علم الإِنسان أن تحصل صورة المعلوم في قلبه وثبوت الصورة في
، القلب أوكد كتابة، ويجوز أن يكون معنى (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) .
أي جزاء ما عملت من خير وشر.
إن قيل: ما فائدة حذف الجزاء في هذا المكان ونحوه من قوله: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) ، وقوله: (ذُوقُوا مَا كنُتُم تَكْسبُونَ) .
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ؟
قيل: لما أراد أن ينبِّه أن الإِنسان لا يُبخس حظه فيما يفعل من خير، ولا يُزاد عليه في جزاء ما يفعل من شر، ذكر نفس الفعل دون الجزاء؛ تنبيهاً له أن فعله مستوفى بالجزاء، حتى كأنه هو، كقولك: زيد هو أبوه بعينه.
إذا أريد المبالغة في التشبيه به، وإعادة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، توكيد
واستظهار عليهم.
فإن قيل: وكيف علَّقه بالرأفةِ؟(2/518)
قيل: تنبيها لأمن المحبوب من حبيبه، ولهذا قال النبي عليه
الصلاة والسلام مخبراً عن الله: "لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به.
وبصره الذي يبصر به " الخبر.(2/519)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قوله عز وجل: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
هذا إلزام "كالأول، لكنه أعم، لأن طاعته أعمّ من اتباعه، إذ قد يكون الإنسان مطيعا لغيره، ثم لا يكون متبعا له في أفعاله، وذكر ها هنا الرسول تنبيها أن كل من كان رسولاً من جهة فطاعته واجبة، \ثم قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) ، أي من تولى فقد خرج عن التحبب إليه، ومن لم يتحبب إليه بطاعته فهو لا يحبه بإثابته، والكافر غير متحبب إليه بتولِّيه عنه، فمحال أن يحبه، فصار تقديره: إنكم إذا كفرتم بالإعراض عنه وعن(2/520)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
رسوله، فإنه لا يحبكم. وفي ذلك إبطال دعواهم، حيث قالوا:
(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وقوله: (لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) تنبيه
أنه ينقطع عنهم توفيقه، وبانقطاع توفيقه عنهم يضلون ويعمهون.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) .
قد تقدَّم الكلام في معنى الاصطفاء، وأن ذلك منه تعالى(2/521)
على وجهين: أحدهما: على سبيل الثواب بحسب الاستحقاق.
والثاني: على سبيل التفضيل والابتداء بالترشيح، الذي يؤدي إلى
العمل المرضي، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك على سبيل الاجتباء، وهو أن تفيض العناية الإِلهية عليه، فيجعله على نهاية الكمال بلا اجتهاد منه، ويجعله سببا لتخريج غيره.
وذلك للأنبياء ومن داناهم من الأولياء.
الثاني: على سبيل الاهتداء، وهو أن يوفّقه برسله ليتبلَّغ درجة. فدرجة على سبيل(2/522)
الاكتساب، حتى يقرب من هؤلاء لتحمل المشاق، وذلك للحكماء
ومن داناهم من المؤمنين، ويقال فيهما الاصطفاء، ولوجود
هذين الطريقين، قال تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) وقول الفرَّاء: اصطفاؤهم اختيار دينهم.
وقول الزَّجَّاج والجبائي: اختيارهم للنبوة.
وقول البلخي: هو تفضيلهم على غيرهم بما أولاهم من الأمور الجليلة.
كل ذلك(2/523)
داخل في الاصطفاء، وقد تقدم الكلام في الآلِ وأنه أخصُّ من
الأهل، فإن الآل يتناول الأخِصَّاء الذين يَجْرُون من الإنسان
مجرى ذاته، ولهذا يقال لذات الإِنسان ولخصائص عشيرته: الآل.
ولم يتناول آل محمد الكافرين من ذويه، وعنى بالمذكورين(2/524)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
في هذه الآية جُملة مَنْ فضلهم في قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية، فذكر اثني عشر نبيًّا، وسنذكر إذا انتهينا إليه تخصيصهم بالذكر، وكيف رُتبوا هذا الترتيب، ومخالفة ذكرهم في الترتيب لأزمنتهم.
إن قيل: كيف تعلُق هذه الآية بما قبلها؟
قيل: تعلُقها بها من وجهين.
أحدهما: أنه لما أمرهم تعالى باتباع نبينا وهم
يُقرُّون بوجوب اتباع الذين ذكرهم، بيّن أن جماعتهم في كونهم
متساوين في النبوة سواء، وأن الذي دلَّ على وجوب اتباع
أهؤلاء يدلُّ على وجوب اتباع، سائرهم.
والثاني: أنه نبَّه أن اصطفاءه تعالى لهؤلاء لَكونهم مطيعين له، مستحقين لمحبته
بذلك.
قوله عز وجل: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الذرية: قيل: من ذرأ الله الخلق فترك همزه نحو روية وبرية ونبى(2/525)
وخابية وملك من روأ وأنبأْ وخبأ ومَلأك، وقيل: بل هو من
ذَرْو الريح، وأصله ذُرُّويَة، وقيل: هي فُعْلِيَّة من الذر نحو قمرية.
ويُقال: ذرية للواحد والجمع، ويقال للأصل والنسل، قال تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ) أي إياهم، ويُقال للنساء:
الذراري، قال عليه الصلاة والسلام: "حجوا بالذراري، ولا تأكلوا مالها وتذروا أرباقها في أعناقها " أي بالنساء،(2/526)
فأما الصبيان فلا أرباق في أعناقها؛ إذ لا حج عليهم.
قوله: (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعني في الموالاة الدينية، لقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقوله لنوح: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ردًّا عليه لما قال في الكناية عن هذا العدو.
والضعة: الخساسة، في مقابلة الرفعة، ولذلك استعير
صعود الجبل وبلوغ السماء ونحو ذلك للرفعة، والوقوع في
الثرى ونحوه للضعة.(2/527)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
والرجيم: المرجوم، وأصل الرجم: الرمي بالرجام أي
الحجارة، وقيل ذلك للنجم المنقض، لقوله: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) وقيل للظن والكلام المقرِّع: رجم، ومنه (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي وضعت حملها، وأنثها على
المعنى، وقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لكون الأنثى ناقصة
العقل والدين، ولهذا قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ولأنه(2/528)
روي أنه لم يكن يستصلح للتحرير من قبل إلا الذكور.
وبين بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أن إخبارها بذلك لم
يكن على سبيل الإِعلام، بل على معنى أن الله أعلم بمآلها، وحقيقة
أحوالها، وذلك يحتمل أن يكون من قولها، وأن يكون من قوله(2/529)
تعالى، وإذا قرئ (بما وَضَعتُ) فإخبار عن قولها على سبيل
التوجُّع، إذ لم يكن ما في بطنها على ما أحبّت، وفائدة قوله:
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) قيل: هو أن هذا الاسم في لغتهم اقتضى
معنى التحرير، وتضرَّعت امرأة عمران إلى الله تعالى أن يحفظها
وذريتها من الشيطان، الذي قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لكون
الأنثى أطوع له، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان ينال منه طَعْنةً، ولها يستهلُّ الصبي إلا ما
كان من مريم وابنها، فإنها لما وضعتها قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(2/530)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فضُرب دونها حجاب".
ونبه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إنك تسمع نذري، وتعلم
حالي ونيتي، فتقبل مني ما قلت.
قوله في وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
القبالة: الكفالة، فقوله: (تَقَبَّلَهَا) قيل: تكفَّل تربيتها،(2/531)
وقيل: رضيها، ولفظ التقبّل يقتضيهما.
قال الحسن: قبوله إياها أنه صانها عن كل أذى وقبول مصدر قبل، نحو:
وضوء وطهور، ولما كان تقبّل وقبل يتقاربان جمع بين التقبّل
والقبول، تنبيها أنه جمع من الأمرين التقبُّل الذي يقتضي الرضا
والإِثابة، وقيل: القبول من قولهم: فلان عليه قبول.
إذا أحبّه من رآه.
وقوله: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) أي ربّاها تربية حسنة.
وتقدير الكلام: أنبتها فنبتت نباتاً، وروي أن أمّها لما وضعتها(2/532)
لفّتها في خرقة وبعثت بها إلى مسجد بيت المقدس فقال:
زكريَّا: أنا أحق بها، لأن خالتها تحتي، وقالت الأحبار: لو
تركت لأحقّ الناس بها لتُرِكت لأمها التي وضعتها، فاختصموا
فيها فتقارعوا، فقرعهم زكريا.
واختلف الرزق، فقيل: إنه كان يوجد عندها طعام الشتاء في الصيف، وطعام الصيف في الشتاء، من غير أن كان يدخل إليها آدمي.
وقال الجبّائي: يجوز أن كان(2/533)
رزقاً يأتيها به غير زكريا من حيث لا يعلمه، ولو كان الأمر
على ما ذكر لما أعاد الله ذكره تعجباً من أمرها.
وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يدل على أنه ليس كما ذكر.
وقال بعضهم: كان ذلك فيضاً من الله يأتيها من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً، وهذا أعجب من إتيانها الطعام في غير أنه، لمن عرف
فضيلة العلم، واللفظ محتمل، ثم بين تعالى أن ذلك ليس(2/534)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
بعجيب، فرزق الله للعباد على وجوه تقصر عنها معرفة الناس.
قوله عز وجل: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
هنالك: يقع على الزمان والمكان، وإن كان المكان أملك له، يقال: هنا، وهناك، وهنالك، كقولك: ذا، وذاك، وذلك، ولما رأى زكريا من أحوال مريم تلك العجائب، وكان به حاجة إلى الولد مع كبر سنه ووهن من
عظامه، سأله أن يهب له ذرية طيبة، أي صالحة، واستعمال الطيب
في الصالح: كاستعمال الخبيث في ضده، في نحو قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح وقوله:(2/535)
(مِنْ لَدُنْكَ) أي من نعمك وفضلك الإِلهي، وذاك أن إيجاد الأشياء
وإن كانت كلها بقدرته وفضله فعلى ضربين: إبداع، وهو الذي لم
يجعل لغوه إليه سبيلا، لا للملائكة ولا للناس، وفِعْل جَعَلَ
للروحانيّ أو الجسمانيّ إليه سبيلًا، فبين بقوله: (مِنْ لَدُنْكَ) أنه
يسأل ما يتفرَّد بإيجاده.
وقوله: (مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي مجيب
لمن دعاك على الشرائط التي بها تُدعى، وقد تقدَّم الكلام في
شرائط الدعاء في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .(2/536)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
المحراب: قيل: سُمّي بذلك لأنه موقع محاربة
الشيطان والهوى، وقيل: لكون الإِنسان حريباً من أشغال
الدنيا.
وقيل: الأصل فيه أنه موضع حريبة الرجل أي ماله، وذلك أنه
كان اسماً لصدر المجلس، ثم لمَّا اتُّخذت المساجد سمي به
منها ذلك الموضع، وقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: هي
كلمةُ الإِيمان، وهو قول قتادة، وقال أبو عبيدة: كتاب الله(2/537)
وقال غيرهما: عنى به عيسى، وتسمية عيسِى بالكلمة
قيل: لكونه موجدًا بكن، المذكور في قوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
وقيل: سُمّي بذلك لكلامه في صغره، والسيد(2/538)
السايس لسواد الناس، أي معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد.
ولا يقال: سيد الثوب، وقيل: سيداً أي عالما وتقيًّا وحليمًا.
وذلك من شروط السيادة، فمن لم يوجد فيه ذلك فسيادته زور.
وقال بعض الصوفية: قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)(2/539)
تنبيه أنه قل ما يأتي الإِنسان توفيق وفيض إلهي إلا بالالتجاء إليه.
والحَصُور: يُقال تارة في معنى الفعول.
وتارة في معنى الفاعل، فيجوز أن يكون هو الذي حصر نفسه.
ويجوز أن يقال حصره علمه وعقله.
وقد روي أنه كان ممنوعا من قبل الله تعالى عن النساء.
وأنه كان معه مثل هدب الملاءة،(2/540)
والأول أشبه باستحقاق المدح.
وقرئ: (نادته) ، و (ناداه) ، نحو (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ) و (يَعْرُجُ) .
وروي أن عبد الله(2/541)
ذكَّر الملائكة في كل القرآن.
وقال أبو عبيدة: وذلك خلاف الكفار، حيث أنثوا الملائكة، وقالوا: بنات الله. وليس تأنيث العرب الملائكة، وتعيير الله إياهم لتأنيث اللفظ، إنما ذلك لجعلهم إياها له بنات، إن قيل: ما معنى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ،(2/542)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
وذلك يقتضي جواز نبي ليس بصالح؟!
قيل: قوله: (مِنَ الصَّالِحِينَ) متعلق بمضمر، أي وهو من الصالحين.
وذلك مما أكد به قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) .
ومعناه من أولاد الصالحين.
قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
الغلام يجوز أن يكون أصلا في بابه، وعنه أخذ الاغتلام، لكون المغتلم شبيها به في المعنى المخصوص، ويجوز أن يجعل الغيلم - وهو منبع الماء - من
ذلك، وسُمّي الغلام لكونه ذا رونق، ولذلك يُقال: فلان عليه
ماء الشباب، والعقر: أصل البنية للدار والإِنسان، وعقرته(2/543)
أي أصبت عُقره، أي أصل بنيته، وذلك يقتضي معنى القتل، ثم
سمي الجرح - أي جرح كان - عقراً، وسُمي الخمر عُقاراً لكونها
كالعاقر للإِنسان.
وجُعل بناؤه بناء الإِرواء كالخُمار والكُباد
والمعاقرة: المشاربة، كأنَّه يطلب كل واحد منهما عَقْر صاحبه بإسكاره. وامرأة عاقر كأنها تعقر النسل، لإِفسادها ماء الفحل.
وجعل العُقْر اسما للدية، وكنى به عن بذل البضع.
وقال ها هنا: (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وفي موضع آخر: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) ، وذاك أنك إذا بلغتَ الكبر فقد بلغك الكبرُ،(2/544)
نحو أدركني الجهدُ وأدركتُ الجهدَ، ولا يقال: أدركني المكان.
لأن حقيقة إدراك المكان من الإِنسان دون المكان، وإدراك الجهد
والكبر مجاز في الطرفين، فصار انتساب كل واحد منهما إلى(2/545)
الآخر سواء، وقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ليس بإنكار لقدرة
الله، بل لما كانت عادته تعالى في إيجاد الأولاد أن لا يكونوا من
الهَرِم والعاقِر، أراد التعرف أن ذلك هل يحصل وهما باقيان على
حالتيهما، أو يكون بإعادة الشباب إليهما، أو يكون ذلك من
امرأة أخرى أو يحصل ذلك على سبيل لم تجر به العادة؟
وقال بعضهم: إنما قال أنى يكونُ لي ذلك؟ استعظاماً لنعمة الله.
كقولك: من لي بكذا؟ ومن أين لي كذا؟
وقال بعضهم: قال ذلك لأنه لما سمع نداء المَلك
قدّر أن ذلك وسوسة من الشيطان، واستبعد بعضهم ذلك.
وقال: إن الأنبياء لا يشتبه عليهم ما يكون من قِبَل الملائكة
بما يكون من قِبَل الشيطان) ،(2/546)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
وقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ) على الجواب الأول: أي أنه يهب لك
الولد وأنت بحالتك، وعلى الثاني: أن نعمته في خلق ذلك
كنعمته في غيره، وعلى الثالث: إن تعجّبت من ذلك فتعجب من
سائر أفعاله المبدعة، فإن خلقه لذلك كخلقه لما يشاء.
قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
العشي: من لدن غروب الشمس إلى انقضاء صَدْر الليل.
وخصّ العشاء بالطعام المتناول فيه، وتعشى تناول
العشاء وعَشى صار في عشاً لظلمةِ عينه، وآية في وزنها(2/547)
ثلاثة أقوال: الأول: أنها فَعلة، وحق مثله أن يُجعل لامه معتلًّا
نحو: حياة ونواة، ونظيرها راية، والثاني: فِعلة إلا أنها قلبت
كراهية التضعيف، نحو طائي في طَيْئي، والثالث: فاعلة، وأصلها
آيية فخَففت وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها أيية، ولو كانت
فاعلة لقيل: أويّة، والرمز: الإِشارة بالشفة.
والغمز بالعين والحاجب.
والإِبكار: مصدر أبكر، يُقال: أبكر وبكَر وبكَر
وابتكر، والبُكرة من وقت طلوع الفجر إلى ضحوة النهار.
وقوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً) قيل: طلب علامة لوقت الحمل.
