قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } .
قال ابن عباس: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. رواه ابن جرير وغيره؛ زاد أحمد: قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال.
وروى ابن جريج أيضًا عن ابن عباس قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، يعني: محمدًا وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة، يقول الله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل.
وعن ابن جريج قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} ، دفع المشركين بالمسلمين. وقال ابن زيد: لولا القتال والجهاد لهدّمت صوامع قال
مجاهد:(3/173)
صوامع الرهبان، {وَبِيَعٌ} ، قال: وكنائس. وقال الضحاك: البيع: بيع النصارى. وعن قتادة: {وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} ، قال: المساجد: مساجد المسلمين، {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} .
قال البغوي: ومعنى الآية: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم، لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى البيع والصوامع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، يعني: ينصر دينه ونبيه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وعن أبي العالية في قوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} ، قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له، ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. وقال زيد بن أسلم: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ، وعند الله ثواب ما صنعوا. وقال عمر بن عبد العزيز: ألا أنبئكم بما لكم على الوالي، وبما للوالي عليكم؟ إن لكم على الوالي أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم الطاعة غير المبزوزة، ولا المستكثر بها، ولا المخالف سرّها علانيتها.
قوله عز وجل: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } .(3/174)
قال البغوي: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، يعني: إنكاري. أي: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك، يخوف به من يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذبه.
قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، قال الضحاك: خواؤها: خرابها و {عُرُوشِهَا} سقوفها، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} ، قال: لا أهل لها. وقال قتادة: عطلها أهلها، تركوها. وعن عكرمة في قوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} ، قال: مجصّص. وقال قتادة: كان أهله سدّوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فيعتبرون، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، قال قتادة: البصر الظاهر بُلْغَةٌ ومُتْعَةٌ، وبصر القلب هو البصر النافع، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد ... نادى به الناعيان الشَيْبُ والكِبَرُ
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصرُ
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يَهْدِه الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضرُ
قوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) } .
قال ابن عباس: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة. وعن أبي هريرة أن(3/175)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام» . رواه ابن أبي حاتم وغيره.
قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) } .
قال ابن جريج قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال: الجنة. وعن ابن عباس: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قال: مشاقين. وقال مجاهد: يثبّطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة: كذبوا بآيات الله فظنوا أنهم يعجزون الله، ولن يعجزوه، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم} .
قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) } .
عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناد من أندية قريش كثير أهله، تمنى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه(3/176)
, فأنزل الله عليه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى عليها الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترجى؛ فتكلّم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعًا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته
فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبًا، فنحن معك، قالا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افْتَرَيْتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يَقُلْ» . فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} . فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. رواه ابن جرير وغيره.
قوله عز وجل: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ(3/177)
بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57) } .
عن سعيد بن جبير: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} من قوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى. وعن ابن جريج: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} ، قال: من القرآن، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، قال مجاهد: يوم بدر.
وقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} ، قال البغوي: يعني: يوم القيامة ... {لِّلَّهِ} من غير منازع، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، ثم بين الحكم فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) } .
عن ابن جريج: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ، قال: هم المشركون بغوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعده الله أن ينصره، وقال: في
القصاص أيضًا. قال(3/178)
البغوي: والعقاب الأوّل بمعنى: الجزاء. {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عفا عن مساوئ المؤمنين، وغفر لهم ذنوبهم.
{ذَلِكَ} يعني: ذلك النصر، {بِأَنَّ اللَّهَ} القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} العالي على كل شيء، {الْكَبِيرُ} العظيم الذي كل شيء دونه. قال ابن كثير: فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. لأنه: العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه. الكبير: الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدّس وتنزّه عزّ وجلّ عما يقول الظالمون المعتدون علوّاً كبيرًا.
* * *(3/179)
الدرس التاسع والسبعون بعد المائة
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ(3/180)
عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } .
* * *(3/181)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66) } .
في هذه الآيات الدالة الواضحة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه لا يستحق العبادة سواه. قال ابن كثير: وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} ، كقوله: {وكيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثم إليه ترجعون} ، ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أندادًا وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرّف؟
قوله عز وجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) } .
عن ابن عباس قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} ، يقول: عيدًا. وقال مجاهد: إهراق دم الهدي. وقال البغوي: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ} ، يعني:(3/182)
في أمر الذبائح؛ نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس، قالوا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟
وقال ابن كثير: وقوله: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، كقوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) } .
قال عبدة بن أبي لبابة: علم الله ما هو خالق، وما الخلق عاملون، ثم كتبه.
قوله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) } .
عن ابن عباس: قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} ، يقول: يبطشون.
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ} ، قال البغوي: يعني: بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون؟ النار، يعني:
هي: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وقال ابن كثير: أي: النار وعذابها ونكالها، أشد(3/183)
وأشقى، وأطم، وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } .
قال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله لآلهتهم وقرأ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، حين يعبدون من دون الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه. وقال ابن عباس: الطالب: الصنم. والمطلوب: الذباب، وقال: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه.
قوله عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) } .
قال البغوي: {اللَّهُ يَصْطَفِي} ، يعني: يختار {مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً} وهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وغيرهم. {وَمِنَ النَّاسِ}
يعني: يختار من الناس رسلاً، مثل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، نزلت حين قال المشركون: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} ؟ فأخبر أن الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) } .(3/184)
قال البغوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، يعني: صلّوا لأن الصلاة لا تكون إلاَّ بالركوع والسجود، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ، أي: وحّدوه، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، قال ابن عباس: صلة الرحم، ومكارم الأخلاق. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، لكي: تسعدوا وتفوزوا بالجنة. وروى أبو داود عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فضّلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» . وعن أبي الجهم: أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية وقال: (إن هذه فضلت بسجدتين) .
قوله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } .
قال ابن عباس في قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال ابن زيد في قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، قال: هداكم. وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، قال: الحرج: الضيق، فجعل الله الكفارات مخرجًا من ذلك. وقال مقاتل: يعني: الرخص عند الضرورات: كقصر(3/185)
الصلاة في السفر، والتيمم عند فقد الماء، وأكل الميتة عند الضرورة، والإفطار بالسفر والمرض، والصلاة قاعدًا عند العجز عن القيام؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالحنيفية السمحة» .
وقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، أي: اتّبعوا ملة أبيكم إبراهيم، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} ، قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، {وَفِي هَذَا} ، يعني: القرآن. وعن قتادة: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} ، قال: الله سماكم المسلمين من قبل. {وفي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} ، بأنه بلَّغكم، {وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلّغتهم، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي: استعينوا به وتوكّلوا عليه {هُوَ مَوْلَاكُمْ} يحفظكم وينصركم، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . قال وهيب بن الورد: ويقول الله تعالى: (ابن آدم اذكرني إذا غضبتَ، أذكرك
إذا غضبتُ، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلِمْتَ فاصبر وارض بنصرتي فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك) . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم وهو المستعان.
* * *(3/186)
الدرس الثمانون بعد المائة
[سورة المؤمنون]
وهي مائة وثمان عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً(3/187)
تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ
وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) } .
* * *(3/188)
قوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } .
سئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: (كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى انتهت إلى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . رواه النسائي. وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا قال: «خلق الله الجنة لبنةً من ذهب ولبنةً من فضّة وغرسها، وقال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك منزل الملوك» .
وعن الحسن في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضّوا بذلك البصر، وخفضوا به الجَنَاح. وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ، يقول: الباطل.(3/189)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ، قال البغوي: أي: للزكاة الواجبة مؤدّون. وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، يقول: رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم وما ملكت أيمانهم، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، قال ابن زيد: الذين يتعدّون الحلال إلى الحرام.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، حافظون. قال البغوي: أي: يحفظون ما اؤتمنوا عليه، والعقود التي عاقدوا الناس عليها، يقومون بالوفاء بها؛ والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العباد: كالصلاة، والصيام، والعبادات التي أوجبها الله عليه، وتكون من العبيد كالودائع والصانع، فعلى العبد الوفاء بجميعها. وعن مسروق: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قال: على ميقاتها. وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} » . رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، قال قتادة: قتل(3/190)
حارثة بن سراقة يوم بدر فقالت أمه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، قال: «يا أم حارثة إنها جنات في عدن، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة» .
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } .
عن قتادة في قوله: {مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} ، قال: استُلّ آدم من طين، وخُلقت ذريته من ماء مهين؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقيّ، أو سعيد» . الحديث متفق عليه.
وعن أبي العالية: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ، قال: نفخ الروح فيها، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، قال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين. وعن ابن عباس: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ، يعني: ننقله
من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا.
قوله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) } .(3/191)
قال ابن زيد في قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} ، قال: الطرائق: السماوات. وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
قوله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) } .
عن ابن عباس في قوله: {مِن طُورِ سَيْنَاء} ، قال: الجبل الذي نودي منه موسى - صلى الله عليه وسلم -، {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} ، يقول: هو: الزيت يؤكل ويدّهن به. وقال ابن زيد في قوله: {وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ} ، قال: هذا الزيتون صبغ للآكلين، يأتدمون به ويصطبغون به. قال ابن كثير: وطور سَيْنَاء هو: طور سينين وهو: الجبل الذي كلّم الله عليه(3/192)
موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) } .
قال ابن كثير: يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، ويأكلون من لُحْمَانِها، ويلبسون من أصوافها، وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها، ويُحَمَّلونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم؛ كما قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
* * *(3/193)
الدرس الحادي والثمانون بعد المائة
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)(3/194)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44) } .
* * *(3/195)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) } .
قال البغوي: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده، {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} معبود سواه، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره؟
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} ، يعني: يتشرّف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعًا وأنتم له تبع، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ} أن لا يُعبد سواه، {لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} ، يعني: بإبلاغ الوحي، {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي يدعونا إليه نوح، {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وقيل: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} ، أي: بإرسال بشر رسولاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} ، يعني: جنون، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} ، يعني: إلى أن يموت فتستريحوا منه.
قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ(3/196)
الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) } .
عن مجاهد في قوله: {مُنزَلاً مُّبَارَكاً} ، قال لنوح حين نزل من السفينة.
قال ابن كثير: قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} ، أي: أن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، {لَآيَاتٍ} ، أي: لحجج ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، قادر على كل شيء، عليم بكل شيء. وقوله: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} ، أي: لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) } .
عن ابن عباس في قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} ، يقول: بعيد، بعيد.
قال ابن جرير: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول الملأ من ثمود أنهم قالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} ، أي: بعيد ما توعدون، أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابًا وعظامًا مخرَجون أحياء من قبوركم، يقولون: ذلك غير كائن.(3/197)
وقال ابن زيد في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، قال يقول: ليس آخرة ولا بعث، يكفرون بالبعث يقولون: إنما هي حياتنا هذه ثم نموت ولا نحيا، يموت هؤلاء ويحيا هؤلاء، يقولون: إنما الناس كالزرع يُحصد هذا وينبت هذا، يقولون: يموت هؤلاء ويأتي آخرون، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) } .
قال ابن عباس يقول: جُعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر. وقال مجاهد: غثاء كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل، أولئك ثمود.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44) } .
عن ابن عباس قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} ، يقول: يتبع بعضها بعضًا.
وقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً} أي: أهلكناهم، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ، أي: قصصًا يتحدّث بهم من بعدهم، {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} ، أي: فأبعد الله قومًا لا يؤمنون بالله ولا يصدّقون رسله.
* * *(3/198)
الدرس الثاني والثمانون بعد المائة
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ(3/199)
جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) } .
* * *(3/200)
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) } .
قال البغوي: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، يعني: بحجّة بينة من اليد والعصا وغيرهما، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} تعظّموا عن الإيمان، {وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} متكبّرين قاهرين غيرهم بالظلم.
{فَقَالُوا} ، يعني: فرعون وقومه، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ، يعني: موسى، وهارون، {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، مطيعون متذللون، ... {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق. وقال ابن زيد: قال فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} نذهب نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا، كيف نصنع ذلك؟ وذلك حين أتوهم بالرسالة، وقرأ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ} ، قال: العلو في الأرض.
قوله عز وجل {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) } .
عن قتادة في قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ، قال: ولدته من غير أب هو له، ولذلك وجدت الآية، وقد ذكر مريم وابنها. وقوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} ، قال ابن عباس: الربوة: المكان المرتفع، وهو أحسن ما يكون فيه النبات.(3/201)
وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} ، يقول: ذات خصب، {وَمَعِينٍ} ، يعني: ماء ظاهرًا. وقال الضحاك، وقتادة: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} هو: بيت المقدس.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) } .
قال الضحاك: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ، يعني: الحلال. وعن ابن جريج: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال: الملة، والدين.
قوله عز وجل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ... (56) } .
عن مجاهد: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً} ، قال: كتبهم فرّقوها قطعًا. وقال ابن زيد في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، قال: هذا ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب، كلٌّ معجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلاَّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم. وعن مجاهد: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} ، قال: في ضلالهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} ، قال البغوي: إلى أن يموتوا. ... {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} ، ما نعطيهم ونجعله مددًا لهم من المال والبنين في الدنيا، {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} ، أي: نعجل لهم في الخيرات ونقدّمها ثوابًا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم، {بَل لَّا يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } .
عن الحسن أنه كان يقول: أن المؤمن جَمَعَ إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جَمَعَ إساءة وأمنًا ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إلى: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، الذين يؤتون ما آتوا(3/202)
وقلوبهم وجِلة، أهو: الرجل يزني،
ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: «لا يا ابنة أبي بكر، ولكن الرجل يصوم ويصلّي ويتصدّق ويخاف أن لا يُقبل منه» . رواه ابن جرير وغيره.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، أي: يبادرون إلى الأعمال الصالحات، {وَهُمْ لَهَا} ، أي: إليها، {سَابِقُونَ} ، قال ابن عباس: سبقت لهم من الله السعادة.
قوله عز وجل: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) } .
قال ابن كثير: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} ، يعني: كتاب الأعمال، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا} ، قال مجاهد: في عمى من هذا القرآن، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، قال: الخطايا.(3/203)
قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) } .
قال ابن زيد: المترفون: العظماء. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} ، يقول: فإذا أخذناهم بالعذاب جأروا، يقول: ضجّوا واستغاثوا مما حلّ بهم من
عذابنا، {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} ، قال الربيع: لا تجزعوا الآن حين حلّ بكم العذاب إنه لا ينفعكم، فلو كان هذا الجزع قَبْل نَفَعَكُمْ.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} ، قال ابن عباس يقول: تُدْبِرون، {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} ، يقول: مستكبرين بحرم البيت لأنه لا يظهر علينا فيه أحد، {سَامِراً} ، يقول: يسمرون حول البيت، {تَهْجُرُونَ} ، قال: يهجرون ذكر الله والحق، وقال ابن زيد: كانوا يسمرون ليلهم ويلعبون ويتكلّمون بالشعر والكهانة، وبما لا يدرون. وعن مجاهد: {تَهْجُرُونَ} ، قال: بالقول السيِّئ في القرآن.
قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) } .
قال البغوي: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} ، يعني: يتدّبروا، {الْقَوْلَ} ، يعني: ما جاءهم من القول وهو: القرآن. فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} ؟ فأنكروا، يريد أنا
قد بعثنا من قلبهم رسلاً إلى قومهم، كذلك بعثنا محمدًا إليهم؛ وقيل: (أم) بمعنى: (بل) .(3/204)
يعني: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فلذلك أنكروا.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ، قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صغيرًا وكبيرًا، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفائه بالعهود؟ وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه، بعدما عرفوه بالصدق والأمانة.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ جنون، وليس كذلك {بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ} يعني: بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
وقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} ، قال مجاهد وغيره: الحق: هو الله. قال ابن كثير: والمراد: لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك: {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} ، أي: لفساد أهوائهم واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم: {َوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ثم قال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، وقال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} .
وقوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ} قال ابن عباس: أي: بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني: القرآن، {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} .
وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ... الرَّازِقِينَ} ، كقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .(3/205)
وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} . قال البغوي: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتَهم به {خَرْجاً} أجرًا وجُعْلاً، ... {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} يعني: ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) } .
عن ابن عباس قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} ، يقول: عن الحق عادلون. وعن ابن جريج في قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} ، قال: الجوع. {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} ، قال: الجوع، والجدب، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ} ، قال الحسن: إذا أصاب الناس من قِبَلِ الشيطان بلاء، فإنما هي نقمة فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار وتضرّعوا إلى الله.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} . قال ابن كثير: أي: حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أُبْلِسُوا من كل خير، وأيسوا من كل رحمة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
* * *(3/206)
الدرس الثالث والثمانون بعد المائة
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا(3/207)
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } .
* * *(3/208)
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) } .
قال البغوي: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} ، أي: أنشأ لكم الأسماع، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} ، لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: لم تشكروا هذه النعم. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم، {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون، {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان. قال الفرّاء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ما ترون من صنعه فتعتبرون؟
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} ، أي: كذّبوا كما كذب الأوّلون، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون؟ قالوا ذلك على طريق الإِنكار والتعجّب. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} الوعد، {مِن قَبْلُ} أي: وَعَدَ آباءنا قوم زعموا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أكاذيب الأولين.
قوله عز وجل: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ(3/209)
الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) } .
قال البغوي: {قُل} يا محمد مجيبًا لهم: {لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} من الخلق، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرّون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت؟
{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: إذا كنتم تعرفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال البغوي: الملكوت الملك، والتاء فيه للمبالغة. {وَهُوَ يُجِيرُ} ، أي: يؤمّن من يشاء، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} ؟ ، أي: لا يؤمّن عليه.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . قال ابن كثير: أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو: الله تعالى وحده لا شريك له، {قُلْ فَأَنَّى(3/210)
تُسْحَرُونَ} ؟ أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟
ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ} ، وهو الإِعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلّة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، أي: في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} ، أي: تفرّد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع الإِله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق، {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، أي: طلب بعضهم مغالبة بعض، كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم؛ ثم نزّه نفسه فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قوله عز وجل: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
(95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} ، أي: إن أريتني {مَا يُوعَدُونَ} ، أي: ما أوعدتهم من العذاب، أي: يا ربّ {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي: لا تهلكني بهلاكهم، {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب لهم، {لَقَادِرُونَ} . وعن مجاهد في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} ، قال:(3/211)
أعرض عن أذاهم إيّاك. قال الحسن: والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظًا، ويصفح عما يكره.
وقال ابن زيد في قوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} خَنْقُهُمُ الناس فذلك همزاتهم، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في شيء من أمري. وقال ابن عباس: همزات الشياطين: نزعاتهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} ، قال قتادة: ما تمنّى أن يرجع إلى أهله وعشيرته، ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنّى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فَرَحِمَ الله امرءًا عمل فيما يتمنّاه الكافر إذا رأى العذاب.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . قال البغوي: {كَلَّا} كلمة ردع وزجر، أي: لا يرجع إليها {إِنَّهَا} يعني: سؤاله الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها، {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ} ، أي: أمامهم وبين أيديهم حاجز {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وقال الضحاك: البرزخ: ما بين الموت إلى البعث.
قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي(3/212)
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) } .
قال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقّه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته، وإن كان صغيرًا،
ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: (إن للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي مواطن يشتدّ عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي مواطن يفيقون إفاقة فيتساءلون) .
وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ، قال ابن عباس يقول: عابسون. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه؟
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} ، فلم يجيبوهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ، قال: ثم نادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة، ثم أجابهم فقال: {إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد(3/213)
ذلك تبارك وتعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
قوله عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا(3/214)
لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } .
قال البغوي: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، أي: في الدنيا، وفي القبور، {عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، نسوا مدة لبثهم في الدنيا لِعِظَمِ ما هم بصدده من العذاب، {فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم، {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} ، أي: ما لبثتم في الدنيا {إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}
أي: لعبًا وباطًلا لا لحكمة، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ، في الآخرة للجزاء؟ كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . قال ابن كثير: أي تقدّس أن يخلق شيئًا عبثًا فإنه الملك الحقّ المنزه عن ذلك، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم. أي: حسن المنظر بهيّ الشكل.
قوله عز وجل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } .
قال البغوي: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، أي: لا حجّة له به ولا بينة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ} يجازيه بعمله، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا يسعد من جحد وكذب، ... {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} .
* * *(3/215)
الدرس الرابع والثمانون بعد المائة
[سورة النور]
مدنية، وهي أربع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } .
* * *(3/216)
قوله عز وجل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: هذه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ، وفيه تنبيه على الاعتناء بها. وعن ابن عباس في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} ، يقول: بيّنّاها. وعن ابن جريج: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، قال: الحلال، والحرام، والحدود، {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، قال عطاء: يقام حمدًا لله ولا يعطّل، وليس بالقتل. وقال عمران: قلت لأبي مجلز: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} إلى: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدًّا أو تقطع يده، قال: إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ.
وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال الزهري: الطائفة الثلاثة فصاعدًا. وعن ابن عباس: أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل
عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلّوا(3/217)
بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أُحْصِنَ من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة، أو كان الحَبَلُ أو الاعتراف) . متفق عليه. وفي الصحيحين أيضًا في حديث العسيفي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليهما فاعترفت فرجمها. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا نقرأ: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) . رواه النسائي وغيره. قال ابن كثير: آية الرجم كانت مكتوبة، فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به. والله أعلم.
وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، قال عبد الله بن عمرو كانت امرأة يقال لها: أم مهزول وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوّجها، فأنزل الله عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . رواه النسائي. وفي رواية الإِمام أحمد: فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة حرّم الله عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقرّ في(3/218)
أهله ... الخبث» . رواه أحمد. وفي رواية: «والديّوث» .
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) } .
قال ابن كثير: المحصنة هي: الحرة البالغة العفيفة. وقال الشعبي في القاذف إذا تاب وعلم منه خير: أن شهادته جائزة، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته، وتوبتُه إكذابُه نفسَه. وقال الضحاك: إذا تاب وأصلح قبلت شهادته.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } .
قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} ، أي: يدفع عنها الحدّ شهادتها. وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ، قال سعد بن عبادة وهو سيّد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قطّ إلا بكرًا، وما طلّق امرأة قطّ فاجترأ رجل منا أن(3/219)
يتزوّجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجّبت، إني لوجدت لكاعًا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته!
قال: فما لبثوا إلاَّ يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهيّجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به واشتدّ عليه واجتمعت الأنصار وقالوا: قد ابتُلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا، وقال هلال: يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتدّ عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل
الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربّد وجهه. يعني: فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية، فَسُرِّيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا» . فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلوا إليها» . فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فذكّرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما فقالت: كذب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاعِنُوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان الخامسة قيل له: «يا هلال اتّق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فقال: والله لا يعذّبني الله(3/220)
عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين؛ ثم قيل للمرأة: «اشهدي» . فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: «اتّق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فتلكّأت ساعة وهمّت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أنه لا يُدْعَى ولدها لأب ولا يُرْمَى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ، وقضى أن لا
بيت عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفّى عنها، وقال: إن جاءت به أصيهب أو حمش الساقين فهو: لهلال، وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو: للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدًا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يدعى لأمّه ولا يدعى لأب. رواه أحمد وغيره.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها» .
وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} قال البغوي: جواب (لولا) محذوف. يعني: لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم(3/221)
ورفع عنكم الحدّ باللعان {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، {حَكِيمٌ} فيما فرض من الحدود.
وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لخرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} ، أي: على عبادة، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلّظة، {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به، وفيما ينهى عنه.
* * *(3/222)
الدرس الخامس والثمانون بعد المائة
{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ(3/223)
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } .
* * *(3/224)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) } .
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن أبي وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإِفك ما قالوا فبرّأها الله تعالى وكلهم قد حدّثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدّق بعضًا؛ ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه فأيهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه. قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أُحْمَلُ في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما
قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقدٌ بها من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين يرحّلونني فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلن ولم يغشهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وحملوه،(3/225)
وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السلمّي ثم الذكوانيّ قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نمر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإِفك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي أرى منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم» ؟ فذاك الذي يريبني
ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قِبَلَ المناصع وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتّخذها في بيوتنا، وانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، تسبّين رجلاً شهد بدرًا؟ ! فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: ماذا؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإِفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: «كيف تيكم» ؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقّن الخبر من قِبَلِهِما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت(3/226)
أبويّ فقلت لأمي: يا أمّتاه ماذا يتحدّث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوِّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، وقد تحدّث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ ابن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي
يعلم في نفسه لهم من الودّ فقال أسامة: يا رسول الله أَهْلُك ولا نعلم إلا خيرًا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: «أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة» ؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرًا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو: سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل؛ فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفّضهم حتى سكتوا. وسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت:
وبكيت يومي(3/227)
ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أن البكاء فالِقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء قالت: فتشهّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: والله لقد علمتُ، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدّقُنّي، فوالله ما أجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى ولَشَأني كان أحقر في نفسي من أن يُتكلّم فيّ بأمر يُتلى
ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرّئني الله بها، قالت: فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدّر منه مثل الجُمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثِقَلِ القول الذي أنزل عليه، قالت: فسُرِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أما الله عزّ وجل فقد برّأك» . قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجل، هو الذي أنزل براءتي،(3/228)
وأنزل الله عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت» ؟ فقالت: يا رسول الله احمني سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله تعالى بالورع وطفقت أختها حمنة بنت
جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. متفق عليه. وعند أهل السنن قالت: (لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضُربوا حدّهم) .
وعند أبي داود: (حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، أي: النار في الآخرة. قال ابن عباس: (الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبيّ وهو الذي تولّى كبره، وحسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش) . وقال ابن زيد: أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أبيّ ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام وقال: امرأة نبيكم(3/229)
باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها. وعن محمد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال لبني النجار: أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما أنزل الله القرآن ذكر الله من قال الفاحشة ما قال من أهل الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} وذلك من حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} كما قال أبو أيوب وصاحبته) . رواه ابن جرير.
وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، قال ابن كثير: ... {لَوْلَا} ، أي: هلاّ، {جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، يشهدون على صحة ما جاءوا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي: في حكم الله كاذبون فاجرون.
قوله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} هذا للذين تكلّموا فتشهروا ذلك الكلام {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وعن مجاهد: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} ، قال: تروونه بعضكم عن بعض.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ(3/230)
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء
وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) } .
عن ابن عباس قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} ، يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئًا من الشر يدفعه عن نفسه. قال ابن زيد: كل شيء في القرآن من زكى أو تزكى فهو الإسلام؛ وقال مقاتل: {مَا زَكَى} ما صلح؛ وقال ابن قتيبة: ما طهر.
قال البغوي: والآية على العموم عند بعض المفسرين. قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح مسلم.
قوله عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) } .
عن ابن عباس قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى آخر الآية. قال: كان ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلّموا به، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم أبو بكر أن لا يتصدّق على رجل تكلّم بشيء من هذا ولا يصله، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم، وأن يعفو عنهم.(3/231)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } .
قال ابن جرير في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} يقول تعالى ذكره: إن الذين يرمون بالفاحشة {الْمُحْصَنَاتِ} يعني: العفيفات {الْغَافِلَاتِ} عن الفواحش، {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، يقول: أُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وذلك عذاب جهنم. وعن جعفر بن برقان قال: سألت ميمونًا قلت: الذي ذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فجعله في هذه الآية توبة، وقال في الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، قال ميمون: أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت، وأما هذه فهي التي لم تقارف شيئًا من ذلك. وقال ابن زيد: هذا في عائشة، ومن صنع اليوم في المسلمات فله ما قال الله.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، قال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية. الظلمة عنده ضوء، والسرّ عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حَسَنُ الظنّ فليفعل، ولا قوة إلاَّ بالله.(3/232)
وعن ابن عباس في قوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، يقول: حسابهم.
وقال البغوي: جزاؤهم الواجب، وقيل: حسابهم العدل، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} يبين لهم حقيقة ما كان بَعدهم في الدنيا. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن عبد الله بن أبيّ كان يشكّ في الدين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين.
وعن ابن عباس قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} ، يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. وقوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} ، يقول: الطَّيِّبَاتُ من القول لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، والطيّبون من الرجال للطيّبات من القول: نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا من البهتان) . وقال ابن زيد: نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله من ذلك؛ وكان عبد الله بن أبيّ هو خبيثًا، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيبًا، وكان أولى أن تكون له الطيّبة،
وكانت عائشة الطيّبة، وكان أولى أن يكون لها الطيّب {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} قال ها هنا: بُرّئت عائشة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
* * *(3/233)
الدرس السادس والثمانون بعد المائة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ وَلَا(3/234)
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34) } .
* * *(3/235)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) } .
عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، قال: الاستئناس: الاستئذان. وعن قتادة: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} . وعن أبي موسى قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف» . رواه البخاري. وعن جابر قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دّيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب فقال: «من ذا» ؟ فقلت: أنا، قال: «أنا، أنا! كأنه كرهه» . رواه الجماعة. قال ابن كثير: وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرف صاحبها حتى يفصح باسمه.
وعن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علّي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(3/236)
لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} الآية. رواه ابن جرير. وقال ابن
مسعود: وعليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم، وأخواتكم. وعن زينب امرأة ابن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجته فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه.
وقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} ، قال مجاهد: هي: البيوت التي ينزلها السفر لا يسكنها أحد. قال ابن جرير: إن الله عمّ بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} كل بيت لا ساكن به لنا فيه متاع، ندخله بغير إذن.
قوله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) } .
قال ابن عباس: {يَغُضُّوا أَبْصَارِهِمْ} عما يكره الله. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري. رواه مسلم. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا علي لا تُتْبعِ النظرة بالنظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» . رواه أبو داود وغيره. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» . رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(3/237)
«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل،
ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» . رواه البغوي.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في بعض الآثار: (إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، يقول الله تعالى: من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا حلاوته في قلبه) .
قوله عز وجل: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } .
عن ابن مسعود: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال: الثياب. وقال ابن عباس: الكحل، والخاتم. وقال عطاء: الكفّان والوجه. وقال الحسن: الوجه، والثياب. قال البغوي: فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة. وعن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ(3/238)
عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، شققن البرد مما يلي
الحواشي فاختمرن به. رواه ابن جرير وغيره وقال سعيد بن جبير: ... {وَلْيَضْرِبْنَ} وليشددن، {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، يعني: على النحر والصدر فلا يرى منه شيء. وعن ابن عباس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {عَوْرَاتِ النِّسَاء} ، قال: الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها، وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالها، ومعضداها، ونحراها، وشعرها فإنه لا تبديه إلاَّ لزوجها. وقال قتادة: تبدي لهؤلاء الرأس. قال بعض السلف: لم يذكر العم والخال وهما من محارمهن لئلاّ يصفوهن لبنيهم. وقال الحسن البصري: إنهما كسائر المحارم في جواز النظر، وقد يُذكر البعض لينبّه على الجملة. وهذا أظهر.
وعن ابن عباس: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} ، قال: هنّ المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو: النحر، والقرط، والوشاح، وما لا يحلّ أن يراه إلاَّ محرم. وعن ابن جريج قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} ، قال: بلغني أن نساء المسلمين لا يحل لمسلمة أن ترى مشركة عريتها إلاَّ أن تكون أمة لها، فذلك قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . قال ابن كثير: وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر زينتها على رقيقها من الرجال والنساء واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» .
وقال البغوي: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ، اختلفوا فيها فقال قوم: عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وينظر إلى بدن مولاته إلاَّ ما بين السرة والركبة كالمحارم، وهو ظاهر القرآن.
وعن ابن عباس قوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} ، قال: كان(3/239)
الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول ولا يغار عليه، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء.
وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} ، قال مجاهد: لم يدروا ما تم من الصغر قبل الحلم.
وقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ، قال ابن عباس: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال ويكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه. والله تعالى هو المستعان.
قوله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} ، قال: أيامى النساء اللاتي ليس لهن أزواج. وعن ابن عباس قوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ(3/240)
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} قال: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغّبهم فيه وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} .
قال ابن كثير وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا بالتعفّف عن الحرام.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، قال البغوي: سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلامًا لحويطب بن عبد العزّى سأل مولاه
أن يكاتبه فأبى عليه، فأنزل الله هذه الآية. فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارًا.
وعن ابن عباس قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} ، يقول: إن علمتم لهم حيلة ولا تلقون مئونتهم على المسلمين. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» . رواه البغوي.
وقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال ابن كثير: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول(3/241)
هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف، في شأن عبد الله بن أبيّ بن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهنّ ورغبة في أولادهنّ ورياسة منه فيما يزعم. قال: وقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وقوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لهنّ قال ابن عباس: فإن فعلتم {فَإِنَّ اللَّهَ} لهن {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وإثمهن على من أكرههنّ. قال ابن كثير: ولما فصّل تبارك وتعالى هذه
الأحكام وبيّنها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسّرات، {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ} أي: خبرًا عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} ، أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: (فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله) .
* * *(3/242)
الدرس السابع والثمانون بعد المائة
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) } .
* * *(3/243)
قوله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) } .
عن ابن عباس قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، يقول: الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض، {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هداه في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ} ، قال: المشكاة كوّة البيت، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} ، قال السدي: هو السراج، وقال أبيّ بن كعب: المصباح: النور. وهو: القرآن، والإيمان الذي في صدره، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وهي نظير قلب المؤمن، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} مضيء، {يُوقَدُ مِن(3/244)
شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} ، قال ابن عباس: هي شجرة وسط الشجر ليست من الشرق ولا من الغرب. وقال عكرمة لا يسترها من الشمس جبل ولا واد إذا طلعت وإذا غربت. وقال مجاهد: إذا طلعت الشمس أصابتها، وإذا غربت أصابتها.
{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ، قال البغوي: {يَكَادُ زَيْتُهَا} دهنها {يُضِيءُ} من صفائه، {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ، أي: قبل أن تصيبه النار. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ، يعني: نور المصباح على نور
الزجاجة. قال أبيّ بن كعب: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله في قلبه من الإيمان والقرآن، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهي: الإخلاص لله وحده.
وقال السدي في قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} قال: نور النار، ونور الزيت، حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن، ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلاَّ بصاحبه.
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن كثير: أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفّح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نور. وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق عَرَفَ ثم أنكر، وأما القلب المصفّح: فقلب فيه كمثل القرحة يمدّها الدم والقيح، فأي المَدَّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» . رواه أحمد.(3/245)
قوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) } .
عن مجاهد في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} ، قال: مساجد تبنى. وقال ابن عباس في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وهي: المساجد، كره ونهى عن اللغو فيها، ثم قال: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، يقول: يُتلى فيها كتابه. وعن الحسن في هذه الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ، قال: هم قوم في تجارتهم وبيوعهم لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله.
وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . روى النسائي عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسَب سائر الخلائق» .
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) } .
قال ابن كثير: هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين ناريًا ومائيًا، كما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين مائيًا وناريًا؛ فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركّب، فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلَّدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} . انتهى ملخصًا.
وقال أبيّ بن كعب: ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ، قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيرًا، فلا يجد فيدخله النار. وعن ابن عباس قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن(3/246)
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} إلى قوله: {مِن نُّورٍ} ، قال: يعني بالظلمات: الأعمال. وبالبحر اللجّي: قلب الإنسان. قال: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} ، قال: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، يعني بذلك: الغشاوة
التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} . وعن أبي بن كعب في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} الآية، قال: ضرب مثلاً آخر للكافر، فهو يتقلّب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.(3/247)
وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ، كقوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه: {يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: من الملائكة، والأناسي، والجانّ، والحيوان حتى الجماد، كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} .
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} ، أي: في حال طيرانها تسبّح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ، أي: كل قد أرشده إلى طريقته
ومسلكه في عبادة الله عز وجل؛ ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض فهو الحاكم المتصرف، الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلاَّ له ولا معقّب لحكمه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: يوم القيامة. فيحكم فيه بما شاء ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فهو الخالق المالك الإله الحكم في الدنيا والآخرة، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
* * *(3/248)
الدرس الثامن والثمانون بعد المائة
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ(3/249)
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } .
* * *(3/250)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) } .
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} ، أي: يجمعه بعد تفرقه، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} ، أي: متراكمًا يركب بعضه بعضًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} ، أي: المطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، أي: من خلله. قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فتقمّ الأرض قمًّا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب. ثم يبعث الله المؤلّف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقّح السحاب. وقال ابن زيد في قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، قال: الودق القطر.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ} ، قال ابن عباس: أخبر الله تعالى أن في السماء جبالاً من بَرَدٍ {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} ، قال: ضوء برقه يذهب بالأبصار.
وقوله تعالى {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} كقوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . رواه البغوي وغيره.(3/251)
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) } .
قال ابن كثير: يذكّر تعالى قدرته التامة، وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع المخلوقات، على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، فمنهم من يمشي على بطنه: كالحية وما شاكلها، ومنهم من يمشي على رجلين: كالإنسان، والطير، ومنهم من يمشي على أربع: كالأنعام وسائر الحيوانات، ولهذا قال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال البغوي: ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع، مثل حشرات الأرض لأنها في الصورة كالتي على الأربع، وقيل: إن في قوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} تنبيهًا على سائر الأقسام.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} ، أي: واضحات تدلّ على طريق الحق {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا(3/252)
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يُظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولاً بألسنتهم: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي: يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .
وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} ، أي: إذا طُلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . وفي الطبراني عن سمرة مرفوعًا: «من دُعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له» .
وقوله تعالى: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} ، أي: وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين، وإذا كانت عليهم أعرضوا، ولهذا قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . قال قتادة: ذكر لنا أن عبادة بن الصامت وكان عقبيًا بدريًا أحد نقباء الأنصار، أنه لما حضره الموت قال(3/253)
لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله، إلاَّ أن يأمروك بمعصية الله بواحًا، فما أُمرت به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله» .
وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . قال قتادة: يطيع الله ورسوله فيما أمراه به، ويترك ما نهياه عنه ويخشى الله فيما مضي من ذنوبه، ويَتَّقْهِ فيما يستقبل.
قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) } .
قال البغوي قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} جَهْدَ اليمين أن يحلف بالله، ولا حلف فوق الحلف بالله {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال تعالى: {قُلْ} لهم: {لَّا تُقْسِمُوا} ، لا تحلفوا، وقد تمّ الكلام؛ ثم قال: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يعني: هذه طاعة بالقول وباللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة: يعني: أمرٌ عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون، هذا معنى قول مجاهد. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا} ، يعني: تولّوا عن طاعة الله ورسوله،(3/254)
{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} ، يعني: على الرسول ما كُلَّف وأمر به من تبليغ الرسالة، {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} من الإجابة والطاعة، {وَإِن تُطِيعُوهُ} تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } .
عن أبي العالية قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. قال: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين خائفًا يدعو إلى الله سرًا وعلانية، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصبرون إلاَّ يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس فيه حديدة» ، فأنزل الله هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} إلى قوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} ، قال: يقول: من كفر بهذه النعمة، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وليس يعني الكفر بالله؛ قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا ثم تجبّروا فغيّر الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم.
قال ابن كثير: فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد(3/255)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله، كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيّدهم تأييدًا عظيماً، وحكموا في سائر البلاد والعباد، ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر، نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة» . وفي رواية: «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» .
* * *(3/256)
الدرس التاسع والثمانون بعد المائة ...
... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى(3/257)
يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) } .
* * *(3/258)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) } .
عن ابن عباس في قوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبي إلاَّ بإذن حتى يصلي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ، أي: بعد هذه الأحوال الثلاث، {طَوَّافُونَ} .
قال في جامع البيان: أي هم: طوّافون، {عَلَيْكُم} استئناف يبين العذر في ترك الاستئذان، {بَعْضُكُمْ} طائف، {عَلَى بَعْضٍ} أو تقديره: يطوف بعضكم على بعض، أو فيكثرون التردّد لحوائجكم، فيفتقر فيهم ما لا يفتقر في غيرهم {كَذَلِكَ} ، مَثَلُ ذلك التبيين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوالكم، {حَكِيمٌ} فيما أمركم.
وقال البغوي: قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} ، أي: الاحتلام، يريد الأحرار البالغين، {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ، أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم، {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأحرار والكبار، {كَذَلِكَ(3/259)
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأمور خلقه، {حَكِيمٌ} فيما دبرّ لهم، قال: وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم، إن لم يفعل رأى منها ما يكره.
قوله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ} ، يعني: اللَّاتِي قعدن عن الولد والحيض من الكِبَر، {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً} ، أي: لا يردن الرجال لكِبَرِهنّ، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال. يعني: يَضَعْنَ بعض ثِيَابَهُنَّ وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب والقناع الذي فوق الخمار. والتبرّج هو: أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره. وعن الشعبي: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} ، قال: تَرْكُ ذلك، يعني: ترك وضع الثياب.
قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61) } .(3/260)
قال مجاهد: كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه، أو بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت عشيرتهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
قال ابن كثير: وقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} إنما ذكر هذا وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعد في الحكم، وتضمّن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينصّ عليه، ولهذا استدلّ به من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنت ومالك لأبيك» .
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} ، قال ابن عباس: (كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخّص الله لهم فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} . قال ابن كثير: فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل
الرجل وحده ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل. كما رواه الإمام أحمد: أن رجلاً قال(3/261)
للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا نأكل ولا نشبع! قال: «لعلكم تأكلون متفرّقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» .
