رجلاً يقال له: ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً فأتوه باثني عشر من الكفار فقال لهم: «هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟» قالوا: لا، فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} الاية.
قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} قال قتادة: محبوسًا {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال: وأقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون فصالحهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع من عامه ذلك ثم يرجع من العالم المقبل فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا
بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهلها. فنحروا الهدي وحلقوا وقصروا.
{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} حتى بلغ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا حين رد محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يدخلوا مكة، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، فكره الله أن يؤذوا ويوطئوا بغير علم. قال البغوي: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} ، يعني: المستضعفين بمكة {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم {أَن تَطَؤُوهُمْ} بالقتل وتوقعوا بهم، {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، قال ابن زيد: معرة، يعني: إثم. وقال ابن إسحاق: عزم الدية، وقيل: الكفارة، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب - إذا لم يعلم إيمانه - الكفارة دون الدية، فقال: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ، وقيل: هو أن المشركين(4/119)
يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل ديتهم؛ والمعرة: المشقة، يقول: لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فليزمكم بها كفارة ويلحقكم سبة، وجواب (لولا) محذوف تقديره: لأذن لكم في دخولها، ولكنه حال بينكم وبين ذلك، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} يعني: حال بينكم وبين ذلك ليدخل {فِي رَحْمَتِهِ} في دين الإسلام {مَن يَشَاءُ} من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوا {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تميزوا، يعني: المؤمنين من الكفار {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وقال قتادة: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة. وعن
الزهري قال: كانت حميتهم التي ذكر الله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} أنهم لم يقروا أنه: بسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وعن علي في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله. وعن عطاء الخرساني: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن علي الأزدي قال: كنت مع ابن عمر بين مكة ومنى، فسمع الناس يقولون: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال: هي هي، فقلت: ما هي؟ قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} الإخلاص {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} قال قتادة: وكان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها، أي: التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} .
قوله عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)(4/120)
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) } .
عن مجاهد في قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} ، قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين؛ وقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وقال قتادة: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يطوف بالبيت وأصحابه وصدق الله رؤياه فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} . وقال ابن زيد في قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} ، قال: رده لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات، وأخبره: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} من يريد أن يهديه. وعن الزهري قوله: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} ، يعني: صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنه وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضًا، التقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. وعن مجاهد في قوله: {مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} ، قال: النحر بالحديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر ثم اعتمروا بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة. وقال ابن جرير: والصواب أن يعم صلح الحديبية وفتح خيبر.(4/121)
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، أي: على أنك نبي صالح صادق وسينصرك ويظهر دينك.
وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} ، قال البغوي: تم الكلام ها هنا. قال ابن عباس: شهد له بالرسالة. وعن قتادة في قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} ألقى الله في قلوبهم الرحمة بعضهم لبعض، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، قال عكرمة: هو أثر التراب. وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع. وقال مقاتل: هو النور يوم القيامة. قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. وعن قتادة في قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . وعن الضحاك في قول الله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، قال: هذا مثلهم في التوراة ومثل آخر في الإنجيل {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتم وينهى {فَآزَرَهُ} قال: فشده وأعانه. وقوله: {عَلَى سُوقِهِ} قال: أصوله. وقال ابن زيد في قوله: {فَآزَرَهُ} اجتمع ذلك فالتف؛ وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء فلم يزل الله يزيد فيهم ويزيدهم بالإسلام، كما زيد هذا الزرع بأولاده، ... {فَآزَرَهُ} فكان مثلاً للمؤمنين {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} ، قال: يعجب الزراع حسنه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} بالمؤمنين لكثرتهم. قال ابن جرير:
وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} .
* * *(4/122)
الدرس الخامس والستون بعد المائتين
[سورة الحجرات]
مدنية، وهي ثمان عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا(4/123)
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } .(4/124)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) } .
عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا قال: فكره الله عز وجل ذلك وقدح فيه. وقال مجاهد: لا تفتأتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وعن عبد الله بن الزبير قال: (قدم ركب من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أُمِّرًا لأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حتى انقضت الآية. رواه البخاري. وعن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن
الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه.(4/125)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته منكسًا رأسه فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرٌّ - كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله فهو من أهل النار - فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال: كذا وكذا فقال اذهب إليه فقل له: «إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة» . رواه البخاري وغيره.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} ، قال قتادة: أخلص الله قلوبهم فيما أحب. وعن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وقال ابن إسحاق: فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صاحبهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ؛ فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالاً عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز
أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن الشماس: «قم فأجب الرجل في خطبته» ، فقام ثابت بن قيس فقال: الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، خلقه قضى فيهن أمره، ووسع(4/126)
كرسيه علمه ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكًا واصطفى منا خير خلقه رسولاً، أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على وحيه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه وذي رحمه أكرم الناس حسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالاً، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الغر يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويًا ثم نسطع
فنحر الكوم عبطًا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
أنا أبينا ولا يأبى لنا أحد ... أنا كذلك عند الفخر نرتفع(4/127)
قال ابن إسحاق: وكان حسان غائبًا فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال حسان: جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، فخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ دخل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
لبيت حريد عزه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السود والعود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
قال: فلما انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال، قال: فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال» فقام حسان فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أو هت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما وقعوا(4/128)
إن سابقوا الناس يومًا فإن سبقهم ... أو وازنوا أهل محمد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمعوا
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلبة في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع بن حابس واللات إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا، قال: وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة شهداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينًا والطائف، فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم، وقال حسان بن ثابت أيضًا:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المغانم
فلا تجعلوا لله ندًا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيًا كزي الأعاجم(4/129)
قال ابن إسحاق: (فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسن جوائزهم، وفيهم نزل القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ) . انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) } .
عن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة بن أبي ميعط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم
في الكتاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . رواه ابن جرير. قال قتادة: فكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التبين من الله، والعجلة من(4/130)
الشيطان» .
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال البغوي: لأثمتم وهلكتم. قال قتادة: هؤلاء أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، لو أطاعهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} فأنتم والله أسخف رأيًا وأطيش عقولاً، اتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله، فإن كتاب الله ثقة لمن أخذ به وانتهى إليه، وإنما سوى كتاب الله تغرير. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، قال: حببه إليهم وحسنه في قلوبهم، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} ، قال: الكذب {وَالْعِصْيَانَ} قال: عصيان النبي - صلى الله عليه وسلم - {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} من أين كان هذا؟ قال: {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} ، قال: والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن: الكاذبين، قال: والفاسق الكاذب في كتاب الله كله. وقال ابن كثير: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} وهي الذنوب الكبار، {وَالْعِصْيَانَ} وهي جميع المعاصي، وهذا تدريج لكمال النعمة.
قوله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } .
قال ابن عباس: فإن الله سبحانه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان(4/131)
من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم من الظالم فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، قال البغوي: في الدين والولاية، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اختلفا واقتتلا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . ثم ساق بسنده عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» .
* * *(4/132)
الدرس السادس والستون بعد المائتين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } .
* * *(4/133)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) } .
وعن مجاهد: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} ، قال: لا يهزأ قوم بقوم. وقال ابن كثير: ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ... «الكبر بطر الحق وغمص الناس» ورُوي: «وغمط الناس» ؛ والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم. وعن ابن عباس قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} ، يقول: لا يطعن بعضكم على بعض. عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدًا منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا. فنزلت: {وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ} . رواه أحمد وغيره. وعن(4/134)
عكرمة في قوله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} هو الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق.
قال ابن كثير: قوله جل وعلا: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب - كما كان أهل الجاهلية يتداعون - بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه. {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} ، أي: من هذا {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} يقول: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن شرًا، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما: إثم. وهو: أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم وهو: أن تظن ولا تتكلم. وعن ابن عباس: ... {وَلَا تَجَسَّسُوا} قال: نهى الله المؤمن أن يتبع عورات المؤمنين. وقال مجاهد: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله.
وقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} . عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله عن الغيبة قال: «ذكرك أخاك بما يكره» ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} ؟ قال: حرم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة. وعن قتادة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} ، يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفته مُدوّدة أن تأكل
منها فكذلك فاكره غيبته وهو حي {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل: بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل: فاجر(4/135)
شقي هين على الله إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ... خَبِيرٌ} » .
وعن مجاهد: قوله: {شُعُوباً} قال: النسب البعيد {وَقَبَائِلَ} دون ذلك، {لِتَعَارَفُوا} ، قال: جعلنا هذا لتعارفوا فلان بن فلان من كذا وكذا. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمساب على أحد، وإنما أنتم ولد آدم، طف الصاع لم تملئوه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح، حسب الرجل أن يكون فاحشًا بذيًا بخيلاً جبانًا» . رواه ابن جرير. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فأكرم الناس: يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله» ، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: «فعن معادن العرب تسألوني» ؟ قالوا: نعم، قال: «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» . رواه البخاري. وعن درّة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر فقال يا رسول
الله أيّ الناس خير؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر(4/136)
وأوصلهم للرحم» . رواه أحمد.
قوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } .
عن الزهري: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل. وعن قتادة: قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ(4/137)
تُؤْمِنُوا} ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لا تقولوا آمنا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا حتى يبلغ في قلوبكم.
{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} ، يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئًا. وعن مجاهد: قوله: {لَا يَلِتْكُم} لا
ينقصكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال قتادة: غفور للذنوب الكثيرة، رحيم بعباده. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا في دينهم {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، قال ابن زيد: صدقوا إيمانهم بأعمالهم.
قال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي: أتخبرونه بما في ضمائركم؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وعن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد عند الحجاج جالسين، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ} ، فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنه لو علم بآخر الآية أجابه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} قالوا: أسلمنا ولم نقاتلك، بنو أسد. قال ابن كثير: ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
* * *(4/138)
الدرس السابع والستون بعد المائتين
[سورة ق]
مكية، وهي خمس وأربعون آية
قال ابن كثير: هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وروى أبو داود وغيره عن أوس الثقفي قال: (سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده) . وروى مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يقرأ في العيد بـ (ق) و (اقتربت) ، وكان يخطب (بقاف) كل جمعة) . قال ابن كثير: والقصد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهذه السورة في المجامع مع الكبار كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيام، والحساب والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. والله أعلم.(4/139)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ
جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ(4/140)
الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } .
* * *(4/141)
قوله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) } .
عن سعيد بن جبير: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، يقول: والقرآن الكريم، {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ} ، قال البغوي: يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، قال الضحاك: قالوا: كيف يحيينا الله وقد صرنا عظامًا ورفاتًا وضللنا في الأرض؟ وعن ابن عباس قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} ، يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبصارهم وعظامهم وأشعارهم، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال البغوي: وهو اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: {وَعِندَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ} وحافظ لذلك، فالعلم(4/142)
شامل والكتاب أيضًا فيه كل الأشياء مضبوطة. وعن قتادة: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: كذبوا بالقرآن، {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ، يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ، أي: ليس فيها شقوق، كقوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} . {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} قال قتادة: والرواسي الجبال {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كل نوع حسن.
وعن قتادة: قوله: {تَبْصِرَةً} نعمة من الله يبصرها العباد، ... {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ، أي: مقبل إلى الله بقلبه، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} قال ابن جرير: من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وعن ابن عباس قوله: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ، قال: النخل الطوال {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} يقول: بعض على بعض، {رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الموتى بعد ذهابهم {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} قال البغوي: وجب لهم عذابي. ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يعني: أعجزنا حين خلقناهم
أولاً فنعيا بالإعادة؟ وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} ، أي: في شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث بعد الموت. قال قتادة: فصار الناس فيه رجلين: مكذب ومصدق.(4/143)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن
مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ما تحدث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، قال مجاهد: هو الذي يكون في الحلق. قال البغوي: لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله شيء. {إِذْ يَتَلَقَّى(4/144)
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ، قال مجاهد: رصيد، عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب السئات. قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا أذنب قال له: لا تعجل لعله يستغفر.
وقال ابن زيد في قوله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، قال: جعل معه من يكتب كل ما لفظ به، وهو معه رقيب. قال البغوي: رقيب: حافظ. عتيد: حاضر أينما كان. وعن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي قالت عائشة رضي الله عنها: هذا كما قال الشاعر: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال عز وجل: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . وعن عثمان رضي الله عنه أنه خطب فقرأ هذه الآية: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ، قال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما
عملت. وعن قتادة: قوله: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} ، قال: عاين الآخرة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، قال ابن كثير: أي: قوي، قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، وقال ابن زيد في قوله:(4/145)
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} إلى آخر الآية، قال: هذا سائقه الذي وكل به.
وقال ابن كثير: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} ، أي: معد محضر بلا زيادة ولا نقصان. واختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد. قال مجاهد يقول: هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي، وقد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، قال الزجاج: هذا أمر للسائق والشهيد. وعن ابن عباس: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} ، قال: قرينه: شيطانه. قال ابن زيد: تبرأ منه. وعن ابن عباس في قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} ، قال: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم. وقال أبو عمران في قول الله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} ، قال: بالقرآن. وعن مجاهد قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قد قضيت ما أنا قاض، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} . وعن ابن عباس قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟ قال ابن عباس: إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فلما بعث الناس وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرًا، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجًا فوجًا، لا يلقى
في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها شيء، قالت: ألست قد أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين؟ فوضع قدمه، فقالت حين وضع قدمه فيها: قد قد فإني قد امتلأت فليس لي مزيد؛ ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت، فما فيها موضع إبرة. وعن قتادة: قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} يقول: وأدنيت {غَيْرَ بَعِيدٍ} ، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} قال قتادة: أي: مطيع لله كثير الصلاة {حَفِيظٍ} لما استودعه الله من حقه ونعمته. وقال ابن زيد: الأواب: التواب الذي يؤوب إلى طاعة الله ويرجع إليها؛ {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء(4/146)
بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال قتادة: أي: منيب إلى ربه مقبل {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} قال: سلموا من عذاب الله وسلم عليهم. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} خلدوا والله فلا يموتون، وأقاموا فلا يظعنون ونعموا فلا يبأسون؛ {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، قال أنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ، قال مجاهد: عملوا. وعن قتادة: قوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ} ، قال: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، قال بعض المفسرين: وفي الآية ترتيب حسن، لأنه إن كان ذا
قلب ذكي يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك، وإلا فلا بد أن يكون مستمعًا مصغيًا إلى كلام المنذر ليحصل له التذكر.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا(4/147)
يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } .
عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. أكذب الله اليهود والنصارى وأهل الفرى على الله، وذلك أنهم قالوا: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة، قال: فأكذبهم الله وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ، قال مجاهد: نصب.
وقال ابن زيد: لم يمسنا في ذلك عناء، ذلك اللغوب {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، قال قتادة: صلاة الفجر، وصلاة العصر. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون
في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا؛ - ثم قرأ -: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} » . متفق عليه.
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي: صل له {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قال ابن عباس: هو التسبيح بعد الصلاة. وعن قتادة: ... {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ، قال: كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة، وهي أوسط الأرض، قال بريدة: ملك ينادي يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب، قال فيقبلون كما قال الله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} ، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} قال البغوي: وهي الصيحة الأخيرة، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ(4/148)
أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فيه تهديد للكفار وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فإن الله عز وجل كره الجبرية ونهى عنها وقدم فيها. وعن ابن عباس قال قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بر يا رحيم.
* * *(4/149)
الدرس الثامن والستون بعد المائتين
[سورة الذاريات]
مكية، وهي ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ
قَالَ رَبُّكِ(4/150)
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) } .
* * *(4/151)
قوله عز وجل: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ ... عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)(4/152)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) } .
عن عليّ في قول الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} قال: هي الرياح. قيل له: ما الْحَامِلاتِ وِقْراً؟ قال: هي السحاب. قيل: فما الْجَارِيَاتِ يُسْراً؟ قال: هي السفن. قيل: فما الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً؟ قال: الملائكة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ، وذلك يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم. وعن ابن عباس: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} ، قال: ذات الخَلْق الحسن. وعن قتادة: قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} ، قال: مصدّق بهذا القرآن ومكذّب. وقال ابن زيد: يتخرّصون يقولون: هذا سحر. ويقولون: هذا أساطير الأولين، فبأي قولهم يؤخذ؟ {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . وعن الحسن: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ، قال: يُصرف عنه من صُرف.
وعن ابن عباس: قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ، يقول: لُعن المرتابون. وعن مجاهد: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ، قال: الذين يتخرّصون الكذب، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} ، قلبه في كنانة. وقال ابن
زيد: {سَاهُونَ} ، عما أتاهم وعما نزل عليهم، وعما أمرهم الله تبارك وتعالى. وعن مجاهد: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} ، يقولون: متى يوم الدين؟ ويكون يوم الدين، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، كما يُفتن الذهب في النار. وعن ابن عباس: قوله: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، قال: فتنهم أنهم سألوا عن يوم الدين وهم موقوفون على النار، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ، فقالوا حين وُقفوا: يا ويلنا هذا يوم الدين. قال الله تبارك وتعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . وعن قتادة: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} ، ذوقوا عذابكم، {هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23) } .
قال البغوي: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} ، ما أعطاهم. {رَبُّهُمْ} من الخير والكرامة. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبل دخولهم الجنة. {مُحْسِنِينَ} في الدنيا. وعن ابن عباس: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، قال: لم يكن يمضي عليهم ليلة إلا
يأخذون منها ولو شيئًا. وقال الحسن: كابدوا قيام الليل {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال: مدّوا في الصلاة ونشطوا، حتى كان الاستغفار بِسَحَرٍ. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، قال: السائل الذي يسأل، والمحروم المحارف. وقال الضحاك: والمحروم هو الرجل المحارف الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله له ذلك. وعن قتادة: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفّه، وفقير متعفّف، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم. وروى ابن جرير عن الزهريّ [أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] قال: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان» . قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي(4/153)
لا يجد غنى ولا يعلم بحاجته فيتصدّق عليه، فذلك المحروم» . وقال ابن زيد: المحروم: المصاب ثمره وزرعه، وقرأ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} ، حتى بلغ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . وقال أصحاب الجنة: {إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، وقال زيد بن أسلم: ليس ذلك بالزكاة، ولكن ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة؛ والمحروم الذي يصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته، فيكون له حقّ على من لم يصيبه ذلك من المسلمين. قال ابن جرير: والصواب أن الآية عامة في كلّ من حرم الرزق واحتاج.
وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، قال قتادة: معتبر لمن اعتبر. وعن ابن الزبير: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، قال:
سبيل الخلاء والبول. وقال ابن زيد في قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، وقرأ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} قال: وفينا آيات كثيرة هذا: السمع، والبصر، واللسان، والقلب يجعل الله فيه العقل. وعن الضحاك في قوله: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} ، قال: المطر. وقال مجاهد: الجنّة في السماء {وَمَا تُوعَدُونَ} من خيرٍ أو شرّ. وقيل: إن أرزاقكم في الدنيا، {وَمَا تُوعَدُونَ} ، في العقبى كلّها مقدّرة مكتوبة في السماء. وعن الحسن في قوله: ... {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه» .(4/154)
قوله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) } .
قال في جامع البيان: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، فيه تعظيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، {الْمُكْرَمِينَ} ، عند الله تعالى وعند إبراهيم عليه السلام. قال مجاهد: أكرمهم إبراهيم وأمر أهله لهم بالعجل حينئذ. وعن قتادة: قوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} ، قال: كان عامة مال نبيّ الله إبراهيم عليه السلام البقر. وعن ابن عباس: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} ، يقول: في صيحة، {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ، قال السدي: لما بشّر جبريل سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ضربت جبهتها عجبًا. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ! قال الضحاك: لا تلد، {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} ، قال البغوي: أي: كما قلنا لك قال ربك: إنك(4/155)
ستلدين غلامًا، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . {قَالَ} ، إبراهيم: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ، قال ابن عباس: المسوّمة الحجارة
المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، ويكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك تسويمها، {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قال قتادة: لو كان فيها من ذلك لأنجاهم الله، ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ لا ضيعة على أهله. قال البغوي: وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا، لأنه ما من مؤمن إلا هو مسلم.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجّيل، وجعلنا محلّتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين.
وقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى} ، أي: وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال ابن كثير: أي: بدليل باهر وحجّة قاطعة، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} ، قال قتادة: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} غلب عدو الله على قومه، وقال ابن زيد: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} قال: بمجموعته التي معه، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} ، قال ابن جرير: والمليم هو الذي قد أتى ما يلام عليه من الفعل. قال البغوي: أي: آت بما يلام عليه من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسل، {وَفِي عَادٍ} ، أي: وفي إهلاك عاد أيضًا آية، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، وهي التي لا خير فيها ولا بركة، وتلقّح شجًرا ولا تحمل مطرًا. وعن(4/156)
ابن عباس: قوله: {مَا تَذَرُ
مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} قال: كالشيء الهالك {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ} ، قال ابن كثير: وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} ، أي: من هرب ولا نهوض {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} ، قال قتادة: ما كانت عندهم من قوّة يمتنعون بها من عذاب الله عز وجل، ... {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ} ، قال ابن كثير: وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) } .
عن ابن عباس: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، يقول: بقوّة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: قد وسّعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} ، قال البغوي: بسطناها ومهّدناها لكم، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} الباسطون نحن. قال ابن(4/157)
عباس نِعْمَ ما وَطَّأْتُ لعبادي. وقال مجاهد في قوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، قال: الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار فوالسماء والأرض، والإنس والجنّ. وقال ابن زيد: ذكر وأنثى ذلك الزوجان. وقال البغوي: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، فتعلمون أن خالق الأزواج فرد {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ولاتجعلوا مع الله إلهاً آخر {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، {كَذَلِكَ} ، أي: كما كذبك قومك يا محمد وقالوا: ساحر أو مجنون، {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، قال البغوي: والألف فيه للتوبيخ. قال ابن كثير: أي: أوصى بعضهم بعضًا بهذه المقالة، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، أي: لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم، فقال متأخّرهم كما قال متقدّمهم. قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، يا محمد {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، يعني: فما نلومك على ذلك. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة.
وعن عليّ بن أبي طالب في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، أي: إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم لعبادتي. قال السدي من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك. قال ابن كثير: ومعنى الآية: أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتمّ الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشدّ العذاب؛ وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم. وعن أبي هريرة مرفوعًا: (قال الله(4/158)
تعالى: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك) . رواه أحمد وغيره. وعن ابن عباس: قوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، يقول: الشديد {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} ، يقول: دلوًا {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، يقول: للذين ظلموا عذابًا مثل عذاب أصحابهم. وقال ابن زيد: يقول: لهم سَجْلٌ من عذاب الله، وقد فعل هذا بأصحابهم من قبلهم، فلهم عذاب مثل عذاب أصحابهم، {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} ، قال ابن كثير: أي: فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محال، {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} ، يعني: يوم القيامة.
* * *(4/159)
الدرس التاسع والستون بعد المائتين
[سورة الطور]
مكية، وهي تسع وأربعون آية
في الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} ، (كاد قلبي أن يطير) . قال ابن كثير: وجبير بن مطعم قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ(4/160)
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (40) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ... (49) } .
* * *(4/161)
قوله عز وجل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) } .
قال البغوي: {وَالطُّورِ} أراد به الجبل الذي كَلَّم الله عليه موسى عليه السلام. قال ابن كثير: فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار. وعن مجاهد في قوله: {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} ، قال: صحف. قال قتادة: والمسطور: المكتوب. {فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} . قال البغوي: الرَقّ ما يُكتب فيه. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رجلاً قال له: ما البيت المعمور؟ قال: (بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض) . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: «ثم رُفع بي إلى البيت المعمور، وإذًا هو يدخله كل(4/162)
يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم» .
وعن علي قال: السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: السماء. وقال ابن زيد في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال: الموقد. وقرأ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} .
وعن ابن عباس في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ، قال: المحبوس. وعن علي: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ، قال: بحر في السماء تحت العرش. وقال قتادة: المسجور المملوء. وعن جعفر بن زيد العبيدي قال: خرج عمر يعسّ في المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائمًا يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ: {وَالطُّورِ} حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} ، قال: (قسم وربِّ الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليًا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه) . وعن قتادة: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} ، وذلك يوم القيامة {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً} مورها: تحريكها. وقال مجاهد: تدور دورًا. {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} ، قال البغوي: يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين. وعن ابن عباس: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} ، قال: يُدفع بأعناقهم حتى يردوا النار. قال البغوي: فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هَذَا} ؟ وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر فَوُبِّخوا به وقيل لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} . {اصْلَوْهَا} قاسوا شدتها {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} ، الصبر والجزع، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .(4/163)
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } .
قال البغوي: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ} ، معجبين بذلك ناعمين بما آتاهم ربهم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . وعن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، قال: إن الله تبارك وتعالى يدفع للمؤمن ذريته وإن كانوا دونه في العمل، ليقر الله بهم عينه؛ {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} ، يقول: ما نقصناهم، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، قال ابن كثير: أي: مرتهن بعمله، أي: لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنًا، {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} ، قال قتادة: إنما كان اللغو والباطل في الدنيا، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ}
ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: «والذي نفس محمد بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . {وَأَقْبَلَ(4/164)
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} قال ابن زيد: عذاب النار. قال ابن جرير: وقوله {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} يقول: إنا كنا في الدنيا من قبل يومنا هذا {نَدْعُوهُ} يقول: نعبده مخلصين له الدين لا نشرك به شيئًا {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} يعني: اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه أن يعذبهم بعد توبتهم.
قوله عز وجل: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (40) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) } .
قال البغوي: {فَذَكِّرْ} ، يا محمد بالقرآن. {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} ، نزلت في الذين اقتسموا عِقبَات مكة، يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكهانة والسحر والجنون والشعر. وعن ابن عباس: إن قريشًا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ؛ قال(4/165)
البغوي: حوادث الدهر. {قُلْ تَرَبَّصُوا} ، انتظروا {فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} حتى يأتي أمر الله فيكم. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم} ، عقولهم، {بِهَذَا} ، وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تميز لهم معرفة الحق من الباطل، {أَمْ هُمْ} بَلْ هُمْ: {قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} ، أي: تخلق القرآن من تلقاء نفسه {بَل لَّا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، يعني: أُوجِدُوا من غير مُوجِد أم هم أَوجَدُوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأوجدهم. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} ، قال ابن كثير: وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} ؟ أي: المحاسبون للخلائق؟ ليس الأمر كذلك. وعن ابن عباس: قوله: {أم هم المسيطرون} ، يقول: المسلطون. {أَمْ
لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} الوحي {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، حجة بينة. {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ؟
قال البغوي: هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون. وعن قتادة: قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ، يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرًا فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام؟ {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟ قال ابن عباس معناه: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به؟ {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} ، مكرًا بك ليهلكوك، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} ، قال البغوي: أي: هم المجزيون بكيدهم، يريد: أن ضرر ذلك يعود عليهم، {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يرزقهم وينصرهم {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(4/166)
قوله عز وجل: {وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) } .
عن قتادة: قوله: {وَإِن يَرَوْا كِسْفاً} ، يقول: وإن يروا قطعًا، {مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} ، يقول: لا يصدقوا بحديث ولا يؤمنوا بآيات، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} ؛ قال ابن كثير: وذلك يوم القيامة. {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أي: ما يصيبهم في الدنيا من المصائب فإنما عذاب للفاجر وكفارة للمؤمن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه: فإنك بمرأى منا، نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال أبو الأحوص: سبحان الله وبحمده. وقال ابن زيد: إذا قام لصلاة ليل أو نهار {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قال الضحاك: صلاة الصبح.
* * *(4/167)
الدرس السبعون بعد المائتين
[سورة النجم]
مكية، وهي اثنان وستون آية
في الصحيحين عن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ} ، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفًا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ(4/168)
وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن
يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) } .
* * *(4/169)
قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } .
عن ابن عباس: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} يعني: الثريا إذا سقطت وغابت. وقال مجاهد: هي نجوم السماء كلها حين تغرب. وقال الضحاك: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إذا رمي به الشياطين. وعن ابن عباس: يعني: النجوم التي يرمى بها الشياطين. قال ابن القيم: (وهذا قول الحسن وهو أظهر الأقوال، لما بين المقسم به والمقسم عليه من التناسب) . انتهى. قال الشعبي وغيره: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. وعن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فقال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال: «أما تخاف أن يأكلك كلب الله» ؟ فخرج في تجارة إلى اليمن، فبينما هم قد عرسوا إذ يسمع صوت الأسد فقال لأصحابه: إني مأكول فأحدقوا به، وضرب على أصمختهم فناموا، فجاء حتى أخذه فما سمعوا إلا صوته.
قال البغوي: وجواب القسم قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -،(4/170)
ما ضل عن طريق الهدى {وَمَا غَوَى} ، قال ابن كثير: والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه إلى غيره، وعن قتادة: قوله: ... {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ما ينطق عن هواه {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، قال: يوحي الله تبارك وتعالى إلى جبريل، ويوحي جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، يعني: جبريل، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} ذو خلق طويل حسن، {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} الأفق: الذي يأتي منه النهار. وعن الربيع: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} ، قال: السماء {الْأَعْلَى} ، يعني: جبريل عليه السلام. وعن قتادة: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، يعني: جبريل، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} ، قال مجاهد: قيد أو قدر قوسين. وعن ابن مسعود في هذه الآية: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت جبريل له ستمائة جناح» . وعن مسروق قال: قلت لعائشة: ما قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ؟ فقالت: (إنما ذلك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه هذه المرة في صورته فسد أفق السماء) .
وقال ابن زيد في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، قال: أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى الله إليه. وعن قتادة في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، قال: رأى جبريل في صورته، وهو
الذي رآه نزلة أخرى. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح» .
وقال البغوي: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قرأ أبو جعفر: ما كذَّب أي: ما كذب قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه، وقرأ الآخرون(4/171)
بالتخفيف. أي: ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى بل صدقه، مجازه: ما كذب الفؤاد فيما رأى. انتهى ملخصًا. وعن قتادة: قال: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما انتهيت إلى السماء السابعة أتيت على إبراهيم فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلمت عليه فقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، قال: ثم رفعت لي سدرة المنتهى. فحدّث نبي الله أن نبقها مثل قلال هجر، وأن ورقها مثل آذان الفيلة» .
وعن ابن عباس: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيتها حتى استثبتها ثم حال دونها فراش من ذهب» . وعن الربيع: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: غشيها نور الرب، وغشيتها الملائكة، من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجرة. قوله: مثل الغربان: أي: الغرانيق البيض. وعن ابن عباس في قوله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال: ما زاغ يمينًا ولا شمالاً، ولا طغى ولا جاوز ما أمر به {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال ابن(4/172)
مسعود: (رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رفرفًا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق) وقال ابن زيد في قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ، قال: جبريل، رآه في
خلقه الذي يكون به في السماوات، قدر قوسين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما بينه وبينه.
قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) } .
قال البغوي: قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز: العزى. وقال ابن عباس: كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. قال ابن إسحاق: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم؛ وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها
وحجابها بني معتب، وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب، على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد؛ وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان(4/173)
ببلادهم من العرب بتبالة؛ وكانت قلس لطيء ومن يليها بجبل طيء بين سلمى وأجأ؛ وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام؛ وكانت رضاء بيتًا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد.
وقال البغوي: ومعنى الآية: أفرأيتم أخبرونا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وقال الكلبي: كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك. فقال الله تعالى منكرًا عليهم، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} ، قال ابن عباس: جائرة.
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} ، قال ابن كثير: أي: ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} ، أي: البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار. {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام؟ {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولَى * وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} ، ممن يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعهم عند الله، {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} ، في الشفاعة {لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، أي: من أهل التوحيد. وقال ابن كثير: {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} ، أي: ليس كل من تمنى خيرًا حصل له، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} .(4/174)
قوله عز وجل: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } .
عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» . وعن قتادة: قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} ، ما كان بين الحدّين لم يبلغ حدّ الدنيا ولا حدّ الآخرة موجبة، قد أوجب الله لأهلها النار، أو فاحشة يقام عليه الحدّ في الدنيا. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} ، قد غفرت ذلك لهم إذ {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ} ، قال
مجاهد: كنحو قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ، أي: ترك المعاصي وفعل الطاعات. قال البغوي: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} ، لا تبرئوها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ(4/175)
وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} ، نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه، فعيره بعض المشركين
وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله؛ فضمن الذي عاتبه إن هو أعطى كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} أدبر عن الإيمان {وَأَعْطَى} صاحبه {قَلِيلاً وَأَكْدَى} بخل بالباقي؛ وأصله من الكدية، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} ، ما غاب عنه، ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} يخبر، {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} ، يعني: أسفار التوراة {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، تمم وأكمل ما أمر به؛ ثم بين ما في صحفهما فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} عمل {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} ، في ميزانه يوم القيامة {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} الأكمل الأتم {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} ، أي: منتهى الخلق ومصيرهم إليه.(4/176)
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ، قال مجاهد: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} ، من كل حيوان، {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} أي: الخلق الثاني للبعث يوم القيامة {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} قال أبو صالح: {أَغْنَى} الناس بالأموال {وَأَقْنَى} أي: أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية، {وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرَى} وهو كوكب خلف الجوزاء وكانت خزاعة تعبدها ... {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} ، وهم قوم هود وثمود، {فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ، لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} ، يعني: قرى قوم لوط {أَهْوَى} أسقط، أي: أهواها جبريل بعد ما رفعها إلى السماء، {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} ، يعني: الحجارة {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ} نعم ربك أيها الإنسان {تَتَمَارَى} تشك وتجادل؟ {هَذَا نَذِيرٌ} ، يعني: محمدًا، {مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} ، أي: رسول من الرسل، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم. {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ} ، دنت القيامة واقتربت الساعة، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} ، أي: لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن {تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ} استهزاء {وَلَا تَبْكُونَ} لما فيه من الوعد والوعيد ... {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} ، لاهون غافلون. وقال عكرمة: هو الغناء بلغة أهل اليمن، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، أي: واعبدوه. انتهى ملخصًا. والله أعلم.