فجعل تعالى أن لا يمكنه مكالمة الناس إلا إيماءً مع تمكنه من ذكر
الله، وقيل: بل سأله أن يبين له قربة يجعلها شكراً لما خوَّله،(2/548)
فأمره أن يجعل شكره الاشتغال بالعبادة، وترك مكالمة الناس إلا
رمزًا ثلاثة أيام، وهو المذكور في قوله: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) .
وفي هذا دليل أن في ذكر اليوم أو الليلة غنىً عن ذكر الآخر عند
الإِطلاق، وإذا أُريد الخلاف بمن حينئذ نحو (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ) ، وعلى هذا الآية عبارة عن الفريضة، فإن زكريا سأل(2/549)
أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً له، وتسبيحه: قيل هو
الصلاة، وسميت الصلاة سُبحة.
وقوله: (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) قيل: عنى في هذه الأيام الثلاث.
ولم يعنِ التسبيح في طرفي النهار فقط، بل إنما أراد إدامة العبادة في هذه
الأيام.
وقرئ (أَلَّا تُكَلِّمَ) بالرفع والنصب، نحو:(2/550)
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بالرفع والنصب.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
تكرير الاصطفاء قيل لمعنيين: الأول فرَّغها لعبادته وأغناها عن الكسب، والثاني أن جعلها أمًّا لعيسى وآية له، وقيل الأول الاصطفاء الذي هو(2/551)
الاجتباء. والثاني الاصطفاء الذي هو على سبيل الهداية، وقد
تقدم ذكرهما آنفاً.
وتطهيرها قيل: من الحيض.
وقيل: من نجاسة الكفر، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) .
وقول الملائكة لها قيل: كان بالإِلهام، فإنه ما أوحى الله إلى(2/552)
امرأة وحي النبوة، فلذلك قال:(2/553)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)
وقيل: بل قد أوحي إليهن ولكن لم يبعثن رسلا.
وقال الجئائي: إنما يجوز أن يكون أوحي إليها معجزة
لزكريا أو توطئة لنبوة المسيح، وقوله هذا إيماءً لمذهبهم أن(2/554)
المعجزات والوحي لا تصح إلا في أزمنة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وذلك دفع منه لكرامة الأولياء، وقوله: (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) ، قيل: هو على العموم، وقيل: عنى اللاتي في زمانها.(2/555)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قوله عز وجل: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
القنوت: إدامة الطاعة صلاة كانت أو غيرها من
العبادات، ولهذا قال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)
فجعل من جملة القنوت، وتقديم السجود على الركوع.
قيل: لكونه كذلك في شريعتهم، وقيل: تنبيهًا أن الواو لا تقتضي
الترتيب، وقيل: عنى بالسجود الصلاة، لقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
وعنى بالركوع الشكر، لقوله تعالى في قصة داود:
(وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) أي شاكرًا، وهذا تخصيص للركوع بحال
مقترنة به، وقيل: نبّه بقوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني(2/556)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
مع العابدين والمصلين، وخصها بفضل إيجابٍ اقتضاه قوله.:
(اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي)
إن قيل: كيف أخر هذا الذكر لمريم عن ذكر قصتها؟
قيل: لما ذكر آيتها قرن بها آية زكريا وعبادته، ثم أتبعها بعبادة مريم متمما لقصتها؛ لئلا يحتاج إلى قطع قصة زكريا، فيكون قد قرن ذكر الآية بالآية والعبادة بالعبادة.
قوله عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)(2/557)
قد تقدَّم أنواع الوحي، وأن أصله الإِشارة، ويقال
للكتابةْ: وحي، إذ هي إشارة ما، وقد يكون الوحي بالإِلهام
كما يكون بضرب من الكلام، وعلى ذلك قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)
وقد يقال ذلك للوساوس نحو قوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)
وكثيراً ما يشبه الوساوس بالإِلهام، فلا يُميز بينهما إلا أولو العقول
الراجحة.
والقلم: القص من الصلب كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قِلْم، كقولهم للمنقوضِ: نِقْض،(2/558)
وخُص ذلك بما يكتب به وبالقَدَح، وأكد بقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)
أن هذا مما أبلغت من الغيب، لقوله عز وجل في قصة موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا)
وقوله: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)
ومقارعتهم عليها:
قال قتادة: كانوا من حرصهم على كفالتها يتقارعون عليها لفضلها.
وقيل: لتدافعهم إشفاقا من أزمة كانوا فيها.(2/559)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
قوله عز وجل: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
تسمية عيسى بالكلمة لقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ولفظة كن وإن كانت للأمر فموضوعة للابداع، وذاك أن
فعل الله ضربان: عادي وإبداعي
فالعادي ويسميه قوم الطبعي: هو الذي أجرى الله تعالى به العادة أن يكون في زمان ومكان، ومن أصل، وعلى وجه مخصوص وشيئا بعد شيء.
كخلقة الولد من النطفة والزرع من البذر.
والإبداعي: ما يوجده(2/560)
دفعة من غير حاجة إلى زمان ولا من أصل كخلق آدم بل كخلق
العالم. وعبّر عن ذلك بكن إذ كان أسرع مفعول فيما بيننا ما كان
قولاً وأعم الألفاظ معنى الكونِ مع وجازة لفظ، وعلى ذلك قال:
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
وقال الأصمّ: سُمّي عيسى كلمة، لأنه تعالى خلق كلمة، فجعل منها عيسى، كما خلق آدم من تراب، وسائر الناس من نطفة، وهذا كما
ترى، وقال الجاحظ: وصفه بذلك من حيث إنه تقدم
الإِخبار به وبشارته في الكتب المتقدمة، وهذا كما سَمَّى وعده(2/561)
كلمة بقوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)
وقيل سُمي كلمة؛ لكونه متكلماً في المهد، وخُص بذلك لفظ الكلمة للمبالغة: كوصف الفاعل بالمصدر.
وقال النظَّام: جعل ذلك لقباً له لا لمعنى أشار إليه.
وسُمي مسيحًا، لأنه مُسِحَ بالبركة.(2/562)
وقيل: لأنه ماسحاً للأرض لسياحته فيها، وقيل: لأنه مُسِحَ
بالجمال، وعنى بذلك الجمال النفسي والبدني جميعاً، من
الأخلاق الجميلة والفضائل الكثيرة، نحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جرير "عليه مِسحة مَلَك ".
وقيل: لأنه كان ممسوحاً بالدّهن(2/563)
لمّا وُلد" وقيل: سُمي به لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص
لهما، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كأنه سُمّي به لأنه كان
يمسح الأكمه والأبرص فيبرأ.
والجاه مقلوب عن الوجه،(2/564)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
لكن الوجه يقال في الحظوة وفي العضو، والجاه لا يقال إلا في
الحظوة، ووجاهته: ما خُصّ به من أوصافه المعلومة.
والقرب من الله تعالى في الدنيا: التخصيص بالصفات التي هي
من صفاته تعالى كالكرم والعفو والمغفرة، وفي الآخرة أن
يصير في جواره، وقد تقدم ذلك.
قوله عز وجل: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
تكليمه النّاس في المهد: ما أنبا عنه تعالى بقوله: ْ(2/565)
(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) الآية، وذلك من الأفعال الإلهية، حيث جعل لطفلٍ عقلًا وعلما وكلاماً.
وقوله: (وَكَهْلًا) قيل: معناه كلامه في حال طفولته وكهولته سواء.
وقيل: يكلمهم طفلاً، وبعد نزوله من السماء كهلًا، لأنه رفع قبل أن اكتهل.
وقيل: يكلم الناس في المهد بكلام الكهول عقلًا.
وقوله: (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي هومن جملة المذكورين في قوله: (وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) .
وموضع: (وَيُكَلِّمُ) ، نصب، كقول الشا عر:(2/566)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
يقصر يمشي ويطول باركا
أي ماشياً.
قوله عز وجل: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
القضاء: الفصل، وذلك إما بالتدبير، وإما بالقول، وإما بالفعل.
فالأول لا يصح على الله عز وجل إلا بمعنى الحكم إذ كان
التدبير: التفكر في الشيء وارتياد الصلاح فيه، وذلك لمن كان
ناقص العلم، فقوله: قضى، ها هنا إما للقول، وإما للفعل.
أولهما جميعا، ومعنى قوله: (كُنْ) أي يبدعه على ما تقدم،(2/567)
وقال الأصم: عادة الله جارية فيما أخبر عن كونه، أن يقول في
وقت ما يحدثه كن كخلقه لآدم كما قال للملائكة (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا)
قال له: كن. لما أراد إحداثه تنبيهاً لهم، وكذلك لمّا
أخبر أنه سيبعث نبياً خلقه من غير ذكر، قال له: كن لما أراد
إحداثه، وذلك ليعرف الملائكة انتهاء الأجل ونزوله.
وقال أبو الهذيل إن ذلك قوله يقوله عند كل مكوّن.
وحكي عنه أنه يجري مجرى الإِرادة،(2/568)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
فقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب منها لما ذكره لها من أمره
بها، وكيف لا تتعجب وأمرها أبدع من أمر زكريا، فأجابها
بقوله: (كَذَلِكِ) ، فمن وقف عليه جعل ما بعده كالتفسير
له، ومن وصل: فمعناه أن الله كذا قضى أو كذا يفعل.
إن قيل: لم قال ها هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي قصة زكريا: (يَفعَلُ مَا يَشَاءُ) ؟ قيل: لما كان الخلق أخص من الفعل خصه، بما هو إبداع.
وذكر الفعل فيما هو أقرب إلى المعتاد في إيجاده.(2/569)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
قوله عز وجل: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
الهيئة: الحالة المحسوسة التي تحدث للشيء، والهيء: الحسن
الهيئة، ومنها أخذ المهايأة فيما يتراضى به على وجه التخمين.
والنفخ: جعل الريح في الشيء ومنه النفخة، وعنه استعير نفخة
الصور، والنفخة للورم تشبيهاً بما ينفخ فيه، والنُّفَّاخَة للحجاةِ.
والادخار: افتعال من الذَّخر وهو إعداد الشيء لنائبةٍ قال(2/570)
الفرّاء: قُرئ (تَدْخرون) خفيفة، وقال بعض العرب:
(تذخرون) فعوقب بين الذال والدال نحو تدَّكر وتذَّكر.
والأكمه: الذي وُلد أعمى.
وقول الحسن: الأكمه الأعمى صحيح، وكل كَمَه عمى، وإن لم يكن كل عمى كمهاً.
وقول مجاهد: الأكمه الذي لا يبصر بالليل دون النهار، فليس بشيء،(2/571)
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) يجوز أن يعني بحال طفوليته إن
قيلَ: كيف ذكر الكتاب، ثم عطف عليه التوراة والإِنجيل، وهما
من جملة الكتاب؟
قيل: قالوا: عنى بالكتاب القراءة والكتابة، وعُلِّم تعليماً إلاهيًّا في حال الطفولية، وقيل: عنى بالكتاب كتب الله المنزلة وخصص التوراة والإِنجيل كتخصيص ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تفضيلًا لهم، وقد تقدّم الفرق(2/572)
بين الكتاب والحكمة، وقرئ و (يُعَلّمه) عطفا على قوله:
(كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ) ، وبالنون عطفا على قوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ) ، وقوله: (وَرَسُولًا) عطف على قوله: (وَجِيهًا) وقيل تقديره: ويجعله رسولا(2/573)
إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها، وما قبلها حكاية حكى
الله عن نفسه، وهو: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) ، وهذه حكاية حكاها
عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ)
قيل: تقديره: وبعث رسولاً يقول: إني قد جئتكم، ودل على إضمار
القول ذكر الر سول وترك ذكر مريم، وابتدأ بإرسال عيسى، وما
قال له، وذكر معجزاته.
إن قيل: لِمَ ذكر في الخلق وفي إحياء الموتى (بِإِذْنِ اللَّهِ) .
ولم يذكر في غيرهما؟
قيل: لكون هذين الفعلين إلاهيين، لم يجعل للمخلوقين إليهما سبيلًا.
بخلاف النفخ والمداواة والإِخبار ببعض الغيب، فقد جعل للإِنسان كثيرا من
المداواة، وجعل لهم شيئاً من الإِخبار بالغيب كالفِراسة(2/574)
والإِلهام ولم يجعل لهم الخلق ولا إحياء الموتى، فنبَّه بقوله:
(بِإِذْنِ اللَّهِ) أن ذلك فعل في الحقيقة صادر منه تعالى، وإن
كان يظهر من غيره كالفِراسة والمداواة، وإن كانا قد يحصلان من
سائر البشر، فذلك قد يكون باعتماد على تجربة واعتبار أمر.
ولا يكون في كل وقت وعلى كل حال، ولا في دفعة واحدة.
وما كان يفعله عيسى كان بخلاف فعل البشر، فلهذا كان معجزة،(2/575)
ْوقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنّ المؤمن هو الذي يتفكر في
ذلك، فتحصل له الآية.
وقُرىء (إني) على الاستئناف، ويكون تفسيراً للآية.
كما أن قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تفسير للوعد.
وإذا قرىء (أني) بالفتح، فعلى تقدير الجرّ بدلاً من آية
أو على قَدرِ الرفع خبر ابتداء مضمر، كأنَّه قال: الآية(2/576)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
أني قد جئتكم.
قوله عز وجل: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
فقوله: ومضدقاً معطوف على ما دلّ عليه
قوله: (بآية من ربكم أني قد جئتكم) مستصحباً آية، ومصدقاً.
كقولك: جئتك بما تحُب ومكرماً لك، وليس بمعطوف على
(وجيهاً) ولا (رسولاً) ، لقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) أني أحقق ما أتيت
به من التوراة، فيكون ذلك معدوداً من جملة معجزاته.
وقال قتادة والربيع(2/577)
وابن جريج؟ كان المحرَّم عليهم في شريعة موسى لحوم الإِبل
والأشياء من الطير والحيتان، فاحلَّها عيسى لهم.
وقال أبو عبيدة: عنى ببعض الذي حُرِّم الكل، واحتج بقوله:(2/578)
. . . أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وقال الزجّاج: هذا فاسد، لأن البعض لا يكون، بمعنى الكل.
وعنى لبيد ببعض النفوس نفسه خاصة فعرّض.
ولأن عيسى حلّل بعض المحرمات، وهو الذي كانوا حرّموا على أنفسهم،(2/579)
وقوله: (وَلِأُحِلَّ) معطوف على موضع (وَمُصَدِّقًا) لأن تقديره:
لأصدِّق وَلِأُحِلَّ، كقولك: جئتك معتذرا ولأطيِّب قلبك.
وعلى ذلك تقدير قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) .
وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ف ي قراءة عبد الثه (آيات) في
الموضعين، وإنما لم يقل: من ربي أو ربنا. لأن ذلك أخص من المخاطبين.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) قيل: وحِّدوا الله.
وتقواه أخص من توحيده، إذ هي مبنيّة عليه.
ودعاؤه إلى طاعته دعاء(2/580)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
فيما دعاهم إليه من تقوى الله.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
لما وصف عيسى نفسه بأفعال إلهية، وأتى على ما ذكر.
وكان قد قال: (وَأَطِيعُونِ) خطر له ما فعلته جماعة من
النصارى، وهو اتخاذهم إياه معبودهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)
ولم يقل: ربنا، ليكون أبعد من التأويل فيما ادعوه.
وأمر بأن يُعبَد الله وحده، وقال: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) تنبيها
أن العدول عن ذلك ليس بالمستقيم.
قوله عز وجل: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
الإحساس: الوجود بالحاسة، وحسّه: قتله، كأنَّه أصاب حسه نحو قلبه وبطنه، وقال الفرَّاء: يقال
حسَسْت، وحسِسْت، وحسِيت وأحسْتُ، فأما حَسَسْته(2/581)
فأصبتُه بحاستي نحو: عِنتهْ ويديتُه أي أصبتُه بهما.
فأما حسِسْت، فنحو علمت وفهمت، وأمّا حسيت فبقلب إحدى
السينين ياء، وأما أَحَسْتُ فبحذف، إحداهما نحو: ظَلْتُ في
ظَلِلْتُ، وكلا اللغتين تحريا للتخفيف، وإنما قال: (فَلَمَّا أَحَسَّ) دون عَلِمَ تنبيهًا أنه ظهر منهم الكفر ظهوراً بادياً لذي الحاسة فضلًا لذي العقل.
وقوله: (إِلَى اللَّهِ) أي(2/582)
متوجها إلى الله، وقيلِ: مع الله نحو الذود إلى الذود إبل.
وقيل: لئه، نحو (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) والوجه هو الأول.
والأنصار جمع نصير - نحو: أشهاد في جمع شهيد، والحواريون
قيل: سُموا لبياض ثيابهم، عن ابن جبير، وقال بعضهم:(2/583)
عنى ببياض ثيابهم نقاء نفوسهم، نحو (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) .