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} . قال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة تردّ عليه.
قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) } .
قال ابن زيد: الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة، قال: والجمعة من الأمر الجامع، لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة، إلاَّ بإذن سلطان، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه، ولا يخرج إلاَّ بإذن، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه ولا يصل إليه، فالله أولى بالعذر.
وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلّم فليست الأولى بأحق من الآخرة» .(3/262)
قوله عز وجل: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } .
قال ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظامًا لنبيّه، قال: فقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله. وقال قتادة في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} ، يعني: لِوَاذاً عن نبي الله وعن كتابه.
وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، قال ابن كثير: أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: في الدنيا بقتل، أو حدّ، أو حبس، أو نحو ذلك.
قوله عز وجل: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) } .
قال ابن كثير: (قد) للتحقيق كما قال قبلها: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} . قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} ، يقول:
ويوم يرجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره، {فَيُنَبِّئُهُم} ، يقول: فيخبرهم حينئذٍ {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها من خلافهم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
* * *(3/263)
الدرس التسعون بعد المائة
[سورة الفرقان]
مكية، وهي سبع وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ(3/264)
قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا
لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً
خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ(3/265)
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) } .
* * *(3/266)
قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (3) } .
قال ابن زيد في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، قال: النبي: النذير، وقرأ: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وقرأ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} . قال: رسل. قال: المنذرون: الرسل، قال: وكان نذيرًا واحدً بلغ ما بين المشرق والمغرب، ذو القرنين، ثم بلغ السدّين، وكان نذيرًا ولم أسمع أحدًا بحق أنه كان نبيًا. {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، قال: من بلغه القرآن من الخلق فرسول الله نذيره وقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، وقال: لم يرسل الله رسولاً إلى الناس عامة إلاَّ نوحًا بدأ به، فكان رسول أهل الأرض كلهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ختم به.
قال البغوي: {تَبَارَكَ} تفاعل، من البركة، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} ، أي: القرآن، {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، أي: الجنّ، والإنس. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ(3/267)
شَيْءٍ} ، مما يطلق عليه صفة
المخلوق. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فسوّاه وهيّأه لما يصلح له، لا خلال فيه ولا تفاوت، {وَاتَّخَذُوا} ، يعني: عبدة الأوثان، {مِن دُونِهِ آلِهَةً} ، يعني: الأصنام، {لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} ، أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً} ، أي: إماتة وإحياء، {وَلَا نُشُوراً} ، أي: بعثًا بعد الموت.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6) } .
عن ابن جريج: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، قال: ما يُسرُّ أهل الأرض وأهل السماء.
قوله عز وجل: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً (10) } .
قال البغوي: {انظُرْ} يا محمد: {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ، يعني: الأشباه. فقالوا: مسحور محتاج وغيره، {فَضَلُّوا} عن الحق، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الهدى ومخرجًا عن الضلالة. وعن مجاهد قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ(3/268)
خَيْراً} مما قالوا: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} ، قال: بيوتًا مبنيّة مشيّدة. وروى البغوي وغيره عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» .
قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً (16) } .
قال الضحاك: الثُبور: الهلاك. وعن ابن عباس في قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} ، قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه. قال البغوي: وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين
قالوا: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، يقول: كان أعطى الله المؤمنين جنة الخلد وعدًا وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا(3/269)
الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19) } .
عن مجاهد في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء} ؟ قال: عيسى، وعزير، والملائكة. وعن ابن عباس قوله: {وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} ، يقول: هلكى. وقال الحسن: لا خير فيهم.
وعن مجاهد: {فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ} ، قال: عيسى، وعزير، والملائكة يكذّبون المشركين {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً} ، قال: المشركون. قال ابن جريج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم، ولا نصر أنفسهم، {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} ، قال: يشرك {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو
كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
قوله عز وجل: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) } .(3/270)
قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ أنزل الله عز وجل هذه الآية، أي: ما كنت بدعًا من الرسل، وهم كانوا بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ، قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاء لبعض، لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى.
قال ابن كثير: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ، أي: بمن يستحقّ أن يوحى إليه، كما قال تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وقوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أي: فتخبرنا أن محمدًا صادق، {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} عند الموت ويوم القيامة، {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} . قال ابن كثير: أي: وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرّم عليكم الفلاح اليوم.
وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} ، أي: باطلاً لا ثواب له، كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} . وعن ابن عباس قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، يقول: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عُرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} .(3/271)
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29) } .
قال ابن عباس: تَشَقَّقُ السَّمَاء الدنيا فيننزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقّق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجنّ والإنس، ثم كذلك حتى تَشَقَّقُ السَّمَاء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكروبيّون، ثم حملة العرش. وعن مجاهد قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ} ، قال: هو الذي قال: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} الذي يأتي الله فيه يوم القيامة.
وعن ابن عباس قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: ... {فُلَاناً خَلِيلاً} قال: هو أبيّ بن خلف كان يحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزجره عقبة بن أبي ميعط. قال ابن كثير: وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي ميعط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .
قوله عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ(3/272)
تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) } .
قال ابن زيد في قول الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} ، لا يرون أن يسمعوه، وإن دُعوا إلى الله قالوا: لا، وقرأ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ، قال: ينهون عنه ويَبْعُدون عنه. وقال ابن عباس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} ، قال: يوطّن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنه جاعل له عدوًا من المجرمين كما جعل لمن قبله.
وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، قال ابن عباس: كان الله ينزل عليه الآية، فإذا علمها نبي الله نزلت عليه آية أخرى، ليعلّمه الكتاب عن ظهر قلب ويثبّت به فؤاده. وعن الحسن في قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، قال: كان ينزل آية في آيتين وآيات، جوابًا لهم إذا سألوا عن شيء، أنزله الله جوابًا لهم وردًا عن الشيء فيما يتكلّمون به، وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة.
وعن ابن جريج: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} ، قال: الكتاب بما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التي جاءوا بها {وَأَحْسَنَ ... تَفْسِيراً} قال ابن عباس: يقول أحسن تفصيلاً.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} في الصحيح عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» .(3/273)
الدرس الحادي والتسعون بعد المائة
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ(3/274)
الْكَافِرِينَ
وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60) } .
* * *(3/275)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) } .
عن ابن عباس قوله: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} ، قال: بئر كانت تسمى الرّس. وقال قتادة: الرّس: قرية من اليمامة يقال لها: الفلج، {وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} ، قال: كل قد أعذر الله إليه ثم انتقم منه، {وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} ، قال البغوي: يعني: أهلكنا إهلاكًا.
قوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) } .
عن ابن جريج قوله: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} قال:(3/276)
ثبتنا عليها، قال البغوي: يعني: لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها.
انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} .
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} قال ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة الله وخالفه، ثم هوى حجرًا فعبده ما حاله عنده؟ وقال ابن كثير: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، أي: مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه، كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) } .
عن ابن عباس قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ، يقول: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً} ، يقول: دائمًا، {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ، يقول: طلوع الشمس. وقال مجاهد: تحويه، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} ، قال: حوى الشمس الظلّ.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} ، أي: سترًا تستترون به، {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} راحة لأبدانكم، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} تنتشرون فيه لأشغالكم.(3/277)
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) } .
قال ابن عباس: ما عام بأكثر مطر من عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه ثم قرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} . وعن عكرمة: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} ، قال: قولهم في الأنواء.
قوله عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) } .
قال ابن عباس قوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ} ، قال: بالقرآن.
وعن مجاهد في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أفاض أحدهما على الآخر، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} ، قال: لا يختلط البحر بالعذب. وعن الحسن في قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} ، قال: هذا اليبس.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء} ، أي: النطف، {بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً} وهو القرابة، {وَصِهْراً} وهو الخلطة التي تشبه القرابة، {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} . وعن الحسن في قوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} قال: عونًا للشيطان على ربه(3/278)
على المعاصي. وقال ابن زيد: والظهير: العوين، وقرأ قول الله: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} .
قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60) } .
قال البغوي: قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} ، أي: على تبليغ الوحي، {مِنْ أَجْرٍ} فتقولوا: إنما يطلب محمد أموالنا، {إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} هذا من الاستثناء المنقطع
والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرًا، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته.
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} ، عالمًا بصغيرها وكبيرها، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، قال مجاهد في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك.
وقال ابن جرير: يقول: فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرًا بخلقه، فإنه خالق كل شيء ولا يخفى عليه ما خلق.(3/279)
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ، أي: لا نعرفه ولا نُقِّرُ به، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسمه الرحمن. ... {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي: لمجرد قولك؟ {وَزَادَهُمْ} ذلك {نُفُوراً} عن الدين والإيمان. قال ابن كثير: فأما المؤمنين فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالإِلهية ويسجدون له.
* * *(3/280)
الدرس الثاني والتسعون بعد المائة
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77) } .(3/281)
قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) } .
قال قتادة: البروج: النجوم. وعن مجاهد قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} ، قال: هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا، {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} ذاك آية له، {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} ، قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما.
قوله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) } .
عن مجاهد: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} ، قال: بالوقار، والسكينة. وعن ابن عباس قوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} ، بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال ابن زيد: لا يتكبّرون على الناس ولا يتجبّرون ولا يفسدون، وقرأ قول الله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
وعن الحسن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} ، قال: حلماء، وإن جُهل عليهم لم يجهلوا.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} قال(3/282)
البغوي: يعني: مُلِحًّا دائمًا لازمًا غير مفارق من عُذّب به من الكفار، {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} ، يعني: بئس موضع قرار وإقامة.
وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله. وعن إبراهيم قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ، قال: لا يجيعهم ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة يقول الناس: قد أسرف. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} .
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، أي: وسطًا عدلاً، وقرئ: بكسر القاف، وهو ما تقام به الحاجة.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) } .
عن ابن مسعود قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» ، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعمَ معك» ، قال: ثم أي؟ قال: «تزاني حليلة جارك» قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {وَالَّذِينَ(3/283)
لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية) . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله إلاَّ بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . وقال لقمان لابنه: يا بني إيّاك والزنا، فإن أوله مخافة وآخره ندامة.
وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} ، قال أبو عبيدة: الأثام العقوبة؛ وقال مجاهد: الأثام واد في جهنم. قرأ ابن كثير وحفص فيه: بإشباع الكسرة، وقرأ الباقون: بغير إشباع كنظائرها.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، قال ابن عباس: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بالشرك إيمانًا، وبالقتل إمساكًا، وبالزنا إحصانًا. وقال سعيد ابن المسيب: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة. {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} ، أي: رجوعًا. قال ابن كثير: أي: فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا(3/284)
وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) } .
قال ابن جرير في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، لا يشهدون شيئًا من الباطل، لا شركًا ولا غناء ولا كذبًا ولا غيره، قال: واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له، أو ما يُستقبح. وقال ابن كثير: أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا ولم يتدنّسوا منه بشيء، ولهذا قال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} ، قال البغوي: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا} لم يقعوا ولم يسقطوا عليها، {صُمّاً وَعُمْيَاناً} كأنهم صمّ عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه؛ قال القتيبي: لم يتغافلوا عنها كأنهم صمّ لم يسمعوها وعمي لم يروها.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} ، عن ابن عباس قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ، يعنون: من يعمل لك بالطاعة فَتُقِرُّ بِهِمْ أعينًا في الدنيا والآخرة، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} ، يقول: أئمة يُقتدى بنا. وقال مجاهد: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} ، أي: الدرجة العالية. وهي: الفردوس أعلا الجنة، {بِمَا صَبَرُوا} على أمر الله تعالى طاعته، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً} كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ(3/285)
عُقْبَى الدَّارِ} ، {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} ، أي: موضع قرار وإقامة، كما قال تعالى: ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} .
قوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77) } .
قال ابن كثير: أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحّدوه. وقال الضحاك في قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، الكفار كذّبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، وهو يوم بدر. وعن ابن عباس: {فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَاماً} ، قال: موتًا. وقال الحسن البصري: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، أي: يوم القيامة. وقال ابن كثير: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، أي: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم. يعني: مقتضيًا لعذابكم، وهلاككم، ودماركم في الدنيا والآخرة.
* * *(3/286)
الدرس الثالث والتسعون بعد المائة
[سورة الشعراء]
مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ(3/287)
أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ(3/288)
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } .
* * *(3/289)
قوله عز وجل: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } .
قال ابن عباس: {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} ، قاتل نفسك. وقال قتادة: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك.
وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ، قال قتادة: لو شاء الله لنزّل آية يذلّون بها، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله. وقال ابن كثير: أي: لو نشاء لأنزلنا آية تضطرّهم إلى الإِيمان قهرًا، ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإِيمان الاختياري.
وقوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ، قال البغوي: أي: مُحْدَثٌ إنزاله، فهو محدث في التنزيل. قال الكلبي: كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول.
وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء} ، أي: أخبار وعواقب، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} .(3/290)
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي: حسن. قال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: دلالة على قدرة الخالق وتوحيده بالعبادة، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، قال أبو العالية: {الْعَزِيزُ} في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: {الرَّحِيمُ} بمن تاب إليه وأناب.
قوله عز وجل: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) } .
قال البغوي: أي: إلى فلسطين، ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ستّمائة ألف وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى إلى مصر
وهارون بها فأخبره بذلك، وصاحت أمّهما وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك، فلو ذهبتما إليه قتلكما، فلم يمتنعا لقولها وذهب إلى باب فرعون.
قوله عز وجل: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ(3/291)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قال: ربّيناك فينا وليدًا فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسًا وكفرت نعمتنا؟ {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، قال مجاهد: من الجاهلين. وعن السدي: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} والحكم: النبوّة. وعن مجاهد:
{تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال: قهرتهم واستعملتهم. وعن السدي: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وربيتني قبلُ وليدًا!
قال ابن كثير: أي: وما أحسنت إليّ وربّيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدًا وخدمًا تصرفهم في أعمالك ومشاقّ رعيتك، أفَيَفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرته شيئًا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . يقول: أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله؟ {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} أنه خالقها. أي: إن كانت لكم قلوب موقنة تدلّكم على أن فرعون وغيره لا يخلقون ذلك، {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ، أي: ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلهًا غيري؟ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، {قَالَ(3/292)
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، أي: ليس له عقل؛ فزاد موسى في البيان: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} .
فلما رأى فرعون الحجّة لزمته وانقطعت حجّته، عدل إلى قوته وسلطانه {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ} ، أي: أتسجنني وإن أتيتك بحجّة بيّنة، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ، يقول: مبين له خلق حيّة.
وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} لمن ينظر إليها ويراها.
قوله عز وجل: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) } .
كان فرعون لعنه الله وقحًا جريئًا، فلما غلب وانقلب صاغرًا عدل إلى المكابرة والعناد فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} ، وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، ثم توعّدهم بقطع الأيدي والأرجل والصَلب. فقالوا: {لَا ضَيْرَ} ، أي: لا يضرّنا ذلك ولا نبالي به: {إِنَّا إِلَى(3/293)
رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} ، أي: المرجع إلى الله عزّ وجلّ، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: بسبب أنّا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان بالله وتصديق رسله، فقتلهم كلّهم.
{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ... قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .
قوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } .
قال ابن كثير: لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل.(3/294)
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ليجمعوا له الجند وقال: {إِنَّ هَؤُلَاء} ، يعني: بني إسرائيل، {لَشِرْذِمَةٌ} طائفة، ... {قَلِيلُونَ} ، قال أبو عبيدة: كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفًا، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} ، أي: كل وقت يصل إلينا منهم ما يغيظنا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} ، أي: مستعدّون، وإني أريد أن أهلكهم، فخرجوا في طلبهم، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ} ، أي: بساتين، {وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} ،
أي: لحقوهم في وقت إشراق الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ} ، أي: تقابلاً ورأى بعضهم بعضًا، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، أي: سيدركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم، {قَالَ} موسى ثقة بوعد الله إياه {كَلَّا} لن يدركونا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يدلّني على طريق النجاة. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه، ... {فَانفَلَقَ} ، أي: انشقّ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، أي: كالجبل الكبير. قال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقًا لكل سبط طريق.
وقوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ} ، أي: قرّبنا هنالك، {الْآخَرِينَ} ، قال قتادة: هم قوم فرعون قرّبهم الله حتى أغرقهم في البحر، {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، قال السدي: ودنا فرعون وأصحابه من البحر بعد ما قطع موسى ببني إسرائيل البحر، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقًا قال: ألا ترون البحر فرق مني؟ قد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فذلك قول الله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} ، يقول: قرّبنا ثَمّ الآخرين، هم آل فرعون، فلما قام فرعون على الطرق وأبت خيله أن تقتحم، فنزل جبرائيل عليه السلام على ماذيانة، فتشامّت الحصنُ ريح الماذيانة، فاقتحمت في أثرها، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم، وتفرّد جبريل بمقلة من مقل البحر فجعل يدسّها في فيه. وقال بكر بن عبد الله: أقبل فرعون، فلما أشرف
على الماء قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله إن القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فأخلطه، فأراد موسى أن يفعل فأوحى الله إليه: أن اترك البحر رهوًا إنهم جند(3/295)
مغرقون، إنما أمكر بهم فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم، قال: فلما انتهى فرعون إلى وسط البحر أوحى الله إلى البحر: خذ عبدي الظالم وعبادي الظلمة، فتغطمطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال وضرب بعضها بعضًا، فلما إذا أدركه الغرق {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، فقيل له: ... {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين {لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
* * *(3/296)
الدرس الرابع والتسعون بعد المائة
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } .
* * *(3/297)
قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) } .
قال البغوي: قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} ، أيّ شيء تعبدون، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، يعني: نقيم على عبادتها. قال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} ، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون. قال ابن عباس: يسمعون لكم أو ينفعوكم أو يضرون إن تركتم عبادتها، {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، معناه: أنها لا تسمع قولاً، ولا تجلب نفعًا، ولا تدفع ضرًا، لكن اقتدينا بآبائنا. وفيه إبطال التقليد في الدين. انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } .
قال ابن جرير: ومعنى الكلام: أفرأيتم كل معبود لكم ولآبائكم، فإني(3/298)
منه بريء لا أعبده، {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} للصواب من القول والعمل ويسددني للرشاد، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} ، يقول: والذي يغذوني بالطعام والشراب ويرزقني الأرزاق. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ، يقول: وإذا سقم جسمي واعتلّ فهو يبرئه ويعافيه، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} ، يقول: والذي يمتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي. {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ، فربّي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله هذه القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي ولا ينفع ولا يضر. انتهى.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} ، قال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن كثير: أي: اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» .
وعن عكرمة قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} . وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} ، قال: إن الله فضله بالخلّة حين اتخذه خليلاً، فسأل الله فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، حتى لا تكذّبني الأمم، فأعطاه الله ذلك، فإن اليهود آمنت بموسى، وكفرت بعيسى، وإن
النصارى آمنت بعيسى وكفرت بمحمد عليهم الصلاة والسلام، وكلّهم يتولّى إبراهيم. قالت اليهود: وهو خليل الله وهو منا، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوة وآمنوا به فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثم ألحق ولايته بكم فقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا خيره الذي عجّل له، وهي(3/299)
الحسنة إذ يقول: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} ، وهو: اللسان الصدق الذي سأل ربه.
وقوله: {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} ، قال البغوي: أي: ممن تعطه جنة النعيم. وقال ابن كثير: أي: أنعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم.
وقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
وقوله: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} ، أي: أَجِرْني من الخزي يوم القيامة، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، قال قتادة: سليم من الشرك. وقال مجاهد: ليس فيه شك في الحق؛ وفي الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونفسًا مطمئنّة) .
قوله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } .(3/300)
يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} ، أي: قرّبت وأدليت، {لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} ، أي: أظهرت، {لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا، ولا تدفع عن أنفسها، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتهم لها واردون.
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} قال الزجاج: طرح بعضهم على بعض {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: نعدلكم به فنعبدكم معه، {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} ، قال الكلبي: إلا أوّلونا الذين
اقتدينا بهم، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ، أي: قريب. قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحًا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحًا نفع. وعن جابر بن عبد الله قال: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرجل ليقولن في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . رواه البغوي. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} ، أي: رجعة إلى الدنيا، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لأنهم يشفعون وتنفعهم الشفاعة، وأما الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن كثير: أي: أن في محاجّة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، لآية واضحة جليلة على أنه لا إله إلا الله، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . قال البغوي: {الْعَزِيزُ} : الذي لا يُغْلَبُ، فالله عزيز وهو في وصف عزّته رحيم.(3/301)
* * *
الدرس الخامس والتسعون بعد المائة
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ(3/302)
لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ
الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ(3/303)
الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } .
* * *(3/304)
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) } .
قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد أرأيت قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} و {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} ، و {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} وإنما أرسل إليهم رسول واحد؟ ! قال: إن الآخِر جاء بما جاء به الأوَّل، فإذا كذّبوا واحدًا فقد كذّبوا الرسل أجمعين.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} ؟ قال البغوي: أخوهم في النسب لا في الدين.
وقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} ، يعنون: السفلة، {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال البغوي: أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم،(3/305)
وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كلّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ} ما حسابهم {إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} لو تعلمون ذلك ما عِبْتموهم بصنائعهم. قال الزجاج: الصناعات لا تضرّ في الديانات. وعن ابن جريج قوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} ، قال: هو أعلم بما في نفوسهم. وعن قتادة في قوله: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} ، قال: فاقض بيني وبينهم قضاء.
وقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، قال ابن عباس: يعني: الموقر. قال البغوي: الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان كلها. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ، أي: أغرقنا بعد إنجاء نوح وأهله من بقي من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) } .
عن ابن عباس قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ، قال: بكل طريق،(3/306)
وقال: الآية عامة. {تَعْبَثُونَ} ، قال: تلعبون. وعن قتادة في قوله: {مَصَانِعَ} ، قال: مآخذ للماء. وعن ابن عباس قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ، يقول: كأنكم تخلدون.
وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُم} ، قال البغوي: أخذتم وسطوتم، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} قتلاً بالسيف وضربًا بالسوط، والجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب.
وقوله تعالى: {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ، عن ابن عباس قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} . يقول: دين الأولين. وقال قتادة: هكذا خلقة الأولين، وهكذا كانوا يحيون ويموتون. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه
لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: (يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستحيون، ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون! إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا أن عادًا ما بين عدن وعمان خيلاً وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين) ؟ . رواه ابن أبي حاتم.
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي(3/307)
الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا
فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) } .
عن ابن عباس: قوله: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} ، يقول: أينع وبلغ فهو هضيم. وقال عكرمة: الهضيم: الرطب اللّين.
وقوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} ، قال أبو صالح: حاذقين بنحتها. وعن ابن عباس في قوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} ، يقول: أشرين.
وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} ، قال مجاهد: من المسحورين، {مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} واقترحوا لهم ناقة عَشَرَاءَ من هذه الصخرة، فقام نبيّ الله صالح عليه السلام فصلّى ثم دعا الله عز وجل، فانفطرت تلك الصخرة عن ناقة عشراء فآمن بعضهم وكفر أكثرهم {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يعني: تَرِدُ ماءكم يومًا، ويومًا تردونه أنتم. {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ، رجفت بهم أرضهم وأخذتهم الصيحة من فوقهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ(3/308)
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) } .
قال ابن كثير: لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش، وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهنّ الله لهم، ما كان جوابهم إلا أن: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} ، أي: ننفيك من بين أظهرنا، فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرّون على ضلالتهم تبرّأ منهم و {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} ، أي: المبغِضين لا أحبّه ولا أرضى به، وإني بريء منكم ثم دعا الله عليهم فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} ، قال الله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ، أي:
كلّهم، {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي امرأته وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها، كما أخبر الله عنهم في سورة هود وغيرها.
قوله عز وجل: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ(3/309)
يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } .
قال ابن عباس قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} ، قال: أهل مدين، والأيكة: الملتقى من الشجر. قال ابن زيد: الأيكة: الشجر؛ بعث الله شعيبًا إلى قومه من أهل مدين وإلى أهل البادية. وعن مجاهد قوله: ... {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} ، قال: الخليقة.
وقال البغوي: قوله: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من نقصان الكيل والوزن، وهو مجازيكم بأعمالكم وليس العذاب إليّ، وما عليّ إلا الدعوة، فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة، {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . قال ابن جريج: لما أنزل الله عليهم أول العذاب أخذهم منه حرّ شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلّوا بها، فأصابهم منها روح، وبرد، وريح طيّبة، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابًا، فذلك قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، أي: {الْعَزِيزُ} في انتقامه من الظالمين، {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين.
* * *(3/310)
الدرس السادس والتسعون بعد المائة
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } .
* * *(3/311)
قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) } .
عن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: هذا القرآن، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، قال: جبريل.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ، أي: ذكر إنزال القرآن على محمد موجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم. {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال مجاهد: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.
قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) } .
قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به، ولهذا قال: {نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} ، قال ابن عباس: أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.(3/312)
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} . قال البغوي: أي: لنؤمن ونصدّق. يتمنّون الرجعة والنظرة. قال مقاتل: لما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا: إلى ... متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟ .
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . قال البغوي: والمعنى: أنهم وإن طال تمتّعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتّع شيئًا، ويكونون كأنهم لم يكونوا في نعيم قطّ. قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل رأيت نعيمًا قطّ؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب» ، أي: ما كأنّ شيئًا كان.
ثم قال تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى} . قال البغوي: أي: رسل ينذرونهم تذكرة. قيل: محلّها رفع. أي: تلك ذكرى وما كنا ظالمين في تعذيبهم، حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم.
قوله عز وجل: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ(3/313)
مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) } .
عن قتادة في قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} ، قال: هذا القرآن.
وفي قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ، قال: عن سمع السماء.
وقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} , قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحذّر به غيره يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذّبتك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فعمّ
وخصّ فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا، إلا أن لكم رحِمًا سأبُلُّها ببلالها» . رواه مسلم وغيره.
وقال ابن زيد في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقول: لِنْ لهم.
وقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: من الشرك والمعاصي. وروى ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدّث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدّثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أزهد(3/314)
الناس في الدنيا الأنبياء، وأشدّهم عليهم الأقربون» ، وذلك فيما أنزل الله عزّ وجلّ قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} إلى قوله: {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، أي: المصلّين. قال عكرمة: قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وجالسًا. وقال قتادة: يراك وحدك ويراك في الجمع. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: السميع لأقوال عباده، العليم
بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ هذا جواب قول المشركين: إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد، فقال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، ثم أخبر أنهم إنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي: كذاب فاجر. قال قتادة: هم: الكهنة، تسترق الجنُّ السمع ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإِنس.
وقوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ، قالت عائشة: الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق فيقذفها في أذن وليّه، ويزيد فيها أكثر من مائة كذبة.(3/315)
قوله عز وجل: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ} ، أهل الغيّ لا أهل الرشاد والهدى. وقال مجاهد: يتبعهم الشياطين. وعن ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ، يقول: في كل لغو يخوضون. وقال قتادة: يمدحون قومًا بباطل، ويشتمون قومًا بباطل.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} ، قال البغوي: أي: يكذبون في شعرهم، يقولون: فعلنا وفعلنا وهم كَذَبة. وعن ابن عباس: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم، ... {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ، قال: يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. وروى البغوي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» . وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهمام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول الشعر؟ ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح(3/316)
النبل» . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» . قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، يعني: من الشعراء وغيرهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيّته سطرين: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظنّي به ورجائي فيه، وإن يجرؤ يبدّل فلا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ ... يَنقَلِبُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم.
* * *(3/317)
الدرس السابع والتسعون بعد المائة
[سورة النمل]
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) } .(3/318)
قوله عز وجل: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) } .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} ، أي: هذه آيات ... {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: بيّن واضح، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، أي: إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدّقه وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة وآتى الزكاة المفروضة، وأيقن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرّها، والجنة والنار، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} .
وقال تعالى: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} ، ولهذا قال تعالى ها هنا: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ، أي: يكذّبون بها ويستبعدون وقوعها {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: حسّنّا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في غيّهم، فهم يتيهون في ضلالهم، وكان هذا جزاء على ما كذّبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ(3/319)
يَعْمَهُونَ} ،
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} ، أي: في الدنيا والآخرة، {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ، أي: ليس يخسر أنفسهم وأهليهم سواهم من أهل الحشر.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} ، أي: تؤتى القرآن، {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} ، أي: وحيًا من عند الله الحكيم في أمره ونهيه العليم بالأمور كلها فخبره هو الصدق وحكمه هو العدل كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مذكّرًا له ما كان من أمر موسى عليه السلام، كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلّة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملأه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن إتباعه والانقياد له، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} ، أي: اذكر حين سار(3/320)
موسى بأهله فأضلّ الطريق، وذلك في ليل وظلام. فآنسوا من جانب الطور نارًا، أي: رأى نارًا تأجّج وتضطرم فقال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ، أي: عن الطريق، {أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، أي: تستدفئون به، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: فلما أتاها ورأى منظرًا هائلاً عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متّصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهّج. - وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين - فوقف موسى متعجبًا مما رأى. فنودي أن بورك من في النار. قال ابن عباس: تقدّس، {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: من الملائكة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود وهو الطيالسي، حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدّث عن أبي موسى
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل - زاد المسعودي - وحجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه كل شيء أدركه بصره» ، ثم قرأ أبو عبيدة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة.
وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم(3/321)
المباين لجميع المخلوقات ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزّه عن مماثلة المحدَثات.
وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه {الْعَزِيزُ} الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه ... {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحًا على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حيّة عظيمة هائلة، في غاية الكِبْر وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجانّ: ضرب من الحيّات أسرعه حركة وأكثره اضطرابًا، فلما عاين موسى ذلك: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أي: لم يلتفت من شدّة فَرَقِه، {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، أي: لا تخف مما
ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبيًا وجيهًا. وقوله تعالى: ... {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أنه من كان على عمل سيِّء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار، وصدق من جعل له معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} ، أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيّدك بهنّ وأجعلهنّ برهانًا لك، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .(3/322)
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} ، أي: بيّنة واضحة ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين، {وَجَحَدُوا بِهَا} ، أي: في ظاهر أمرهم، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} ، أي: علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها، {ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، أي: ظلمًا من أنفسهم سجية
ملعونة. {وَعُلُوّاً} ، أي: استكبارًا عن إتباع الحق، ولهذا قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم، في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة؛ وفحوى الكلام يقول: احذروا أيها المكذّبون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الجاحدون بما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم.
* * *(3/323)
الدرس الثامن والتسعون بعد المائة
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا
يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ(3/324)
مِنسُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } .
* * *(3/325)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ، يعني: علم القضاء ومنطق الطير والدواب، وتسخير الشياطين، وتسبيح الجبال، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} ، بالنبوة، والكتاب، وتسخير الشياطين، والجنّ والإنس، {عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابنًا، وأعطى سليمان ما أعطى داود: الملك، وزيد له: تسخير الريح، وتسخير الشياطين. وقال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكًا من داود وأقضى منه، وكان داود أشدّ تعبّدًا من سليمان، وكان سليمان شاكرًا لنعم الله تعالى.
{وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} ، سمّى صوت الطير منطق لحصول الفهم منه كما يُفهم من كلام الناس. روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: لِدُوا للموت، وابنوا للخراب. وصاح طاووس فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: كما تَدين تُدان. وصاح صرد
فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين. وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول: قالوا: لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. قال: والغراب يدعو على العشا. والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل لسان.(3/326)
وقوله: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، قال البغوي: من كل شيء يؤتاه الأنبياء والملوك، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} ، وقال ابن كثير: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: مما يحتاج إليه الملك، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} ، أي: الظاهر البيّن لله علينا.
قوله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } .
عن قتادة في قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: يردّ أولهم على آخرهم.
قوله عز وجل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) } .(3/327)
قال ابن زيد: نزل سليمان بواد فسأل الإِنس عن مائِهِ فقالوا: ما نعلم له ماء، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ، فدعا الجنّ فسألهم فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير، فدعا الطير فسألهم فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد، فلم يجده، قال: فذاك أوّل ما فقد الهدهد.
وعن مجاهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ، قال: نتف ريشه كله، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، قال وهب بن منبه: أي: بحجّة. عذر له في غيبته، {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} ثم جاء الهدهد، فقال له سليمان: ما خلّفك؟ فقال أحطت بما لم تحط به. قال البغوي: يقول: علمت ما لم
تعلم، وجئتك من سبأ بنبأ يقين. قال ابن كثير: أي: بخبر صدق حق يقين وسبأ هم حِمْيَر. وهم: ملوك اليمن.
{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} ، قال الحسن: هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ، {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، يعني: من كل أمر الدنيا {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ، قال ابن عباس: سرير كريم. قال: حسن الصنعة. قال ابن كثير: سرير تجلس عليه عظيم هائل، مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ.
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} ، أي: طريق الحق فهم لا يهتدون، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، قال ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.
قال ابن جرير: قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إله إلا هو لا معبود سواه تصلح له العبادة، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، ولا تشركوا به شيئًا، {رَبُّ الْعَرْشِ(3/328)
الْعَظِيمِ} ، يعني: بذلك مالك العرش العظيم، الذي كل عرش وإن عَظُمَ فدونه لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.
وقال ابن زيد في قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} هذا كله كلام الهدهد.
قوله عز وجل: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) } .
قال البغوي: فلما فرغ الهدهد من كلامه قال سليمان للهدهد: ... {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما أخبرت، {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فدلّهم الهدهد على الماء، فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم كتب سليمان الكتاب وختمه بخاتمه، فقال للهدهد: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} تنحّ عنهم فكن قريبًا منهم، {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يردّون من الجواب، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به بلقيس، وكانت بأرض يقال لها: مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت
الأبواب، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح(3/329)
فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها. هذا قول قتادة. وقال ابن منبه، وابن زيد: كانت لها كوّة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها، فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم مُلْكًا، فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد، فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها فجاءوا وأخذوا مجالسهم، {قَالَتْ} لهم بلقيس: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ} وهم أشراف الناس وكبراؤهم، {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} قيل: سمّته كريمًا لأنه كان مصدّرًا ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم بيّنت الكتاب فقالت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} وبيّنت المكتوب فقالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، قال ابن عباس: أي: لا تتكبّروا عليّ وائتوني مسلمين، مؤمنين طائعين. انتهى ملخصًا.
وقوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} ، أي: أشيروا عليّ فيما عرض لي {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي: تحضرون {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} في القتال، {فَانظُرِي} من
الرأي {مَاذَا تَأْمُرِينَ} فنمتثل أمرك ونطيعه. قال الحسن: فوضعوا أمرهم إلى عجلة تضطرب ثدياها، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} ، أي: دخلوها عنوة {أَفْسَدُوهَا} خرّبوها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} تحذّرهم سير سليمان ودخوله بلادهم.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة فقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس، {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من النبوة والدين والحكمة والملك، {خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} .(3/330)
ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بالهدية، ... {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا} ، أي: من بلادهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب بن منبه: فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به طاقة، فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكّلت به حراسًا يحفظونه، ثم قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قِبَلَكَ، وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد ولا يقربه حتى آتيك.
قوله عز وجل: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } .
قال قتادة: لما بلغ سليمان أنها جائية، وكان قد ذُكر له عرشها فأعجبه وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم فقال: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، قال البغوي: وهو المارد القوي: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} ، قال ابن عباس: يعني: قبل أن تقوم من مجلسك {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي: قويّ على حمله أمين على ما فيه من الجوهر، فقال سليمان عليه السلام: أريد أعجل من ذلك، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} ، وهو آصف كاتب سليمان - قال قتادة -: كان مؤمنًا من الإِنس: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، قال مجاهد: يعني: إدامة النظر حتى يرتدّ الطرف خاسئًا، قال سليمان: هات فسجد وقال: يا ذا الجلال والإكرام، يا إلهنا وإله كل(3/331)
شيء إلهًا واحدًا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها. قال الكلبي: فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسيّ سليمان.
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} نعمه {أَمْ أَكْفُرُ} فلا أشكرها، {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ، أي: يعود نفع شكره إليه، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره، {كَرِيمٌ} . قال ابن كثير: أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى حدّ. وهذا كما قال موسى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
وقال ابن جرير: وقوله: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} ، يقول جل ثناؤه: قال الذي عنده علم من الكتاب. وقال ابن عباس: هو: آصف كاتب سليمان. قال أكثر المفسرين: وكان صدّيقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
قوله عز وجل: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ ... مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ... هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ ... مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } .
عن ابن عباس: فلما أتته {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} ، قال: وتنكير العرش أنه زيد فيه ونقص لينظر في عقلها، فوُجدت ثابتة العقل. وعن قتادة: {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} ، قال: شبّهته وكانت قد تركته خلفها. قال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفًا من التكذيب، {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} .(3/332)
قال البغوي: فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقرّ ولم تنكر.
قال ابن كثير: وقوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} ، قال مجاهد: يقوله سليمان. {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال، البغوي: أي صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله.
{إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، قال وهب بن منبه: أمر سليمان بالصرح، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضًا، ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجنّ والإِنس، ثم قال: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} ليريها ملكًا هو أعز من ملكها وسلطانًا هو أعظم من سلطانها، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} لا تشكّ أنه ماء تخوضه، قيل لها: ادخلي {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعابها في عبادتها الشمس من دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجدًا إعظامًا لما قالت وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع سليمان رأسه قال: ويحك ماذا قلت؟ قال: وأُنسِيَتْ ما قالت،
فـ {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ... الْعَالَمِينَ} وأسلمت فحسن إسلامها. وعن عكرمة قال: لما تزوج سليمان بلقيس قالت: لم تمسّني حديدة قطّ، قال سليمان للشياطين: انظروا ما يذهب الشعر، قالوا: النورة، فكان أول من صنع النورة. والله أعلم.
* * *(3/333)
الدرس التاسع والتسعون بعد المائة
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا(3/334)
كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً
وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66) } .
* * *(3/335)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) } .
عن مجاهد في قول الله: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قول مؤمن، وكافر، قولهم صالح مرسل؟ ليس بمرسل: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل العافية.
قال ابن كثير: أي: لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته؟ ولهذا قال: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} ، أي: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتّبعك خيرًا. قال مجاهد: تشاءموا بهم، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} ، قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشر.
قوله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) } .(3/336)
عن ابن عباس قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيّت صالحًا وأهله فنقتلهم ثم نقول لأولياء صالح. ما شهدنا من هذا شيئًا وما لنا به علم، فدمّرهم الله أجمعين.
وعن ابن إسحاق: قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمّ فلنقتل صالحًا فإن كان صادقًا، يعني: فيما وعدهم من العذاب بعد الثلاث عجّلناه قبله، وإن كان كاذبًا نكون قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيّتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدوخين قد رُضخوا بالحجارة.
وقال ابن زيد في وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً} ، قال: احتالوا لأمرهم واحتال الله لهم، مكروا بصالح مكرًا، ومكرنا بهم مكرًا، وهم لا يشعرون بمكرنا، وشعرنا بمكرهم.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا على إهلاكه، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين. {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} ، أي: بظلمهم وكفرهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لعبرة، {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
قوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) } .
عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، قال: من الرجال والنساء(3/337)
في أدبارهنّ. وقال مجاهد: من أدبار الرجال، وأدبار النساء، استهزاء بهم. قال قتادة: عابوهم بغير عيب. أي: والله إنهم يتطهّرون من أعمال السوء.
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} .
قال البغوي: قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا {مِنَ الْغَابِرِينَ} ، أي: الباقين في العذاب، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} وهو: الحجارة، {فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} .
قال ابن كثير: أي: الذين قامت عليهم الحجّة ووصل إليهم الإِنذار فخالفوا الرسول وكذّبوه وهمّوا بإخراجه من بينهم.
قوله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ
مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66) } .(3/338)
قال مقاتل في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هم: الأنبياء، والمرسلون.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟ استفهام، إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى؛ ثم شرع تعالى يبيّن أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . انتهى. وذكر لنا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - مرّ بقوم في بلاد العينية عند قبر زيد بن الخطاب وهم يقولون: يا زيد يا زيد، فقال لهم: الله خير من زيد، ثم مرّ بهم مرة أخرى وهم يدعون
زيدًا فقال: الله خير من زيد، ثم مرّ بهم الثالثة وهم يدعونهم فقال: الله خير من زيد، فقالوا: صدق الشيخ، وتركوا دعاءه.
وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؟
قال البغوي: معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السماوات والأرض؟
وقال ابن كثير: {أَمَّنْ} في هذه الآيات كلها تقديره: أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} ، أي: بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} ، أي: منظر حسن، {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} ، قال ابن كثير: أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقلّ بذلك، المنفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} يعبد وقد تبيّن لهم ولكل ذي لبّ أنه الخالق الرازق؟ .(3/339)
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي: يجعلون لله عدلاً ونظيرًا، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} .
وقال البغوي: قوله: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} لا تميد بأهلها، ... {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} وسطها، {أَنْهَاراً} تَطَّرِدُ بالمياه، {وَجَعَلَ لَهَا
رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والمالح، ... {حَاجِزاً} مانعًا لئلا يختلط أحدهما بالآخر، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم وسلطانه.
وقال ابن كثير: يقول: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} ، أي: قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرّك بأهلها وترجف بهم، وأنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلهما من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرّك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء} .
وقوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} ، أي: المكروب المجهود، ... {إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} سكّانها يهلك قرنًا وينشئ آخر {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ، أي: ما أقلّ تذكّركم فيما يرشدكم إلى الحق، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
وعن ابن جريج قوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والظلمات في البر: ضلالة الطريق. والبحر: ضلالة طريقه وموجه. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير أم الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر إذا ضللتم فيهما الطريق فأظلمت عليكم السبل فيهما؟(3/340)
وقال ابن كثير: يقول تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: بما خلق من الدلائل السماوية والأرضيّة، كما قال تعالى: ... {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .
وقوله تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي: بعد الموت، ... {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ} بالمطر والأرض بالنبات، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجّتكم على قولكم أن مع الله إلهًا آخر، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في ذلك، وقد علم أنه لا حجّة لهم ولا برهان، كما قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
وقوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .
قال البغوي: نزلت في المشركين حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ} ، متى {يُبْعَثُونَ} .
وقال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول معلّمًا لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، أي: وما يشعر الخلائق
الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنه يعلم - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، لأن(3/341)
الله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، أي: غاب، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} . قال ابن زيد يقول: ضلّ عملهم في الآخرة، وليس لهم فيها علم {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} .
قال ابن كثير: أي: في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
* * *(3/342)
الدرس المائتان
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ (85) أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنفَخُ(3/343)
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) } .
* * *(3/344)
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) } .
يقول تعالى مخبرًا عن منكري البعث من المشركين: أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد ذهابها فقالوا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} ، أي: ما زلنا نسمع هذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة وقوعًا.
{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها، قال الله تعالى مجيبًا لهم: {قُلْ} لهم يا محمد لهؤلاء: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ، أي: المكذّبين للرسل وبما جاءوهم به كيف حلّت بهم نقمة الله، ثم قال تعالى مسلّيًا لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ، أي: في كيدك وردّ ما جئت به، فإن الله مؤيدك ومظهر دينك.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . قال ابن عباس: يقول: اقترب لكم.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} بإنعامه عليهم وتأخير العذاب عنهم مع ظلمهم لأنفسهم {وَلَكِنَّ(3/345)
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، فإنه يعلم السرائر كما يعلم الظواهر.
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81) } .
يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، وهم أهل الكتاب التوراة والإِنجيل ليبيّن لهم: {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين. قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه. {وَإِنَّهُ} ، يعني:
القرآن {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} الحق، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يردّ أمره، {الْعَلِيمُ} بأحوالهم، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في جميع أمورك وبلّغ رسالة ربك، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وإن خالفك من خالفك.
{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، قال، قتادة: الأصمّ: إذا ولّى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإِيمان.(3/346)
قال البغوي: ومعنى الآية: أنهم لفرط إعراضهم عما يُدْعَوْن إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، والأصمّ الذي لا يسمع، {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} ، أي: ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الإِيمان {إِن تُسْمِعُ} ما تسمع، {إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون فيه مصدّقون بكتبه ورسله.
قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) } .
قال ابن عباس: تخاطبهم. قال ابن عمر: وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر. وعن قتادة: قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} ، يقول: إذا وجب القول عليهم، والقول: الغضب. {أَخْرَجْنَا} دابة ذات زغب وريش، ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة. وعن
حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب؛ ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» . رواه أحمد وغيره.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم(3/347)
أكلته إلى فيه فلا يطعمها» . رواه البخاري. قال الطيبي: الآيات أمارات الساعة، إما على قربها، وإما على حصولها. فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف. ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس.
وعن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله يقول: «إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيّتهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا» . رواه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: (فالذي يترجّح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أوّل الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أوّل الآيات العظام المؤذِنة بتغيير الأحوال العلوية، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعلّ خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب. قال: والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميّز المؤمن من الكافر، تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأوّل الآيات المؤذِنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس) . انتهى.
وقال عبد الله بن عمرو: (لا تلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها، فيناديهم مناد: يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم، ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة، وجفّت الأقلام وطوت الصحف) . رواه نعيم، وحماد.(3/348)
وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: «يخرج الدجال من أمتي - الحديث وفيه -: فبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبَلِ الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خير أو إيمان إلا قبضته - وفيه -:
فيبقى شرار الناس في خِفّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا. فيتمثّل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم يُنفخ في الصور» . وروى أحمد وغيره من حديث أنس: «إن أمام الدجال سنون خداعات يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلّم فيها الرويبضة» . وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلّم في أمره العامّة» .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا قعودًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس. قال قائل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: «هي هَرَبٌ وحَرْبٌ؛ ثم فتنة السرّاء دَخَنُها من تحت قَدَمَيْ رجل من أهل بيتي يزعم أنه منّي وليس منّي، إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كَوَرِكٍ على ضِلَعٍ ثم فتنة الدُّهَيْمَاء لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة. فإذا قيل: انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا. حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده» . رواه أبو داود. ولأحمد من حديث(3/349)
عبد الله بن عمرو: «لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى عجاج لا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا» . وله من حديث أنس: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله» .
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) } .
عن مجاهد قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} ، قال: زمرة، زمرة، {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: يحبس أوّلهم على آخرهم. وقال ابن عباس: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُدفعون. قال البغوي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يساقون إلى النار، {حَتَّى إِذَا جَاؤُوا} يوم القيامة، {قَالَ} الله لهم: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} ولم تعرفوها حق معرفتها، {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؟
قال ابن كثير: أي: فيسئلون عن اعتقادهم وأعمالهم {وَوَقَعَ الْقَوْلُ} وجب العذاب، {عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} ، قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجّة(3/350)
لهم؟ {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدّقون فيعتبرون.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) } .
عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله ما الصور؟ قال: «قرن» . قال: وكيف هو؟ قال: «قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لله رب العالمين؛ يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيمد بها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسيّر الله الجبال فتكون سرابًا، وترجّ الأرض بأهلها رجًّا وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموثقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلّق بالوتر تؤرجحه الأرياح فتميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ(3/351)
عَاصِمٍ} ، فبينا هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرًا عظيمًا فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خُسف شمسها وقمرها، وانتثرت
نجومها ثم كُشطت عنهم» ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» فقال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} ، قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه» . رواه ابن جرير.
وعن ابن عباس: قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} يقول: صاغرين ... {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} يقول: قائمة.
قال ابن جرير: وإنما قيل: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} لأنها تجمع ثم تسير فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة، وهي تسير سيرًا حثيثًا، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، قال ابن عباس يقول: أحكم كل شيء، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} فيجازيكم عليه.
وعن ابن عباس في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله(3/352)
{فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، قال: فمنها يصل الخير إليه {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} وهو الشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . وقال ابن زيد في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، قال: أعطاه الله بالواحدة عشرًا فصاعدًا. قال البغوي: وهذا حسن.
قوله عز وجل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ... (93) } .
عن مجاهد قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، قال: في أنفسكم، وفي السماء والأرض والرزق. وقال ابن كثير: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، أي: لله الحمد الذي لا يعذّب أحدًا إلا بعد قيام الحجّة عليه والإِنذار إليه، ولهذا قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: بل هو شهيد على كل شيء. وقد ذكر عن الإِمام أحمد رحمه الله أنه كان ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا ... تقل خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
* * *(3/353)
الدرس الأول بعد المائتين
[سورة القصص]
مكية، وهي ثمان وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا(3/354)
يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } .
* * *(3/355)
قوله عز وجل: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) } .
عن مجاهد: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ، أي: فِرَقًا: يذبّح طائفة منهم، ويستحيي طائفة، ويعذّب طائفة، ويستعبد طائفة. قال الله عز وجل: ... {يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، قال السدي: كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه: أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأحرقت بيوت مصر، فدعا السحرة، والكهنة، والعافة، والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذه البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت القدس - رجل يكون على وجهه هلاك مصر، فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت، وقال للقبط: انظروا مملوككم الذين يعلمون خارجًا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يَلُونَ تلك الأعمال القذرة، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي
الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ، يعني: بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة.
وعن قتادة: قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} قال: بنو إسرائيل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: ولاة الأمور {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} أي: يرثون الأرض بعد فرعون وقومه، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} شيئًا ما حذر القوم. قال: وذكر لنا أن حازيًا حزأ(3/356)
لعدو الله فرعون، فقال: يولد في هذا العام غلام من بني إسرائيل يسلبك ملكك فتتّبع أبناءهم ذلك العام بقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم حذرًا مما قال له الحازي.
قوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) } .
عن قتادة: قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ، قال: قذف في نفسها. قال السدي: أمر فرعون أن يذبح مَنْ وُلِدَ ببني إسرائيل سنة ويُتركوا سنة، فلما كان في السنة التي يُذبحون فيها حملت بموسى، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} وهو النيل، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} ، قال ابن زيد: لا تخافي عليه البحر، ولا تحزني بفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، قال ابن إسحاق: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وباعثوه رسولاً إلى هذا الطاغية، وجاعل هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه على يديه.
قال ابن كثير: كانت دار أم موسى على حافة النيل، فاتّخذت تابوتًا ومهّدت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت وسيّرته في البحر وربطته بحبل عندها، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت(3/357)
أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله، حتى مرّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ولا يدرين ما فيه، فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} .
قال قتادة: {عَدُوّاً} لهم في دينهم، {وَحَزَناً} لما يأتيهم، {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} .
قال البغوي: عاصين آثمين.
قال ابن جرير: فلذلك كان لهم موسى عدوًّا وَحَزَنًا. وعن محمد بن قيس قال: قالت امرأت فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ، قال فرعون: قرّة عين لكِ أمّا لي فلا. قال محمد بن قيس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قال فرعون: قرّة عين لي ولك، لكان لهما جميعًا» . وعن قتادة: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، قال: وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديه وفي زمانه.
وعن ابن عباس في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} ، قال: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أن تقول: يا ابناه، {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} .
قال البغوي: بالعصمة، والصبر، والتثبيت. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدّقين لوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} .
وعن ابن عباس: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ، أي: قُصّي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا، أحيّ ابني، أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها.(3/358)
وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، وقال مجاهد: عن بُعْدٍ. قال قتادة: وهم لا يشعرون أنها أخته، قال: جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده.
قوله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } .
عن مجاهد في قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} ، قال: لا يقبل ثدي امرأة حتى يرجع إلى أمه. وقال السدي: أرادوا المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فذلك قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ} أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ فلما جاءت أمه أخذ منها. قال ابن جريج: فعلقوها حين قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ، قالوا: قد عرفته، قالت: إنما أردت هم للملك ناصحون.
قال البغوي: وقيل: لما قالت: هل أدلكم على أهل بيت؟ قالوا لها: مَنْ؟ قالت: أمي، قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يُقتل فيها الولدان، قالوا: صدقت.
وقال ابن كثير: فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه قالت: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ قال ابن عباس: فلما قالت ذلك أخذوها، وشكّوا في أمرها. وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته، فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوها به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهب البشير إلى امرأة الملك(3/359)
فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت: إن لي بعلاً وأولادًا ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليه النفقة، والصلات، والكساوي، والإِحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضيّة، قد أبدلها الله بعد خوفها أمنًا في عزّ وجاه، ورزق دار؛ ولهذا جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ؛ ولم يكن بين الشدّة والفرج إلا القليل، يوم وليلة أو نحوه والله أعلم؛ فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن ألقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق مخرجًا؛ ولهذا قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} ، أي: به، {وَلَا تَحْزَنَ} ، أي: عليه، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ، أي:
فيما وعدها من ردّه إليها وجعله من المرسلين، فحينئذٍ تحقّقت بردّه إليها أنه كائن من رسول المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، أي: حكم الله في أفعاله، وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريهًا إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} ، وقال تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . انتهى. والله أعلم.
* * *(3/360)
الدرس الثاني بعد المائتين
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
(24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ(3/361)
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } .
* * *(3/362)
قوله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) } .
قال ابن إسحاق: لما بلغ موسى أشده واستوى آتاه الله حكمًا وعلمًا، فكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه، فلما استند رأيه وعرف ما هو عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقًا في دينه، فتكلّم وعادى، وأنكر حتى ذُكر ذلك منه، وحتى أخافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفًا مستخفيًا، فدخلها يومًا {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} مسلم، وهذا من أهل دين فرعون كافر، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في البطش، فغضب بعدوّهما فنازعه، {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزه قتله منها وهو لا يريد قتله، فقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} . وعن مجاهد: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} ، قال: بجميع كفّه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال قتادة: عرف المخرج فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ،(3/363)
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} .
قال ابن كثير: أي: بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} ، أي: معينًا، {لِّلْمُجْرِمِينَ} ، أي: الكافرين بك المخالفين لأمرك.
وعن ابن عباس قال: أتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك، قال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئًا، إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، فقال للإسرائيلي لِمَا فعل بالأمس واليوم: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فنظر الإسرائيليّ إلى موسى بعد ما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف الإسرائيليّ أن يكون إياه أراد
فحاجّه فقال: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} .
وعن قتادة: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} هكذا تقتل النفس بغير نفس. وعن ابن إسحاق {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي: ما هكذا يكون الإصلاح.
قوله عز وجل: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) } .
قال ابن عباس: انطلق الفرعونيّ الذي كان يقاتل الإسرائيلي بالأمس إلى(3/364)
قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ حين يقول: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} ؟ فأرسل فرعون الذّباحين بقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر.
وعن قتادة: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} من قتله النفس، {يَتَرَقَّبُ} أن يأخذه الطلب. وقال ابن إسحاق: ذكر لي أنه خرج على وجهه، {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} ما يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: ربِّ نجني من القوم الظالمين، فهيّأ الله الطريق إلى مدين، فخرج من مصر بلا زاد ولا حذاء ولا
ظهر ولا درهم. وقال ابن عباس: خرج موسى متوجّهًا نحو مدين، وليس له علم بالطريق، إلا حسن ظنه بربه، فإنه قال: {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} .
قوله عز وجل: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) } .
قال سعيد بن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينها وبينها مسيرة ثمان، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه.
وقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} ، قال أبو مالك: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا ويخلوا لهم البئر.(3/365)
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ؟ قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلت فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما؟ فقال لهم: ما خطبكما؟ أي: ما شأنكما؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء
} امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ولا يسقي ماشيته، ونحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا.
وقوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} ، قال ابن عباس: فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرًا، حتى كانتا أول الرعاء ريًّا، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما. قال: وانصرف موسى إلى شجرة فاستظلّ بظلها، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، وما يسأل الله إلا أكلة، وبرد الماء، وإن خضرة البقل لتُرى في بطنه من الهزال.
وعن ابن إسحاق: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء} قال: واضعة يدها على جبينها. قال السدي: لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعًا سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إليه إحداهما فأتته تمشي على استحياء وهو يُستحى منه، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها فمشت بين يديه فضربتها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: إمشي خلفي ودلّيني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ ... {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، قال ابن عباس يقول: ليس لفرعون ولا قومه علينا سلطان ولسنا في مملكته.
قوله عز وجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } .
عن ابن عباس: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ(3/366)
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، قال: فأحفظته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوّته وأمانته؟ قالت: أما قوَّته: فما رأيت من حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته: فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم إني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إليّ حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فَسُرِّيَ عن أبيها وصدّقها وظنّ به الذي قالت.
وقال ابن زيد: {قَالَ} له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، قال: وأيّتهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك، قال: لا ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها، فقال: هي عندك كذلك فزوّجه.
وقال ابن إسحاق: {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، قال: نعم. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ،
فزوّجه وأقام معه يكفيه ويعمل له في رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه. وقوله: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، أي: لا ظلم عليّ بأن أطالبَ بأكثر منهما. قال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، قال ابن عباس: شهيد. وروى ابن ماجة في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين على عفّة فرجه، وطعام بطنه» . والله أعلم.
* * *(3/367)
الدرس الثالث بعد المائتين
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي(3/368)
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) } .
* * *(3/369)
قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ... الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) } .
عن قتادة: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} ، قال: حدث ابن عباس قال: رعى نبيّ الله أكثرها وأطيبها.
وقوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} .
قال ابن كثير: قالوا: لأن موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه، فتحمَّل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، فسلك بهم في ليلة مطيرة باردة، فنزل منزلاً فجعل كل ما أورى زنده لا يضيء شيئًا، فتعجّب من ذلك، فبينما هو كذلك {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي: رأى نارًا تضيء على بعد، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي: حتى أذهب إليها {لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ}
وذلك لأنه قد أضل الطريق، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} ، أي: قطعة منها، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، أي: تستدفئون بها من البرد. قال(3/370)
الله تعالى: ... {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} ، أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} ، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي، فوقف باهتًا في أمرها فناداه ربه، ... {مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: الذي يخاطبك ويكلّمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء، لا إله غيره ولا رب سواه، تعالى وتقدّس وتنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه.
وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، أي: التي في يدك، كما قرّره على ذلك في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} ، والمعنى: أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وقال: ها هنا. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} ، أي: تضطرب، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ، أي: في حركتها السريعة مع عظم خلقتها، {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أي: ولم يكن يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك، فلما قال الله له: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رجع فوقف في مقامه الأول.
ثم قال الله تعالى {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تلألأ كأنها
قطعة قمر في لمعان البرق، ولهذا قال: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، أي: من غير برص. انتهى ملخصًا.
وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، قال ابن زيد: مما دخله من الفَرَقِ من الحيّة والخوف، {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} ، قال السدي: العصا، واليد.
قال ابن جرير يقول: آياتان وحجّتان، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ، يقول: إلى(3/371)
فرعون وأشراف قومه، حجّة عليهم ودلالة على حقيقة نبوّتك يا موسى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) } .
عن ابن إسحاق: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ، أي: يبيّن لهم عنيّ ما أكلّمهم به. وعن مجاهد: ... {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ، قال: عونًا. وقال ابن زيد: لأن الاثنين
أحرى أن يُصَدَّقا من واحد، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، قال مجاهد: حجّة، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} .
قال البغوي: أي: لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء، لمكان آياتنا.
{أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ * فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} واضحات، {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى} .
قال ابن كثير: أي: مفتعل مصنوع، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تدعونا إليه، {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} وسيفصل بيني وبينكم ولهذا قال: {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العقبى المحمودة في الدنيا والآخرة، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .(3/372)
قوله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) } .
قال ابن كثير: أمر فرعون وزيره هامان أن يوقد له على الطين، يعني يتّخذ له آجُرًّا لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع العالي، كما قال في
الآية الأخرى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} ، وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُر في الدنيا بناء أعلى منه، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيتّه تكذيب موسى فيما يزعمه من دعوى إله غير فرعون، ولهذا قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، أي: في قوله: أن ثَمّ ربًّا غيري.
وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} ، أي: طغوا وتجبّروا وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا مَعَاد، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ، ولهذا قال تعالى: ها هنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، أي: أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد.(3/373)
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} ، أي: فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذلّ الآخرة كما قال تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} .
وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ، أي: وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، قال البغوي: {مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} الملعونين. وقال
ابن عباس من المشوّهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقال قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة، قال: هو كقوله: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
* * *(3/374)
الدرس الرابع بعد المائتين
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) } .(3/375)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} ، يعني: قوم نوح، وعادًا، وثمود وغيرهم، كانوا قبل موسى، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ، يعني: ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به {وَهُدًى} من الضلال لمن عمل به، {وَرَحْمَةً} لمن آمن به، {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بما فيه من المواعظ والبصائر.
{وَمَا كُنتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يعني: بجانب الجبل الغربي. قال قتادة، والسدي: قال ابن عباس: يريد حيث ناجى موسى ربه، {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} يعني: عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين ذلك
المقام فتذكره من ذات نفسك، {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} خلقنا أممًا من بعد موسى عليه السلام {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ، أي: طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وميثاقه وتركوا أمره، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودًا في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها.(3/376)
{وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} مقيمًا في أهل مدين كمقام موسى وشعيب فيهم، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تذّكرهم بالوعد والوعيد. قال مقاتل يقول: لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مدين، فتقرأ على أهل مكة خبرهم ... {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتابًا فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم، ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} بناحية الجبل الذي كلّم الله عليه موسى، {إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال ابن كثير: أي: ما كنت مشاهدًا لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد بإرسالك إليهم {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
قوله عز وجل: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) } .
قال البغوي: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} عقوبة ونقمة، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعصية {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا} هلاّ {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وجواب (لولا) محذوف: أي: لعاجلناهم بالعقوبة،(3/377)
يعني: لولا أنهم يحتجّون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم؛ وقيل: معناه لَمَا بعثناك إليهم رسولاً، ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} ، يعني: محمد - صلى الله عليه وسلم -، {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من الآيات، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قال مجاهد: يهود تأمر قريشًا أن تسأل محمدًا مثل ما أوتي موسى، يقول الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قل: لقريش يقولوا لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} .
وعن قتادة: قوله: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان. وعن الضحاك: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}
يعنون: الإنجيل والفرقان. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن القوم الذين لو عذّبهم قبل قيام الحجّة عليهم لاحتجّوا بأنهم لم يأتهم رسول، أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، على وجه التعنّت والعناد، ... {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} يعنون والله أعلم: من الآيات الكثيرة. {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} ؟ أي: أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة؟ وقالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، أي: تعاونا، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ، أي: بكل منهما كافرون؛ ولشدّة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون، دلّ ذكر أحدهما على الآخر. قال: وأما من قرأ: {سحران تظاهرا} ، فعن ابن عباس: يعنون: التوراة، والقرآن. انتهى ملخصًا.
وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال ابن زيد: هو أهدى من هذين الكتابين الذي بعث به موسى والذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم -.(3/378)
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} ، قال ابن كثير: أي: فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتّبعوا الحق {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} أي بلا دليل ولا حجّة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} أي: بغير حجّة مأخوذة من كتاب الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وعن قتادة: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} ، قال: وصلّ الله لهم القول في هذا القرآن يخبرهم: كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) } .
عن مجاهد قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ} إلى قوله {الْجَاهِلِينَ} قال هم: مسلمة أهل الكتاب. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحقّ مواليه، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوّجها» .
وقال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم(3/379)
القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم
استجابوا لله وآمنوا به وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم مَنْ وراءكم مِنْ أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدّقتموه فيما قال؟ ! ما نعلم ركبًا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ أنفسنا خيرًا، إلى أن قال: ويقال: والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات: ... {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} .
* * *(3/380)
الدرس الخامس بعد المائتين
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا(3/381)
يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } .
* * *(3/382)
قوله عز وجل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } .
عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمّ قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنْه عنك» ، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى} ، وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} » . رواه ابن جرير وغيره.
قوله عز وجل: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } .
عن ابن عباس قوله: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ، قال: هم أناس من قريش قالوا لمحمد: إن نتّبعك يتخطّفنا الناس فقال الله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن(3/383)
لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال قتادة: يقول: أو لم يكونوا آمنين في حرمهم لا يُغْزَوْنَ فيه ولا يخافون، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال ابن عباس: ثمرات الأرض. قال ابن كثير: أي: من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة {رِزْقاً مِن لَّدُنَّا} ، أي: من عندنا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ولهذا قالوا ما قالوا.
وقال ابن زيد في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ، قال: البطر: أشر أهل الغفلة، وأهل الباطل، والركوب لمعاصي الله؛ وقال: ذلك البطر في النعمة. {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً} ، يقول: فتلك دور القوم الذين أهلكناهم خربت فلم يعمر منها إلا أقلّها، {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .
وعن قتادة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} . وأم القرى: مكة، وبعث الله إليهم رسولاً محمدًا - صلى الله عليه وسلم -.
قال البغوي: وخصّ الأمّ ببعثة الرسول فيها، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أمّ ما حولها. وعن
ابن عباس: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، قال الله: لم يهلك قرية بإيمان، ولكنه يهلك القرى بظلم إذا ظَلَمَ أهلها.
قوله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) } .
عن قتادة قوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ} ، قال: هو المؤمن(3/384)
سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بما وعد الله فيه، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهو هذا الكافر ليس والله كالمؤمن، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي: في عذاب الله. وقال مجاهد: أهل النار أُحْضِرُوها.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا أنهم شركائي، {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب، وهم رؤوس الضلالة. {رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا}
أي: دعوناهم إلى الغيّ وهم الأتباع، {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أضللناهم كما ضللنا، {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} . بريء بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
{وَقِيلَ} للكفار: {ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ} ، أي: الأصنام لنخلّصكم من العذاب، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لم يجيبوهم، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} . وجواب (لو) محذوف على تقدير: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب.
وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عما يوبّخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ يعني: الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد، هل ينصرونكم أو تنصرونه؟(3/385)
وهذا على سبيل التقريع والتهديد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} .
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) } .
قال ابن كثير: النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوّات ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره: مَنْ ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري، ولهذا لا جواب له يوم القيامة، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولهذا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} ، قال مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ} الحجج فهم لا يتساءلون بالأنساب.
قال البغوي: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} : لا يجيبون. وقال قتادة لا يحتجّون. وقيل: يسكتون لا يسأل بعضهم بعضًا. وقوله: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ، أي: في الدنيا {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي: يوم القامة. و (عسى) من الله موجِبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنّته لا محالة.
قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ(3/386)
وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } .
قال ابن كثير: يخبر الله تعالى: أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} أي: ما يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه. وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، نفي على أصح القولين، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .
إلى أن قال: ولهذا قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي: من الأصنام، والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئًا، ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: هو المنفرد بالألوهية فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه. {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} ، أي: في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته ورحمته، {وَلَهُ الْحُكْمُ} ، أي: الذي لا معقّب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: جميعكم يوم القيامة فيجزى كل عامل بعمله.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ
تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) } .(3/387)
قال في جامع البيان: ختم الأولى بقوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} والثانية بقوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لمناسبة قوة السامعة بالليل وقوة الباصرة بالنهار.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } .
قال ابن كثير: وهذا أيضًا نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهًا آخر، يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: في دار الدنيا، {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} ، قال مجاهد: يعني: رسولاً، {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ، أي: على صحة ما ادّعيتموه من أن لله شركاء. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} ، أي: لا إله غيره، فلم ينطقوا ولا يُحْرُو جوابًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . أي: ذهبوا فلم ينفعوهم.
* * *(3/388)
الدرس السادس بعد المائتين
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى
وَمَنْ(3/389)
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } .
* * *(3/390)
قوله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) } .
عن قتادة: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى النور من حسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامريّ فأهلكه البغي، إنما بغى عليهم بكثرة ماله.
وعن مجاهد: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} قال: مفاتح من جلود كمفاتح العيدان. وعن ابن عباس في قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، قال: لتثقل بالعصبة. قال قتادة: ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين.
وعن مجاهد في قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، قال: المتبذّخين الأشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقال: هو: فرح البغي.
وعن ابن عباس: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: أن تعمل فيها لآخرتك. وعن قتادة: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: طلب الحلال. قال ابن(3/391)
كثير: وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرّب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرِك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
وقال ابن زيد في قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ، قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا. وقرأ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية. وعن مجاهد: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} كقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، زرقًا سود الوجوه، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم. وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.
قوله عز وجل: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) } .
عن مجاهد: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ، قال: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات. وعن قتادة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . (ذُكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة) .
{فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ} ، أي: جند ينصرونه، وما عنده منعة يمتنع بها من الله، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ(3/392)
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} ، قال: ألم تر. وقال مجاهد: ألم تعلم. وقال ابن كثير: قال بعضهم: معناه ويلك اعلم وقواه. وقال: فلما خسف به أصبحوا يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ، أي: ليس المال بدالّ على رضى الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع ويضيّق ويوسّع، يخفض ويرفع، وله الحكمة التامّة والحجّة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن
مسعود: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ) .
{لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} ، أي: لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به، لأن وددنا أن نكون مثله. {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، يعنون: أنه كان كافرًا ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.(3/393)
قوله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) } .
عن مسلم البطين: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} قال: العلوّ: التكبر في الأرض بغير الحق، والفساد: الأخذ بغير الحق. وعن ابن جريج قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} قال: تعظيمًا وتجبّرًا {وَلَا فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وعن قتادة: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي: الجنة للمتقين.
وقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} .
قال ابن كثير: أي: ثواب الله خير من حسنة العبد، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة؟ وهذا مقام الفضل؛ ثم قال: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا مقام العدل.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } .
عن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، قال: إلى الجنة. وقال الحسن: أي والله إن له لمعادًا يبعثه الله يوم القيامة ويدخله الجنة.(3/394)
وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يقول: لرادّك إلى الجنة، ثم سائلك عن القرآن؛ وعنه {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة.
قال ابن كثير: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسرّ ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: ولهذا فسّر ابن عباس تارة أخرى قوله:
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن.
وقال البغوي: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} ، أي: يعلم من جاء بالهدى، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لفي ضلال مبين، فقال الله عز وجل: {قُل} لهم: {رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى} يعني: نفسه، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، يعني: المشركين. والله أعلم بالفريقين.
قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} ، أي: يوحى إليك القرآن، {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ، قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع معناه: لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن، {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} ، أي: معيناً لهم على دينهم. وقال مقاتل: وذلك حين دُعي إلى دين آبائه، فذكّره الله نعمه ونهاه عن مظاهرهم على ما هم عليه، {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، يعني: القرآن، {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى معرفته وتوحيده {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكافرين ولا توافقوهم.(3/395)
وقال ابن كثير: وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: لا تليق العبادة إلاَّ له ولا تنبغي الإلهية إلاَّ لعظمته.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، إخبار بأنه الدائم، ثم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فعبّر بالوجه عن الذات وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلاَّ إياه. وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} ، أي: الملك والتصرّف ولا معقّب لحكمه. ... {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم.
* * *(3/396)
الدرس السابع بعد المائتين
[سورة العنكبوت]
مكية، وهي تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ
مِنْ(3/397)
خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } .
* * *(3/398)
قوله عز وجل: {آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ(3/399)
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } .
قال البغوي: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} أَظَنَّ الناسُ، {أَنْ يُتْرَكُوا} بغير اختبار ولا ابتلاء، {أَنْ يَقُولُوا} ، أي: بأن يقولوا، {آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب. وعن مجاهد: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال: ابتلينا الذين من قبلهم. وفي الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» .
وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
قال البغوي: والله أعلم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: وليظهرنّ الله الصادقين من الكاذبين حتى يُوجِدَ معلومَه، وعن قتادة قوله: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: أهل الشرك {أَن يَسْبِقُونَا} ، قال مجاهد: أن يعجزونا، {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
قال ابن كثير: بئس ما يظنون. {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ} ، أي: في الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورَجَا ما عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له. رجاءه ويوفّيه عمله كاملاً موفّرًا، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، أي: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولهذا قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قال الحسن البصري: أن الرجل ليجاهد، وما ضرب يومًا من الدهر بسيف.
ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ومع برّه وإحسانه بهم، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو: أنه يكفَّر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون. فيقبل القليل من الحسنات ويثب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيّئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ،
وقال ها هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) } .
عن قتادة: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} إلى قوله: {فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، قال: نزلت في سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يُظِلُّني بيت حتى يرجع، فأنزل الله في ذلك أن يحسن إليهما ولا يطيعهما في الشرك. وروى مسلم وغيره عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في أربع آيات، فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أَطْعَمُ طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر. قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا(3/400)
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال البغوي: ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره: بالبر بوالديه والإحسان إليهما، وأن لا يطيعهما في الشرك، فذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله الخالق» .(3/401)
ثم أوعد بالمصير إليه فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ، أي: في زمرة الصالحين. وهم: الأنبياء، والأولياء. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وذاك أن يؤدّوا فرائض الله ويجتنبوا محارمه، {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} في مدخل الصالحين. وذلك: الجنة.
قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) } .
عن ابن عباس قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، قال: أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله. وعن مجاهد قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}
إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } .
عن مجاهد قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ، قال: قول كفار قريش(3/402)
بمكة لمن آمن منهم، يقول: قالوا: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتّبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا.
وعن قتادة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} ، أي: أوزارهم، {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} ، يقول: أوزار من أضلّوا. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» .
وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، سؤال توبيخ وتقريع.
* * *(3/403)
الدرس الثامن بعد المائتين
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا(3/404)
لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ(3/405)
حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } .
* * *(3/406)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) } .
عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة، بث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا، حتى كثر الناس وفشوا. وعن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه؟ قال: قلت: ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا.
وقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، قال قتادة: أبقاها الله آية للناس بأعلى الجوديّ.
وقال ابن كثير: أو نوعها، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} ، أي: وجعلنا نوعها رجومًا، فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء.
قوله عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا
عِندَ اللَّهِ(3/407)
الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيم} ، أي: وأرسلنا إبراهيم، ... {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أطيعوه، وخافوه، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أصنامًا، {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} تقولون كذبًا. قال مقاتل: تصنعون أصنامًا بأيدكم فتسمّونها آلهة، {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لا يقدرون أن يرزقوكم {فَابْتَغُوا} فاطلبوا، {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} مثل: عاد، وثمود وغيرهم فأهلكوا، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } .
عن قتادة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالبعث بعد الموت. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} خلق السماوات، والأرض، {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ، أي: البعث بعد الموت. وعن ابن عباس قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ، قال: هي: الحياة بعد الموت، وهو: النشور.(3/408)
قال البغوي: فكما لم يتعذّر عليه إحداثها مبتدئًا، لا يتعذّر عليه إنشاؤها معيدًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} تُرَدّون.
وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} قال: لا يعجزه أهل الأرضين في الأرضين، ولا أهل السماوات في السماوات إن عصوه، {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
قال البغوي: أي: {مِن وَلِيٍّ} يمنعكم مني {وَلَا نَصِيرٍ} ينصركم من عذابي.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} ، أي: بالقرآن والبعث، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} أي: لا نصيب لهم فيها {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، موجع: وهو عذاب النار.
قوله عز وجل: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ... (27) } .
وعن قتادة قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} قوم إبراهيم، {إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} ، قال كعب: ما حرقت منه إلا وثاقه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(3/409)
وعن قتادة: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} ، قال: صارت كل خلّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلا خلّة المتّقين.
وعن ابن عباس قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ، قال: صدّقه لوط، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، قال: هو إبراهيم. وقال قتادة: هاجرا جميعًا من كوثى. وهي من ثواد الكوفة إلى الشام.
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . عن قتادة
قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} ، قال: عافية وعملاً صالحًا وثناء حسنًا، فلست بِلاَقٍ أحدًا من الملأ إلا يرضى إبراهيم ويتولاه. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} .
قوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) } .
عن عمرو بن دينار في قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} ، قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. وعن أم هانئ قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} ، قال: «كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم» . رواه ابن جرير وغيره.(3/410)
قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) } .
عن ابن عباس قوله: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} إلى قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} ، قال: فجادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا، قال: فقال: أرأيتم إن كان فيها عشر أبيات من المسلمين أتتركونهم؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشر أبيات، ولا خمسة، ولا أربعة، ولا ثلاثة، ولا اثنان. قال: فحزن على لوط وأهل بيته فـ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} فذلك قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ، فقالت الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.
قوله عز وجل: {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) } .(3/411)
عن قتادة قوله: {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ، قال: بالضيافة مخافة عليهم مما يعلم من شر قومه.
وعن مجاهد قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} ، قال: عبرة. وقال ابن عباس: الآية البيّنة هي آثار منازلهم الخربة.
قوله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) } .
قال ابن كثير: وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} نهاهم عن العبث في الأرض بالفساد. وهو: السعي فيها والبغي على أهلها، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم بالله ورسوله، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها، وعذاب يوم الظلّة الذي أزهق الأرواح من مستقرّها، إنه كان عذاب يوم عظيم.
قوله عز وجل: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } .(3/412)
قال البغوي: {وَعَاداً وَثَمُودَ} ، أي: وأهلكنا عادًا وثمود. وعن قتادة وكانوا متبصّرين في ضلالتهم، معجبين بها. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر.
وقوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي: فائتين من عذابنا {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وهم عاد {وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} يعني: ثمود، {وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وهو قارون وأصحابه، {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} وهم فرعون وهامان وجنودهما، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
* * *(3/413)
الدرس التاسع بعد المائتين
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ(3/414)
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } .
* * *(3/415)
قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) } .
عن ابن عباس قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى آخر الآية، قال: ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره. وقال قتادة: هذا مثل ضربه للمشرك، مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت: واهن ضعيف لا ينفعه. وقال ابن زيد: لا يغني أولياؤهم عنهم شيئًا، كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا.
قال ابن كثير: ثم قال تعالى متوعدًا لمن عبد غيره وأشرك به: أنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم، ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، أي: وما يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتضلّعون منه. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، قال: «العالم من لم يغفل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . رواه(3/416)
البغوي. وعن عمرو بن مرة
قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
وقوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} .
قال البغوي: أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في خلقها، {لَآيَةً} لدلالة، {لِّلْمُؤْمِنِينَ} على قدرته وتوحيده.
قوله عز وجل: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) } .
عن ابن عباس قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} ، يقول: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله؛ وقال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: قال عبد الله بن عباس: هل تدري ما قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: قلت: نعم، التسبيح، والتحميد، والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولاً عجبًا وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه. وعن ابن عون في قول الله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وعن ابن عباس في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان(3/417)
أحدهما أعظم من الآخر، ولما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . فيجازيكم.
قوله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال: ليست بمنسوخة. انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، أي: حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجّة، وعاندوا وكابروا فحينئذٍ ينتقل من الجدال إلى الجلاد. وعن سعيد: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ * إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، قال: أهل الحرب من لا عهد له جادله بالسيف. وعن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية فيفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» . رواه ابن جرير وغيره.(3/418)
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} .
قال البغوي: وكذلك يعني كما أنزلنا إليهم الكتاب: {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب، {وَمِنْ هَؤُلَاء} ، يعني: أهل مكة: {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} وهم مؤمنو أهل مكة، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} وذلك أن اليهود وأهل مكة عرفوا أن محمدًا نبيّ، والقرآن حقّ فجحدوا. وقال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة.
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو} يا محمد {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} يعني: لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، {إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، قال قتادة: إذًا لقالوا إنما هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه.
وقال الحسن في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} القرآن، {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني المؤمنين.
قال ابن كثير: ولهذا جاء في صفة هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم.
قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } .(3/419)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنّتهم وطلبهم {آيَاتٌ} يعنون: ترشدهم إلى أن محمدًا رسول الله كما أتى صالح بناقته، قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أي: إنما أمر ذلك إلى الله.
وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا لكم، بيّن النذارة فعليّ أن أبلغكم رسالة الله تعالى، و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} .
ثم قال تعالى مبيّنًا كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلّهم على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءهم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم
، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمّيّ لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدًا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح؟ انتهى ملخصًا. وذكر الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» .
وقال البغوي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في إنزال القرآن: {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، أي: تذكيرًا وعظة لمن آمن وعمل بها، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ(3/420)
شَهِيداً} ، أنيّ رسوله وهذا القرآن كتابه، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} ، قال ابن عباس: بغير الله. وقال قتادة: بعبادة الشيطان، {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
قال ابن كثير: في يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذّبوا برسل الله مع قيام الأدلّة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
* * *(3/421)
الدرس العاشر بعد المائتين
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ(3/422)
فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } .
* * *(3/423)
قوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم، وبأس الله أن يحلَ عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقال ها هنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ} ، أي: لولا ما حتّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة، لجاءهم العذاب قريبًا سريعًا كما استعجلوه، ثم قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} ، أي: فجأة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ، أي: يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة. {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال ابن جرير: يقول جلّ ثناؤه: ويقول الله لهم {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من معاصي الله وما يسخطه فيها.
قوله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا(3/424)
الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن م ِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) } .
قال البغوي: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة، {إِنَّ أَرْضِي} يعني: المدينة، {وَاسِعَةٌ} آمنة. قال مجاهد: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فهاجروا وجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة. وقال عطاء: إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، أن يهاجر إلى حيث تتهيّأ له العبادة. انتهى.
وعن أبي مجلز في هذه الآية: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ، قال: من الدواب ما لا يستطيع أن يدّخر لغد، فوقف رزقه كل يوم حتى يموت. وعن أبي هريرة مرفوعًا: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . رواه أحمد. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس من شيء يقربكم إلى
النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه،(3/425)
وإن الروح الأمين قد نفث في روعي: إنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقّوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» .
قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مقرّرًا أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره، معترفون بأنه المستقلّ بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدرّ آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم، فمنهم الغنيّ والفقير، وهو العليم بما يصلح كُلاًّ منهم، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقلّ بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته؛ وكثيرًا ما يقرّر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد
كان المشركون يعترفون بذلك، كما يقولون في تلبيتهم: لبيّك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ(3/426)
الْحَيَوَانُ} ، قال مجاهد: لا موت فيها. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى.
قوله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } .
ذكر ابن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارًا منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي ها هنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البرّ أيضًا غيره. اللهم لك عليّ عهد لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعنّ يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤوفًا رحيمًا، فكان كذلك.
وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر.
وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، أي: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتّع بما يتمتّعون به في العاجلة، من غير نصيب في الآخرة.
وعن قتادة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ(3/427)
حَوْلِهِمْ} ، قال: كان لهم في ذلك آية: إن الناس يغزون ويتخطفون وهم آمنون. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} ، أي: بالشرك، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} يجحدون؟ .