* * *(4/177)
الدرس الحادي والسبعون بعد المائتين
[سورة القمر]
مكية، وهي خمس وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ(4/178)
بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ
(24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } .
* * *(4/179)
قوله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) } .
عن أنس بن مالك: (أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقّتين، حتى رأوا حراء بينهما) . متفق عليه. وعند ابن جرير من حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فسلوا السفار فسألوهم فقالوا: نعم، قد رأيناه فأنزل الله تبارك وتعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} . وعن قتادة: قوله: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، قال: إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا: إنما هذا عمل السحر يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي: واقع بأهل الخير الخير وبأهل الشرّ الشرّ {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي: هذا القرآن. قال سفيان: المزدجر المنتهى.
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} ، قال البغوي: يعني: القرآن حكمة تامّة، وقد بلغت الغاية(4/180)
في الزجر، {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وهذه كقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، قال ابن
كثير: أعرض عنهم وانتظرهم، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} وهو موقف الحساب، {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} ، أي: ذليلة أبصارهم، {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} ، قال قتادة: عامدين إلى الداعي، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} .
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) } .
عن مجاهد: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ، قالوا: استطير جنونًا. وقال ابن زيد في قوله: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} قال: اتهموه وزجروه وأوعدوه وقرأ: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} . وعن سفيان: {فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} ، قال: ماء السماء وماء الأرض. وعن قتادة في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} قال: معاريض السفينة {وَدُسُرٍ} ، قال: دسرت بمسامير. وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} قال ابن كثير: أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا(4/181)
وكلاءتنا، {جَزَاء
لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي: جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارًا لنوح عليه السلام. وعن قتادة في قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً} ، قال: ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقال البغوي: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً} ، يعني: الفعلة التي فعلنا. قال ابن كثير: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} .
وقوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال البغوي: أي: متذكّر متّعظ خائف مثل عقوبتهم، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، أي: إنذاري. وقال ابن كثير: أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذّب رسلي، ولم يتّعظ بما جاءت به نذري وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} ، أي: سهّلنا لفظه ويسّرنا معناه لمن أراده ليتذكّر الناس، كما قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} . {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: فهل من متذكّر بهذا القرآن الذي قد يسّر الله حفظه ومعناه؟ وعن ابن عباس: لولا أن الله يسّره على لسان(4/182)
الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلّم بكلام الله عز وجل. وعن قطر الورّاق في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال: هل من طالب علم فيُعانُ عليه؟ قال الحافظ ابن حجر: وقد تكرّر في هذه السورة قوله: {فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ} بحسب تكرّر القصص من أخبار الأمم، استدعاء لأفهام السامعين ليعتبروا.
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22) } .
قال ابن زيد في قوله: {رِيحاً صَرْصَراً} قال: الصرصر: الشديدة. وقال قتادة: الصرصر: الباردة. قال ابن جرير: وهي الشديدة العصوف في بَرْدِ التي لصوْتِها صرير. وعن قتادة: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} قال: النحس الشؤم {مُّسْتَمِرٍّ} يستمرّ بهم إلى نار جهنم. وعن مجاهد في قوله: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} قال: سقطت رؤوسهم كأمثال الأخبية، وتفرّدت عن أعناقهم.
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32) } .(4/183)
قال البغوي: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} ، بالإنذار الذي جاءهم به صالح {فَقَالُوا أَبَشَراً} آدميًا، {مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} ، ونحن جماعة كثيرة {إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ} ، مبين، ضلال: خطأ وذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} ، قال ابن عباس: عذاب. وقال الفراء: جنون. {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} بطلاً متكبّر ... {سَيَعْلَمُونَ غَداً} ، حين ينزل بهم العذاب، {مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} ، أي: باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا أن يخرجها منها، {فِتْنَةً لَّهُمْ} ، محنة واختبارًا، {فَارْتَقِبْهُمْ} ، فانتظر ما هم صانعون، {وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} ، وبين الناقة، {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} ، قال مجاهد: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة، فإذا جاءت حضروا اللبن، {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى} ، فتناول الناقة بسفيه، {فَعَقَرَ} . انتهى ملخصًا.
وعن الضحاك في قوله: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ، قال: هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع.
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40) } .
عن قتادة: قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، لم يصدّقوه، {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} ، وذكر لنا أن جبريل عليه السلام استأذن ربه في عقوبتهم ليلة أتوا لوطًا، وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه فصفقهم بجناحه وتركهم عميًا يتردّدون،(4/184)
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} ، يقول: استقر بهم إلى نار جهنم.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) } .
عن قتادة: قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} ، يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} ، يقول: ليس كفّاركم خيرًا من قوم نوح ولوط. وقال ابن زيد في قوله: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} ، في كتاب الله براءة مما تخافون، {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، قال عمر: لما نزلت، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} ، جعلت أقول: أيّ جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ويقول: «سيهزم الجمع ويولّون الدبر» . {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ، قال البغوي: أي: أعظم داهية وبليّة، وأشدّ مرارة من الأسر والقتل يوم بدر.
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ(4/185)
وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } .
قال الحسين بن فضل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ} ، في الدنيا ونار في الآخرة، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ، قال ابن عباس: إني أجد في كتاب الله قومًا يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} ، لأنهم كانوا يكذبون بالقدر. وعن أبي هريرة أن قريشًا خاصمت النبي - صلى الله عليه وسلم - في القدر، فأنزل الله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ، قال ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال: أشياعكم من أهل الكفر من الأمم الماضية، يقول: فهل من أحد يتذكّر وكلّ شيء فعلوه في الزبر؟ قال ابن كثير: أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أي: من أعمالهم، {مُسْتَطَرٌ} أي: مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم. ذكر أن رجلاً عمل ذنبًا فاستصغره، فأتاه آت في منامه فقال له:
لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا ... إن الصغير غدًا يعود كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهده ... عند الإله مسطّر تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن ... صعب القياد وشمّرن تشميرا
إن المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وأُلهم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإِله بنيّة ... فكفى بربك هاديًا ونصيرا(4/186)
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ، قال جعفر الصادق: مدح الله المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وروى مسلم وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا» . والله أعلم.
* * *(4/187)
الدرس الثاني والسبعون بعد المائتين
[سورة الرحمن]
مكية، وهي ثمان وسبعون آية
عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذّب فلك الحمد» . رواه الترمذي. وعن عليّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن: الرحمن» . رواه البيهقي في شعب الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا(4/188)
الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ
(20) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ(4/189)
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } .
* * *(4/190)
قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) } .
عن قتادة: أنه قال في تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} نعمة والله وعظيمة {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال ابن زيد: البيان: الكلام. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} قال ابن عباس: يجريان بعدد وحساب ومنازل {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ، قال مجاهد: النجم هو: الكوكب وهذه الآية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} .
وقوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ، قال مجاهد: العدل {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} قال قتادة: اعدل يا ابن آدم كما تحبّ أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك، فإن بالعدل صلاح الناس. وكان ابن عباس يقول: يا معشر الموالي، إنكم قد ولّيتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم، هذا المكيال، والميزان، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} قال ابن زيد: تخسيره نقصه {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} قال مجاهد: للخلائق {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ(4/191)
الْأَكْمَامِ} ، قال ابن زيد: هو الطلع قبل أن ينفتق، {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} ، قال مجاهد: العصف الورق من كل شيء، والريحان الرزق؛ وقال الحسن: هو ريحانكم الذي يشمّ. قال البغوي: كلها مدفوعات بالردّ على الفاكهة؛ وقرأ ابن عامر: بنصب الباء والنون و (ذا) بالألف. وقرأ حمزة والكسائي (والريحان) : بالجر عطفًا على (العصف) فذكر قوت الناس والأنعام، ثم خاطب الجن والإنس فقال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، أيها الثقلان؟ يريد من هذه الأشياء المذكورة؛ وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريرًا للنعمة وتأكيدًا في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع، يعدّد على الخلق آلاءه ويفصل بين كل نعمتين بما ينبّههم عليها.
قوله عز وجل: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) } .
عن قتادة: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} ، قال: من طين له صلصلة كان يابسًا. وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم
مما وصف لكم» . رواه مسلم وغيره. وقال ابن زيد: المارج: اللهب. وعن مجاهد: قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، قال: مشرق الشتاء ومغربه، ومشرق الصيف ومغربه.(4/192)
وعن ابن عباس: قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ، يقول: أرسل. وقال ابن زيد في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} ، قال: منعهما أن يلتقيا بالبرزخ الذي جعل بينهما من الأرض. قال ابن كثير: والمراد بقوله البحرين: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. قال وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: ... {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} ، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجنّ. وعن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها -، يعني: من قطر - فهو اللؤلؤ. وعن قتادة: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، قال: اللؤلؤ: الكبار من اللؤلؤ، والمرجان: الصغار منه. وعن ابن مسعود قال: المرجان: الخرز الأحمر. وعن قتادة: قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، يعني: السفن. وقال مجاهد: ما رفع قطعة من السفن فهي منشآت، وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت.
قوله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ(4/193)
إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ... (45) } .
قال ابن عباس: {ذُو الْجَلَالِ} ، العظمة والكبرياء. وعن قتادة: قوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، يحيي حيًّا ويميت ميتًا، ويربّي صغيرًا ويذلّ كبيرًا، وهو يسأل حاجات الصالحين ومنتهى شكواهم. وروى ابن جرير عن منيب بن عبد الله الأزديّ قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، فقلنا يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: «من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين» .
وعن ابن عباس: قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، قال: وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل. وقال الضحاك بن مزاحم: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشقّقت بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم بالثانية، ثم بالثالثة، ثم بالرابعة، ثم بالخامسة، ثم بالسادسة، ثم بالسابعة، فصفّوا صفًّا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل(4/194)
الأرض ندّوا، فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ، وذلك قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} .
وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} ، وذلك قوله: {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} . وعن مجاهد: قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} ، قال: اللهب المنقطع {وَنُحَاسٌ} . قال: يذاب الصفر من فوق رؤوسهم. وعن قتادة في قوله: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} قال: هي اليوم خضراء ولونها يومئذٍ الحمرة. وعن مجاهد: {كَالدِّهَانِ} قال: كالدهن. وعن قتادة في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} قال: حفظ الله عز وجل عليهم أعمالهم، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قال: زرق العيون سود الوجوه {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي
وَالْأَقْدَامِ} قال ابن عباس: يؤخذ ناصيته وقدميه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، قال: الآني: ما اشتدّ غليانه ونضجه.
قوله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاء(4/195)
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) } .
عن ابن عباس: قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قال: وعد الله جلّ ثناؤه المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدّوا فرائضه الجنّة قال: والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته. وقال ابن زيد: مقامه حين يقوم العباد يوم القيامة وقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وعن مجاهد: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أغصان. وقال عكرمة: ظلّ الأغصان. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} ، قال الحسن: إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل. وقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فيهما من
كل نوع من الفاكهة ضربان {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} قال ابن مسعود: قد أُخبرتم بالبطائن، فكيف لو أُخبرتم بالظهائر؟ وعن قتادة: قوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} ، ثمارهما دانية لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك، ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده، لا يقطع رجل ثمرة من الجنّة فتصل إلى فيه، حتى يبدل الله مكانها خيرًا منها» . وعن مجاهد في قوله: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ، قال: قصرن طرفهنّ عن الرجال، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، قال: لم يمسّهنّ. وروى ابن جرير عن ابن مسعود مرفوعًا قال: «إن المرأة من أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة من حرير وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} أما الياقوت فإنه لو أدخلت فيه سلكًا ثم استصفيته لرأيته من ورائه» . وعن السدي في قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال: صفاء وحسن المرجان. وعن قتادة: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ(4/196)
وَالْمَرْجَانُ} صفاء الياقوت في بياض المرجان {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ؟ قال: عملوا خيرًا فجوزوا خيرًا.
قوله عز وجل: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي
الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، جنّتا السابقين، فقرأ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} فقرأ حتى بلغ: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} ثم رجع إلى أصحاب اليمين فقال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، فذكر فضلهما وما فيهما. وعن عبد الله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عَدْنٍ» . متفق عليه. وقال ابن زيد في قوله: ... {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، هما أدنى من هاتين، لأَصحاب اليمين. وعن ابن عباس: قوله {مُدْهَامَّتَانِ} قال: خضراوان من الريّ، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} بالماء. قال ابن جرير: يعني: فوّارتان. وعن سعيد بن جبير قال: نخل الجنّة جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرّد، وسفعها كسوة لأهل الجنّة، ورطبها(4/197)
كالدلاء أشدّ بياضًا من اللبن، وألين من الزبد وأحلى من العسل ليس له عجم. وعن قتادة في قوله: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ، قال: خيرات في الأخلاق، حسان في الوجوه، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال الضحاك: الحوراء العيناء الحسناء. وقال مجاهد: {حُورٌ} بيض {مَّقْصُورَاتٌ}
على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم {فِي الْخِيَامِ} قال: لا يبرحن الخيام. وقال عمر بن الخطاب: الخيام درّ مجوّف. وعن سعيد بن جبير في قوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ، قال: رياض الجنّة. وقال ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} ، قال: الزرابيّ. وقال مجاهد: هو الديباج. وعن ابن عباس: قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، يقول: ذو العظمة والكبرياء.
* * *(4/198)
الدرس الثالث والسبعون بعد المائتين
[سورة الواقعة]
مكية، وهي ست وتسعون آية
عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون» . رواه الترمذي. وعن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلّون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخفّ من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر: (الواقعة) ونحوها من السور) . رواه أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَا(4/199)
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) } .
* * *(4/200)
قوله عز وجل: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (26) } .
عن ابن عباس في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} و {الطَّامَّةُ} ... و {الصَّاخَّةُ} ، ونحو هذا من أسماء {الْقِيَامَةِ} عظّمة الله وحذّره عباده. وعن قتادة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: ليس لها مثنويّة ولا رجعة ولا ارتداد. وقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} قال: أَسْمَعَتِ القريبِ والبعيدَ. {خَافِضَةٌ} أقوامًا إلى عذاب الله و {رَّافِعَةٌ} ، أقوامًا إلى كرامة الله، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً} ، قال: زلزلت زلزالاً. وعن مجاهد: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} ، قال: كما يُبَسُّ السويق. وقال ابن زيد: صارت كثيبًا مهيلاً كما قال الله. وعن مجاهد في قوله:(4/201)
{فَكَانَتْ
هَبَاء مُّنبَثّاً} قال: شعاع الشمس يدخل من الكوّة ليس بشيء. وعن عليّ رضي الله عنه في قوله: {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} ، كوهج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء. وعن قتادة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قال: منازل الناس يوم القيامة. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي: من كلّ أمّة. وعن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثم قال: أوّلهم رواحًا إلى المسجد، وأوّلهم خروجًا في سبيل الله. وروى الإِمام أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الذين إذا أُعطوا الحقّ قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» . وعن الحسن أنه أتى على هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ، فقال: أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهمّ اجعلنا من أصحاب اليمين. وعن ابن عباس: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} ، قال: مرمولة بالذهب. وقال عكرمة: مشبّكة بالدرّ والياقوت. {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} قال مجاهد: لا يناظر أحدهم في قفا صاحبه. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} ، قال: لا يموتون. وعن قتادة في قوله: ... {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} قال: الأكواب التي دون الأباريق ليس لها عرى، {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي: من خمر جارية {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} ليس
لها وجع رأس، {وَلَا يُنزِفُونَ} ، لا يغلب أحد على عقله. وقال البغوي: {وَلَا يُنزِفُونَ} ، ولا يسكرون؛ هذا إذا قرئ بفتح الزاي، ومن كسرها فمعناها: لا ينفد شرابهم. وقال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصدع، والقيء، والبول. فذكر الله تعالى خمر الجنّة ونزّهها عن هذه الخصال. وعن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قال: «صفاؤهن كصفاء الدرّ الذي في الأصداف الذي لا تمسّه(4/202)
الأيدي» . رواه ابن جرير. قال البغوي: ويروى أن الحوراء إذا مشت ليسمع تقديس الخلاخيل من ساقيها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأن عقد الياقوت ليضحك من نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب، شراكهما من لؤلؤ، يصرّان بالتسبيح. {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} قال عطاء: يحيّي بعضهم بعضًا بالسلام.
قوله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) } .
عن قتادة في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} قال: كنا نحدّث: أنه
الموقر الذي لا شوك فيه. {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} ، كنا نحدّث أنه الموز. وقال معمر بن المثنى: هو عند العرب شجر عظام كثير الشوك. وقال مجاهد: {مَّنضُودٍ} أي: متراكم الثمر. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وروى النجار عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابيّ يومًا فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما هي» ؟ قال: السدر فإن له شوكًا(4/203)
مؤذيًا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس الله تعالى يقول: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خضد الله شوكه، فجعل مكان كلّ شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرًا وتنفق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر» . وعن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} » . متفق عليه. وعن سفيان: {وَمَاء مَّسْكُوبٍ} قال: يجري في غير أخدود. وعن قتادة في قوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ، قال: لا يمنعه شوك ولا بعد.
وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} ، قال ابن كثير: أي: عالية وطئية ناعمة. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء} ، قال أبو عبيدة: يعني بذلك: الحور العين. وعن الحسن قال: أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادعوا الله تعالى أن يدخلني الجنة، فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» . فولّت تبكي، قال: «أخبروها أنها لا تدخلها
وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} » . رواه الترمذي. وعن ابن عباس: {عُرُباً أَتْرَاباً} ، قال: العُرب: المتحبّبات المتودّدات إلى أزواجهن. والأتراب: المستويات. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة،(4/204)
وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، هم على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء» . متفق عليه. وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ} ، أي: جماعة، {مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} قال الحسن: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} من الأمم، {وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ
(57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) } .
عن قتادة: قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} ، أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} كنا نحدّث أنها ظلّ الدخان {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} قال: لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر. وقال الضحاك: كلّ شراب ليس بعذب فليس بكريم. وعن ابن عباس: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} يقول: منعمين ... {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} قال الضحاك: يعني: الشرك. وقال مجاهد: يدمنون على الذنب. وعن ابن عباس قوله: {شُرْبَ الْهِيمِ} قال:(4/205)
الإبل العطاش. وقال عكرمة: هي الإبل المراض تمصّ الماء مصًا ولا تروى.
وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} ، قال ابن كثير: أي: هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} . وقال البغوي: {هَذَا نُزُلُهُمْ} ، يعني: ما ذكر من الزقّوم، والحميم: رزقهم وغذاؤهم، وما أعدّ لهم يوم الدين، يوم يجازون بأعمالهم؛ ثم احتجّ عليهم في البعث فقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا وأنتم تعلمون ذلك
{فَلَوْلَا} فهلا {تُصَدِّقُونَ} بالبعث؟ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} ما تصبّون في الأرحام من النطف {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} ، يعني: أأنتم تخلقون ما تمنون بشرًا، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ؟ {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم فذلك قوله عز وجل: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} يعني: نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم. {وَنُنشِئَكُمْ} نخلقكم {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من الصور. وقال الحسن: أي: نبدّل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} ولم تكونوا شيئًا {فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} إني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم.
قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }(4/206)
قال البغوي: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ، يعني: تثيرون من الأرض وتلقون فيها من البذور، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} المنبتون؟ وعن حجر المنذريّ أنه كان إذا قرأ: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وأمثالها ويقول: بل أنت يا رب. {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ
حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} ، قال الكسائي: هو تلهّف على ما فات، وهو من الأضداد. وقال ابن كثير: أي: لو جعلناه حطامًا لظلتم تفكّهون في المقالة، تنوّعون كلامكم فتقولون تارة: إنا لمغرمون، وتارة تقولون: بل نحن محرومون. قال البغوي: والغرام: العذاب. وقال الضحاك، وابن كيسان: غرمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرمًا علينا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، وهو قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} محدودن ممنوعون، أي: حُرِمْنا ما كنا نطلبه من الربح في الرزق. وقال ابن زيد: المزن: السحاب. وقال الحسن: {أُجَاجاً} مرًّا. وقال ابن عباس شديد الملوحة.
وعن قتادة: قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} للنار الكبرى. ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» . قالوا: يا نبي الله إن كانت لكافية. قال: «قد ضُربت بالماء ضربتين لينتفع بها بنو آدم ويدنوا منها» . {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} ، قال: للمرمل المسافر. وعن مجاهد: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} للمستمتعين: المسافر، والحاضر، لكلّ طعام لا يصلحه إلا النار. وقال ابن زيد: المقوي: الجائع.(4/207)
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ، قال ابن كثير: أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء جعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة
وجعل ذلك مصلحة للعباد وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجرًا لهم في المعاد.
* * *(4/208)
الدرس الرابع والسبعون بعد المائتين
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } .
* * *(4/209)
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ... (82) } .
قال جمهور المفسرين: هذا قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه و (لا) مزيدة لتأكيد القسم. وعن مجاهد: قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: في السماء؛ وهذه الآية كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} . وعن ابن عباس قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين بعد، وتلا هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: نزل متفرّقًا. وقال الحسن: أراد انكدار النجوم وانتثارها يوم القيامة.
وقال ابن كثير: وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به {لَقَسَمٌ} عظيم {لَّوْ تَعْلَمُونَ} عظمته لعظّمتم المقسم به عليه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . قال البغوي: ... {إِنَّهُ} يعني: هذا الكتاب، وهو موضع القسم {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عزيز مكرّم لأنه كلام الله؛ قال بعض أهل المعاني: الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون عند الله في اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس قال: إذا أراد الله أن ينزل كتابًا نسخته السفرة فـ {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعني: الملائكة. وعن قتادة: قوله:
{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسّه المشرك النجس والمنافق(4/210)
الرجس. وفي الموطّأ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» .
وعن جابر بن زيد في قوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: القرآن ينزل من ذلك الكتاب. وقال الضحاك: زعموا أن الشياطين تنزّلت به على محمد، فأخبرهم الله أنها لا تقدر على ذلك وما تستطيعه، وما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا وهو محجوب عنهم، وقرأ قول الله: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} .
قلت: وهذا كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وعن ابن عباس: قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} ، يقول: مكذّبون غير مصدّقين {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ، يقول: شكركم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، وقال الحسن في هذه الآية: خسر عبد لا يكون حظّه من كتاب الله إلا التكذيب. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، ثم قال: ما مطر الناس ليلة قطّ إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرْنَا بَنَوْءِ كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» .(4/211)
قوله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} أي: الحلق {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي: إلى المحتضَر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بملائكتنا {وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} أي: ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} . وعن ابن عباس قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يقول: غير محاسَبين. وقال ابن زيد في قوله: {تَرْجِعُونَهَا} قال: لتلك النفس {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال البغوي: أي: تردّون نفس هذا
الميت إلى جسده بعدما بلغت الحلقوم، فأجاب عن قوله: ... {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وعن قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجواب واحد معناه: إن كان الأمر كما تقولون: أنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي، فهلا تردّون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله عز وجل فآمِنوا به. ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبيّن درجاتهم فقال: {فَأَمَّا إِن(4/212)
كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} .
وعن سعيد بن جبير في قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} ، قال: الروح: الفرح. والريحان: الرزق؛ قال قتادة: يتلقّى به عند الموت. {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ، قال: سلام من عند الله، سلّمت عليه ملائكة الله. وقال ابن زيد: سَلِمَ مما يكون. وقال مقاتل: هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيِّئاتهم ويقبل حسناتهم. وعن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثًا ثم قال -: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس،
معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال -: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون بها - يعني: على ملأ من الملائكة - إلا قالوا: ما هذه الروح الطيّبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيّعه من كلِّ سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى(4/213)
- قال -: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك
الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، فجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا - ثم قرأ -: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما(4/214)
هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي منادٍ
من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرّها وسَمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرّ! فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِمِ الساعة» . رواه أحمد وغيره. وفي رواية: «ثم يقيّض له أعمى أصمّ أبكم، وفي يده مرزبّة لو ضرب بها جبلاً لكان ترابًا، فيضربه ضربة فيصير ترابًا، ثم يعيده الله عز وجل كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الشياطين» .
وله من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحبًا بالروح الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج» . الحديث.
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} ، قال البغوي: {إِنَّ هَذَا} يعني: ما ذكر من قصة المحتضرين {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: الحقّ اليقين. وقال ابن(4/215)
كثير: أي: أن هذا الخبر لهو حقّ اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحدّ عنه {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوها في سجودكم» . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» .
* * *(4/216)
الدرس الخامس والسبعون بعد المائتين
[سورة الحديد]
مدنية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى(4/217)
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } .
* * *(4/218)
قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ... (6) } .
عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم: «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلّ شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرّ كلّ شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» . رواه أحمد وغيره. وعن عكرمة في قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قال ابن كثير: أي: يعلم السرائر إن دقّت وإن خفيت.
قوله عز وجل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى(4/219)
عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) } .
قال ابن كثير: أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحثّ على الإنفاق، {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، وقال: فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك؛ وساق حديث عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: « {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . رواه مسلم. وعن مجاهد قوله: {مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، قال: من الضلالة إلى الهدى.
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البغوي: أي: شيء لكم في ترك الإِنفاق في
سبيل الله وبالجهاد فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} ، يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسّرين. وقال الشعبي: هو صلح الحديبية. قال ابن كثير: وقد يستدلّ لهذا القول بما روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام(4/220)
سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغتم أعمالهم» . قال ابن كثير: ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة. وعن قتادة: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قال: الجنة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، قال ابن كثير: أي: فلخبرته فاوت بين ثوابهم.
قوله عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) } .
قال البغوي: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} ، يعني: على الصراط، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، يعني: عن أيمانهم؛ قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبر بالبعض عن الكلّ، وذلك دليلهم إلى الجنة. وقال قتادة: ذكر لنا(4/221)
أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عَدَن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» . وقال ابن مسعود: (يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا مَنْ نوره على إبهامه فيطفأ مرّة ويوقد مرّة) . وقال الضحاك، ومقاتل: {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم، يريد أن كتبهم التي أعطوها بإيمانهم ونورهم بين أيديهم، وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نستضيء من نوركم، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نورًا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضًا نورًا خديعة لهم، وهو قوله عز وجل: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فبينا هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحًا وظلمة فأطفأت نور المنافقين، فذلك قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سُلب نور المنافقين {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} فاطلبوا هناك لأنفسكم
نورًا، فإنه لا سبيل لكم إلا الاقتباس من نورنا، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين؛ وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} وهو حائط بين الجنة والنار {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} ، أي: في باطن ذلك السور الرحمة وهي: الجنة، {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو: النار {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصلّي ونصوم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} ، أهلكتموها بالنفاق والكفر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلّها فتنة {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالإِيمان والتوبة {وَارْتَبْتُمْ} تشكّكتم {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الأباطيل وما كنتم تتمنّون من نزول الدوائر(4/222)
بالمؤمنين {حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ} ، يعني: الموت، {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، يعني: الشيطان. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يعني: المشركين {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} صاحبكم وأولى بكم لما أسلفتم من الذنوب، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . انتهى ملخصًا. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } .
عن قتادة: قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ذكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع» . قال ابن كثير: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين: {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه؟ {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. قال البغوي: والمعنى: أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر ... {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني:(4/223)
الذين تركوا الإِيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه إشارة إلى أن الله تعالى يليّن القلوب بعد قسوتها برحمته كما يحيي الأرض بعد جدبها {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} أي: المتصدّقين والمتصدّقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله عز وجل {يُضَاعَفُ لَهُمْ} ذلك القرض {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ثواب حسن وهو الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال مجاهد: كلّ من آمن بالله
ورسله فهو صدّيق، وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس في قوله: ... {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، قال: هذه مفصولة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك إطّلاعه فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحبّ أن تردّنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنُقتَل كما قُتلنا أوّل مرّة، فقال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون» .
وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، أي: لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم، {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبيّن حالهم. والله المستعان.
* * *(4/224)
الدرس السادس والسبعون بعد المائتين
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ(4/225)
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } .
* * *(4/226)
قوله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ، أي: أن الحياة في هذه الدار، {لَعِبٌ} باطل لا حاصل له، {وَلَهْوٌ} فرح ثم ينقضي، {وَزِينَة} منظر تتزيّنون به، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يفخر به بعضكم على بعض، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ} ، أي: مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم ضرب لها مثلاً فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، أي: الزرّاع {نَبَاتُهُ} ما نبت من ذلك الغيث {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خضرته ونضرته، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} يتحطّم ويتكسّر بعد يبسه ويفنى، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، قال مقاتل: لأعداء الله، {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لأوليائه وأهل طاعته، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ، قال سعيد بن جبير: {مَتَاعُ الْغُرُورِ} لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة، ومن اشتغل بها فله: {مَتَاعُ} بلاغ إلى ما هو خير منه.
وقال في جامع البيان: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} الزرّاع، أو الكافرون، فإنهم أشدّ إعجابًا بخضرة الدنيا، ولم يذكر ابن جرير غير الثاني؛ وقال بعض المفسرين:(4/227)
ومعنى إعجاب الكفار: أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم، فبعث الله عليهم العاهة فصيّره كَلا شيء، ومن جعل الكفّار بمعنى الزرّاع فظاهر. قاله ابن مسعود.
وقال ابن كثير: يقول تعالى موهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقّرًا لها: ... {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} ، أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} .
قال: وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، أي: يعجب الزرّاع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزرّاع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفّار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها.
وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {سَابِقُوا} أيها الناس إلى عمل يوجب لكم: {مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ} هذه الجنة: {لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، يعني: الذين وحّدوا الله وصدّقوا رسله،
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، قال البغوي: فبيّن أن أحدًا لا يدخل الجنّة إلا بفضل الله.
قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ(4/228)
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) } .
عن ابن عباس: قوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} ، قال: هو شيء قد فرغ منه قبل أن تبرأ النفس. قال قتادة: أما: {مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} فالسنون، وأما: {فِي أَنفُسِكُمْ} فهذه الأمراض والأوصاب {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} من قبل أن نخلقها. وقال الحسن: كلّ مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، قال ابن كثير: أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل، لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، لو كان كيف يكون. وعن ابن عباس: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا، {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} منها. وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا.
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، قال البغوي: {مُخْتَالٍ} متكبّر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ} يفخر به على الناس. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ، أي: يبخلون بالواجب ويأمرون الناس بذلك. وقال ابن كثير: أي: يفعلون المنكر ويحضّون الناس عليه، {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ... (25) } .
عن قتادة: {الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} ، قال: الميزان(4/229)
العدل. وقال ابن زيد: الميزان ما يعمل الناس ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان، يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا. {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، قال: البأس الشديد: السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس به. ... {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} بعد يحفرون به الأرض والجبال وغير ذلك. قال البغوي: روي عن ابن عمر يرفعه: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد، والنار، والماء، والملح» . وقال أهل المعاني: معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} أنشأنا وأحدثنا، أي: أخرج لهم الحديد من المعادن وعلّمهم صنعته. وعن مجاهد: قوله: {وَأَنزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وجُنّة وسلاح، وأنزله ليعلم الله من ينصره. وقال البغوي: أي: أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه لأشياء ليتعامل الناس بالحقّ والعدل، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} وليرى الله {مَن يَنصُرُهُ} أي: دينه {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) } .
عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلّوا التوراة والإِنجيل، وكان(4/230)
فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئًا أشدّ علينا من شتم يشتمنا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} هؤلاء الآيات مع ما يعيبونا به في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ فدعونا، قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نردّ عليهم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في
الأرض ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نردّ عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم. قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله جلّ ثناؤه: ... {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، والآخرون قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتّخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم. قال: فلما بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا وصدّقوه فقال الله جلّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} .
قال ابن جرير: لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة، والإنجيل، وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتصديقهم به. قال: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} : القرآن وإتباعهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وعن قتادة: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها القوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ(4/231)
رِعَايَتِهَا} ، ذكر لنا أنهم رفضوا النساء واتّخذوا الصوامع. وقال ابن زيد: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعًا {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ، قال: الذين رعوا ذلك الحقّ.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، أي: فما قاموا بما التزموه حقّ القيام. وهذا ذمّ لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة. وقال ابن جرير وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ، يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله، من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أهل معاص وخروج عن طاعته والإِيمان به. انتهى. قال بعضهم: الصوفية وزان أولئك.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } .
عن مجاهد: قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} قال: ضعفين. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ الله وحقّ مواليه فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران» . وعنه أيضًا
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المسلمين واليهود(4/232)
والنصارى، كمثل رجل استعمل قومًا يعملون له عملاً يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقيّة عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقيّة يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلّوا العصر، قالوا: ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال: أكملوا بقيّة عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا فأستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقيّة يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» . رواه البخاري.
وعن ابن عباس: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} ، قال: الفرقان واتباعهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} ، قال قتادة: حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، قال البغوي: أي: ليعلم و (لا) صلة {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أي: ليعلم الذين يؤمنوا
أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
* * *(4/233)
الدرس السابع والسبعون بعد المائتين
[سورة المجادلة]
مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن(4/234)
ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ(4/235)
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) } .
* * *(4/236)
قوله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) } .
روى الإِمام أحمد وغيره عن عائشة قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلّمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية) . وفي رواية ابن أبي حاتم قالت: (تبارك الذي أوعى سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول: يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونشرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهَرَ منّي! اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي(4/237)
زَوْجِهَا} قالت: وزوجها أوس بن الصامت) . وفي رواية: (وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«حرمت عليه» . فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك شيء» . فقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، وإن لي صبية صغارًا إن أرسلتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، اللهمّ إني أشكو إليك؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الآيات) . وعن قتادة في قول الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} ، قال: ذاك أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة؛ قالت: يا رسول الله كبر سنّي ورقّ عظمي وظاهر منّي زوجي؛ قال: فأنزل الله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} إلى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يريد أن يغشى بعد قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فدعاه إليه نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هل تستطيع أن تعتق رقبة» ؟ قال: لا. قال: ... «أفتسطيع أن تصوم شهرين متتابعين» ؟ قال: إنه إذا أخطأه أن يأكل كل يوم ثلاث مرات لَكَلّ بَصَرُهُ، قال: «أتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا» ؟ قال: لا، إلا أن يعينني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعون وصلاة؛ فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعًا. وجمع الله له أمره، {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعن أبي قلابة قال: كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، الذي إذا تكلّم به أحدهم لم يرجع في امرأته أبدًا، فأنزل الله عز وجل فيه
ما أنزل. وعن قتادة: {مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} ، قال: الزور الكذب، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً(4/238)
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يقول: يعادون الله ورسوله {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} خُزُوا كما خزي الذين من قبلهم. قال ابن كثير: كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم، {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: واضحات {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: في مقابلة ما استكبروا عن إتّباع شرع الله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} أي: ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: لا يغيب عنه شيء.
ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه وإطّلاعه عليهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ} أي: من سرّ ثلاثة: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، فهو سبحانه وتعالى مطّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. ثم قال تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. وقال الضحاك: هو فوق العرش، وعلمه معهم أينما كانوا.(4/239)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) } .
عن مجاهد في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} ، قال: اليهود. وقال مقاتل: كان بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مرّ بهم الرجل من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلسوا يتناجون بينهم حتى يظنّ المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى فلم ينتهوا، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ} . وعن مجاهد في قوله: {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} ، قال: يقولون: سام عليكم. وفي حديث أنس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليك» . قال ابن زيد: السام الموت.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} ، قال البغوي: يريدون: لو كان نبيًّا حقًّا لعذّبنا الله بما نقول. قال الله عز وجل: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وعن قتادة: قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنون ويكبر عليهم، فأنزل الله في ذلك القرآن. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال(4/240)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون ثالثهما، فإن ذلك يحزنه» .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ، كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض، {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} يقول: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} إن بالعلم لأهله فضلاً، وإن له على أهله حقًا، ولعمري لِلحقّ عليك أيها العالم فضل، والله معطي كلّ ذي فضل فضله. وكان مطرف بن عبد الله بن الشّخّير يقول: فضل العلم أحبّ إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع.
وعن مجاهد في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ، قال: نهوا عن مناجاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى يتصدّقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدّم دينارًا فتصدّق به، ثم أنزلت الرخصة. وعن قتادة: قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فريضتان واجبتان لا رجعة لأحد فيهما، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الصدقة في النجوى.(4/241)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) } .
عن قتادة: قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ، إلى آخر الآية. قال: هم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم، {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} ، قال البغوي: يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود والكافرين، كما قال: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} . {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كذبة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن(4/242)
أنفسهم وأموالهم. وعن قتادة في قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} قال: إن المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ} ، قال البغوي: غلب واستولى {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} ، الأسفلين، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، قال الزجاج: غلبة الرسل على نوعين: من بُعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجّة.
وقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ، قال ابن كثير: أي: لا يوادّون المحادّين ولو كانوا من الأقربين. وقال في جامع البيان: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، يعني: لا يجتمع الإِيمان ومحبّة أعداء الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} ، الذين لم يوادّوهم، {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} ، أثبته فيها {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} . قال ابن جرير: يقول: وقوّاهم ببرهان منه، ونور وهدى، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} ، قال ابن جرير: رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا، {وَرَضُوا عَنْهُ} ، في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} يقول: أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
* * *(4/243)
الدرس الثامن والسبعون بعد المائتين
[سورة الحشر]
مدنية، وهي أربع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن(4/244)
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ
مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ(4/245)
يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } .
* * *(4/246)
قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) } .
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة النضير. وقال البغوي: قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة، فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله منهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنه النبيّ وجدنا نعته في التوراة، لا نردّ له رأيه، فلما غزا أحدًا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون(4/247)
كلمتهم واحدة على محمد، ودخل أبو سفيان في أربعين، وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأمتار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبريل فأخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما تعاقد عليه كعب، وأبو سفيان، فأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع منهم على خيانة، حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ في منصرفه من بئر معونة، فهمّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن، فعصمه الله وأخبره بذلك، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة.
فلما سار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد داهية على إثر داهية، وباكية على إثر باكية؟ قال: ... «نعم» قالوا: ذرنا نبكي شجونًا ثم ائتمر بأمرك، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب وأذّنوا بالقتال، ودسّ المنافقون عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصركم، ولئن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزقة وحصّنوها، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلوا إليه: أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثين، حتى نلتقي بمكان نَصَفٍ بيننا وبينك، فيستمعوا منك فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا
كلّنا، فخرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تتخلّصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلّهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحون ستّون رجلاً؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلّنا بك وصدّقناك، فخرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة من أصحابه، وخرج(4/248)
ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فسارّه بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت الإِبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، ففعلوا وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات، وأريحا، إلا أهل بيتين منهم آل الحقيق، وآل حييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فذلك قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} . قال ابن عباس: من شكّ أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية. انتهى ملخصًا.
وعن قتادة: قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} جعلوا يخربونها من أجوافها، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها. قال الزهري: لما صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها. وعن يزيد بن رومان: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء} وكان لهم من الله نقمة، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ، أي: بالسيف، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ذلك. وعن مجاهد في قوله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} ، قال: نخلة. قال: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإِثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} الآية. يقول: ما قطعتم إليها واديًا ولا سرتم إليها سيرًا، وإنما كان حوائط لبني النضير، طعمة أطعمها الله رسوله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كانت أموال بني النضير مما(4/249)
أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الدراع والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل) . متفق عليه.
قوله عز وجل: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) } .
عن قتادة: قوله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، بلغني أنها الجزية. والخراج: خَراج أهل القرى. وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: (قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} ، حتى بلغ: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ثم قال: هذه لهؤلاء؛ ثم قال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء؛ ثم قرأ: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، حتى بلغ: {لِلْفُقَرَاء} . {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ} ، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامّة، فليس(4/250)
أحد إلا له فيها حقّ، ثم قال: لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه لم يعرق فيها جبينه) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، وهم الأنصار توطّنوا المدينة وآمنوا قبل قدوم المهاجرين
عليهم، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} ، أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، {مِّمَّا أُوتُوا} ، أي: مما أعطى المهاجرون دونهم من الفيء، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وعن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بريء من الشح من أدّى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» . رواه ابن جرير. وعن أبي هريرة: (أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوّمي الصبية وأطفئي المصباح، وقرّبي للضيف ما عندك. قال: فنزلت هذه الآية) .
وعن قتادة: قال: ثم ذكر الله الطائفة الثالثة فقال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} ، حتى بلغ: {إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤمروا بسبّهم. قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أن الرافضيّ الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب.(4/251)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) } .
عن قتادة: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، قال: تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. وعن ابن عباس قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يعني: بني قينقاع. وعن مجاهد: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} عامّة الناس. وعن عليّ رضي الله عنه قال: (إن راهبًا تعبّد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنّها ولها إخوة، فقال لإِخوتها: عليكم بهذا القسّ فيداويها، فجاؤوا بها قال: فداواها وكانت عنده ن فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجّك مما صنعتُ بك، اسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) .(4/252)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } .
عن قتادة: قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما زال ربّكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغد يوم القيامة. وعن سفيان: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: نسوا حقّ الله {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: حظّ أنفسهم. وعن ابن عباس قوله: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، قال: يقول: لو أنّي أنزلت هذا القرآن على جبل حمّلته إياه، تصدّع وخشع من ثِقله، ومن خشية الله، فأمر الله عزّ وجلّ الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشّع، قال: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} . وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: هو المعبود الذي لا تصح العبادة إلا له، المَلِكُ الذي لا ملك فوقه ولا(4/253)
شيء إلا دونه. وقال قتادة: {الْقُدُّوسُ} ، أي: المبارك. وقال وهب بن منبه: أي: الطاهر. وقال ابن جريج: تقدّسه الملائكة. وقال قتادة في قوله: ... {السَّلَامُ} ، الله السلام. قال ابن كثير: {السَّلَامُ} ، أي: من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله. {الْمُؤْمِنُ} ، قال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: {الْمُؤْمِنُ} ، المصدّق الموقن؛ آمن الناس بربهم فسمّاهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريم لهم بإيمانهم صدّقهم أن يسمى ذلك الاسم. وعن ابن عباس في قوله: {الْمُهَيْمِنُ} ، قال: الشهيد. وقال قتادة: {الْجَبَّارُ} ، الذي جبر خلقه على ما يشاء. {الْمُتَكَبِّرُ} ، يعني: عن كل سوء. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ(4/254)
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، قال ابن كثير: الخَلْقُ التقدير، والبرء هو: الفرى وهو التنفيذ وإبراز ما قدّره وقرّره إلى الوجود. وعن جابر بن زيد قال: إن اسم الله الأعظم هو: (الله) ألم تسمع الله يقول: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وعن معقل بن يسار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى
يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي. والله أعلم.
* * *(4/255)
الدرس التاسع والسبعون بعد المائتين
[سورة الممتحنة]
مدنية، وآياتها ثلاث عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً(4/256)
وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) } .
* * *(4/257)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) } .
قال ابن إسحاق: حدّثني محمد بن جعفر بن الزُّبير وغيره من علمائنا قال: (لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلّغه لقريش، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليّ بن أبي طالب والزُّبير بن العوّام فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابًا إلى قريش، يحذّرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم» .(4/258)
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة - حليفة بني أبي أحمد - فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها عليّ بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كُذِبْنا، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنّك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرِض، فأعرّض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطبًا، فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا» ؟ قال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرءًا ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ؛ فأنزل الله عز وجل في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، إلى آخر القصة.
قال البغوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} يعني: القرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا} أي: لأن آمنتم كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم، {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} ، هذا شرط. جوابه متقدّم وهو قوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} قال مقاتل:(4/259)
بالنصيحة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} ، أخطأ طريق الهدى {إِن يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب والقتل {وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} بالشتم {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} ، كما كفروا، يقول: لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم. {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} ، الذين عصيتم الله لأجلهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، من أهل الإِيمان، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} من المشركين، {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} ، جحدنا وأنكرنا دينكم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، يأمر حاطبًا والمؤمنين بالإقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذين معه من
المؤمنين في التبرّؤ من المشركين، {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يعني: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه: لأستغفرنّ لك، ثم تبرأ منه، {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، يقول إبراهيم لأبيه: ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به، {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم ذلك، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} ، أي: في إبراهيم ومن معه، {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، هذا بدل من قوله: {لَكُمْ} ، وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة، {وَمَن يَتَوَلَّ} ، يُعرض عن الإِيمان ويوالي الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عن خلقه، {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته. أ. هـ. ملخصًا.(4/260)
قال ابن كثير: وقوله تعالى ومن يتولّ، أي: عما أمره الله به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} كقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الغنيّ الذي قد كمل في غناه وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار.
والحميد: المستحمد إلى خلقه، أي: هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا ربّ سواه) .
قوله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) } .
قال ابن زيد في قوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} ، قال: هؤلاء المشركون وقد فعل، قد أدخلهم الله في السلم وجعل بينهم مودّة حين كان الإِسلام حين الفتح. وقال البغوي: قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنين أقرباؤهم المشركين وأظهروا لهم العدواة والبراءة، فعلم الله شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} أي: من كفار مكة مودّة، ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانًا وخالطوهم وناكحوهم ... {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(4/261)
ثم رخّص الله عز وجل في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} ، أي: لا ينهاكم الله عن برّ الذين لم يقاتلوكم
{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تعدلوا فيهم بالإِحسان والبرّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . قال ابن عباس: نزلت في خزاعة، كانوا قد صالحوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخّص الله في برّهم. وعن مجاهد: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ، قال: كفار أهل مكة.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) } .
عن أبي نضرة الأسدي قال: سُئِلَ ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء؟ قال: (كان يمتحنهنّ بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًّا لله ورسوله) . وعن المسور بن مخرمة ومروان [ابن الحكم]- في قصة الحديبية - قالا: (لما كتب سهيل بن عمرو يومئذٍ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخلّّيت
بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النّبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فردّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد(4/262)
من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهنّ: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ ... لَهُنَّ} ) . وعن مجاهد: {وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} وآتوا أزواجهنّ صدقاتهنّ.
وقال ابن زيد في قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ولها زوج، ثم لأنه فرّق بينهما الإِسلام، إذا استبرأتم أرحامهنّ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قال الزهري: فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة. وعن مجاهد في قول الله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} قال: ما ذهب من أزواج أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهنّ وليمسكوهنّ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك في صلح كان بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، قال الزهري: فأمسك رسول الله النساء وردّ الرجال، وسأل الذي أمره الله أن يسأل من صدقات النساء من حبسوا منهنّ، وأن يردّوا عليهم مثل الذي يردّون عليهم إن هم فعلوا، ولولا الذي حكم الله به
من هذا الحكم ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء كما ردّ الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية أمسك النساء ولم يردد إليهم صداقًا، وكذلك يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد. قال الزهري: أما المؤمنون فأقرّوا بحكم الله، وأما المشركون فأبوا أن يقرّوا فأنزل الله عز وجل: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، فأمر الله المؤمنين أن يردّوا الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج أن يردّ المسلمون إليه صداق امرأته من صداق إن كان في أيديهم مما أمروا أن يردّوا إلى المشركين.(4/263)
قال مجاهد: {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، يعني: مهر مثلها. قال ابن كثير: وهذا لا ينافي الأول، إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) } .
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ، إلى قوله:
{غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد بايعتك كلامًا» ، ولا والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قطّ، ما يبايعهنّ إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك» . رواه البخاري. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: جاءت أميمة بنت رفيعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبايعه على الإِسلام فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرّجي تبرّج الجاهليّة الأولى» . وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ، يقول: لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم، وقال البغوي: ليس المراد منه نهيهنّ عن(4/264)
الزنا، لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره، بل المراد منه أن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا ولدي منك؛ فهو البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ، لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها.
وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، يعني: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله. وقال الحسن: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات. وعن مجاهد في قوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، قال: من ثواب الآخرة، حين تبيّن لهم عملهم وعاينوا النار. قال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة
الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه، فكيف توالوا منهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاءً و {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل.
* * *(4/265)
الدرس الثمانون بعد المائتين
[سورة الصف]
مدنية، وآياتها أربع عشر آية
عن عبد الله بن سلام قال: (تذاكرنا أيّكم يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا رجلاً رجلاً فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة) . رواه أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)(4/266)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } .
* * *(4/267)
قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) } .
عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلّنا على أحبّ الأعمال إليه فنعمله، فأخبر الله نبيّه: أن أحبّ الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشقّ عليهم أمره فقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . وعن مجاهد في قول الله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {مَّرْصُوصٌ} فيما بين ذلك، في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا: في مجلس: لو نعلم، أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنزل الله هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدًا. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، يؤدّبهم ويعلّمهم كما تسمعون، {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ} ، وكانت رجال تخبر في القتال بشيء لم يفعلوه ولم يبلغوه، فوعظهم الله في ذلك موعظة بليغة.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} إنكار على من يعد وعدًا أو يقول قولاً لا يفي به، ولهذا
استدلّ بهذه الآية الكريمة، من(4/268)
ذهب من علماء السلف إلى أنه يحب الوفاء بالوعد مطلقًا، سواء ترتّب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجّوا أيضًا من السنَّة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» .
وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، قال البغوي: أي: عظم ذلك في المقت والبغض عند الله، أي: إن الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا ما لا تفعلون، بأن تعدوا من أنفسكم شيئًا ثم لم تفوا به؛ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} أي: يصفّون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم، {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفّوا في الصلاة، والقوم إذا صفّوا للقتال» . رواه أحمد، وابن ماجة. وقال قتادة: {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحبّ أن يختلف بنيانه، كذلك الله تبارك وتعالى لا يحبّ أن يختلف أمره، وإن الله وصف المؤمنين في قتالهم وصفّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي
مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ(4/269)
الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر ولهذا قال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يوصلوا إليه أذى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} .
وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، أي: فلما عدلوا عن إتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشكّ والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} يعني: التوراة قد بشّرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشّر بمن بعدي وهو(4/270)
الرسول النبيّ الأميّ العربيّ المكيّ أحمد، فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشّرًا بمحمد، وهو: أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبّوة. وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن لي أسماء أنا: محمد، وأنا: أحمد، وأنا: الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا: الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا: العاقب» ؛ وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} الآية. وقال محمد بن إسحاق حدّثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» .
{فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادًا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإِخلاص، ولهذا قال تعالى: ... {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . ثم قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: يحاولون أن يردّوا الحقّ بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذلك مستحيل، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .(4/271)
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره الله: {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يعني: ببيان الحقّ {وَدِينِ الْحَقِّ} ، يعني: وبدين الله، وهو الإسلام. وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يقول: ليظهر دينه الحقّ الذي أرسل به رسوله على كلّ دين سواه، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم، وحين تصير الملّة واحدة، فلا يكون دين غير الإسلام. كما حدثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي المقدام ثابت بن هرمز عن أبي هريرة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} قال: خروج عيسى ابن مريم.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فلولا أن الله بينّها ودلّ عليها المؤمنين لتلهّف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها، وقد دلّكم الله عليها وأعلمكم إياها فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، قال ابن كثير: أي: من تجارة الدنيا والكدّ لها والتصدّي لها وحدها. ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، أي: إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم(4/272)
الزلات، وأدخلتكم الجنّات، والمساكن الطيّبات، والدرجات العاليات، ولهذا قال تعالى: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . ثم قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} ، أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبّونها وهي: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، أي: إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفّل الله بنصركم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وقوله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، أي: عاجل، فهذه الزيادة هي: خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الحقّ ودينه، ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ، قال: قد كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقّه، وذُكر لنا أنه بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار، ذُكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلّها أو يسلموا. ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبيّ الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبيّ الله؟ قال: «لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة» ففعلوا، ففعل الله. وقال: إن الحواريين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام. وعن مجاهد في قوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، قال: من يتبعني إلى الله؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} ، عن مجاهد: {فَأَيَّدْنَا(4/273)
الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} قال: قوّينا {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} من آمن مع عيسى - صلى الله عليه وسلم -. قال النخعيّ: أصبحت حجّة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - كلمة الله وروحه.
وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلي أصحابه - وهم في بيت اثنا عشر رجلاً - من عين في البيت ورأسه يقطر
ماء فقال: إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيّكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ من أحدثهم سنًا فقال: أنا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشابّ، فقال أنا، قال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى من رَوْزَنَة في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود وأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرّقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون؛ فتظاهرت الطائفتان الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإِسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى والطائفة التي آمنت في زمن عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} في إظهار محمد دينهم على دين الكفار {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} .
* * *(4/274)
الدرس الحادي والثمانون بعد المائتين
[سورة الجمعة]
مدنية، وهي إحدى عشرة آية
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ(4/275)
وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } .
* * *(4/276)
قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) } .
عن قتادة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ} ، قال: كان هذا الحيّ من العرب أمة أمية ليس فيها كتاب يقرؤونه، فبعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة وهدى يهديهم به، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} . قال ابن جرير: يقول: ويطهّرهم من دنس الكفر، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قال قتادة: السنّة. وقال ابن زيد: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} كما صنع بالأولين {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} قال ابن كثير: وذلك أن العرب كانوا قديمًا متمسّكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدّلوه وغيّروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها وغيّروها وأوّلوها، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقرّبهم إلى النار
وسخط الله تعالى. حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع.(4/277)
وعن مجاهد في قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال: الأعاجم. وعن أبي هريرة قال: كنا جلوس عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فنزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال رجل من هؤلاء: يا رسول الله، قال: فلم يراجعه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى سأله مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سليمان الفارسيّ فوضع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان فقال: «لو كان الإِيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء» . رواه ابن جرير. وقال ابن زيد: «هؤلاء» كلّ من كان بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، كلّ من دخل في الإسلام من العرب والعجم. وعن مجاهد في قول الله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال: من ردف الإِسلام من الناس كلُّهم. وعن سهل بن سعد الساعديّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» . ثم قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يعني: بقية من بقي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. رواه ابن أبي حاتم. قال في جامع البيان: وكلّ من أسلم صار منهم. قال: المسلمين كلّهم أمة واحدة.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره. وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، يعني: ما أعطاه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من النبوّة العظيمة، وما خصّ به أمته من بعثه - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ(4/278)
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) } .
عن قتادة: قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} ، قال: يحمل كتابًا لا يدري ماذا عليه ولا ماذا فيه. قال الضحاك: ضرب الله هذا مثلاً للذين أُعطوا التوراة ثم كفروا. وقال ابن عباس: والأسفار: الكتب، فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يتّبع ما فيه كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل لا يدري ما فيه، ثم قال: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية. وفي الحديث الصحيح: «من تكلّم يوم الجمعة والإِمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا» .
قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمدًا وأصحابه على ضلالة
فادعوا بالموت على الضالّ من الفئتين {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: فيما تزعمونه قال الله تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، قال قتادة: إن الله أذلّ ابن آدم بالموت. وفي معجم الطبراني عن الحسن عن سمرة مرفوعًا: «مثل الذي يفرّ من(4/279)
الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين فجاء يسعى، حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني، فخرج له حصاص، فلم يزل كذلك حتى تقطّعت عنقه فمات» .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، والسعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك وعملك، وهو السير إليها. وعن سالم بن عبد الله قال: كان عمر رضي
الله عنه يقرأها: فامضوا إلى ذكر الله. وقال ابن زيد: إذا سمعتم الدعاء الأول فأجيبوا إلى ذلك وأسرعوا ولا تبطئوا، ولم يكن في زمان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصلاة. وعن سعيد بن المسيب: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، قال: فهي موعظة الإِمام. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» . وعن أبي أيوب الأنصاريّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(4/280)
«من اغتسل يوم الجمعة، ومسّ من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلّي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» . رواه أحمد.
قال ابن كثير: اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني، وقال: فأما النداء الأول الذي زاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنما كان هذا لكثرة الناس، كما رواه البخاريّ عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي وبكر، وعمر، فلما كان عثمان
بعد زمن وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء، يعني: يؤذّن على الدار التي تسمى الزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد.
وعن الضحاك في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ، قال: هذا إذن من الله، فمن شاء خرج ومن شاء جلس. وقال ابن زيد: أذن الله لهم إذا فرغوا من الصلاة فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} . وكان عراك بن مالك إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: (اللهمّ إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين) . وعن أبي مالك قال: (قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يُسْبَقُوا إليه، قال: فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا(4/281)
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ) . وعن جابر بن عبد الله قال: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة، فمرّت عير تحمل الطعام، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً، فنزلت آية الجمعة) . قال قتادة: لو اتّبع آخرهم أوّلهم لألتهب عليهم الوادي نارًا. وعن مجاهد قال: اللهو: الطبل. وروى أبو داود في المراسيل عن مقاتل بن حيان قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب وقد صلّوا الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة، يعني: فانفضّوا ولم يبق معه إلا نفر يسير) .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} أي: الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة، {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، أي: لمن توكّل عليه وطلب الرزق في وقته.
* * *(4/282)
الدرس الثاني والثمانون بعد المائتين
[سورة المنافقون]
مدنية، وهي إحدى عشر آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ(4/283)
اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) } .
* * *(4/284)
قوله عز وجل: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) } .
قال البغوي: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} ، يعني: عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا و {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ، سترة {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ، منعوا الناس عن الجهاد والإِيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} أقرّوا باللسان، {ثُمَّ كَفَرُوا} إذا خلوا إلى المشركين، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، بالكفر، {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} الإِيمان {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} ، يعني: أن لهم أجسامًا ومناظر، {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أنه صدق. قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أبيّ جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: لا يسمعون صوتًا في العسكر بأن نادى مناد، أو انفلتت دابّة، أو أنشدت ضالّة إلا
ظنّوا من جبنهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك، وظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب، ثم(4/285)
قال: {هُمُ الْعَدُوُّ} هذا ابتداء وخبره {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تأمنهم {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم الله {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يصدفون عن الحقّ. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيّتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل صخب بالنهار» . رواه أحمد.
قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) } .
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة -، يعني: مرجعه من أحد - وكان عبد الله بن أبيّ ابن سلول له مقام يقومه كل جمعة، لا ينكر شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفًا، إذا جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله به وأعزّكم به فانصروه وعزّروه واسمعوا له
وأطيعوا ثم يجلس؛ حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع -، يعني: مرجعه بثلث الجيش - ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدوّ الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطّى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بحرًا(4/286)
أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب عليّ رجال من أصحابه يجذبونني ويعنّفونني، لكأنما قلت بحرًا أن قمت أشدد أمره قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي.
وقال قتادة: (أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ، وذلك أن غلامًا من قرابته انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدّثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يحلف ويتبرّأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعذلوه، وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعبد الله: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يلوي رأسه، أي: لست فاعلاً) .
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق: فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم هناك، اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاريّ - وكان أجيرًا لعمر بن الخطاب - وسنان بن يزيد، قال ابن إسحاق: فحدّثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد
ابن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبيّ، فلما سمعها قال: قد شاورونا في بلادنا، والله ما مَثَلُنا وجلابيب قريب هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحوّلوا عنكم من بلادكم إلى غيرها؛ فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه، فذهب بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غُلَيْمٌ، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره الخبر فقال: عمر يا رسول الله مر عبّاد بن بشر فليضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(4/287)
«فكيف إذا تحدّث الناس يا عمر أن محمدًا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن نادِ يا عمر بالرحيل» .
فلما بلغ عبد الله بن أبيّ أن ذلك قد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم، وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل؛ وراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجّرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلّم عليه بتحيّة النبوّة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبيّ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعزّ منها الأذلّ» ، قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل؛ ثم قال: أرفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاء الله بك وإننا لننظم له الخرز لنتوّجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكًا. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس حتى أمسوا
وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتدّ الضحى، ثم نزل بالناس يشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مسّ الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين. وفي روايته عند الإِمام أحمد قال: فأتيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فحلف عبد الله بن أبيّ أنه لم يكن شيء من ذلك، فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا. فانطلقت فنمت كئيبًا حزينًا، فأرسل إليّ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله قد أنزل عذرك وصدقك» ، قال: فنزلت هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} حتى بلغ: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . وذكر عكرمة وغيره أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله على باب المدينة واستلّ سيفه، فجعل الناس يمرّون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبيّ قال له ابنه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ ! فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(4/288)
وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه، فقال ابنه: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس
فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» . وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنّفونه ويتوعّدونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلتُه يوم أمرتني بقتله، لأرعدت له آنفٌ لو أمرتُها اليوم بقتله لَقَتَلْتَهُ» ؟ ، فقال عمر: قد والله علمت لأمْرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري. رواه ابن جرير.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) } .
عن الضحاك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال: الصلوات الخمس. وعن ابن عباس: قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكّي؟ وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت(4/289)
فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها؟ فقال رجل: أما تتّقي الله؟ يسأل المؤمن الكرّة؟ قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا؟ فقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن
قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} ، قال: أؤدّي زكاة مالي.
{وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، قال: أحجّ، فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ؟ قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه. وقال الضحاك في قوله: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} ، إلى آخر السورة: هو الرجل المؤمن، نزل به الموت وله مال كثير لم يزكّه ولم يحجّ منه ولم يعط منه حقّ الله يسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكّي، قال الله: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، قال ابن جرير: يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو يجمعها، محيط لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
* * *(4/290)
الدرس الثالث والثمانون بعد المائتين
[سورة التغابن]
مدنية، وهي ثمان عشرة آية
وقال عطاء: مكية إلا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} إلى آخر السورة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ(4/291)
صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } .
* * *(4/292)
قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) } .
قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا، والمعنى: أن الله تعالى علم ما هم عاملون، فخلقهم على ذلك وأمرهم بالإيمان، وهو البصير بمن يستحقّ الهداية ممن يستحقّ الضلال، وهو الشهيد على أعمالهم، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل والحكمة ... {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: أحسن أشكالكم {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، قال ابن جرير: يقول جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده وما تنطوي عليه نفوسهم الذي هو أخفى من السر، لا يعزب عنه شيء من ذلك.
قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ(4/293)
ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن الكفار والمشركين والملحدين، أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي: لتخبرنّ بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: بعثكم ومجازاتكم، وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم بربّه عزّ وجلّ على وقوع المعاد ووجوده. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} وهو القرآن ... {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قال قتادة: هو يوم القيامة، وهو يوم التغابن غبن أهل الجنة أهل النار. وقال مقاتل بن حيان: لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء الجنة ويذهب بأولئك إلى النار. قال ابن كثير: وقد فسّر بذلك قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ(4/294)
فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) } .
عن ابن عباس: قوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أنما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيسلّم لذلك ويرضى. وفي الحديث المتفق عليه: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» .
قال ابن كثير: وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع، وفِعْلِ ما به أمر، وتَرْكِ ما عنه نهى وزجر.
ثم قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، أي: إن نكلتم عن العمل، فإنما عليه ما حُمّل من البلاغ، وعليكم ما حُمّلتم من السمع والطاعة، قال الزهريّ: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. ثم قال تعالى مخبرًا أنه: الأحد الصمد الذي لا إله غيره، فقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ} فالأول خبر عن التوحيد، ومعناه معنى الطلب، أي: وحّدوا الإِلهية له وأخلصوها لديه، وتوكّلوا عليه، كما قال تعالى: ... {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ(4/295)
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } .
عن عكرمة قال: سأل رجل ابن عباس عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، قال: هؤلاء رجال أسلموا فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} الآية. وقال عطاء: (نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد أن يغزو، بكوا إليه ورقّقوه، وقالوا: إلى ما تدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك، وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة) . وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية، قال: منهم من لا يأمر بطاعة الله ولا ينهى عن(4/296)
معصيته، وكانوا يبطّئون عن الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الجهاد. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} ، قال يقول: عدوًّا لكم في دينكم فاحذروهم على دينكم. وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، أي: اختبار وابتلاء، {وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذهما فرفعهما فوضعهما في حجره ثم قال: «صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ من خطبته» . رواه ابن جرير وغيره.
وعن قتادة: قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} هذه رخصة من الله والله رحيم بعباده. وكان الله جل ثناؤه أنزل قبل ذلك: {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وحقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى، ثم
خفّف الله تعالى ذكره عن عباده فأنزل الرخصة بعد ذلك فقال: ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، فيما استطعت يا ابن آدم عليها بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فيما استطعتم.
وقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ} ، قال ابن كثير: أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات وأحسنوا إلى خلق(4/297)
الله كما أحسن الله إليكم يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة. قال البغوي: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حتى يعطي حقّ الله من ماله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وعن ابن مسعود: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ، قال: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله. وقوله تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، يكفّر عنكم سيّئاتكم {وَاللَّهُ شَكُورٌ} ، أي: يجزي على القليل بالكثير {حَلِيمٌ} يستر ويصفح ويغفر {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما يغيب عن أبصار الناس وما يشاهدونه ... {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره.