وقولهم: فلان طاهر الثوب، وفي ضده: دنس الثوب.
وقيل: كانوا قصّارين يبيعون الثياب.
وقال بعضهم: عنى أنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الزبير ابن عمتي
وحواري " تشبيها بهم، وقول أبي عبيدة: الحواريون صفوة(2/584)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
الأنبياء فنظر منه إلى حواري عيسى عليه السلام، وإلى قول
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدَّم القول في الإيمان والإسلام، وعنى بالإِسلام ها هنا الاستسلام لله عز وجل، كقول إبراهيم:
(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
قوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) .(2/585)
الاتّباع: الاقتداء بالمتبَع، وهو أخصُّ من الإِجابة، إذ قد
يكون مجيباً من لا يكون تابعاً، وإنما قال: (ربنا) ولم يقل:
رب العباد؛ لأن الموضع موضع اعتراف وشكر، لا الإِخبار عما
عليه الشيء في نفسه، فلذلك خص (ربنا) ، وقد تقدم أن الشاهد
هو المخبر عن الشيء مشاهدة: إما حسًّا أو عقلًا، وأنه استعير
للشهادة في الأحكام، والشاهدون ها هنا هم الذين على طريقة
من قال فيهم: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) .
ونبه بقوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أنهم منهم،(2/586)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
وقوله: (ربنا) متصل بالحكاية عنهم.
وأخبرنا تعالى بذلك لنقتدي بهم في متابعة
النبي - صلى الله عليه وسلم - والتضرُّع إلى الله في طلب الثواب كما طلبوه.
قوله عز وجل. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
المكر في الأصل: حيلة يُجلب بها الإنسان إلى مفسدة.
وحيلة قد تقال فيما يُجلب به إلى مصلحة، وقد يُقال في ذلك المكر
والخديعة اعتباراً بظاهر الفعل دون المقصد، والحكيم قد يفعل
ما صورته صورة المكر، ولكن قصده المصلحة لا المفسدة، وعلى
هذا سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد:(2/587)
ويقبح من سواك الشيء عندي. . . وتَفْعَلُه فيحسن منك ذاكا
فإذن مكر الله قد يكون تارة فعلًا يُقصد به مصلحة، ويكون تارة
جزاء المكر، ويكون تارة بأن لا يقبِّح مكرهم في عينهم، وذاك
بانقطاع التوفيق عنهم وتزيين ذلك في أعينهم، حتى كأنه زيَّنه في
أعينهم ومكر بهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم.
فإذا أعطاهم واستعملوه على غير ما يحب، فكأنه مكر بهم،(2/588)
واستدرجهم من حيث لا يعلمون.
ولأجله قال: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
وهذا من المعنى الذي اقتضى الذي قال تعالى:
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
وقال اِلكلبي: مكرهم كان تدبيرهم في قتل عيسى (وَمَكَرَ اللَّهُ) أنه ألقى شبه عيسى(2/589)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
على رجل كان يقال له يهوذا عهد لقتل عيسى، فدخل بيتا فظن
أن عيسى عليه الصلاة السلام فيه فتبعه القوم فصلبوه.
وقال الأصمّ: مكره بهم أن سلَّط عليهم فارس، فقتلوهم، وسبوا
ذراريهم، لقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا) .
قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
إن قيل: كيف قال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) ؟ قيل: جملة الأمر أن ليس في(2/590)
ذلك منافاة، إذ ليس كل متوفى يكون مقتولا.
وقد قال الفرَّاء: معناه: ورافعك إليَّ ومتوفيك، فقدَّم وأخرَّ.
وقال الربيع: توفَّاه، ووفاته النوم.
وقال غيرهما: آخذك وافياً لم ينقص منك شيء.
وقال الحسن: وفاة الرفع، لا وفاة الموت.(2/591)
وقال ابن عباس ووهب: وفاة موت، فإنه أماته ثم أحياه فرفعه.
وقال بعضهم: معنى متوفيك آخذك عن هواك، ورافعك إليَّ عن
شهوتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا، وإنما هو رفعة المحل "،(2/592)
وإن كان قد رُفع إلى السماء، وعلى هذا قوله تعالى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم.
وقيل: تخليصه من قتلهم، لأن ذلك طهرة منه.
وقوله: (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فوقهم بالبرهان والحجة.
وقال ابن زيد: عنى أنه جعل النصارى فوق اليهود في العِزة.
فقد جعل لهم مملكة ولم يجعلها لليهود.
وقيل: عنى بقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) :(2/593)
من اتبع نبينا عليه الصلاة والسلام منهم، فإن من لم يتبعه بعد
بعثته فهو في الحقيقة غير تابع لعيسى، وقيل: معنى قوله:(2/594)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
فوقهم: أي يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات آمنون.
والذين كفروا في أسفل السافلين!
وحينئذ تتعلق (إلى) بما تقدم، وقد تقدّم الكلام في الرجوع إلى الله.
قوله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
تعذيب الله الكفار(2/595)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
والأشرار في الدنيا ضربان: ضرب عرفوه عذابا كالأمراض
والخسف والمسخ وتسليط المؤمنين عليهم.
وضرب حسبوه نعمة وهو في الحقيقة نقمة.
وذلك كتمكينهم من مال وجاه وسائر أعراض الدنيا، التي حظهم منها الهموم والغموم، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) .
قوله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
الإيمان: فعل ما يقتضي الأمن من عذاب الله.
والصَّلاح: فعل ما يقتضي الصلح بينه وبين الله عز وجل.
والتوفية: إعطاؤه ما لا ينقص عما يقابلبه،(2/596)
والإِيفاء الزيادة عليه، إن قيل: كان من حق المقابلة أنه لما عاقب
ذكر الكافرين بقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أن يذكر ها هنا ما
ينافيه فيقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) . ونحو ذلك من الكلام لا قوله:
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) .
قيل: إن قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) من صفة الذين كفروا.
ونبّه بالصفتين جميعا، أعنى هذه وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) على كون المؤمنين منصورين ومحبوبين.
وقد دل على ذلك من فحوى الكلام في هذه الآية وغيرها من
الآيات، وفي قوله: (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تنبيه أنه لا يظلم خلقه.
فمن لا يحب شيئاً لا يتعاطاه مع استغنائه عنه.
إن قيل: ما وجه إعادة ذكر عذاب الكافرين وثواب المؤمن العاقل الصالح في هذا المكان؟
قيل: إن ذلك مقترن بمخاطبته عيسى، وهو قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)
وتقديره: الذين كفروا بك، آمنوا بك. لكن حُذِف ذلك اختصار.(2/597)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قوله عز وجل: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
التلاوة والتنزيل والقص متقارب، لكن يقال:
التلاوة اعتباراً بمساوقة بعض الكلام بعضاً بالولاء، والإِنزال
اعتباراً بإخبار الأعلى الأدون، والأرفع للأوضع.
والقَصُّ اعتباراً باقتطاع الخبر على ما هو به، وقصَّ أثره.
والحكيم: المحكم، إشارة إلى قوله: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) .
ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه ناطق بالحكمة وفاعل لها، لا لاقتضائه إياها.
وقوله: (ذلك) : مبتدأ، و (نتلوه) : خبره، وقيل: ذلك تقديره:
الذي، و (نتلوه) : صلته، والخبر قوله (من الآيات)(2/598)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
وتلاوته: إنزاله، ويجوز أن تُجعل تلاوة جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه تلاوة لمّا كان بأمره، فأفعال أوليائه قد تنسب إليه، كقوله
عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) .
وقوله في موضع آخر: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) .
قوله عزِ وجل: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
لما ذكر تعالى مكان عيسى من الفضيلة، وما آتاه من المنزلة.
كَذَّبَ النصارى فيما ادعوه من بنوته،(2/599)
وبيّن كيفية خلقه من غير ذكر.
إن قيل: كيف يكون عيسى مثل آدم وآدم لم يضمّه رحِم؟
قيل: إن ذلك تكذيب للنصارى فيما ادعوه.
وذلك أن أهل نجران قالوا: ما رأينا ابناً بلا أب؟
فأنزل الله ذلك تبيينا: أن ليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم.
إذ هو لم يُخْلق من ذكر ولا أنثى وعلى نحوه دلّ قوله:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) .
إن قيل: لِمَ قال: (عِنْدَ اللَّهِ) . أهو يشبهه عند الله دون غيره؟
قيل: عنى بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) . في حكمه، وأن ذلك لا يشق عليه كما
لم يشق عليه أن خلق آدم من غير أبوين.
إن قيل: ما معنى قوله:(2/600)
(كُنْ) بعد أن خلقه من تراب؟
قيل: معناه كن إنسانا حيّا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرًا جسدًا ملقى لا روح فيه.
على ما رُوي في الخبر، ثم جُعل فيه الروح، وجعل كن عبارة(2/601)
عن إيجاد الصورة التي بها صار الإِنسان إنسانا، وعلى هذا
قال: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
فالمقول له الجسد، وقد تقدم الكلام في كن.
إن قيل: لِمَ قال: (فيكون) ولم يقل فكان؟
قيل: يكون عبارة عن حال كونه، وحكاية الحال هكذا يُخرجُ نحو قولهم: فلان قال أمس كذا فيُفعل به كذا.
إن قيل: لِمَ رُفِعَ يكون ولم يُنصب على جواب الأمر؟
قيل: جواب الأمر يجب أن يكون غيره، نحو: ائتني(2/602)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
فأكرمك، وتقديره: ائتني فإنك إن تأتني أكرمك، ولو جُعل
فيكون جواباً لكان، تقديره كن، فإنك إن تكن تكن، وهذا لا
يصح؛ لأن معنى الجواب معنى الشرط، وإذا رُفِعَ فتقديره: فهو يكون.
قوله عز وجل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
الامتراء: استخراج الرأي للشك العارض، ويُجعل عبارة عن
الشك، وإنما قال: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل ممترياً.
ليكون فيه ذم من شك في عيسى.
وقوله (الْحَقُّ) خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره (مِنْ رَبِّكَ) .
ونبّه أن الحق في(2/603)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
ذلك، بل في الأمور كلها ما يكون مصدره من الله تعالى.
وقوله: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وإن كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقصد به عام.
قوله عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
أصل البهل: ترك الشيء غير مراعى، من قولهم بهلْتُ الناقة: تركتها
بلا صرار.
واللعن: الطرد، وقد يستعمل البهل بمعنى(2/604)
اللعن، وقد تقدّم أن لعن الله قد يكون بمنع التوفيق عن
الكافر وتركه وشؤمه، وهذا نهاية الخذلان.
وتَعَالَ: قال أهل اللغة أصله أن يدعو إلى - مكان رفيع.
ثم جُعِلَ عامًّا في الدعاء إلى كل مكان.
والأولى أنه دعاء الإِنسان إلا ما فيه علو منزلة:
إما على الحقيقة، وإما على سبيل الفضول، كقولهم:
هلّم إلى السعادة.
وقوله: (حاجّك فيه) أي في كون عيسى عند الله كآدم.
وقيل في قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) .(2/605)
وكلا القولين واحد في التحقيق، لأن كليهما في
أمر عيسى، والآية نزلت في نصارى نجران، إذ عارضوا النبي
- صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام.
ويقال: لما نزلت أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين(2/606)
وعلي وفاطمة. ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا.
وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارًا.
فلم يبق نصراني ولا نصرانية.
وقال بعضهم: وفي هذا إشارة إلى(2/607)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
ظهور بطلان الدعاوى الكاذبة عند أهل الحقائق.
قوله عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
أي أن ما قصّ الله عليكم من أمر عيسى هو الحق، وأن المستحق لعبادته هو الله، لا إله غيره، وأن لا عزّة ولا عزّ ولا حُكم ولا حِكمة إلا له تعالى في الحقيقة، فهو الذي لا تلحقه ذِلّة ولا تعتريه جهالة، وكل من حصل له شيء
من العزّ والحكم فمنه مستفاد.
والقصص: كل خبر مقتطع(2/608)
على وجهته من قولهم: قصصت أثره، وقصصتُ الظفر.
وهو اسم للمقصوص: كالقبض والنقص، للمقبوض والمنقوص.
وظاهر قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) أبلغ من قولنا:
وما إله، لاستغراقه، ولا يصح جرّ لفظ الله على البدل من إله، لأن من
هذه لا تدخل إلا على كل نكرة غير موجبة، فإذن لا يكون إلا
رفعاَ رداً على موضع (مِنْ إِلَهٍ) ، وأعاد ذكر الله ظاهراً على(2/609)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
طريق التعظيم، وخص (الْعَزِيزُ) تنبيهاً أنه تعالى مستغن عن
التكثر بالولد على ما تقدم، وفيه تنبيه أنه أظهر عزته عما ينسب
إليه من الولد بما قدمه من الحجة، وأنه حكيم لا يفعل ما ينافي
حكمته، واتخاذ الولد مما ينافي حكمته.
قوله عز وجل: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
أي إن أعرضوا عن الإِصغاء إلى الحق والتزامه، وعن الإِجابة إلى
المباهلة، فإن حالهم في كونهم مفسدين ظاهرة، وعقوبتهم
واجبة، فهو تعالى معاقبهم.
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قال محمد بن جعفر والحسن والسدّي: عنى بأهل الكتاب هاهنا(2/610)
نصارى نجران، وقال قتادة والربيع: عنىِ يهود المدينة.
وقيل: عنى الفريقين، لقوله في ذمهما: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)(2/611)
و (سَوَاءٍ) وسوى: وسط، ويعني به العدل.
وقول الربيع وأبي العالية (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)
هي لا إله إلا الله، فصحيح، لأن أبلغ العدالة التوحيد، وهي(2/612)
الكلمة التي يجب أن يتساوى الناس فيها، وفي أن يكونوا
عابدين غير معبودين، بخلاف ما ادعته النصارى، ونبه بقوله:
لا نشرك أن قولهم يقتضى الشرك، وإن كانوا منكرين أنهم
مشركون، وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ) خفض بدل من كلمةِ، أو رفع
على أنه خبر ابتداء مضمر، كأنه قيل: وهي ألا نعبد، ولو
رُفع سواء، نحو قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) جاز(2/613)
وكذلك يجوز رفع (أَلَّا نَعْبُدَ) على معنى: أنه لا نعبد.
وقال بعض الصوفية: نبهّنا الله تعالى بهذه الآية على طريق
التعبد، وأن لا نقصد بسرنا سواه عند عبادته، ولا نفزع في شيء
من الحاجات إلى غيره، فنكون كمن وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ".
إن قيل: فأي حجة في قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا) قيل: إنه تعالى أدبنا بأن المعاند متى لزمته الحجة وبانت له المحجة فليس إلا التقضي منه وترك(2/614)
محجته وملاحاته.
إن قيل: كيف قال: (وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكلاهما أفاد ما أفاد قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) ؟
قيل: ليس كذلك، فإن الشرك بالله قد يكون في غير العبادة.
ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(2/615)
"الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء".
من ذلك قول القائل: لولا الديك لأتانا اللص.
وقال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) .
وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
فقد شرط من دون الله(2/616)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
وهنا هو الكفر، فأما المملوك إذا اتخذ صاحبه ربًّا لا أنه معبود
فليس بمنهي عنه.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
قال ابن عباس والحسن والسدي: اجتمع أحبار اليهود ونصارى
نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا في إبراهيم.
فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديَّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيَّا، - فأبطل الله دعواهما، وبيّن أن ذلك محال، لأن المتقدم لا يكون(2/617)
منسوباً إلى المتأخّر ومقتدياً به.
إن قيل: فإن اليهود والنصارى لم يدّعوا أكثر من أن شريعتنا مساوية لشريعة إبراهيم، وهذا قد ادعاه المسلمون، فإن أمكننا أن نلزمهم. ذلك أمكنهم أن يعارضوا بمثله؟
قيل: إنّا لم ندّع أن إبراهيم منسوب في الشريعة إلى محمد
- صلى الله عليه وسلم - كما ادعوه، وإنما قلنا كان حنيفا مسلما، والحنيف المستقيم والمائل إلى الحق، والمسلم المطيع والمستسلم للحق، وهذا
من الأسماء التي يتخصص بها كل ذي حق، ولهذا قال:(2/618)
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) ، واليهود منسوب إلى يهودا.
والنصارى إلى ناصرة، وهما نسبتان حصلتا بعد إبراهيم.
فكذبوا في نسبته إليهما، ثم المسلمون موافقون لإِبراهيم في كثير
من الأحكام: كحج البيت، والختان، والمضمضة وغير ذلك.
وهم يخالفونه في أكثر ذلك، وأيضا فقد ورد في القرآن أن شريعتنا(2/619)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
موافقة لشريعته فيما حكى، وهذا ظاهر، ونبّه بقوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
أن ما يقولونه ويفعلونه بخلاف مقتضى العقل.
