثر الدعوة المهدية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيمكن تلخيصها فيما يلي:-(9/51)
أولاً: اتفق أصحاب الدعوتين في الأساس الفكري السلفي الذي قامت عليه دعوتيهما فالسلفية عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت تراثها في فكر أحمد بن حنبل وأبن تيمية الوقوف عن ظواهر النصوص الدينية، جعل المعاني المستفادة من هذه الظواهر المرجع في كل أمور الدين وأمور الدنيا فهي قد وقفت عند مفهوم الإسلام كدين، كما كان الحال هذا المفهوم في عصر البساطة قبل التطورات العلمية والإضافات العقلية التي استدعتها صراعات الأمة الفكرية مع الملل والنحل غير الإسلامية بعد الفتوحات.. ومن ثم فإن الدعوة بهذا المعنى وتعتبر كل ذلك " بدعاً " طرأت على الإسلام، كما فهمه السلف الصالح ".
أما فكر المهدي أيضاً فقد اتسم بالسلفية بمعنى العودة إلى النصوص الأصلية، كتاباً وسنة وأسقط خرافات العصور الوسطى وإضافاتها التي حجبت الجوهر البسيط والمتقدم للدين، ثم أنه قد أعلى من قدر " المصلحة " وفتح الباب واسعاً للاجتهاد والمحكوم بالمصالح المتجددة على هدى من الكتاب والسنة فهو يعلن أنه " يتبع آثار من سلف فى التوحيد، وهي التي تنكر الوسائط والتوسل بالأولياء الصالحين أحياء كانوا أم من الأموات 000".
أي أن الدعوتين اتفقتا تماماً فى الأساس الفكري السلفي والدعوة إلى تصحيح العقيدة الإسلامية وتطهيرها مما علق بها من مظاهر الشرك والبدع والخرافات، والعودة بالإسلام إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين، ثم إقامة مجتمعإسلامي متكامل فى ظل دولة إسلامية تؤمن بالإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ومنهج حياة، وتطبق أحكامه فى جميع شئونها.(9/52)
ثانياً: تشابه الدعوتان فى النشأة، فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نشأت ونمت وانطلقت من منطقة نائية فى قلب شبه الجزيرة العربية، وكذلك دعوة المهدية اختارت مكاناً نائياً منذ كانت فى " آبا "، وكلاهما ظل فترة من الزمن يدعو سلماً بالمواعظ، والكتب،والوفود والرسائل، وذلك لتبيلغ الدعوة وإزالة الشرك والبدع 0
ثالثاً: اتفقت الدعوتان أيضاً فى " العمومية " بمعنى أنهما لم تكونا موجهتين فقط إلى الجماهير فى كل من سودان وادي النيل وقلب شبه الجزيرة العربية، بل كانتا موجهتين إلى المسلمين كافة، فقد حاول أنصار الشيخ محمد ابن عبد الوهاب الخروج بالدعوة من قلب الجزيرة العربية وحاولوا نشر عقيدتهم ومبادئهم فى أقطار العالم الإسلامي المختلفة واستطاعوا تحقيق نجاحات فى ذلك المجال، وحاولت المهدية بث ونشر دعوتها أيضاً خارج حدود السودان وخاطبه زعماء العالم الإسلامي وقتذاك عامة، وسلطنات غرب السودان الإسلامية خاصة وحققت بعض النجاح فى ذلك.
رابعاً: استطاعت الدعوتان أن تقيم دولة إسلامية قامت على أساس من تطبيق الشرع، فقد استطاعت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بفضل مناصرة أمراء آل سعود أن تقيم دولة إسلامية قام حكمها على أساس من تطبيق حدود الشريعة الإسلامية، واستطاعت أيضاً المهدية أن تقيم دولة إسلامية فى سودان وادي النيل قامت على تطبيق الحدود الشرعية، فقطعت يد السارق ورجمت الزاني وجلدت شارب الخمر وجلدت على السب.
خامساً: اتفقت الدعوتان بعد أن استطاعت أن تقيم نظاماً إسلامياً، فى محاربة البدع ومظاهر الشرك وتبسيط الحياة فى مجتمعاتهما وردها إلى ما يشبه الحياة الإسلامية فى صفائها الأول أيام الرسول صلي الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين واستطاعت الدعوتان تحقيق نجاحات فى ذلك.(9/53)
سادساً: ومن أوجه الخلاف التي تمثلت فى نتائج الدعوتين نستطيع أن نقول أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية استطاعت بفضل الله سبحانه وتعالي أن تنتشر فى أرجاء كثيرة فى العالم الإسلامي، واستطاعت أيضاً بفضل أمراء آل سعود أن يكون لها دور فى دولة مازالت قائمة حتى الآن تنفذ تعاليم الدعوة وهي المملكة العربية السعودية.
لكن دعوة المهدية رغم انتصارها السريع في محاولة إقامة مجتمع سوداني واحد في حياة المهدي بفضل شخصيته إلا أنها لم تستطع الاستمرار مع خليفة المهدي وسقطت بعد سنوات قليلة.
الهوامش والتعليقات
(1) محمد محمد أمين: العلاقات العربية الأفريقية (دراسة تحليله في أبعادها المختلفة) معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1978، ص 31.
(2) البجة أو البيجة أو البجاه هم سكان شرق السودان ويقال أنهم من أقدم الشعوب في أفريقيا بعد السود، وهم ينقسمون إلي أربعة أقسام رئيسية في الصحراء الشرقية للسودان ما بين النيل والبحر الأحمر (البشاريون والأمراء، والهدندوه، وبني عامر) .
أنظر: نعوم شقير: تاريخ السودان الحديث وجغرافيته، طبعة أولي القاهرة سنة 1903، ج 1 (م ص49 إلي ص 56) وأيضاً يوسف أبو قرون: قبائل السودان الكبرى، الخرطوم 1969م من ص 59 إلي ص 74.
(3) عبد العزيز حسين الصاوى، محمد علي جادين: الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة، الخرطوم بدون تاريخ ص 10.
(4) عبد الرحمن حسب الله الحاج: العلاقات بين بلاد العرب، وشرق السودان منذ ظهور الإسلام حتى ظهور الفونج (رسالة ماجستير غير منشورة) بجامعة القاهرة سنة 1980، ص 7.، وأيضاً محمد محمد أمين: المرجع السابق، ص 58.
(5) محمد محمد أمين: نفس المرجع ص 31.
(6) أنظر: عبد المجيد عابدين: تاريخ الثقافة العربية في السودان منذ نشأتها إلي العصر الحديث، القاهرة سنة 1967 م ص.10.(9/54)