* * *(4/298)
الدرس الرابع والثمانون بعد المائتين
[سورة الطلاق]
مدنية، وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ(4/299)
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) } .
* * *(4/300)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) } .
قال ابن كثير: خوطب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أوّلاً تشريفًا وتكريمًا، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وقال ابن مسعود: الطلاق للعدّة طاهرًا من غير جماع. وعن مجاهد: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال له أنه طلّق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولم تتّق الله فيجعل لك مخرجًا وقرأ هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ} من قبل عدّتهنّ.
وعن الحسن في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا من غير حيض، أو حاملاً قد استبان حملها. وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: لطهرهنّ. وعن الضحاك في قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: العدّة القرء،
والقرء: الحيض، والطاهر: الطاهر من(4/301)
غير جماع، ثم تستقبل ثلاث حيضات. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} والعدّة أن يطلّقها طاهرًا من غير جماع. وقال طاووس: إذا أردت الطلاق فطلّقها حين تطهر قبل أن تمسّها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء فإن واحدة تبينها. وقال ابن زيد في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: إذا طلّقها للعدّة كان ملكها بيدك، من طلّق للعدّة جعل الله له في ذلك فسحة، وجعل له ملكًا إن أراد أن يرجع قبل أن تنقضي العدّة ارتجع. وعن السدي في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا في غير جماع، فإن كانت لا تحيض، فعند غرّة كلّ هلال. وعن ابن عمر قال: طلَّقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بذلك فقال: «مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلّقها قبل أن يجامعها، وإن شاء أمسكها، فإنها العّدة التي قال الله عز وجل» . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عباس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يقول: لا يطلّقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلّقها تطليقة، فإن كانت تحيض فعدّتها ثلاث حيضات، وإن كانت لا تحيض فعدّتها ثلاث أشهر، وإن كانت حاملاً فعدّتها أن تضع حملها.
وعن السدي: قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ، قال: احفظوا العدّة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} حتى تنقضي عدّتهن.
وقال ابن جريج: قال عطاء إن أذن لها أن تعتدّ في غير بيته فتعتدّ في بيت أهلها فقد شاركها إذًا في الإثم، ثم تلا: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قلت: هذه الآية في هذه؟ قال: نعم. وقال الضحاك: ليس لها أن تخرج إلا بإذنه، وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدّة، فإن خرجت فلا سكنى لها ولا نفقة. وعن قتادة: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وذلك إن طلّقها واحدة أو اثنتين،(4/302)
لها العدّة والنفقة والسكنى، ما لم يطلقها ثلاثًا. وعن ابن عباس قال الله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قال: الفاحشة المبيّنة أن تبذوا على أهلها. وفي رواية: الفاحشة هي: المعصية. قال ابن جرير: فالزنا من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأيّ ذلك فعلت وهي في عدّتها فلزوجها إخراجها من بيتها، ذلك لإِتيانها بالفاحشة التي ركبتها.
وعن الضحاك في قول الله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ، يقول: تلك طاعة الله فلا تعتدوها يقول: من كان على غير هذه فقد ظلم نفسه. عن الزهريّ: (أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي حفص المخزومي، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّر عليًّا على بعض اليمن، فخرج معه فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: لا والله ما لها علينا نفقة إلا أن نتكون حاملاً، فأتت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملاً
واستأذنته في الانتقال فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: «عند ابن أمّ مكتوم» . وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى أنكحها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد حين مضت عدّتها، فأرسل إليها مروان بن الحكم يسألها عن هذا الحديث فأخبرته، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة: بيني وبينكم الكتاب قال الله جلّ ثناؤه: ... {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى بلغ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، قالت: فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ وإنما هو في مراجعة الرجل امرأته) . رواه ابن جرير. وعن قتادة: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي: مراجعة. وقال ابن زيد: لعلّ الله يحدث في قلبك تراجع زوجتك.(4/303)
وعن الضحاك: قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، يقول: إذا انقضت عدّتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف: أن تحسن صحبتها، أو تسريح بإحسان، والتسريح بإحسان: أن تدعها حتى تمضي عدّتها ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلّقها، فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قدر الميسرة. وقال ابن عباس: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدّتها أشهد رجلين كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عند الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن لم يراجعها فإذا
انقضت عدّتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره. وعن السدي في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} قال: اشهدوا على الحقّ، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال عكرمة: من طلّق كما أمره الله يجعل له مخرجًا.
وعن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} يقول سبحانه: من كلّ كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، قال مسروق: من حيث لا يدري. وعن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال: يعني بالمخرج واليسر إذا طلّق واحدة ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدّتها ولم يراجعها، كان خاطبًا من الخطّاب، وهذا الذي أمر الله به وهكذا طلاق السنَّة؛ فأما من طلّق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنّة، وعصى الربّ وأخذ العسر. وعن سالم بن أبي الجعد في قوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «اتّق الله وأصبر» . فرجع فوجد ابنًا له كان أسيرًا قد فقد من أيديهم وأصاب أعنزًا، فجاء فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تطيب لي يا رسول الله؟ قال:(4/304)
«نعم» . وعن الربيع بن خيثم: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: من كل شيء ضاق على الناس. وعن قتادة: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال من
شبهات الأمور، والكرب عند الموت {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} من حيث لا يأمل ولا يرجو، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، قال البغوي: يتّق الله فيما نابه كفاه ما أهمّه. وروينا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصًا وتروح بِطانًا» . {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} ، أي: منفّذ أمره مُمْضٍ في خلقه قضاءه. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} ، أي: جعل الله لكلّ شيء من الشدّة والرخاء أجلاً ينتهي إليه. وفي حديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك» . الحديث.
قوله عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ(4/305)
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) } .
عن الزهري: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ، قال: في كِبَرِها أن يكون ذلك من الكِبَر، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر، فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابّة، فإنه يتأنّى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل، فإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها فحتى يستبين بها وأقصى ذلك سنة. وعن أبيّ بن كعب أنه قال: يا رسول الله إن عددًا من عدد النساء لم تُذكر في الكتاب: الصغار، والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل الله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ؛ وفي رواية: لما نزلت هذه الآية: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قلت: يا رسول الله المتوفّى عنها زوجها، والمطلّقة؟ قال: «نعم» . رواه ابن جرير. وعن عكرمة قال: إن من الريبة المرأة المستحاضة والتي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارًا وفي الأشهر مرة، فعدّتها ثلاثة أشهر.
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال البغوي: يسهّل عليه أمر الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ} ، يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} . وعن السدي في قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} ، قال: المرأة يطلّقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها. وعن(4/306)
مجاهد في قوله: {مِّن وُجْدِكُمْ} قال: من سعتكم. وعن سعيد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} فإن لم
تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه. وعن مجاهد: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، قال: في المسكن.
وعن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فهذه المرأة يطلّقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، وإن أبان طلاقها وليس بها حمل، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملاً أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل: ... {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} فإن لم تكن حاملاً فإن نفقتها كانت من مالها.
وعن قتادة: قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هي أحقّ بولدها أن تأخذه بما كنت مسترضعًا به غيرها. وعن الضحاك أنه قال في الرضاع: إذا قام على شيء فأمّ الصبيّ أحقّ به، فإن شاءت أرضعته وإن شاءت تركته، إلا أن لا يقبل من غيرها، فإذا كان كذلك أجبرت على رضاعه. وعن السدي في قوله: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} ، قال: اصنعوا المعروف فيما بينكم {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} قال: إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلّقها أبوه، التمس له مرضعة أخرى؛ الأم أحقّ إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها، فلا ينبغي لها أن يُنتزع منها. وقال سفيان: إن هي أبت أن ترضعه ولم
تُوَاتِكَ فيما بينها وبينك، عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى. وقال ابن زيد في قول الله: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال: فرض لها من قدر ما يجد، فقالت: لا أرضى هذا، قال: وهذا بعد الفراق، فأما وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت، فقال لها: ليس(4/307)
لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي، وإن كرهت استرضعت ولدي، فهذا قوله: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . وعن السدي: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} ، قال: من سعة موجده، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ، قال: من قتر عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال ابن زيد: فرض لها من قدر ما يجد.
وعن مجاهد: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} قال: على المطلّقة إذا أرضعت له. وعن السدي في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} قال يقول: لا يكلّف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ. وعن سفيان: ... {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} بعد الشدّة الرخاء. وعن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل له: (إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام. فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع إذا هو أخذها؛ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام فجاء الرسول فأخبره فقال: رحمه الله تأوّل هذه الآية: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} .
قوله عز وجل: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) } .
عن السدي في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} قال: غيّرت وعصت. وعن ابن عباس: قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} يقول: لم(4/308)
نرحم، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} قال السدي: عقوبة أمرها. وقال ابن زيد: ذاقت عاقبة ما عملت من الشرّ {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} قال مجاهد: جزاء أمرها {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ} قال السدي: ذوي العقول {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} قال ابن كثير: يعني: القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وقوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، قال بعضهم: {رَّسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة، لأن
الرسول هو الذي بلّغ الذكر؛ وقال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني: تفسيرًا له، ولهذا قال تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، أي: في حالة كونها بيّنة واضحة جليّة، {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، وقال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان والعلم، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} ، قال البغويّ: يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى: ذلك الله الذي خلق سبع سماوات لا ما تعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء. وعن ابن مسعود قال: (خلق الله سبع سماوات غلظ، كلّ واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين(4/309)
كلّ واحدة منهنّ خمسمائة عام، وفوق السبع السماوات الماء والله جلّ ثناؤه فوق الماء، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرض سبع وبين كلّ أرض خمسمائة عام) ، وغلظ كلّ أرض خمسمائة عام. وعن مجاهد قوله: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} ، قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: سبعًا أيضًا، كما ثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» . وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع
أرضين» . ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث.
قال البغوي: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} في العدد، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى. قال أهل المعاني: هو ما يدبّر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر، ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال. وقال قتادة: في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخفى عليه شيء.
* * *(4/310)
الدرس الخامس والثمانون بعد المائتين
[سورة التحريم]
مدنية، وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ(4/311)
يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) } .
* * *(4/312)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) } .
عن زيد بن أسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} قال زيد: فقوله: «أنت عليّ حرام» لغو. رواه ابن جرير. وعن مسروق قال: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرّم، فعوتب في التحريم وأُمر بالكفّارة في اليمين. وعن ابن عباس في قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أمر الله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا حرّموا شيئًا مما أحلّ الله لهم، أن يكفّروا أيمانهم بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وليس يدخل ذلك في طلاق. وعن سعيد
بن جبير أن ابن عباس كان يقول: في الحرام يمين يكفّرها، وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ(4/313)
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ الآية قال: (كان حرّم فتاته القبطيّة - أم ولده إبراهيم يقال لها مارية - في يوم حفصة، وأسرّ ذلك إليها، فاطّلعت عليه عائشة، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه، فأمر أن يكفّر عن يمينه، عوقب في ذلك فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال قتادة: وكان الحسن يقول: حرّمها عليه فجعل الله فيها كفارة يمين) .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا، قال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ أغلظ الكفّارات عتق رقبة) . رواه النسائي. وعن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ قال حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرّيته.
قال ابن كثير: ومن ها هنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفّارة على من حرّم جاريته أو زوجته، أو طعامًا أو شرابًا، أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإِمام أحمد وطائفة؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفّارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا
حرّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما، في قول؛ فأما إذا نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما. انتهى.
وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جَحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواطأت أنا وحفصة: أنّ أَيَّتَنَا دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له(4/314)
فقال: «لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا» . وفي رواية: فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لعائشة وحفصة. ... {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله: «بل شربت ... عسلاً» . رواه البخاري.
وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} قوله لها: «لا تذكريه» . {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} وكان كريمًا - صلى الله عليه وسلم - {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} ؟ ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها، {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . وعن ابن عباس قوله: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما وعن قتادة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: مالت قلوبكما. قال في جامع البيان: أي: إن تتوبا فقد حقّ لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحقّ قلوبكما وصدر منكما ما يوجب التوبة. {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} بما
يسوءه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى يحجّ عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإِداوة، فتبرّز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضّأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس - قال الزهريّ كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: - هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قرش قومًا تغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار(4/315)
أمية بن زيد بالعوالي، قال: فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسأليه شيئًا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرّنّك أن كانت
جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله منك - يريد عائشة - قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عِشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: وما ذاك؟ جاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظنّ هذا كائنًا؛ حتى إذا صلّيت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلّقكنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلامًا له أسود فقلت: استأذن لعمّه، فدخل الغلام ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل قد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذ هو متّكئ على رمل حصير - وفي رواية رمال حصير - قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه(4/316)
إليّ وقال: «لا» . فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر
قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسرت، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، فتبسّم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: «نعم» . فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا وقال: «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» . فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرًا من شدّة موجدته عليهنّ، حتى عاتبه الله عز وجل) . متفق عليه. واللفظ لأحمد.
وفي رواية لمسلم: (لما اعتزل نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب، فقلت: لأعلمّن ذلك اليوم. فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما، إلى أن قال فقالت: يا رسول
الله ما يشقّ عليك من أمر النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكاييل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلّمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي، فنزلت هذه الآية: آية التخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ(4/317)
أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} ، {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلّقتهنّ؟ قال: «لا» . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلّق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وعند البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فنزلت هذه الآية. وعند أبي حاتم قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستقريتهنّ أقول: لتكفّنّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ليبدلنّه الله أزواجًا خيرًا منكنّ، حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين -، يعني: أم سلمة - فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ؟ فأمسكت، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
وقال ابن زيد في قول الله: {قَانِتَاتٍ} ، قال: مطيعات. وعن ابن عباس في قوله: {سَائِحَاتٍ} قال: صائمات. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي: منهن ثيّبات وأبكارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوّع يبسط النفس، ولهذا قال: {ثَيِّبَاتٍ} ومنهن {وَأَبْكَاراً} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)(4/318)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) } .
عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ، قال: علّموهم وأدّبوهم. وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينجّيكم الله من النار. وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله. وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} ، قال: هي الصادقة الناصحة. وقال عمر بن الخطاب: هو العبد يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أبدًا. وقال مجاهد: يستغفرون ثم لا
يعودون. وعن أبيّ بن كعب قال: (قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة منها: نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا) . قال زرّ فقلت لأبيّ بن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا» . رواه ابن أبي حاتم. قال العلماء: التوبة النصوح: أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل؛ ثم إن كان الحقّ لآدمي ردّه إليه بطريقة. {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ(4/319)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} قال البغوي: أي: لا يعذّبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} على الصراط {يَقُولُونَ} إذا طفئ نور المنافقين {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
(10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ... (12) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، قال: أمر الله نبيّه عليه السلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ، قال ابن جرير: يقول: واشدد عليهم في ذات الله {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وعن ابن عباس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} ، قال: كان خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها؛ وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ(4/320)
شَيْئاً} . وقال عكرمة: كانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، قال قتادة: لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون.
قال في جامع البيان: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي: جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لهم، أو مثّل لهم مثلاً مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيًّا لا ينفع مع الكفر؛
قيل: هذا تخويف لعائشة وحفصة. انتهى وقال بعضهم: وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقّهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين.
وقال البغوي: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لم يدفعا عنهما مع نبوّتهما عذاب الله، {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} قطع الله بهذه الآية طمع كلّ من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره؛ ثم أخبر أن معصية غيره لا تضرّه إذا كان مطيعًا فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} ، وهي: آسية بنت مزاحم. قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، فلما تبيّن لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس. قال سلمان: (كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته) . وفي القصة: أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلما أتوها بالصخرة {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} فأبصرت بيتها في الجنّة من درّة وانتزع روحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألمًا.
قال ابن كثير: فقولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ، قال العلماء:(4/321)
اختارت الجار قبل الدار {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي: خلّصني منه فإني أبرأ إليك من عمله {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} ، قال قتادة: يقول: آمنت بعيسى وهو كلمة الله {وَكُتُبِهِ} يعني: التوراة والإِنجيل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} من المطيعين. وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . وعن ابن عباس قال: خطّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة خطوط وقال: «أتدرون ما هذا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» . رواه أحمد. وروى ابن عساكر عن ابن عمر قال: (جاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرّت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشّرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب، لا نَصَبَ فيه ولا صَخَبَ، من لؤلؤة جوفاء، بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم) . والله أعلم.
* * *(4/322)
الدرس السادس والثمانون بعد المائتين
[سورة الملك]
مكية، وهي ثلاثون آية
روى أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} » .
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ(4/323)
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30) } .
* * *(4/324)
قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) } .
قال ابن كثير: يمجّد تعالى نفسه الكريمة ويخبر أنه بيده الملك، أي: هو المتصرّف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا معقب لحكمه ولا يُسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وعن قتادة في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ، قال: أذلّ الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال الفضيل بن عياض: {أَحْسَنُ عَمَلاً} أخلصه وأصوبه، وقال: العمل لا يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنّة. {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} قال قتادة: من اختلاف {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} يقول: هل ترى من خلل يا ابن آدم؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً} قال: صاغرًا {وَهُوَ حَسِيرٌ} ،
يقول: معيّ لم ير خللاً ولا تفاوتًا، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} قال: إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال:(4/325)
خلقها زينة للسماء الدنيا ورجومًا للشيطاطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن ينال منها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظّه، وأضاع نصيبه وتكلّف ما لا علم به.
قوله عز وجل: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) } .
عن مجاهد: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} يقول: تغلي كما يغلي القدر {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، قال ابن عباس: تكاد يفارق بعضها بعضًا وتتفطر. وقال ابن زيد: {مِنَ الْغَيْظِ} على أهل معاصي الله غضبًا لله وانتقامًا له. وعن ابن عباس: قوله: {فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، يقول: بعدًا.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره إن الذين يخافون ربهم بالغيب يقول وهم لم يروه: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} يقول: لهم عفو من الله عن ذنوبهم
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، يقول وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه، إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى، بأنه له {مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، أي: تكفّر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه» . فذكر منهم: «رجلاً دعته امرأة(4/326)
ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلاً تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» .
قوله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) } .
قال البغوي: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم كي لا يسمع إله محمد، فقال الله جلّ ذكره: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ألا يعلم ما في الصدور مَنْ خَلَقَها؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} سهلاً لا يمتنع المشي فيها، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} ، قال مجاهد: في طرقها وفجاجها، {وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ، أي: وإليه تبعثون من قبوركم. ثم خوّف الكفار فقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ، قال ابن عباس: أي: عذاب من في السماء إن عصيتموه {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ(4/327)
تَمُورُ} قال الحسن: تتحرّك بأهلها {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} ريحًا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط، {فَسَتَعْلَمُونَ} في الآخرة وعند الموت {كَيْفَ نَذِيرِ} ، أي: إنذاري إذا عانيتم العذاب {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: إنكاري عليهم بالعذاب، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} تصفّ أجنحتها في الهواء {وَيَقْبِضْنَ} أجنحتهنّ بعد البسط {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في حال القبض والبسط {إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} ؟ استفهام إنكار {يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ} يمنعكم من عذابه، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ، أي: في غرور من الشيطان. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ
رِزْقَهُ} أي: من الذي يرزقكم المطر إن أمسك الله عنكم؟ {بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ} تماد في الضلال {وَنُفُورٍ} تباعد من الحقّ. ثم ضرب مثلاً فقال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} راكبًا رأسه في الضلالة والجهالة، أعمى العين والقلب لا يبصر يمينًا ولا شمالاً وهو الكافر؛ قال قتادة: راكبًا على المعاصي في الدنيا، فحشره الله على وجهه يوم القيامة {أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} معتدلاً يبصر الطريق وهو {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو المؤمن؛ قال قتادة: يمشي يوم القيامة سويًّا. انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30) } .(4/328)
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي: العقول والإِدراك {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: قلّما
تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} ، أي: بثّكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، أي: تجمعون بعد هذا التفرّق والشتات، يجمعكم كما فرّقكم ويعيدكم كما بدأكم.
ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟ {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أنّ هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، أي: وإنما عليّ البلاغ، وقد أدّيته إليكم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريبًا، لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه فلما وقع ما كذّبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيّئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تستعجلون.
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟ أي: خلّصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإِنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم(4/329)
وقوع ما تتمنّون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.
ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي: آمنّا بربّ العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكّلنا في جميع أمورنا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ولهذا قال تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، أي: منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} ، أي: ذاهبًا في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر عكس النابع، ولهذا قال تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} ؟ ، أي: نبع سائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلّة والكثرة، فللَّه الحمد والمنّة.
* * *(4/330)
الدرس السابع والثمانون بعد المائتين
[سورة نون]
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ(4/331)
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا
إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } .
* * *(4/332)
قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) } .
عن ابن عباس: قال: (أول ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، وقرأ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ) . وعن مجاهد قال: كان يقال: النون الحوت الذي تحت الأرض السابعة.
وقال ابن زيد في قول الله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قال: هذا قسم أقسم الله به {وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يكتبون.(4/333)
قال ابن القيم: (أقسم بالكتاب وآلته وهو القلم، والأقلام متفاوتة في الرتب، فأعلاها وأجلّها قدرًا: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق. الثاني: قلم الوحي هو: الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه. الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو: قلم الفقهاء
والمفتين. الرابع: قلم طبّ الأبدان. الخامس: قلم التوقيع عن الملوك أو نوّابهم. السادس: قلم الحساب. السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق. الثامن: قلم الشهادة. التاسع: قلم التعبير. العاشر: قلم تواريخ العالم. الحادي عشر: قلم اللغة. الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الردّ على المبطلين ورفع سنّة المحقّين) . انتهى ملخصًا.
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، قال البغوي: هذا جواب لقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، قال ابن جرير: غير منقوص ولا مقطوع؛ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، قال ابن عباس: يقول: إنك على دين عظيم وهو الإسلام. وقالت عائشة: كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال: أدب القرآن. قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيّة له، وخلقًا تطبّعه وترك طبعه الجبليّ، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكلّ خلق جميل. وفي الصحيحين عن أنس قال: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما(4/334)
قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَه) .
وعن الضحاك في قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} يقول: ترى ويرون {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} يقول: إنكم أولى بالشيطان {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال مجاهد: ودّوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما يسألونك. وعن ابن عباس: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ} ، والمهين: الكذّاب، {هَمَّازٍ} ، يعني: الاغتياب؛ وقال قتادة: يأكل لحوم المسلمين، {مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض، {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق {مُعْتَدٍ} ، قال قتادة: معتد في عمله، {أَثِيمٍ} بربّه {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} ، قال الحسن: فاحش الخلق لئيم الضريبة. وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبكي السماء من عبد أصحّ الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا معصمًا، فكان للناس ظلومًا، فذلك العتلّ الزنيم» . قال ابن جرير: ومعنى (بعد) في هذا الموضوع معنى (مع) ، أي: مع العتلّ زنيم. وقال سعيد بن جبير: الزنيم: الذي يُعرف بالشّر كما تُعرف الشاة بزنمتها الملصق. وقال سعيد بن المسيّب: هو الملصق على القوم ليس منهم. وقال الكلبيّ: هو الأخنس بن شريق، وأصله من ثقيف وعداده في بني زهرة. وقال أبو رزين: الزنيم الفاجر. وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف؛ ألا أنبئكم بأهل النار؟ كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» . قال أهل اللغة: الجوّاظ الجموع المنوع.(4/335)
وقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها، وزعم أنها كذب. وعن قتادة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، قال: سنسمه على أنفه. وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه ساخط، وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه راض، ومن مات همّازًا لمّازًا ملقّبًا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين» . رواه ابن أبي حاتم.
قوله عز وجل: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) } .
قال البغوي: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} ، يعني: اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع، {كَمَا بَلَوْنَا} ، ابتلينا، {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} . وقال قتادة: كانت الجنة لشيخ وكان(4/336)
يتصدّق، فكان بنوه ينهونه عن الصدقة، وكان يمسك قوت سنة وينفق ويتصدّق بالفضل، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا: {لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} . وقال سعيد بن جبير: هي أرض باليمن يقال لها: خضروان من صنعاء على ستة أميال.
وعن ابن عباس في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، قال: الصريم: الليل؛ وفي رواية كالرماد الأسود. وعن قتادة: قوله: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} ، يقول: يسرّون، {أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} ، قال مجاهد: على جدّ قادرين في أنفسهم. وقال سفيان: على حنق. {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} ، قال قتادة: أي: أضللنا الطريق، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، بل جوزينا فحُرمنا. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} ، قال ابن عباس: أَعْدَلُهُمْ، {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} ، قال مجاهد: يقول: تستثنون، فكان التسبيح فيهم الاستنثاء.
قال ابن جرير: هو قول القائل: إن شاء الله. قال ابن كثير: وقيل معناه، أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم؟ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، أتوا بالطاعة حيث لا تنفع. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} ، قال ابن كثير: قيل: رغبوا في بدلها لهم في الدنيا. وقيل: احتبسوا ثوابها في الدار الآخرة. وقال البغوي: قال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق، فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: كفعلنا(4/337)
بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا ... {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . قال ابن كثير: أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشقّ. وقال ابن جرير: وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهّال لا يعلمون.
قوله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) } .
قال البغوي: ثم أخبر بما أعدّه للمتقين فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فقال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال الله تكذيبًا لهم، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} نزل من عند الله {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} في ذلك الكتاب {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} عهود ومواثيق {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكّدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا تنقطع إلى يوم القيامة {إِنَّ ... لَكُمْ} كَسَرَ (إنّ) لدخول اللام في الخير في ذلك العهد {لَمَا تَحْكُمُونَ} لأنفسكم من الخير والكرامة.(4/338)
{سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} قال ابن كثير: أي: قل لهم: من هو المتضمنّ المتكفّل بهذا؟ قال ابن عباس: يقول: أيّهم بذلك كفيل؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} أي: من الأصنام والأنداد، {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، قال ابن عباس: (عن أمر عظيم، يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة وكشف الأمر عنه وهي أشدّ ساعة في يوم القيامة) . وعن عبد الله بن مسعود قال: (ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلاً من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم ثم رزقكم ثم تولّيتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولّى؟ فيقولون: بلى. قال: فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل الدعوة فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون؟ ذهب الناس، فيقولون: ننتظر أن ينادي بنا، فيجيء إليهم في صورة، قال: فذكر
منها ما شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف، قال: فيخرّون سجّدًا إلا المنافقين، فإنه يصير فقار أصلابهم عظمًا واحدًا مثل صياصي البقر، فيقال لهم: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم) ؛ ثم ذكر قصة فيها طول. رواه ابن جرير. وفي رواية قال: (يتمثّل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا فينتهرهم مرّتين أو ثلاثًا، فيقول: هل تعرفون ربّكم؟ فيقولون: سبحانه، إذا اعترف إلينا عرفناه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدًا، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا، فيقول: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون) .(4/339)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا» . وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأخذ الله للمظلوم من الظالم، حتى إذا لم يبق تبعه لأحد عند أحد، جعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عزير، فتتبعه اليهود، وجعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عيسى فتتبعه النصارى، ثم نادى مناد أَسْمَعَ الخلائق كلّهم، فقال: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد كان يعبد من دون الله شيئًا، إلا مثّل له آلهته بن يديه، ثم قادتهم إلى النار، حتى إذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، قال الله جلّ
ثناؤه: أيها الناس ذهب الناس، ذهب الناس، الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله مالنا إله إلا الله، وما كنا نعبد إلهًا غيره، وهو الله ثبّتهم، ثم يقول لهم الثانية مثل ذلك: الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: مثل ذلك، فيقال: هل بينكم وبين ربّكم من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيتجلّى لهم من عظمته ما يعرفونه أنه ربّهم فيخرّون له سجّدًا على وجوههم، ويقع كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر» . وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ، قال: كانوا يسمعون: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، فلا يجيبوك.
قوله عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ(4/340)
عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } .
قال البغوي: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، أي: فدعني والمكذّبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك
وَكِلْهُ إليّ فإني أكفيك أمره {سَنَسْتَدْرِجُهُم} سنأخذهم بالعذاب من حيث لا يشعرون.
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليّ، وهذا كقول القائل لآخر غيره يتوعّد رجلاً: دعني وإياه، وخلّني وإياه، بمعنى أنه من وراء مساءته. ... {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، قال ابن جرير: قويّ شديد. وفي الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
قال في جامع البيان: سمّى الاستدراج كيدًا لأنه في صورة الكيد. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} ، يا محمد، {أَجْراً} ، على الهداية، {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ، غرامة مثقلون بحملها فلذا يعرضون عنك؛ و (أم) منفصلة والهمز للإنكار {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} علم الغيب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ، فلا يحتاجون إليك وإلى علمك. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، بإمهالهم، {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} ، يونس عليه السلام في العجلة والضجر، {إِذْ نَادَى} في بطن الحوت، {وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن(4/341)
رَّبِّهِ} بقبول توبته {لَنُبِذَ بِالْعَرَاء} ، لطرح بالقضاء من بطن الحوت {وَهُوَ مَذْمُومٌ} ، حال كونه مجرمًا ملومًا، يعني: لمّا تداركه برحمته نبذه على حال غير حال الذم واللوم {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصطفاه {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} من الأنبياء.
وعن ابن عباس في قوله: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} ، يقول: ينفذونك بأبصارهم من شدّة النظر، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: (وإن يكاد الذين كفروا ليزهقونك) . وقال الكلبيّ {لَيُزْلِقُونَكَ} ليصرعونك. وعن الضحاك: ينفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء. وقال ابن كثير: أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم؛ وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حقّ بأمر الله عز وجل. وعن ابن عباس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» . رواه مسلم وغيره.
وقوله تعالى: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي: أن هذا النظر كان يشتدّ منهم في حال قراءة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن حسدًا على ما أوتي من النبوّة ... {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} ، تنفيرًا عنه مع علمهم بأنه أعقلهم؛ ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ} ، أي: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} ، الجنّ والإنس، فكيف يمكن نسبة من جاء بمثله إلى الجنون؟ والله المستعان.
* * *(4/342)
الدرس الثامن والثمانون بعد المائتين
[سورة الحاقة]
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ(4/343)
الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) } .
* * *(4/344)
قوله عز وجل: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) } .
قال ابن عباس: {الْحَاقَّةُ} ، من أسماء يوم القيامة عظّمه الله وحذّره عباده. وقال قتادة: {الْحَاقَّةُ} يعني: الساعة أحقّت لكل عامل عمله. وقال البغوي: سميت حاقّة لأنها حُقّت فلا كاذبة لها {مَا الْحَاقَّةُ} هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، قال سفيان: ما في القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبره، وما كان {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} قال قتادة: أي: بالساعة {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} قال: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} قال ابن عباس: يقول: بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تفتر؛ وقال: ما أرسل الله من ريح قطّ إلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطّ إلا بمثقال، إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل، ثم قرأ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ،(4/345)
يقول: تباعًا، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . وفي الصحيحين: «نُصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور» .
{فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ قال ابن كثير: أي: هلّ تحسّ منهم من أحد من بقاياهم أو من ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل الله لهم خلفًا. وعن قتادة: قوله: {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرية قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} قال مجاهد: الخطايا ... {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال ابن كثير: أي: كلّ كذّب رسولّ الله إليهم، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} قال ابن عباس: يعني: أخذة شديدة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ذاكم زمن نوح طغى الماء على كلّ شيء خمس عشرة ذراعًا بقدر كلّ شيء. قال ابن زيد: والجارية سفينة نوح التي حملهم فيها {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} قال قتادة: فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادًا {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} إن غفلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله.
وقال ابن كثير: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة الجارية على وجه الماء {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عاد الضمير على
الجنس لدلالة المعنى عليه، أي: وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيّار الماء في البحار، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .(4/346)
قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) } .
قال البغوي: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وهي: النفخة الأولى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} رفعت عن أماكنها {فَدُكَّتَا} كسرتا {دَكَّةً} كسرة {وَاحِدَةً} فصارتا هباء منثورًا {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال ابن عباس: يعني ضعيفة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يقول: والملك على حافات السماء حين تشقّق. وعن سعيد بن جبير: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} قال: على ما لم يَهِ منها. ... {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، قال ابن إسحاق: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هم اليوم أربعة - يعني: حملة العرش - وإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية، وقد قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} » ؛ قال ميسرة: أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور. وعن جابر ابن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أذن لي أن أحدّث عن
مَلِكٍ من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . رواه أبو داود وغيره.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، قال ابن كثير: أي:(4/347)
تعرضون على عالم السرّ والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى: {لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم وتَزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان: فجدال ومعاذير، وأما الثالثة: فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمنه وآخذٌ بشماله» .
قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فأما من أَعطى كتاب أعماله بيمينه(4/348)
فيقول: تعالوا اقرؤوا كتابيه. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدّة فرحه يقول لكلّ من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} ، أي: خذوا اقرؤوا كتابي، لأنه يعلم أن الذي فيه خير؛ قال: ومعنى: {هَاؤُمُ} هاكم. وعن قتادة: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} ظنّ ظنًّا يقينًا فنفعه الله بظنّه، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} . قال قتادة: دنت فلا يردّ أيديهم عنها بُعْدٌ ولا شوك. وروى الطبراني عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية» .
وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ، قال قتادة: إن أيامكم هذه أيام خالية تؤدّي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام وقدّموا فيها خيرًا إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله» . وفي الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» .
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ، قال ابن السائب: تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} ، قال البغوي: يقول: يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} الفارغة من كلّ ما بعدها، والقاطعة للحياة، فلم أَحْيَ بعدها. قال قتادة: يتمنّى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا عنده أكره من الموت. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} قال ابن زيد: سلطان الدنيا. وعن مجاهد قوله: {هَلَكَ عَنِّي(4/349)
سُلْطَانِيهْ} قال: حجّتي. وقال قتادة: أما والله ما كلّ من دخل النار كان أمير قرية يجيبها، ولكن الله خلقهم وسلّطهم على أقرانهم وأمرهم بطاعة الله، ونهاهم عن معصية الله. وقال الفضيل بن عياض: إذا قال الربّ عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ، ابتدره سبعون ألف ملك أيّهم يجعل الغلّ في عنقه {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه.
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} ، قال ابن جرير: يعني: في الدار الآخرة، قريب يدفع عنه ويعنه مما هو فيه من البلاء.
قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وعن قتادة: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ، شرّ الطعام وأخبثه وأبشعه. وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ} ، صديد أهل النار، {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} ، قال البغوي: أي: الكافرون.
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) } .(4/350)
قال ابن زيد في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} ، أقسم بالأشياء حتى أقسم يما تبصرون وما لا تبصرون. قال ابن القيّم: (وهذا أعمّ قسم وقع في القرآن، فإنه يعمّ العلويّات والسفليّات، والدنيا والآخرة) .
{إِنَّهُ} ، قال البغوي: يعني: القرآن. {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، أي: تلاوة {رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني: محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن كثير: أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسِل، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكيّ. وعن قتادة: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} طهّره الله من ذلك وعصمه.
{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} طهّره من الكهانة وعصمه، {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} ، أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة. وقال ابن جرير: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} محمد بعض الأقاويل الباطلة، وتكذّب علينا {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} يقول: أخذنا منه بالقوّة منا والقدرة {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ} ، نياط القلب. وعن ابن عباس: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} يقول: عرق القلب. وقال مجاهد: حبل القلب الذي في الظهر {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . وعن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} قال: القرآن. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال قتادة: ذاكم يوم القيامة.(4/351)
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} ، قال ابن كثير: أي: الخبر الصدق الحقّ، الذي لا مرية فيه ولا شكّ ولا ريب، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وروى الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: (خرجت أتعرّض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، فقلت: كاهن. فقرأ: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} إلى آخر السورة، فوقع الإِسلام في قلبي كلّ موقع) .
* * *(4/352)
الدرس التاسع والثمانون بعد المائتين
[سورة المعارج]
مكية، وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم(4/353)
بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }
* * *(4/354)
قوله عز وجل: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) } .
عن ابن عباس: قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، قال: ذاك سؤال الكفار عن عذاب الله، وهو واقع. وعن قتادة: قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، قال: سأل عذاب الله أقوام فبين الله على من يقع فقال: {لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} ، قال مجاهد: معارج السماء، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال: منتهى أمره من أسفل الأرض ومن الأرض إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة، ويوم كان مقداره يعني بذلك: نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة، لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن ابن عباس قال: (غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة
آلاف عام؛ وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام؛ وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ(4/355)
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ) .
قلت: ويشهد لهذا القول ما رواه الإمام أحمد وغيره عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس» . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» .
وقال البغوي: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} ، يعني: جبريل عليه السلام {إِلَيْهِ} أي: إلى الله عز وجل {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} من سني الدنيا، لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة، والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة. وقال ابن زيد في قوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} قال: هذا حين كان يأمره بالعفو عنهم لا يكافئهم، فلما أمر بالجهاد والغلظة عليهم أمر بالشدة والقتل حتى يتركوا، ونسخ هذا. وقال ابن جرير: وهذا الذي قاله ابن زيد أنه كان أمر بالعفو بهذه الآية ثم نسخ
ذلك قول لا وجه له، لأنه لا دلالة على صحة ما قال من بعض الأوجه التي تصح منها الدعاوى، وليس في أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر الجميل على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرًا منه له به في بعض الأحوال، بل كان ذلك أمرًا من الله له به في(4/356)
كل الأحوال، لأنه لم يزل - صلى الله عليه وسلم - من لدن بعثه الله إلى أن اخترمه في أذى منهم، وهو في كل ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذى، قبل أن يأذن الله له بحربهم وبعد إذنه له بذلك.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} ، أي: اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ولهذا قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أي: وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى: مستحيل الوقوع، {وَنَرَاهُ قَرِيباً} ، قال البغوي: لأن ما هو آت قريب، وهو يوم القيامة.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قال مجاهد: كعكر الزيت، وقال قتادة: تتحول يومئذٍ لونًا آخر إلى الحمرة {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} ، قال: كالصوف، {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} يشغل كل إنسان بنفسه عن الناس. وعن ابن عباس قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} قال: يعرف بعضهم بعضًا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أي: لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو
يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} قال ابن زيد: فصيلته عشيرته {وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} ذلك الفداء من عذاب الله. قال قتادة: الأحب فالأحب، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم.(4/357)
قال البغوي: {كَلَّا} لا ينجيه من عذاب الله شيء، ثم ابتدأ فقال: {إِنَّهَا لَظَى} وهي اسم من أسماء جهنم {نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى} ، قال قتادة: أي: نزاعة لهامته ومكارم خلقه وأطرافه. وقال الضحاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئًا. وقال الحسن: تحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نضيجًا. وعن قتادة: قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وعن حقه ... {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} كان جموعًا قمومًا للخبيث. وقال ابن عباس: ... {تَدْعُو} الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال البغوي: {وَجَمَعَ} أي: جمع المال ... {فَأَوْعَى} أمسكه في الوعاء ولم يؤد حق الله منه.
قوله عز وجل: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) } .
عن ابن عباس: قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، قال: هو الذي قال الله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} ، قال ابن جرير: والهلع: شدة الجزع مع شدة الحرص والضجر. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ(4/358)
هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} ذكر لنا أن دانيال نعت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة، فعليكم بالصلاة فإنها خُلُقٌ للمؤمنين حَسَنٌ. وعن إبراهيم: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} ، قال: المكتوبة.
وعن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، يقول: هو سوى الصدقة، يصل بها رحمًا، أو يقري بها ضيفًا، أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محرومًا؛ وقال: المحروم هو: المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه فلا يسأل الناس. وقال ابن زيد:
المحروم المصاب ثمره وزرعه. وقال قتادة: السائل: الذي سأل بكفه. والمحروم: المتعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم.
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} قال ابن كثير: أي: لا يأمنه أحد ممن غفل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، قال ابن جرير: فمن التمس لفرجه منكم سوى زوجته أو ملك يمينه، ففاعلو ذلك هم العادون الذين عدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم، فهم الملومون.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا لم يغدروا. وقال ابن جرير: راعون: يرقبون ذلك(4/359)
ويحفظونه فيضيعونه. {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} ، قال ابن كثير: أي: محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها.
قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قال ابن كثير: أي: على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها؛ فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .
قوله عز وجل: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) } .
عن ابن عباس: قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} ، قال: قبلك ينظرون، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} قال: العزين: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين عنه يستنبئون به. وقال قتادة: {عِزِينَ} أي: فرق حول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. وروى ابن جرير عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم(4/360)
عزين» ؟ قال البغوي: والعزين: جماعات في تفرقة، واحدتها عزة.
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} ، قال ابن عباس: معناه: أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها، وقد كذب نبيّي؟ {كَلَّا} لا يدخلونها؛ ثم ابتدأ فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي: من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد، وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} إنما خلقت من قذر يا ابن آدم، فاتق الله. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ما يفوتنا منهم أحد، وعن ابن عباس في قوله: ربّ المشارق والمغارب، قال: «إن الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة، تطلع كل يوم في كوة، لا ترجع إلى تلك الكوة إلا ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، تقول: رب لا تطلعني على عبادك، فإني أراهم يعصونك» .
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} عن قتادة: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: من القبور، {سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} ، قال: إلى علم يسعون، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ، قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ، قال قتادة: {ذَلِكَ الْيَوْمُ} يوم القيامة {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} .(4/361)
الدرس التسعون بعد المائتين
[سورة نوح]
مكية، وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً (20) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا
مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21)(4/362)
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (25) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) } .
* * *(4/363)
قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) } .
عن قتادة: قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} قال: أرسل الله المرسلين بأن يعبد الله وحده، وأن تتّقى محارمه، وأن يطاع أمره. وعن مجاهد في قول الله: {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخّر. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: أنه أرسله إلى قومه، آمرًا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم، ولهذا قال: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بين النذارة ظاهر الأمر واضحه، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ، أي: اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه، {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، أي: إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، أي: يمد في أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة. انتهى. ملخصًا.
قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا(4/364)
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً (20) } .
عن قتادة: قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} ، قال: بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينك، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك. وقال ابن زيد في قوله: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا كلام نوح عليه السلام: {وَأَصَرُّوا} ، قال: الإصرار: إقامتهم على الشرك والكفر. وعن مجاهد: قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} قال: الجهار الكلام المعلن به {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ} قال: صحت {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} ، قال: فيما بيني وبينهم. وعن قتادة في قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} إلى قوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} قال: رأى نوح
قومًا تجرعت أعناقهم حرصًا على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا والآخرة.
وعن مجاهد: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: لا ترون لله عظمة. وقال ابن عباس: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟ وقال ابن زيد: الوقار: الطاعة. وعن قتادة: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} طورًا نطفة، وطورًا علقة، وطورًا مضغة، وطورًا عظامًا، ثم كسى العظام لحمًا ثم أنشاه خلقًا آخر أنبت به الشعر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ(4/365)
نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} ، قال ابن كثير: وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرازق، جعل السماء بناء والأرض مهادًا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد، لأنه لا نظير له، ولا عديل له، ولا ند ولا كفؤء ولا صاحبة ولا ولد، ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير.
قوله عز وجل: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً (24) } .
قال البغوي: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} يعني: لم يجيبوا دعوتي. {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} يعني: اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} ، أي: كبيرًا عظيمًا. قال ابن عباس: قالوا قولاً عظيمًا. وقال الضحاك: افتروا على الله وكذبوا رسله.
{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، قال محمد بن قيس: كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال:(4/366)
إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم. وعن قتادة: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، قال: كان ود لهذا الحي من كلب بدومة الجندل، وكانت سواع لهذيل برياط، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لذي الكلاع من حمير، قال: كانت آلهة تعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك. وعن ابن عباس: أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} ، يعني: الأصنام التي اتخذوها، أضلوا بها خلقًا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم؛ وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} ، وقوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون وملئه في قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.
قوله عز وجل: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (25) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) } .
عن سفيان: قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} ، وعن قتادة في قوله: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أما والله ما دعا عليهم حتى أتاه الوحي من السماء(4/367)
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فعند ذلك دعا عليهم نبي الله نوح فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً ... كَفَّاراً} ؛ ثم دعا دعوة عامة فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} ، قال مجاهد: إلا خسارًا. وعن عبيد بن عمير الليثي أنه كان يحدّث أنه بلغه: (أنهم كانوا يبطشون به -، يعني: قوم نوح - فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه عليهم الشأن، واشتد عليهم من البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونًا، لا يقبلون منه شيئًا، حتى شكى ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} إلى آخر القصة، حتى قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} إلى آخر القصة.
فلما شكى ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم أوحى الله إليه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} ، أي: بعد اليوم: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} فأقبل نوح على عمل الفلك ولهى عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيء عدة الفلك، من القار وغيره مما لا يصلحه إلَّا هو، وجعل قومه يمرّون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويستهزئون به فيقول: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ
مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .(4/368)
قال: ويقلون له فيما بلغني: يا نوح قد صرت نجارًا بعد النبوة؟ قال وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد؛ قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلاً ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كوى؛ ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا فرغ منه، وقد عهد الله إليه: {إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
وروى ابن جرير عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي» ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر زمانه وغرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل يعمل سفينته فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون؛ فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها
رفعته بين بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي» . والله أعلم.
* * *(4/369)
الدرس الحادي والتسعون بعد المائتين
[سورة الجن]
مكية، وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ(4/370)
يَسْلُكْهُ
عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) } .
* * *(4/371)
قوله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) } .
قال ابن عباس: (انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث. قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء؛ فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي(4/372)
حال بينكم وبين خبر السماء. قال فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} قال: فأنزل الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن. وقال الضحاك في قوله: قال: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} هو قول الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} .
وعن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} يقول: فعله وأمره وقدرته، وعن مجاهد في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قل جلال ربنا، وقال الحسن: غنى ربنا. وعن مجاهد أيضًا: قال: ذكره، وقال سعيد بن جبير: أي: تعالى ربنا. قال البغوي يقال: جد الرجل أي: عظم، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جد فينا، أي: عظم قدره. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} ، قال البغوي جاهلنا {عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} كذبًا وعدوانًا، وهو وصفه بالشريك والولد. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، قال البغوي: أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. وعن معمر: قال: تلا قتادة: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، فقال: عصاه والله سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. وعن الحسن في
قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} ، قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي فبات به قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، قال ابن زيد: خوفًا. وقال قتادة: قال الله: {فَزَادُوهُمْ(4/373)
رَهَقاً} أي: إثمًا، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} بعد موته. وقال الكلبىّ. ظن كفّار الجنّ كما ظنّ كفرة الإنس: أن لا يبعث الله رسولاً. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، قال سعيد بن جبير: (كانت الجن تستمع، فلما رجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. قال: فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجاً من سوق عكاظ يصلّي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم منذرين) . وقال ابن زيد في قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} حتى بلغ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس فقالوا: منع منا السمع، فقال لهم: بأن السماء لم تحرس قط إلا على أحد أمرين: إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة، وإما نبي مرشد مصلح. قال: فذلك قول الله: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} قال ابن عباس: أهواء شتى، منا المسلم ومنا المشرك. وقال قتادة: أهواء مختلفة.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} ، قال البغوي: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} علمنا وأيقنا {أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} ، أي: لن نفوته إن أراد بنا أمرًا {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} إن طلبنا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} قال ابن عباس: لا يخاف نقصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته. ... {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} ، قال: العادلون عن الحق الذين جعلوا لله ندًا. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} ، قال البغوي: أي: قصدوا طريق الحق وتوخوه، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الذين كفروا {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} كانوا وقود النار يوم القيامة.(4/374)
قوله عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) } .
قال البغوي: ثم رجع إلى كفار مكة فقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} ، قال مجاهد: طريقة الإسلام {لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} ،
قال: نافعًا كثيرًا، لأعطيناهم مالاً كثيرًا، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال: لنبتليهم به. وقال عمر رضي الله عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ، قال ابن عباس: شاقًا. وقال قتادة: عذابًا لا راحة فيه. وعن ابن عباس: {عَذَاباً صَعَداً} ، قال: جبل في جهنم. وعن قتادة: قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا} أيها الناس {مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ولا تشركوا به فيها شيئًا، ولكن أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة.
وعن قتادة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} ، قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه(4/375)
ويظهره على من ناوأه. وقال الحسن: لما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاإله إلا الله» ، ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تكون عليه جميعًا. وقال ابن عباس: {لِبَداً} أعواقًا. وقال العوفى عن ابن عباس: لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} يستمعون القرآن. {كَادُوا} يعني: الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي: يؤكب بعضهم
بعضًا ويزدحمون حرصًا على استماع القرآن. قال ابن حجر العسقلاني: (والمعنى أن الجن تزاحموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استمعوا القرآن، وهو المعتمد) . انتهى.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} ، أي: قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق، واجتمعوا على عدواته {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} ، أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} ، أي: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كلّه إلى الله عز وجل. ثم أخبر عن نفسه أيضًا أنه لن يجيره من الله أحد: أي: لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، قال مجاهد: ملجأ. وعن قتادة: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} فذلك الذي أملك بلاغاً من الله ورسالاته.
{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} ، قال ابن كثير: أي: حتى إذا(4/376)
رأى هؤلاء المشركون من الجنّ والإِنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذٍ من أضعف ناصرًا وأقلّ عددًا، هم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى، أي: بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقلّ عددًا من جنود الله عز وجل.
قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس أنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} ، أي: مدّة طويلة، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} ، قال ابن عباس: فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب: الوحي، أظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه، وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وقال ابن زيد: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء، أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغيب: القرآن؛ قال: وحدّثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة.
وعن الضحاك: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث إليه الملك بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك. وعن إبراهيم: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم. وقال ابن عباس: هي معقّبات من الملائكة يحفظون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، حتى يتبيّن الذي أرسل به إليهم وذلك حين يقول: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ
رَبِّهِمْ} . وعن قتادة: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ليعلم نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل قد أبلغت عن الله، وأن الله حفظها ودفع عنها. وقال(4/377)
البغوي: أي: ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} ، أي: علم الله ما عند الرسل، فلم يَخْفَ عليه شيء.
{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزيّ في زاد المسير، ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكّنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ويكون ذلك كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، وكقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعًا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق، فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل.
* * *(4/378)
الدرس الثاني والتسعون بعد المائتين
[سورة المزمل]
مكية، وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن(4/379)
فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ... (20) } .
* * *(4/380)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (14) } .
عن قتادة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، أي: المتزمّل في ثيابه. وعن ابن عباس: قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، فأمر الله نبيّه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليل، فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفّف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فوسّع الله - وله الحمد - ولم يضيّق. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما نزلت أول المزمّل كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها نحوًا من سنة) .
وعن مجاهد في قول الله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، قال: ترسّل فيه ترسّلاً. وقال ابن عباس: بيّنه بيانًا. وعن الحسن في قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ، قال: العمل به. وقال قتادة: ثقيلٌ واللهِ، فرائضُه وحدودُه. وعن هشام ابن عروة عن أبيه: (أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها فما(4/381)
تستطيع أن تحرّك حتى يسرّى عنه) . وقال ابن زيد: هو واللهِ ثقيلٌ مبارَكٌ القرآن، كما ثَقُلَ في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة.
وعن مجاهد: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ، قال: إذا قمت من الليل فهو ناشئة. وقال قتادة: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وقالت عائشة: القيام بعد النوم. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً} ، قال: إن مصلّي الليل القائم بالليل {أَشَدُّ وَطْءاً} طمأنينة، أفرغ له قلبًا {وَأَقْوَمُ قِيلاً} ، قال: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} ، قال: لحوائجك {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، قال ابن عباس: أخلص له إخلاصًا. وقال قتادة: أخلص له العبادة والدعوة. وقال الحسن: ابتل نفسك واجتهد. {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، قال البغوي: قيّمًا بأمورك ففوّضها إليه، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} ، قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله بالصبر على ما يقوله من كذّبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم {هَجْراً جَمِيلاً} وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال متوعّدًا لهم: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: دعني والمكذّبين المترفين أصحاب الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم، وهم يطالبون من الحقوق بما ليس
عند غيرهم. {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: رويدًا كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .(4/382)
وعن قتادة: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} أي: قيودًا {وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} ، قال ابن عباس: شرك يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج. {وَعَذَاباً أَلِيماً} .
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} ، قال ابن عباس: الكثيب المهيل: الرمل السائل؛ قال ابن كثير:، أي: تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صمّاء، ثم إنها تنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض {قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} .
قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) } .
قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار مكة، والمراد سائر الناس: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، قال قتادة: شديدًا، {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} ، يقول: كيف تتّقون يومًا وأنتم قد كفرتم به ولا تصدقون به؟ وقال الضحاك في قوله:
{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} كان ابن مسعود يقول: (إذا كان يوم القيامة دعا ربُّنا الملِكُ آدَمَ فيقول: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: أي ربّ لا علم لي إلا ما علّمتني، فيقول الله له: أخرج من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فيساقون إلى النار سودًا مقرّنين زرقًا كالحين، فيشيب هنالك كلّ وليد) .(4/383)
قال البغوي: ثم وصف هول ذلك اليوم فقال: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} متشقّق لنزول الملائكة؛ {بِهِ} ، أي: بذلك المكان. {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} . {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ، قال قتادة: بطاعة الله. وقال البغوي: {إِنَّ هَذِهِ} ، أي: آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} تذكير وموعظة {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بالإِيمان والطاعة.
قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) } .
قال البغوي: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقلّ. {مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، يعني: المؤمنين، وكانوا يقومون معه. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، قال عطاء: يريد: لا يفوته علم ما تفعلون، أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل. {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} ، قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} لن تطيقوه. ... {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، يعني: في الصلاة.
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال قتادة: ثم أنبأنا بخصال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ(4/384)
مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعًا بعد فريضة. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فهما فريضتان واجبتان لا رخصة لأحد فيهما فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره.
{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ، قال ابن زيد: القرض النوافل سوى الزكاة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} ، قال البغوي: تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم {وَأَعْظَمَ أَجْراً} من الذي أخذتم ولم تقدّموه. ثم ساق بسنده عن الحارث بن سويد قال:
قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيّكم ماله أحبّ إليه من مال وارثه» ؟ قالوا: يا رسول الله ما منّا أحد إلا ماله أحبّ إليه من مال وارثه، قال: «اعلموا ما تقولون» . قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: «ما منكم من رجل إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله» ، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» .
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} ، أي: لذنوبكم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وفي الصحيحين وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فاغفر له» ؟ . وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة قلنا: يا رسول الله إذا رأيناك رقّت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: «لو أنكم تكونون على كلّ(4/385)
حال على الحال التي كنتم عليها عندي، لصافحنكم الملائكة بأكفّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر ... لهم» . قلنا: يا رسول الله حدّثنا عن الجنّة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى
يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول لها الربّ عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» .
* * *(4/386)
الدرس الثالث والتسعون بعد المائتين
[سورة المدثر]
مكية، وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً(4/387)
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا
هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) } .
* * *(4/388)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) } .
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدّث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشى، سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي، فإذا أنا بالملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجئشت منه فَرَقًا، وجئت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} - قال: - ثم تتابع الوحي» .
وعن قتادة: {قُمْ فَأَنذِرْ} ، أي: أنذر عذاب الله ووقائعه في الأمم وشدّة نقمته. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وربك يا محمد فعظّم بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال قتادة: يقول: طهّرها من المعاصي. وعن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال: من الإِثم ثم قال: نقيّ الثياب في كلام العرب. وعن مجاهد في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال: عملك فأصلح. وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهّرون، فأمره أن يتطهّر ويطهّر ثيابه. وعن مجاهد: قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، قال: الأوثان. {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ، قال ابن عباس: لا تعط عطيّة تلتمس بها أفضل منها. قال الضحاك: هما ربوان: حلال
وحرام. فأما الحلال: فالهدايا، وأما الحرام: فالربا. وقال: هي(4/389)
للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاصّة. {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، قال ابن زيد: حُمِّلَ أمرًا عظيمًا محاربة العرب ثم العجم من بعد العرب في الله.
وعن مجاهد: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} ، قال: إذا نفخ في الصور: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، قال ابن عباس: يقول: شديد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر ينفخ فيه» ؟ فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف نقول؟ فقال: «تقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكّلنا» . وعن قتادة: قال الله تعالى ذكره: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} فبيّن الله على من يقع على الكافرين غير يسير.
قوله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) } .
عن مجاهد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، قال: نزلت في الوليد ابن المغيرة. قال قتادة: أخرجه الله من بطن أمه وحيدًا لا مال له ولا ولد
فرزقه المال والولد والثروة والنساء، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} ، قال مجاهد: كان بنوه عشرة لا يغيبون، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} ، من المال والولد. قال سفيان: بسط له. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} .(4/390)
قال البغوي: {ثُمَّ يَطْمَعُ} يرجو {أَنْ أَزِيدَ} ، أي: أزيده مالاً وولدًا وتمهيدًا، {كَلَّا} لا أفعل ولا أزيده؛ وقالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وعن ابن عباس قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً} ، قال: جَحودًا. {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ، قال مجاهد: مشقّة من العذاب. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصَعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا، ثم يهوي كذلك منه أبدًا» . رواه ابن جرير.
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، قال البغوي: (وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى قوله: {الْمَصِيرُ} قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم - وكان يقال للوليد: ريحانة قريش - فقال لهم أبو جهل: أنا
أكفيكموه؛ فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينًا، فقال له الوليد: ما لي أراك حزينًا يابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك تدخل على(4/391)
ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد فقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولدًا؟ وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام، فيكون لهم فضل؟
ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ قالوا: لا - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين قبل النبوة من صدقه - قالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عز وجل: {إِنَّهُ فَكَّرَ} في محمد والقرآن {وَقَدَّرَ} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن: {فَقُتِلَ} لعن. وقال الزهري: عذب، {كَيْفَ قَدَّرَ} على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرره للتأكيد، {ثُمَّ نَظَرَ} في طلب ما يدفع من القرآن ويرده، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} كلح وقطب وجهه فنظر بكراهية شديدة كالمتهم المتفكر في شيء.
{ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الإيمان {وَاسْتَكْبَرَ} تكبر حين دعي إليه {فَقَالَ إِنْ هَذَا} ما هذا الذي يقرأه محمد {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يروى ويحكى عن السحرة، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، يعني: يسارًا وجبرًا، فهو يأثره عنهما. قال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ} سأدخله {سَقَرَ} وسقر: اسم من أسماء جهنم، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} ، قال السدي: {لَا تُبْقِي} لهم لحمًا: {وَلَا تَذَرُ} لهم عظمًا. وقال مجاهد:(4/392)
كلما احترقوا جددوا، {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} ، قال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان. وقال ابن زيد: النار تغير ألوانهم، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ، قال ابن زيد: خزنتها تسعة عشر.
قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } .
قال ابن عباس وغيره: لما نزلت: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أماتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي: الشجعان - أفيعجز كل عشرة منكم
أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ قال أبو الأشد الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشرة، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} . قال ابن عباس: وإنها في التوراة والإنجيل: تسعة عشر، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا.
{وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} ، قال ابن جرير: ولا يشك أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك، والمؤمنون بالله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} نفاق {وَالْكَافِرُونَ} بالله من مشركي قريش: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ؟ قال ابن زيد: يقولون: حين يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر.(4/393)
{كَذَلِكَ} ، قال البغوي: أي: كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدي من صدق {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ قال عطاء: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله؛ والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: {وَمَا هِيَ} ، يعني: النار، {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} إلا تذكرة وموعظة للناس، {كَلَّا وَالْقَمَرِ} هذا قسم
يقول: حقًا. {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} ، قال مجاهد: يعني جهنم: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} ، قال الحسن: والله ما أنذر الناس بشيء أدهى منها. {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها.
قوله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) } .
عن ابن عباس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، يقول: مأخوذة بعملها. {إِلَّا(4/394)
أَصْحَابَ الْيَمِينِ} ، قال قتادة: علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين. وقال ابن زيد: لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها الله لهم. {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} قال قتادة يقول: كلما غوى غاوٍ غوينا معه {وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} ، قال البغوي: هو: الموت، قال الله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} روى ابن جرير عن ابن مسعود في قصة ذكرها من الشفاعة قال: (ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أنا أرحم الراحمين، فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق من النار، ثم يقول: أنا أرحم الراحمين؛ - ثم قرأ عبد الله يا أيها الكفار -: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وعقد بيده أربعًا ثم قال: هل ترون في هؤلاء من خير؟ إلا ما يترك فيها أحد فيه خير) .
وعن قتادة: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} ، أي: في هذا القرآن؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} ، قال ابن عباس: هي: الرماة. قال قتادة: وهم: الرماة القناص. وقال أبو هريرة: هو: الأسد، قال ابن كثير، أي: كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش، إذا فرت ممن يريد صيدها. وعن مجاهد: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} ، قال: إلى فلان من رب العالمين. وقال قتادة: قال ذلك قائلون من الناس: يا محمد إن سرك أن نتبعك فائتنا بكتاب خاصة إلى فلان نؤمر فيه بإتباعك. قال البغوي: فقال الله تعالى: {كَلَّا} لا يؤتون الصحف، {بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} ، قال قتادة: إنما(4/395)
أفسدهم أنهم كانوا لا يصدقون
بالآخرة، ولا يخافونها. قال البغوي: والمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة {كَلَّا} حقًَا. {إِنَّهُ} ، يعني: القرآن. {تَذْكِرَةٌ} موعظة. {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أتعظ به. {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ، قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، أي: أهل أن تتقي محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه. ثم ساق بسنده عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، قال: «قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له» .
* * *(4/396)
الدرس الرابع والتسعون بعد المائتين
[سورة القيامة]
مكية، وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ
الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) } .
* * *(4/397)
قوله عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ... (15) } .
قال أبو هشام الرفاعي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: قوله: {لَا أُقْسِمُ} توكيد للقسم، كقوله: لا والله. وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ممن أنت؟ فقلت: من أهل العراق، فقال: أيهم؟ فقلت: من بني أسد، فقال: من حريبهم أو ممن أنعم الله عليهم؟ فقلت: لا بل ممن أنعم الله عليهم، فقال لي: سل، فقلت: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فقال: يقسم ربك بما شاء من خلقه. وعن قتادة: قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، قال: أقسم بهما جميعًا. وعن سعيد بن حبير في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، قال: تلوم على الخير والشر. وقال مجاهد: تندم على ما فات من الخير وتلوم عليه. وقال الحسن: أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة. قال مقاتل: هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا.
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ، قال البغوي: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شويق الثقفي، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اكفني جاري السوء» ، يعني: عديًا، والأخنس، وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد حدثني عن القيامة، متى تكون وكيف حالها وأمرها؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ} ، يعني: الكافر {أَلَّن نَجْمَعَ(4/398)
عِظَامَهُ} بعد التفرق والبلى فنحييه، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، قال الزجاج وابن قتيبة: معناه ظن الكافر أن لا نقدر على جمع عظامه، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها فنؤلف بينها حتى نسوي البنان، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر. وعن ابن عباس: قوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، قال: نجعله خفًا أو حافرًا. وقال الضحاك: البنان: الأصابع. وعن عكرمة: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، قال: قدمًا لا ينزع عن فجور. وقال ابن عباس يقول: الكافر يكذب بالحساب يسأل أيان يوم القيامة. وقال قتادة يقول: متى يوم القيامة؟ {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ، قال مجاهد: عند الموت. وقال قتادة: شخص البصر: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} ، قال: ذهب ضوءه فلا ضوء له {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} قال مجاهد: كورًا يوم القيامة: {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي: المهرب. وعن ابن عباس قوله: {كَلَّا لَا وَزَرَ} يعني: لا حصن ولا ملجأ {إِلَى
رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} قال قتادة: أي: المنتهي. وقال ابن زيد: استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، قال مجاهد: بأول عمله وآخره. وعن ابن عباس قوله: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ، يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه. وقال قتادة: شاهد عليها بعملها. وعن سعيد بن جبير: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، قال: شاهد على نفسه ولو اعتذر.
قوله عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) } .
عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه القرآن تعجل، يريد حفظه، فقال الله تعالى ذكره: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، وقال ابن عباس: هكذا، وحرك شفتيه. {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} ، قال: في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} ، قال: تقرؤه بعد. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أنزلناه إليك. {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال:(4/399)
فاستمع قرآنه. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، قال: تبيانه بلسانك، فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل) .
قوله عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } .
عن قتادة: قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} ، قال ابن زيد: الناضرة: الناعمة. وقال الحسن: حسنة. وقال مجاهد: مسرورة. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، قال الحسن: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق. وقال عطية العوفي: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم؛ فذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} . وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، ولا قبل غروبها فافعلوا» . وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . وروى مسلم عن جابر في حديثه: «إن الله يتجلى للمؤمنين، يضحك - يعني: في عرصات يوم القيامة -» . قال ابن كثير: ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات.(4/400)
عن مجاهد: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، قال: كاشرة. وقال قتادة: كالحة. وقال ابن زيد: عابسة. {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ، قال مجاهد: واهية. وقال قتادة: شر. وقال ابن زيد: تظن أنها ستدخل
النار، قال: تلك الفاقرة. وقال البغوي: الفاقرة الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر.
قوله عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) } .