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} ، أي: لا أحد أشدّ عقوبة ممن كذب على الله أو كذّب بكتابه، فالأول مفترٍ والثاني مكذّب، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} .
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} ، يعني: الرسول وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، أي: طريقنا في الدنيا والآخرة. وقال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى. قال البغوي: {وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقابهم.
* * *(3/428)
الدرس الحادي عشر بعد المائتين
[سورة الروم]
مكية، وهي ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا(3/429)
بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ
يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) } .
* * *(3/430)
قوله عز وجل: {آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } .
قال ابن عباس: كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم لأنهم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس لأنهم أهل أوثان، قال فذكروا ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أما إنهم سَيُهْزَمُون» ، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين قال: فقالوا: أفنجعل بيننا وبينكم أجلاً؟ فإن غلبوا كان لك كذا، وكذا، وإن غلبنا كان لنا كذا، وكذا، قال: فجعلوا بينه وبينهم أجلاً خمس سنين، قال: فمضت فلم يغلبوا، قال: فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «أفلا جعلته دون العشر» ؟ قال سعيد: والبضع: ما دون العشر. قال: فغُلِبَ الروم ثم غَلَبَتْ، قال فذلك قوله: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، قال: البضع: ما دون العشر، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} ، قال سفيان: فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر. وعند الترمذي من حديث آخر: «وذلك قبل تحريم الرهان» .
وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ، عن ابن عباس قوله:(3/431)
{ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهّال.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (10) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى منبّهًا على التفكّر في مخلوقاته الدالّة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} ، يعني به: النظر، والتدبّر، والتأمّل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي، والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوّعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خُلقت سدى، ولا باطلاً، بل بالحق. وأنها مؤجّلة إلى أجل مسمّى. وهو: يوم القيامة، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .
ثم نبّههم على صدق رسله فيما جاءوا عنه، بما أيّدهم به من المعجزات والدلائل الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدّقهم، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ، أي: بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضيين؟ ولهذا قال: {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، أي: كانت الأمم الماضية، والقرون السالفة أشدّ منكم قوّة، أيها المبعوث(3/432)
إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر أموالاً وأولادًا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكّنوا في الدنيا تمكينًا لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها عمارًا طوالاً فعمروها أكثر منكم واستغلّوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبيّنات وفرحوا بما أوتوا، أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبن بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرّة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحلّ بهم من العذاب والنكال.
{وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، أي: وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذّبوا بآيات الله واستهزؤوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدّم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} .
قوله عز وحل: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ
شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) } .
يقول تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي: كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ، قال ابن عباس: ييأس المجرمون. وقال مجاهد: يفتضح المجرمون. وفي رواية: يكتئب المجرمون(3/433)
{وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} أي: ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى بل كفروا بهم.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ، قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} ، قال مجاهد: ينعمون،
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدّسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذا الأوقات المتعاقبة. قال ابن عباس: جمعت هاتان الآياتان مواقيت الصلاة {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قال: المغرب والعشاء. {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الفجر، {وَعَشِيّاً} العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر.
وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، قال ابن مسعود: ويخرج النطفة من الرجل ميتة وهو حيّ، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
وقوله تعالى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
* * *(3/434)
الدرس الثاني عشر بعد المائتين
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا(3/435)
يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) } .
* * *(3/436)
وقوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) } .
عن قتادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} ، خلق آدم عليه السلام من تراب: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ، يعني: ذريته. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} ، خلقها لكم من ضلع من أضلاعه، ... {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، قال البغوي: وجعل بين الزوجين الموّدة والرحمة، فهما يتوادّان ويتراحمان، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رَحِمٍ بينهما: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة الله وقدرته.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما: ... {وَأَلْوَانِكُمْ} ، أبيض، وأسود، وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} ، قرأ حفص بكسر اللام: ... {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} ، أي: تصرّفكم
في طلب المعيشة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع نذير واعتبار.(3/437)
قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على عظمته أنه: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} ، أي: تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق مقلقة، وتارة ترجون وميضه. وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه؛ ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وعن قتادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قامتا بأمره من غير عَمَدٍ: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} ، قال: دعاهم فخرجوا من الأرض. وقال ابن عباس: من القبور. قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ،
كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ} ؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي: قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدّلت الأرض غير الأرض والسماوات(3/438)
، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} ، وعن ابن عباس قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} إلى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} يقول: مطيعون، يعني: الحياة والنشور والموت وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة.
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، يقول: كل شيء عليه هيّن. وقال عكرمة: تعجّب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت: ... {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه. عن مجاهد قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، قال: الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هيّن. وعن ابن عباس قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، يقول: ليس كمثله شيء. وعن قتادة: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} في السماوات والأرض، قال مَثَلُهُ إنه لا إله إلاَّ هو ولا رب غيره. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
قوله عز وجل: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) } .
قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره،(3/439)
الجاعلين له شركاء من خلقه، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، كما كانوا يقولون: لبيّك لا شريك لك، إلاَّ شريكًا هو لك، تملكه وما ملك؛ فقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ} ، أي: تشهدونه وتفهمونه، {مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} ، أي: أيرضى أحدكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله؟ فهو وهو فيه على السواء. ... {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} ، أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال. قال أبو مجلز: إن مملوكك لا يخاف أن يقاسمك مالك وليس له، كذلك الله
لا شريك له، والمعنى: أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، قال البغوي: ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا بالله، {أهواءهم} في الشرك، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلاً بما كتب عليهم، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} ، أي: أضله الله، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مانعين يمنعونهم من عذاب الله عز وجل. وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حنيفًا} ، أي: أخلص دينك لله حنيفًا، مائلاً إلى التوحيد مستقيمًا عليه.
قال ابن زيد في قوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: الإسلام مُذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرّون بذلك، وقرأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} ، قال: فهذا قول الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} بعد. وعن يزيد بن أبي مريم قال: (مرّ عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهنّ المنجيات: الإخلاص وهو: الفطرة، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، والصلاة وهي: الملّة، والطاعة وهي: العصمة. فقال عمر: صدقت) .(3/440)
وقوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، قال مجاهد: لدين الله. وقال البخاري قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} دين الله خلق الأولين دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام. ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يولد إلاَّ على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟ - ثم يقول -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} » .
قال البغوي: فمن حمل الفطرة على الدين قال: معناه لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله. قال مجاهد، وإبراهيم: معنى الآية: الزموا فطرة الله. أي: دين الله، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أنت يا محمد ومن اتبعك، {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، أي: راجعين إليه، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كونوا من الموحدين المصلّين الطائعين. قال ابن جرير: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، يقول: ولا تكونوا من أهل الشرك بالله، بتضييعكم فرائضه، وركوبكم معاصيه، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} ، يقول: ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم وخالفوه، {وَكَانُوا شِيَعاً} ، يقول: وكانوا أحزابًا فِرقًا كاليهود، والنصارى.
وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، يقول: كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، فأحدثوا البدع التي أحدثوا، {بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ،(3/441)
يقول: بما هم به متمسّكون من المذهب، {فَرِحُونَ} مسرورون، يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم. انتهى ملخصًا.
وقال ابن كثير: فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء وملل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم: أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه. كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية منهم، فقال: «من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
* * *(3/442)
الدرس الثالث عشر بعد المائتين
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } .
* * *(3/443)
قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن الناس إنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله، ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} ، هي: لام العاقبة عند بعضهم، ولام التعليل عند آخرين، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك ثم توعّدهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال بعضهم: والله لو توعّدني حارس درب لخفتُ منه، فكيف والمتوعّد ها هنا هو الذي يقول للشيء: كن فيكون؟ .
ثم قال تعالى: منكرًا عن المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجّة ولا برهان، {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} ، أي: حجّة، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي: لم ينطق بما كانوا به يشركون؟ وهذا استفهام إنكار أي: لم يكن لهم شيء من ذلك.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفّقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال:
{ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ(3/444)
لَفَرِحٌ فَخُورٌ} ، أي: يفرح في نفسه ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلّيّة، قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ، أي: صبروا في الضرّاء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» .
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، أي: هو المتصرّف الفاعل لذلك بحكمته وعدله، فيوسّع على قوم ويضيّق على آخرين، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
قوله عز وجل: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) } .
عن الحسن: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ، قال: هو أن توفّيهم حقّهم إن كان عندك يسر، وإن لم يكن عندك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} قل لهم الخير.
وعن ابن عباس قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} ، قال: هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضًا، يعطي الرجل الرجل العطيّة يريد أن يعطي أكثر منها. وقال مجاهد: هي الهدايا، وقال الضحاك في قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} فهو ما يتعاطى الناس بينهم ويتهادون، يعطي الرجل العطيّة ليصيب منه أفضل منها، وهذا للناس عامة، وأما قوله: {وَلَا(3/445)
تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} فهذا للنبي خاصة، لم يكن له أن يعطي إلا لله، ولم يكن يعطي ليعطى أكثر منه. وقال ابن عباس قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} ، قال: هي: الهبة، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه، فذلك الذي: لا يربو عند الله لا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ} . قال: هي: الصدقة، {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، قال قتادة: هذا الذي يقبله الله ويضعفه لهم عشر أمثالها وأكثر من ذلك.
قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) } .
عن قتادة: قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث بعد الموت {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ} ؟ لا والله، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سبّح نفسه إذا قيل عليه البهتان.
وعن الحسن: في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} ، قال: أفسدهم الله بذنوبهم في بحر الأرض وبرّها بأعمالهم الخبيثة، {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال قتادة: لعل رجعًا أن يرجع، لعلّ تائبًا أن يتوب، لعلّ مستعتبًا أن يستعتب. وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} .
قال البغوي: لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية، {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} فأهلكوا بكفرهم.(3/446)
قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } .
عن قتادة: قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الإِسلام، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} فريق في الجنة، وفريق في السعير.
وقوله تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: من كفر بالله فعليه أوزار كفره وآثام جحوده نعم ربه، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، يقول: فلأنفسهم يستعدّون ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم ولينجوا من عذابه.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} .
قال ابن كثير: أي: يجازيهم مجازاة الفضل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.
* * *(3/447)
الدرس الرابع عشر بعد المائتين
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا(3/448)
إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) } .
* * *(3/449)
قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } .
قال ابن كثير: يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرساله الرياح مبشّرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، أي: المطر الذي ينزله فيحيي به البلاد والعباد، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} ، أي: في البحر، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، أي: في التجارات، والمعايش. والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر. ... {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه وإن كذّبه كثير من قومه ومن الناس، فقد كُذّبت الرسل المتقدّمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم الله ممن كذّبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرّمًا وتفضلاً، كقوله تعالى: ... {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء(3/450)
كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (53) } .
قال عبيد بن عمير: الرياح أربع: يبعث الله ريحًا فتقمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الريح الثانية فتثير سحابًا فيجعله في السماء كسفًا، ثم يبعث الله الريح الثالثة فيؤلّف بينه فيجعله ركامًا، ثم يبعث الله الريح الرابعة فتمطر. وعن قتادة: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} ، أي: قطعًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} ، قال مجاهد: القطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، قال ابن كثير: أي: فترى المطر وهو القطر يخرج من بين ذلك السحاب. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، قال قتادة: قانطين. قال في جامع البيان: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} المطر، {مِّن قَبْلِهِ} تكرير للتأكيد، ومعنى
التأكيد: الدلالة على بُعد عهدهم بالمطر واستحكام بأسهم، {لَمُبْلِسِينَ} آيسين. وقوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} ، قال البغوي: أراد برحمة الله المطر، أي: انظر إلى حسن تأثيره في الأرض، قال مقاتل: أثر رحمة الله. أي: أثر نعمته وهو النبت، {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} ، باردة مضرّة فأفسدت الزرع، {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} ، أي: رأوا(3/451)
النبت والزرع مصفرًا بعد الخضرة، {لَّظَلُّوا} لصاروا، {مِن بَعْدِهِ} ، أي: من بعد اصفرار الزرع، {يَكْفُرُونَ} ، يجحدون ما سلف من النعمة. وعن قتادة قوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، يقول: لو أن أصمّ ولّى مدبرّا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع. وقال في جامع البيان: الأصمّ المقبل ربما يفطن من الكلام بمعونة مشاهدة القرائن شيئًا منه، بخلاف المدبر. ... {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} ، والكافر كمن لا عين له يضلّ الطريق، وليس بوسع أحد أن ينزع عنه العمى ويجعله بصيرًا، {إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} ما ينفع الإسماع إلا لمن علم الله أنه يصدّق بآياته وما طبع على قلبه {فَهُم مُّسْلِمُونَ} منقادون لما تأمرهم.
قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ، قرئ: بضم الضاد، وفتحها. فالضم لغة: قريش. والفتح لغة: تميم. قال ابن حجر في (فتح الباري) : فالجمهور: بالضم. وقرأ عاصم، وحمزة: بالفتح. وقال الخليل: الضعف بالضم ما كان في الجسد، والفتح ما كان في العقل. وعن قتادة قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ، أي: من نطفة، {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} : الشمط، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، قال البغوي: من الضعف، والقوة،(3/452)
والشباب، والشيبة، {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبير خلقه، {الْقَدِيرُ} على ما يشاء.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) } .
عن قتادة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} ، أي: يكذّبوك في الدنيا، وإنما يعني بقوله: يُؤْفَكُونَ} عن الصدق ويصدّون عنه إلى الكذب.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضًا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجّة عليهم، وأنهم لم ينتظروا حتى يُعذَر إليهم، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون} ، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي: فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، أي: في كتاب الأعمال، {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي: من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ} ، أي: يوم القيامة، {لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} ، أي: اعتذارهم عما فعلوا، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ، أي: ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} .(3/453)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} ، أي: قد بيّنّا لهم الحق ووضّحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبيّنوا الحق ويتّبعوه، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} ، أي: لو رأوا أيّ آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه كما قال تعالى: {الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} ، ولهذا قال ها هنا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ، أي: اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} ، أي: بل اثبت على ما بعثك الله به فإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع، بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج عليًا رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فأنصت له عليّ حتى
فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
* * *(3/454)
الدرس الخامس عشر بعد المائتين
[سورة لقمان]
مكية، وهي أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ(3/455)
أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } .
* * *(3/456)
قوله عز وجل: {آلم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) } .
قال البغوي: ( {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية، قال الكلبي، ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، وكان يتّجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم، فيحدّث بها قريشًا، ويقول: إن محمدًا يحدّثكم بحديث: عاد، وثمود. وأنا أحدّثكم بحديث: رستم، واسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية. وروى ابن جرير وغيره عن أبي أمامة مرفوعًا: «لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ، ولا شراؤهنّ، وثمنهنّ حرام» ؛ وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ) إلى آخر(3/457)
الآية. وقال قتادة: بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث
الحق، وما يضرّ على ما ينفع. وعن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ، قال: هو: الغناء ونحوه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} .
وقال ابن كثير: أي: هذا المقبل على: اللهو، واللعب، والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية، ولّى عنها وأعرض وأدبر وتَصَامم وما به من صمم، كأنّه ما سمعها لأنه يتأذّى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، أي: يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
قوله عز وجل: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11) } .
قال البغوي: {هَذَا} ، يعني الذي ذكرت مما تعاينون: {خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ(3/458)
يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } .
عن مجاهد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قال: الفقه والعقل، والإصابة في القول من غير نبوّة، وقال عمرو بن قيس: كان لقمان عبدًا أسود غليظ الشفتين مصفّح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدّثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني. وفي
الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ، قلنا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: «ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان: يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك بالله لظلم عظيم» .
وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ، قال ابن عباس: شدّة بعد شدّة وخلقًا بعد خلق.
وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، أي: فطامه في حولين، {أَنِ اشْكُرْ لِي}(3/459)
بالتوحيد، {وَلِوَالِدَيْكَ} بالبرّ، {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فأجازيك على عملك. قال سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
قال ابن جرير: فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل: ذلك أيضًا وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه فكان معنى الكلام: (وإذ قال لقمانُ لابنه وهو يَعِظُهُ: يا بُنيَّ لا تُشرك بِالله إن الشِّرك لظلم عظيم، ولا تطع في الشرك به والديك، وصاحبهما في الدنيا معروفًا، فإن الله وصّى بهما؛ واستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته. انتهى.
وعن قتادة: قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} ، من خير، وشر، {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ} ، أي: جبل، {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ
فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، أي: {لَطِيفٌ} باستخراجها، {خَبِيرٌ} بمستقرّها.
وعن ابن جريج في قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من الأذى في ذلك: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، قال: إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور، يقول: مما أمر الله به من الأمور.
وعن ابن عباس: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} ، يقول: ولا تتكبّر فتحقّر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. وعن الضحاك في قوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} ، قال: بالخيلاء، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، قال مجاهد: {مُخْتَالٍ} متكبر، {فَخُورٍ} . قال: يعدّد ما أعطى الله وهو لا يشكر الله.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} ، قال: التواضع، {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} ، قال قتادة:(3/460)
أمره بالاقتصاد في صوته {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أوّله زفير، وآخره شهيق.
وقد روي عن لقمان من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة فمنها قوله: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه.
وقال: يا بنيّ إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وقال: الصمت حكم وقليل فاعله.
وقال: يا بنيّ إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني: السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، ولا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحوّل عنهم إلى غيرهم. وقال خالد الربعيّ: كان لقمان عبدًا حبشيًا فدفع مولاه إليه شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها. فأتاه باللسان، والقلب، ثم دفع إليه شاة أخرى وقال: اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها، فأتاه باللسان، والقلب، فسأله مولاه فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وعن عمر مولى غفرة قال: وقف رجل على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان، أنت عبد بني الحسحاس؟ قال: نعم، قال: أنت راعي الغنم؟ قال: نعم، قال: أنت الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك! قال: يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك، قال لقمان: غَضِّي بصري، وكَفيّ لساني، وعفَة طعمتي، وحفظ فرجي، وقولي بصدقي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذلك الذي صيرّني إلى ما ترى. والله أعلم.
* * *(3/461)
الدرس السادس عشر بعد المائتين
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ
كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا(3/462)
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } .
* * *(3/463)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) } .
قال في جامع البيان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} بأن جعله أسباب منافعكم، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، {وَأَسْبَغَ} أوفى وأتمّ {عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} محسوسة وما تعرفونه، {وَبَاطِنَةً} معقولة وما لا تعرفونه. وعن قتادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ليس معه من الله برهان ولا كتاب.
قال البغوي: نزلت في النضر بن الحارث، وأبيّ بن خلف، وأمية بن خلف وأشباههم، كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته بغير علم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} ، قال الله عز وجل: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وجواب
(لو) محذوف، ومجازه: يدعوهم فيتبعونه. يعني: يتبعون الشيطان وإن {كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
قوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} ، يعني: لله، أي: يخلص دينه لله،(3/464)
ويفوّض أمره إلى الله، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، أي: اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} ، أي: نمهلهم ليتمتّعوا بنعيم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} ثم نلجئهم ونردّهم في الآخرة، {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو: عذاب النار.
قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين: أنهم يعرفون أن الله خالقُ السماوات والأرض وحدَه لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له وملك له، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي: إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: هو خلقه وملكه، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، أي: {الْغَنِيُّ} عما سواه وكل شيء فقير إليه، {الْحَمِيدُ} في جميع ما خلق، له الحمد في السماوات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها. وعن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} ، قال: لو جعل شجر الأرض أقلامًا، وجعل(3/465)
البحور مدادًا، وقال الله: إنّ من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحور وتكسرتّ الأقلام. وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البرّ أقلامًا ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وعن مجاهد قوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، يقول: كن فيكون للقليل والكثير.
قال ابن جرير: وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، يقول تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقول هؤلاء المشركون ويفترون على ربهم، من ادعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم، {بَصِيرٌ} بما يعلمونه وغيرهم من الأعمال، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) } .
عن قتادة قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، نقصان الليل في زيادة النهار، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، نقصان النهار في زيادة الليل {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، يقول: لذلك كله وقت معلوم لا يجاوزه ولا يعدوه.(3/466)
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . عن مغيرة قال: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} .
وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} قال قتادة: الختّار: الغدّار، كل غدّار بذمّته كفور بربه.
قال البغوي: والختر: أسوأ الغدر: قال بعضهم: وإنما قال ها هنا: {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} وقد قال فيما قبل: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} لأنه ذكر ها هنا الموج وعظمته، ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيار، فيخفض شيئًا من غلوّ الكفر والظلم، وينزجر بعض الانزجار.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } .
عن قتادة قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ذاكم الشيطان. وعن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمتُ متى(3/467)
ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى آخر السورة) . رواه ابن جرير. وروى البخاري وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفاتح
الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
* * *(3/468)
الدرس السابع عشر بعد المائتين
[سورة السجدة]
مكية، وهي ثلاثون آية
... في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة: آلم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا(3/469)
تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ
صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً(3/470)
تَأْكُلُ مِنْهُ
أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30) } .
* * *(3/471)
قوله عز وجل: {آلم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) } .
عن قتادة قوله: {آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه، وإنما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك فيه أنه من عند الله، وليس بشعر ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقول الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} .
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، قال قتادة: كانوا أمّة أمّية لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7)
ثُمَّ جَعَلَ(3/472)
نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) } .
عن قتادة قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في اليوم السابع، {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} .
قال ابن كثير: أي: بل هو المالك لأزمة الأمور، الخالق لكلِّ شيء، المدبّر لكلّ شيء، القادر على كلّ شيء، فلا وليّ لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ، يعني: أيها العابدون غيره المتوكّلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزّه أن يكون له: نظير، أو شريك، أو وزير، أو نديد، أو عديل. لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه.
وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، قال مجاهد: يعني بذلك: نزول الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، وذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، قال مجاهد: أتقن كل شيء خلقه. وقال ابن عباس: أتقنه وأحكمه. وعن قتادة: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} وهو
خلق آدم، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ} والسلالة هي: الماء المهين الضعيف، قال مجاهد: نطفة الرجل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ} .
قال البغوي: ثم سوّى خلقه {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} . ثم عاد إلى ذرّيتّه فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ} بعد أن كنتم نطفًا {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} ، يعني: لا تشكرون رب هذه النعم فتوحّدونه.(3/473)
قوله عز وجل: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } .
عن مجاهد: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، يقول: أئذا هلكنا. وعن قتادة: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، قال: قالوا: أئذا كنا عظامًا ورفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا؟ وقال الضحاك: يكفرون بالبعث.
وعن قتادة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} قال: ملك الموت يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. وقال مجاهد: طويت له الأرض فجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث شاء. وقال ابن زيد في قوله ... {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ، قال: قد حزنوا واستحيوا. وعن قتادة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، قال: لو شاء الله لهدى الناس جميعًا، لو شاء الله لأنزل عليهم من السماء آية فظّلت أعناقهم لها خاضعين. {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} حقّ القول عليهم.
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} ، قال ابن عباس: تركناكم. وقال قتادة: نُسوا من كل خير، وأما الشر فلم يُنْسَوْا منه. وعن(3/474)
أنس بن مالك: إن هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى القمّة. وعن مجاهد قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يقومون يصلّون من الليل. وقال ابن عباس: {تَتَجَافَى} لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله تعالى، إما في الصلاة، وإما في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، ثم يذكرون الله. وروى الإمام أحمد وغيره من حديث معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:
«ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، - ثم قرأ -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} » . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر» . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . متفق عليه.
قوله عز وجل: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) } .
عم ابن عباس: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} ، يقول: مصائب الدنيا(3/475)
وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي الله به العباد حتى يتوبوا. وعن مجاهد:
{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يوم القيامة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، قال أبو العالية: يتوبون.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} ، أي: لا أظلم ممن ذَكَّرَه الله بآياته وبيّنها له، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة: إياكم والإعراض عن ذكر الله، قال: من أعرض عن ذكره فقد اغترّ أكبر الغرة وأعوز أشد العَوَز، وعظم من أعظم الذنوب، ولهذا قال تعالى متهدّدًا لمن فعل ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ، أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشدّ الانتقام.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) } .
عن ابن عباس قال: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُرِيتُ ليلة أُسْرِيَ بي موسى بن عمران رَجُلاً آدم طوالاً أجعد كأنهُ من رجالِ شَنُوءَةَ، ورأيْتُ عيسى مَربُوعَ الخَلْق إلى الحُمرة والبياضِ سَبْطَ الرأسِ، ورأيْتُ مالِكًا خازن النَّارِ، والدَّجَّالَ فِي آياتٍ» أرَاهنَّ اللهُ إيَّاهُ. {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ} ، أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أُسري به. رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة:
{وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً يَهدُونَ بأمْرِنا} ، قال: رؤساء في الخير. {لَمَّا صَبروا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ} ، قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.(3/476)
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30) } .
عن ابن عباس: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أو لم يتبيّن لهم، {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} ، قال قتادة: عاد وثمود، وأنهم إليهم لا يرجعون؟ .
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} ؟ قال قتادة: الجُرُز: المغبّرة. وقال ابن عباس: الجُرُز: التي لا تمطر إلا مطرًا لا يغني عنها شيئًا، إلا مايأتيها من السيول.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} ، أي: متى تُنْصَرُون علينا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ {قُلْ} لهم يا محمد: {يَوْمَ الْفَتْحِ} ، أي: إذا حلّ بكم العذاب، {لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ} ولا تبال بكلامهم، {وَانتَظِرْ} موعد النصر {إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} حوادث الزمان عليك، وسترى عاقبة صبرك. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} ، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} .
* * *(3/477)
الدرس الثامن عشر بعد المائتين
[سورة الأحزاب]
مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية
... عن زر قال: (قال أبيّ بن كعب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثًا وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به أبيّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة وأطول، ولقد قرأنا منها: آية الرجم: الشيخ، والشيخة إذا زنيا فارجموهما) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ(3/478)
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) } .
* * *(3/479)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) } .
قال ابن كثير: هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فَلأن يأتمر مَنْ دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى؛ وقد قال طَلْق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله.
وعن قتادة: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ، أي: هذا القرآن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . قال البغوي: حافظًا لك.
قوله عز وجل: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: موطئًا قبل المقصود المعنويّ أمرًا معروفًا حسّيًا(3/480)
وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير
زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًّا له، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنًا له، فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كقوله عز وجل: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} الآية.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنّاه قبل النبوّة فكان يقال له: زيد بن محمد، فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، كما قال تعالى في أثناء السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وقال ها هنا: ... {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ، يعني: تبنّيكم لهم قولاً لا يقتضي أن يكون ابنًا حقيقيًّا، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . انتهى.
وعن قتادة: {ادْعُوهُم لآبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك. {وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ} ، يقول: إذا دعوت الرجل لغير أبيه وأنت ترى أنه كذلك، {وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، يقول الله: لا تدعه لغير أبيه متعمدًا، أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به، ولكن
يؤاخذكم بما تعمّدت قلوبكم. قال مجاهد: فالعمد ما أُتي بعد البيان والنهي في هذا وغيره. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال:(3/481)
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام» . رواه البغوي وغيره.
قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ... (6) } .
قال ابن زيد: {النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ} كما أنت أولى بعبدك ما قضى فيهم من أمر جاز كما كلما قضيت على عبدك جاز. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبة مَنْ كانوا، وإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا فليأتني فأنا مولاه» . رواه البخاري وغيره. وعن قتادة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} يعظِّم بذلك حقّهنّ، وفي بعض القراءة: وهو: أب لهم. قال ابن زيد في قوله: {وأزْوَاجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} محرّمات عليهم. وعن قتادة: {وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ في كتاب اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ والمُهاجِرِينَ} ، لبث المسلمون زمانًا يتوارثون بالهجرة،
والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجرين شيئًا، فأنزل الله هذه الآية فخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملل.
وعن مجاهد قوله: {إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، قال حلفاؤكم الذين والى بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار إمساك بالمعروف والعقل(3/482)
والنصر بينهم. قال ابن كثير وقوله تعالى: {إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، أي: ذهب الميراث، وبقي: النصر، والبرّ، والصلة، والإحسان، والوصيّة.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) } .
عن مجاهد: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} ، قال: في ظهر آدم. وقال البغوي: قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} على الوفاء بما حملوا، وأن يصدّق بعضهم بعضًا ويبشّر بعضهم ببعض. قال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدّق بعضهم بعضًا وينصحوا لقومهم، {وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيّين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولي العزم من الرسل انتهى.
قال ابن كثير: فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتّبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. وقال في قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ(3/483)
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، فذكر الطرفين والوسط الفاتح ومن بينهما على الترتيب. وعن ابن عباس قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ، قال: الميثاق الغليظ العهد. وعن مجاهد: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} ، قال: الرسل المؤدّين المبلغّين.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} ، أي: موجعًا. فنحن نشهد أن الرسل قد بلّغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وإن كذّبهم من كذّبهم من الجهلة والمعاندين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال، كما يقول أهل الجنة: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} .
* * *(3/484)
الدرس التاسع عشر بعد المائتين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ
الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ(3/485)
عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) } .
* * *(3/486)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) } .
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان في قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} . والجنود: قريش، وغطفان، وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة. وعن مجاهد: {إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: عيينة بن بدر في أهل نجد، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ، قال أبو سفيان قال: وواجهتهم قريظة. وعن قتادة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ} شخصت. وعن عكرمة: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} ، قال: من الفزع. وعن الحسن: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، قال: ظنونًا مختلفة؛ ظنّ المنافقون أن محمدًا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وعن مجاهد قوله: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} ، قال: مُحِّصُوا.
وقال البغوي: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: عند ذلك اختُبِرَ المؤمنون بالحصر والقتال، ليتبيّن المخلص من المنافق. {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} حُرِّكُوا حركة شديدة.(3/487)
قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) } .
عن قتادة قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} ، قال: قال ذلك أناس من المنافقين: قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا ها هنا حتى ما يستيطع أحدنا أن يبرز لحاجته، {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} .
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} ، قال البغوي: وهم: أوس بن قيظي وأصحابه: يا أهل يثرب - يعني: المدينة. قال أبو عبيدة: يثرب
اسم أرض، ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها. وفي بعض الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسمّى المدينة يثرب، وقال: «هي طابة» ، كأنه كره هذا اللفظ - لا مقام لكم فارجعوا إلى منازلكم، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة. قال ابن عباس قالوا: بيوتنا مخليّة نخشى عليها السرق. {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} .
وعن قتادة: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا} ، أي: لو دخل علهم من نواحي المدينة، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} ، أي: الشرك، {لَآتَوْهَا} ، يقول: لأعطوها، {وَمَا(3/488)
تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} ، يقول: إلا أعطوه طيّبة به أنفسهم ما يحتبسونه، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} ، قال: كان أناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة، والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالاً لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة. {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} وإنما الدنيا كلها قليل.
وقوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ} .
قال البغوي: يمنعكم من عذابه {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} .
قال ابن كثير: أي: ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
قوله عز وجل: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) } .
وعن قتادة: قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا آكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا(3/489)
هذا الرجل فإنه هالك. قال ابن إسحاق: حدّثنا يزيد بن رومان: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} ، أي: أهل النفاق، {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} أي: إلا دفعًا وتعذيرًا ... {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} ، أي: للضغن الذي في أنفسهم، {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ، أي: إعظامًا وفَرَقًا منه، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، قال قتادة: أما عند القسمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، أعطونا فإنا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق.
قال ابن كثير: أي: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلّة الخبر، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
ولهذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} ، قال البغوي: {يَحْسَبُونَ} ، يعني: هؤلاء المنافقين، {الأحْزَابَ} ، يعني: قريشًا، وغطفان، واليهود، {لَمْ يَذْهَبُوا} لم ينصرفوا عن قتالهم جبنًا وَفرَقًا، وقد انصرفوا، {وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ} ، أي: يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ} ، أي: يتمنّوا لو كانوا في بادية مع الأعراب من الخوف والجبن، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أخباركم وما آل إليه أمركم، {وَلَوْ كَانُوا} ، يعني: هؤلاء المنافقين {فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} تعذيرًا، أي: يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون: قد قاتلنا.
قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا(3/490)
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) } .
قال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان قال: ثم أقبل على المؤمنين فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ولا عن مكان هو به، ... {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ، يقول: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء.
وعن ابن عباس قوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، قال: ذلك أن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} ، قال: فلما مسّهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأوّل المؤمنون ذلك ولم يزدهم ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا.
وقال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، أي: فوالله بما عاهدوه عليه، {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ، أي: فزع من عمله ورجع إلى ربه، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد، {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه الصحابة {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} ، قال قتادة: يقول: ما شكّوا ما
تردّدوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، يقول: إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} .(3/491)
قوله عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) } .
عن قتادة: قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} ، وذلك يوم أبي سفيان والأحزاب، ردّ الله أبا سفيان وأصحابه بغيظهم، ... {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالجنود من عنده والريح التي بعث عليهم. وعن أبي سعيد الخدري قال: حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلاة فلم نصلّ الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد العشاء بهويّ كُفِينَا وأنزل الله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الصلاة وصلّى الظهر فأحسن صلاتها كما كان يصلّيها في وقتها، ثم صلى العصر كذلك، ثم صلى المغرب كذلك، ثم صلى العشاء كذلك، جعل لكل صلاة إقامة وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف، {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . رواه ابن جرير.
قال ابن كثير: ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مؤيدًا منصورًا، ووضع الناس السلاح. فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ تبدّى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرًا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال له: وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم» . قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة.(3/492)
وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: حصونهم، وهم: بنو قريظة، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} ، قال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان: ... {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} ، أي: قتل الرجال وسبي الذراري، والنساء، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ، قال ابن زيد في قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} ، قال: قريظة والنضير أهل الكتاب، {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} يومئذٍ قال: خبير. وقال الحسن: هي: الروم، وفارس، وما فتح الله عليهم.
وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادًا، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
* * *(3/493)
الدرس العشرون بعد المائتين
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ(3/494)
ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً
(36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) } .
* * *(3/495)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) } .
روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ... «إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} » إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله تعالى ورسوله والدار الآخرة؛ وفي رواية: (خيّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعدّها علينا شيئًا) .
وروى مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ببابه جلُوس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله نساؤه وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال: «هن حولي
يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلن: ولله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا المجلس ما(3/496)
ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها. الحديث.
قال قتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال: ... {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} فقصره الله عليهن. قال عكرمة: وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة: خمس من قُرَيش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وكانت تحته: صفية ابنة حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. وقال ابن زيد: فاخترن الله ورسوله، إلا امرأة واحدة جويرة ذهبت.
قوله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى واعظًا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقرارهنّ تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فناسب أن
يخبرهنّ بحكمهنّ وتخصيصهنّ دون سائر النساء، بأن من يأت منهنّ بفاحشة مبيّنة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو النشوز وسوء الخُلُق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فلما كانت محسانهنّ رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهنّ مغلّظًا، صيانة لجنابهنّ وحجابهنّ الرفيع، ولهذا قال تعالى: {مَن يَأْتِ(3/497)
مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} . قال مالك عن زيد بن أسلم: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ، قال: في الدنيا والآخرة، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} ، أي: سهلاً هيّنًا.
ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي: تطع الله ورسوله وتستجب، {نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} ، أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى علّيّن فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
قوله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) } .
قال البغوي: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} ، قال ابن عباس: يريد ليس قدركنّ عندي مثل قدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتنّ أكرم عليّ وثوابكنّ أعظم لديّ، {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الله أَطَعْتُنّه، {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} ، لا تُلِنَّ بالقول للرجال ولا ترقّقنّ الكلام، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، أي: فجور، وشهوة. والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقابلة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع معهم. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} يوجبه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، أي: إِلزَمْنَ بيوتكنّ فلا(3/498)
تخرجن لغير حاجة. وعن قتادة: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، أي: إذا خرجتنّ من بيوتكن؛ قال: كانت لهنّ مشية وتكسّر وتغنُّج، يعني بذلك: الجاهليّة الأولى فنهاهنّ الله عن ذلك. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، يقول: التي كانت قبل الإسلام؛ قال: وفي الإسلام جاهليّة. وقال مقاتل: والتبرّج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشدّه فيواري: قلائدها، وقرطها، وعنقها، ويبدوا ذلك كله منها وذلك التبرج، ثم عمّت نساء المؤمنين في التبرّج.
وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، قال قتادة: فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء وخصّهم برحمة منه.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل البيت ها هنا، لأنهنّ سبب نزول هذه الآية. وروى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها معه، ثم جَاءَ عليّ رضي الله عنه فأدخله معه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطيبًا بماء يدعى خمًّا، بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحثَّ على كتاب الله عز وجل(3/499)
ورغّب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي» ثلاثًا؛ فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال:
هم آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم. قال: كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة بعده؟ قال: نعم) رواه مسلم.
وعن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} ، أي: السنّة. قال: يَمْتَنُّ عليهن بذلك. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} .
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) } .
عن قتادة قال: (دخل نساءٌ على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلن: قد ذكركنّ الله في القرآن ولم نُذكر بشيء! أما فينا ما يُذكر؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} ) أي: المطيعين والمطيعات، {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} ، أي: الخائفين والخائفات، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم(3/500)
مَّغْفِرَةً} ، لذنوبهم، {وَأَجْراً عَظِيماً} في الجنة. وعن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله يُذكر الرجال ولا نُذكر! فنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية.
قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) } .
قال البغوي: نزلت في زينب بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيدًا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبنّاه، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنّت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ، يعني: عبد الله بن جحش، {وَلَا مُؤْمِنَةٍ} ، يعني: أخته زينب، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} ، أي: إذا أراد الله ورسوله أمرًا وهو: نكاح زينب لزيد، {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، قال: والخيرة الاختيار؛ والمعنى: أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به. قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي، ولا قول. كما قال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . وفي الحديث: «والذي نفسي(3/501)
بيده
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» ؛ ولهذا شدّد في خلاف ذلك فقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} ، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قوله عز وجل: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) } .
عن قتادة: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، قال: وكان يخفي في نفسه: ودّ أنه طلّقها. قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها، قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، ولو كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كاتمًا شيئًا من الوحي لكتمها،
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ، قال: خشي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مقالة الناس. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما: كان الله تعالى أعلم نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها قال: {اتَّقِ اللَّهَ وأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} قال الله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} .(3/502)
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها عليَّ» . فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، وأقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها فولّيتها ظهري ونكصت على عقبيّ وقلت: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن.
وروى البخاري وغيره أن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات) .
وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} .
قال البغوي: أي: حاجة من نكاحها، {زَوَّجْنَاكَهَا} وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول وعن قتادة قوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} ،
يقول: إذا طلقوهن؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبنّى زيد بن حارثة، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} .
قال البغوي: أي: كان قضاء الله ماضيًا وحكمه نافذًا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} .
قال ابن كثير: أي: فيما أحل الله له وأمره به من تزويج زينب التي طلقها(3/503)
زيد بن حارثة. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} ، أي: هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حَرج، وهذا رَدٌّ على مَنْ تَوَهَّم مِن المنافقين نقصًا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودَعيه، الذي كان قد تبناه. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ، أي: وكان أمره الذي يقدِّره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} .
قال البغوي: يعني: سنّة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله، ... {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} أي: لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} ، حافظًا لأعمال خلقه ومحاسبهم.
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، يعني: زيد بن حارثة , أي: ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ختم الله به النبوة. وعن ابن عباس: أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلاً، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلاَّ موضع هذه اللبنة، فإن موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . متفق عليه.
* * *(3/504)
الدرس الحادي والعشرون بعد المائتين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (50) تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ(3/505)
النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) } .
* * *(3/506)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) } .
عن ابن عباس في قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ، يقول: لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله. قال: {فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حال. فقال: ... {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، فإذا فعلتم ذلك صلّى عليكم هو وملائكته. قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} ، هذا تهييج إلى الذكر. أي: إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير
منه» . (والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد(3/507)
عند الملائكة) . حكاه البخاري عن أبي العالية. ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه؛ وقال غيره: (الصلاة من الله عز وجل الرحمة) ؛ وقد يقال: لا منافاة بين القولين. والله أعلم. انتهى.
وقال ابن زيد في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، قال: من الضلالة إلى الهدى. وعن قتادة قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، قال: تحيّة أهل الجنة: السلام {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} ، أي: الجنة.
قال ابن كثير: وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} الظاهر أن المراد - والله أعلم -: {تَحِيَّتُهُمْ} ، أي: من الله تعالى. {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، أي: يسلّم عليهم، كما قال عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} . قال: وقد يستدلّ لقول قتادة بقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) } .
عن قتادة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك بالبلاغ ... {وَمُبَشِّراً} بالجنة، {وَنَذِيراً} بالنار، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} إلى شهادة أن لا إله إلا الله، {بِإِذْنِهِ} . قال ابن جرير: بأمره، {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ، يقول: وضياء لخلقه، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ(3/508)
أَذَاهُمْ} ، قال قتادة: أي: اصبر على أذاهم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (49) } .
عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهذا في الرجل يتزوّج المرأة، ثم يطلّقها من قبل أن يمسّها، فإذا طلّقها واحدة بانت منه، ولا عدّة عليها تتزوج من شاءت، ثم قرأ: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} ، يقول: إن كان سمّى لها صداقًا، فليس لها إلا النصف، فإن لم يكن سمّى لها صداقًا، متّعها على قدر عسره ويسره، وهو: السراح الجميل؛ قال أكثر أهل العلم: إذا قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. ورُوي عن ابن مسعود: أنه يقع. وقال ابن عباس: كذبوا على ابن مسعود، إن كان قالها فزلّة من عالم؛ في الرجل يقول: إن تزوجت
فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل: إذا طلّقتموهن ثم نكحتموهنّ.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (50) تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن(3/509)
تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً (52) } .
عن مجاهد قوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، قال: صدقاتهنّ. وقال ابن زيد: كان كل امرأة آتاها مهرًا فقد أحلها الله له. وعن أم هانئ قالت: خطبني النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت له بعذري، ثم أنزل الله عليه: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله:
{اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، قالت: فلم أحلّ له، لم أهاجر معه كنت من الطلقاء.
وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
قال البغوي: وكان النكاح ينعقد في حقّه - صلى الله عليه وسلم - بمعنى الهبة، من غير وليّ ولا شهود ولا مهر، وكان ذلك من خصائصه في النكاح، لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه لا مشاركة لأحد معه فيه. وعن مجاهد قوله: ... {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك وأحلّ الله له خاصة من دون المؤمنين.
وعن قتادة في قول الله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ، قال: كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوّج امرأة إلا بوليّ وصداق عند شاهدي عدل، ولا(3/510)
يحل لهم من النساء إلا أربع وما ملكت أيمانهم. وقوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} .
قال البغوي: وهذا يرجع إلى أول الآية، أي: أحللنا لك أزواجك، وما ملكت يمينك، والموهوبة لك، {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وضيق، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وعن ابن عباس قوله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} ، يقول: تؤخّر. وقال مجاهد: تعزل بغير طلاق من أزواجك، {مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} ، قال: تردّها إليك. قال
قتادة: فجعله الله في حلّ من ذلك، أن يدع من يشاء منهنّ بغير قسم، وكان نبي الله يقسم، {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، قال: إذا علمن أن هذا جاء من الله كان أطيب لأنفسهن وأقلّ لحزنهنّ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} .
قال البغوي: من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} .
وعن ابن عباس قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئًا) . قال قتادة: وهنّ التسع اللاتي اخترن الله ورسوله. قال ابن جرير: ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى. وعن قتادة: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} ، أي: حفيظًا.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ(3/511)
فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) } .
عن مجاهد في قول الله: {إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ، قال: متحيِّنين نضجه. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: لمَّا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدَّثون فإذا هو كأنَّهُ يَتَهَيَّأُ للقيامِ فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام، فلمَّا قام، قام من قام وقعد ثلاثةُ نفر، فجاء النبِي - صلى الله عليه وسلم - لِيَدخُل فإذا القوم جلوسٌ ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} الآية.
وعن عمر بن الخطاب قال: قلت: (يا رسول الله لو حجبت عن أمهات المؤمنين، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب) . رواه ابن جرير وغيره.(3/512)
وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} ، قال: ربما
بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يقول: لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفى تزوّجت فلانة بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية.
وقوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} الآية.
قال ابن كثير: لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} . انتهى. قال بعض المفسرين: لِم لَمْ يذكر العم والخال؟ لأنهما يجريان مجرى الوالدين.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) } .
قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: {يُصَلُّونَ} : يركعون. وقال سفيان بن عيينة وغيره: صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار؛ وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} . وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل(3/513)
إبراهيم إنك حميد مجيد» . متفق عليه. واللفظ للبخاري. وعن أبي طلحة الأنصاري رضي اللَّهُ عنه أن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يومٍ وَالسُّرورُ يُرَى في وجهِهِ فقالوا: يا رسول اللَّهِ إنا لنرى السُّرورَ في وجهك! فقال: «إنهُ أتاني الملك فقال: يا محمد أما يُرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يُصلِّي عليك أحدٌ من أُمَّتك إلا صلَّيت عليهِ عشرًا، ولا يسلم عليك أحدٌ من أُمَّتك إلا سلَّمتُ عليه عَشرًا؟ - قال -: بلى» . رواه أحمد وغيره.
* * *(3/514)
الدرس الثاني والعشرون بعد المائتين
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (59) لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ(3/515)
ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (73) } .
* * *(3/516)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) } .
قال عكرمة: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، هم: أصحاب المقادير. وقال قتادة: سبحان الله ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول اللَّهُ عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر، أُقَلِّبُ ليله ونهاره» . وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[الله] ، الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أَحَبَّهُم فَبِحُبِّي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشَكَ أن يأخذه» . وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أيّ الربا أربى عند الله» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، - ثم قرأ -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً ... مُّبِيناً} » . قال قتادة: فإياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً(3/517)
رَّحِيماً (59) لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) } .
عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ، أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههنّ من فوق رؤوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة. وقال قتادة: أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب، {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} ، وقد كانت المملوكة إذا مرّت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر يتشبهن بالإماء.
وعن عكرمة في قوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} قال: هم الزناة. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} ، قال قتادة: الإرجاف: الكذب. وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدّه. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} ، أي: لنحملنّك عليهم، لنحرّشك بهم، {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} أي: بالمدنية، {مَلْعُونِينَ} على كل حال، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} إذا هم أظهروا النفاق {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} يقول: هكذا سنة الله فيهم إذا أذهبوا النفاق {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ ... تَبْدِيلاً} .
قوله عز وجل: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ
سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) } .(3/518)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك، وأرشده أنه يردّ علمها إلى الله عز وجل.
وقال البغوي: {وَمَا يُدْرِيكَ} ، أي: شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي: أنت لا تعرفه، {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُون، قَرِيبًا} .
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ} يا محمد {عَنِ السَّاعَةِ} متى هي قائمة؟ قل لهم: إنما علم الساعة عند الله لا يعلم وقت قيامها غيره، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} ، يقول: وما يشعرك يا محمد لعلّ قيام الساعة يكون منك قريبًا، قد قرب وقت قيامها ودنا حينُ مجيئها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} ، قال قتادة: أي: رؤوسنا في الشرّ والشرك، {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) } .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن موسى كان رَجُلًا حيِيًّا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يومًا وحده فخلع ثِيَابَهُ(3/519)
على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، - قال -: ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} » .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: أنت قتلته. كان ألين لنا منك، وأشدّ حياء،
فآذوه من ذلك، فأمر الله الملائكة فحملته فمرّوا به على مجالس بني إسرائيل فتكلّمت بموته.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قسمًا فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أُرِيدَ بها وجهُ الله فقلت: يا عدوّ الله أما لأخبرنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فاحمّر وجهه ثم قال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ، أي: عدلاً. قال قتادة: يعني به في منطقه وعمله كله. والسديد: الصدق. قال ابن عباس: مَنْ سَرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق الله.
قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (73) } .(3/520)
قال ابن عباس: الأمانة الفرائض التي افترضها الله على العباد. وقال الضحاك: عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ، قال: (فلما عُرضت على آدم قال: أيْ ربّ وما الأمانة؟ قال: قيل: إن أدّيتها جُزيت، وإن
ضيّعتها عوقبت، قال: أيْ ربّ حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية، فأُخرج منها) .
وعن الضحاك في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} ، قال: آدم، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ، قال: {ظَلُوماً} لنفسه، {جَهُولاً} فيما احتمل فيما بينه وبين ربه. وعن قتادة: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} هذان اللذان خاناها، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذان اللذان أدّياها، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانةٍ، وَصِدقُ حديثٍ، وَحسن خليقةٍ وعفةٌ طعمة» . رواه الإمام أحمد.
* * *(3/521)
الدرس الثالث والعشرون بعد المائتين
[سورة سبأ]
وآياتها أربع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9) } .(3/522)
قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، لأنه المنعم المتفضّل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، كما قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولهذا قال تعالى ها هنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ، أي: الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى} ؛ ثم قال عز وجل: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} ، فهو المعبود أبدًا، المحمود على طول المدى. وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} ، أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، {الْخَبِيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ(3/523)
الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) } .
قال ابن كثير: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهنّ، مما أمر الله تعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ، والثانية هذه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، فقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم وصفه بما يؤكّد ذلك ويقرّره، فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
قال مجاهد، وقتادة: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يغيب عنه. أي: الجميع متدرّج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم؛ ثم بين حكمته في إعادة الأبدان، وقيام الساعة بقوله
تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} ، أي: سعوا في الصدّ عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} ، أي: لينعم السعداء من المؤمنين ويعذّب الأشقياء من الكافرين، كما قال عز وجل: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ(3/524)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} .
وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} ، هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي: أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار، بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذٍ عين اليقين ويقولون يومئذٍ أيضًا: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، ويقال أيضًا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، {الْعَزِيزِ}
هو: المنيع الجناب الذي لا يغلب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء وغلبه، {الْحَمِيدِ} في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جلّ وعلا.
وقال البغوي: قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال قتادة: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ، يعني: القرآن، {هُوَ الْحَقَّ} ، يعني: أنه من عند الله، {وَيَهْدِي} ، يعني: القرآن، {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو: الإِسلام.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ(3/525)
وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9) } .
قال ابن كثير: هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيامَ الساعة، واستهزائهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في إخباره بذلك، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، أي: تفرّقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق {إِنَّكُمْ} أي: بعد هذا الحال {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، أي: تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحى إليه ذلك، أو أنه لم يتعمّد لكن
لَبَسَ عليه كما يَلْبِسُ على المعتوه والمجنون، ولهذا قالوا: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ قال الله عز وجل رادًّا عليهم: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} ، أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق البارّ الراشد الذي جاء بالحق، وهم: الكذبة الجهلة الأغنياء، {فِي الْعَذَابِ} ، أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، {وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} من الحق في الدنيا.
ثم قال منبهًا على قدرته في خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، أي: حيثما توجّهوا وذهبوا فالسماء مطلِّة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ... الْمَاهِدُونَ} . قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، قال: إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.(3/526)
وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخّر ذلك لحلمنا وعفونا؛ ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} قال معمر عن قتادة: منيب: تائب. وقال سفيان عن قتادة: المنيب: المقبل إلى الله تعالى. أي: أن في النظر إلى خلق السماوات والأرض لدلالة لكل
عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضيين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} .
وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
* * *(3/527)
الدرس الرابع والعشرون بعد المائتين
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } .(3/528)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) } .
عن ابن عباس قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} ، يقول: سبّحي معه.
قال ابن كثير: التأويب في اللغة هو: الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجّع معه بأصواتها. وعن قتادة: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} ، يسخّر له الحديد بغير نار، {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروع، وكان أول من صنعها داود، إنما كان قبل ذلك صفائح. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ، قال: كان يجعلها بغير نار ولا يقرعها بحديد ثم يسردها. والسرد: المسامير التي في الحِلَقِ. وعن مجاهد في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ، قال: لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فيفصم المسمار.
قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} قال: كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف
بيت تركب فيه الجنّ والإِنس، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب هم والعصار،(3/529)
فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وساروا معه؛ يَقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلّهم معه الجيوش والجنود. وقال الحسن: كان يغدو فيَقيل في إصطخر، ثم يروح منها فيكون رَواحها بكابل.
وعن ابن عباس قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} ، يعني: عين النحاس أُسليت. وقال قتادة: كانت بأرض اليمن.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} ، قال قتادة: أي: يعدل منهم عن أمرنا، عما أمره به سليمان، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} ، وقيل: إن الله عز وجل وكلّ بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته. قال الحسن: الجنّ: ولد إبليس، والإنس: ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون، ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنًا فهو وليّ الله تعالى، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرًا فهو شيطان.
وعن مجاهد في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ} قال: بنيان دون القصور، {وَتَمَاثِيلَ} ، قال: من نحاس، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} ، قال الحسن: كالحياض. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} ، قال قتادة: عظام ثابتات في الأرض لا يزُلن عن أمكنتهنّ.
وقال البغوي: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ} أي: المساجد والأبنية المرتفعة، {وَتَمَاثِيلَ} ، أي: صورًا من نحاس وصفر، وشبه، وزجاج، ورخام، قال: ولعلّها كانت مباحة في شريعتهم، كما أن عيسى كان يتّخذ صورًا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، {وَجِفَانٍ} ، أي: قصاع، واحدتها: جفنة، {كَالْجَوَابِ} : كالحياض التي يجبى فيها الماء، واحدتها: جابية، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ، ثابتات لها قوائم لا تحركن عن أماكنها لعظمهنّ، ولا يزلن ولا يقلعن، وكان يصعد(3/530)
عليها بالسلاليم. {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} ، أي: وقلنا: اعملوا آل داود شكرًا. مجازه: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرًا لله على نعمه.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، أي: العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي. انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) } .
عن ابن عباس قوله: {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} ، يقول: الأرض تأكل عصاه. وقال قتادة: كانت الجن تخبّر الإِنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، فابتُلوا بموت سليمان، فمات فلبث
سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته، وهم مسخّرون تلك السنة يعملون دائبين.
قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) } .
عن ابن عباس قال: إن رجلين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ، ما هو أرجل، أم امرأة، أم أرض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة. فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحِمْيَر. وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان» . رواه أحمد وغيره.(3/531)
وقال قتادة في قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ، قال: كانت جنتان بين جبلين، فكانت المرأة تخرج مكتلها على رأسها فتمشي بين جبلين فيمتلئ مكتلها وما مسّت يدها، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها: جرذ، فنقبت عليهم ففرّقتهم فما بقي لهم إلا أثل وشيء من سدر قليل. وقال المغيرة بن حكيم: لما ملكت بلقيس جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم، قال: فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها،
فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها وتركتهم، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعنّ أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني، وليست لكم عقول، ولا تطيعوني، قالوا: فإنا نطيعك، وإنا لم نجد فينا خيرًا بعدك، فجاءت قال: فسدّت ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبوابًا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدّة أنهارهم، فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففُتح فجرى ماؤه في البركة، وأمرت بالبعر فألقي فيها فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البعر في الماء حتى خرج جميعًا معًا، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأن سليمان وشأنها ما كان.
وقال البغوي: والعرم - جمع عرمة - وهي: المسكر الذي يحبس به الماء. قال قتادة: لما ترك القوم أمر الله بعث الله عليهم جرذًا يسمى: (الخلد) فنقبه من أسفله حتى غرّق به جنتيهم، وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم. وقال ابن عباس: أبدلهم الله مكان جنتهم {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ} ، والخمط: الأراك. قال قتادة: وأكله بريرة.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ؟ قال مقاتل: هل يكافأ بعمله السيِّئ إلا الكفور لله في نعمه؟(3/532)
قال ابن كثير: وقوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة، والمناظر الحسنة، والظلال العميقة، والأنهار الجارية، تبدّلت إلى شجر الأراك، والطرفاء، والسّدْر ذي الشوك الكثير، والثمر القليل، وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} .
قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } .
عن مجاهد: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، قال: الشام. وقال الحسن في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} ، قال: قرى متواصلة؛ كان أحدهم يغدو فيَقيل في قرية، ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. وعن مجاهد قوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} ، قال: السروات.
وقوله تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} .
قال البغوي: أي: قدّرنا مسيرهم في الغدوّ والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، {سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} ، قال قتادة: لا يخالفون ظلمًا ولا جوعًا، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} ، قال ابن عباس: فإنهم بطروا عيشهم وقالوا: لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي، كان أجدر أن نشتهيه، فمُزِّقوا بين الشام، وسبأ. وبُدّلوا بجنتيهم: {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} . عن قتادة: {فَجَعَلْنَاهُمْ(3/533)
أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، قال: قال عامر الشعبي: أما غسان: فقد لحقوا بالشام، وأما الأنصار: فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة: فلحقوا بتهامة، وأما الأزد: فلحقوا بعمان فمزّقهم الله كل ممزَّق؛ وقال الأعشي ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتي أسوة ... ومأرب عفا عليها العرم
رخام بَنَتْهُ لهم حِمْيَرٌ ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم
صاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم
وعن قتادة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، كان مطرف يقول: نِعْمَ العبد الصبّار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله تعالى له قضاء إلاَّ كان خيرًا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن» .
* * *(3/534)
الدرس الخامس والعشرون بعد المائتين
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ(3/535)
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ
كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } .
* * *(3/536)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) } .
عن مجاهد: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، قال: ظن ظنًا فاتّبعوا ظنّه. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، قال: أرأيت هؤلاء الذين كرّمتهم عليّ وفضّلتهم وشرّفتهم، لا تجد أكثرهم شاكرين، وكان ذلك ظنًا منه بغير علم، فقال الله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} ، قال الحسن: والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا سوط، إلاَّ أمانيّ وغرورًا دعاهم إليها. وعن قتادة قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ، قال: وإنما كان بلاء ليعلم الله الكافر من المؤمن.
قال البغوي: وأراد علم الوقوع والظهور، وقد كان معلومًا عنده بالغيب، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب.
قوله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } .
قال ابن كثير: بَيَّن تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: من(3/537)
الآلهة التي عبدت من دونه: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} ، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .
وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئًا استقلالاً ولا على سبيل الشركة، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي: وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه. قال قتادة في قوله عز وجل: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} من عون يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى، إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقال جلّ وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم، وأكرم شفيع عند الله تعالى - أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم، أن يأتي لفصل القضاء،
قال: «فأسجد لله تعالى، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعْطَه واشفع تشفع» الحديث بتمامه.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} . وهذا أيضًا مقام رفيع في العظمة، وهو: أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فيسمع أهل(3/538)
السماوات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قال ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم} أي: زال الفزع عنها. {قالوا ماذا قال ربكم} ؟ سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؟ ولهذا قال تعالى: {قَالُوا الْحَقّ} ، أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . وروى البغوي وغيره عن النواس بن سَمْعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة - أو قال: رعدة شديدة - خوفًا من الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمرّ جبريل على الملائكة، كلما مَرّ بسماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: {قال الحقّ وهو العلي الكبير} . قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله» . وروى البخاري وغيره
عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قضى الله تعالى الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
قوله عز وجل: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ(3/539)
الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) } .
عن قتادة: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، قال: قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد. وقال البغوي: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ؟ فالرزق من السماوات المطر، ومن الأرض النبات، {قل الله} ، أي: إن لم يقولوا: رازقنا الله، فقل أنت: إن رازقكم هو الله، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة
الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل للآخر: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وصاحبه كاذب.
وعن قتادة: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} ، أي: يقضي بيننا. وعن ابن عباس قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ، يقول: القاضي {قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء} .
قال البغوي: أي: أعلموني الذين ألحقتموهم به، أي: بالله، شركاء في العبادة معه هل يخلقون؟ وهل يرزقون؟ {كَلا} لا يخلقون ولا يرزقون، بَلْ هُوَ اللَّهُ {الْعَزِيزُ} الغالب على أمره، {الْحَكِيمُ} في تدبيره لخلقه؛ فأنى يكون له شريك في ملكه؟ وعن قتادة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، قال: أرسل الله محمدًا إلى العرب، والعجم، فأكرمُهم على الله أطوعُهم له. ذُكِر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس» .(3/540)
قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ
كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) } .
عن قتادة قوله: {لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، قال: قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه من الكتاب والأنبياء.
وقال ابن زيد في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} ، يقول: بل مكركم بنا في الليل والنهار أيها العظماء الرؤساء: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} ، قال ابن كثير: أي: نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهًا وأشياء من المحال تضلّونا بها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ، أي: الجميع من السادة والأتباع، كل ندم على ما سلف منه، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(3/541)
(35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى
إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } .
عن قتادة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} ، قال: هم: رؤوسهم وقادتهم في الشر.
وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ، قال: وهذا قول المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قالوا: لو لم يكن الله عنّا راضيًا لم يعطنا هذا، كما قال قارون: لولا أن الله رضي بي وبحالي ما أعطاني هذا. قال: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} ، قال قتادة: لا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، لكن الكافر قد يعطى المال ورما حُبس عن المؤمن. وعن سعيد بن جبير {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} قال: ما كان في غير إسراف ولا تقتير. وروى البغوي وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» .
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(3/542)
الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعًا ثم نقول للملائكة: أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا؟ فتتبرأ منهم الملائكة، قالوا سبحانك ربنا تنزيهًا لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} لا نتخذ وليًّا دونك، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} . قال البغوي: فإن قيل: هم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} ، قيل: أراد أن الشياطين زيّنوا لهم عبادة الملائكة، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة؛ فقوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: يطيعون الجن، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، يعني: مصدقون للشياطين.
ثم يقول الله: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً} بالشفاعة، ... {وَلَا ضَرّاً} بالعذاب، يريد أنهم عاجزون لا نفع عندهم ولا ضرّ. وقال ابن كثير: أي: لا يقع لكم نفع مما كنتم ترجون نفعه من الأنداد، والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم اليوم، لا يملكون لكم نفعًا ولا
ضرًا , {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا.
* * *(3/543)
الدرس السادس والعشرون بعد المائتين
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (54) } .
* * *(3/544)
قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) } .
عن قتادة: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: يقرؤونها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيًّا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم من القوة وغير ذلك، {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
قال البغوي: أي: إنكاري وتغييري عليهم، يحذّر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية.
قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن
ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } .(3/545)
عن قتادة قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} وتلك الواحدة: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} رجلاً ورجلين.
وقال ابن كثير: يقول تبارك وتعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} ، أي: إنما آمركم بواحدة وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} ، أي: تقوموا قيامًا خالصًا لله عزّ وجلّ من غير هوى ولا عصبيّة، فيسأل بعضكم بعضًا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ، أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكّر في ذلك؛ ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} .
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . روى الإمام أحمد من حديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوًا يأتيهم، فبعثوا رجلاً يتراءى لهم، فبينما هم كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم، أيها الناس أتيتم، ثلاث مرات» ؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني» .
وعن قتادة: قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} ، أي: جعل، {فَهُوَ لَكُمْ} ، يقول: لم أسألكم على الإِسلام جعلاً، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} بالوحي، {عَلامُ الْغُيُوبِ} ، قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} ، أي: بالوحي، {عَلامُ الْغُيُوبِ} ،(3/546)
كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، أي: يرسل الملك على من يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ، أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهب الباطل وزهق واضمحلّ، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، ولهذا لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسنّ قوسه ويقرأ: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} ، قال البغوي: وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له: إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} ، أي:
إثم ضلالتي على نفسي، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من القرآن والحكمة، {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} .
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (54) } .(3/547)
عن قتادة عن الحسن قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} ، قال: فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم. وقال قتادة: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} حين عاينوا عذاب الله. قال البغوي: وفي الآية حذف تقديره: لرأيت أمرًا تعتبر به.
وعن مجاهد: قوله: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} ، قالوا: آمنا بالله. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله: {آمَنَّا بِهِ} ، يعني: آمنا بالله وبكتابه ورسوله.
وعن ابن عباس: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} ، قال: يسألون الرَدّ وليس بحين رَدّ. وعن سعيد: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} ، قال: التناول. وعن مجاهد: قوله: {مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} من الآخرة إلى الدنيا. وعن قتادة: ... {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ} ، أي: بالإيمان في الدنيا.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ، أي: يرجمون بالظنّ يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار. وعن مجاهد في قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ، قال: قولهم: ساحر، بل هو كاهن، بل هو شاعر. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، قال: من مال أو ولد أو زهرة، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} ، قال البغوي: يعني: بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار، أي: لم يقبل منهم الإِيمان والتوبة في وقت اليأس، ... {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} من البعث ونزول العذاب بهم، {مُّرِيبٍ} موقع لهم الريبة والتهمة. قال قتادة: إياكم والشك والريبة، فإن من مات على شك بُعث عليه، ومن مات على يقين بُعث عليه.
* * *(3/548)
الدرس السابع والعشرون بعد المائتين
[سورة فاطر]
وآياتها خمس أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ(3/549)
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } .
* * *(3/550)
قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } .
قال ابن عباس: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: بديع السماوات والأرض؛ وقال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فَطَرتها، أي: بدأتها. {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة. {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، قال السدي: يزيد في أجنحتهم ما يشاء؛ وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستّمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب. وعن قتادة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} ، أي: من خير، {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} فلا يستطيع أحد حبسها، {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِن يُكَذِّبُوكَ(3/551)
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) } .
عن قتادة: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} ، يعزي نبيّه كما تسمعون. وعن ابن عباس في قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، يقول: الشيطان. وعن قتادة قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فإنه حقّ على كل مسلم عداوته، وعداوته أن يعاديه بطاعة الله، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} وحزبه أولياؤه، {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، أي: ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته.
وقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، قال الحسن: الشيطان زيّن لهم. {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، أي: لا يحزنك ذلك عليهم، {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} . وقال
ابن كثير: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، يعني: الكفار والفجّار يعملون أعمالاً سيّئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضلّه الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، ... {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} ، أي: بقَدَرِه كان ذلك، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يُضلّ ويَهدي من يَهدي، لما له في ذلك من الحجّة البالغة والعلم التام، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .(3/552)
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن
دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } .
عن قتادة: قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} ، قال: يرسل الرياح فتسوق السحاب، فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك يبعثه يوم القيامة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ، يقول: فليعزز بطاعة الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، مَنْ قال وأحسن العمل قَبِلَ الله منه. وعن ... عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهنّ ملك فجعلهنّ تحت جناحيه ثم صعد بهنّ إلى السماء، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهنّ، حتى يجيء(3/553)
بهن وجهَ الرحمن، ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . رواه ابن جرير.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: والذين يكسبون السيّئات لهم عذاب جهنم.
وقوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، يقول: وعمل هؤلاء المشركين يبور، فيبطل فيذهب لأنه لم يكن لله فلم ينفع عامله.
وعن قتادة: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} يعني: آدم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يعني: ذرّيّته، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} فزوّج بعضكم بعضًا. وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} ، قال: ألا ترى الإِنسان يعيش مائة سنة، وآخر حين يولد؟
وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال قتادة: والأُجاج: المرّ {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} أي: منهما جمعيًا، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هذا اللؤلؤ {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} فيه السفن مقبلة ومدبرة بريح واحدة؛ قيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر الأُجاج عيون عذبة، فيكون اللؤلؤ من بين ذلك.
وعن قتادة: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} زيادة هذا في نقصان هذا، ونقصان هذا في زيادة هذا. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} لأجل معلوم وحدّ لا يقصر دونه ولا يتعدّاه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} .(3/554)
قال ابن جرير: وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، يقول: الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم - أيها الناس - الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله ربكم.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ} ، يقول تعالى ذكره: له الملك التامّ الذي لا شيء إلا وهو في ملكه وسلطانه.
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون - أيها الناس - من دون ربكم - الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات صفته - {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، يقول: ما يملكون قشر نواة فما فوقها. وعن قتادة: قوله: {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ، أي: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} إياهم ولا يرضون ولا يقرّون به. {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة. انتهى.
وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ(3/555)
سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} .
* * *(3/556)
الدرس الثامن والعشرون بعد المائتين
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ(3/557)
إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) } .
* * *(3/558)
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) } .
عن ابن عباس: قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، يقول: يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا. وعن قتادة: قوله: {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} ، أي: من يعمل صالحًا فإنما يعمله لنفسه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} ، قال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله، فالمؤمن بصير في دين الله، والكافر أعمى، كما لا
يستوي الظلّ ولا الحرور، ولا الأحياء ولا الأموات. وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية، يقول: وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات، فهو مثل(3/559)
أهل المعصية، ولا يستوي البصير ولا النور، ولا الظلّ والأحياء، فهو مثل أهل الطاعة. وعن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع. وقال البغوي: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ} حتى يتّعظ ويجيب، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور} ، يعني: الكفار شبّههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا، {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} ما أنت إلا منذر تخوّفهم بالنار.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} ما من أمة فيما مضى، {إِلَّا خلَا} سلف، {فِيهَا نَذِيرٌ} نبيّ منذر، {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} بالكتب، ... {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضح؛ كرّر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: إنكاري. وقال ابن كثير: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ومع هذا كله كذّب أولئك رسلهم فيما جاؤوهم به، فأخذتهم، أي: بالعقاب والنكال، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: فيكف رأيت إنكاري عليهم عظيمًا شديدًا بليغًا. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } .
عن قتادة في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أحمر، وأخضر، وأصفر. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} ، أي: طرائق بيض، {وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} ، أي: جبال حمر وبيض، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} هو: الأسود. يعني: لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس، والدواب، والأنعام كذلك.(3/560)
وعن ابن عباس: قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير. وقال قتادة: كان يقال: كفى بالرهبة علمًا. وقال ابن مسعود: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال سعيد ابن جبير: الخشية: هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال ابن عباس: العالم بالرحمن من عباده، من لم يشرك به شيئًا، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، وحفظ وصيّته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } .
عن قتادة قال: كان مطرف إذا مرّ بهذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} ، يقول: هذه آية القرّاء {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} . وعن قتادة: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} إنه غفور لذنوبهم، شكور لحسناتهم.
قوله عز وجل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) } .
عن قتادة: قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الكتب التي خلت قبله.(3/561)
وعن ابن عباس: قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} إلى قوله: {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} هم: أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورّثهم الله كل كتاب أنزله. وقال ابن
مسعود: (هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام، حتى يقول: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخِلوا هؤلاء في سعة رحمتي؛ وتلا عبد الله هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ) . وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن فذلك قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . رواه ابن جرير وغيره. قال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمَعاد.
وعن قتادة: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} ، أقاموا فلا يتحولون، {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} ، أي: وجع، {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} ، قال ابن عباس: اللغوب: العناء.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) } .
عن قتادة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بالموت {فَيَمُوتُوا} لأنهم لو ماتوا لاستراحوا {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} . وروى ابن(3/562)
جرير وغيره عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكن ناسًا - أو كما قال - تصيبهم النار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم - فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحمًا أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثّوا على أهل الجنة فقال: يا أهل الجنة: أفيضوا عليهم، فيَنبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» . فقال رجل من القوم: حينئذٍ كأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان بالبادية.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} ، أي: يصيحون فيها يقولون: ... {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيقول الله لهم توبيخًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ، قال ابن عباس: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة. قال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْذَرَ الله عز وجل إلى امرئ أخّر عمره حتى بلغ ستّين سنة» . رواه البخاري وغيره، وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجّة، فنعوذ بالله أن نعيِّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} وإنّ فيهم لابن ثماني
عشرة سنة. وقال ابن زيد في قوله: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ، قال: النذير: النبيّ، وقرأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ، أي: ذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدّة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم.
* * *(3/563)
الدرس التاسع والعشرون بعد المائتين
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) } .
* * *(3/564)
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى بعلم غيب السماوات والأرض، وأنه يعلم ما تكنّه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازَى كلّ بعمله؛ ثم قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ} ، أي: يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ، أي: فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} ، أي: كلّما استمرّوا على كفرهم أبغضهم الله تعالى، وكلّما استمرّوا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وأحبه خالقه.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: من الأصنام والأنداد، ... {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} ، أي: ألهم شيء من ذلك؟ ما(3/565)
يملكون من قطمير. وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} ، أي: أم أنزلنا عليهم كتابًا بما يقولونه من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} ، أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور، وباطل، وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عند أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} ، أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال عز وجل: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} ؛ {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، أي: لا يقدر على قوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} . قال: وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل
النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) } .(3/566)
قال البغوي: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، وأقسموا بالله وقالوا: لو أتانا رسول الله لنكونن أهدى دينًا منهم، وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بُعث محمد كذبوه فأنزل الله عز وجل {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} رسول، {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ، يعني: من اليهود والنصارى {وَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، {مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} ، أي: ما زادهم مجيئه إلاَّ تباعدًا عن الهدى. {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} نَصَبَ (استكباراً) على البدل من (النفور) . {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} ، يعني: العمل القبيح، أضيف المكر إلى صفته؛ قال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} ، أي: لا يحل ولا يحيط المكر
السيئ، {إِلا بِأَهْلِهِ} فقتلوا يوم بدر. وقال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك. والمعنى: إن وبال مكرهم راجع عليهم، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار؟ قال ابن كثير: وقال محمد بن كعب القُرَظِي: ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من: مكر، أو بغي، أو نكث. وتصديقها في كتاب الله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} . {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} .
وقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} قال بعضهم: والتبديل: تغيير الصورة مع بقاء المادة، والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} ، يعني: عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} ، أي: لا تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل مكذب، {وَلَنْ تَجِدَ(3/567)
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} ، أي: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) } .
عن قتادة: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يخبركم: أنه أعطى القوم ما لم يعطكم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} . قال البغوي: أي: ليفوت عنه {مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} من الجرائم، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} ، يعني: على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور، {مِنْ دَابَّةٍ} كما كان في زمان نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض إلا من كان في سفينة نوح.
{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل طاعته وأهل معصيته. وقال ابن كثير: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذٍ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، ولهذا قال تبارك تعالى: ... {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} .
* * *(3/568)
الدرس الثلاثون بعد المائتين
[سورة يس]
مكية وهي ثلاث وثمانون آية
... روى البزار وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس» . وعن جُنْدَب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عز وجل، غفر له» . رواه ابن حبان في صحيحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً(3/569)
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا
مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) } .
* * *(3/570)
{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ ... نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } .
عن قتادة: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قَسَمٌ، كما تسمعون، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على الإسلام {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، قال البغوي: قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: (تنزيل) بنصب اللام كأنه قال: نزل تنزيلاً. وقرأ الآخرون: بالرفع، أي: هو تنزيل العزيز الرحيم.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يعني بهم: العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدم
ذكر الآيات والأحاديث المتواترة الدالة على عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - عند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .(3/571)
وقال البغوي: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ، وجب العذاب، {عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، هذا كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وعن قتادة: قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} ، أي: فهم مضلّلون عن كل خير، {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} ، قال: ضلالات، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} هدى ولا ينتفعون به. وعن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزلت: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ} إلى ... {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} قال: فكانوا يقولون: هذا محمد فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
وقوله تعالى: {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} ، قال قتادة: واتباع الذكر: اتباع القرآن. وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ، قال قتادة: مِنْ عَمَلٍ. وعن مجاهد: {مَا قَدَّمُوا} أعمالهم وآثارهم، قال: خُطاهم بأرجلهم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قُرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا بني سلمة دِياركم تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» . رواه مسلم وغيره. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرُها وأجْرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجُورِهم شَيءٌ ومن سن في الإسلام سُنة سَيِّئة كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ من عَمِل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ» . وعن قتادة قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} محصى عند الله في كتاب.(3/572)
قوله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) } .
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه قال: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له أبطيحس، يعبد الأصنام صاحب شرك، فبعث الله المرسلين وهم ثلاثة: صادق، ومصدوق، وسلوم. فقدم إليه وإلى أهل مدينته اثنان فكذبوهما ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وصدعت بالذي أمرت به وعابت دينه وما هم عليه، قال لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قالت لهم الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: أعمالكم معكم. وعن قتادة: {أَئِن ذُكِّرْتُم} ، أي: إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا؟ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} .
قوله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) } .(3/573)
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وهو حبيب النجار. وقال السدي: كان قصّارًا. وقال وهب: كان رجلاً يعمل الحرير، وكان سقيمًا قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنًا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفًا لعياله، ويتصدّق بنصفه، فلما بلغه أن قومه قد قصدوا قتل المرسلين جاءهم، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، قال قتادة: كان حبيب في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال
لهم: تسألون على هذا أجرًا؟ قالوا: لا. فأقبل على قومه: فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ} فلما قال ذلك قالوا له: وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟ .
وقال ابن إسحاق فيما بلغه: ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ؟ ثم عابها، فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} وشدة، {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي كفرتم به، ... {فَاسْمَعُونِ} ، قال: فوثبوا وثبة رجل واحد فقتلوه، واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ، قال ابن مسعود: قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًّا يرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونَصَبَها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ، قال قتادة: فلا تلقى المؤمن إلا ناصحًا ولا تلقاه غاشًّا.
قوله عز وجل: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى(3/574)
الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (30) أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) } .
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن مسعود قال: غضب الله له - يعني لهذا المؤمن لاستضعافه إياه - غضبة لم تُبْقِ من القوم شيئًا، فعجَّل لهم النقمة بما استحلوا منه، وقال: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} ، يقول: ما كاثرناهم بالجموع، أي: الأمر أيسر علينا من ذلك، {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية.
وعن قتادة: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ، أي: يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضيعت من أمر الله وفرطّت في جنب الله، {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} ، قال مجاهد: كانت حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل. وعن قتادة: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ، قال: عاد، وثمود، وقارون، وقرون بين ذلك كثيرًا، {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، أي: يوم القيامة.
* * *(3/575)
الدرس الواحد والثلاثون بعد المائتين
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) } .
* * *(3/576)
قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) } .
يقول تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ} ، أي: دلالة واضحة على وحدانية الله تعالى وقدرته التامّة وإحيائه الموتى، {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} يعني: الحنطة وغيرها، {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين {مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ} أي: من ثمر المذكور {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: لم تعمل الثمر. وقال في جامع البيان: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: الثمر لم تعمله أيدي الناس، بل خَلْقُ الله، ولهذا قال: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ؟ وعن بعض: أن (ما) موصولة، عطف على ثمره، والمراد ما يُتّخذ منه كالدبس. ... {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} الأنواع {كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} الذكر والأنثى، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} من مخلوقات شتّى.
قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي
لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) } .(3/577)
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} ، قال البغوي: وذلك أن الأصل هي الظلمة، والنهار دخلٌ، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة. وعن قتادة قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} ، قال: وقت واحد لا تعدوه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عند غروب الشمس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: ... {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا * ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} » . رواه البخاري وغيره. وفي رواية أحمد: «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى مطلعها، وذلك مستقرها، - ثم قرأ -: ... {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} » . وفي رواية البغوي: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يُقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} » .
قال ابن جرير: وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لمستقرٍّ لها، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه العليم بمصالح خلقه وغير ذلك من الأشياء كلها، لا تخفى عليه خافية.
وعن الحسن في قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال: كعذق النخلة إذا قدم فانحنى.(3/578)
وقال ابن كثير: ثم قال جل وعلا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، أي: جعلناه يسير سيرًا آخر يُستدلّ به على مضيّ الشهور، كما أن الشمس يُعرف بها الليل والنهار، كما قال عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ * مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
وقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} ، قال مجاهد: لكل منهما حدّ لا يعدوه ولا يقصّر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا. {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} قال الضحاك: لا يذهب الليل من ها هنا حتى يجيء النهار من ها هنا. ... {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، قال ابن عباس: يجرون في فَلَكَةٍ كَفَلَكَةِ المغزل. وقال مجاهد: الفَلَكُ كحديدة الرَّحى، أو كفلكة المغزل لا يدور المغزل إلا بها، ولا تدور إلا به.
قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) } .
قال البغوي: والمراد بالذرية: الآباء، والأجداد. واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد. {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، أي: المملوء، وأراد سفينة نوح، وهؤلاء من نسل من حُمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تدرون ما: {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ؟ قلنا: لا، قال: هي(3/579)
السفن جُعلت لهم من بعد سفينة نوح على مثلها. وقال السدي: ألا ترى أنه قال: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ} ؟ قال قتادة: أي: لا مغيث لهم، {إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} ، أي: إلى الموت.
قال البغوي: يعني: إلا أن يرحمهم ويمتّعهم على حين آجالهم.
قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) } .
قال البغوي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} ، قال ابن عباس: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني: الآخرة فاعملوا لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني: الدنيا فاحذروها، ولا تغترّوا بها. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم {وَمَا خَلْفَكُمْ} عذاب الآخرة، وهو قول قتادة، ومقاتل. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عن دليله ما بعده. {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} أي: دلالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أعطاكم الله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} أنرزق {مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ؟ وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: {أَنُطْعِمُ} أنرزق {مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا إنما يتمسّك به البخلاء يقولون: لا نعطي من حرمه الله؛ وهذا الذي يزعمون باطل لأن(3/580)
الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بُخْلاً، وأمر الغنيّ بالإنفاق لا حاجةً إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما أمر وفرض له في مال الغنيّ، ولا اعتراض على مشيئة الله وحكمه في خلقه، {إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ،
يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطأ بيّن في اتباعكم محمدًا وترك ما نحن عليه. انتهى. والله أعلم.
* * *(3/581)
الدرس الثاني والثلاثون بعد المائتين
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ(3/582)
الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } .
* * *(3/583)
قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) } .
قال البغوي: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، أي: القيامة، والبعث. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ} ، أي: ينتظرون {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى، {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ، يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق. قال: ورُوينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويناه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يَطْعَمُها» . وعن قتادة: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} ، أي: فيما في أيديهم، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} قال: أعلجوا عن ذلك.
قوله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) } .
قال البغوي: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة.(3/584)
وعن قتادة: {فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: القبور. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} ، يقول: يخرجون، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ، قال: هذا قول أهل الضلالة والرقدة ما بين النفختين، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، قال: أهل الهدى، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . قال البغوي: وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها، صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا.
وقوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، يعني: النفخة الأخيرة {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قوله عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) } .
عن ابن عباس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ، قال: افتضاض الأبكار، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} ، قال: هي السُّرُر في الحِجال، {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} ، قال
البغوي: يتمنون ويشتهون. {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، أي: يسلم الله عليهم {قَوْلاً} ، أي: يقول الله لهم قولاً. ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .(3/585)
قوله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) } .