وأن العقل يزجر عن اتباع دعوى بلا حجة.
قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
ها للتنبيه عمّا يضلّ عنه الإِنسان أو يغفل، تقول ها أنا ذا. تنبيهاً
لمن غفل عنك.
فإن قيل: فهب أن الإِنسان يغفل عن غيره، فكيف يغفل عن نفسمه، حتى يقال: ها أنتم؟
قيل: فليس حقيقة (هَا أَنْتُمْ) تنبيه المخاطب على وجود ذاته، وإنما هو تنبيه على أحواله التي غفل عنها، فالإِنسان قد يغفل عن كثير من معايبه
لشغفه بنفسه، فيحتاج أن ينبّه عليه، ولهذا لا يقتصر علي قوله:(2/620)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
(هَا أَنْتُمْ) حتى يُضم إليه حالة ما، مما غفلواْ عنه، وفي الآية تنبيه
على حالة غفلوا عنها، وهي أنهم حاجوا فيما لا علم لهم به.
ولم ترد به التوراة والإنجيل، فيقول: هب أنكم تحتجون فيما ورد به كتب
الله المتقدمة فلِمَ تحتجون فيما ليس كذلك؟ ونبَّه أن المحاجة
إعلام الحجة، ومن لا يعرفها فكيف يُعَرّفُها؟
وفي قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
استدعاء لأن يسمعوا، كقولك لمن أخبرته بشيء لا يعلمه:
اسمع فإني أعلم ما لا تعلم، و (هَؤُلَاءِ)
هاهنا جار مجرى الذين و (حَاجَجْتُمْ) صلته.
وقيل: بل هو تابع لأنتم جار مجرى عطف البيان، و (حَاجَجْتُمْ) هو
الخبر، والمعنى لا يتغير باختلاف التقديرين.
قوله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
أنكر الله عليهم محاجتهم في(2/621)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
إبراهيم، واستجهلهم فيما ادعوه، وأنه كان على إحدى الملتين
اليهودية والنصرانية، وبتّ الحكم على كونه حنيفاً مسلماً على ما
تقدم، ثم بيّن أنه لم يكن من المشركين؛ تنبيها أن اليهود
والنصارى فيما ابتدعوه وادعوه مشركون..
قوله عز وجل (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
قد تقدم معنى الولاية والاتباع، وأنه تارة يكون بالسنن
وتارة يكون بالاعتقاد.
وهذا الثاني هو المراد، ومعنى الآية أن أصدق الناس موالاة لإِبراهيم
من تبعه في اعتقاده وأفعاله، وهذا النبي والذين آمنوا هم المتبعون
له، فإذن هم أحق به، فعلى قوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(2/622)
مبتدأ محذوف الخبر، وقيل: عنى بقوله الذين اتبعوه:
المتبعون له في زمانه، وقوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ) معطوف عليه.
إن قيل: لِمَ أفرد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المؤمنين؟
قيل: لأنه هو المقصود بالولاية، والمؤمنون غير الذين آمنوا وهم تابعوه، ويجوز أن يُجعل المؤمنون عاماً، ويكون إفراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة، وقدم ذكره تشريفا له، كقوله:(2/623)
(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ) فقدم ذكرهما، وإن كانا
من جملة النبيين، وإنما قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل: وليهم.
تنبيها أن موالاة الله تعالى تُستحق بالإِيمان، وأنها ليست بمقصورة
على من تقدم ذكرهم، بل ذلك لكل مؤمن في كل وقت.
والولي هاهنا يُحتَمَلُ على وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الفاعل.
ولما ذكر حال إبراهيم ومشاحّة الناس في الانتساب إليه نبّه
بقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أنّ إبراهيم استحق منزلته.
والثاني: أن يكون بمعنى الموالىَ، أي المؤمنون هم الذين يوالون الله.
فأما الكفار فيوالون الشيطان، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) .(2/624)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
قوله عز وجل: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
الطائفة: جمع طائف وهو الذي يطوف، وذلك اعتبارا بطوافهم بالبيت وغيره من متعبدْاتهم، ولطوافهم في أسفارهم، ثم سُمي كل جمع طائفة.
طافوا أو لم يطوفوا، كتسميتهم بالرفقة، ترافقوا أو لم يترافقوا.
والإِضلال: فعل ما يحصل عنده الضلال، ويقال ذلك له لقَصْدِ
الفاعل ذلك أولاً، لأنه يقال مفازة مضلة، كما يقال: أضلني
فضللت، ويقال: أضله، سواء فعل ذلك بِدعًا أو بغيره، كما
يقال: أضله الشيطان، قال تعالى حكاية عنه:(2/625)
(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)
لكن الإضلال متى كان معه الضلال لا يصح أن يُنفى، فيقال:
ما أضل المؤمن، ويقال تارة الشيطان، وإذا لم يكن معه الضلال صح النفي فيه والإثبات جميعا، ويقال تارة: الشيطان أضلّ المؤمن ولم يضل.
والود ضرب من المحبة، ويستعمل في معنى التمني، فمتى
قُصدَ به التمني استُعمل معه: أن، وتارة: لو، يقول: وددت(2/626)
لو خرجت، ولا يجوز إدخال لو فيه إذا أُريد معه المحبة.
وإذا كان بمعنى المحبة يتعلق بالأزمنة الثلاثة، وإذا كان للتمني
فليس إلا للاستقبال. بيَّن تعالى أن طائفة من اليهود والنصارى
يتمنون أن يفعلوا ما يؤدي المسلمين إلى ضلالهم وهلاكهم، وكل
ما يفعلونه يؤديهم إلى هلاك أنفسهم، ثم بيَّن أنهم لا يشعرون(2/627)
أنهم يضلون أنفسهم، وإنما قال: (لَا يَشْعُرُونَ) مبالغة في
ذمهم، وأنهم افتقدوا المنفعة بحواسهم، كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقول من قال: الآية تدل على أن المعارف مكتسبة
بقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ) ، فبعيد عن تصور الفرق بين قولهم:
يشعر ويعلم، ورُوي في سبب نزول هذه الآية: أن قوما من
اليهود دعوا عمار بن ياسر(2/628)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
وحذيفة بن اليمان إلى اليهودية.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة: إما ببصر.
أو ببصيرة، ثم يُعبر بها عن المعرفة القتضية لصحة ما يدعي، وإن
كان المدعى عليه منكرا بلسانه كقولك لخصمك: أنت تشهد أن
الأمر بخلاف ما تذكره.
فقوله: (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)
منهم من خص، فقال: عنى بذلك الآيات المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم -(2/629)
ومنهم من قال: عنى الآيات التي تدل من الكتابين على صحة
نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -
(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) يعني شهادة بالقلب دون اللسان، أو عنى ما يكون من شهادتهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) .
وقيل: معناه: وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب: لم تلبسون الحق بالباطل، تنبيها أنهم يفعلون ذلك حماية على رياستهم وعصبية لملّتهم، لا جهلًا بالحق، بل هم يعلمون.(2/630)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) .
لبس الحق بالبطل على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُحرِّف الحق، فيُجعل في صورة الباطل.
والثاني: أن يُزين الباطل، فيُجعل في صورة الحق.
الثالث: أن لا يُميّز أحدهما عن الآخر مع الإمكان.
وقد فُسّرت الآية على الأوجه الثلاثة.
قال الحسن وابن زيد: هو تحريف التوراة والإنجيل،(2/631)
وقال بعضهم: هو الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع المعرفة بصدقه، وقيل: هو ما ذكره تعالى من بعدُ في قول بعضهم لبعض (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) .
وأما كتمانهم الحق فما كتموه من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي دَلّ عليها إشارات التوراة والإِنجيل، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتمان العلم بقوله:(2/632)
"من سُئل عن علم فكتمه. . . " الخبر، وعنى بالآية كتمانه مع
وجوب إظهاره:
فأما صيانة الحكمة عمن لا يستحقها؛ إما لقصوره عن الوقوف عليها، أو خوفاً أن يجعلها ذريعة إلى فساد، فذلك واجب.
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون الحق(2/633)
الذي تكتمونه، والتلبيس الذي تاتونه.
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، وقال فيما قبله:
(وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ؟
قيل: الذي نفى عنهم ما ادعوه من كون إبراهيم يهوديّا أو نصرانيا.
وليس ذلك في كتابهم.
وما أثبت لهم هاهنا وقفوا عليه من كتابهم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجحدوه، وهذا غاية الذم، إذ جحدوا ما علموا، وادعوا ما جهلوا.(2/634)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
قوله عز وجل: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
الوجه: أصله الجارحة، ولما كان هو أول ما يستقبلك، وأشرف
ما في البدن، تارة يُستعملُ في أشرف الشيء، فيقال: هذا وجه
كذا، وتارة في مبدئه، نحو: وجه النهار.
وقوله: (آمِنُوا) أي أظهروا الإِيمان، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
والطائفة التي قالت ذلك قال قتادة والربيع: هم اليهود بعضهم لبعض،(2/635)
وقال الحسن: يهود خيبر، قالوا: ليهود المدينة فخصص.
ومعنى الآية قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الفجر إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك في آخر النهار، فقال: آمنوا بصلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس، واكفروا بصلاتهم في آخر النهار إلى الكعبة، لعلهم يتركون إذا رأوا التواءكم عليهم، وعبَّر عما فعله المسلمون بالإِنزال إليهم.
لا أنهم أقروا بأن ذلك منزل، ولكن على حسب ما قاله المسلمون
واعتقدوه.
وقيل: ليس القصد في الحقيقة إلى صدر النهار وآخره.
بل لما عجزوا عن صرف المؤمنين عن موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - مكاشفة، قالوا: إذاً مروهم بأن يساعدوهم مرة ويخالفوهم مرّة؛ ليحتالوا
على صرفهم عن اتباعه بذلك، فحذّر الله المؤمنين منهم(2/636)
ليحترزوا. ومنهم من حمل وجه النهار وآخره على مجاز
آخر، فقال: معناه آمنوا في الظاهر، واكفروا به في الحقيقة.
وذلك هو المُعبر عنه بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وقيل: فيه وجه رابع، وهو أن علماء اليهود وكانوا قد حدّثوا
قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخبار له وُجِدَت على ما أَخبروا به، ثم لما رأوا رياستهم تبطل به ندموا، فقال بعضهم لبعض: قد أخبرنا اليهود
بما أخبرنا، فإن كذبّناه دفعة اتهمونا، ولكن نؤمن ببعض، ونكفر(2/637)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
ببعض، أي نوهمهم أولا أنا نظنّه صادقا ثم يكذبونه، فهذا
معنى (آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) .
ولإِظهارهم الإيمان طورًا والكفر طورًا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) الآية.
قوله تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
في قوله (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)
قولان: أحدهما: أن يتصل بقو له: (وَلَا تُؤمنُو) .(2/638)
والثاني: أن يتصل بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) فإذا جعلته متصلًا بقوله:
(وَلَا تُؤْمِنُوا) فتقديره: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد، لكن حُذف
الجار لكثرة حذفه مع أن.
إن قيل: كيف يصح أن يكون (تُؤْمِنُوا) مفعوله (أَنْ يُؤْتَى) وقد عُدي إلى قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) و (ءَامَنَ) لا يصح أن يُعدى إلى مفعولين بغير حرف
العطف؟(2/639)
قيل: إنّ اللّام تتعلق به، لا على حدّ المفعول به، وتقدير
الكلام: لا تُقرُّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع.
وقول من قال: اللام زائدة نحو (رَدِفَ لَكُم) فبعيد، لأن
آمن هنا لا يتعدى إلا بالجار.
وفي قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) على هذا(2/640)
قولان: أحدهما: لا تُقِرُّوا أن أحداً عرف محمّدًا كما قد عرفتموه.
والثاني: أن خُصّ أحدٌ من العلوم والكراما) بمثل ما خُصصتم.
وقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) أي أو أن يجعل الله للمسلمين حُجةً يحاجونكم
بها عند الله، فأكذبهم الله تعالى في الأمرين جميعاً وردّ عليهم.
أما في الأول فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) تنبيهاً أن ذلك
يعطيه من يشاء، نحو (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) .
أمّا في الثاني، وهو قوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) .
فقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) اعتراضٌ بين بعض الجملة وبعضها.
تسديدا لها وجواباً لهم، وكذلك قوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ)(2/641)
جواب لهم.
والاعتراضُ بين المتصلين من الجملة بما فيه تحقيق
لمقتضاها، أو رد لها من بلاغاتِ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ) فقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) فصل بين اسم إن وخبره، لتحقيق مقتضى الكلام.
والثاني: وهو أن يجعل أن متصلًا بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) ، ويكون كلام اليهود قد انقطع عند قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) .(2/642)
وفيه أوجه، الأول: ما قاله الكسائي والفرّاء
وهو: أنَّ أنْ هاهنا تقتضي معنى لا، كما تقتضيه في قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه: البيان بيان الله، وقد بين أن لا يُخَصُّ أحدٌ من الأمم بمثل ماخُصِصْتم به أيها المؤمنون،(2/643)
إذ دين الإِسلام أكمل الأديان، ومصون عن الإِفراط والتفريط.
وقد تقدم أن شريعة الله قبل نبينا عليه الصلاة والسلام كانت في
حكم النشوء والتكميل، وبه عليه الصلاة والسلام كَمُلت.
ولهذا قال. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
ويقوي أن معنى (أَنْ يُؤْتَى) لا يؤتى قول الحسن: إن معناه: فلن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون.
قال المبرد: لا يكون أن في كلامهم مقتضيا لـ "لا"، وإنما تقدير(2/644)
ذلك: كراهة أن يؤتى أحد، وجعل المعنى بهما تقدم، وهذا
التقدير بعيد، لأجل أن أحداً هذا يختص بالنفي وما في معناه.
وعلى تقديره، ويكون مستعملًا في الإِيجاب. على أن بعض
النحويين ذكروا أن أحداً هاهنا هو المستعمل في الإثبات في نحو
قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) تقديره عند الفرّاء: حتى يحاجّوكم أو إلي أن يحاجّوكم، وذلك على سبيل التبعيد.
وعلى قول الكسائي: معطوف على قوله (أن يؤتى)
على تقدير أو أن يحاجوكم.
وحُكي أنه في قراءة عبد الله: (أن) ،(2/645)
وذكر بعضهم أن قوله: (أَنْ يُؤْتَى) متعلق بفعل مضمر، وتقدير
الكلام: قل إن الهدى هدى الله، فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم، أو أن يحاجّوكم، فإن الله عنده الفضل يؤتيه من يشاء.
فهذه ثلاثة أوجه في قوله: (أَنْ يُؤْتَى) إذا لم يُجعل متعلقا بما
تقدم، وذكر بعض المفسرين أن قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا) كله
خطاب الله المؤمنين، لا حكاية عن الكفار، وذَكَر في تفسيره(2/646)
أوجهًا: الأول: أن يكون تقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
أن يؤتى. ويكون ذلك تبيينا أن هذه الشريعة أكمل الشرائع على
ما تقدم.
والثاتي: أن يكون ذلك حثًّا على موالاة المؤمنين، ونهيا
عن مخالطة الكافرين، نحو: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو
نحوها من الآيات.
والثالث: أن يكون فيه مع المعنى المتقدم
حثَّ على أن لا يصاحب المؤمن من لا تكون طريقتُه طريقتَه.
فيُشغل عما هو بصدده، وقال بعض الصوفية: لا تفشو أسرار(2/647)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
الحق إلى غير أهله، ولا تُصدقوا بظهور كرامة على غير المحافظين
على ظاهر الشريعة، إبطالا لمن يدعي الوصول إليه بلا مشقة
يتحملها وعبادة يتكلفها، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيه
على سعة غناه وجوده وعلمه بما يأتيه ويدعه، فلا يتهم فيما
يفعله ويذره.
قوله عز وجل: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
الاختصاص: انفراد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة.
والفضل في الإِعطاء: الزيادة على المستحق الذي هو العدل،(2/648)
وهو المعبر عنه با لإحسان في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)
ولأنه من تمام قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيها أنه
إذا كان واسعا وعالما، فسعته تقتضي أن يوسع على عباده.
وعلمه يقتضي أن لا يحرم رحمته مستحقها، وفضله يقتضي أن
يتجاوز تحري العدالة إلى تحري الإفضال، وهو أن يفضل على
غير مستحقيه، وإلا لم يكن فضل عظيم.
وقول الحسن ومجاهد والربيع: إن الرحمة هاهنا النبوة.