قال البغوي: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ} ، يعني: النفس، كناية عن غير مذكور، {التَّرَاقِيَ} تحشرج بها عند الموت {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به؟ وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل شيئًا. وعن قتادة: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} ، أي: استيقن. وقال ابن زيد: ليس أحد من خلق الله يدفع الموت ولا ينكره، ولكن لا يدري يموت من ذلك المرض أو من غيره، فالظن كما ها هنا هذا. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ، قال الحسن: لفهما أمر الله. وقال أبو مالك: هما ساقاه إذا ضمت إحدهما بالأخرى. وقال قتادة: ماتت رجلاه فلا يحملانه إلى شيء، فقد كان عليهما جوالاً. وعن ابن عباس قوله:
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يقول: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله. وقال مجاهد: هو أمر الدنيا والآخرة عند الموت.(4/401)
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال البغوي: أي: مرجع العباد إلى الله يساقون إليه. وعن قتادة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لا صدق لكتاب الله، ولا صلى لله. {وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} ، أي: يتبختر، وهو أبو جهل بن هشام كانت مشيته. قال ابن جرير: ومنه الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مشت أمتي المطيطاء» ، وذلك أن يلقي الرجل بيديه ويتكفأ. وقال سعيد عن قتادة: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيد على وعيد كما تسمعون، زعم أن هذا أنزل في عدو الله أبي جهل، ذكر لنا: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بمجامع ثيابه فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال عدو الله أبو جهل: أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئًا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها. قال: فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يصد الله بعد هذا اليوم؛ وضرب الله عنقه وقتله شر قتلة.
وعن ابن عباس: قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ قال: هملاً. وقال مجاهد: لا يؤمر ولا ينهى؟ {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} ، قال البغوي: فجعل فيه الروح وسوى خلقه، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ}
الذي فعل هذا {بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ وعن ابن عباس: أنه مر بهذه الآية: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ قال: سبحانك فبلى.
* * *(4/402)
الدرس الخامس والتسعون بعد المائتين
[سورة الإنسان]
مدنية، وهي إحدى وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً
وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ(4/403)
وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) } .
* * *(4/404)
قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) } .
عن قتادة: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} آدم أتى عليه. {حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ؟ قال: كان آدم - صلى الله عليه وسلم - آخر ما خلق من الخلق. {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} ، قال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة. وقال الربيع: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج. وقال ابن جرير: وقوله: {نَّبْتَلِيهِ} نختبره. ... {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} قال ابن كثير: أي: جعلنا له سمعًا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية. وقوله جل وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله جل وعلا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وكقوله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر.
وقوله تعالى: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} منصوب على الحال من الهاء في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} تقديره: فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل(4/405)
الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» .
قوله عز وجل: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا
عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (22) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى عما أرصده للكافرين - من السلاسل والأغلال والسعير، وهو اللهب والحريق - في نار جهنم، كما قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير، قال بعده: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة، مع ما يضاف(4/406)
إلى ذلك من
اللذاذة في الجنة. قال الحسن: برد الكافور في طيب الزنجبيل، ولهذا قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي: هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور، هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا بلا مزج.
وعن قتادة: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} ، قال: مستقيد ماؤها لهم، يفجرونها حيث شاءوا.
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، فسماهم الله بذلك: {الْأَبْرَارَ} ، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض. وفي الحديث الصحيح: ... «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . وعن مجاهد: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ، قال: وهم يشتهونه: {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ، قال قتادة: كان أسراهم يومئذٍ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وقال مجاهد: الأسير هو: المحبوس. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} ، قال: أما أنهم ما تكلموا به، ولكن الله علمه من قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، قال ابن عباس: طويلاً. وقال قتادة: عبست فيه الوجوه وقبضت ما بين أعينها كراهية ذلك اليوم. {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}
نضرة في وجهوهم وسرورًا في قلوبهم. {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، يقول: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا} على طاعة الله وصبروا عن معصيته ومحارمه. {جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} كنا نحدث أنها الحجال فيها الأسرة. قال الله: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} يعلم الله أن شدة الحر تؤذي، وشدة القر تؤذي، فوقاهم الله أذاهما. {قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ} ، قال: هي من فضة وصفاؤها صفاء القوارير وبياض الفضة، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.(4/407)
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} ، أي: صفاء القوارير في بياض الفضة. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قدرت على ري القوم. {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ، قال ابن كثير، أي: يسقون - يعني: الأبرار أيضًا - في هذه الأكواب، {كَأْساً} ، أي: خمرًا. {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة، ومن هذا تارة، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفًا. وعن قتادة: قوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} رفيعة، يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لسائر أهل الجنة، وعن مجاهد: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} قال: سلسة الجرية. وعن قتادة: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي: لا يموتون.
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} ، قال: من كثرتهم وحسنهم. {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ، قال البغوي، أي: إذا رأيت ببصرك ونظرت به: {ثَمَّ} ، يعني: في الجنة: {رَأَيْتَ نَعِيماً} لا يوصف {وَمُلْكاً كَبِيراً} ، قال ابن كثير: وثبت في الصحيح: أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولاً إليها: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) . {عَالِيَهُمْ} ، أي: فوقهم {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} ، قال ابن كثير، أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير، ومنه سندس وهو رفيع الحرير، كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريق(4/408)
ولمعان، وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباس {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ، أي: طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى، وسائر الأخلاق الرديئة؛ كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هناك عينين، فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم) ؛ فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} غفر لهم الذنب وشكر لهم السعي؛ وقال: لقد شكر الله سعيًا قليلاً.
قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً} قال ابن(4/409)
عباس: متفرقًا آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} ، قال ابن كثير: فالآثم هو الفاجر في أفعاله، والكفور هو الكافر قلبه. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إلى أول النهار وآخره: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} ، كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} .
{إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} ، يعني: يوم القيامة، {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} ، قال ابن عباس: خلقهم. وقال الحسن: يعني: أوصالهم، شددنا بعضهما إلى بعض بالعروق والعصب {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} .
وعن قتادة في قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} قال: إن هذه السورة تذكرة، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} قال البغوي: وسيلة للطاعة. {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} أي: لستم تشاءون إلا بمشيئة الله عز وجل، لأن الأمر إليه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ، قال ابن كثير، أي: عليم بمن يستحق الهداية فيسرها له ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
* * *(4/410)
الدرس السادس والتسعون بعد المائتين
[سورة الْمُرْسَلَاتِ]
مكية، وهي خمسون آية
... عن أم الفضل: (أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: بالمرسلات عرفًا) . متفق عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ(4/411)
شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) } .
* * *(4/412)
قوله عز وجل: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) } .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى، إذ نزلت عليه: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوها» فابتدرناها فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» . متفق عليه.
وعن ابن عباس: قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً} ، يعني: الريح. وعن صالح بن بريدة في قوله: {عُرْفاً} ، قال: يتبع بعضها بعضًا. وقال البغوي: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً} ، يعني: الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس. وعن قتادة: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} ، قال: الرياح. وعن مجاهد: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} ، قال: الريح. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله بشرًا بين يدي رحمته.
وعن ابن عباس: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} ، قال: الملائكة. قال البغوي: تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} ، قال قتادة: هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتبلغه، {عُذْراً أَوْ نُذْراً}
، قال: {عُذْراً} من الله، {أَوْ نُذْراً} منه إلى(4/413)
خلقه. وقال في جامع البيان: أي: لإعذار المحقين، وإنذار المبطلين، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ، قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي: ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، إن هذا كله {لَوَاقِعٌ} ، أي: لكائن لا محالة.
قال البغوي: ثم ذكر متى يقع فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} محي نورها، {وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ} شقت {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} قلعت من أماكنها {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} جمعت لميقات يوم معلوم. وقال في جامع البيان: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} جمعت وعين لها وقت ينحصرون فيه للشهادة على أممهم، {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} ، قال البغوي: أخرت، وضرب الأجل لجمعهم؛ تعجب العباد من ذلك اليوم؛ ثم بين فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} ، قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق. وقال ابن كثير: يقول تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} الرسل وأرجئ أمرها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وهو يوم الفصل، كما قال تعالى: {ليَوْمُ الْفَصْلِ} انظر في الآية. ثم قال تعالى معظمًا لشأنه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: ويل لهم من عذاب الله غدًا.
قوله عز وجل: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي(4/414)
قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} ، يعني: من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوهم به، {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} ، أي: ممن أشبههم، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
قال ابن جرير: ثم قال تعالى ممتنًا على خلقه ومحتجًا على الإعادة بالبداءة، {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} قال البغوي: يعني: النطفة. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} يعني: الرحم، {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} وهو وقت الولادة {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي: المقدرون {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} قال ابن عباس: كنا أحياء وأمواتًا. وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} ، يعني: الجبال، {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً} عذبًا {وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث الذي تكذبون به.
قوله عز وجل: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) } .(4/415)
قال البغوي: ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} ، يعني: دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق، {لَا ظَلِيلٍ} يظلّ من الحرّ {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} . قال الكلبي: لا يردّ جهنّم عنكم، والمعنى: أنهم إذا استظلوا بذلك الظّل لم يدفع عنهم حرّ اللهب، {إِنَّهَا} يعني: جهنّم {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} . قال ابن عباس يقول: كالقصر العظيم، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ، قال البغوي: جمع الأصفر، يعني: لون النار، وقيل: الصفر معناها: السود لأنه جاء في الحديث: «أن شرر نار جهنم أسود كالقير» ، والعرب تسمي سود الإبل صفرًا لأنه يشرب سوادها شيء من صفرة.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} أي: في القيامة لأن فيها مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ، قال ابن كثير:
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحالة تارة ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذٍ ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده، يقول لهم: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ، يعني: أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.
وقوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} تهديد وشديد ووعيد أكيد: أي: إن قدرتم على أن تخلصوا من قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون(4/416)
على ذلك، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وقال عبد الله بن عمرو: إنا نحدث يومئذٍ: (أنها تخرج عنق من النار فتنطلق، حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت: أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة، أنا أعرف منهم من الأب بولده: الذي جعل مع الله إلهًا آخر، وكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد؛ فتطوى عليهم فتقذف بهم في النار) .
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات، أنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون، أي: بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظلل اليحموم، وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله: {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: من سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم. ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} ، أي: هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
قوله عز وجل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) } .(4/417)
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} خطاب للمكذبين بيوم الدين؛ وأمرهم أمر تهديد ووعيد، فقال تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} أي: مدة قليلة قريبة قصيرة {إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} أي: ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} أي: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه، ولهذا قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟ كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ انتهى. آمنا بالله وآياته.
وعن أبي هريرة مرفوعًا: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى، وإنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى: ... {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى. ومن قرأ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فبلغ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله» . رواه البغوي وغيره. والله أعلم.
* * *(4/418)
الدرس السابع والتسعون بعد المائتين
[سورة النبأ]
مكية، وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء
حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37)(4/419)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } .
* * *(4/420)
قوله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) } .
قال الحسن: (لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا يتساءلون بينهم، فأنزل الله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} يعني: الخبر العظيم) . قال قتادة: وهو البعث بعد الموت. وقال ابن زيد في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ، قال: يوم القيامة؛ قال قالوا: هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا؟ قال: فهم فيه مختلفون لا يؤمنون به، فقال الله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يوم القيامة لا يؤمنون به. قال قتادة: فصار الناس فيه فريقين: مصدق، ومكذب، فأما الموت فقد أقروا به لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت.
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ، قال البغوي: {كَلَّا} نفي، يقول: هم سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكشف الأمور، {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وعيد على أثر وعيد. وقال في جامع البيان: {كَلَّا}
ردع عن هذا التساؤل والاختلاف، {سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} تكرير للمبالغة و {ثُمَّ} للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد.(4/421)
قال ابن كثير: ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} ، أي: ممهدة للخلائق ذلولاً لهم قارة ساكنة ثابتة، {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ، أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها، ثم قال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} ، يعني: ذكرًا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ويحصل التناسل، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} .
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب.
وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني: السموات السبع في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها، وتزينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم، التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلها.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أي: السحاب، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . وقوله جل وعلا: {مَاء ثَجَّاجاً} قال مجاهد: منصبًّا.
وقوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، أي: لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك حبًا يدخر للأناسي والأنعام {وَنَبَاتاً} ، أي: خضرًا يؤكل(4/422)
رطبًا {وَجَنَّاتٍ} ، أي: بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا، ولهذا قال: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، قال ابن عباس وغيره: {أَلْفَافاً} مجتمعة، وهذه كقوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} وهو يوم عظمه الله يفصل الله فيه بين الأولين والآخرين بأعمالهم، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ، قال مجاهد: زمرًا زمرًا، {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} ، قال ابن كثير: أي: طرقًا ومسالك لنزول الملائكة، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} ، أي: يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} ، قال: ألا إن على الباب الرصد، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز احتبس. وقال قتادة: يعلمنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يقطع النار. {لِلْطَّاغِينَ مَآباً} ، أي: نزلاً ومأوى، {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} وهو مالا انقطاع له، كلما مضى(4/423)
حقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة. وعن الربيع: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فاستثنى من الشراب: الحميم، ومن البرد: الغساق. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده وعن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن دلوًا من غساق يهراق إلى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . رواه ابن جرير.
وعن ابن عباس: قوله: {جَزَاء وِفَاقاً} يقول: وافق أعمالهم. قال قتادة وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً} قال ابن زيد: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب. وقال قتادة: لا يخافون حسابًا {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} قال البغوي: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: بما جاء به الأنبياء {كِذَّاباً} يعني: تكذيبًا. {وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: أي: وقد علمنا أعمال العباد وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. وعن قتادة: ... {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشد منها: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} فهم في مزيد من عذاب الله أبدًا.
قوله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ(4/424)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } .
عن قتادة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} ، أي: والله مفازًا من النار إلى الجنة، ومن عذاب الله إلى رحمته {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} يعني: بذلك النساء أترابًا لسن واحدة. وقال ابن جريج: الكواعب: النواهد. وقال ابن زيد: هي التي قد نهدت وكعب ثديها {وَكَأْساً دِهَاقاً} ، قال: الدهاق المملوءة. وقال ابن عباس: الملأى المتتابعة. وعن قتادة {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً} قال: باطلاً وإثمًا
{جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً} أي: عطاء كثيرًا، فجزاهم بالعمل اليسير الخير الجسيم الذي لا انقطاع له.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي: كلامًا. قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} ، أي: جبريل عليه السلام، {وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ، قال ابن عباس يقول: إلا من أذن له الرب بشهادة أن لا إله إلا الله، وهي منتهي الصواب. وعن مجاهد: {وَقَالَ صَوَاباً} ، قال: حقًا في الدنيا وعمل به.
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} ، قال البغوي: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الكائن الواقع، يعني: يوم القيامة، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} مرجعًا وسبيلاً بطاعته، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته. {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} ، يعني: العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}(4/425)
أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتًا في صحيفته، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ، قال عبد الله بن عمرو: (إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قيل لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ) .(4/426)
الدرس الثامن والتسعون بعد المائتين
[سورة النازعات]
مكية، وهي ست وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ(4/427)
الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } .
* * *(4/428)
قوله عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) } .
عن ابن مسعود: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} ، قال: الملائكة، قال ابن عباس: تنزع الأنفس.
قال البغوي: يعني: الملائكة تنزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم ثم غرقت ثم قذف بها في النار. وعن ابن عباس: ... {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} ، قال: الملائكة حين تنشط نفسه. قال البغوي: هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي: تحل حلاً رفيقًا فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وقال ابن القيّم: النازعات التي تنزع الأرواح من الأجساد، والنزع: اجتذاب النفس بقوة؛ والناشطات التي تنشطها، أي: تخرجها بسرعة وخفّة؛ والنزع مشترك بين نفوس بني آدم والإغراق يختصّ بالكافر.
وعن مجاهد: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} ، قال: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين. وعن مجاهد: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} ، قال: الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} ، قال ابن
عباس: هم الملائكة وكّلوا بأمور عرّفهم الله عز وجل العمل بها. قال البغوي: وجواب هذه الأقسام محذوف على تقدير: لتبعثن ولتحاسبنّ. وعن ابن عباس: قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} ، يقول:(4/429)
النفخة الأولى، وقوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ، يقول: النفخة الثانية. قال الحسن: أما الأولى: فتميت الأحياء، وأما الثانية: فتحي الموتى، ثم تلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} . وعن قتادة: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ، يقول: خائفة، وجفت مما عاينت يومئذٍ، {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ، يقول: ذليلة.
وقوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ، قال البغوي: يقولون - يعني: المنكرين للبعث، إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت -؟ : {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؟ قال ابن عباس يقول: ائنا لنحيا بعد موتتنا، ونبعث من مكاننا هذا؟ وقال قتادة: أي: مردودون خلقاً جديداً؟ وقال البغوي: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ، أي: إلى أول الحال وابتداء الأمر، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا؟ تقول العرب: راجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأول الشيء. وعن ابن عباس: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} فالنخرة: الفانية البالية. وعن قتادة: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً} تكذيباً بالبعث ناخرة بالية {قَالُوا
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} ، أي: راجعة خاسرة. قال ابن زيد: وأي كرّة أخسر منها؟ أُحْيُوا ثم صاروا إلى النار فكانت كرّة سوء.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} قال: الزجرة: النفخة في الصور {فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} قال: ظهر الأرض فوق بطنها. قال قتادة: لما تباعد البعث في أعين القوم قال الله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} يقول: فإذا هم على الأرض بعد ما كانوا في جوفها. قال البغوي: والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض: ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سمّوها ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهرها.(4/430)
قوله عز وجل: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) } .
قال ابن كثير: قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، أي: هل سمعت بخبره، {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} ، أي: كلّمه نداء، {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} ، أي: المطهّر، {طُوًى} وهو اسم الوادي. قال قتادة: كنا نحدّث أنه قدّس مرتين، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} ، قال ابن زيد: إلى أن تسلم؛ قال: والتزكّي في القرآن كلّه الإسلام.
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ، قال البغوي: أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده، فتخشى عقابه، {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} ، قال مجاهد: عصاه ويده {فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} ، قال مجاهد: يعمل بالفساد {فَحَشَرَ فَنَادَى} قال ابن زيد: صرخ وحشر قومه فنادى فيهم، فلما اجتموا قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} ، قال قتادة: عقوبة الدنيا والآخرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} . قال ابن كثير: أي: لمن يتّعظ وينزجر.
قوله عز وجل: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) } .(4/431)
قال ابن كثير: يقول تعالى محتجًّا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه {أَأَنتُمْ} أيها الناس {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} ؟ يعني: بل السماء أشد خلقاً منكم، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . قال البغوي: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} ، يعني: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله واحد.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {بَنَاهَا} فسّره بقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} قال مجاهد: رفع بناءها بغير عمد {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} قال ابن عباس: أظلم ليلها، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ، قال مجاهد:
نورها. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ، قال ابن عباس: وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثم دحى الأرض بعد ذلك، {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ، أي: دحى الأرض، فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأخرج أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبّت جبالها لتستقرّ بأهلها ويقرّ قرارها، كلّ ذلك متاعاً لخلقه، ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدّة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.
قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ(4/432)
الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } .
عن ابن عباس: قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذّره عباده. قال البغوي: والطامّة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} ما عمل في
الدنيا من خير وشرّ، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} ، قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق، {فَأَمَّا مَن طَغَى} ، قال مجاهد: عصى وآثر الحياة الدنيا، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ، قال مقاتل: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، قال البغوي: متى ظهورها وثبوتها {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} لست في شيء من علمها وذكرها: أي: لا تعلمها {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي: منتهى علمها عند الله ... {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها ... {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ، قال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
* * *(4/433)
الدرس التاسع والتسعين بعد المائتين
[سورة عبس]
مكية، وهي اثنتان وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ
(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } .(4/434)
قوله عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) } .
عن ابن عباس: قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} ، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هاشم، والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدّى لهم كثيرًا رجاء أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرىء النبي - صلى الله عليه وسلم - آية من القرآن وقال: يا رسول الله علمني مما علّمك الله فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبس في وجهه وتولّى، وكره كلامه وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} . فلما نزل فيه أكرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلّمه وقال له: «ما حاجتك؟ هل تريد من شيء» ؟ وإذا ذهب من عنده قال له: «
هل لك حاجة في شيء» ؟ وذلك لما أنزل الله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} .(4/435)
قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم من الوحي شيئًا كتم هذا عن نفسه؛ قال: وكان يتصدّق كهذا الشريف في جاهليّته رجاء أن يسلم، وكان عن هذا يتلهّى.
قال البغوي: {عَبَسَ} كلح {وَتَوَلَّى} أعرض بوجهه، {أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} وهو ابن أم مكتوم، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يتطهّر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلّمه منك، {أَوْ يَذَّكَّرُ} يتّعظ ... {فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} ، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} ، قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما لَهُ من المال، {فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} تتعرض له وتقبل وتصغي إلى كلامه، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أن لا يؤمن ويهتدي، إن عليك إلاَّ البلاغ. {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى} يمشي، يعني: ابن أمّ مكتوم {وَهُوَ يَخْشَى} الله عز وجل {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تتشاغل وتعرض عنه. {كَلَّا} زجر: أي: لا تفعل بعدها مثلها {إِنَّهَا} ، يعني: هذه الموعظة؛ وقال مقاتل: آيات القرآن، {تَذْكِرَةٌ} موعظة وتذكير للخلق {فَمَن شَاء} من عباد الله {ذَكَرَهُ} أي: اتّعظ به. ثم أخبر عن جلالته عنده فقال: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} يعني: اللوح المحفوظ {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} لا يمسّها إلاَّ المطهرون {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} ، قال ابن عباس: هم الملائكة {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} قال البغوي: أي: كرام على الله بررة مطيعين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاقّ له أجران» . رواه الجماعة.
قوله عز وجل: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ(4/436)
شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) } .
قال مجاهد: ما كان في القرآن: قتل الإنسان أو فعل بالإنسان، فإنما عني به الكافر. قال البغوي: {مَا أَكْفَرَهُ} ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده، على طريق التعجّب. قال الزجاج معناه: اعجبوا أنتم من كفره. وقال الكلبيّ ومقاتل: هو (ما) الاستفهام، يعني: أيّ شيء حمله على الكفر؟ ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خلقه فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} .
وقال ابن كثير: ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} ، قال البغوي: أطوارًا: من نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس: يعني بذلك: خروجه من بطن أمه
يسره له. وقال مجاهد: هو كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، قال البغوي: جعل له قبرًا يوارى فيه {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أحياه بعد موته، {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، قال البغوي {كَلَّا} رد عليه، أي: ليس كما يقول ويظن هذا الكافر. وقال الحسن: حقًا، {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، أي: لم يفعل ما أمره الله به ربه، ولما يؤد ما فرض عليه. ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} كيف قدره ربه ودبره له وجعله سببًا لحياته. وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه. ثم بين فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً} ، يعني: المطر، {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} بالنبات {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} ، أي: الحبوب التي يتغذى بها(4/437)
{وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت الرطب، سمى بذلك لأنه يقضب في كل أيام: أي: يقطع. {وَزَيْتُوناً} وهو ما يعصر منه الزيت، {وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ} بساتين {غُلْباً} غلاظ الأشجار. وقال مجاهد: الغلب: الشجر الملتف بعضه في بعض.
{وَفَاكِهَةً} يريد: ألوان الفاكهة. {وَأَبّاً} ، يعني: الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس. قال قتادة: الفاكهة لكم، والأب لأنعامكم. وعن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: (أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟) وعن أنس قال: قرأ
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فلما أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} ، قال: (قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب، إن هذا لهو التكلف) ؛ قال ابن كثير: وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} .
وقوله تعالى: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ، أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } .(4/438)
عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} ، قال: (هذا من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده) . قال البغوي: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} ، يعني: صيحة القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع: أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه. وقال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول: يا هذه أيّ بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها:
فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئًا، أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني: أيّ والد كنت لك؟ فيثني بخير فيقول له: يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} . وعن عروة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» فقالت: يا رسول الله فكيف بالعوارت؟ فقال: « {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} » . رواه النسائي. وقال ابن زيد في قول الله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، قال: شأن قد شغله عن صاحبه.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} ، قال: هؤلاء أهل الجنة: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ، قال: هذه وجوه أهل النار؛ قال: والقترة من الغبرة وهما واحد، فأما في الدنيا فإن القترة ما ارتفع فحلق بالسماء رفعته الريح، تسميه(4/439)
العرب: القترة؛ وما كان أسفل في الأرض فهو الغبرة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يلجم الكافر العرق، ثم تقع الغبرة على وجوههم» - قال: - فهو قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} . وقال ابن عباس: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ، أي: يغشاها سواد الوجوه.
وقال البغوي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة. {ضَاحِكَةٌ} بالسرور، {مُّسْتَبْشِرَةٌ} فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} سواد وكآبة مما يشاهدون من الغم والهم، {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف، {أُوْلَئِكَ} الذين يصنع بهم هذا: {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .
* * *(4/440)
الدرس الثلاثمائة
[سورة التكوير]
مكية، وهي تسع وعشرون آية
... عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ إذا الشمس كوّرت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقّت» . رواه أحمد وغيره.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)(4/441)
وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } .(4/442)
قوله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) } .
وعن أبي العالية: قال: قال أبيّ بن كعب: (ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واحترقت، وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماجوا بعضهم في بعض. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال: اختلطت {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} قال: أهملها أهلها {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، قال: فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج قال: فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم) .
وعن ابن عباس. {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، يقول: أظلمت. قال قتادة: ذهب ضوءها فلا ضوء لها. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} قال البغوي: أي: تناثرت من
السماء وتساقطت على الأرض {وَإِذَا(4/443)
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ، قال ابن جرير: سيرها الله فكانت سرابًا وهباء منبثًا، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} ، قال الحسن: سيبها أهلها فلم تصر ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} ، قال ابن عباس: حشر البهائم موتها، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، قال ابن عباس: كور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، فبعث عليها ريحًا دبورًا فنفخه حتى يصير نارًا، فذلك قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} . {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} ، قال عمر بن الخطاب: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة أو النار وقرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ، قال: ضرباءهم. وقال مجاهد: الأمثال من الناس جمع بينهم. وقال قتادة: لحق كل إنسان بشيعته. وقال الشعبي: زوجت الأرواح الأجساد. وعن أبي العالية في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، قال: سيأتي أولها والناس ينظرون وسيأتي آخرها إذا النفوس زُوِّجت.
وعن قتادة: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} هي في بعض القراءة: سألت، {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} لا بذنب؛ كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم. قال البغوي: ومعناه تسأل الموؤدة فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب. {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ، قال قتادة: صحفك يا ابن آدم تملي ما فيها ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة. {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} ، قال السدي: كشفت. وقال الفراء:
نزعت فطويت. وعن قتادة: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} ، قال ابن جرير: قربت وأدنيت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} ، قال قتادة: من عمل. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما نزلت: {إِذَا(4/444)
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، قال عمر لما بلغ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} : لهذا جرى الحديث. قال البغوي: وهذا جواب قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وما بعدها.
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } .
عن قتادة: قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ، قال: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار. وقال: الخنس هي: النجوم تخنس بالنهار، و {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} سيرهن إذا غبن. وقال ابن زيد: الخنس إنها تخنس: تتأخر عن مطلعها، هي تتأخر كل عام، لها في كل عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه والكنس: تكنس بالنهار فلا ترى. قال: والجواري تجري بعد؛ فهذا: الخُنَّس الجوارِ الكُنَّس.
وقال ابن القيم: (أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة: من طلوعها وجريانها وغروبها) . وعن ابن عباس قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، يقول: إذا أدبر. وقال الحسن يقول: أقبل بظلامه، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ورجحه ابن كثير. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ، قال قتادة: إذا أضاء وأقبل، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، يعني: جبريل. قال ابن كثير: يعني أن هذا القرآن لتبليغ {رَسُولٍ(4/445)
كَرِيمٍ} ، أي: ملك شريف، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ} ، أي: شديد الخلق شديد البطش والفعل، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} ، أي: له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة، {مُطَاعٍ ثَمَّ} ، أي: له وجاهة وهو مسموع القول في الملأ الأعلى، {أَمِينٍ} ، قال البغوي: على وحي الله ورسالته إلى أنبيائه. {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} ، يقول لأهل مكة: {وَمَا صَاحِبُكُم} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ} ، يعني: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام على صورته {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق؛ قاله مجاهد، وقتادة.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ، أي: وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين: أي: بمتهم؛ ومنهم من قرأ ذلك بالضاد: أي: ببخيل، بل يبذله لكل أحد. وقال قتادة: كان القرآن غيبًا فأنزله الله على محمد، فما ضن به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}
، يقول: فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} ، قال مجاهد: يتبع الحق، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، قال البغوي: أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله، وفيه إعلام أن أحدًا لا يعمل خيرًا إلا بتوفيق الله، ولا ضرًا إلا بخذلانه.
* * *(4/446)
[سورة الانفطار]
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) } .
* * *(4/447)
قوله عز وجل: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) } .
قال البغوي: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} انشقت {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} تساقطت. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح فصارت بحرًا واحدًا. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} ، قال ابن عباس: بحثت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} قال القرظي {مَّا قَدَّمَتْ} ما علمت، وأما ما أَخَّرَتْ: فالسنة يسنها الرجل يعمل بها من بعده، {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ، قال قتادة: شيء ما غر ابن آدم، هذا العدو الشيطان. سمع عمر رجلاً يقرأ: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فقال عمر: الجهل.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق يومًا في كفه، فوضع عليها أصبعه ثم قال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى(4/448)
إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق؛ وأنى أوان الصدقة» ؟ وعن مجاهد في قول الله: {فِي أَيِّ
صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} ، قال: في أيّ شبه أب، أو أم، أو عم، أو خال. {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} ، قال: بالحساب.
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بجرم حائط، أو ببعيره» . رواه البزار. وفي رواية ابن أبي حاتم: «أو ليستره أخوه» .
قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الأبرار: الذين بروا وصدقوا في إيمانهم، بأداء فرائض الله عز وجل واجتناب معاصيه. {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم: ليت شعري، ما لنا عند الله؟ قال: أعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم مالك عند الله. قال: فأين أجده في كتاب الله؟ فقال: عنده قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي(4/449)
جَحِيمٍ} ، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين.
قوله عز وجل: {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {يَوْمَ الدِّينِ} يوم القيامة {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} ؛ ثم عظم ذلك اليوم فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ؛ ثم كرر تفخيمًا لشأنه فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، قال قتادة: والأمر والله اليوم لله، لكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد؛ ليس ثم أحد يومئذٍ يقضي شيئًا ولا يصنع إلا رب العالمين؛ قال ابن كثير: ولهذا قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، كقوله: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .
* * *(4/450)
الدرس الواحد بعد الثلاثمائة
[سورة المطففين]
مكية، وهي ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا(4/451)
الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ
يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } .
* * *(4/452)
قوله عز وجل: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) } .
عن هلال بن طلق قال: بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلاً أهل مكة وأهل المدينة؛ قال: حق لهم، أما سمعت الله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} . وعن ابن عباس: (قال لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدنية كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فحسنوا الكيل بعد ذلك) . وعن ابن عمر قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل، قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل، وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ وعن عكرمة قال: أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له في ذلك فقال: إنه ليس منهم أحد يزن كما يتزن، ولا يكيل كما يكتال، وقد قال الله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} . قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل.
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ؛ قال البغوي: أي: كالوا لهم ووزنزا لهم {يُخْسِرُونَ} ، أي: ينقصون، {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقوم الناس لرب(4/453)
العالمين حتى يغيب أحدهم في
رشحه إلى أنصاف أذنيه» . متفق عليه. وعن أبي أمامة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور، يعرقون فيها على قدر خطاياهم، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق» . رواه أحمد. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبشير الغفاري: «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين مقدار ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا، لا يأتيهم خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر» ؟ قال بشير: المستعان الله يا رسول الله. قال: «إذا أنت أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة، وسوء الحساب» . رواه ابن جرير.
قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} ذكر أن عبد الله ابن عمر كان يقول: هي الأرض السفلى، فيها أوراح الكفار، وأعمالهم أعمال السوء. وقال ابن(4/454)
كثير: يقول تعالى: حقًا إن كتاب
الكفار {لَفِي سِجِّينٍ} ، أي: أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين، مأخوذ من السجن وهو الضيق ولهذا عظم أمره فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} أي: هو أمر عظيم، وسجن مقيم، وعذاب أليم. انتهى ملخصًا. وقال الزجاج في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ، أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ، قال البغوي: ليس هذا تفسير السجين، بل هو بيان الكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ} ، قال قتادة: رقم لهم بشرّ. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال ابن كثير: أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه، وتنزيله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي قال الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . رواه ابن جرير. وعن قتادة: قوله: ... {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أعمال السوء: أي والله ذنب على ذنب وذنب على ذنب حتى مات قلبه واسود. وقال ابن(4/455)
زيد: غلب على قلوبهم ذنوبهم فلا يخلص إليها معها خير. وعن قتادة: {كَلَّا
إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} هو لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ... {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته، وقال الإمام مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
قال البغوي: ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبين عن الله يدخلون النار فقال: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا} ، أي: هذا العذاب {الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} قال: عليون فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس: أعمالهم في كتاب عند الله في السماء. وقال كعب الأحبار: إن الروح المؤمنة إذا قبضت صعد بها، ففتحت لها أبواب السماء وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم عرجوا معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لها من عند العرش رَقّ فيرقم ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة، وتشهد الملائكة المقربون.(4/456)
قال البغوي: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعمة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ، قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب. {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} ، قال ابن عباس: يعني بالرحيق: الخمر، طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها تختم بمسك. وعن قتادة: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، قال: عاقبته مسك يمزج لهم بالكافور، ويختم بالمسك. ... {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ، قال عطاء: فليستبق المستبقون. وعن ابن عباس: قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صرفًا، ويمزج فيها لمن دونهم. وعن الحسن في قوله: ... {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، قال: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. وقال ابن عباس: هذا مما قال الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} في الدين، يقولون: والله إن هؤلاء لكذبة وما هم على
شيء. استهزاء بهم، {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} ، قال ابن جرير: يقول: كان بعضهم يغمز بعضًا بالمؤمن استهزاء به وسخرية، {وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} ، قال ابن عباس: معجبين، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} ، قال ابن كثير: أي: لكونهم على غير دينهم، قال(4/457)
الله تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وما بعث هؤلاء الكفار القائلون للمؤمنين: {إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} حافظين عليهم بأعمالهم، يقول: إنما كلفوا الإيمان بالله والعمل بطاعته، ولم يُجعلوا رقباء على غيرهم يحفظون عليهم أعمالهم وينتقدونها.