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم القيامة، أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، ثم يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية، إلى قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فيتميز الناس ويجثون، وهي قول الله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} » الآية. رواه ابن جرير. وقوله
تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي: ألم آمركم يا بني آدم: {أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، أي: لا تطيعوا الشيطان في معصية الله؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة {وَأَنْ اعْبُدُونِي} أطيعوني ووحّدوني {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} . {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} أي: خلقًا كثيرًا، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس؟ ويقال لهم لما دنوا من النار: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا، {اصْلَوْهَا} : ادخلوها {الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل بقولهم: ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم. انتهى.(3/586)
وروى مسلم وغيره في حديث أبي هريرة (الطويل) : «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيّك وبكتابك، وصمت وصلّيت وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدًا؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط الله تعالى عليه» .
قوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا
مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) } .
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} ، أي: الطريق، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ، يقول: لو شئنا لتركناهم عميًا يتردّدون، {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لأقعدناهم على أرجلهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، يعني: الهرم، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} . قال البغوي: فيعتبروا، ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الناس يقدر على البعث بعد الموت. وعن قتادة قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ، قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: (كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال أبو بكر: أنه ليس(3/587)
هكذا، فقال نبي الله: «إني والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي» ، والبيت المشار إليه قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} قال البغوي {إِنْ هُوَ} . يعني: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة، {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} في: الفرائض،
والحدود، والأحكام. {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} ، يعني: مؤمنًا حي القلب لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} وتجب حجة العذاب، {عَلَى الْكَافِرِينَ} ، قال ابن كثير: أي: هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) } .
قال البغوي: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون، أي: لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم،(3/588)
وهي قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} سخرناها لهم {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} ، أي: ما يركبون وهي الإبل، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحمانها. {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ، أي: من أصوافها وأوبارها ونسلها وَمَشَارِب من ألبانها، {أَفَلا يَشْكُرُونَ} رب هذه النعم؟ وقال ابن جرير يقول: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمتي هذه وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية لي والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام؟
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} . قال ابن كثير: يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.
قال الله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
وقوله تبارك وتعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، قال مجاهد: يعني: عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة، محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، يعني: الآلهة، {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم شرًا.
وقوله تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} ، أي: تكذيبهم لك وكفرهم بالله، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وسنجازيهم على أعمالهم.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ(3/589)
الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } .
قال مجاهد وغيره: جاء أبيّ بن خلف - لعنه الله - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم. يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ، ونزلت هذه الآيات من آخر سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخرهن.
وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} ، قال البغوي: جدل بالباطل بين الخصومة، يعني: إنه مخلوق من نطفة، ثم يخاصم. فكيف لا يتفكر في بدوّ خلقه حتى يدع الخصومة! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} بدء أمره {قالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بالية؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} . قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ. والأخرى: العفار، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل؛ تقول
العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ، أي: تقدحون، وتوقدون النار من ذلك الشجر. ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} ، أي: قل: بلى، هو قادر على ذلك، {وَهُوَ الْخَلاقُ} يخلق(3/590)
خلقًا بعد خلق، {الْعَلِيم} بجميع ما خلق. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك، {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (قُمت مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ السبعَ الطوال في سبع ركعاتٍ وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع اللَّهُ لمن حمده - ثم قال -: الحمد لله ذي الملكوتِ والجبروتِ، والكبرياءِ والعظمة» ؛ وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكَسِرُ رجلاي) . رواه أحمد. وفي حديث عوف بن مالك عند أبي داود: (ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: «سبحان ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة» ؛ ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك) . وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأوا على موتاكم سورة يس» . رواه البغوي وغيره. والله أعلم.
* * *(3/591)
الدرس الثالث والثلاثون بعد المائتين
[سورة الصافات]
مكية، وهي مائة وثمانون آية
... عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات) . رواه النسائي.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا(3/592)
لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ(3/593)
الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) } .
* * *(3/594)
قوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) } .
عن قتادة: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} ، قال: قسم، أقسم الله بخلق ثم خلق {وَالصَّافَّاتِ} الملائكة صفوفًا في السماء. وعن مجاهد في قوله: ... {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} ، قال: الملائكة، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} ، قال: الملائكة. وعن قتادة: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} وقع القسم على هذا، {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} . {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} قال: مشارق الشمس في الشتاء والصيف.
قوله عز وجل: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) } .
عن قتادة قوله: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، قال: مُنِعُوهَا، {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} قذفًا، قذفًا بالشهب، {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي: دائم، {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} من نار، وثقوبه: ضوءه. قال ابن عباس: لا يقتلون بشهاب ولا يموتون، ولكنهم تحرقهم من غير قتل وتخلل وتجرح.
قوله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً(3/595)
يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) } .
قال ابن جرير: {فَاسْتَفْتِهِمْ} ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: فاستفت يا محمد هؤلاء المشركين الذين ينكرون البعث بعد الممات، والنشور بعد البلاء، يقول: فسلهم: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} ، يقول: أخلقهم أشدّ خلقًا أم من عددنا خلقه من: الملائكة، والشياطين، والسماوات والأرض؟ وعن ابن عباس قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} ، قال: هو الطين الحر الجيد اللزق.
وعن قتادة: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} ، قال: عجب محمد عليه السلام من هذا القرآن حين أعطيه وسخر منه أهل الضلالة. {وَإِذَا ذُكِّرُوا
لَا يَذْكُرُونَ} أي: لا ينتفعون ولا يبصرون {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} يسخرون منها ويستهزئون. {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} تكذيبًا بالبعث، {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي: صاغرون، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} قال السدي: هي النفخة {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} ، قال قتادة: يدين الله فيه العباد بأعمالهم، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، يعني: يوم القيامة.
وعن ابن عباس قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني: أتباعهم ومن اتبعهم من الظلمة، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال قتادة:(3/596)
الأصنام {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} قال ابن عباس يقول: وجهوهم. وقال ابن مسعود: وليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئًا إلا وهو مرفوع له يتبعه، قال: فيلقى اليهود فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيرًا؟ فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب، ثم قرأ: {إنا عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ، قال: ثم يلقى النصارى فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: المسيح، فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئًا، ثم قرأ عبد الله: ... {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} .
وعن قتادة قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} لا والله لا يتناصرون، ولا يدفع بعضهم عن بعض، {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} في عذاب الله.
قوله عز وجل: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) } .
عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، يقولون: كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء. وقال مجاهد: يعني: عن الحق، والكفار تقوله للشياطين، {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، قال ابن كثير: تقول القادة من الجن والإنس للأتباع: ما الأمر كما تزعمون؟ بل كانت قلوبكم منكرة(3/597)
للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة على صحة ما دعوناكم إليه.
{بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ، يقول الكبراء للمستضعفين: حقت علينا كلمة الله إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة، {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} ، أي: دعوناكم إلى
الضلالة، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ، أي: فدعوناكم إلى ما نحن فيه، فاستجبتم لنا؛ قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ، أي: الجميع في النار، كل بحسبه، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا} ، أي: في الدنيا، {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} ، أي: أن يقولوها، كما يقولها المؤمنون. وعن قتادة: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} ، يعنون: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {بَلْ جَاء بِالْحَقِّ} بالقرآن، ... {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ، أي: صدق من كان قبله من المرسلين. قال البغوي: أي: أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله.
قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخاطبًا للناس: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، كما قال(3/598)
تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وعن قتادة: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال: هذه ثنية الله، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} في الجنة، {فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ} ، قال قتادة: كأس من خمر جارية، والمعين هي: الجارية، {بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ} ، قال مجاهد: وجع بطن. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} ، قال قتادة: يقول: ليس فيها وجع بطن، ولا صداع رأس. وقال السدي: لا تنزف عقولهم.
وعن قتادة: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ، قال: قصر طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم. وعن السدي في قوله: {عِينٌ} ، قال: عظام الأعين، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} ، قال: البيض حين يقشّر قبل أن تمسّه الأيدي.
قوله عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) } .
عن قتادة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} ، قال: أهل الجنة. وعن ابن عباس قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} ، قال: هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان فيقول له المشرك: إنك لتصدّق بأنك مبعوث من بعد الموت {أَئِذَا كُنَّا(3/599)
تُرَاباً} ؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمن الجنة، وأدخل المشرك النار.
{فَاطَّلَعَ} المؤمن فرأى صاحبه {فِي سَوَاء الْجَحِيمِ} وسطها {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال قتادة: أي: في عذاب الله، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} . قال ابن كثير: هذا من كلام المؤمن، مغتبطًا بما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب. ولهذا قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وعن قتادة: قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، قال: هذا قول أهل الجنة.
قوله عز وجل: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {لِمِثْلِ هَذَا} الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين من الكرامة في الآخرة، {فَلْيَعْمَلْ} في الدنيا لأنفسهم ... {الْعَامِلُونَ} ليدركوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربهم.
وعن قتادة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ؟ حتى بلغ: {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} ، قال: لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلمة فقالوا: ينبّئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجرة، فأنزل الله ما تسمعون: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي(3/600)
أَصْلِ الْجَحِيمِ} ، غُذّيت بالنار ومنها خُلقت، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} شبّهه بذلك، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} ، قال ابن عباس: يعني: شرب الحميم على الزقوم، وقال السدي: الشوب: الخلط. وهو: المزج.
وعن قتادة: قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} فهم في عناء وعذاب من نار جهنم وتلا هذه الآية: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} . [وقوله] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ، قال مجاهد: أي: يسرعون إسراعًا في ذلك.
* * *(3/601)
الدرس الرابع والثلاثون بعد المائتين
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
(103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى(3/602)
إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } .
* * *(3/603)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) } .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} ، أي: من الأمم الخالية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} الكافرين أي: كان عاقبتهم العذاب، {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال السدي: الذين استخلصهم الله. قال ابن جرير: واستثنى عباد الله من المنذرين لأن معنى الكلام: فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المؤمنين، فلذلك حسن استثناؤهم منهم.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) } .
عن قتادة: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} قال: أجابه الله. وعن السدي: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال: من الغرق. وعن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} ، قال: «سام، وحام، ويافث» . قال قتادة: فالناس كلهم من ذرية نوح.
وعن ابن عباس قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، يقول: يُذْكَرُ بخير، {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ(3/604)
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين. وعن قتادة: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، قال: أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقيّة قومه.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) } .
عن ابن عباس: قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} ، يقول من أهل دينه. وقال مجاهد: على منهاجه وسنّته. وعن قتادة: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} واللهِ من الشرك، {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال ابن كثير: أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا
ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال قتادة: يعني: ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟
وقال البغوي: وقوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجّة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم(3/605)
الفراش، ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه، فقالوا لإبراهيم: ألا تخرج غدًا معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى النجوم فقال: إني سقيم. قال ابن عباس: مطعون، وكانوا يفرّون من الطاعون فرارًا عظيمًا. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} إلى عيدهم، فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها، كما قال الله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} مال إليها ميلة في خفية فقال استهزاء بها: {أَلا تَأْكُلُونَ} ، يعني: الطعام الذي بين أيديكم، {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ، أي: كان يضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى على العمل من الشمال، {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يسرعون، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه.
قال لهم إبراهيم على وجه الحجاج: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بأيديكم من الأصنام، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} ، قال مقاتل: بنوا له حائطًا من الحجر طوله في
السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملأوه من الحطب، وأوقدوا فيه النار فطرحوه فيها. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} شرًّا، وهو: أن يحرقوه، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} ، أي: المقهورين حيث سلَّم الله تعالى إبراهيم وردّ كيدهم. انتهى ملخصًا.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: اثنتين في ذات الله تعالى قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله في سارة: هي أختي» . متفق عليه.
قوله عز وجل: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ(3/606)
عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أنه بعدما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} ، يعني: أولادًا مطيعين يكونون عوضًا من قومه وعشريته الذين فارقهم، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} وهذا الغلام هو: إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بُشّر به إبراهيم، وهو أكبر من إسحاق، باتفاق المسلمين، وأهل الكتاب.
وعن ابن عباس: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} لما شبّ حتى بلغ سعيه، سعى إبراهيم. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع، أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكّة؟ إنما كان إسماعيل بمكّة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه. وقال ابن إسحاق وغيره: فلما أُمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أُمر {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} انقاد وخضعا لأمر الله تعالى. قال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، قال ابن عباس: أضجعه على جبينه على الأرض. وعن قتادة: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، أي: وكبّه لِفِيه وأخذ
الشفرة {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} حتى بلغ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .(3/607)
وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، قال ابن كثير: أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} ، أي: الاختبار الواضح الجليّ حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، قال مجاهد: سمّاه عظيمًا لأنه متقبَّل. قال ابن عباس: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم. وقال ابن زيد في قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، قال: سأل إبراهيم فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، قال: فترك الله عليه الثناء الحسن في الآخِرين، كما ترك اللسان السوء على فرعون وأشباهه، كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء.
{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} . قال ابن كثير: لما تقدّمت البشارة بالذبيح وهو: إسماعيل. عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق، وقد ذكرت في سورتي هود، والحجر. وقوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} ، كقوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .(3/608)
الدرس الخامس والثلاثون بعد المائتين
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ
(145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) } .
* * *(3/609)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) } .
وعن قتادة: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي: من آل فرعون، {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} : التوراة، {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : الإسلام.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) } .
عن مجاهد في قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} ، قال: ربًّا. وقال ابن زيد: بعل صنم كانوا يعبدونه، كانوا ببعلبك وهم وراء دمشق وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: أن الله قبض
حِزْقيل، وعظمت في بني إسرائيل أحداث، ونُسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران(3/610)
نبيًّا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نُسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل، يقال له: أحاب، وكان اسم امرأته: أربل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يعبدونه من دون الله يقال له: بعل. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله.
يقول الله لمحمد: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ} فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرّقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك - الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره ويراه على هدى من بين أصحابه - يومًا: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى فلانًا وفلانًا بعد، وملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون، ويشربون، وينعمون مملكين ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع، وقام شعر رأسه وجلده، ثم
رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك، والعبادة لغيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك، أو كما قال.
وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال ابن جرير يقول: فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه، إلا عباد الله الذين(3/611)
أخلصهم من العذاب، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، يقول: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم بعده. وعن السدي: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} قال: إلياس.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) .
عن قتادة: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} ، قال: نعم والله، صباح ومساء يطؤونها وطأ. من أخذ من المدينة إلى الشام، أخذ على سدوم قرية قوم لوط.
وقال ابن زيد في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، قال: أفلا تفتكرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم؟ .
قوله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) } .
عن قتادة في قوله: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} كنا نحدث أنه: الموقر. {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} ، قال: فاحتبست السفينة فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا فقرع يونس فرمي بنفسه، ... {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: في ضعة. قال ابن زيد: والمليم: المذنب.
وعن ابن عباس قوله: {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} يقول: من المقروعين. وقال البغوي: وقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، أي: من جملة رسل الله،(3/612)
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، يعني: هرب. قال ابن عباس، ووهب: كان يونس وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمتواري منهم، فقصد البحر فركب السفينة، فاحتبست السفينة. فقال الملاحون: ها هنا عبد أبق من سيده، فاقترعوا ثلاثًا، فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس: أنا الآبق، وزج نفسه في الماء.
وقال ابن كثير: {فَسَاهَمَ} أي: قارع {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ، أي: المغلوبين. وذلك أن السفينة تَلَعَّبَت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك. وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار، وأن يلتقم يونس عليه السلام، فلا يَهْشِمُ له لحمًا ولا يكسر له عظمًا، فجاء ذلك الحوت وألقى يونس نفسه، فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلّها، ولما استقرّ يونس في بطن الحوت، حسب أنه قد مات ثم حرّك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حيّ، فقام فصلّى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه: يا ربّ اتخذت لك مسجدًا في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وعن قتادة: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} كان كثير الصلاة في الرخاء فنجَّاه الله بذلك. قال: وقد كان يقال في الحكمة: أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَرَ، فإذا صُرِعَ وُجِدَ مُتَّكِأً. وعن أنس مرفوعًا: «أن يونس النبيّ حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا ربّ هذا صوت ضعيف معروف في بلاد غريبة، قال: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: ذلك عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفع له
عمل متقبَّل ودعوة مستجابة! قالوا: يا رب أو لا يُرحم(3/613)
بما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ ! قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعراء» . رواه ابن جرير.
وعن قتادة: قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة. {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء} ، قال: بأرض ليس فيها شيء ولا نبات. وعن ابن عباس قال: خرج به - يعني: الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبيّ المنغوس لم ينقص من خلقه شيء. وعن السدي: {وَهُوَ سَقِيمٌ} كهيئة الصبيّ. وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} ، قال: كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق. قال قتادة: كنا نحدّث أنها الدبّاء - هذا القرع الذي رأيتم - أنبتها الله عليه يأكل منها. وعن ابن عباس في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، قال: بل يزيدون، كانوا مائة ألف وثلاثين ألفًا. قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أهل الموصل قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} : الموت.
* * *(3/614)
الدرس السادس والثلاثون بعد المائتين
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } .
* * *(3/615)
قوله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) } .
عن قتادة: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} يعني: مشركي قريش. قال ابن زيد: سلهم. وقال السدي: كانوا يعبدون الملائكة. قال ابن كثير: وقوله تبارك وتعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} أي: كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم! ؟ كقوله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} .
وعن قتادة: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} ، يقول: من كذبهم: {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ يقول: كيف يجعل لكم البنين ولنفسه البنات؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} ، أي: عذر بيّن. وعن السدي في قوله: {سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} ، قال: حجّة. {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} ، قال مجاهد: قال كفار قريش: الملائكة بنات الله فسأل أبو بكر: من أمهاتهنّ؟ فقالوا بنات سروات الجنّ، {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} إنها ستحضر الحساب. وقال السدي: إن هؤلاء الذين قالوا هذا، {لَمُحْضَرُونَ} : لمعذبون.(3/616)
قال ابن كثير: وقوله جلّت عظمته: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: تعالى وتقدّس وتنزّه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوًّا كبيرًا.
وقوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير في قوله تعالى: {عَمَّا يَصِفُونَ} عائدًا على الناس جميعهم، ثم استثنى منهم المخلَصين، وهم: المتّبعون للحقّ المنزل.
قوله عز وجل: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) } .
عن ابن عباس قوله: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} يقول: ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدًا إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم. وقال الحسن: ما أنتم عليه بمضلّين إلا من كان في علم الله أنه
سيصلى الجحيم. وعن السدي في قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} ، قال الملائكة. وعن عائشة قالت: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما في سماء الدنيا موضع قدم إلا عليه ملك ساجد، أو قائم فذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} » . رواه ابن جرير.
وعن قتادة قوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال: قد قالت هذه الأمة ذاك قبل أن يبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -: لو كان(3/617)
عندنا ذكر من الأوّلين، لكنا عباد الله المخلَصين، فلما جاءهم محمد كفروا به. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وقال ابن عباس: لما جاء المشركون من أهل مكة ذكر الأوّلين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب، ... {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يقول: قد جاءكم محمد بذلك فكفروا بالقرآن، وبما جاء به محمد.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) } .
عن قتادة: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم. وعن السدي في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} ، يقول: بالحجج. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} ، قال: حتى يوم بدر.
وقال ابن زيد في قوله: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، يقول: أنظرهم فسوف يبصرون ما لهم بعد اليوم، يقول: يبصرون يوم القيامة ما ضيّعوا من أمر الله، وكفرهم بالله ورسوله وكتابه؛ قال: (فأبْصِرْهُمْ) (وأَبْصِرْ) واحد. وقال البغوي: {وَأَبْصِرْهُمْ} إذا نزل بهم العذاب، {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، فقالوا: متى هذا العذاب؟ فقال الله عز وجل: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} ، قال: وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صبّح أهل خيبر: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» . ثم كرّر ما ذكر تأكيدًا لوعيد العذاب، فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ} العذاب إذا نزل بهم: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .(3/618)
قوله عز وجل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } .
عن قتادة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: عما يكذبون، يسبّح نفسه إذا قيل عليه البهتان، {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين» . وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من أحبّ أن يَكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه في مجلسه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
* * *(3/619)
الدرس السابع والثلاثون بعد المائتين
[سورة ص]
مكية، وهي ثمان وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19)(3/620)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) } .
* * *(3/621)
قوله عز وجل: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) } .
عن ابن عباس: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ذي الشرف. وعن قتادة: {ذِي الذِّكْرِ} ، أي: ما ذكر فيه. قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير، والإعذار، والإنذار. وعن قتادة: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، أي: في حميّة وفراق؛ قال: ها هنا وقع القَسَم.
وقوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال ابن عباس: ليس بحين تَرَوٍّ ولا فرار، ضُبِطَ القوم. وقال قتادة: نادى القوم على غير حين نداء، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله، فلم يقبل منهم ذلك.
وقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} قال قتادة: يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعًا إله(3/622)
واحد؟ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . وعن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرفق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا قرب عمه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول، وتقول. قال: فأكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم بها العَجَمُ الجزية» ! . ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة! (نعم وأبيك عشرًا) ، فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: «لا إله إلا الله» . قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ! قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} .
وقوله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} ، قال البغوي: أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب، ويقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} ، أي: اثبتوا على عبادة آلهتكم، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ، أي: الأَمر يراد بنا، وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة لمكانه قالوا: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لشيء يُراد بنا. وعن(3/623)
ابن عباس قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ، يعني: النصرانية، فقالوا: لو كان هذا القرآن حقًا أخبرتنا به النصارى، وعن قتادة: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي: في ديننا هذا ولا في زماننا قطّ، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} إلا شيء تخلّقه. وقال ابن زيد قالوا: إن هذا إلا كذب.
{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، قال البغوي: القرآن، {مِن بَيْنِنَا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا؟ يقوله أهل مكة؛ قال الله عزّ وجلّ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} ، أي: وحيي وما أنزلت، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} ، ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} ، يعني: نعمة ربك، يعني: مفاتيح النبوّة يعطونها من شاءوا؟ ونظيره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، أي: نبوّة ربك؟ {الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} العزيز في ملكه، الوهّاب وهب النبوّة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، أي: ليس لهم ذلك، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} ، أي: إن ادّعوا شيئًا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، فليأتوا
منها بالوحي إلى من يختارون. قال مجاهد، وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} أي: هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند هنالك، (وما) صلة، {مَهْزُومٌ} مغلوب، {مِّنَ الْأَحْزَابِ} ، أي: من جملة الأجناد، يعني: قريشًا. قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكّة أنه سيهزم جند المشركين وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، {مِّنَ الْأَحْزَابِ} ، أي: من جملة الأحزاب. أي: هم من القرون الماضية الذين تحزّبوا وتجمّعوا على الأنبياء بالتكذيب، فقُهروا وأُهلكوا. انتهى.(3/624)
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } .
عن ابن عباس: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} ، قال: كانت ملاعب يلعب له تحتها. وقال مجاهد: كان يمدّ الرجل مستلقيًا على الأرض ثم يشدّ يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وعن قتادة: {إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} ، قال: هؤلاء كلّهم قد كذّبوا الرسل فحقّ عليهم العذاب، {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، يعني: أمة محمد، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ، يعني: الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} ، أي: نصيبنا، حظّنا من العذاب قبل يوم القيامة، قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.
وقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، يقول تعالى: اصبر يا محمد على ما يقول قومك، فإن الرفعة والعاقبة لك، كما كانت للرسل قبلك. وعن مجاهد قوله: {ذَا الْأَيْدِ} ، قال: ذا القوة في طاعة الله، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} إنه رجاع عن الذنوب. وقال قتادة: كان مطيعًا لله كثير الصلاة. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، قال: يسبّحن مع داود إذا سبّح بالعشيّ والإشراق، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} مسخرة، {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} ، أي: مطيع. ... {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، قال ابن كثير: أي: جعلنا له ملكًا كاملاً من جميع ما يحتاج إليه(3/625)
الملوك. وقال السدي: كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة الآف،
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} ، قال: النبوة، {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ، قال مجاهد: إصابة القضاء وفهمه.
قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } .
عن قتادة: {وَلَا تُشْطِطْ} ، أي: لا تمل، {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} إلى عدله وخيره. وعن وهب بن منبه: {إِنَّ هَذَا أَخِي} ، أي: على ديني {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} قال ابن زيد: أعطنيها، طلقها لي أنكحها وخل سبيلها {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال: قهرني. وعن ابن عباس قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ، قال: إن داود قال: يارب قد أعطيت إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم. قال: نعم. قال له: اعمل حتى أرى بلاءك، فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه فكاد أن ينساه، فبينا هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فطارت، فاطلع من(3/626)
الكوة فرأى امرأة تغتسل فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته: أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل، فكان يُصاب أصحابه وينجو، وربما نُصروا، وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه ; فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه، فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت. وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يتسوّرون عليّ محرابي، قالا له: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا. قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} ، يريد أن يتمم بها مائة، ويتركني ليس لي شيء. {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، قال له داود: أنت كنت أحوج إلى
نعجتك منه {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} إلى قوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ونسي نفسه - صلى الله عليه وسلم -. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} . وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في السجدة في ص: (ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها) . رواه البخاري وغيره.
وعن قتادة: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} الذنب، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي: حسن مصير. قال ابن كثير: أي: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع. وهو الدرجات العالية في الجنة لنوبته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه(3/627)
يمين، الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» . وعن السدي {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} ملكه في الأرض {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ، يعني: بالعدل، والإنصاف {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ، أي: لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب.
قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
(28) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) } .
عن ابن عباس: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ، قال: لا لثواب ولا لعقاب. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} . وقال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة من الخير مثل ما تعطون، فنزلت هذه الآية: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ؟
قال ابن كثير: ولمّا كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ، أي: ذوو العقول. قال الحسن البصري: والله ما تَدَبُّرُه بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل.
* * *(3/628)
الدرس الثامن والثلاثون بعد المائتين
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) } .
* * *(3/629)
قوله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) } .
عن ابن عباس: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، قال: الأوّاب: المسبّح. وقال قتادة: كان مطيعًا لله كثير الصلاة. وعن قتادة: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} ، يعني: الخيل. قال ابن زيد: والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة حتى يكون طرف الحافر على الأرض. قال البغوي: والجياد: الخيار السراع. واحدها: جواد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الخيل السوابق.
قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} ، أي: آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل، وسمّيت الخيل خيرًا لأنه معقود بنواصيها الخير: الأجر، والمغنم. قال مقاتل: {حُبَّ الْخَيْرِ} ، يعني: المال، فهي الخيل التي عرضت عليه، {عَن ذِكْرِ رَبِّي} يعني: الصلاة، وهي صلاة العصر، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: توارت الشمس بالحجاب، أي: استترت بما يحجبها عن الأبصار، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي: ردّوا الخيل عليّ، فردّوها، {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . انتهى. قال إبراهيم التيمي: كانت
الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها. وقال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله خيرًا منها وأسرع، وهي: الريح تجري بأمره كيف يشاء.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ(3/630)
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) } .
عن السديّ في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} قال: لقد ابتلينا {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} ، قال: الشيطان حين جلس على كرسيّه أربعين يومًا قال: كان لسليمان مائة امرأة. وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي أبرّ نسائه عنده، وآمنهنّ عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولم يأتمن عليه أحدًا من الناس غيرها ; فجاءته يومًا من الأيام، فقالت: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحبّ أن تقضي له إذا جاءك. فقال لها: نعم. ولم يفعل. فابتُلي وأعطاها خاتمه، ودخل المخرج، فخرج الشيطان في صورته. فقال: هاتي الخاتم. فأعطته. فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد، فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه
من قبل؟ قال: لا، وخرج مكانه تائهًا ; قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يومًا. فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان قد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه، فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة، فقرأوا، فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفته والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل سليمان في حالته التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيّادي البحر، وهو جائع، وقد اشتدّ جوعه، فاستطعمه من صيدهم، قال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجّه، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيّادون صاحبهم الذي ضربه، فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته، قال: إنه زعم أنه سليمان، فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم، ولم(3/631)
يشغله ما كان به من الضرر، حتى قام إلى شطّ البحر، فشقّ بطونهما فجعل يغسل، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فردّ الله عليه بهاؤه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بدّ منه. قال: فجاء حتى أتى ملكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسخّر له الريح والشياطين يومئذٍ، ولم تكن سُخِّرت له قبل ذلك، وهو قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا
يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، قال: وبعث إلى الشيطان فأتي به، فأمر به فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به، فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ} ، قال البغوي: أي: رجع إلى ملكه بعد أربعين يومًا فلما رجع، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عفريتًا من الجنّ تفلّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلّكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . قال روح: فردّه خاسئًا» . متفق عليه. وفي رواية أحمد من حديث أبي سعيد: «ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» .
وقال الضحاك في قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في ملكه الريح وكل بنّاء وغوّاص من الشياطين، فدعا ربه عند(3/632)
توبته واستغفاره، فوهب الله له ما سأل فتمّ ملكه. وعن قتادة: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} قال: سريعة طيّبة، ليست بعاصفة ولا بطيئة. وقال ابن زيد: الرخاء الليّنة. وعن ابن
عباس: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء} قال: يعني بالرخاء المطيعة {حَيْثُ أَصَابَ} يقول: حيث أراد. انتهى عليها. وعن قتادة: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} قال: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل {وَغَوَّاصٍ} يستخرجون الحليّ من البحر {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} ، قال: مردة الشياطين في الأغلال.
وعن الحسن في قوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، قال: المُلك الذي أعطيناك، فأعط ما شئت وامنع ما شئت، فليس عليك تبعة ولا حساب. {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} .
قال ابن كثير: لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا، نبّه تعالى على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضًا فقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، أي: في الدار الآخرة.
* * *(3/633)
الدرس التاسع والثلاثون بعد المائتين
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ
إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ(3/634)
يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) } .
* * *(3/635)
قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } .
عن قتادة: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} حتى بلغ: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، ذهاب المال والأهل والضرّ الذي أصابه في جسده. قال: ابتلي سبع سنين وأشهرًا مُلقى على كُناسة لبني إسرائيل تختلف الدوابّ في جسده، ففرّج الله عنه وعظّم له الأجر وأحسن عليه الثناء. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ، قال: ضرب برجله الأرض فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى؛ قال وهب: فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء.
وعن قتادة: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} ، قال: قال الحسن فأحياهم الله بأعيانهم وزادّهم مثلهم {رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} . وعن مجاهد: قيل له: إن شئت أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وتعطى مثلهم في الدين، فاختار أن يكونوا في الآخرة. ومثلهم في الدين. وعن قتادة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء، فقال: لو
تكلمت بكذا وكذا، وإنما حملها عليها الجزع - فحلف نبي الله: لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مائة جلدة قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تكملة المِائَة، فضربها ضربة واحدة، فأبرّ نبيُّ الله، وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ، والله رحيم.
قال ابن كثير: وهذا من الفرج والمخرج(3/636)
لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54) } .
عن ابن عباس قوله: {أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ، يقول: أولي القوة في العبادة {وَالْأَبْصَارِ} ، يقول: الفقه في الدين. وقال مجاهد: {الْأَيْدِي} القوة في أمر الله، {وَالْأَبْصَارِ} العقول. وقال السدي: {الْأَيْدِي} : القوة في طاعة الله، {وَالْأَبْصَارِ} : البصر بعقولهم. وعن قتادة: {إِنَّا
أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ، قال: بهذه أخلصهم الله، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله.
وقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ} ، أي: شرف وذكر جميل يذكرون به أبدًا. وعن السدي: {هَذَا ذِكْرٌ} ، قال: القرآن. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} ، قال الحسن: منقلب، {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} ، قال الحسن: أبواب تكلم، فتكلم: انفتحي انغلقي. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» . رواه مسلم. ... {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ، قال قتادة: قصرن طرفهن على(3/637)
أزواجهنّ فلا يردن غيرهم. {أَتْرَابٌ} قال: سنّ واحدة. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} . قال ابن كثير: أي: هذا الذي من صفة الجنّة التي وعدها لعباده المتّقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم، وسلامتهم من النار. وعن قتادة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي: ما له انقطاع.
قوله عز وجل: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59)
قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) } .
قال البغوي: {هَذَا} ، أي: الأمر هذا، {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} الكافرين {لَشَرَّ مَآبٍ} مرجع {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} . {هَذَا} ، أي: العذاب. {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، قال الفرّاء: أي: هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. والحميم: الماء الحارّ الذي انتهى حرّه. وقال ابن عباس: الغسّاق: الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها. وقال قتادة: هو ما يغسق. أي: يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة. {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ} ، مثله. أي: مثل الحميم والغسّاق، {أَزْوَاجٌ} ، أي: أصناف أخر من العذاب.(3/638)
{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} ، قال ابن عباس: {هَذَا} هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للكفار: {هَذَا} ، يعني: الأتباع، {فَوْجٌ} جماعة، {مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} النار، أي: داخلوها كما أنتم دخلتموها. قال الكلبي: إنهم يُضربون بالمقامع حتى
يوقعوا أنفسهم في النار خوفًا من تلك المقامع فقالت القادة: {لَا مَرْحَباً بِهِمْ} ، يعني: بالأتباع، {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} ، أي: داخلوها كما صلينا، {قَالُوا} ، فقال الأتباع للقادة: {بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ، يقول الأتباع للقادة: أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتم وسننتموه لنا {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} ، أي: فبئس دار القرار جهنم. {قَالُوا} يعني: الأتباع: {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} ، أي: شرعه وسنّه لنا: {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} ، أي: ضعّف عليه العذاب. قال ابن مسعود: يعني: حيّات، وأفاعي.
وقالوا وهم في النار: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم} في الدنيا ... {مِّنَ الْأَشْرَارِ} ، يعنون: فقراء المؤمنين. ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء فقالوا: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} ؟ قال الفراء: هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجّب {أَمْ زَاغَتْ} أي مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} ؟ ومجاز الآية: ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتّخذناهم سخريًّا لم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا؟ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ، أي: تخاصم أهل النار في النار لحقّ. {قُلْ} يا محمد لمشركي مكّة: {إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} مخوّف، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ(3/639)
الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) } .
قال ابن كثير: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} ، أي: خبر عظيم وشأن بليغ، وهو: إرسال الله تعالى إيّاي إليكم، {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي: غافلون. قال مجاهد، وشريح القاضي، والسدي في قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} يعني: القرآن. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي: لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم، وامتناع إبليس من السجود له ومحاجّته ربه في تفضيله عليه؟
انتهى. وعن قتادة: قوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، قال: هم الملائكة، كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ} حتى بلغ: {سَاجِدِينَ} ، وحين قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} حتى بلغ: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} ففي هذا اختصم الملأ الأعلى. وفي حديث معاذ الطويل عند الإِمام أحمد قال - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني قمت من الليل فصلّيت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربّي عزّ وجلّ في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا ربّ؟ أعادها ثلاثًا، فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلّى لي كلّ شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام(3/640)
إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات» . الحديث.
قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن، فإن هذا قد فُسّر، وأما الاختصام الذي في القرآن، فقد فُسّر بعد هذا، وهو قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} إلى آخر القصة. وعن ابن عمر قال: (خلق الله أربعة بيده: العرش، وعدن، والقلم، وآدم. ثم قال لكلّ شيء: كن فكان) . رواه ابن جرير. وعن قتادة قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال: علم عدوّ الله أنه ليست له عزّة. وعن مجاهد: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ، يقول الله: الحقّ منّي وأقول الحقّ. قال ابن كثير: وهذه
الآية كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
قوله عز وجل: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) } .
قال ابن زيد في قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، قل: لا أسألكم على القرآن أجرًا تعطوني شيئًا، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أتخرص(3/641)
وأتكلّف ما لم يأمرني الله به. وعن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم؛ فإن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} يعني: القرآن ذكر لجميع المكلّفين من الإنس والجنّ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} خبره وصدقه، {بَعْدَ حِينٍ} ، قال عكرمة: يعني: يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد موته. قال الحسن بن آدم: عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
* * *(3/642)
الدرس الأربعون بعد المائتين
[سورة الزمر]
مكية، وهي خمس وسبعون آية
... عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ في كل ليلة: بني إسرائيل، والزمر) . رواه النسائي.
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا(3/643)
هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ
مَن فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) } .
* * *(3/644)
قوله عز وجل: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ ... إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) } .
عن قتادة: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شهادة أن لا إله إلا الله. وعن مجاهد في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، قال: قريش تقول للأوثان، ومَنْ قَبْلَهُمْ تقوله للملائكة، ولعيسى ابن مريم، ولعزير.
وعن قتادة: قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، قالوا: ما نعبد هؤلاء، {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} إلا ليشفعوا لنا عند الله. قال ابن كثير:(3/645)
وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه. وعن قتادة: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ثم أنبت الشعر؛ أطوار الخلق في ظلمات ثلاث: المشيمة، والرحم، والبطن.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} قال ابن كثير: أي: هذا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلقكم وخلق آباءكم، هو الربّ {لَهُ الْمُلْكُ} والمتصرّف في جميع ذلك، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ... {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يُذهب بعقولكم؟
وقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لا يحبّه، ولا يأمر به، {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، قال السدي: إن تطيعوا يرضه لكم. وقال ابن كثير: أي: يحبّه لكم، ويزدكم من فضله {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، قال السدي: لا يؤخذ أحد بذنب أحد. وقال ابن كثير: أي: لا تحمل نفس عن نفس شيئًا، بل كل مطالب بأمر نفسه. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: فلا تخفى عليه خافية.
قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) } .
عن قتادة: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ} ، قال: الوجع، والبلاء، والشدة. {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} ، قال: مستغيثًا به، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} ، قال السدي: إذا أصابته عافية(3/646)
أو خير {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} . قال ابن جرير: يقول: ترك الذي كان يدعو الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} ، يعني: توحيده، {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ، أي: من أهل النار الماكثين فيها. انتهى ملخصًا.
وعن قتادة: قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً} أوّله، وأوسطه وآخره. وقال ابن عباس: يعني: بالقنوت: الطاعة. وعن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن القنوت قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن، وطول القيام. وقرأ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} ، وعن ابن عباس في قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} ، قال: يحذر عقاب الآخرة، {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ، يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنّة. وقال ابن كثير: يقول
عزّ وجلّ: أمّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادًا؟ لا يستوون عند الله.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادًا ليضلّ عن سبيله؟ ... {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} .
قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ(3/647)
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) } .
قال مقاتل في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} ، يعني: الجنة.
قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ ... يَعْمَلُونَ} .
وعن مجاهد قوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وعن قتادة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} ، قال البغوي: مخلصًا له التوحيد لا أشرك به شيئًا. {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعبدت غيره، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا حين دعي إلى دين آبائه. ... {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أمر توبيخ وتهديد، وقال ابن كثير: يقول تعالى: قل يا محمد - وأنت رسول الله -: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وهو يوم القيامة - وهذا شَرْط - ومعناه: التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى.
وعن ابن عباس قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال: هم: الكفار الذين خلقهم الله للنار، وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وقال ابن زيد: هؤلاء أهل النار، خسروا أنفسهم في الدنيا وخسروا الأهل، فلم يجدوا في النار أهلاً وقد كان لهم في الدنيا أهل. {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .(3/648)
وقوله تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كقوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} ، [وكقوله] {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ، قال ابن كثير: أي: إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزحوا عن المحارم والمآثم.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) } .
قال البغوي: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} الأوثان: {أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} رجعوا إلى عبادة الله، {لَهُمُ الْبُشْرَى} في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وعن قتادة: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وأحسنه: طاعة الله، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} .
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} بكفره {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} قال ابن كثير: يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شقيّ تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله، لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضلّ له؛ ثم أخبر عزّ وجلّ عن عباده السعداء: أن لهم غرفًا في الجنة، وهي: القصور الشاهقة، {مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} طباق فوق طباق، مزخرفات عاليات، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} . وعن علي رضي الله عنه(3/649)
قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة لغُرفًا يُرى بُطونها من ظُهورها، وَظُهورها من بُطونها» , فقال أعرابيٌّ: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطَّعام، وصلى باللَّيلِ والنَّاسُ نيام» . رواه أحمد وغيره.
* * *(3/650)
الدرس الحادي والأربعون بعد المائتين
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) } .
* * *(3/651)
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) } .
قال البغوي: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} أدخل ذلك الماء، {يَنَابِيعَ} عيونًا وركايا فِي الأرْضِ. قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أحمر، وأصفر، وأخضر. {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس {فَتَرَاه} بعد خضرته ونضرته {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} فتاتًا متكسرًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} . {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} وسعه لقبول الحق، {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} كمن قسى الله قلبه. {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفمن شرح الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه» . قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» ! قلنا: يا رسول
الله وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهّب للموت قبل نزول الموت» . رواه البغوي وغيره.(3/652)
قوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) } .
عن قتادة قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف. وقال سعيد بن جبير: يشبه بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، ويدلّ بعضه على بعض. وعن ابن عباس قوله: ... {مَّثَانِيَ} قال: كتاب الله مثاني، ثنى فيه الأمر مرارًا. وقال قتادة: ثنى الله فيه: الفرائض والقضاء والحدود. وقال ابن زيد: {مَّثَانِيَ} مردد، ردّد ذكر موسى في القرآن، وصالح، وهود، والأنبياء. وقال معمر: تلا قتادة - رحمه الله -: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل بأن تقشعرّ جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله
ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وهذا من الشيطان.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} ، أي: شدّته يوم القيامة. قال مجاهد: يجرّ على وجهه في النار؛ ومجاز الآية: أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب كمن هو(3/653)
آمن من العذاب؟ وقيل: يعني: تقول الخزنة للظالمين: {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، أي: وباله. {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من قبل كفار مكة، كذّبوا الرسل، {فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يعني: وهم آمنون غافلون عن العذاب {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} العذاب والهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا ... يَعْلَمُونَ} .