وقول ابن جريج: هي(2/649)
القرآن صحيحان. لأن كليهما داخلان في الرحمة، ولا شك
أن من أعطيهما فقد خُصَّ برحمة منه، وكذلك قول من قال:
عنى بالرحمة الحسنى المذكورة في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقول من قال: عنى به الوقوف على حقائق كلامه، الذي خص به خواص عباده الموصوفين بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) ، فكل ذلك داخل في عموم رحمته.(2/650)
إن قيل: ما فائدة ترك التبيين في نحو قوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) ، وإبهام القول فيه؟
قيل: الفائدة في ذلك أن يبقى رجاء الراجي وخوف الخائف الممدح بهما في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) ، وليقطع بذلك ملاحظات
المجاهدات، وليبين أن الإِنسان وإن بذل غاية الجهد في العبادة.
فرحمته هي التي تنقذه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يدخل الجنة أحد بعمله "، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
"ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".(2/651)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله عز وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
يقال: دُمْتَ تدوم ودِمت تَدَامُ.
وقال بعضهم: مِت ودِمت، وكل يقول: تدوم وتموت،(2/652)
وقوله (قائماً) قال قتادة: (قائماً) بالتقاضي والمطالبة.
وقال السدي: بالاجتماع معه، وقال غيرهما: القائم بالشيء:
المواظب على الشيء، المجتهد في حفظه، نحو قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ)
وذلك يدخل فيه ما تقدم من الأقوال، وقد تقدم
الكلام في القنطار، ولما ذكر الله تَبَجحَ اليهود بأنهم أوتوا ما لم(2/653)
يُؤت أحد، أكذبهم الله فذكر خيانتهم، لكن فضَلهم لِمَا كان من
جملتهم من له أمانة، وقال قائل: عنى بالذين يؤدون الأمانة
المسلمين منهم، مثل عبد الله بن سلام وأشكاله، ورد عليه
بعض الناس، وقال: إن الآية نزلت بعد إسلام عبد الله، وهذا
الرادّ يتصور أن أهل لا يُطلق على من أسلموا، وليس الأمر كذلك.
بل حقيقة أهل الكتاب يتناول من لا يُنكر صدقاً ولا يجحد حقًّا.
ولا يتناول من بقي بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه ولم يتبعه إلا مجازا، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)(2/654)
أي يخونون، ويقولون: لنا إصابة أموال العرب لشركهم، وإلى هذا
ذهب ابن عباس فقد قال له رجل:، إنا نمر بأهل الكتاب
فنأكل من طعامهم، ونذبح لهم الدجاج، فقال: وتقولون كما
قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، لا يجوز إلا بطيب
النفس) .
قال الحسن وابن جريج: كانت اليهود عاملوا العرب.
فلمّا أسلموا امتنعوا من ردِّ أموالهم، وقالوا: لا يحق لكم بعد
أن دخلتم في الإِسلام، وقيل معناه: ليس علينا سبيل لكوننا
أبناء الله وأحباءه، ومن عدانا عبيدٌ لنا، ومالهم مالنا فلا حرج(2/655)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
علينا في تناوله، وهذه أقوال متقاربة، وكانوا قد زعموا أن
ذلك دين شرعه الله لهم، فأكذبهم بقوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ، وذكر أنهم يعلمون أن الأمر بخلاف ما يقولون تعظيما لكذبهم.
قوله عز وجل: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
عهده: يصِحُّ أن يُقدَّر مضافًا إلى الفاعل، وأن يكون مضافًا إلى
المفعول، فالإِنسان مدعو إلى الوفاء بهما، وقيل: وفي لغة(2/656)
نجد، وأوفى لغة الحجاز، وقيل: هما كمحمد وأحمد.
و (بَكَ) قيل: هو إضراب عن الأول، أي بلى عليهم سبيل، فيكون
وقفا، وقيل: فيه مع الإِضراب عن الأول اعتماد على الثاني.
نحو أن يُقال: قدم فلان. فتقول بلى طلب كذا فلا يوقف عليه.(2/657)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاتَّقَى) بعد قوله: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) ؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: أي يجُعلُ التقوى عامًّا، وإذا جعلت
التقوى خاصَّا فلأنها هي المقصودة.
إن قيل لِمَ: (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، ولم يقل: يحبهم؟
قيل: تنبيهًا أن محبته إياهم لأجل التقوى، فإنك إذا
قلت: جاءني يزيد الظريف فأكرمته، لم يقتضِ صريح اللفظ أن
إكرامك إياه لظرفه، وفي الآية تنبيه على قياسٍ نتيجتُه أن الله تعالى لا
يحبُّ اليهود بوجهٍ، وبيانه أن الله يحب المتقين، ومن لا يوف بعهده
أفليس بِمُتَّقٍ، واليهود غير موفين، فإذن لا يحبُّهم الله.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
عهد الله متضمن
لكلِّ عهد عَهِد إليهم بما ركبَّه تعالى في عقولهم، وما عهد إليهم على
لسان أنبيائهم، ولما أخذه الإِنسان على نفسه من أمرٍ التزمه بنذرٍ، أو
يمين، أو حلف، أو عقد مما لا يلزمه من جهة الشرع بغير التزام،(2/658)
وقد تقدمُ في قوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أنه لم يعن
به القلة المعتبرة بإضافة بعض الأثمانِ إلى بعض، بل ذلك باعتبار
منافع الدنيا بمنافع الآخرة، فذم الله تعالى من توصَّل إلى نفع
عاجل بإضاعة عهد الله، ولكون الوفاء سبباً لعامة الصلاح.
والغدر سبباً لعامة الفساد، عظم الله أمرهما، وأعاد في عدة مواضع
ذكرهما، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) .
وقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) وقال:(2/659)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
وقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) .
وكدْلك عظم أمر الإيمان لذلك، فقال: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فاجرة؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان "، وبيَّن تعالى أن من تحرَّى غدراً آثر به الحياة(2/660)
الدنيا فذلك بانه لا خلاق له في الآخرة، أي لا معرفة له بها، ولا
نصيب له فيها، تنبيها على ما قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) .
وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) فمكالمة الله للعبد قسمان:
مكالمته إياه في الآخرة، وذلك على أضرب:
الأول: مكالمته إياه من غير واسطة، وذلك كحال
موسى عليه الصلاة والسلام، حيث وصفه بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) .
والثاني: مكالمته إياه بواسطة بشرية، وذلك لمن وصفهم بقوله:
(فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) .
والناس في سماع كلام الله تعالى على أضرب:
الأول: من يسمع كلامه ويعقل معناه ويعمل بمقتضاه.
وهم الذين ذكرهم بقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) .
والثاني: من يسمعه أو يعقله ولا يعمل به، وهم(2/661)
الذين ذكرهم بقوله: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) . والثالث: من يسمعه ولا يعقله ولا يعمل به، الذين ذكرهم بقوله:
(يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا) .
وأكثر المفسرين حملوا قوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ)
على الآخرة، فقال بعضهم: عنى أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم.
وأما ما يسوؤهم فبلى، فقد قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقال بعضهم: لا يكلم الكفار بوجه.
وإنما يسائلهم بلسان الملائكة،(2/662)
وقال بعض المفسرين: يتناول ذلك في الدنيا والآخرة، فإنه
تعالى يُكلم أولياءه في الدنيا لانتفاعهم بما يسمعونه من كتابه
وسائر آياته وآثار صنائعه، ومن لم ينتفعوا بعظاته لم يحصل منه
لهم مكالمة، ولهذا قال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)
وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فنظر الله إلى العبد يكون في الدنيا
بإفاضة النعمة، وفي الآخرة بالإِثابة،(2/663)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
ولما كانت نعمة الله الدنيوية عامة للمسلم والكافر، أو نعمته
الأخروية محرمة على الكافر، قال: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
فخص، وأما التزكيةُ فقد تكون في الدنيا بتوفيقه وإرشاده إلى
ما يزداد به العبد بصيرة وفي الآخررة بالإِثابة، وكل ذلك ممنوع من
الكافر، ثم قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، تنبيها أن ثمرة منع
هذه الأشياء إيجاب العذاب لهم، أو تنبيها أنهم مع منعه إيّاهم
هذه النعم، يجعل لهم زيادة في العذاب الأليم.
قوله عز وجل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)(2/664)
الليّ: من لويت يده، وعنهم لويت الغريم ليًّا ولياناً، فَتَلْتُه
عن حقه بمطلة، ولي الألسنة: قيل تحريف اللسان عمّا في القلب.
وهو الكذب، وقيل: هو التنطُع والتجمُّل بالكلام لتشبيهه بغيره.
وقيل: ليهم بألسنتهم: تحريفهم بالتأويل الباطل، وكما ذم
تعالى بعضهم بقلة الوفاء بعهد الله ذم بعضهم بالكذب على الله
تعالى، الذي هو أفظع كذب وأشنعه، وعنى بالكتاب الأول ما
كتبوه بأيديهم المعني بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، وبالكتاب الثاني التوراة، ونفى
أن يكون ذلك من الكتاب الذي هو المنزل (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
أي من حكمه وإنزاله، إن قيل: ما فائدة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) بعد قوله: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أفاد أنهم يشبهون ويروون ذلك.
وهذا تعريض منهم، وقوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تصريح منهم بالكذب، فوصفهم بأنهم يكذبون(2/665)
تعريضا وتصريحا، أو تلاوة وتأويلًا، وفي هذا دلالة أن إيهام
الكذب قبيح، كما أن التصريح به قبيح، وأيضاً فإن الشيء قد يقال
هو من عند الله ولا يكون من الكتاب، فإن كل صواب وحكمة
فمن عند الله، وإن لم يكن منزلاً في كتاب، وعلى ذلك قال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم عني حديث يدل على هدى ويكف عن ردى فاقبلوه، قلته أو لم أقله، فإني قلته".
وفائدة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)(2/666)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
بعد الذي تقدم ذكره تنبيا أن كلا الأمرين منهم كذب؛
لي الألسنة، وقولهم: هو من عند الله، وإعلام أن ليس كذبهم
مخصوصًا بهذين فقط، بل هم كَذَبة كقولك: فلان تقول على كذا
وهو كاذب، ثم قال: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تشنيعا عليهم، وأنهم غير
معذورين بوجه إذ قد يعذر الإِنسان في بعض ما يظنه، ومن كذب
عامدَا إليه وعالما به وهو يقصد به استجلاب نفع دنيوي فهو
مستحقّ للذمّ.
قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)(2/667)
البشر يستوي فيه الواحد والجمع لكونه كالخلق.
والرباني: قيل: هو منسوب إلى الربَّان، وهو المتخصصُ بالعلم الذي يربُّه باستفادته وإفادته، وفعلان أكثر ما يجيء عن فَعِل للمبالغة نحو نعسان.
وقال الزجاج: الرباني منسوب إلى الربِّ، لكن زِيد فيه ألف ونون
للمبالغة في النسبة، كما زيد في: لحياني وجماني قال مؤرج:
هو لفظة في الأصل سريانية وأخلِق بذلك فقل ما يوجد في(2/668)
كلامهم القديم، وإلى ما قدمنا من معناه
قال الحسن: معناه: كونوا علماء فقهاء.
وقال ابن جبير: حكماء فقهاء.
وقال ابن زيد: مدبِّري أمر الناس في الولاية بالإِصلاح.
وقال الزجاج: معلمي الناس وهذا كله ألفاظ مختلفة عن(2/669)
معنى واحد، بيَّن تعالى أنه لن يصطفي علام الغيوب لرسالته
من يعلم من حاله أنه يكذب، وأن يأمر الناس أن يعبدوه.
وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) .
وإنما قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) فذكر باللام لأن قولك: فلان
ليس له أن يفعل كذلك. أبلغ من قولك: هو لا يفعل؛ لأن في
قولك ليس له أنه ممنوع منه، إما منعا من خارج كالقهر، وإما من
داخل من جهة العقل والتزام الشرع، وقد نبّه تعالى بذلك أن
الأنبياء ممنوعون عن ذلك من جهة العقل المسدّد، والحظر
الوارد عليهم من قبله تعالى، لا منعا من جهة عدم التمكن.
وعلى ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)
وأما قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فإنه لما أراد تعالى المبالغة في(2/670)
النفي أخرج الكلام هذا المخرج، تنبيهًا أن الحكمة تمنع من
ذلك، وإن كان منزها عن أن يوصف بمنعِ على وجه.
وقال الجبّائي: ليس قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) على سبيل التحريم.
لأن هذا محرّم على جميع الخلق، قال: ولو كان ذلك تحريماَ لم يكن
تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى
على إنسان قولا، فقال: فلان لا يحلُّ له كذا. لا يكون مكذّبا
لدعواه، قال: وإنما أراد الله بهذا القول تكذيبهم، وما قاله
فيه قصور نظر، فإن النصارى أقرُّوا بأن المسيح لم يكن يدعي ما لم
يكن له أن يدعي، فإذا أقروا بذلك، وبيّن تعالى أن ليس له ولا
لأحد من البشر أن يقول ذلك، كان فيه إلزام واضح، وكأنه قيل:
قد ثبت أن المسيح لم يكن يدعي ما ليس له دعواه، وثبت أنه كان
بشرا بما تقدم في هذه السورة وغيرها، ولم يكن لأحد يؤتيه الله
الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله.
وإن المسيح قد أوتي الكتاب والنبوة، فإذن محال أن يدعو أحدا إلى(2/671)
عبادته، وقوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) بالرفع على الاستئناف
وبالنصب على العطف، أي لا يجتمع الأمران: إثبات النبوة.
وقوله: (كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ، يعني: ولكن يقولوا: كونوا ربانيين، حكماء أولياء لله.
فقد قيل: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله في الأرض ولي.
وقيل: كونوا متخصصين بالله تخصصا تُنسبون إليه، وتوصفون
بعامة أوصافه نحو الجواد والودود والرحيم.
وقيل: كونوا من المتخصصين بالله الذين وُصِفوا بقوله:
"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به " الخبر.(2/672)
وقيل: كوثوا متخصصين بالله غر ملتفتين إلى الوسائط
كأبي بكر لما قال حين موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، واضطربت أسرار عامة الناس: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".
وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ..) الآية، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ) أي بكونكم عالمين أو معلّمين على حسب القراءتين في تعلمون وتُعلِّمون، ولا تحتاج لفظة ما هاهنا إلى ضمير، كما هو في
قوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) ، لكونه في(2/673)
تقدير أن، ومعنى (تَعْلَمُون الكتابَ) أي تعرفونه كقوله:
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) .
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) .
وإذا قرئ (تُعَلِّمُونَ) فمعناه تعلمون الناس الكتاب، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) مما يصح أن يوصف به العلم والمعلم، ومعنى (بِمَا كُنْتُمْ) أي كونوا معلمي(2/674)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
الخير بما علمتم، أوكونوا حكماء علماء عاملين بما علمتم.
فإن الحكيم في الحقيقة من عمل بما علم، وكان محكماً لعمله
إحكامه لعلمه.
وإذا قرئ (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ) فمعناه كونوا
عاملين بما تعلِّمون غيركم إشارة إلى فحوى قوله:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) .
قوله عز وجل: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ) قرئ مرفوعاً على الاستئناف، ومنصوبا على رده إلى قوله: (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ) .
وفي قراءة عبد الله: "ولن يأمركم".
وقوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(2/675)
أي بعد أن كنتم على دين إبراهيم، أو بعد أن تبعتم النبي فيما
دعاكم إليه، وهذا كلام يقتضي قياسا بيانه: النبي لا يأمر المسلمين
بالكفر، وهذه مقدمة دل عليها قوله: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) .
لأن هذا الإنكار يقتضي أبلغ نفي والأمر باتخاذ النبيين والملائكة
أربابا أمرٌ با لكفر، فإذن لا يكون ذلك من الأنبياء.(2/676)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) إذا قرئ بالفتح فلفظة ما تحتمل وجهين.
أحدهما: أن تكون موصولاً وتقديره: ما أتيتكموه، كقوله: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي بعثه الله، والراجع إليه من قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) أحد شيئين: إما محذوف، أي جاءكم
رسول به، وإما لأن قوله: (لِمَا مَعَكُمْ) هو في المعنى: الكتاب(2/677)
فاستغنى به عن الضمير، كقولك: الذي أتاني لا أضرب عمرا.