وعن ابن عباس: قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} ، قال: يعني: السرر المرفوعة عليها الحجال. وكان ابن عباس يقول: (إن السور الذي بين الجنة والنار يفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار والمؤمنون على السور ينظرون كيف يعذبون فيضحكون منهم) ، فيكون ذلك مما أقر به أعينهم كيف ينتقم الله منهم.
وعن مجاهد: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} ، قال: جزي. وعن سفيان: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، حين كانوا يسخرون؟ قال البغوي: ومعنى الاستفهام ها هنا: التقرير. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؟ أي: هل جوزي
الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
* * *(4/458)
[سورة الانشقاق]
مكية، وهي خمس وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) } .
* * *(4/459)
قوله عز وجل: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) } .
عن أبي رافع قال: (صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} فسجد فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه) . متفق عليه.
قال البغوي: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} انشقاقها من علامات القيامة
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أي: سمعت أمر ربها بالانشقاق وأطاعته، من الإذن: وهو الاستماع {وَحُقَّتْ} أي: وحق لها أن تطيع ربها {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} مد الأديم وزيد في سعتها، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} قال مجاهد: أخرجت ما فيها من الموتى؛ وقال قتادة: أخرجت أثقالها وما فيها، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} .
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} ، وقال قتادة: إن كدحك يا ابن آدم لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله. وقال ابن زيد: {كَدْحاً} : العمل
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ(4/460)
حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نوقش الحساب عذب» ، فقلت: يا رسول الله أفليس قال الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: «ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» . متفق عليه. وعن قتادة: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، قال: إلى أهل أعد الله لهم في الجنة.
وعن مجاهد: قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} ، قال: يجعل يده من وراء ظهره، {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} ، قال ابن جرير: وقوله: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} يقول: فسوف ينادي بالهلاك وهو أن يقول: واثبوراه واويلاه {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} قال قتادة: أي: في الدنيا، {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أن لن ينقلب، يقول: أن لن يبعث. قال البغوي: ثم قال: {بَلَى} ، أي: ليس كما ظن، بل يحور إلينا ويبعث، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} من يوم خلقه إلى أن بعثه.
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) } .
عن ابن عباس: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} قال: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} وما جمع {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} يقول: إذا استوى. {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} يقول: حالاً بعد حال. قال ابن زيد: الآخرة بعد(4/461)
الأولى {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال: بهذا الحديث وبهذا الأمر. {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} ، قال مجاهد: يكتمون، {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن كثير: أي: فأخبرهم يا محمد بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابًا أليماً.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} هذا استثناء منقطع، يعني: لكن {الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بقلوبهم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: بجوارحهم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي: في الدار الآخرة {غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال البغوي: غير مقطوع ولا منقوص.
* * *(4/462)
الدرس الثاني بعد الثلاثمائة
[سورة البروج]
مكية، وهي اثنتان وعشرون آية
... عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة: بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق) . رواه أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22) } .
* * *(4/463)
قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) } .
عن مجاهد: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، قال: النجوم. وقال ابن جرير: ذات منازل الشمس والقمر، وقال ابن عباس: قصور في السماء {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} قال قتادة: يعني: يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال ابن عباس: (الشاهد محمد والمشهود يوم القيامة ثم قرأ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} . وقال مجاهد: الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة. وعن ابن عباس في قوله: {وَشَاهِدٍ} يقول: الله: {وَمَشْهُودٍ} يقول: يوم القيامة. وقال وابن عمرو بن الزبير: الشاهد يوم الذبح، والمشهود يوم الجمعة. وعن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة. وروى مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة، {وَشَاهِدٍ} يوم الجمعة، وما طلعت الشمس
ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا(4/464)
أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه {وَمَشْهُودٍ} يوم عرفة» . وعن أبي الدراداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا عليّ الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة» . رواه ابن جرير.
قال ابن القيم: (فالشاهد هو: المطلع والرقيب والمخبر، والمشهود هو: المطلع عليه المخبر به المشاهد، إلى أن قال: فكل ما وقع عليه اسم: شاهد ومشهود، فهو داخل في هذا القسم، فلا وجه لتخصيص بعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل التمثيل) .
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر؛ وكان الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر. قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؛ قال فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك
وأرضى من أمر الساحر فاقتل(4/465)
هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحدًا، وإنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدًا إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب؛ فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض؛ وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما
شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.
فبعث به مع نفر في قرقور فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون؛ وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى؛ ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي؛ قال: وما هو؟ قال:(4/466)
تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها. قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق» . رواه أحمد وغيره.
وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} حرقوا المؤمنين والمؤمنات، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ} ، قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22) } .
قال البغوي: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي: يخلقهم أولاً في الدنيا ثم(4/467)
يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال ابن عباس يقول: الحبيب {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قال البغوي: قرأ حمزة والكسائي: (المجيد) بالجر على صفة الْعَرْشِ أي: السرير العظيم؛ وقيل: أراد حسنه فوصفه بالمجد كما وصفه بالكرم، فقال: (رب العرش الكريم) ومعناه: الكمال، والعرش أحسن الأشياء وأكملها. وقرأ الآخرون: بالرفع على صفة ذو العرش، فقال: لما يريد لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من
النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . وعن عمرو بن ميمون قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} فقام يسمع فقال: «نعم قد جاءني» . رواه ابن أبي حاتم.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} قال البغوي: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك يا محمد، {فِي تَكْذِيبٍ} لك وللقرآن كدأب من قبلهم ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} كريم شريف كثير الخير، ليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة، {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} وهو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب {مَّحْفُوظٍ} من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. قال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
* * *(4/468)
[سورة الطارق]
مكية، وهي سبع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) } .
* * *(4/469)
قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) } .
قال ابن كثير: يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة، ولهذا قال تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} ثم قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثم فسره بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقًا لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} قال البغوي: ما كل نفس إلا عليها حافظ وهي لغة هذيل يجعلون {لَّمَّا} بمنزلة (إلا) يقولون: نشدتك الله لما قمت أي: إلا قمت. وعن قتادة: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربك. وقال الكلبي: حافظ من الله يحفظها ويحفظ قولها وفعلها، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير، ثم يخلي عنها.
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ، قال البغوي: أي: فليتفكر من أيّ شيء خلقه ربه {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} مدفوق: أي: مصبوب في الرحم، وهو: المني. وقال ابن كثير: يخرج دفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله عز وجل؛(4/470)
ولهذا قال: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ، يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو صدرها. وقال قتادة: يخرج من بين صلب الرجل ونحره.
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، قال: على بعثه وإعادته. {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، قال: إن هذه السرائر مختبرة، فأسروا خيرًا أو أعلنوه إن استطعتم ولا قوة إلا بالله، {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} ، قال: {مِن قُوَّةٍ} يمتنع بها {وَلَا نَاصِرٍ} ينصره من الله.
قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) } .
عن قتادة: قوله: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: ترجع بأرزاق العباد كل عام، لولا ذلك هلكوا وهلكت مواشيهم. وقال الضحاك: يعني: المطر. {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قال قتادة: تصدع عن الثمار وعن النبات كما رأيتم. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} ، قال ابن عباس: يقول: حق.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} قال مجاهد: باللعب، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتن» ، قلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله» . الحديث.
قال ابن كثير: ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ، أي: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن،(4/471)
{وَأَكِيدُ كَيْداً} ، قال البغوي: وكيد الله استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون. قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي: أَنْظِرْهُمْ ولا تستعجل لهم {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي: قليلاً. أي: وسترى ماذا حلّ بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} . وقال في جامع البيان: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} إمهالاً يسيراً كرّر وخالف بين الفعلين لزيادة التسكين والتصبير، والحمد لله رب العالمين.
* * *(4/472)
الدرس الثالث بعد الثلاثمائة
[سورة الأعلى]
مكية، وهي تسع عشر آية
عن النعمان بن بشير: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) . رواه مسلم وغيرهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } .
* * *(4/473)
قوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) } .
عن قتادة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال: «سبحان ربي الأعلى» . وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، قال: «اجعلوها في سجودكم» .
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: خلق الخليقة وسوّى كل مخلوق على هيئته {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدّر قدراً وهدى الخلائق إليه. {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} قال قتادة: يعود يبسًا بعد خضرة. وقال ابن عباس: هشيماً متغيراً. وعن مجاهد: قوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} قال: كان يتذكّر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى. وقال قتادة: كان - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى شيئاً إلاَّ ما شاء الله.(4/474)
قال البغوي: وهو ما نسخ الله تلاوته من القرآن، كما قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} .
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} قال ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرًا {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} قال ابن كثير: أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن ها هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله. {سَيَذَّكَّرُ} سيتعظ {مَن يَخْشَى} الله عز وجل {وَيَتَجَنَّبُهَا} ، أي: الذكرى، ويتباعد عنها {الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلَا يَحْيَى} حياة تنفعه.
قوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } .
عن ابن عباس: قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} ، يقول: من تزكى من الشرك {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} يقول: الصلوات الخمس. وعن الحسن في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} قال: من كان عمله زاكيًا. {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قال قتادة: فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله.
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قال: تتابعت كتب الله كما تسمعون: إن الآخرة خير وأبقى. وعن أبي الخلد قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة ليلة، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين) . وفي(4/475)
حديث أبي ذر المشهور
قلت: يا رسول الله فهل في الدنيا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى؟ قال: «نعم، اقرأ يا أبا ذر: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} » .
* * *(4/476)
[سورة الغاشية]
مكية، وهي ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } .
* * *(4/477)
قوله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) } .
قال ابن عباس: (الغاشية من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده) . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ، قال قتادة: ذليلة، {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} ، قال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا فأعملها في النار، {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} ، قال: أنى طبخها منذ يوم خلق الله الدنيا. {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ} ، قال ابن عباس: الضريع: الشبرق. قال عكرمة: هي شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض، فإذا كان الربيع سمتها قريش الشبرق، فإذا هاج العود سمتها الضريع {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي: يعرف النعيم فيها {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قال سفيان: قد رضيت بعملها {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} قال ابن عباس: يقول لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} . أي: سارحة. قال ابن كثير: وهذه نكرة في سياق الإثبات وليس المراد بها عينًا واحدة، وإنما هذا جنس، يعني: فيها عيون جاريات {فِيهَا
سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} ، قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن(4/478)
يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى موضعها؛ {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} عندهم {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} قال قتادة: والنمارق الوسائد {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قال ابن عباس: الزرابي: البسط. قال البغوي: يعني: البسط العريضة. قال ابن عباس: هي الطنافس التي لها خمل، واحدتها: زربية، {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة. انتهى.
قلت: وهي الزوالي بلسان بعض أهل الوقت.
قوله عز وجل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } .
قال البغوي: قال أهل التفسير: لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكر لهم الله تعالى صنعه فقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} . وكانت الإبل أعظم عيش العرب لهم فيها منافع كثيرة، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع، وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا الشاذ منهم. وقال الكلبي: لأنها تنهض بحملها وهي
باركة. وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سرر الجنة وفرشها فقالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها، ثم هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها، ولا يحلب درها، والإبل من أعز مال العرب وأنفسها، تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، وهو مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء. وكان شريح القاضي(4/479)
يقول: اخرجوا بنا إلى كناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.
وقوله تعالى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} أي: عن الأرض حتى لا ينالها شيء يغيرها، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ؟ وعن قتادة: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} تصاعد إلى الجبل الصخر عامة يومك فإذا أفضيت إلى أعلاه أفضيت إلى عيون متفجرة وثمار متهدلة ثم لم تحرثه الأيدي ولم تعمله نعمة من الله وبلغة إلى أجل، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، أي: بسطت، يقول: أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يخلق ما أراد في الجنة؟
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} قال ابن كثير: أي: فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. ولهذا قال: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} قال ابن عباس: يقول: لست عليهم بجبار.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، - ثم قرأ -: {إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطرٍ} » . رواه ابن جرير وغيره.
وعن مجاهد: قوله: {إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} ، قال: حسابه على الله {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} ، قال ابن جرير: وهو عذاب جهنم. وعن قتادة: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، يقول: إن إلى الله الإياب وعليه الحساب.
* * *(4/480)
الدرس الرابع بعد الثلاثمائة
[سورة الفجر]
مكية، وهي ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } .
* * *(4/481)
قوله عز وجل: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) } .
وعن عبد الله بن الزبير أنه قال: {وَالْفَجْرِ} : قسم أقسم الله به. وقال عكرمة: الفجر فجر الصبح. {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، قال ابن عباس: هن الليالي الأول من ذي الحجة. قال مسروق: هي أفضل أيام السنة. وعن مجاهد: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} ، قال: كل خلق الله شفع: السماء والأرض والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، والله الوتر وحده. وعن قتادة: قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} إن من الصلاة شفعًا، وإن منها وترًا. وعن ابن عباس: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ، يقول: إذا ذهب. {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} ، قال: لذي عقل، لذي نهى.
قال ابن جرير: وقوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} ، يقول تعالى ذكره: هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر. وإنما عنى بذلك: أن في هذا القرآن مكتفى لمن عقل عن ربه بما هو أغلظ منه في الأقسام. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} أي: لذي عقل ولبّ ودين وحجى، وإنما سميّ العقل حجرًا
لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من(4/482)
الأفعال والأقوال. انتهى. قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد.
وعن قتادة: قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: كنا نحدّث أن إرم قبيلة من عاد مملكة عاد. وقال ابن إسحاق: عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعن قتادة: قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، قال: كانوا أهل عمود لا يقيمون سيارة. وقال الكلبيّ: وكانوا أهل عمد وخيام، وماشية سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزرع.
وعن قتادة: قوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ذكر أنهم كانوا اثنتي عشرة ذراعاً طولاً في السماء. وقال البغوي: أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة وهم الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وعن ابن عباس: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} ، يعني: ثمود قوم صالح كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وقال قتادة: نقبوا الصخر. وعن مجاهد: قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} ، قال: كان يوتد الناس بالأوتاد، {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} ، قال البغوي: يعني: عادًا، وثمود، وفرعون عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبّروا، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، قال مجاهد: ما عذّبوا به. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ، قال ابن عباس: يقول: يرى ويسمع.
قوله عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) } .(4/483)
وعن قتادة: قوله: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} وحقّ له {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} ما أسرع كفر بني آدم! يقول الله جلّ ثناؤه: {كَلَّا} إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلّتها، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي.
{بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} ، قال: الميراث، {أَكْلاً لَّمّاً} ، أي: شديداً. وقال بكر بن عبد الله: اللمّ الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراث غيره. {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} ، قال قتادة: أي: حبًّا شديدًا.
قوله عز وجل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال تعالى: {كَلَّا} ، أي: حقاً، {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} ، قال ابن جرير: يعني: إذا رجت وزلزلت وحرّكت تحريكاً بعد تحريك، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، يقول تعالى ذكره: وإذ جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفًا صفًّا بعد صفّ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد جنَّهمُ وإنسهم، فإذا كان ذلك اليوم قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل السماء وحدهم أكثر(4/484)
من أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزعوا منهم فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا وهو آت؛ ثم تقاض السماء الثانية، ولأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم.
فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا وهو آت، ثم تقاض السموات سماء سماء، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك حتى تقاض السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سموات ومن جميع أهل الأرض بضعف
فيجيء الله فيهم والأمم جثيّ صفوف، وينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال.
قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ فيقومون فيسرحون إلى الجنة.
فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، خرج عنق من النار فأشرف على الخلائق له عينان تبصران، ولسان فصيح فيقول: إني وكلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فتحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية فيقول: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله، فيلتقطهم لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة - قال عوف: قال أبو المنهال: حسبت أنه يقول -: وكلت(4/485)
بأصحاب التصاوير فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودعي الخلائق للحساب) . رواه ابن جرير.
وقال الضحاك ابن مزاحم: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا بأهلها ونزل من فيها من الملائكة وأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية
، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفًا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رأها أهل الأرض ندوا، فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، وذلك قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وعن ابن مسعود في قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ، قال: (جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها) .
{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، قال ابن عباس: يقول: وكيف له؟ وعن الحسن في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، قال: علم الله أنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها آخر ما عليه؛ {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، قال: قد علم الله أن في الدنيا عذابًا ووثاقًا فقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} في الدنيا، {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} في الدنيا.
وعن قتادة: قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} ، قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال:(4/486)
حدثنا ابن يمان عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: (بشرت بالجنة عند الموت، ويوم الجمع، وعند البعث) . وعن
قتادة: قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، قال: ادخلي في عبادي الصالحين {وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
* * *(4/487)
[سورة البلد]
مكية، وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20) } .
* * *
قوله عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } .
عن ابن عباس في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: مكة {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: بذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحي من شاء، وقال في جامع البيان: قيل معناه: أقسم بمكة حين حلولك(4/488)
فيها، فيكون تعظيمًا للمقسم به. وقال ابن القيم: (وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم، موقعها من أحسن موقع وألطفه فهذا القسم متضمن لتعظيم نبيه ورسوله) . ... {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، قال مجاهد: الولد آدم {وَمَا وَلَدَ} ولده.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} قال ابن عباس: يقول: في نصب. وقال قتادة: لا يلقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس قال: يعني: حمله وولادته، ورضاعه وفصاله، ونبت أسنانه وحياته ومعاشه، كل ذلك شدة؛ قال ابن القيم: (ولا راحة له إلا في الجنة) . {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ، قال قتادة: ابن آدم يظن أن لن يسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي: كثيرًا. {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ؟ قال: نعمٌ من الله متظاهرة يقررك
بها كيما تشكره، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قال مجاهد: سبيل الخير والشر.
قوله عز وجل: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20) } .
عن قتادة: قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرقاب أيها أعظم أجرًا؟ قال: «أكثرها ثمنًا» . قال قتادة: ثم أخبر عن اقتحامها فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ *(4/489)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} يقول: يوم يشتهى فيه الطعام. وقال ابن عباس: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال: ذي مجاعة {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} قال ابن زيد: ذا قرابة {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قال ابن عباس: الذي ليس له شيء يقيه من التراب.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على أمر الله ... {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} لعباد الله: أي: ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة، مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله. {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} ، أي: أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم إلى الجنة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} ، أي: يؤخذ بهم ذات الشمال،
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قال قتادة: أي مطبقة أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد.
* * *(4/490)
الدرس الخامس بعد الثلاثمائة
[سورة الشمس]
مكية، وهي خمس عشر آية
في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «هلا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟» ، يعني: في العشاء الآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
... {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) } .
* * *(4/491)
قوله عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) } .
عن قتادة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قال: هذا النهار {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} يتلوها صبيحة الهلال فإذا سقطت الشمس رؤي الهلال {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} قال: إذا غشيها النهار. قال البغوي: يعني: إذا جلى الظلمة، كناية عن غير مذكور. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قال قتادة: إذا غشاها الليل {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} وبناؤها: خلقها. وعن مجاهد: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} قال: الله بنى السماء {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} قال: دحاها، وقال ابن زيد: بسطها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال مجاهد: عرفها. وقال ابن عباس: علمها الطاعة والمعصية.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} يقول: وقد خاب من دسى الله نفسه فأضله. وقال قتادة: من عمل خيرًا زكاها بطاعة الله؛ قال: قد وقع القسم ها هنا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} . وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: « {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} » . قال: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها
ومولاها» . وقال قتادة: {قَدْ أَفْلَحَ} من زكى نفسه بعمل صالح ... {وَقَدْ خَابَ مَن(4/492)
دَسَّاهَا} قال: آثمها وأفجرها. وقال الحسن: أهلكها وأضلها وحملها على المعصية.
قال ابن القيم: (وهذا يستلزم القول الأول، فإن العبد إذا زكى نفسه ودساها، فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه، فتضمنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية) . انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ... (15) } .
قال ابن زيد في قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} قال: بطغيانهم وبمعصيتهم. {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} قدار بن سالف. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» . رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة في قوله: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} ، يعنى: أحيمر ثمود. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} قسم الله الذي قسم لها من هذا الماء، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي: فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء.
{وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} قال الحسن: لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم وعن أبي الطفيل قال: (قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت
من الصادقين، فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هضبة من الأرض، فخرجوا فإذا هي تمتخض كما(4/493)
تمتخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسطها الناقة، فقال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فلما ملوها عقروها؛ فقال لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} .
وعن جابر قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني: الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلاً واحدًا كان في حرم الله» فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . رواه أحمد. وعن قتادة: (أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام؛ قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرة، ثم تصبح اليوم الثاني محمرة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك) .
قال ابن كثير: وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من(4/494)
أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم
مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا، وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه - عياذًا بالله من ذلك - لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة، فأصبحوا في دارهم جاثمين.
* * *(4/495)
[سورة الليل]
مكية، وهي إحدى وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } .
* * *
قوله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) } .
عن قتادة: قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، قال: آيتان عظيمان يكورهما الله على الخلائق، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} ، قال في بعض الحروف: (والذكر والأنثى) . وعن الحسن أنه كان يقرؤها: (وما خلق الذكر والأنثى) ، يقول:(4/496)
والذي خلق الذكر والأنثى. قال أبو عمرو: وأهل مكة يقولون للرب: سبحان ما سبحت له.
وعن قتادة: قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، يقول: لمختلف؛ قال وقع القسم ها هنا: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى} حق الله واتقى محارم الله التي نهى عنها {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالمجازاة على ذلك. وقال ابن عباس: {وَصَدَّقَ} بالخلف من الله. وقال مجاهد: بالجنة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قال ابن عباس: يعني: للخير. قال ابن القيم: (فسرت الحسنى: بلا إله إلا الله، وبالجنة، وبالخلف، وهي ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء، فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه) . انتهى ملخصًا.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} أي: بخل بماله، واستغنى عن ربه عز وجل، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي: بالجزاء في الدار الآخرة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: لطريق الشر {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} قال قتادة: إذا تردى في النار. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من واحد وما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار - أو - إلا قد كتبت شقية أو سعيدة» . فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء. فقال: «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء - ثم قرأ -: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » . رواه الجماعة. وفي(4/497)
رواية: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» .
قوله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} ، يقول: على الله البيان: بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} ، قال مجاهد: توهج، {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، قال ابن كثير: أي: لا يدخلها دخولاً يحيط به من جميع جوانبه {إِلَّا الْأَشْقَى} ثم فسره فقال: {الَّذِي كَذَّبَ} ، أي: بقلبه، {وَتَوَلَّى} ، أي: عن العمل بجوارحه وأركانه؛ {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، قال البغوي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا لا رياء ولا سمعة.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} يد يكافئه عليها، {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والكرامة جزاء على ما فعل. قال ابن إسحاق: (كان بلال لبعض بني جمح، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد. قال: فمر به أبو بكر يومًا وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية: ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما(4/498)
ترى. قال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك أعطيكه. قال: قد فعلت: فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست
رقاب، بلال سابعهم، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر لبلال إلا ليدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
* * *(4/499)
الدرس السادس بعد الثلاثمائة
[سورة الضحى]
مكية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } .
* * *
عن قتادة: {وَالضُّحَى} ، ساعة من ساعات النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، سكن بالخلق، {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، قال ابن عباس: يقول: ما تركك ربك وما أبغضك. قال قتادة: (أبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد قلاه ربه وودّعه، فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى} ) . قال ابن(4/500)
كثير: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحًا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته. وعن قتادة: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وذلك يوم القيامة، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} قال: كانت هذه منازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . وعن قتادة: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} أي: لا تظلم {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} قال: ردّ السائل برحمة ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} قال مجاهد: بالنبوّة. وعن أبي نضرة قال: (كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدّث بها) .
* * *(4/501)
[سورة الشرح]
مكية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } .
* * *
قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني: أما شرحنا لك صدرك؟ أي: نوّرناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا؟ كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} . وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله ما أوّل ما رأيت من أمر النبوّة؟ فاستوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، إنّي في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قطّ، وأرواح لم أجدها من خلق قطّ، وثياب لم أرها على أحد قطّ، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كلّ واحد مِنهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسًّا فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا هصر ولا قصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد، فأخرج شيئًا كهيئة العلقة،(4/502)
ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الغضّة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، فقال: أُعْدُ وأسلم، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير» . رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد.
وعن قتادة: قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} كان للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له. وقال ابن زيد شرح له صدره، وغفر له ذنبه الذي كان قبل أن ينبّأ، فوضعه. وعن مجاهد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أُذكر إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وعن قتادة في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ابدءوا بالعبودية وثَنُّوا بالرسالة» ؛ قال معمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. وعن الحسن قال: خرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك، وهو يقول: «لن يَغلب عسر يسرين، لن يَغلب عسر يسرين» . {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . قال مجاهد: يتبع اليسر العسر.
وعن ابن عباس: قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} ، يقول: فإذا فرغت مما فرض عليك من الصلاة فسل الله وارغب إليه وانصب له. وعن مجاهد: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} ، قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب، قال: فصلّ، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، قال: اجعل رغبتك ونيّتك إلى ربك. وفي الحديث: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» .
* * *(4/503)
[سورة التين]
مكية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } .
* * *
عن البراء بن عازب قال: (سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في سفره في إحدى الركعتين: بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحس صوتًا أو قراءة منه) . متفق عليه. وعن الحسن في قول الله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، قال: تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم هذا الذي يعصر. {وَطُورِ سِينِينَ} ، قال: جبل موسى. {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ، قال: البلد الحرام. قال مجاهد: مكّة. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، قال قتادة: وقع القسم ها هنا؛ قال ابن عباس: في أعدل خلق؛ وقال قتادة: في أحسن صورة. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، قال ابن عباس: إلى أرذل العمر. وعن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، ثم قرأ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وعن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، قال: إلى النار(4/504)
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا من آمن. وقال الحسن: هو كقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
قال ابن القيّم: (والصحيح أن أسفل سافلين: النار) . وعن الكلبي: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ إنما يعني: الإِنسان، يقول: خلقتك في أحسن تقويم، {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أيها الإِنسان، {بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ قال عكرمة: الحساب.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ قال البغوي: والمعنى: ألا تتفكّر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر وتقول: أن الذي فعل ذلك قادر
على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذّبك بالمجازاة بعد هذه الحجج؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أقضى القاضين؟ وروينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» .
* * *(4/505)
الدرس السابع بعد الثلاثمائة
[سورة العلق]
مكية، وهي تسع عشر آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) }
* * *
قوله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } .
عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من(4/506)
الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد، ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوّده لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: {اقْرَأْ} . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقلت: «ما أنا بقارئ» . - قال -: «فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ} . فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ} . قلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثالثة حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} » ، قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زمّلوني زمّلوني» . فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع؛ فقال: «يا خديجة ما لي» ؟ وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي» . فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، وكان امرءًا قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربيّ، وكتب بالعربية من الإِنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: يا ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أومُخْرِجِيّ هم» ؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قطّ بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزّرًا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفي. وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلَما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا، فيسكن بذلك جأشه وتقرّ نفسه، فيرجع فإذا طالت(4/507)
عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك) . متفق عليه واللفظ لأحمد.
وعن قتادة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قرأ حتى بلغ: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، قال: القلم نعمة من الله عظيمة، لولا ذلك لم يقم ولم يصلح عيش. وقال ابن زيد في قوله: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} قال: علّم الإِنسان خطًّا بالقلم. قال ابن كثير: والقلم تارة يكون في الأذهان، وتارة في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان.
قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } .
قال البغوي: {كَلَّا} ، حقًّا، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} ، ليتجاوز حدّه وليستكبر على ربه، {أَن} ، لأن {رَّآهُ اسْتَغْنَى} أن رأى نفسه غنيًا، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ، أي: المرجع في الآخرة. وعن قتادة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} ، نزلت في عدوّ الله أبي جهل، وذلك لأنه قال: لئن رأيت محمدًا يصلّي لأطأنّ على عنقه، فأنزل الله ما تسمعون. وكان يقال: لكلّ أمّة فرعون، وفرعون هذه الأمّة: أبو جهل.
{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} ، قال: محمد كان على الهدى وأمر بالتقوى. {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، يعني: أبا جهل. {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى *(4/508)
كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي عند المقام فمرّ به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعّده، فأغلظ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهره، فقال: يا محمد بأيّ شيء تهدّدني؟ أما والله إنّي لأكثر هذا الوادي ناديًا، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ
نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس: لو دعا ناديه أخذته زبانية العذاب من ساعته.
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، قال البغوي: {كَلَّا} ليس الأمر ما عليه أبو جهل، {لَا تُطِعْهُ} في ترك الصلاة، {وَاسْجُدْ} وصلّ لله، {وَاقْتَرِبْ} من الله. وساق الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» . قال: ومعنى: {أَرَأَيْتَ} ها هنا: تعجيبًا للمخاطب، وكرّر هذه اللفظة للتأكيد؛ قال: وتقدير نظم الآية: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلّى وهو على الهدى أمر بالتقوى، والناهي مكذّب متولّ عن الإِيمان؟ أي: فما أعجب من هذا! {أَلَمْ يَعْلَمْ} ، يعني: أبا جهل، {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ذلك فيجازيه؟ {كَلَّا} لا يعلم ذلك، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عن إيذاء محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذنّ بناصيته فلنجرّنّه إلى النار كما قال: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} يقال: سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبًا شديدًا. والنصاية: شعر مقدّم الرأس. ثم قال على البدل {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: صاحبها كاذب خاطئ. قال ابن عباس: (لما نهى أبو جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، انتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو جهل: أتنتهرني؟ فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت(4/509)
خيلاً جردًا ورجالاً مردًا) ؛ قال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} أي: قومه وعشيرته، أي: فلينتصر بهم.
{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، قال ابن عباس: يريد زبانية جهنّم، سمّوا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها. وروى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. فقال: واللات والعزّى لئن رأيته يصلّي كذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفّرنّ وجهه في التراب، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلّي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إنّ بيني وبينه خندقًا من نار، وهولاً وأجنحة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا» .
* * *(4/510)
[سورة القدر]
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } .
* * *
عن ابن عباس: قال: (نزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا، أنزله منه حتى جمعه، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة) .
وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ، وهي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصّلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال تعالى معظّمًا لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها(4/511)
فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . وعن مجاهد: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ليلة الحكم. قال الحسن: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها. وعن مجاهد: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر. قال قتادة: {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، ليس فيها ليلة القدر. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} قال قتادة: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. {سَلَامٌ هِيَ} ، قال: خير كلّها {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، إلى مطلع الفجر. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر» .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه» .
وقد اختلف العلماء في تعيينها، والجمهور أنها ليلة سبع وعشرين، وما استنبطه بعضهم من عدد كلمات السورة وقد وافق قوله فيها: ... {هِيَ} سابع كلمة بعد العشرين؛ قال ابن عطية: (إنه من ملح التفاسير، وليس من متين العلم) . والله أعلم.
* * *(4/512)
الدرس الثامن بعد الثلاثمائة
[سورة البينة]
مدنية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) } .