قوله عز وجل {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) } .
عن مجاهد: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} غير ذي لَبْس. وقال ابن عباس: غير مختلف.
وقال ابن كثير: ويقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ، أي: بيّنّا للناس فيه بضرب الأمثال، {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فإن المثل يقرّب المعنى إلى الأذهان. وقوله جلّ وعلا: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: هو قرآن(3/654)
بلسان عربيّ مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولا لَبْس. بل هو بيان ووضوح وبرهان؛ وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك، {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، أي: يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد.
وعن قتادة: قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ} ، قال: هذا المشرك يتنازعه الشياطين. {وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ} ، قال: هو المؤمن أخلص الدعوة لله والعبادة. وقال ابن زيد: أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون؟ كلهم سيِّئ الخلق، ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذًا بطرف من مال لاستخدامه أسوأهم والذي لا يملكه إلا واحد، فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة وجعلوا لها في أعناقهم حقوقًا، فضربه الله مثلاً لهم وللذي يعبده وحده {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . قال البغوي: وهذا استفهام إنكار، أي: لا يستويان. ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي: لله الحمد كلّه دون غيره من المعبودين {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: ستموت، {وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، أي: سيموتون، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، قال ابن عباس: يعني:
المحقّ والمبطل، والظالم والمظلوم. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصدّيق رضي الله عنه عند موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى تحقق الناس موته، مع قوله عزّ وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} .
* * *(3/655)
الدرس الثاني والأربعون بعد المائتين
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ(3/656)
جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) } .
* * *(3/657)
قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} فزعم أن له ولدًا، أو شريكًا، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بالقرآن {إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل ومقام، {لِّلْكَافِرِينَ} ؟ استفهام بمعنى التقرير. وعن قتادة: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ} ، قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بالقرآن، {وَصَدَّقَ بِهِ} المؤمنون. وقال مجاهد: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه. وعن ابن عباس: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، يقول: اتقوا الشرك. وقال ابن زيد: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ألهم ذنوب؟ أي: ربّ، نعم، {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقرأ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى أن بلغ: {وَمَغْفِرَةٌ} لئلا ييأس من له الذنوب أن لا يكونوا منهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، وقرأ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخر الآية.
قوله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ(3/658)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) } .
عن السدي: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ يقول: محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} ، يقول: بآلهتهم التي كانوا يعبدون. وعن قتادة: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} حتى بلغ: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، يعني: الأصنام، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ؟ قال ابن كثير: كانوا يعترفون أن الله عزّ وجلّ هو الخالق للأشياء كلّها، ومع هذا يعبدون معه غيره. وعن ابن عباس مرفوعًا: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس فليتّق الله عزّ وجلّ» . وعن مجاهد: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على ناحيتكم. وقال ابن كثير: أي: على طريقكم؛
وهذا تهديد ووعيد. {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا(3/659)
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) } .
عن سعيد بن جبير في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، قال: يجمع بين أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} إلى أجسادها. قال ابن زيد: فالنوم وفاة، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ، قال السدي: إلى بقية آجالها. وعن قتادة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} الآلهة ... {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} الشفاعة. وعن مجاهد قوله: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، قال: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وعن قتادة: قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: كفرت قلوبهم واستكبرت، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} الآلهة {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل ومكيائيل وإسرافيل فاطر السماوات(3/660)
والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . رواه مسلم وغيره.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. قال السدي: ظنّوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات. قال البغوي: والمعنى: أنهم كانوا يتقرّبون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا} ، أي: مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} .
قوله عز وجل: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) } .
عن قتادة: قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: على خبر عندي، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} ، أي: بلاء، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وعن السدي: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ، الأمم الماضية، {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء} ، قال: من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.(3/661)
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: أَوَلَم يعلم - يا محمد - هؤلاء الذين كشفنا ضرّهم فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا، أن الشدّة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله دون كلّ من سواه؟ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} ، فيوسعه عليه، {وَيَقْدِرُ} ذلك على من يشاء من عباده فيضيّقه، وأن ذلك من حجج الله على عباده ليعتبروا به
ويتذكّروا ويعلموا أن الرغبة إليه والرهبة دون الآلهة والأنداد؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
* * *(3/662)
الدرس الثالث والأربعون بعد المائتين
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي(3/663)
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } .
* * *(3/664)
قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) } .
عن ابن عباس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه مَنْ عبد الأوثان ودعا مع الله إلهًا آخر، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس التي حرّم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، يقول: لا تيأسوا من رحمتي {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} قال: ... {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، وإنما يعاتب الله أولي الألباب، وإنما
الحلال والحرام لأهل الإِيمان، فإيّاهم عاتب وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله، وأن ينيب ولا(3/665)
يبطئ بالتوبة من ذلك الإِسراف والذنب الذي عمله، وقد ذكر الله في سورة آل عمران أن المؤمنين حين سألوا الله المغفرة فقالوا: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ، فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف فأمرهم بالتوبة من إسرافهم.
وعن القرظيّ أنه قال في هذه الآية: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، قال: هي للناس أجمعين. وعن قتادة: قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} ، أي: أقبلوا إلى ربكم. وقال ابن زيد: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: ... {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} ، وعن السدي: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} ، يقول: ما أُمرتم به في الكتاب، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ، قال: تركت من أمر الله، {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، يقول: من المستهزئين. قال قتادة: فلم يكفه أن ضيّع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله، هذا قول صنف منهم: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} هذا قول صنف آخر: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} ، رجعة إلى الدنيا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، قال:
هذا صنف آخر؛ يقول الله ردًّا لقولهم: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
وقال ابن زيد في قوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} ، قال: بأعمالهم، والآخرون يحملون أوزارهم يوم القيامة {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} .
قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ(3/666)
الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } .
قال البغوي: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: الأشياء كلها موكولة إليه، فهو القائم بحفظها، {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: مفاتيح خزائن السماوات والأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي: الذي
عملته قبل الشرك، وهذا خطاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد من غيره. وقيل: هذا أدب من الله لنبيّه وتهديد لغيره لأن الله تعالى عصمه من الشرك ... {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، لإنعامه عليك. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، ما عظّموه حقّ عظمته حين أشركوا به غيره. ثم أخبر عن عظمته فقال: {وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . انتهى ملخصًا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟» . متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السماوات على إصبع، والأرضين(3/667)
على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله: « {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} » . متفق عليه.
قوله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) } .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينفخ في الصور ثلاث نفخات. الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين تبارك وتعالى. يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فتفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله» . قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} ؟ قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمّنهم؛ ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم خامدون؛ ثم يأتي ملك الموت إلى الجبّار تبارك وتعالى فيقول: يا رب، قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت، فيقول له - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ(3/668)
الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل، وميكائيل. فيقول الله: فليمت جبريل، وميكائيل. فيقول: يا رب يموت جبريل وميكائيل!
فيقول الله له: اسكت إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي؛ ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات جبريل، وميكائيل، فيقول الله - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك وبقيت أنا. فيقول الله: فليمت حملة العرش. فيموتون. ويأمر الله العرش فيقبض الصور فيقول: أي رب قد مات حملة عرشك. فيقول - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقيت أنا. فيقول الله: أنت من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت لا تحيى. فيموت» . رواه ابن جرير.
وعن قتادة: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ، قال نبيّ الله: «بين النفختين أربعون» ، قال: قال أصحابه: فما سألناه عن ذلك؛ ولا زادنا على ذلك؛ غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها: أربعون سنة. وذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له: مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتزّ، وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثانية فإذا هم قيام ينظرون. وعن الحسن قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كأني أنفض رأسي من التراب أول خارج، فألتفت فلا أرى أحدًا إلا موسى متعلّقًا بالعرش، فلا أدري أممن استثنى الله لا تصيبه النفخة لعلمه الصعقة أو بُعث قبلي» .
وعن قتادة: قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ، قال: فما يتضارّون في نوره إلا كما يتضارّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قال: كتاب أعمالهم، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ}
قال ابن كثير: قال ابن عباس: يشهدون على الأمم بأنهم بلّغوهم رسالات الله إليهم، {وَالشُّهَدَاءِ} ، أي: الشهداء من الملائكة، والحفظة على أعمال العباد من خير وشر {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} أي: بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، قال عطاء: يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد.(3/669)
قوله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } .
عن قتادة: قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} ، قال: جماعات، {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، قال ابن كثير: أي: بمجرّد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعًا، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} -
على وجه التقريع والتوبيخ -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} ، في الصحيحين من حديث جرير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أضواء كوكب درّيّ، لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون،(3/670)
أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الإِلوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستّون ذراعًا في السماء» .
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أول شفيع، وأنا أول من يقرع باب الجنّة» . رواه مسلم. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} حتى إذا انتهوا إلى بابها إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فشربوا منها كأنما أمروا بها، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى، ثم عمدوا إلى الأخرى فتوضأوا منها كأنما أمروا بها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدًا، ولن تبلى ثيابهم بعدها، ثم دخلوا الجنة فتلقّتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون فيقولون: أبشر. أعدّ الله لك كذا، وأعد لك كذا، وكذا، ثم ينظر إلى تأسيس
بنيانه: جندل اللؤلؤ الأحمر، والأصفر، والأخضر يتلألأ كأنه البرق، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه فيقول: أبشري. قد قدم فلان ابن فلان، فيسمّيه باسمه واسم أبيه. فتقول: أنت رأيته، أنت رأيته؟ ! فيستخفّها الفرح حتى تقوم فتجلس على أُسْكُفَّة بابها فيدخل فيتكئ على سريره ويقرأ هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وعن مجاهد: قوله: {طِبْتُمْ} ، قال: كنتم طيّبين في طاعة الله.
وقال ابن زيد في قوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} ، قال: أرض الجنّة، وقرأ: {أَنَّ(3/671)
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، وعن السدي: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} ، ننزل منها حيث نشاء. وعن قتادة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم} ، أي: بين الخلائق، {بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: فتح أو الخلق بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، وختم بالحمد فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
* * *(3/672)
الدرس الرابع والأربعون بعد المائتين
[سورة المؤمن]
مكية، وهي خمسة وثمانون آية
... قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً فمرّ بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجّب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لكلّ شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا(3/673)
بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً(3/674)
فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن
وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) } .
* * *(3/675)
قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) } .
عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إني قتلت فهل لي من توبة؟ قال: نعم، اعمل لا تيأس. ثم قرأ: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} . وعن ابن عباس قوله: {ذِي الطَّوْلِ} يقول: ذي السعة والغنى. وقال ثابت البناني: كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين، فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية فقال: إذا قلت: {غَافِرِ الذَّنبِ} ، فقل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ، فقل: يا قابل التوب اقبل توبتي، وإذا قلت: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، فقل: يا شديد العقاب لا تعاقبني. قال: فالتفت فلم أر أحدًا.
وقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} قال قتادة: أسفارهم فيها ومجيئهم وذهابهم، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ} قال: الكفار. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} ليقتلوه {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} قال: شديدُ والله {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} .(3/676)
قال البغوي: يعني: كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة، حقت عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك، {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} .
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، حملة العرش والطائفون به وهم: الكروبيون، وهم: سادة الملائكة. قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين، والأرضون والسماوات إلى حجزهم، وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك
والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح. قال: وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام.
وعن قتادة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: طاعتك(3/677)
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} قال مطرف: وجدنا أغش عباد الله لعباد الله: الشياطين، ووجدنا: أنصح عباد الله لعباد الله: الملائكة.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) } .
عن قتادة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا، فتركوه، وأبوا أن يقبلوا، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة. {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} قال قتادة:
كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما: حياتان وموتتان.
{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} ، قال: فهل إلى كرة إلى الدنيا؟ قال البغوي: أي: من خروج من النار فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك؟ قال الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ، وفيه متروك استغني عنه لدلالة الظاهر عليه، مجازه فأجيبوا: أن لا سبيل إلى ذلك.
قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ(3/678)
عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) } .
عن السدي: {إِلَّا مَن يُنِيبُ} ، قال: من يقبل إلى طاعة الله.
وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، كما قال تعالى: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . وعن قتادة قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، قال: الوحي، {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} ، قال: يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، والخالق والخلق.
وقال ابن زيد في قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} ، قال: يوم القيامة، وقرأ: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} .
{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} ، قال قتادة: قد وقعت القلوب في الحناجر من المخالفة، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها. وعن السدي: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} ، قال: شخصت أفئدتهم عن أمكنتها، فنشبت في حلوقهم فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقر. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} ، قال: من يعنيه أمرهم ولا شفيع لهم.(3/679)
وقال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ} ، إذا نظرت
إليها - يريد الخيانة - أم لا، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، إذا قدرت عليها - أتزني بها - أم لا.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} ، من الأصنام، والأوثان، والأنداد، {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} ، أي: لا يملكون شيئًا ولا يحكمون بشيء، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
قوله عز وجل: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) } .
عن قتادة: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} ، يقيهم ولا ينفعهم.
* * *(3/680)
الدرس الخامس والأربعون بعد المائتين
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ(3/681)
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ
(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا(3/682)
بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) } .
* * *(3/683)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) } .
عن قتادة: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} ، أي: أمركم الذي أنتم عليه، {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ، والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله.
قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ
التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ(3/684)
مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) } .
عن السدي: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: هو ابن عم فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} قال ابن إسحاق: بعصاه وبيده. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذه بمنكبيه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ؟ رواه البخاري.
وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} ، أي: يوم القيامة. وفي حديث الصور: «فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأفطار فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضًا، وهو الذي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} .
وعن السدي: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ} ، قال موسى: مِن قَبْلُ} بالبيِّنات، قال البغوي: يعني قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} ، قال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} ، مات، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ(3/685)
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} مشرك ... {مُرْتَابٌ} شاك. {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} ، قال الزجاج: هذا تفسير للمسرف المرتاب. يعني: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} أي: في إبطالها بالتكذيب {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} حجة {أَتَاهُم} من الله {كَبُرَ مَقْتًا} أي: كبر ذلك الجدال مقتًا {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.
قوله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) } .
عن قتادة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} ، وكان أول من بنى بهذا الآجرّ وطبخه {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: أبواب السماوات {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} قال ابن جرير: يقول: وإني لأظن موسى كاذبًا فيما يقول ويدعي من أن له في
السماء ربًا أرسله إلينا. {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} ، قال قتادة: فعل ذلك به، زين له سوء عمله وصد عن السبيل، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} ، أي: في ضلال وخسار.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى(3/686)
الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } .
عن قتادة: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} ، استقرت الجنة بأهلها، واستقرّت النار بأهلها. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ
حِسَابٍ} ، قال قتادة: لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان. وعن مجاهد قوله: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} ، قال: الإيمان بالله، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ؟ قال ابن زيد: هذا مؤمن آل فرعون يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم، {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} . {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} ، قال قتادة: أي: لا ينفع ولا بضر: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ، أي: المشركون. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} ، فقلت له: أو ذلك في الآخرة؟ قال: نعم. وعن السدي: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} ، قال: أجعل أمري إلى الله، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وعن قتادة: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ، قال: كان قبطيًا من قوم فرعون، فنجا مع موسى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} قال السدي: قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوًا وعشيًا حتى تقوم الساعة {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قال ابن عباس: يريد ألوان العذاب، غير الذي كانوا يعذبون به منذ أغرقوا.(3/687)
قوله عز وجل {وَإِذْ يَتَحَاجّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) } .
قال البغوي: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} ، أي: اذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون. يعني: أهل النار في النار، {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} ، في الدنيا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} ، قال ابن كثير: أي: قسطًا تتحملونه عنا. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، أي: قسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا.
قال البغوي: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} حين اشتد عليهم العذاب ... {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} . {قَالُوا} ، يعني: خزنة جهنم لهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} أنتم إذًا ربكم أي: إنا لا ندعو لكم، لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب، قال الله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} ، أي: يبطل ويضل ولا ينفعهم.
قوله عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)(3/688)
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) } .
عن السدي: قول الله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قد كانت الأنبياء المؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن نلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قومًا فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوهم. وعن قتادة: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} من ملائكة الله وأنبيائه والمؤمنين به.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} قال مقاتل: الهدى من الضلالة. يعني: التوراة. {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، أي: العقول السليمة، {فَاصْبِرْ} ، يا محمد على أذى قومك، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وسينصرك عليهم ويظهر دينه {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} قال البغوي: هذا تعبد من الله ليزيده به درجة وليصير سنة لمن بعده {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
* * *(3/689)
الدرس السادس والأربعون بعد المائتين
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن(3/690)
يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } .
* * *(3/691)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) } .
عن قتادة: قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} لم يأتهم بذاك سلطان. {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} ، قال ابن عباس ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة، {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} ، قال مجاهد: {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} ، مقتضي ذلك الكبر، لأن الله عز وجل مذلهم. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع عظمهما {أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، قال البغوي: حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها؛ وقال ابن كثير: يقول تعالى منبهًا على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه يسير لديه، بأنه خلق السماوات والأرض وخلقها أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق(3/692)
الأولى والأخرى. كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ثم قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} ، أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس. ثم قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} ، أي: لكائنة وواقعة، {لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} .
قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68) } .
عن ابن عباس قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يقول: وحدوني أغفر(3/693)
لكم. وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة، - وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} » . رواه ابن جرير. وعن السدي: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ، قال: عن دعائي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} قال: صاغرين.
وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، أي: فكيف تعبدون معه غيره؟ وعن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين. فذلك قوله: ... {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: {قُلْ} ، يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام، والأنداد، والأوثان. وقد بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله - جلت عظمته -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ، أي: هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله.
وقوله تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ} ، قال البغوي: من قبل أن يصير شيخًا، {وَلِتَبْلُغُوا} ، جميعًا، {أَجَلا مُسَمًّى} ، وقتًا معلومًا محدودًا لا تجاوزونه، يريد(3/694)
أجل الحياة إلى الموت، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته.
قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، أي: هو المتفرد بذلك، لا يقدر على ذلك أحد سواه، {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: لا يخالف ولا يمانع، بل ما شاء كان لا محالة.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) } .
قال ابن زيد في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} قال: عن الحق، قال: هؤلاء المشركون. وعن مجاهد في قوله: {يُسْجَرُونَ} ، قال: يوقد بهم النار.
وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} .
قال ابن جرير يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم، حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فإن المعبود يغيث من عبد وخدمه، وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعًا(3/695)
على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا: {ضَلُّواْ عَنَّا} ، يقول: عدلوا عنا، فأخذوا غير طريقنا، وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضلوا عنا، ولكنا لم نكن ندعوا من قبل في الدنيا شيئًا. أي: لم نكن نعبد شيئًا؛ يقول الله تعالى ذكره: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} ، يقول: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا، من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه وعن رحمته وعبادته، فلا يرحمهم فينجيهم من النار، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء.
وعن مجاهد: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} ، قال: تبطرون وتأشرون، {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
قوله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ(3/696)
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } .
قال البغوي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرك، {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في حياتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} ، قبل أن يحل بهم، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
قال ابن كثير: أي: فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة. ثم قال تعالى: مسليًا له، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} ، وهم أكثر، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، أي: ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات، إلا أن يأذن الله له في ذلك، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وهو عذابه {قُضِيَ بِالْحَقِّ} فينجي المؤمنون ويهلك الكافرون. ولهذا قال عز وجل: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} .
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} ، قال ابن كثير: ... {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} أي: لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا. وقال البغوي: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ} يعني: مصانعهم وقصورهم، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ، لم ينفعهم، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا} ، رضوا بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. قال مجاهد: هو قولهم: نحن أعلم، لن نبعث ولن نعذب. سمي ذلك: علمًا على ما يدعونه ويزعمونه، وهو في الحقيقة: جهل. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .(3/697)
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} ، يعني: تبرأنا مما كنا نعدل بالله. {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} عذابنا، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا عذاب الله آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} ، بذهاب نعيم الدارين، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنهم تبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
* * *(3/698)
الدرس السابع والأربعون بعد المائتين
[سورة فصلت]
مكية، وهي أربع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ(3/699)
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) } .
* * *(3/700)
قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) } .
قال ابن إسحاق في السيرة: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القُرَظي قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدًا - قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؟ قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«قل يا أبا الوليد أسمع» قال: يا ابن أخي إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع(3/701)
على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد» ؟ قال: نعم. قال: «فاستمع مني» . قال: أفعل. قال: «بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} » ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» .
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي
سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي رواية البغوي من حديث جابر رضي الله عنه: (قال عتبة: ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب) .(3/702)
وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، قال السدي: بينت آياته. وعن مجاهد في قوله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} ، قال: عليها أغطية كالجعبة للنبل، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، قال السدي: صمم.
وعن قتادة قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، قال: لا يقرّون بها، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا: أما الصلاة فنصلِّي، وأما الزكاة فوالله لا نغصب أموالنا. فقال أبو بكر: (والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه) . وعن السدي {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: لا يدينون بالزكاة، وقال: لو زكوا وهم مشركون لم ينفعهم. وعن
ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يقول: غير منقصوص.
قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } .
قال ابن عباس: خلق الله الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحى الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والرمال، والجماد والآكام في يومين آخرين، فذلك قوله(3/703)
تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . وعن قتادة: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} ، قال: من سأل فهو كما قال الله.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ، قال البغوي: أي: ائتيا ما آمركما، أي: افعلاه، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . وعن مجاهد في قوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} قال: ما أمر الله به وأراده. وعن السدي {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ} قال: ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة {وَحِفْظاً} من الشياطين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
قوله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) } .
عن قتادة في قوله: {صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ، قال: يقول: أنذرتكم وقيعة مثل: وقيعة عاد وثمود، قال: عذاب مثل: عذاب عاد وثمود. {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ، قال ابن عباس: الرسل التي كانت قبل هود والرسل الذين كانوا بعده، بعث الله قبله رسلاً، وبعث من بعده رسلاً.(3/704)
وعن مجاهد في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} ، قال: شديدة: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشائم. قال قتادة: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ}
والله كانت مشئومات على القوم. {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} بينا لهم سبيل الخير والشر، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ، قال ابن زيد: استحبّوا الضلالة على الهدى. وعن السدي: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} ، قال: الهوان، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
* * *(3/705)
الدرس الثامن والأربعون بعد المائتين
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } .
* * *(3/706)
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) } .
عن قتادة: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم. قال في جامع البيان: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} ، (ما) مزيدة لتأكيد ظرفيته للشهادة، أي: إنما تقع فيه البتة، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من المعاصي. وعن أنس رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: «ألا تَسْأَلُونِي من أي شيء ضَحِكْتُ» ؟ قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: ... «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة! يقول: أي رب أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى. فيقول: فإني لا أقبل علي شاهدًا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان
يعمل، فيقول: بعدًا لكنّ وسحقًا عنكنّ كنت أجادل» . رواه مسلم وغيره. وعن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام، وإن أول ما(3/707)
يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» . رواه ابن جرير وغيره.
وعن السدي: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، أي: تسخفون منها. وعن قتادة: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، يقول: وما كنتم تظنون، {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} حتى بلغ: {كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . والله إن عليك يا ابن آدم لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ولا قوّة إلا بالله. وعن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر: ثقفي، وختناه قرشيان، قليل فقه قلوبهما كثير شحوم بطونهما، فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر: إذا كان يسمع منه شيئًا فهو يسمعه كله. قال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} ، فقرأ حتى بلغ: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} . رواه ابن جرير وغيره.
وعن معمر قال: تلا الحسن: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل. وأما الكافر، والمنافق فأساء الظن، فأساءا العمل. وعن قتادة: الظن ظنان: ظنّ منج، وظنّ مُرْدٍ. قال: ... {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} وهذا الظنّ المنجي ظنًا يقينًا. وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ، هذا ظنّ مُرْدٍ. وقال الكافرون: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ؛ وذُكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول - ويروي ذلك عن ربه -:(3/708)
«عَبْدِي غير ظنِّه بِي، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي» . قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} ، قال البغوي: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} ، يسترضوا ويطلبوا العتبى، {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ، المرضيين. والمعتب: الذي قبل أعتابه وأجيب إلى ما سأل.
قوله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) } .
عن مجاهد: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء} قال: شياطين، {فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، قال السدي: من أمر الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، من أمر الآخرة، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ، قال: العذاب، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} ، وعن ابن عباس قوله: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ، قال: هذا قول المشركين قالوا: لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه. وعن مجاهد: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} ، قال: المكاء والتصفير وتخليط من القول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ قريش تفعله.
{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال البغوي: وهو: الشرك بالله. وعن علي رضي الله عنه في قوله: {رَبَّنَا أَرِنَا(3/709)
الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} قال: إبليس، وابن آدم الذي قتل أخاه {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ} ، قال ابن عباس: ليكونا أشد عذابًا منًا.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } .
عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام. وقال عكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. وعن مجاهد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به. وعن الزهري قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: استقاموا والله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب. وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهم فأنت ربّنا فارزقنا الاستقامة. وعن مجاهد: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} قال: {أَلَّا تَخَافُوا} ما تَقْدُمُون عليه من أمر الآخرة، {وَلَا تَحْزَنُوا} ، على ما خلّفتم من دنياكم فإنا نخلفكم في ذلك كلّه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
وعن السدي: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم،(3/710)
{نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} ، أي: ضيافة وعطاء وإنعامًا من غفور لذنوبكم، {رَّحِيمٍ} ، بكم. وفي الصحيح عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت! قال: «ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه، فليس شيء أحبّ إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحبّ الله لقاءه - قال -: وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشرّ فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» . رواه أحمد وغيره.
* * *(3/711)
الدرس التاسع والأربعون بعد المائتين
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ(3/712)
فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } .
* * *(3/713)
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) } .
عن معمر قال: تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله.
وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم، {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، قال قتادة: كأنه وليّ قريب.
وعن ابن عباس قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ، يقول: الذين أعد الله لهم الجنة. قال قتادة: ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - شاهد، فعفا عنه ساعة، ثم إن
أبا بكر جاش به الغضب، فردّ عليه، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني الرجل، فعفوت وصفحت وأنت قاعد، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله؟ فقال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه كان يرد عنك ملك من الملائكة، فلما قربت تنتصر ذهب الملك وجاء الشيطان،(3/714)
فوالله ما كنت لأجالس الشيطان يا أبا بكر» . قال ابن زيد: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ} قال: هذا الغضب. وقال السدي: وسوسة وحديث النفس ... {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ َمن الشيطان الرجيم} .
قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } .
قال ابن كثير: لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلويّ والسفليّ، نبّه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره، فقال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، أي: ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال تعالى: {فَإِنِ
اسْتَكْبَرُوا} أي: عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره ... {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} .
وعن قتادة قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} أي: غبراء متهشمة. {فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، يعرف الغيث في صحتها وربوها وقال مجاهد: {اهتزت} : بالنبات {وَرَبَتْ} ، يقول: انتفخت. {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} قال السدي: كما يحيي الأرض بالمطر كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(3/715)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) } .
قال ابن زيد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} قال: هؤلاء أهل الشرك، وقال: الإلحاد: الكفر، والشرك. وقال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام على غير موضعه. {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال ابن كثير: أي: أيستوي هذا وهذا؟ {لا يستويان} .
ثم قال عز وجل للكفرة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . عن قتادة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} ، كفروا بالقرآن، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ، يقول: أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} ، الباطل: إبليس، لا يستطيع أن ينقص منه حقًا ولا يزيد فيه باطلاً. وقال ابن كثير: أي: ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزل من رب العالمين، ولهذا قال: {تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وعن قتادة: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} ، يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون، يقول: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} .(3/716)
وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، قال: الرسول: عربي. واللسان:
أعجمي. وقال السدي: يقول: بينت آياته، {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، نحن قوم عرب ما لنا وللعجمة؟ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} ، قال: القرآن، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} ، قال: صمم، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} ، قال: عميت قلوبهم عنده، {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . قال مجاهد: بعيد من قلوبهم.
قال البغوي: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، فمصدق ومكذب، كما اختلف قومك في كتابك {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} ، لفزغ من عذابهم وعجل إهلاكهم {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} قال ابن كثير: أي: إنما يعود نفع ذلك على نفسه {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} .
قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ
لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ(3/717)
اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } .
* * *
قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) } .
قال البغوي: يقول: يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ} . قال ابن عباس: يقول: أعلمناك. وقال السدي: قالوا: أطعناك، {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} ، على أن لك شريكًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ، استيقنوا أنه ليس لهم ملجأ.
قوله عز وجل: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ(3/718)
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } .
قال ابن زيد في قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ} ، قال: لا يمل {مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} ، قال السدي: قانط من الخير، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ، قال مجاهد: أي: بعملي، وأنا محقوق بهذا، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} قال السدي يقول: غنىً {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} قال السدي: يقول {أَعْرَضَ} صد بوجهه {وَنَأى بِجَانِبِهِ} يقول: تباعد {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} .
يقول ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} أي: هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ، خلاف للحق، بعيد عنه.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} ، قال قتادة: يعني: وقائع الله في الأمم، {وَفِي أَنفُسِهِمْ} يوم بدر {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال مقاتل: أو لم يكف بربك شاهدًا أن القرآن من الله؟ {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} في شك من البعث {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} فلا يخفى عليه خافية ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
ـــــــــ
انتهى الجزء الثالث بحمد الله،
ويليه الجزء الرابع
ـــــــــ(3/719)
تَألِيفُ
فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ
فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك
ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ
الجزء الرابع
من سورة الشورى إلى سورة الناس(4/1)
الدرس الخمسون بعد المائتين
[سورة الشورى]
مكية وهي ثلاث وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ(4/5)
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ(4/6)
حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) } .
* * *(4/7)
قوله عز وجل: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) } .
قال البغوي: سئل الحسين بن الفضل: لم قطع {حم * عسق} ولم يقطع {كهيعص} ؟ فقال: لأنها سور أوائلها {حم} فجرت مجرى نظائرها فكان: {حم} مبتدأ و {عسق} خبره، لأنهما عُدَّا آيتين، وأخواتهما مثل: {كهيعص} و {المص} و {المر} ، عدت آية واحدة وعن قتادة: قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي: من عظمة الله وجلاله.
وعن ابن عباس: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ، قال: والملائكة يسبحون له من عظمته. وعن السدي في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} قال: للمؤمنين. يقول عز وجل: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن
يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)(4/8)
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) } .
قال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء} ، يعني: المشركين {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي: شهيد على أعمالهم، يحصيها ويعدها عدًّا وسيجزيهم بها أوفى الجزاء. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} ، أي: إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} قال البغوي: {وَكَذَلِكَ} مثل ما ذكرنا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة، يعني: أهلها، {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني: قرى الأرض كلها {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي: تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين {لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير. {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال ابن عباس: على دين واحد {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} في دين الإسلام {وَالظَّالِمُونَ}
الكافرون {مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ} يدفع عنهم العذاب، {وَلَا نَصِيرٍ} يمنعهم من النار.
{أَمِ اتَّخَذُوا} بل اتخذوا أي: الكافرون {مِن دُونِهِ} ، أي: من دون الله {أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال(4/9)
ابن كثير: ينكر تعالى على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، ويخبر أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، أي: هو الحاكم فيه.
وعن ابن عباس: قوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ، يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. وعن مجاهد في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ، قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام. وقال ابن كثير: أي: يخلقكم فيه، أي: في ذلك الخلق على هذه الصفة، لا يزال يذرؤكم فيه، ذكوًرا وإناثًا، خلقًا من بعد خلق، وجيلاً بعد جيل، ونسلاً بعد نسل، من الناس والأنعام. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أي: كخالق الأزواج كلها شيء، لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وعن السدي: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: خزائن السموات والأرض {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد
السموات والأرض، الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الآيات أيها الناس فارغبوا، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة والأصنام التي لا تملك ضرًا ولا نفعًا.
قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(4/10)
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) } .
عن مجاهد قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} ، قال: ما أوصاك به وأنبياءه كلهم دين واحد. وعن السدي في قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} قال: اعملوا به {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} قال قتادة:
اعلموا أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ، قال: أنكرها المشركون وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله فصادمها إبليس وجنوده، فأبى الله تبارك وتعالى أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها. وعن مجاهد قوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ} أي: يصطفي إليه من يشاء من خلقه {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} ، قال السدي: من يقبل إلى طاعة الله. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ، قال ابن جرير: يقول: بغيًا من بعضكم على بعض، وحسدًا وعداوة على(4/11)
طلب الدنيا. وعن السدي: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: يوم القيامة يقضي بينهم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} ، قال: اليهود والنصارى، {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي: إلى ما وصينا به الأنبياء من التوحيد {وَاسْتَقِمْ} على الدين {كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} كما أمرني الله.
وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ، أي: هو المعبود لا إله غيره، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} كقوله تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ؛ {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} ، قال مجاهد: لا خصومة، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها،
قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه. وعن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} ، قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقال قتادة: هم: اليهود النصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم. وعن مجاهد قوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} ، قال: العدل، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} . وقال مقاتل: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الساعة ذات يوم وعنده قوم من المشركين، فقالوا تكذيبًا: متى تكون الساعة؟ فأنزل الله هذه الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} .
قوله عز وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ(4/12)
العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ
فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ... وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) } .
عن ابن عباس: قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} إلى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} ، قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها. وقال ابن زيد: الحرث: العمل، من عمل للآخرة أعطاه الله، ومن عمل للدنيا أعطاه الله. قال في جامع البيان: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} بل لهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت. {شَرَعُوا} أظهروا لهم {مِّنَ الدِّينِ} غير دين الإسلام، {مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} وهذا إضراب عن قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} إلى آخره، {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين المؤمنين والكافرين في الدنيا. وعن ابن عباس قوله {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: «يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، لا يكن غيركم من(4/13)
العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم» .
وقال ابن زيد في قوله: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} قال: من يعمل خيرًا نزد له. الاقتراف: العمل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات ويضاعفها. قال في جامع البيان: {أَمْ يَقُولُونَ} بل يقولون، إضراب آخر أشد من قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} . {افْتَرَى} محمد - صلى الله عليه وسلم - {كَذِباً} ؟ {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} ، قال قتادة: فينسيك القرآن. قال ابن كثير: لو افتريت عليه كذبًا كما يزعم الجاهلون.
وقوله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} قال ابن جرير: وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} في موضع رفع بالابتداء ولكنه حذفت منه الواو في المصحف كما حذفت من قوله: {سَنَدْعُ ... الزَّبَانِيَةَ} .
وقوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} قال البغوي: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات إذا دعوه {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} سوى ثواب أعمالهم، تفضلاً منه. {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
* * *(4/14)
الدرس الحادي والخمسون بعد المائتين
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)(4/15)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ
(42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) } .
* * *(4/16)
قوله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) } .
عن قتادة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} الآية، قال: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك؛ وقال: ذكر أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر، وقنط الناس، قال: مطرتم {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} . وعن قتادة: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» . وعن مجاهد قوله: {الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ} ، قال: السفن(4/17)
{كَالْأَعْلَامِ} قال: كالجبال. قال ابن كثير: وقوله
تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ، أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا.
قوله عز وجل: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) } .
قال البغوي: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} يتشاورن فيما يبدو لهم ولا يعجلون. وعن السدي في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ، قال: ينتصرون ممن بغى عليهم، من غير أن يعتدوا. ... {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} إذا شتمك بشتيمه فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي. وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم.(4/18)
وقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، قال ابن كثير: أي: صبر على الأذى وستر السيئة فإن {ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها.
قوله عز وجل: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } .
عن السدي في قوله: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ، يقول: إلى الدنيا {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} قال البغوي: أي: على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال ابن عباس: يعني بالخفي:
الذليل، {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال السدي: غبنوا أنفسهم وأهليهم في الجنة. وقال ابن كثير: خسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أهاليهم(4/19)
فخسروهم {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} . وعن السدي: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} تلجؤون إليه، {وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} ، يقول: من عز تعتزون. وعن قتادة: قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} قادر والله ربنا على ذلك أن يهب للرجل ذكورًا ليست معهم أنثى وأن يهب للرجل ذكرانًا وإناثًا فيجمعهم له جميعًا {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} لا يولد له {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) } .
قال ابن كثير: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل وهو: أنه تبارك وتعالى يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .
وقوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها؛ وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال(4/20)
لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحًا» . كذا جاء في الحديث؛ وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ؛ والاية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عز وجل: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} ، يعني: القرآن {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} ، أي: القرآن {نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ} ، أي: يا محمد {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الحق القويم، ثم فسره بقوله تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ} ، أي: شرعه الذي أمر به {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} .
* * *(4/21)
الدرس الثاني والخمسون بعد المائتين
[سورة الزخرف]
مكية، وهي تسع وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ(4/22)
لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) } .
* * *(4/23)
قوله عز وجل: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) } .
عن السدي: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} هو هذا الكتاب. قال قتادة: مُبِينِ والله بركته وهداه ورشده. وعن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ، يعني: القرآن، في أم الكتاب الذي عند الله منه نُسِخَ. وعن قتادة: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} يخبر عن منزلته وفضله وشرفه.
وعن مجاهد في قول الله عز وجل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} قال: يكذبون بالقرآن لا يعاقبون عليه. وعن ابن عباس قوله {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} يقول: أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به؟ وقال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك. {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} لاستهزاء قومك، {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي: أقوى من قومك {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قال قتادة: عقوبة الأولين.
قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً(4/24)
مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره، {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد؛ ثم قال تعالى: ... {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أي: فراشًا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وعن قتادة: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء، وكذلك تبعثون يوم القيامة.
{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} ، قال البغوي: أي: الأصناف كلها، {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} في البر والبحر ... {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ذكر الكناية لأنه ردها إلى (ما) {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} بتسخير المراكب في البر والبحر ... {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين،
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ، قال ابن كثير: أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه مسيرنا الأكبر؛ وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: ... {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ(4/25)
التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، وعن قتادة: ... {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} يعلّمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك، تقولون {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وإذا ركبتم الإبل قلتم: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ويعلّمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعًا تقولون: (اللهم أنزلنا منزلاً مباركًا وأنت خير المنزِلين) .
قوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) } .
عن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} ، قال: ولدًا، وبنات من الملائكة، وعن قتادة: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} ، أي: عدلاً؛ وقال(4/26)
البغوي: أي: نصيبًا وبعضًا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله؛ ومعنى الجعل: ها هنا الحكم بالشيء، والقول كما تقول: جعلت زيدًا أفضل الناس. {إِنَّ الْإِنسَانَ} ، يعني: الكافر، {لَكَفُورٌ} جحود لنعم الله {مُّبِينٌ} ظاهر الكفران. {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول: اتخذ ربكم لنفسه البنات وأصفاكم بالبنين؟ كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً} . {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي: بما جعل لله بشرًا، وذلك أن ولد كل شيء يشبهه يعني: إذا بشر أحدهم بالبنات - كما ذكر في سورة النحل -: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} من الغيظ والحزن. {أَوَمَن يُنَشَّأُ} ، أي: يربى {فِي الْحِلْيَةِ} في الزينة -، يعني: النساء - {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} للحجة من ضعفهن ومتعهن. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة تريد أن تتكلم بحجتها، إلا تكلمت بالحجة عليها؛ مجازه: أو من ينشؤ في الحلية يجعلونه بنات الله؟ .
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، أي: أحضروا خلقهم حين خلقوا {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} على الملائكة أنهم بنات الله، {وَيُسْأَلُونَ} عنها. {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} ، يعنى: الملائكة، {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} ، أي: من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله، {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين وملة، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} جعلوا أنفسهم بإتباع آبائهم مهتدون {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أغنياؤها ورؤساؤها، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} بهم {قَالَ أَوَلَوْ(4/27)
جِئْتُكُم بِأَهْدَى} بدين أصوب {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} قال الزجاج: قال لهم: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوه {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} انتهى ملخصًا.
وعن قتادة: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ، قال: شر والله أخذهم بخسف وغرق، ثم أهلكم فأدخلهم النار.
* * *(4/28)
الدرس الثالث والخمسون بعد المائتين
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ
إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) } .
* * *(4/29)
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) } .
عن قتادة: قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، قال: كايدهم، كانوا يقولون: الله ربنا، ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله، فلم يبرأ من ربه {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال: التوحيد، والإخلاص ولا يزال في وريثه من يوحد الله ويعبده {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يتوبون أو يذكرون. وعن السدي: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال: لا إله إلاَّ الله. قال في جامع البيان: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء} أي: قومك، فإنهم من عقب إبراهيم {حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ} القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} ظاهر الرسالة، {وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} .
قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن
فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) } .(4/30)
وعن ابن عباس قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، قال: يعني بالعظيم: الوليد بن المغيرة القرشي، أو حبيب بن عمرو الثقفي؛ وبالقريتين: مكة، والطائف. وقال ابن زيد: كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولاً، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، قال: فأنزل الله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} يعني: أهل الكتب الماضية، أبشر كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم، وإن كانوا بشرًا فلا ينكروا أن يكون محمد رسولاً. قال: ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: ليسوا من أهل السماء كما قلتم. قال: فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرًا فغير محمد كان أحق بالرسالة: فلولا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، يقولون: أشرف من محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى ريحانة قريش، هذا من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من
أهل الطائف؛ قال: يقول الله عز وجل ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} . أنا أفعل ما شئت.