إذا كان عمرو هو الذي أتاه، وهذا أجازه الأخفش، وعليه
حمل قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
أي لا يضيع أجرهم، وجاز ذلك لما كان من يتقي ويصبر هم المحسنون. والوجه الثاني: أن تكون ما للجزاء وتكون مفعولا من (آتَيْتُكُمْ) ، و (جَاءَكُمْ) في موضع الجزم معطوف عليه، واللام الداخلة على (ما) هي الموطئة للقسم،(2/678)
والتي في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) للقسم كاللامين في قوله تعالى:
(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي) ، وعلى هذا حمل سيبويه
الآية، وقال: وسألته - يعني الخليل - عن قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ)
فقال ما هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على
إنْ حين قلت: لئن فعلت لأفعلن. وعنى بقوله: إن ما بمنزلة
الذي، أنه اسم لا حرف، كما هو حرف في قوله: (لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما لم يجعله
كالذي لعدم الضمير الراجع إليه في قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)(2/679)
فإن قيل: فمن جعل ما موصولاً في قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) وجب أن يكون ابتداء، فما خبره؟
قيل: خبره (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) ، والضمير في (بِهِ) هو راجع
إلى ما، وفي قو له. (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى الر سول، ولا يجوز أن يرجع
في قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلى الرسول أيضاً، لأنه يبقى المبتدأ بلا
عائد إليه، فأما من جعل (ما) جرًّا فلا يحتاج إلا ضمير، لأنه حينئذٍ
مفعول، والمفعول لا يحتاج إلى ضمير يرجع إليه، وأما من قرأ
"لمِا أتيتكم" بالكسر فمعناه: أخذ الله الميثاق منهم لأجل الذي
آتيتكم، وما لا تكون هاهنا إلا موصولة، والكلام في رجوع
الضمير إليه قد تقدم وقُرى "لمّا آتيتكم" أي أخذ الله ميثاق(2/680)
النبيين حين آتيتكم الكتاب، ثم جاءكم رسول، ولما ذُكر حكى
لفظ الميثاق المأخوذ عليهم أي، قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى قوله: (مِنَ الشَّاهِدِينَ) .
واختلف فيمن أخذ عليه الميثاق، فقال بعضهم: أخذ من الذين منهم الأنبياء، وتقدير الكلام أخذ الله ميثاق أمم النبيين.
ورُوي أن الربيع قرأ "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب.
وقال: هكذا أنزل وأخطأ الكاتب، ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) ،(2/681)
وحُكي أنه هكذا في قراءة ابن مسعود، وقال بعضهم: أخذ
ميثاق النبيين أن يُبشر المتقدم بالمتأخر، ويُصدق المتأخرُ(2/682)
المتقدم، وأن يخبروا كلهم بكون محمد خاتم النبيين.
قال السدي: ما بُعث نبي من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه لتؤمنن بمحمد
إن خرج وهو حي، وفي هذا تنبيه أن كل زمان بالشريعة التي
خصه الله بها أولى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتباعي ".
والصحيح أن العهد مأخوذ من الفريقين من الرسل والمرسل إليهم، لكن خص الأنبياء بالذكر لكونهم الرؤوس وكون الأمة تبعًا لهم، وكذلك خص النبي في كثير من المخاطبة التي تشاركه فيها أمته نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ) ،(2/683)
ولأنه إذا أخذ الميثاق على الأنبياء فقد أخذ على أممهم لمشاركتهم
أنبياءهم في عامة ما شرع لهم، وأما كيفية أخذ هذا العهد، فقد
قيل: كان ذلك بقول وأمرٍ من الله للأنبياء بأن يخبروا قومهم
بذلك، وقد قيل: إن ذلك بما ضمنه عقولهم أن الحق حيث ما وجد
يجب أن يتبع، ولما أخبر الله تعالى في الآية المتقدمة أن ليس لأحد
ما ادعاه من قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ)
ذكر هاهنا أنه تعالى لم يخلِ الأنبياء مع كونهم مأمونين
على الغيب من أخذ ميثاقهم بمظاهرة البعض البعض.
وقوله: (فَاشْهَدُوا) قيل معناه اعلموا، فإن الشهادة وقت التحمل هو
العلم، ووقت الإِقامة هو الإِخبار، وقوله: (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
على حد ما تقدم في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) .(2/684)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
لما كان الفسق هو الخروج عن أمر الله وطاعته، وكان بين أدنى
منزلة وبين أقصاها بون بعيد صار له منازل كثيرة، فيطلق تارة
على الذنب الصغير، نحو قوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، وتارة على الكفر والشرك، نحو
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) ، وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) ، وعلى هذا استعمال الفاسقين هاهنا) .
ودخول الفاء في قوله فاولئك لتضمن (مَن) معنى الشرط.
قوله عز وجل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
حمل (أَسْلَمَ) على الاستسلام وعلى الاعتقاد والإِقرار باللسان،(2/685)
والتزام الأحكام، وقيل في ذلك أقوال:
الأول: له أسلم من في السموات طوعاً، وهو أن علمهم بوحدانية الله وصفاته ضرورة لا استدلال، وعامّة أهل الأرض كرهاً بمعنى أن الحجة
أكرهتهم وألجأتهم كقولك: الدلالة أكرهتني على القول بهذه
المسائل، وليس هذا من الكره المذموم.
الثاني: أسلم المؤمنون له طوعاً، والكافرون كرها، إذ لم يقدروا على أن يمتنعوا عليه مما يريده بهم، ويقضيه عليهم.
الثالث: عن قتادة: أسلم المؤمنون له طوعاً في حال الصحة والأمن، والكافرون كرهاً عند الموت،(2/686)
حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) .
الرابع: عنى بالكره من قوتل، وأُلجى إلى أن يؤمن.
الخامس: عن أبي العالية ومجاهد أن كلَّا أقرَّ بخلقه إياهم، وإن أشركوا
معه، لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
السادس: عن ابن عباس: أسلموا باحوالهم الناطقة جميهم.
وذلك في الذرْء الأول) ، حين قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)(2/687)
وقيل: معنى ذلك دلائلهم التي فطروا عليها، التي هي العقل
والتمييز المقتضيان لإِسلامهم طوعا أو كرها، وإلى هذا أشار
بقوله: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) .
السابع: عن بعض الصوفية أن من أسلم طوعا هو من طالع المثيب والمعاقب دون الثواب والعقاب، فأسلم رغبة ورهبة، ونحو هذه الآية
قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)
وفي هذه الآية حجة بينة أن طاعة الله هي التي يجب أن تكون المبتغى والمطلوب،(2/688)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
لأن كل ما سواه مما يتقرب إليه، فقد أسلم لله طوعاً أو كرهاً.
قوله عز وجل: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة إلا أنه
يقال: كيف قال هاهنا: (قُل) وهناك: (قُولُوَا) ، وذكر هاهنا
(عَلَيْنَا) وثَمَّ (إِلينَا) ، وذكر هناك (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) .
وترك ما أوتى هاهنا؟
والجواب: أن (قل) هاهنا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعتقد ذلك ويبلّغ قومه، وهناك خطاب للأمة أن يعتقدوا
وليس يأمرهم أن يبلغوا، وإنما قال هاهنا (عَلى) لأن ذلك لما
كان خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان واصلًا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية، كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به، وهناك لما كان
خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بوساطة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لفظ إلى المختص بالإِيصال أولى، ويجوز أن يقال: أُنزل عليه إنما يحُمل(2/689)
على ما أُمر المنزَّلُ عليه أن يبلّغ غيره، وأُنزل إليه على ما خُصّ به
في نفسه، وإليه نهاية الإِنزال وعلى ذلك قال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فخُصّ بإلى هاهنا لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيانُ المنزل، وهذا كلام أي الأولى، لا في الوجوب، وأما إعادة لفظ (ما أوتي) هناك فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً، ومن حُكْم خطاب العامة البسط دون الإِيجاز
بسط اللفظ، ولما كان الخطاب هاهنا خاضًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما قدمنا اكتفى فيه بالإِيجاز.
وإن قيل: إذا كان ذلك أمراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن
يقوله، فكيف قال: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ؟
قيل: إنما ذكر ذلك تنبيهاً أن أمته غير منفردين عنه في هذا الاعتقاد، وغير مكروه لهم أن يبلّغوا ذلك تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم -
فكيف فسح لهم التبجح بذلك مع كون التبجح مذموماً؟
قيل: التبجح هو إظهار الإِنسان(2/690)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ما يتطلب به رفعةَ عند الناس، وليس هذا من ذلك، بل هو
إظهار التحمد المندوب إليه بقوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .
وإظهار مباينة الكفار بالاعترافِ بالإِسلام، وقصد أن الاستسلام
في الإِيمان بهم هو في الحقيقة لله تعالى لا لغيره.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
في الآية قولان: أحدهما: أن الأسلام هاهنا الاستسلام إلى الله.
وتفويض الأمر إليه، وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان
ومن كل أمة وفي كل شريعة، وقدْ(2/691)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
تقدم أن الدين في اللغة الطاعة وفي التعارف: وضع إلهي
ينساق به الناس إلى النعيم الدائم، فبيّن تعالى أن من تحرى
طاعة وانسياقاً إلى النعيم من غير الاستسلام له على ما يأمره به.
ويصرفه فيه فلن يقبل منه دنيء من أعماله، وهو في الآخرة من
الذين خسروا أنفسهم.
والثاني: أن المراد بالإِسلام شريعة محمد عليه الصلاة والمسلام، فبيّن أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من غير متابعته في شريعته فغير مقبول منه، وهذا الوجه داخل في الأول، فمعلوم أن من الاستسلام الانقياد لأوامر من
صحّت نبوته وظهر صدقه.
قوله عز وجل: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)(2/692)
هذه الآية واللتان بعدها، قيل: نزلت في رجل ارتد.
ثم أرسل إلى قومه: اسالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة؟ فأنزل
الله تعالى ذلك، فعاد إلى الإِسلام وحسن إسلامه.
وقيل: نزلت في اليهود، الذين اعترفوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، ثم أنكروه بعدها، فعلى هذا قوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) أي(2/693)
جحدوا بعد معرفتهم، لا أنهم ارتدوا بعد دخولهم في الإِسلام.
وقد تقدّم أن الهداية من الله على أضرب: الهداية التي عمَّ
بها كل مكلّف، وهو إعطاؤه العقل المميّز بين الخير والشر وبين
الصدق والكذب، وهي المعني بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) .
والثاني: "زيادة الهدى التي تأتي بقدر استعمال الأول العنيّ بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)(2/694)
والثالث: التزكية لأعمالهم أو توفيقه في أحوالهم.
وهو المعني بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) ، والرابع: إدخال الجنّة المعني بقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
والله تعالى لا يؤتي هؤلاء شيئا من ذلك) .
أما الثاني والثالث والرابع فلأنهم لا يستحقونه إذ لم يهتدوا بالأول.
وأما الأول فلأنهم قد أتاهم ما أمكنهم الاهتداء به.
ومن أُوتي من الهداية ما فيه من الكفاية فلم يهتد به،(2/695)
2271 ب
فالزيادة لا تغني ما لم تكن على سبيل القهر المنافي للتكليف.
ولذلك قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) الآية.
ثم قال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تنبيهاً أن الهداية من الله.
والظلم من العبد، يتنافيان ولا يجتمعان.
فإن الظلم ترك الاهتداء، ومن يهُدى ويترك الاهتداء عناداً
لا سبيل إلى هدايته إلا قهراً.
وعلى هذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) .
إن قيل: كيف نفى عن الكافر الهداية في هذه المواضع.
وأثبت له في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) ؟
قيل: المتْبت لهم هاهنا هو العقل والتمييز دون الأخرى، التي لا
تحصل إلا بعد الاهتداء بهذا، وهذه تارة تُثبت للكافر إذا(2/696)
أريد أنه مطبوع عليها ومعرض لاستعماله إياها، وتارة تُنفى
عنه، بمعنى أنه لم يستعملها، ولم يحصل قبوله على ما يحب.
فكأنه في حكم ما لم يعط.
وقوله: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فهو على لفظ الاستقبال.
ومعناه لا يفعل به ذلك ثانياً، إذ قد أتاه ما فيه الكفاية.
ولفظ (كيف) وإن كان استفهام، فالقصد به(2/697)
النفي هاهنا، وعلى هذا قول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم
فأدخل الباء في خبر هل لما أراد معنى ليس، إن قيل: على ماذا
عطف قوله: (وَشَهِدُوا) فإن ظاهره من حيث المعنى أنه معطوف
على قوله (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) ، لا يصح عطف الفعل على الاسم.
ولا يصح أن يكون معطوفا على قوله: (يَهْدِي اللَّهُ) ، لأنه لم
يرد كيف يهدي الله قوماً هكذا وكيف شهدوا أن الرسول حق؟
قيل: في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون تقديره بعد إيمانهم
وإن شهدوا، فيكون أن مقدرا، كما هو في قول الشاعر:(2/698)
للبس عباءة وتقرّ عيني. . .
إلا أن إضمار أن في البيت أظهر لانتصاب تقر.
والثاني: أن يكون (وَشَهِدُوا) في موضع الحال.
أي وقد شهدوا، نحو قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)
وقول الشا عر:
تقول وصكَّت نحرها بيمينها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وقوله: (أَنَ ألرَسُولَ حق) أي أنه سيبعث، وأنه منتظر.(2/699)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
قوله عز وجل: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
قد تقدّم الكلام في ذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)
إلا أنه بتَّ الحكم، ثَمَّ قال: (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ)
لِمَا كان ذلك حكماً على قوم ماتوا على الكفر، وقال هاهنا:
(جَزَاؤُهُمْ) لما كان حكماً على قوم باقين يرجى صلاحهم تنبيهاً
على تضمُّن معنى الشرط، لأن ذلك لهم إن ماتوا على الكفر.
قوله عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
إن قيل: " لِمَ اقتصر هاهنا على التوبة والإِصلاح.
وقال في البقرة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أن(2/700)
يُعَفِّي المذنب ما تقدّم من ذنبه بما يُوفَّى عليه من أفعاله الخير، وكان من
ذنب الأحبار الذين ذكرهم في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) ، أن قالوا للناس: ليس في التوراة ما يدل على نبوة محمد.
فصار من تمام توبتهم أن يبينوا للناس ما كتموه، ولما لم يكن في الموضعين
ها هنا ذلك اقتصر في توبتهم على الإِصلاح.
وإنما أتبع التوبة في(2/701)
عامة المو اضع الإِصلاح، فإن التوبة راجعة في الأصل إلى الاعتقاد
والإِصلاح إلى الأعمال. وكلاهما مرادان، وعلى ذلك اتباع
عمل الصالحات بعد الإِيمان في كل موضع ذُكِرَا معا.
إن قيل: لِمَ قال ها هنا: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال ثمَّ: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) و؟ قيل: كل واحدة من الصفتين؛ أعني اَلتَوَّاب(2/702)
والغفور يتضمَّن الأخرى، لكن التوّاب أخصّ والغفور
أعم، فذكر حيث ما ذكر أعظم الذنبينْ الضلال والإِضلال
التوّاب، وحيث ما ذكر أصغرهما - وهو الضلال دون الإِضلال -
ذكر الغفور.
إن قيل: لِمَ قال ههنا: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ولم يقل ثّمَّ؟
قيل: لما وصف ههنا قوما كان منهم إيمان متقدّم.
ثم حصل منهم كفر بعد إيمانهم، قال: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ليبيّن أن
الإِيمان المتقدم لا ينفعهم إذ قد أحبطوه وأبطلوه، وأن الذي
يُعتدُّ به هو ما يفعلونه من بعد،(2/703)
ولما لم يكن ثم كفر بعد إيمان متقدم استغنى عن ذكر (بَعْدِ ذَلِكَ) .(2/704)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
ودخول الفاء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ) لتضمُّن الكلام معنى
الجزاء، كأنه قيل: إن تابوا وأصلحوا يُغْفرْ لهم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)(2/705)
قيل: معناه لن تُقبَل توبتهم بعد الموت.
وقيل: عند الموت والمعاينة، نحو (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)
وقيل: توبتهبم المتقدمة فإن تلك أحبطها الكفر المتعقب.
وقيل: نزل في قوم ارتدوا.
سورة آل عمر ان، الآية: 90.
وهذا مووي عن مجاهد انظر: زاد المسير (1 419) ، والبحر المحيط
(2 542) . وقد رذَ الطبري ذلك قاثلَا: "أنكرنا ذلك، لأن التوبة من
العبد غير كاثنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة) . جامع البيان
(6 583) .
وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، وهو مووى عن مجاهد أيضا، انظر:
جامع البيان (6 578، 579) ، والوسيط (1 1 46) ، ومعالم التنزيل
(2 65) ، ز زاد المسير (1 419) ، والبحر المحيط (2 542) ، وتفسير
القرآن العظيم لابن كثير (1 359) ، وقد ردَّ ابن جرير الطبري هذا
القول أيضا مبئنا أنه لا خلاف في أن ك) افراَ لو أسلم قبل خروج نفسه
بطرفة عين، أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وساثر
الأحكام مما يدل على صحة إسلامه. جامع البيان (6 583) .
سورة النساء، الآية: 18.