* * *(4/513)
قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأبيّ بن كعب: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} » . قال: وسمّاني لك؟ قال: «نعم» . فبكى. متفق عليه. وفي حديث مالك بن عمرو بن ثابت عند الإمام أحمد قال: (لما نزلت: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ، إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيًّا) . الحديث. وعن الترمذيّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» . فقرأ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فقرأ فيها: (ولو أن ابن آدم سأل واديًا من مال فأعطيه لسأل ثانيًا، ولو سأل ثانيًا فأعطيه لسأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النصرانيّة، ومن يفعل خيرًا فلن يُكْفَرَهُ) .(4/514)
قال ابن كثير: وإنما قرأ عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة تثبتًا له وزيادة لإِيمانه فإنه كان قد أنكر على عبد الله بن مسعود قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفعه إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستقرأهما،
وقال لكلّ منهما: «أصبت» . قال أبيّ: فأخذني من الشكّ وَلاءٌ إذ كنت في الجاهليّة، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره، قال أبيّ: ففضت عَرقًا وكأنما أنظر إلى الله فرقًا؛ وأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل أتاه فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته. فقال: على حرفين. فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على سبعة أحرف) . فلما نزلت هذه السورة وفيها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} قرأها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار، لا قراءة تعلّم واستذكار. والله أعلم. وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية عن تلك الأسئلة، وكان فيما قال: أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا» ؟ . قال: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوّف به» . فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح، دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه، وفيها قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} الآية. انتهى.
وعن مجاهد في قول الله: {مُنفَكِّينَ} ، قال: لم يكونوا لينتهوا حتى يتبيّن لهم الحقّ. وعن قتادة في قوله: {مُنفَكِّينَ} قال: منتهين عما هم فيه، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: هذا القرآن {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} يذكر القرآن بأحسن الذكر ويثني عليه بأحسن الثناء. وقال ابن كثير: أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، والمشركون
عبدة الأوثان والنيران من العرب والعجم. وقال مجاهد:(4/515)
لم يكونوا ... {مُنفَكِّينَ} ، يعني: منتهين حتى يتبيّن لهم الحقّ؛ وهكذا قال قتادة: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: هذا القرآن، ولهذا قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، ثم فسّر البيّنة بقوله: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهّرة، كقوله: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .
وقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، قال ابن جرير: أي: في الصحف المطهّرة {كُتُبٌ} ، من الله {قَيِّمَةٌ} عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، كقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} ، يعني: بذلك أهل الكتب المنزّلة على الأمم قبلنا، ما أقام الله عليهم الحجج والبيّنات تفرّقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافًا كثيرًا كما جاء في الحديث المرويّ من طرق: «أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة» . قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» . انتهى.
قال البغوي: ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال: {وَمَا أُمِرُوا} ، يعني: هؤلاء الكفار، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ، يعني: إلا أن يعبدوا الله، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، قال(4/516)
ابن عباس: ما أمروا في التوراة والإِنجيل إلا بالإِخلاص في العبادة لله موحّدين {حُنَفَاء} ، مائلين عن الأديان كلّها إلى دين الإسلام، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، المكتوبة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، عند محلّها و {وَذَلِكَ} الذي أمروا به {دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، أي: الملّة والشريعة المستقيمة.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) } .
وهذه الآيات كقوله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وكقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، أي: هذا الجزاء لمن خاف ربه واتقاه بفعل طاعته وترك معصيته. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنّة: يا أهل
الجنّة، فيقولون: لبيّك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» . متفق عليه.
* * *(4/517)
[سورة الزلزلة]
مدنية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) } .
* * *
عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن و {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل ربع القرآن» . رواه البزار. قال ابن جرير: يقول تعالى(4/518)
ذكره: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ، لقيام الساعة، {زِلْزَالَهَا} فرجّت رجًّا. وعن سعيد قال: زلزلت الأرض على عهد عبد الله فقال لها عبد الله: مالك؟ أما إنها لو تكلّمت قامت الساعة. وعن ابن عباس: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} قال: الموتى. {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} قال: الكافر. {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال سفيان: ما عمل عليها من خير أو شرّ {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قال: أعلمها ذلك. وقال ابن عباس: أوحى إليها. وعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد أو أمة ما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» . رواه أحمد، والترمذي.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
وقوله تعالى: {لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وعن صعصعة بن معاوية أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: ... «حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها» . رواه أحمد وغيره.(4/519)
قال البغوي: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمّها: الجامعة الفاذّة، حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} » .
* * *(4/520)
الدرس التاسع بعد الثلاثمائة
[سورة العاديات]
مكية، وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11) } .
* * *
عن ابن عباس في قوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ، قال: الخيل؛ قال قتادة: هي الخيل عدت حتى ضبحت. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} ، قال: هي الخيل؛ وقال الكلبي: تقدح بحوافرها حتى يخرج منها النار. ... {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} قال: أغارت حين أصبحت {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} قال: أثرن بحوافرها نقع التراب. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قال: وسطن جمع القوم.(4/521)
{إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قال: لكفور. قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه، بمعنى: أنه لنعم ربه لكفور جحود. قال ابن القيم: (وأصل اللفظ: منع الحقّ، والخير، وعبارات المفسّرين تدور على هذا المعنى. وقيل: هو البخيل الذي يمنع رفده، ويجيع عبده، ولا يعطي في النائبة) . انتهى ملخصًا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال قتادة: يقول: إن الله على لذلك لشهيد. قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود الضمير على الإِنسان، قاله محمد بن كعب القرظيّ؛ قلت: وهذا هو المتبادر للذهن، ويؤيّده سياق الضمائر، فإن قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} للإِنسان، فافتتح الخير عن الإنسان بكونه كنودًا، ثم ثنّاه بكونه شهيدًا على ذلك، ثم ختمه بكونه بخيلاً بماله لحبّه إيّاه. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، قال: الخير الدنيا، وقرأ: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} .
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} ، قال البغوي: {أَفَلَا يَعْلَمُ} هذا الإنسان {إِذَا بُعْثِرَ} أثير وأخرج، {مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، قال ابن عباس: يقول: أبرز. {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} ، قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: أنه يجاريهم على كفرهم في ذلك اليوم.
* * *(4/522)
[سورة القارعة]
مكية، وهي إحدى عشر آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) } .
* * *
عن ابن عباس في قوله: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} ، قال: هي الساعة. قال البغوي: {الْقَارِعَةُ} اسم من أسماء القيامة إلى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . قال الحسن: هذا وعيد بعد وعيد.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} . قال قتادة: كنا نحدّث أنّ علم اليقين: أنْ يعلم أنّ الله باعثه بعد الموت. قال البغوي: وجواب (لو) محذوف، أي: لو تعلمون علمًا يقينًا، لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر. {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا(4/523)
عَيْنَ الْيَقِينِ} قال البغوي: أي: ترونها بأبصاركم من بعيد، ثم لترونها مشاهدة. وقال ابن كثير: هذا تفسير الوعيد المتقدّم، وهو قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، توعّدهم بهذا الحال، وهو رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خرّ كلّ ملك مقرّب ونبيّ مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة، ومعاينة الأهوال. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، قال قتادة: إن الله عز وجل سائل كلّ عبد عما استودعه من نعمه وحقَّه.
* * *(4/524)
[سورة التكاثر]
مكية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) }
* * *
عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: « {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . رواه أحمد وغيره، وفي رواية لمسلم: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . وعن قتادة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ، قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان ونحن أقدم من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن علي قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} إلى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . قال الحسن: هذا وعيد بعد وعيد.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} ، قال قتادة: كنا نحدث أن علم اليقين: أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت. قال البغوي: وجواب لو محذوف أي: لو تعلمون علمًا يقينًا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} قال البغوي: أي: ترونها بأبصاركم من بعيد ثم لترونها مشاهدة. وقال ابن كثر: هذا تفسير الوعيد المتقدم وهو قوله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توعدهم بهذا الحال وهو رؤية أهل النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال قتادة: إن الله عز وجل بمسائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.
* * *
[سورة العصر]
مكية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }
* * *
قال ابن كثير: ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك قبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا المدّة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ؛ ففكّر مسيلمة هنيهة ثم قال: لقد أنزل عليّ مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وَبَر يا وَبَر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أنّي أعلم أنّك تكذب.
قال الشافعيّ رحمه الله: لو تدبّر الناس هذه السورة لوسعتهم. وعن ابن عباس في قوله: {وَالْعَصْرِ} ، قال: العصر ساعة من ساعات النهار.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي: خسران. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال مجاهد: إلا من آمن. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا(4/525)
بِالصَّبْرِ} قال قتادة: الحقّ كتاب الله، والصبر طاعة الله. وقال ابن القيّم: (ولمّا كان الإِنسان له قوّتان: قوة العلم، وقوة العمل؛ وله حالتان: حالة يأتمر فيها بأمر غيره، وحالة يأمر فيها غيره، استثنى سبحانه من كمّل قوته العلمية بالإِيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وانقاد لأمر غيره له بذلك، وأمر غيره به، من الإِنسان الذي هو في خسر؛ فإن العبد له حالتان: حالة كمال في نفسه، وحال تكميل لغيره، وكماله وتكميله موقوف على أمرين: علم بالحقّ، وصبر عليه؛
فتضمَّنت الآية جميع مراتب الكمال الإِنسانيّ من العلم النافع، والعمل الصالح، والإِحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده، وقبوله لمن يأمره بذلك) .
* * *(4/526)
[سورة الهمزة]
مكية، وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9) } .
* * *
عن قتادة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} أما الهمزة: فآكل لحوم الناس، وأما اللمزة: فالطعّان عليهم. قال ابن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أميّة بن خلف. وقال مجاهد: هي عامّة في حقّ كلّ مَنْ هذه صفته.
قال البغوي: ثم وصفه فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} ، أحصاه {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} في الدنيا، يظنّ أنه لا يموت مع يساره. {كَلَّا} ردّ عليه أي: لا يخلده ماله {لَيُنبَذَنَّ} ليطرحنّ ... {فِي الْحُطَمَةِ} في جهنّم، والحطمة من أسماء النار، سمّيت حطمة: لأنها تحطم العظام وتكسرها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ(4/527)
الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} أي: التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب ... {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} مطبقة مغلقة {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم سدّت بأوتاد من حديد من نار، حتى يرجع عليهم غمّها وحرّها، فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح. والممدّدة: من صفة العمد، أي: مطوّلة فتكون أرسخ من القصيرة؛ عياذًا بالله من ذلك.
* * *(4/528)
الدرس العاشر بعد الثلاثمائة
[سورة الفيل]
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) } .
* * *
عن ابن مسعود في قوله: {طَيْراً أَبَابِيلَ} قال: فرق. وقال ابن عباس: هي التي يتبع بعضها بعضًا. وقال قتادة: الأبابيل: الكثيرة.
قال ابن عباس: وكانت طيرًا لها خراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عبد بن عمير: هي طير سود بحرية، في أظافرها ومناقرها الحجارة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشيّ: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنتهٍ حتى أصرف إليها حجّ العرب،(4/529)
فلما تحدّثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية، فخرج حتى أتى القُليس، فقعد فيها -، يعني: أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، قال: من صنع هذا؟ فيقل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكّة، لما سمع قولك: أصرف إليها حاج العرب؛ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه.
ثم أمر الحبشة فتهيّأت وتجهّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفُظِعوا به، ورأوا جهاده حقًّا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نَفْر، دعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده، فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض
له، فقاتله، فهزم ذو نَفْر وأصحابه وأخذ فأتي به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نَفْر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلاً حليمًا.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل بن حبيب في قبيلتي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ نفيل أسيرًا، فأتي به فلما همّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم وناهس بالسمع والطاعة ; فخلَّى سبيله وخرج به معه يدلّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكّة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معهم أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكة؛ فخرج معه حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب.(4/530)
فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة على خيل له حتى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذٍ كبير قريش وسيّدها - فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا
أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكّة وقال له: سل عن سيّد أهل هذا البلد وشريفها ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم ترضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكّة، سأل عن سيّد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال حناطة: فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقًا - حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًّا أو عشيًّا؟ ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسًا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقّك، وأساله أن يستأذن لك على الملك، فتكلّمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي، فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال،
وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل.
فكلّم أنيس أبرهة فأذن له، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم(4/531)
وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك. قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلَّمتني، أتكلّمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلّمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإِبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان لمتنع منّي، قال: أنت وذاك. فردّ أبرهة على عبد المطّلب الإِبل التي أصاب له.
فلما انصرف عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرزّ في شعف الجبال والشعاب، تخوّفًا عليهم من معرّة الجيش، ثم قام عبد المطّلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهمّ إن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدًا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدالك
ثم أرسل عبد المطّلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكّة إذا دخلها ; فلما أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكّة وهيّأ فيله وعبّأ جيشه - وكان اسم الفيل محمودًا -، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجّهوا الفيل إلى مكّة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: أبرك محمود وارجع راشدًا فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه(4/532)
راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى مكّة فبرك؛ فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كلّ طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلّهم أصابت؛ وخرجوا هاربين يتبدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإِله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضًا:
ألا حُيّيت عنا يا رُدَيْنَا ... نَعِمْناكُمْ مع الإِصباح عَيْنا
أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لَدينا
رُدَيْنَةُ لو رأيت ولا تريه ... لدى جَنْب المحصّب ما رأينا
إذًا لعذرتِني وحمدتِ أمري ... ولم تأسَيْ على ما فات بينا
حمدتُ الله إذا أبصرت طيرًا ... وخفت حجارة تلقى علينا
وكلِّ القوم يسأل عن نفيل ... كأنّ عليّ للحبشان دَيْنا
فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بكل مهلك على كلّ منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنامله أنملة أنملة، كلّما سقطت أنملة أتبعتها منه مدّة تمثّ قيحًا ودمَا، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. فلما بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة، فقال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} . وقال: {لِإِيلَافِ(4/533)
قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: لئلا يغيّر شيئًا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه، فلما ردّ الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم من النقمة،
أعظمت العرب قريشًا وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، فقالوا: في ذلك أشعارًا، فقال عبد الله بن الزبعريّ:
تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديمًا لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى ... ولسوف يُنْبي الجاهلين عليمُها
ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضهم ... ولم يعش بعد الإِياب سقيمُها
كانت بها عادٌ وجُرْهُمُ قبلهم ... والله من فوق العباد يُقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت:
فقوموا فصلّوا ربّكم وتمسّحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدّقٌ ... غداة أبا يكسوم هادي الكتائب
كتيبة بالسهل تمشي ورجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردّهم ... جنودُ المليك بين سافٍ وحاصِب
فولّوا سراعًا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عاصب
[انتهى ملخصًا]
* * *(4/534)
[سورة قريش]
مكية، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ... (4) } .
* * *
قال الزجاج: المعنى: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي: أهلك أصحاب الفيل لتبقى قريش وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.
وعن مجاهد: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قال: نعمتي على قريش {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} قال: إيلافهم ذلك فلا يشقّ عليهم. وعن ابن عباس في قوله: {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} يقول: لزومهم. وعن أبي صالح: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ} ، قال: كانوا تجّارًا، فعلم الله حبّهم للشام. وعن قتادة: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قال: عادة قريش، عادتهم رحلة الشتاء والصيف. قال ابن زيد: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام، والشتاء إلى اليمن.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} ، قال قتادة: كانوا يقولون: نحن من حرمة الله، فلا يعرض لهم أحد. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} ، أي: فليوحّدوه بالعبادة وحده لا شريك(4/535)
له، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندًّا ولا وثنًا؛ ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه؛ كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . انتهى ملخصًا.
* * *(4/536)
الدرس الحادي عشر بعد الثلاثمائة
[سورة الماعون]
مكية، وهي سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ... (7) } .
* * *
قال في جامع البيان: {أَرَأَيْتَ} الاستفهام للتعجّب، {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} بالجزاء والبعث. {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} ، قال قتادة: يقهره ويظلمه، {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ، قال ابن كثير: يعني: الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته.
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، قال ابن عباس: الذين يؤخّرونها عن وقتها. وقال ابن أبزى: الذين يؤخّرون الصلاة المكتوبة حتى تخرج من الوقت. وعن مجاهد: {عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، قال: لاهون. وقال الضحاك في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} ، يعني: المنافقين، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، قال ابن عباس: العارية. وقال ابن عباس: {الْمَاعُونَ} ما يتعاطى الناس بينهم من الفأس، والقِدرْ، والدلو، وأشباه ذلك.
* * *(4/537)
[سورة الكوثر]
مكية، وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) } .
* * *
قال ابن عمر: (الكوثر نهر في الجنّة حافتاه ذهب وفضّة، يجري على الدرّ والياقوت ماؤه، أشدّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل) . وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دخلت الجنّة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عز وجل» . متفق عليه واللفظ لأحمد.
وعن مجاهد: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، قال: الصلاة المكتوبة ونحر البدن. و {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، قال ابن عباس: يقول: عدوّك. وعن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله هذه السورة) .
* * *(4/538)
[سورة الكافرون]
مكية، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) } .
* * *
روى مسلم عن أبي هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: ... {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ) . وروى أحمد وغيره أن أبيّ بن كعب قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
قال البغوي: نزلت في رهط من قريش قالوا: يا محمد هلمّ فاتبع ديننا ونتّبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه أخذنا حظّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه؛ فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره» . قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، فقال: «حتى أنظر ما يأتي من عند(4/539)
ربّي» . فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة؛ فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه.
ومعنى الآية: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في الحال {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الحال {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في الاستقبال {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الاستقبال؛ وهذا الخطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. {لَكُمْ دِينُكُمْ} الشرك {وَلِيَ دِينِ} الإِسلام.
* * *(4/540)
[سورة النصر]
مدنية، وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) } .
* * *
عن مجاهد: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، فتح مكّة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ، قال: زمرًا زمرًا، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ، قال: اعلم أنك ستموت عند ذلك. وعن قتادة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، قرأها كلّها، قال ابن عباس: (هذه السورة عَلَمٌ وحَدٌ حَدُّه الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - ونعى له نفسه، أي: أنك لن تعيش بعدها إلا قليلاً) ، قال قتادة: (والله ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً، سنتين ثم توفّي - صلى الله عليه وسلم -) . وقال مجاهد: لما نزلت: [ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ] ونعيت إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه، [كان] لا يقوم من مجلس يجلس فيه حتى يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» . وروى الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، حتى ختم(4/541)
السورة قال: نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين نزلت؛ قال: فأخذ بأشدّ ما كان قطّ اجتهادًا في أمر الآخرة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بعد ذلك جاء الفتح ونصر الله وجاء أهل اليمن» . فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم ليّنة طباعهم الإِيمان يَمان والفقه ... يَمان» ؛ وفي رواية: «والحكمة يمانيّة» .
* * *(4/542)
[سورة المسد]
مكية، وهي خمس آيات
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5) } .
* * *
عن قتادة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرت {وَتَبَّ} قال ابن كثير: الأول: دعاء عليه، والثاني: خبر عنه. وقال ابن عباس: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ثم نادى: «يا صباحاه» . فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: «يا بني هاشم، يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، يا بني، يا بني، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد تغير عليكم صدّقتموني» ؟ قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وعن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في(4/543)
الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفحلوا» ، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمّه أبو لهب.
وعن مجاهد: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ، قال: ما كسب ولده، وعن ابن عباس أنه رأى يومًا ولد أبي لهب يقتتلون فجعل يحجز بينهم ويقول: هؤلاء مما كسب. {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ، قال ابن عباس: كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، {فِي جِيدِهَا} ، أي: عنقها {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ، قال ابن زيد: من شجر ينبت باليمن يقال له: مسد. قال الضحاك وغيره: في الدنيا من ليف، وفي الآخرة من نار.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: (لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهد وهي تقول: مذمّمًا أبينا ودينه قلبنا وأمره عصينا. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها لن تراني» . وقرأ قرآنًا اعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك؛ فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيّدها) . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم.
* * *(4/544)
الدرس الثاني عشر بعد الثلاثمائة
[سورة الإخلاص]
مكيّة، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) } .
* * *
عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} . رواه أحمد وغيره. زاد ابن جرير: قال: ( {الصَّمَدُ} الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، ولم يكن له شبيه ولا عديل وليس كمثله شيء) .(4/545)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكلّ شيء نسبة، ونسبة الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} ، والصمد: ليس بأجوف» . رواه الطبراني.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك» ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن عزّ وجلّ، وأنا أحبّ أن أقرأ بها، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أخبروه أن الله تعالى يحبّه» . متفق عليه.
وعن أبي سعيد أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالّها - فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن» . رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: أقبلت مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت» . قلت: وما جبت؟ قال: «الجنّة» . رواه مالك، والترمذي، والنسائي.
وعن عبد الله بن خبيب قال: أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4/546)
يصلّي بنا فخرج فأخذ بيدي فقال: «قل» . فسكتّ قال: ... «قل» . قلت: ما أقول؟ قال: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا، تكفيك كلّ يوم مرتين» . رواه عبد الله بن الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
وعن معاذ بن أنس الجهنيّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنّة» . فقال عمر: إذًا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكثر وأطيب» .
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا رجل يصلّي يدعو يقول: اللهمّ إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، قال: «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب» . رواه أهل السنن.
وعن عائشة: (أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة، جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من
جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرّات) . رواه البخاري وغيره.
قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، قال ابن جرير: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء(4/547)
السائلين عن نسب ربك وصفته، {هُوَ اللَّهُ} الذي له عبادة كلّ شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه. وقال ابن كثير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل؛ ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإِثبات إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
قوله عز وجل: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال ابن عباس: (الصمد: الذي ليس بأجوف) . وقال الشعبي: (الصمد: الذي لا يطعَم الطعام) . وقال أبو العالية: (الصمد: الذي لم يلد ولم يولد) . وعن ابن عباس في قوله: {الصَّمَدُ} ، يقول: (السيّد: الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغنيّ الذي قد كمل في غناه، والجبّار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له) . وقال قتادة: (الصمد الدائم) .
قال ابن كثير: وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنّة له، بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال: وكلّ هذه صحيحة، وهي صفات ربّنا عزّ وجلّ، هو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد: الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه.
قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: ليس له ولد ولا والد؛ قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً *(4/548)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} . وفي صحيح البخاري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم» .
قوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال ابن عباس: ليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهّار. وعن مجاهد: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، قال: صاحبة؛ وقد قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته؛ وأما شتمه إيّاي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد» .
قال أبو العباس بن سريج في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - في سورة قل هو الله أحد إنها تعدل ثلث القرآن: (إن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منه أحكام، وثلث(4/549)
منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات؛ وهذه السورة جمعت القسم الثالث) . قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وهذا القول هو الصواب.
قلت: ويحسن إعادة ذكر الأسماء الحسنى ها هنا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنّة، وهو وتر يحبّ الوتر» .
زاد الترمذي بعد قوله: وهو قوله: «وهو وتر يحبّ الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير،
الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البَرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنيّ، المغني، المعطي، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» .
* * *(4/550)
الدرس الثالث عشر بعد الثلاثمائة
[سورة الفلق]
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } .
* * *
[سورة الناس]
مكية، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
... {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } .
* * *(4/551)
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهنّ قطّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} » . رواه مسلم وغيره. وفي رواية لأحمد: بينا أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقب من تلك النقاب، إذ قال لي: «يا عقبة ألا تركب» ؟ قال: فأشفقت أن تكون معصية، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبت هنيّة ثم قال: «يا عقبة، ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس» ؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ؛ ثم أقيمت الصلاة فتقدّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ بهما، ثم مرّ بي فقال: «كيف رأيت يا عقبة؟ اقرأ بهما كلّما نمت وكلّما قمت» .
وفي رواية: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كلّ صلاة) .
وللنسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس لم يتعوّذوا بمثل هذين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} » .
وروى الترمذي وغيره عن أبي سعيد: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوّذ من أعين الجانّ، وأعين الإِنسان، فلما نزلت المعوّذتان أخذ بهما وترك ما سواهما) .
قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ(4/552)
غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } .
عن الحسن في هذه الآية: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، قال: الفلق الصبح. {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} ، قال ابن كثير: أي: من شرّ جميع المخلوقات. {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، قال الحسن: أول الليل إذا أظلم. {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، قال: السواحر، والسحرة. {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} ، قال قتادة: من شرّ عينه ونفسه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر إذا كان كذا - فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته؟ أتاني رجلان فقعدا أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبَّه؟ قال: لَبيد بن الأعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقًا - وقال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وأين؟ قال: في جفّ طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان» . قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي أُريتُنها» . وكأن ماءها نقاعة الحناء، كأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج. فقالت: أفلا تنشّرت؟ وفي رواية لمسلم: أفلا أحرقته؟ - قال القرطبي: يعني لبيد - فقال: «أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًّا» . رواه البخاري.
وروى البغوي عن زيد بن أرقم قال: (سحر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقدًا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا فاستخرجها فجاء
بها، فجعل كلّما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال؛ فما ذكر لليهوديّ ولا(4/553)
رآه في وجهه قطّ) . قال مقاتل والكلبيّ: كان في وتد عقد عليه إحدى عشرة عقدة؛ وقيل: كانت العقد مقرونة بالإِبر، فأنزل الله هاتين السورتين، وهي إحدى عشرة آية، كلّما قرأ آية انحلّت عقدة، حتى انحلّت العقد كلّها، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال.
وساق بسنده عن أبي سعيد أن جبريل عليه السلام أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا محمد اشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: بسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك) .
قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } .
قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الربّ عزّ وجلّ: الربوبية، والملك، والإِلهية، فهو ربّ كلّ شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوّذ بالمتّصف بهذه الصفات من شرّ الوسواس الخنّاس وهو: الشيطان الموكل بالإِنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزيّن له الفواحش ولا يألوه جهدًا في الخبال، والمعصوم من عصمه الله.
وعن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ، قال: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس) . وقال قتادة: يعني: الشيطان يوسوس في صدر ابن آدم ويخنس إذا ذكر الله.(4/554)
قال البغوي: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} بالكلام الخفيّ الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ، يعني: يدخل في الجنّيّ كما يدخل في الإنسيّ، ويوسوس الجنّيّ كما يوسوس الإنسيّ. قال الكلبي وقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} أراد بالنّاس ما ذكر من بعد، وهو: الجِنّة والنّاس، فسمّى الجن ناسًا رجالاً فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} . وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث: جاء قوم من الجنّ فوقعوا فقيل: من أنتم؟ قالوا: أناس من الجنّ. وهذا معنى قول الفرّاء. قال بعضهم: ثبت أن الوسواس للإِنسان من الإِنسان كالوسوسة للشيطان من الشيطان؛ فجعل الوسواس من فعل الجنّة والناس جميعًا، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} ؛ كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإِنس جميعًا. انتهى. وقال بعضهم: فكما أن شيطان الجنّ يوسوس تارة ويخنس أخرى، فكذلك شيطان الإِنس يرى نفسه كالناصح المشفق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لأحدّث نفسي بالشيء لأن أخِرّ من السماء أحبّ إليّ
من أتكلم به، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر الله أكبر، والحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة» . رواه أحمد وغيره. والله أعلم.(4/555)
(مناسبة لطيفة)
وقع في حديث أبي ذرّ الطويل المشهور: أن عدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ وفي رواية: خمسة عشر؛ وفي رواية: بضعة عشر. وقد رواه أحمد وغيره مختصرًا ومطوّلاً.
قال محمد بن الحسين الآجريّ: حدّثنا أبو بكر بن محمد الفريابيّ إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، حدّثنا إبراهيم بن هشام ابن يحيى الغساني، حدّثنا أبي عن جدّه عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده فجلست إليه فقلت: يا رسول الله إنّك أمرتني بالصلاة. قال: «الصلاة خيرٌ موضوع، فاستكثر أو استقلّ» . قال قلت: يا رسول الله فأيّ الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله» . فقلت: يا رسول الله فأيّ المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقًا» . قلت: يا: رسول الله فأيّ المسلمين أسلم؟ قال: «من سلم الناس من لسانه ... ويده» فقلت: يا رسول الله فأي الهجرة أفضل؟ قال: «من هجر السيّئات» . قلت: يا رسول الله أيّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» . قلت: يا رسول الله أي الصيام أفضل؟ قال: «فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة» ، قلت: يا رسول الله فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من عقر جواده وأهريق دمه» . قلت: يا رسول الله فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» . قلت: يا رسول الله فأيّ الصدقة أفضل؟ قال:(4/556)
«جهد من مقلّ أو سر فقير» .
قلت: يا رسول الله فأيّ آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي - ثم قال: - يا أبا ذرّ، وما السماوات السبع مع الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة» . قال قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» . قال قلت: يا رسول الله كم المرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جمّ غفير كثير طيّب» . قلت: فمن كان أوّلهم؟ قال: «آدم» . قلت: أنبيّ مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وسوّاه قبيلاً - ثم قال: - يا أبا ذرّ، أربعة سريانيّون: آدم، وشيث، وخنوخ - وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بقلم - ونوح؛ وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيّك يا أبا ذرّ؛ وأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأوّل الرسل آدم، وأخرهم محمّد» . قال قلت: يا رسول الله كم كتاب أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان» . قال: قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت: يا أيها الملك المسلّط المبتلي المغرور، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكنّي بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها ولو كانت من كافر. وكان فيها أمثال. وعلى العاقل أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها
نفسه، وساعة يفكّر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ضاغنًا إلا لثلاث: تزوّد لمعاد، ومرمرة لمعاش، ولذّة في غير محرم. وعلى العاقل: أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه» . قال: قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرًا كلّها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالمقدّرثم هو ينصَب،(4/557)
وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثم يطمئنّ إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل» . قال: قلت يا رسول الله فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم، وموسى مما أنزل الله عليك؟ قال: «نعم، اقرأ يا أبا ذرّ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} » . قال: قلت يا رسول الله فأوصني، قال: «أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك» . قال قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بتلاوة القرآن وذكر الله، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض» . قال قلت: يا رسول الله زدني، قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه» . قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بالجهاد، فإنه رهبانيّة أمّتي» . قلت: زدني، قال: «عليك بالصمت إلا من خير، فإنّه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك» . قلت: زدني، قال: «انظر إلى من هو تحتك، ولا
تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك» . قلت: زدني، قال: «أحب المساكين وجالسهم فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك» . قلت: زذني. قال: «صل قرابتك وإن قطعوك» . قلت: زدني، قال: «قل الحقّ وإن كان مرًّا» . قلت: زدني، قال: «لا تخف في الله لومة لائم» . قلت: زدني، قال: «يردّك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجدْ عليهم فيما تحبّ، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تحب - ثم ضرب بيده صدري فقال: - يا أبا ذرّ، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق» . انتهى. والله أعلم.
* * *(4/558)
خاتمة
... الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يحبّه ربنا ويرضى؛ والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ.
وقد وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب المبارك، في اليوم المبارك، من الشهر المبارك، في يوم الجمعة لستّ وعشرين خلت من رمضان سنة ألف وثلاثمائة وخمس وستين. وابتداؤه في جمادى سنة أربع وستين، فكانت مدّة تأليفه ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا.
نسألك اللهمّ يا واسع الفضل والإِحسان، منزّل التوراة والإِنجيل والقرآن، أن لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرّجته، ولا غمًّا إلا كشفته، ولا غيظًا إلا أذهبته، ولا غلاً إلا نزعته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته وعافيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضى ولنا صلاح إلا قضيتها يا ربّ العالمين. اللهمّ إنا نسألك من الخير كلّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشرّ كلّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من شرّ ما استعاذ منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، ونسألك الجنّة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل، ونسألك أن تجعل كلّ قضاء تقضيه لنا خيرًا. سبحان
ربك ربّ العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(4/559)
يا منزل الآيات والفرقان ... بيني وبينك حرمة القرآن
اشرح به صدري لمعرفة الهدى ... واعصم به قلبي من الشيطان
يسّر به أمري واقضِ مآربي ... وأَجِرْ به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيّتي ... واشدد به أزري وأصلح شاني
واكشف به ضرّي وحقّق توبتي ... وأربِح به بيعي بلا خسراني
طهّر به قلبي وصفّ سريرتي ... أجمِل به ذكري وأَعْلِ مكاني
واقطع به طمعي وشرّف همّتي ... كثّر به ورعي وأَحْيِ جَناني
أسهر به ليلي وأضم جوارحي ... أسبل بفيض دموعها أجفاني
أُمْزُجُهُ ربّي بلحمي مع دمي ... واغسل به قلبي من الأضغاني
أنت الذي صوّرتني وخلقتني ... وهديتني لشرائع الإِيمان
أنت الذي علّمتني ورحمتني ... وجعلت صدري واعيَ القرآن
أنت الذي أطعمتني وسقيتني ... من غير كسب يد ولا دكان
وجبرتني وسترتني ونصرتني ... وغمرتني بالفضل والإِحسان
أنت الذي آويتني وحبوتني ... وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودّة ... والعطف منك برحمة وحنان
وزرعت لي في العالمين محاسنًا ... وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البريّة شائعًا ... حتى جعلت جميعهم إخواني
لكن سترت معايبي ومثالي ... وحلمتَ عن سقطي وعن طغياني
ولقد مننت عليّ ربِّ بأنعمٍ ... مالي بشكر أَقَلِّهِنّ يدان
فلك المحامد والمدائح كلّها ... بخواطري وجوارحي ولساني
ــــــــــــ
انتهى الجزء الرابع بحمد الله،
وهو آخر الكتاب
ــــــــــــ(4/560)