وعن قتادة: قال: قال الله تبارك وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} فتلقاه ضعيف الحيلة عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان. قال جل ثناؤه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كما قسم بينهم صورهم، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} قال: ملكة. وقال السدي: يستخدم بعضهم بعضًا في السخرة. وقال ابن زيد: هم بنو آدم جميعًا وهذا عبد هذا، ورفع هذا(4/31)
على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل يستعمله به. {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ، قال السدي يقول: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا. وعن الحسن في قوله: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال: لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال. ثم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها؛ وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟ وعن قتادة: {لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ} السقف أعلى البيوت، {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} ، أي: درجًا عليها يصعدون. قال ابن زيد: {مِّن فَضَّةٍ} . {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ} ، قال: الأبواب من فضة، والسرر من فضة. وعن ابن عباس: {وَزُخْرُفاً} وهو الذهب. وقال ابن زيد في قوله: {وَزُخْرُفاً} لجعلنا هذا لأهل الكفر،
يعني: لبيوتهم سقفًا من فضة وما ذكر معها؛ قال: والزخرف: سمي هذا الذي سمي السقف والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع. وعن قتادة: {وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خصوصًا. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» .
قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن(4/32)
قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ، أي: يعرض عن ذكر الرحمن، فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه. قال القرظي: يول ظهره عن ذكر الرحمن، وهو: القرآن. قال أبو عبيدة: يُظْلِم بصره عنه {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} نسبب له شيطانًا، ونضمه إليه ونسلطه عليه، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه
على الهدى {وَإِنَّهُمْ} يعني: الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} ويحسب كفار بني آدم أنهم على هدى، ... {حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ} لقرينه {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي: بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما يقال: القمران والعمران {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ} في الآخرة {إِذ ظَّلَمْتُمْ} أشركتم في الدنيا {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} لا ينفعكم الاشتراك في العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ؟ يعني: الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} بأن نميتك قبل أن نعذبهم، {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} بالقتل بعدك {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} من العذاب {فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} قادرون متى شئنا عذبناهم، وأراد به مشركي مكة انتقم منهم يوم بدر {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ} ، أي: القرآن، {لَذِكْرٌ لَّكَ} لشرف لك {وَلِقَوْمِكَ} من قريش، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن حقه وأداء شكره. وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ،(4/33)
قال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا
بالتوحيد؟ ومعنى الأمر بالسؤال: التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل. انتهى ملخصًا.
وقال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله جلت عظمته: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} . قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة. والله أعلم.
* * *(4/34)
الدرس الرابع والخمسون بعد المائتين
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ(4/35)
الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) } .
* * *(4/36)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) } .
قال البغوي: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت هذه دلالات لموسى وعذابًا لهم فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم {وَقَالُوا} لموسى لما عاينوا العذاب {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} يا أيها العالم الحاذق - لأن السحر عندهم كان علمًا عظيمًا -: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} ، أي: بما أخبرتنا من عهده إليك، إن آمنا كشف عنا العذاب، فاسأله يكشف عنا العذاب، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون، فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.
قوله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي(4/37)
هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) } .
عن قتادة: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} ، قال: كانت لهم جنات وأنهار ماء. وعن السدي قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ، قال: بل أنا خير من هذا. وعن قتادة: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ، قال: ضعيف: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} ، أي: عيي اللسان. {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} ، أي: أقلبة من ذهب، {أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي: متتابعين. {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} قال البغوي: أي: وجدهن جهالاً فأطاعوه، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} . {فَلَمَّا آسَفُونَا} أغضبونا، {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} متقدمين يتعظ بهم الآخرون، {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} عبرة وعظة لمن بقي بعدهم. وعن معمر: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قال: سلفًا إلى النار. وقال مجاهد: قوم فرعون سلفًا لكفار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} ، قال عبرة لمن بعدهم.
قوله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ
قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي(4/38)
تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) } .
عن ابن عباس: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال: يعني: قريشًا لما قيل لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: «ذاك عبد الله ورسوله» ، فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربًا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربًا، فقال الله عز وجل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} . وعن مجاهد: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، قال: يضجون. وعن السدي في قوله: ... {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، قال: خاصموه فقالوا: يزعم أن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة، هؤلاء قد عبدوا من دون الله؛ قال: فأنزل الله براءة عيسى. وعن أبي أمامة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» . ثُمَّ قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} الآيَةَ رواه ابن جرير وغيره.
وعن قتادة: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} ، يعني بذلك: عيسى ابن مريم، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم، إن كان إلا عبدًا أنعم الله عليه {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية، {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} قال: يخلف بعضهم بعضًا مكان بني آدم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} قال: نزول عيسى ابن مريم: علم للساعة القيامة. {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الإنجيل {قَالَ(4/39)
قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} قال السدي: النبوة، {وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قال مجاهد: من تبديل التوراة. وعن السدي في قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} قال: اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} عذاب يوم القيامة.
قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) } .
عن ابن عباس قوله: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فكل خلة هي عداوة، إلا خلة المتقين. وعن قتادة قال: حدثنا المعتمر عن أبيه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد يا عباد الله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فيرجوها الناس كلهم قال: فيتبعها {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} قال: فيئس الناس منها غير المسلمين. وعن قتادة: ... {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي: تنعمون.
وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} ، قال السدي: الأكواب التي ليست لها آذان. وقال ابن كثير: {وَأَكْوَابٍ} وهي آنية الشراب،(4/40)
أي: من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى. وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . وعن شعبة قال: أدنى أهل الجنة منزلةً من له قصر فيه سبعون ألف خادم، مع كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبه، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم. وعن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل: يا رسول الله أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل فقال: «إن يدخلك الله الجنة، فلا تشاء أن تركب فرسًا من ياقوته حمراء تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت» ، وقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل.
فقال: «يا أعرابي، إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» .
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } .(4/41)
وعن قتادة: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، قال: آيسون. وقال السدي: متغير حالهم. وعن ابن عباس: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فأجابهم بعد ألف سنة: {إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} . وعن السدي: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ} قال: الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قال مجاهد: مجمعون إن كادوا شرًا كدنًا مثله. وقال ابن زيد: محكمون لأمرنا. وقال بعض المفسرين: ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً} والإبرام: الإحكام، والمعنى: أنهم كلما أحكموا أمرًا بالمكر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنا نحكم أمرًا في محاذاتهم. وعن السدي: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} قال: الحفظة.
قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) } .
عن السدي: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ، قال: لو أن له ولدًا كنت أول من عبده بأن له ولدًا، ولكن لا ولد له. قال ابن كثير: والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضًا كما قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً(4/42)
لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ،
قال البغوي: ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} عما يقولون من الكذب {فَذَرْهُمْ ... يَخُوضُوا} في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} ، يعني: يوم القيامة. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ، قال قتادة: يعبد في السماء والأرض لا إله إلا هو {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه، {الْعَلِيمُ} بمصالحهم. وعن مجاهد: قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ، قال: عيسى وعزير والملائكة. قوله: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} قال: كلمة الإخلاص
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله حق وعزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعزير والملائكة، {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} وهو يعلم الحق. وقال قتادة: الملائكة وعيسى والعزير قد عبدوا من دون الله، ولهم شفاعة عند الله ومنزله.
وقال ابن كثير: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ، أي: من الأصنام والأوثان: {الشفاعة} ، أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم، {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هذا استثناء منقطع أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. قال البغوي: وأراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن عبادته: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} ، يعني: قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيًا إلى ربه: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ} قرأ عاصم، وحمزة: وقيله بجر اللام، على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم: قيله يا رب إن(4/43)
هؤلاء قوم لا يؤمنون. وعن قتادة: قال الله تبارك وتعالى يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ثم أمره بقتالهم.
وقال ابن كثير: {وَقُلْ سَلَامٌ} ، أي: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
* * *(4/44)
الدرس الخامس والخمسون بعد المائتين
[سورة الدخان]
مكية، وهي تسع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا(4/45)
مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } .
* * *(4/46)
قوله عز وجل: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) } .
عن قتادة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ليلة القدر ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لست ليال مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل القرآن لسبع وعشرين مضت من رمضان. وقال ابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجومًا في عشرين سنة. وقيل للحسن: ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
وقال ابن كثير: وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، أي: في ليلة القدر، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها {أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل. قال ابن جرير: وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير رب السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه.(4/47)
قوله عز وجل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) } .
عن قتادة: {فَارْتَقِبْ} ، أي: فانتظر. وعن مسروق قال: دخلنا المسجد فإذا رجل يقص على أصحابه ويقول: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا له ذلك وكان مضطجعًا ففزع فقعد فقال: (إن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، قال الله جل ثناؤه: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً
إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، قال: فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم) .
وعن مجاهد: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قال: الجدب، وإمساك المطر عن كفار قريش، إلى قوله: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} وروى مسلم من حديث أبى سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:(4/48)
«لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» . وهذا الحديث لا ينافي وقوع الدخان بكفار قريش، فذلك قد وقع، وهذا منتظر.
وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} قال البغوي: من أين لهم التذكير والاتعاظ؟ يقول: كيف يتذكرون ويتعظون؟ {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} طاهر الصدق، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} ، أعرضوا عنه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} أي: يعلمه بشر {مَّجْنُونٌ} ، قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} أي: عذاب الجوع {قَلِيلاً} ، أي: زمانًا يسيرًا، قال مقاتل: إلى يوم بدر {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى كفركم {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} وهو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء. وقال الحسن: يوم القيامة. قال ابن
كثير: والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشته أيضًا.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم(4/49)
مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } .
عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} ، يعني: موسى عليه السلام، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} ، قال مجاهد: أرسلوا معي بني إسرائيل، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، قال البغوي: على الوحي، {وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} لا تتجبروا عليه بترك طاعته {إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ببرهان بين على صدق قولي؛ فلما قال ذلك توعدوه بالقتل فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن
تَرْجُمُونِ} أن تقتلون {وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فاتركون لا معي ولا علي. وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي باليد واللسان، فلم يؤمنوا، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} فأجابه الله وأمره أن يسري فقال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي: ببني إسرائيل، {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه، {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ} إذا قطعته أنت وأصحابك {رَهْواً} ساكنًا على حالته وهيئته. قال قتادة: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اترك البحر رهواً كما هو إنهم جند مغرقون.
ثم ذكر ما تركوا بمصر فقال: {كَمْ تَرَكُوا} يعني: بعد الغرق ... {مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} مجلس شريف. قال قتادة: الكريم: الحسن، {وَنَعْمَةٍ} متعة وعيش لين {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} ناعمين. وفاكهين: أشرين بطرين، {كَذَلِكَ} ،(4/50)
قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} يعني: بني إسرائيل {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقدهم ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليهم. ثم ساق بسنده عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من عبد إلا له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، - ثم تلا -: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} » لم ينظروا حين أخذهم
العذاب لتوبة ولا لغيرها {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} قتل الأبناء، واستحياء النساء، والتعب في العمل، {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} ، يعني: مؤمني بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} ، بهم، {عَلَى الْعَالَمِينَ} على عالمي زمانهم {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ} ، قال قتادة: نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة وقرأ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . انتهى ملخصًا. والله أعلم.
* * *(4/51)
الدرس السادس والخمسون بعد المائتين
{وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59) } .
* * *(4/52)
قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) } .
عن قتادة: {إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} ، قال: قد قال مشركوا العرب، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: بمبعوثين. وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ، قال: الحميري.
قال البغوي: وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن، سمي تبعًا لكثرة أتباعه، وكل واحد منهم يسمى: تبعًا لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا الملك يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير فكذبوه، وكان من خبره ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره؛ وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: كان تبع الآخر - وهو أبو كرب أسعد بن مالك - حين أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره، فخرجوا لقتاله، وكان الأنصار
يقاتلونه(4/53)
بالنهار ويفرون بالليل، فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام، فبينما هو كذلك إذ جاءه حبران اسمهما كعب وأسد من أحبار بني قريظة عالمان وكانا ابني عم حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينهما ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده مكة وهذه دار هجرته، ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع: من يقاتله وهو نبي؟ ! قالا: يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا؛ فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة، ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عائدين إلى اليمن، فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا: إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال: أي بيت؟ قالوا: بيت بمكة وإنما تريد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد قط بسوء إلا هلك، فذكر ذلك للأحبار فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتًا غير هذا البيت، فاتخذه مسجدًا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك، لأنه ما ناوأه أحد قط إلا هلك، فأكرمه واصنع عنده ما يصنع أهله، فلما قالوا له ذلك، أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم، فلما قدم مكة نزل الشعب - شعب البطائح - وكسا البيت الوصائل - وهو أول من كسا البيت - ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة، وأقام به ستة أيام، وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا
من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه، وقالوا: لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فقال تبع: أتفقتم، فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه،(4/54)
فخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما من أعناقهما يتلوان التوراة، تعرق جباههما لم تضرهما، ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها، الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية في اليمن. وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وذكر لنا أن كعبًا كان يقول: ذم الله قومه ولم يذمه وكانت عائشة تقول: لا تسبوا تبعًا، فإنه كان رجلاً صالحًا. وقال ابن كثير: وكان مما يحفظ من شعره:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل غم
قال: وذكر أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وست وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من
سبعمائة سنة؛ ثم لما توفي عاد قومه إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
وقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال قتادة: يوم يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن(4/55)
رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، قال قتادة: انقطعت الأسباب يومئذٍ بابن آدم وصار الناس إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذٍ خيرًا سعد به آخر ما عليه، ومن أصاب يومئذٍ شرًا شقي به آخر ما عليه.
قوله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ... (50) } .
عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر. وعن ابن عباس في قوله: {كَالْمُهْلِ} ماء غليظ كدردي الزيت؛ وعنه: أنه رأى فضة قد أذيبت فقال: هذا المهل. وعن مجاهد قوله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} ، قال: خذوه فادفعوه، {إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ} ، قال قتادة: وسط النار. وعن عكرمة قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل - لعنه الله - فقال: «إن الله تعالى أمرني أن
أقول لك: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} » ، قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، قال: فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . قال البغوي: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون فيه ولا تؤمنون به.
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)(4/56)
يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي: والله أمين من الشيطان والأوصاب والأحزان {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} قال ابن كثير: وهو رقيق الحرير كالقمصان ونحوها {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش ... {مُّتَقَابِلِينَ} أي: على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم} قال البغوي: أي: كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم {بِحُورٍ عِينٍ} قال قتادة: بيض عين {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}
أمِنوا من الموت والأوصاب والشيطان، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} ، قال ابن كثير: هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» . وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا(4/57)
أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا» . رواه مسلم وغيره.
وقوله تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي: ومع هذا النعيم، نجاهم من العذاب الأليم {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا لن يدخله عمله الجنة» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} ، أي: القرآن، {بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتفهمون ويتعظون ويعملون؛ ثم قال تعالى مسليًا لرسوله وواعدًا له بالنصر: {فَارْتَقِبْ} أي: انتظر {إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} ، أي: فيسيعلمون لمن تكون العاقبة.
* * *(4/58)
الدرس السابع والخمسون بعد المائتين
[سورة الجاثية]
مكية، وهي ٍسبع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) } .(4/59)
قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) } .
قال ابن كثير: يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض وما فيها من المخلوقات المختلفة والأجناس والأنواع من: الملائكة، والجن، والإنس، والدواب، والطيور، والوحوش، والسباع، والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ} تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقًا لأن به يحصل الرزق {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء.
وقوله عز وجل: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي: جنوبًا وشمالاً ودبورًا وصبًا برية وبحرية، ليلية ونهارية، ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم لا ينتج وقال سبحانه وتعالى أولاً {لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثم {يُوقِنُونَ} ثم {يَعْقِلُونَ} وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى، وهذه الايات شبيهة بآية البقرة، وهو قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا(4/60)
يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
قوله عز وجل: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11) } .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يعني: القرآن، بما فيه من الحجج والبينات: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي: متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ ثم قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي: أفاك في قوله، كذاب حلاف مهين، {أَثِيمٍ} في فعله وقلبه، كفر بآيات الله؛ ولهذا قال: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه {ثُمَّ يُصِرُّ} أي: على كفره وجحوده استكبارًا وعنادًا: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي: كأنه ما سمعها، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابًا أليمًا موجعًا، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً
اتَّخَذَهَا هُزُواً} ، أي: إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريًا وهزوًا {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به؛ ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: {مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} ، أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة، {وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً} أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم(4/61)
{وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء} أي: ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثم قال تبارك وتعالى: {هَذَا هُدًى} يعني: القرآن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} .
قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) } .
قال ابن كثير: يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} وهي السفن {فِيهِ بِأَمْرِهِ} تعالى، فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} ، أي: في المتاجر والمكاسب، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية، ثم قال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به، أي: الجميع من فضله وإحسانه ولهذا قال: {جَمِيعاً مِّنْهُ} ، أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} .
وقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ} ، أي: ليصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم، وكان هذا في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا(4/62)
على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. وقال البغوي: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ} أي: لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمته. قال ابن كثير: وقوله تبارك وتعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، أي: إذا صفحوا عنهم في الدنيا، فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الاخرة، ولهذا قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي: تعودون إليه يوم القيامة، فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(4/63)
الدرس الثامن والخمسون بعد المائتين
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ (20) أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا(4/64)
كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } .
* * *(4/65)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ ... وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ (20) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} يا محمد {بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} يعني: التوراة والإنجيل {وَالْحُكْمَ} يعني: الفهم بالكتاب والعلم بالسنن التي لم تنزل في الكتاب، {وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم. وعن قتادة: قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} ، والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي، {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وقال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ} قال: الشريعة الدين وقرأ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال: فنوح أولهم، وأنت آخرهم. وقال في قوله: ... {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} قال: القرآن. قال: هذا كله إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصر في القلب وقرأ:
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(4/66)
وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها.
قوله عز وجل: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) } .
عن قتادة: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ} لعمري لقد تفرق القوم في الدنيا، وتفرقوا عند الموت، فتباينوا في المصير. وقال البغوي: {أًمْ حَسِبَ} بل حسب {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} اكتسبوا المعاصي والكفر {أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقًا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا {سَوَاء مَّحْيَاهُم} يعني: أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم، كحياة المؤمنين وموتهم سواء؟ كلا {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما يقضون.
وعن ابن عباس: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان. وقال قتادة: لا يهوى شيئًا إلا ركبه، لا يخاف الله، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} . قال ابن عباس: أضله
الله في سابق علمه. قال ابن كثير: وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين أحدهما: وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه؛ والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ(4/67)
غِشَاوَةً} ، أي: فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئًا يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها ولهذا قال تعالى: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
قوله عز وجل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) } .
عن قتادة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ، أي: لعمري هذا قول مشركي العرب. وعن أبي هريرة مرفوعًا قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ، قال: فيسبون الدهر، فقال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . رواه ابن جرير. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن قول الدهرية ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم
معاد ولا قيامة؛ وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ،(4/68)
قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ، أي: يتوهمون ويتخيلون.
قوله عز وجل: {وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } .
قال ابن زيد في قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} ، قال: هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم. قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يعني: كتاب أعمالها، كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء} ولهذا قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} ، أي: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص، كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ(4/69)
هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
وقوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. وعن ابن عباس: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} نترككم. وفي الحديث: «قال الله تعالى للجَنةِ أَنْتِ رَحْمَتِى أَرْحَمُ بِكِ من أشاءُ وقال للنَّار: أَنتِ عذابي أُعذِّب بك من أشاءُ ولِكُلِّيكما عليّ مِلؤُها» .
وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، قال ابن جرير: يقول: وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وهو العزيز في نقمته من أعدائه، القاهر كل ما دونه ولا يقهره شيء، الحكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء.(4/70)
الدرس التاسع والخمسون بعد المائتين
[سورة الأحقاف]
مكية، وهي خمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا(4/71)
إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً
وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .
* * *(4/72)
قوله عز وجل: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ(4/73)
عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } .
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ، أي: لا على وجه العبث والباطل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، قال البغوي: يعني: يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا} خوفوا به في القرآن {مُعْرِضُونَ} . {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال الكلبي: أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين، أو سند إليهم.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى
إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا(4/74)
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) } .
قال البغوي: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يسمون القرآن سحرًا {أَمْ يَقُولُونَ ... افْتَرَاهُ} محمد من قبل نفسه؟ فقال الله عز وجل: {قُلْ} يا محمد: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟ {هُوَ أَعْلَمُ} أي: الله أعلم {بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه: إنه سحر، {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أن القرآن جاء من عنده {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في تأخير العذاب عنكم. قال الزجاج: هذا دعاء لهم إلى التوبة، معناه: إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به، {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ} أي: لست بأول مرسل، قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي؟ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال ابن عباس: فأنزل الله بعد هذا: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
قال ابن كثير: وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي: ما أتبع إلا ما ينزله الله علي من الوحي {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بين النذارة، أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} قال البغوي:
معناه: أخبروني ماذا تقولون {إِن كَانَ} ، يعني: القرآن، {مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} أيها المشركون، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} عن مسروق: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} يخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، التوراة مثل القرآن وموسى مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم فكذبتم نبيكم وكتابكم. وقال(4/75)
قتادة: كنا نحدث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام، وكان من أحبار اليهود. قال ابن كثير: وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وعن قتادة: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ، قال: قال ذاك أناس من المشركين: نحن أعز ونحن ونحن، فلو كان خيرًا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فإن الله يختص برحمته من يشاء. قال البغوي: قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ، يعني: بالقرآن، كما اهتدى أهل الإيمان {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالوا: أساطير الأولين {وَمِن قَبْلِهِ} ، أي: ومن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} ، يعني: التوراة إمامًا يقتدى به {وَرَحْمَةً} من الله لمن آمن به {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} أي: القرآن مصدق للكتب التي قبله {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} نصب على الحال وقيل: بلسان عربي {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ} قال ابن كثير: أي: مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين.
قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) } .
عن قتادة: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ، يقول حملته مشقة ووضعته مشقة. وعن ابن عباس: قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد(4/76)
وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين، لأن الله تعالى يقول {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} . وقال ابن كثير: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: قوي وشب وارتجل {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه، ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين. قال مسروق: إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك. وقال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق: تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياء من الله عز وجل. وعن قتادة: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي} حتى بلغ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقد مضى من سيىء عمله ما مضى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} قال البغوي: يعني: أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، والأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} فلا نعاقبهم عليها {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} مع أصحاب الجنة {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وهو قوله عز وجل: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} .
قوله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .(4/77)
عن الحسن في قوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} ، قال: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه، المكذب بالبعث. وقال ابن زيد في قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} قال: درج أهل النار يذهب سفالاً ودرج أهل الجنة يذهب علوًّا. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو مضطجع على
رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه، فقلت: يا رسول الله ادع الله ليوسع على أمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله فقال: «أولئك قوم قد عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» . وقال أبو مجلز: ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} . والله أعلم.
* * *(4/78)
الدرس الستون بعد المائتين
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ(4/79)
مُّبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } .
* * *(4/80)
قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} يعني: هودًا {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضر موت، بموضع يقال له مهرة، وإليها تنسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمل سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. قال قتادة: ذكر لنا أن عادًا كانوا حيًا باليمن، وكانوا أهل رمل(4/81)
مشرقين
على البحر بأرض يقال لها: الشحر، والأحقاف: جمع حقف، وهي المستطيل المعوج من الرمال؛ قال ابن زيد: هي ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلاً؛ قال الكسائي: هي ما استطال من الرمل {وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: من قبل هود {وَمِنْ خَلْفِهِ} إلى قومهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا: {عَنْ آلِهَتِنَا} أي: عن عبادتها: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن العذاب نازل بنا {قَالَ} هود: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} وهو يعلم متى يأتيكم العذاب {وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي إليكم ... {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} . {فَلَمَّا رَأَوْهُ} ، يعني: ما يوعدون به من العذاب {عَارِضاً} سحابًا {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له: المغيث، وكانوا قد حبس عنهم المطر، فلما رأوها استبشروا {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ، يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مرت به من رجال عاد وأموالها، {بِأَمْرِ رَبِّهَا} فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال،
وكانوا تحت الرمل، سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم فرمت بهم في البحر.
ثم ساق بسنده عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه فقلت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ(4/82)
مُّمْطِرُنَا} » الآية، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} لأن السكان والأنعام بادت بالريح، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} ، يعني: فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان، وطول العمر، وكثرة المال، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم} يا أهل مكة من القرى كحجر ثمود، وأرض سدوم، ونحوهما. {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} الحجج والبينات، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم؛ يخوف مشركي مكة. {فَلَوْلَا} فهلا {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} ، يعني: الأوثان التي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} ، قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول
العذاب {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} ، أي: كذبهم الذي كانوا يقولون أنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم، {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يكذبون أنها آلهة. انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي: كذبهم {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها.
قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ(4/83)
مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32) } .
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} لما مات أبو طالب خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف - وهم يومئذٍ سادة ثقيف وأشرافهم - وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم به من نصرته على الإسلام،
والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك؟ وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموه عليّ وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغووا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف، ولقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المرأة من بني جمح فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك» ؟ . فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك(4/84)
هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عداس، فقالا له:
خذ قطفًا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل ذلك عداس؛ ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده قال: «بسم الله» ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك» ؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى» ؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي» . فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك؛ فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك ياعداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ ! قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} الآية،(4/85)
ثم ساق بسنده عن ابن عباس قال: (انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين
وبين خبر السماء، فأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن.
قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا} ، قالوا: صه وروي في الحديث: «إن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون» ، {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ، قال بعضهم لبعض: {أَنصِتُوا} واسكتوا لنستمع إلى قراءته فأنصتوا واستمعوا القرآن، {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مخوفين داعين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، قال عطاء: كان دينهم اليهودية، لذلك قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} ، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ... {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلاً
من الجن(4/86)
فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوافوه في البطحاء فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} لا يعجز الله فيفوته، {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء} أنصار يمنعونه من الله، {أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} . انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب، ولهذا نجح في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفودًا وفودًا. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } .
قال البغوي: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} لم يعجز عن إبداعهن. وقال ابن كثير: يقول تعالى: أولم يروا هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد: {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} ، أي: ولم يلوّثه خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، قال عطاء
الخراساني: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن زيد في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، قال: كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يتخذ الله رسولاً إلا كان ذا عزم، فاصبر كما صبروا. وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولوا عزم إلا يونس بن متى، لعجلة كانت منه ألا ترى أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . وقال البغوي: قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ،(4/87)
أي: ولا تستعجل العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة؛ كان ضجر بعض الضجر، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم، فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر عن قرب العذاب فقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب في الآخرة {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا {إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} ، أي: إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، لأن ما يمضي وإن كان طويلاً كأنه لم يكن، ثم قال: {بَلَاغٌ} ، أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم، والبلاغ بمعنى التبليغ، {فَهَلْ يُهْلَكُ} بالعذاب إذا نزل: {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون من أمر الله. قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون؛ ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ، أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله عز وجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب. والله أعلم.
* * *(4/88)
الدرس الحادي والستون بعد المائتين
[سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -]
مدنية وهي ثمان وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
... {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)(4/89)
وَكَأَيِّن مِّن
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } .
* * *(4/90)
قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) } .
قال البغوي: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها فلم يقبلها، وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام. وقال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل الدائرة عليهم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} قال سفيان الثوري: يعني: لم يخالفوه في شيء {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} حالهم؛ قال ابن عباس: عصمهم أيام حياتهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} الشيطان {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} ، يعني: القرآن {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أشكالهم. قال الزجاج: كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين.
وقال ابن كثير: أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار وأصلحنا شؤونهم، لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، أي: اختاروا الباطل على الحق، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} ، أي: يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/91)
قوله عز وجل: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } .
قال البغوي: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} نصب على الإغراء، أي: فاضربوا رقابهم، يعني: أعناقهم، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} بالغتم في القتل وقهرتموهم {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} يعني: في الأسر حتى لا يفلتوا منكم، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} ، {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} يعني: بعد أن تأسروهم فإما أن تَمُنّوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض، وإما أن تفادوهم فداء.
وقوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها. وقال الكلبي: حتى يسلموا ويسالموا. وعن مجاهد قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ، قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جرابًا، وتذهب العداوة من الأشياء كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله. وعن قتادة: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ، قال: الحرب من كان يقاتلهم، سماهم حربًا. {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ}(4/92)
أي: والله بجنوده الكثيرة كل خلقه له جند، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندًا، {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} ، {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} ، قال ابن زيد: بلغنا عن غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، قال قتادة: حق على الله أن يعطي من سأله وينصر من نصره. وقال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ} قال: شقاء لهم {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قال: الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هدى الآخرين. وعن مجاهد في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ، قال: مثل ما دمرت به القرون الأولى، وعيد من الله لهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} قال: وليهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ، قال ابن كثير: ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يُجَبْ، وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم أنه عنها، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل اعل هبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تجيبوه» ؟ ، فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا: الله أعلى وأجل» ، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تجيبوه» ؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» .
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)(4/93)
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } .
عن قتادة: قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} ، قال: هي: مكة. عن عكرمة عن ابن عباس أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار - أراه قال -: التفت إلى مكة فقال: «أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليّ، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» ؛ فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . رواه ابن جرير.(4/94)
قال البغوي: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفتها {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} آجن متغير منتن، {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ} لذيدة {لِّلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل والأيدي {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي: من مكان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟ {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً} شديد الحر {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} فخرجت من أدبارهم {وَمِنْهُم} يعني: من هؤلاء الكفار {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وهم: المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه
ولا يفهمونه تهاونًا به وتغافلاً، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من الصحابة {مَاذَا قَالَ} محمد {آنِفاً} يعني: الآن؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلم يؤمنوا {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} في الكفر والنفاق {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} يعني: المؤمنين {زَادَهُمْ} ما قال الرسول {هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} وفقهم للعمل بما أمرهم به وهو التقوى. قال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم. {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} وساق بسنده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا، أو فقرا منسيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر» .
قوله عز وجل: {فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} ، أي: أماراتها وعلاماتها؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة. انتهى ملخصًا؛ ثم ساق بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(4/95)
«بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني: أصبعه الوسطى والتي تلي الإبهام. وسأله أعرابي: متى الساعة؟ قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» .
وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} ، أي: فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذ جاءتهم الساعة؟ نظيره {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . وعن قتادة: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} هؤلاء المنافقون دخل رجلان: رجل ممن
عقل عن الله وانتفع بما يسمع، ورجل لم يعقل عن الله فلم ينتفع بما سمع. كان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع تارك. وقال في جامع البيان: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، أي: إذا علمت حال الفريقين فاثبت على التوحيد. وقال البخاري: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم. قال الحافظ ابن حجر: قوله: باب العلم قبل القول والعمل، قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل؛ قوله: فبدأ بالعلم، أي: حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} والخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو متناول لأمته. انتهى.
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطأي(4/96)
وعمدي، وكل ذلك عندي» . وكان يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وعن عاصم الأحول قال سمعت عبد الله بن سرخس قال: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلت معه من طعامه فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، فقال: «ولك» فقلت: أستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولكم وقرأ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، قال البغوي: هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن
يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم {مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ، أي: عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه منهم شيء.
* * *(4/97)
الدرس الثاني والستون بعد المائتين
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ(4/98)
لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } .
* * *(4/99)
قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} حرصًا منهم على الجهاد: {لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} تأمرنا بالجهاد، {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} ، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، يعني: المنافقين، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} شزرًا بتحديق شديد كراهية منهم للقتال، وجبنًا عن لقاء العدو، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كما ينظر الشاخص بصره عند الموت {فَأَوْلَى لَهُمْ} وعيد وتهديد، ومعنى قولهم في التهديد: أولى لك، أي: وليك وقاربك ما تكره.
ثم قال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، وهذا ابتداء محذوف الخبر. وقال ابن كثير: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} ، أي: جد الحال وحضر القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} ، أي: خلصوا إليه
النية {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} . وقال في(4/100)
جامع البيان: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، أي: كان الأولى بهم طاعة الله وقول معروف بالإجابة، أو معناه: فالويل لهم من التولي، وأصله: أولاه الله ما يكرهه، واللام مزيدة، أي: هذا الويل لهم. ثم قال: {طَاعَةٌ} ، أي: آمرهم طاعة، أو طاعة خير لهم، {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} جد الأمر وفرض القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} في الإيمان والطاعة {لَكَانَ} الصدق ... {خَيْراً لَّهُمْ} .
وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ، قال بعض المفسرين: هل يتوقع منكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن الدين، أو توليتم أمور الناس، {أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، بالقتل والعقوق. وعن قتادة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطّعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} إذًا والله يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية الله، لو تدبره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك. وقال خالد بن معدان: ما من آدمي إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبده خيرًا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله بعبده غير ذلك
طمس عليهما، فذلك قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وعن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها؛ فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلِّيَ، فاستعان به) .(4/101)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) } .
عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم} هم أهل النفاق. وعن قتادة: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} يقول: زين لهم {وَأَمْلَى لَهُمْ} قال البغوي: مد لهم في الأمل، وعن ابن عباس: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال: هم أهل النفاق، وقد
عرفهم إياهم في سورة براءة. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} ، قال: هؤلاء المنافقون، وقد أراه الله إياهم، وأمرهم أن يخرجوا من المسجد، قالوا: إلا إن تمسكوا بلا إله إلا الله حقنت دماؤهم، ونكحوا ونُوكحوا بها.
وقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ، قال ابن كثير: أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. وفي الحديث: «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله(4/102)
تعالى جلبابها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر» . وقال ابن زيد في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} ، قال: نختبركم البلوى الاختباري، وقرأ: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لا يختبرون. {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} .
قال البغوي: نظهرها ونكشفها.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ، أي: دين الله {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} خالفوه، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} كاليهود والمنافقين وغيرهم {لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} ، فلا يضرون إلا أنفسهم، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} ، فلا تنفعهم في الآخرة.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} الآية، من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحًا عمله بعمل سيئ،(4/103)
فليفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الخير ينسخ الشر، والشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال خواتيمها. وعن مجاهد: {فَلَا تَهِنُوا} ، قال: لا تضعفوا، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} ، قال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين صرعت لصاحبتها ودعتها إلى الموادعة، {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أولى بالله منهم {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} . قال ابن كثير: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ، أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ورأى الإمام في المهادنة والمصالحة مصلحة فله أن يفعل ذلك كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صده كفار قريش عن مكة. وعن ابن عباس قوله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، يقول: لن يظلمكم أجور أعمالكم. وقال مجاهد: لن ينقصكم.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: هذا حاصلها. {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} أن تتركوا المعاصي وتفعلوا الطاعات {يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ} في الآخرة، {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} بمسألة جميعها {تَبْخَلُوا} بها فلا تعطوها {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قال قتادة: قد علم الله أن في مسألة المال خروج الأضغان. وقال ابن زيد في قوله: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} ، قال: ليس بالله - تعالى ذكره - إليكم حاجة، وأنتم أحوج إليه. وعن قتادة: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} ، قال: إن تولوا عن طاعة الله. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان قال:(4/104)
«هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» . رواه ابن جرير وغيره والله أعلم.
* * *(4/105)
الدرس الثالث والستون بعد المائتين
[سورة الفتح]
مدنية، وهي تسع وعشرون آية
عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في سيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها قال معاوية: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت قراءته. متفق عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً(4/106)
وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) } .
* * *(4/107)
قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) } .
عن أنس بن مالك في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فنحر الهدي بالحديبية، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن، فقال: «لقد أنزل عليّ آية أحب إليّ من الدنيا جميعًا - فقرأ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} - إلى قوله -: ... {عَزِيزاً حَكِيماً} » ، فقال: أصحابه: هنيئًا لك يا رسول الله، قد بين الله لنا ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله هذه الآية بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} . رواه ابن جرير وغيره.(4/108)
وعن ابن عباس في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: السكنية: الرحمة، {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} ، قال: إن الله جل ثناؤه بعث نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ، قال فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
قال البغوي: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة والوقار، {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} لئلاً تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم.
قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) } .
عن قتادة: قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} يقول: شاهدًا على أمته على أنه قد بلغهم، ومبشرًا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيرًا من النار. وعن ابن عباس: {وَتُعَزِّرُوهُ} يعني: الإجلال {وَتُوَقِّرُوهُ} يعني: التعظيم. قال ابن جرير: ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم
والإجلال. قال البغوي: هذه الكنايات راجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وها هنا وقف {وَتُسَبِّحُوهُ} ، أي: تسبحوا الله يريد تصلّوا له {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} بالغداة والعشي قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا ويعزروه ويوقروه ويسبحوه: بالياء فيهن(4/109)
لقوله: {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وقرأ الآخرون: بالتاء فيهن.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، قال ابن عباس: {يَدُ اللَّهِ} بالوفاء لما وعدهم من الخير، {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبايعونه، ويدُ اللهِ فوق أيديهم في المبايعة: قال ابن جرير في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وجهان من التأويل أحدهما: يد الله فوق(4/110)
أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ والآخر: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم إنما بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصرته على العدو.
وقوله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ} أي: نقض العهد، {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: وباله راجع عليه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنة؛ وقرأ حفص: بضم هاء عليه.
قوله عز وجل: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) } .
عن مجاهد في قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا(4/111)
وَأَهْلُونَا} ، قال: أعراب المدينة كجهينة ومزينة استتبعهم لخروجه إلى مكة، قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم، فاعتلوا بالشغل. وعن قتادة قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} قال: ظنوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون فذاك الذي خلفهم عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} قال: فاسدين. وقال ابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء. وعن مجاهد قال: رجع - يعني:
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة، فوعده الله مغانم كثيرة، فعجل له خيبر فقال المخلفون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وهي: المغانم {لِتَأْخُذُوهَا} التي قال الله جل ثناؤه: {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد. وعن مقسم قال: لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر، وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية، لم يعط أحدًا غيرهم منها شيئًا، فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} يقول: ما وعدهم. وعن قتادة {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ} الآية، وهم الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية؛ ذكر لنا أن المشركين لما صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية عن المسجد الحرام والهدي، قال المقداد: (إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فلما سمع ذلك أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تبايعوا على ما قال، فلما رأى ذلك نبي - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشًا ورجع من عامه ذلك) . وعن قتادة: قوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} ، أي: إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد، وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب.
وقوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ(4/112)
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ، قيل: هوازن وثقيف، وقيل: بنو حنيفة، وقيل: فارس والروم. قال ابن جرير: وجائز أن يكون عنى
بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عنى بهم غيرهم، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جل ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد. وعن قتادة: قال: ثم عذر الله أهل العذر من الناس فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ، قال: هذا كله في الجهاد.
* * *(4/113)
الدرس الرابع والستون بعد المائتين
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ(4/114)
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ... وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) } .
* * *(4/115)
قوله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى ... لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) } .
عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني: عثمان بن عفان؛ فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحرمته؛ فخرج عثمان إلى مكة فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابته فجعله بين يديه، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان عظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان قد
قتل. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن عثمان قد قتل قال: «لا نبرح(4/116)
حتى نناجز القوم» ، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت، فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته قد اختبأ إليها يستتر بها من الناس؛ ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. رواه ابن جرير.
عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة فَبَايَعْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت، قال: فبايعناه كلنا إلا الجد بن قيس. وعن قتادة: قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: الصبر والوقار، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهي خيبر {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} ، قال البغوي: من أموال يهود خيبر {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} ، وعن مجاهد: قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ، قال: المغانم الكثيرة التي وعدوا: ما يأخذونها إلى اليوم. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} ، قال: عجل لكم خيبر. وعن قتادة: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} عن بيوتهم وعيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} يقول: وذلك آية للمؤمنين: كف أيدي الناس عن عيالهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} . وعن الحسن:
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قال: هي فارس والروم. وقال قتادة: بلغنا أنها: مكة، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
قوله عز وجل: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ(4/117)
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) } .
عن قتادة: قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} ، يعني: كفار قريش؛ قال الله: {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} ينصرهم من الله. وعن عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا في أصل شجرة بالحديبية وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة، فرفعتهما عن ظهره، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه، وسهيل بن عمرو - وهو صاحب المشركين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لعلي: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فأمسك سهيل بيده فقال: ما نعرف (الرحمن) اكتب في قصتنا ما نعرف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اكتب بسمك اللهم» فكتب فقال: «هذا ما صالح محمد رسول الله وأهل مكة» فأمسك سهيل بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولاً، اكتب في قصتنا ما نعرف. قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله» ، فخرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل خرجتم في أمان أحد» ؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم. قال: فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . رواه ابن جرير. وقال قتادة: ذكر لنا أن(4/118)