وهذا مروي عن عكرمة وابن جريج انظر: جامع البيان (6 580.
581) والبحر المحيط (2 542) . قال الطبري:. "وأما قول من زعم أن
معنى ذلك: التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن الله عز وجل=
706(2/706)
وقالوا: إنا إذا رجعنا قبل توبتنا. وظنوا أن ذلك منهم توبة.
فبيّن تعالى أن هذه النية غير مقبولة، وأنها ضلالة.
وقيل: معناه: لا تكون منهم توبة مقبولة، كقول الشاعر:
على لاحبٍ لا يُهْتَدَى بمناره. . .
أي لا يكون فيه منار فيهتدى به، وهذا إخبار عن علمه(2/707)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
تعالى بحالهم، وقيل: إن توبتهم غير مقبولة في حالِ ما هم
ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان، فالواو في قوله:
(وَأُؤلَئكَ) على هذا واو الحال.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) .
الفدية: بذل شيء احتراساً من أذى، ومنه فداء الأسير.
وقولهم: فديتك. وإدخال الواو في قوله: (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)(2/708)
لعموم المعنى، ومعناه لا يقبل منهم ذلك وإن أخرجه على
وجه القُرْبة في الدنيا، إذ كان لا يتقبّل الله إلا من المتقين.
ويجوز أن يعني ذلك في الآخرة، ومعناه: لو ملك ذلك فأخرجه
لم يكن ينفعه، وليست الواو بزائدة كما ظن بعضهم، لأنه(2/709)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
حينئذ يسقط معنى عموم الحالين، وملء الأرض - قيل: هو
مقدار ما يملأ الأرض، وقيل: معناه كل ما يتعامل به في
الأرض من الذهب، وذلك حسم لطمع من مات على كفره في رحمته.
وقيل: وهذه الآية والتي قبلها كالآيتين في سورة النساء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ..+ إلى آخر الآيتين.
قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)(2/710)
البر: التوسع في فعل الخير، وقد تقدم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ)
إن البر ينسب إلى العبد تارة، وذلك إذا أطاع الله.
وإلى الله تارة إذا أنعم على العبد.
وقد حُمِلَ ههنا على الأمرين، فقيل: البر من الله الثواب.
وقيل: الجنة، وقيل: الطاعة، ومن الناس من اعتبر ذلك
في المال فقط، فالإنسان محبٌّ للمال بالطبع، ولهذا قال تعالى:(2/711)
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) ، ثم منهم من قال: هذا خطاب
للأغنياء، ولذلك قال الحسن: عنى الزكاة الواجبة وما فرض في
الأموال خاصة، ومنهم من قال: خطاب للكل، وحثٌّ لهم على ما قدروا عليه من الإِنفاق، وكمن مَدَحَ يقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس، فقال: هذا مما أحبَّه الله، وقد جعلته في سبيل الله، فحمل(2/712)
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة، ومنهم من اعتبر ذلك في متاع الحياة الدنيا كله، فقال: لن تنالوا البرَّ إلا بالإنفاق، وبذل الجاه
والبدن والنفس، قال: وذلك حثٌّ على جميع المحامد، فإن
من تشجَّع وبذل المهجة في طاعة الله فقد أنفق ما أحب،(2/713)
ولذلك قيل:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال بعضهم: أحب الأشياء إليك روحك، فأنفقها في الوصول
إلى البّر.
وقيل: برُّ الله لعبده اطلاعه على دقائق حكمته وحقائق
المعقولات، ولا يكون ذلك إلا بترك ما تميل إليه النفوس من
المحسوسات من المطعم والمنكح والملبس.
وقيل: أعظم البر مجاورة البارّ وقربه، وذلك بإنفاق ما لنا في الدنيا.
وقوله:(2/714)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي مجازيكم، ولدلالة ذلك على المجازاة
جُعِلَ جواباً للشرط.
قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
كان اليهود أنكروا تحليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوم الإِبل، وقالوا: إنها كانت محرّمة على إبراهيم على ما نطقت به التوراة، فكذبهم تعالى، وذكر أنها كانت محلّلة عليه وعلى أولاده إلى أن حرَّمها إسرائيل على نفسه، وهو يعقوب، - وأمرهم بإحضار التوراة، فامتنعوا، ولم يجسروا على ذلك،(2/715)
لصدق ما أخبر تعالى به، وسبب تحريمه ذلك - قيل: إنما كان
مرضا أورثه لحم الإِبل فتركه، وحرّمه على نفسه تحريم المريض
طعاما لا يوافقه، لا تحريم شرع.
وقال ابن عباس والحسن: أصابه عرق النَّسا، فنذر أن يترك إن عافاه الله أشهى طعام إليه تقربًا إلى الله تعالى، وتحريم اليهود ذلك كان اقتداء منهم به،(2/716)
وقيل: إنه لما حرَّم على نفسه حرّم الله عليهم، ولذلك قال:
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) في الآية حجة
عليهم على هذا في جواز النسخ، لأنه حرَّم عليهم ما كان مباحا
في شريعة إبراهيم.
إن قيل: كيف حرَّم هو على نفسه ما كان(2/717)
مباحا فأقره الله عليه، وحرّم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريته فعاتبه ومنعه؟
قيل: إن إسرائيل إما أنه حرَّم على نفسه لحم الإِبل، لأنه لم يكن يوافقه.
وكان واجباً عليه تركه.
فإن الله تعالى جعل الطعام ليتوصل به إلى صلاح البدن.
وما يؤدي إلى فساده فواجب علينا تركه؟ وإما أنه حرَّم ذلك تقربا إلى الله كما يُحرم الصائم الطعام، وكما يُحرم المعتكف على نفسه بعض التصرفات، ولم يكن تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - علي أحد هذين الوجهين، بل لما ذكره تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) ، ولأن في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - تضييع حق متعلق به للغير، وهو حق الجارية. وليس ذلك في فعل إسرائيل، وأيضاً فإن(2/718)
إسرائيل لما حرَّم أشهى الطعام إليه قصد بذلك قمع الشهوة، وبنحو
ذلك يهذب الحكيم نفسه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم جاريته تبع هوى غيره، وهو مرضاة أزواجه، وذلك مكروه، فلم يقرَّ عليه،(2/719)
ذكر بعض الصوفية أن في ذلك تفضيلًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين.(2/720)
أحدهما: أنه لما حرَّم إسرائيل على نفسه ما أحبه أمضاه، وحرم
النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فعافاه.
والثاني: أن بني إسرائيل ما كانوا يلتزمونه مما لم يكن قربة في الشريعة يلزمهم الوفاء به تشديدا عليهم، وعلى ذلك دل قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "شددوا على أنفسهم فشدد الله
عليهم "، ورُفِعَ عن هذه الأمة ذلك فضيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. إن قيل: ما وجه اتصال هذه الآيات بعضها ببعض، لأنه ذكر أولا:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) الآيتين ثم ذكر: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ثم عقبها بتحريم إسرائيل الطعام، وذم اليهود؟(2/721)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
قيل: لما ذكر في الآيتين المتقدمتين ذم اليهود وغيرهم من الكفار.
وبين أن انفافهم مع كفرهم غير مقبول منهم، وصل ذلك بقوله:
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) ، لئلا يقرر أن الانفاق غير مغنٍ على جميع
الوجوه، فقال: وأنتم أيها المؤمنون إذا أنفقتم فإنما نقبل منكم
على هذا الشرط، ثم رجع إلى ذم اليهود وتعديد ما ارتكبوه.
فصار قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) بين الآيتين من الاعتراض
المسمى في كتب البلاغة الالتفات.
قوله تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)(2/722)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
الافتراء والاختلاق: افتعال للكذب الذي لا أصل له، من افتراء الأديم واختلاقه.
والكذب ضربان:
اختراع قصة لا أصل لها وزيادة، أو تغيير فيما له أصل.
والأول أعظمهما، والمُفترى عليه ضربان: رفيع ووضيع.
فالمفتري على الرفيع أعظم ذنبا، ثم المفتري له ضربان: عارف بالفرية.
وجاهل بها، فالمفتري العارف بالفرية أوقحهما وجهاً، فبين الله
تعالى بالآية أنهم اختلقوا الكذب على الله تعالى، الذي يعلم السر
وأخفى، وفعلوا ذلك بعد أن أطلع الله الناس على كذبهم، وبين
أن متخذي ذلك في نهاية الظلم، وعلى ذلك في غير موضع:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) .
قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)(2/723)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
معنى قوله: قل اعتقد وأخبر أن ذلك من قول الله
تعالى، وهو صادق. وحقيقة قوله: (صَدَقَ اللَّهُ) إقرار بأن الله
قد أخبر، فإنه إذا ثبت كونه من خبره ثبت. كونه صدقا، ونبّه أن
ما أخبر من قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا) وسائر ما تقدّم
صدق، وأنه ملة إبراهيم، وأوجب عليهم اتباعه في تحنّفه أي
في استقامته، وفي قوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بهم.
كأنه قيل: أنتم مشركون في اتخاذ بعضكم بعضاً أرباباً، وإبراهيم لم
يكن مشركاً، فإذن ليس دينكم دين إبراهيم، وكما نفى في
قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) أنه منهم نفى في هذه
الآية كونه مشركا.
قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)(2/724)
قيل: بكة هي المسجد، ومكة الحرم، وقيل: بكة هي البيت.
وقيل: هي بطن الحرم وقال مجاهد: هما واحد(2/725)
كقوله سَبَّد رأسه وسَمَّدَه، أي حلقه، وضرب لازم ولازب.
وأصل بكة من التَّباك أي التزاحم، وذلك اعتبارا بازدحامهم
لقصده، والطواف به، وقيل: لبَكهِ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا(2/726)
فيه، ومكة من أمتَك الفصيل ما في الضرع، كأنَّه يجمع أهل
الآفاق ويؤلفهم، ولذلك سميت أم الزحم.
والبركة: ثبوت. الخير في الشيء ثبوت الماء في البِرْكة.
وسميت البركة لثبوت الماء، وأصل الكلمة البرك، وبرك البعير ألقى بركه وبُركاءُ(2/727)
القتال ملازمته، وتبارك الله تخصُّص بلزوم فعل الخيرات.
واختُلِف في بناء البيت، فقال مجاهد وقتادة: هو أول بيت بُني
في الأرض،(2/728)
وقال عليّ: أول بيت وُضِع للعبادة، وهذا الاختلاف لاختلاف
التقديرين في الآية، لأنه على الثاني: إن أول بيت وضع للناس
مباركاً وهدى للعالمين للذي ببكة، ثم اختلفوا في معنى
(أَوَّلَ) . فمنهم من اعتبر ذلك بالشرف والمنزلة، فكأنه قيل:
أشرف بيت، وعلى ذلك قال مجاهد: هو كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) . ومنهم من اعتبر أوليته بالزمان.
قال: أول(2/729)
بيت بعد الطوفان، وهو الذي قال: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) . ومنهم من قال: أول موضع اتخذته الملائكة قبلة(2/730)
في الأرض، وروى في ذلك أخبارا، وهذا لا يقتضيه الظاهر.
لأنه قال: (وُضِعَ للِنَّاسِ) ، فخُص بالناس، وعلى هذا اعتبروا
(الْعَتِيقِ) في قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، ونبّه بقوله:
مباركاً، أن فيه ثبوت الخير والهداية، وأبهم هاهنا، ثم فسره بما
بعده، واختلفوا في المقام، والأمن، فمنهم من حمل المقام على
المحسوس) ، وقال: إنه أثر قدم إبراهيم على الحجر الصلد.(2/731)
ومنهم من حمله على الأحكام، وقال: هو موضع الطواف
والسعي وسائر أركان الحج، ولهذا قال: (آيَاتٌ) ، ثم فسره
بمقام وإن كان لفظه مفردا، ومفهم من قال: الآيات هي
المعاني المضَمنة فيه التي يستدل بها العارف، والمقام ما تخصَّص
به إبراهيم من الخُلَّة التي اكتسبها ببذل النفس والمال والولد.
فعلى هذا قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) من العقوبة، وقال(2/732)
بعض الصالحين: كنت أطوف فخطر لي قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)
ترى من أي شيء يأمن؟ فسمعت هاتفاً يقول: من النار.
وقيل (كَانَ آمِنًا) من بلايا الدنيا وأعراضها التي
تصيب من قال فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
ومنهم من حمل: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) على الحكم.
ثم اختلفوا. فمنهم من جعله خبراً، وقال: معناه أن من
دخله كان آمناً، وذلك كان في الجاهلية، لأنه لم يكن يُتعرض(2/733)
لجانٍ يلتجئ إلى الحرم بوجه حتى يخرج، وقال الحسن
والأصمّ: من دخله يأمن الاصطلام، ومنهم من حمل ذلك
على التعبد، أي في حكم الله، وإن كان في نفسه وجلًا، كقولك:
هذا مباح، وهذا محظور، فعلى هذا من جعل الضمير في قوله:
(وَمَنْ دَخَلَهُ) للبيت قال: لا يتعرض له بوجه إلى أن يخرج، ومن جعله
للحرم فمنهم من قال: من قَتَل في غير الحرم ثم دخله لم يقتصّ منه
إلى أن يخرج، لكن لا يبايع ولا يواكل حتى يضطر إلى الخروج.
وقال الحسن: يقتص من الكل، وهذا كان حكماً في الجاهلية.
ولم يختلفوا أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته، وعلى(2/734)
قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يحمل قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) ، وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) ،(2/735)
وقوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) ، وقُرئ (آيَةٍ بَيِّنَةٍ) .
وكأن قارئه نظر إلى لفظ ما أُبدل منه، وهو مقام إبراهيم، فلما كان
مفرداً جعل الآية مفردة، والصحيح ما عليه الكافة، فالمقام(2/736)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
مصدر، ويتناول الواحد والجمع، فإذا اعتبر بالمحسوس فهي
المناسك، وإذا اعتبر بالمعقول فأفعال إبراهيم المتقدم ذكرها.
قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
السبيل: إمكان الوصول إليه، كقوله تعالى: (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) والاستطاعة: استدعاء الطاعة، كان النفس بالقدرة تستدير طاعة الشيء لها، والقدرة والطاقة، والاستطاعة والجهد والوسع متقاربة، وقد(2/737)
تقدم ذلك، وقولهم: لا يستطيع كذا. تارة يقال لنفي القدرة.
وتارة لنفي الخفة، فإن قوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي
يستثقلونه، لا لأنهم لا يقدرون عليه، وتمام استطاعة العبادة(2/738)
ثلاث: الأول: استطاعة نفسية، وهي المعرفة بها، أو التمكن
من معرفتها.
والثاني: استطاعة بدنية، وهي أن يكون صحيح البدن قادراً على إقامتها. والثالث: استطاعة من خارج، وهي وجود الآلة التي بها يتمكن من فعلها، ومتى اجتمعت الثلاثة فقد حصل تمام الاستطاعة.
وإلا فالاستطاعة معدومة أو قاصرة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الاستطاْعة: الزاد والراحلة"(2/739)
متناولة للخارجة دون البدنية والنفسيّة، وخصّها - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لما كان معلوماً عندهم أن بافتقاد الأوليين لا يُكلَّف.
وكأن القوم قد شكوا أن الفقير الذي تبعد مسافته، ولا يتمكن من زاد وراحلة هل يلزمه الحج؟ فراجعوه، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك، ولم تتناول الآية العبد، لأنه لا ملك له في قول جُل الفقهاء، وفي قول بعضهم سيده أولى بما في يده، وله أن يمنعه باتفاق، وكذا المرأة إذا لم يكن
لها محرم، هذا قول الفقهاء، فأما الصوفية فقد قالوا: الزاد(2/740)
التقوى، لقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
والراحلة صحةُ البدن، وقد عبر عن البدن بذلك في قوله: "إن
المنبّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
وقال بعضهم: فيه مع إرادة هذا المعنى تنبيه على معنى أبلغ من ذلك البيت جنة المأوى،(2/741)
لقوله: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ولما لم يكن للإِنسان
سبيل إلى ذلك إلا بحسن، عبادته صار ذلك حقّا على الناس.
ولذلك أكَّد لفظه، وخصّه بما لم يخص به شيئاً من العبادات.
فقال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) .
وقال بعض الصوفية: في الحج إشارات اقتضت تأكيد لفظ الأمر به.
وذاك أن في العقد به إشارة إلى معاقدة الولاء المعني بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وبالتلبية إلى الإِجابة له فيما دعا إليه، وبالتجرد إلى التجرد من
الدنيا، وأنه عاد كما خرج من بطن أمه، وبالوقوف إلى الوقوف
ببابه، وبالسعي إلى السعي إليه، وبالطواف إلى محلِّ القربة
منه، قال: ولذلك حقّ على المسلم أن يتغير حاله بعد حجه
عما كان عليه قبل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من حج فلم يفسق ولم يرفث كان كيوم ولدته أمه "، يعني لم يفسق ولم يرفث بعد رجوعه من(2/742)
الحج، ولم يعن في الحج، فإن ذلك مدلول عليه بقوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) .
وقوله: (وَمَن كفَرَ) قال ابن عباس: من كفر بوجوب الحج عليه، وعلى هذا ما ورد أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "مَنْ إن حج لم يَرجُ ثوابه، وإن جلس لم يخف عقابه "
وأما من تركه ممن يري وجوبه لم يكن كافرا(2/743)
وإن كان عاصيا، وقيل: الكفر كفران: كفر تام، وهو إنكار
الوحدانية، أو ما يجري مجراه، وكفر ناقص، وهو الإِخلال
ببعض العبادات، التي هي أركان الدين: كالصلاة والزكاة والحج.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة فقد كفر"،(2/744)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه حج الإِسلام فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا".
وإنما قال: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) تنبيهاً أن قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ليس لحاجة به، وإنما ذلك(2/745)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
لحاجتهم ونفعهم، إذ هو تعالى الغني المطلق، وغيره وإن استغنى عن شيء
ما فغير غني عنه تعالى في شيء من الأحوال، وهو القائم على كل شيء.
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
الذي اقتضى مخاطبتهم بهذا إنكارهم نبوة محمد، ووجوب الحج، والآيات المقتضية لذلك من الكتب المتقدمة ومن القرآن، وبين بقوله: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) أنكم تسترون ما لا يستتر، إذ هو لا يخفى عليه خافية.
إن قيل: لم قال في موضع: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وهاهنا قال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) ؟
قيل: الأول استدعاء إلى الحق فجعل خطابهم منه استلانة للقول، ليكونوا أقرب إلى انقيادهم، وهاهنا لمّا قصد إلى الغض منهم ذكر (قُلْ) تنبيهاً
أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه تعالى، وإن كان كلا(2/746)
الخطابين موصلًا على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إن قيل: لِمَ صار أهل الكتاب يطلق في القرآن تارة على سبيل الذم، وتارة على سبيل المدح، ولا نجري قولنا: أهل القرآن وأهل السنة هذا المجرى؟ قيل: الكتاب لما كان قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، وقد يُراد به ما أنزل الله تعالى، فيكون على سبيل الذّم لأهل الكتاب، وقد يُراد به ما أنزله الله، ويكون على سبيل التهكم، نحو قوله:
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فعلى هذا لو قيل: أهل القرآن
وأهل السنة على سبيل الذم والتهكم لجاز، وقوله: (لِمَ) وإن كان أصله
استفهاماً فالقصد به هاهنا الإِنكار والتنبيه؛ أن لا جواب لهم ولا عذر.(2/747)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) .
يقال: بغيته كذا أي طلبته له، وأبغيته أعنته على بُغَائه، نحو لمسته كذا
وألمسته، وحملته كذا وأحملته، والعِوج ما يدرك بالفكر من الاعوجاج.
والعَوج ما يدرك بالطَّرف، وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) .
يعني الظلم وما يجري مجراه مما يكون في الدنيا،(2/748)
ومعناه لا تصُدّوا المؤمنين طالبين لطريقهم الإِعوجاج.
وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) الشهادة تارة بالعقل نحو (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
أي عارف بعقله، وتارة بالعقد، نحو قوله: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وتارة بإقامة ذلك، وقد فُسّر الآية(2/750)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
بثلاثتها؛ فقد قيل: وأنتم عقلاء تعرفون ذلك بعقولكم.
قيل: وأنتم قد أخذ عليكم العهد بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ)
قيل: وأنتم شهدتم نبوته قبل بعثته، وكل ذلك مراد فلا تنافي بينها.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
قال السديّ: نزلت في قوم من اليهود، سعوا بين أوس وخزرج بالفساد، وذكّروهم من الأحقاد والأوتار) ، فأنزل الله تعالى ذلك، وتلاه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحجموا عما هَمّوا(2/751)
به، والطاعة: بذل الانقياد والإِجابة نحوها، غير أن الإِجابة قد
تكون بالقول مرة وبالفعل مرة، ومتى كانت بالفعل فهي موافقة الداعي
دون الانقياد، ولهذا يقال: أجاب الله عبده، ولا يقال أطاعه، وإنما
خص فريقاً منهم لئلا يدخل فيه من قال فيهم:. (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) ، وعنى بالإِيمان هاهنا الخوض فيه
دون استكماله المعني بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ، فإن من بلغ هذه المنزلة فمحال أن يُردّ على عقبه، ولهذا
قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق.(2/752)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
العصم والعصب يتقاربان، لكن العصم أبلغ، فإن معه الشدّ إمساكا، والأعصم: الوعل المعتصم بالجبل، والعِصَام على بناء الزمام والسِّخَاب، وجمعه عُصُم، واعتصمت به واعتصمته نحو تعلقت به وتعلقته،(2/753)
والعصمة من الله على ثلاثة أضرب: عامة لكل مكلف، وهي ما
يفيض له من العقل، وهدايته بالأمر والنهي والوعد والوعيد.
والثانية: لمن اهتدى بالأولى، وهي التي يرغب كل مؤمن أن
يجعل الله له منها حظًّا. وإياها قصد بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) .
والثالثة: للأنبياء وكيفيتها مختلف فيها.
والاعتصام، والتفويض، والتوكل، والإِسلام - أي الاستسلام -
مترتب بعضها على بعض، فالاعتصام قبل التفويض.
والتفويض قبل التوكل، لأن معنى فوضت أمري إلى فلان، أي
جعلت له الفوض فيه، ومعنى توكلت عليه: اعتزلت، وجعلته
المعتمد، وأما الإِسلام فغايته ما كان من إبراهيم عليه السلام.
حيث قال: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ، ولكون الاعتصام
أول منزلة من هذه المنازل.
قال بعض الصوفية: الاعتصام(2/754)
للمحجوبين (1) ، فأما أهل الحقائق فهم في القبضة (2) ، واستبعد
__________
(1) المحجوبون: عند الصوفية هم من احتجبوا عن قرب الله بسبب من
الأسباب. وعند غلاتهم: المحجوبون هم العامة. انظر: مدارج السالكين
(1 282) ، والمعجم الصوفي ص (74) .
(2) لم يبين الراغب رحمه الله قائل ذلك، ويبدو أنه أحد غلاة الصوفية، لأن كلامه مخالف لقوله تعالى في هذه الآية: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فالله تعالى أثبت له الهداية، وذاك جعله مع المحجوبين.
غير أن مصادر التصوف التي بين يدي ليس فيها شيء من تنقص تلك المنزلة، فهذا ابن عربي يفول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) بالانقطاع عما سواه والتمسك بالتوحيد الحقيقي (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم، هو طريق الحق تعالى، كما قال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . ثفسير ابن عربي (1 / 122) .
وقال القشيري: إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأما من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه في البداية توجب اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية. لطائف الإِشارات (1 / 277، 278) .
أما الهروي فقد قسم منزلة الاعتصام إلى ثلاث مراتب:
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر، استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين والأنصاف.
واعتصام الخاصة: بالانقطاع، وهو صون الإِرادة قبضا، وإسبال الخلُق بسطا، ورفض العلائق عزما، وهو التمسك بالعروة الوثقى.
واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدا، بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا، مدارج السالكين (1 498 - 551) . فكلام الهروي هنا يدل على
تعظيم جميع مراتب الاعتصام لمان كان بعضها أفضل من بعض بخلاف كلام من ذكره الراغب، فإنه غض من شأن تلك المنزلة وجعلها للعوام المحجوبين الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل الحقائق.(2/755)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
الله تحولهم مع ظهوو الآيات التي هي المعجزات العقلية، وكون الرسول
الشاهد فيما بينهم الذي يظهر من العجزات المحسوسة.
وقيل: معنى قوله: (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي دلائله لا ذاته، فعلى هذا خطاب لمن في زمانه، ولمن بعده.
وقوله: (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي الطريق المسئول
أن يهدينا إليه في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
والمدعو إليه بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) .
والمأمور به في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)(2/756)
التقوى: أن تجعل بينك وبين المعاصي ما يصير واقياً
لك عن تعاطيها، فتصير واقيا لك في الآخرة عن العذاب.
وقال بعض الناس: التقوى من ثلاثة أوجه: تقوى من غرور
الدنيا، والتقوى من النفس، والتقوى من الله.
وكل واحد منها على ثلاث منازل:
أما التقوى من الدنيا فأن تتقي محرماتها، ثم شبهاتها.
ثم الزهد في مباحاتها.
وأما التقوى من النفس فأن تتقي أولاً عقوبته.
ثم استدراجه نحو: أن يملي للعبد ويوسع عليه فيغتر به.
ثم حجابَه، نحو: أن يسأله العبد(2/757)
فتتباطأ إجابته فيعيرّ ذلك قلبه، فمن استكمل هذه المنازل فقد اتقى الله حق.
تقاته، وحرر ذلك بعض الصوفية على وجه آخر.
وقال: التقوى على ثلاث منازل: تقوى العقوبة بالصبر عن المعاصي.
وإياه قصد بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) .
وتقواه بشكر آلائه، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص لفظ الرب المنبئ عن تربيته إياه ونعمته عليه، وتقواه برؤية وحدانيته من غير تلفّت ثواب أو عقاب، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: ولهذا حيث ما ذكر (اتَّقُوا اللَّهَ) خص المؤمنين بالمخاطبة، وحيثما ذكر (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص الناس الذي هو أعم اللفظتين.
وتقسيم التقوى على ئلاث منازل هو على حسب الظالم(2/758)
والمقتصد والسابق، وقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) حثٌّ أن يبلغ
الإِنسان في ذلك مبلغ السابقين، قال عبد الله والحسن وقتادة: هو
أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.(2/759)
وقال قتادة والربيع: الآية منسوخة بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
وقال غيرهما: بل معناهما واحد، فإن حق التقوى
هو التقوى على حسب الاستطاعة، واستدل بما روى(2/760)
معاذ قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "هل تدري حق الله على العباد؟
" قلت: الله أعلم ورسوله، فقال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً".
ثم قرأ: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ،(2/761)
ومن قال: هذا منسوخ تصور من قوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) غاية الجهد من
العبد، وإن (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هو قدر العفو، فصار مقتضى ما استطعتم
أخف من مقتضى حق تقاته، واستقبح أبو علي الجبّائي قول من
قال: الآية منسوخة، وقال: هذا جهل، لأنه لا يجوز أن يبيح الله
للناس أن يفعلوا بعض المعاصي وهذا تصور له وقع من قلة التثبت.
فقد عُلِمَ أن فعل ما حظر الله في الشرع معصية ما دام الحظر قائماً.
كتحريم الأكل والجماع بعد النوم في الصوم، ثم لما زال الحظر زال
كونه معصية. فكذا تقوى الله بغاية ما بلغه الجهد لا يُمنَع أن(2/762)
تُوجَبَ في وقت، فيكون تركها معصية، ثم يقتصر من الناس علي
مقدار الوسع، فلا يكون ترك الجهد معصية.
وقوله: (وَلَا تَمُوتُنَّ) حث على الاستسلام قبل الموت.
وإن كان لفظه نهياً عن الموت كقولهم: لا أرينك هاهنا.
إن قيل: هل بين قولك: لا تموتن إلا مسلما، وقولك: إلا وأنت مسلم فرق؟
قيل: قولك مسلماً يقتضي ظاهره أن يكون الإِسلام مقترنا به الموت، لا متقدمًا(2/763)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
عليه ولا متأخراً عنه، وقولك: وأنت مسلم الأظهر منه أن
يكون ذلك حاصلًا من قبل، ومستصحباً في تلك الحال.
قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) .
حبل الله: هو الذريعة المتوصل بها إليه من القرآن والنبي
والعقل والعلم، والاعتصام ضربان: اعتصام بالله بلا واسطة
بشرية، وذلك للأنبياء، واعتصام بواسطة بشرية، وهو بمنزلة
غيرهم من الناس، ثم منهم من يتوصل إليه بواسطة واحدة من(2/764)
الوسائط، كالصحابة والأولياء والحكماء، الذين لم يأخذوا
الدين بالتقليد، ومنهم من يحتاج مع ذلك إلى من يعتمده في
كثير من دينه، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
إن قيل: لِمَ قال أولاً: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) ، ثم قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)
وجعل بين الكلمتين و (اتَّقُوا اللَّهَ) ؟
قيل: لما كان القصد في(2/765)
عبادة الله إلى الاعتصام به ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى عقبه
بقوله: و (اتَّقُوا اللَّهَ) ، ولما كان حقيقة التقوى فعل الطاعات.
ولا سبيل للإِنسان إلى معرفة ذلك إلا بحبل الله: أي كتابه ورسله
أمر أن يعتصموا بحبله ليتوصلوا إلى تقواه، ومن تقواه إلى
الاعتصام به، ومن توصل إلى الاعتصام، ثم إلى التوكل، ثم إلى
الإِسلام استغنى حينئذ عن الوسائط، الذين هم حبل الله، ويصير(2/766)
ممن قال - صلى الله عليه وسلم - فيه حكاية عن الله: "فإذا أحببته كنت سمعه "، الخبر.(2/767)
وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا) حث على الألفة والاجتماع، الذي هو
نظام الايمان واستقامة أمور العالم، وقد فضل المحبة والألفة على
الإِنصاف والعدالة، لأنه يحُتاج إلى الإِنصاف حيث تفقد المحبة.
ولصدق محبة الأب للابن صار مؤتمنا على ماله، والألفة أحد ما شرف الله
به الشريعة سيما شريعة الإِسلام، ولهذا قال: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) .
وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً"،(2/768)
وقال: "من شذَّ شذَّ في النار".
ولطلب الألفة شُرع الاجتماعات في المساجد والجمع والجماعات والأعياد.
وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي على ما يؤدِّيكم إلى
النار، وهو خطاب عام للمسلمين كافة، وإن كان قد جعله
بعضهم خاصًّا للأوس والخزرج على ما تقدم ذكره، وبعضهم(2/769)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
جعله للعرب، وأنهم كانوا في شدة وعُري وجوع وتقاتُل
بينهم، فأزال الله تعالى عنهم ذلك بالإِسلام، وقد تقدم الكلام
في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) .
قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
المعروف: ما يستحسنه العقل ويرد به الشرع.
والمنكر: ما يستقبحه العقل(2/770)
ويحظره الشرع، وعلى ذلك يقال للسخاء المعروف في نحو
قول الشاعر:
ولم أرَ كالمعروف أمّا مذاقه. . . فحلو وأمّا وجهه فجميل
ويقال لهما: الحق والباطل، والحسنى والسوءى، والصلاح
والفساد، والجميل والقبيح، وإنما اختلفت العبارات في ذلك
بحسب اختلاف العبارات.
واختُلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل ذلك واجب على كل إنسان أو على بعضهم دون بعض، فمنهم من جعله واجباً على العموم، وقال: إن مِنْ في(2/771)
قوله (مِنْكُمْ) للتبيين، كما في قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)
وقال: لأن حق الناس كلهم أن يكونوا خلفاء الله
في أرضه، وسُوَّاساً لبعض خلائقه، لكن السياسات ثلاث:
سياسة الإِنسان نفسَه، وسياسته أهلَه وما يخصه، وسياسته بلده
وصُقْعه، فسياسة البلد والصُّقع من وجهٍ إلى الأئمة، وهو أخذهم
الناس بالقهر، ومن وجه إلى الحكماء والعلماء. - فقهائهم ووعظتهم -
وهو أخذهم بالوعظ، وكل ذلك فرض على الكفاية.
وأما سياسةُ الإِنسان نفسه فواجب على كل مكلف على التضييق.
وكذا سياسة الأهل واجبة على من يملكه، ومنهم من جعل ذلك فرضاً على(2/772)
الكفاية، واستدل عليه من الآية بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ، وذلك يقتضي التبعيض، واعتبر ذلك في سياسة(2/773)
الإِنسان لغيره دون سياسته نفسه، وأجرى ذلك مجرى الجهاد
وطلب العلم، وهذا أقرب على اعتبار الفقهاء، والأول أعم على
اعتبار الحكماء، والذي تستحق به العقوبة هو ترك ما يلزم من
حق غيرهم، وإياه قصد بقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلى قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) ، وخصّ تركهم النهي عن المنكر دون الأمر بالمعروف، فإنه أعظم الأمرين إثماً، وأوكدهما وجوباً، ففعل المعروف ليس بواجب على كل أحد، وترك المنكر واجب على كل حال.
ثم إنكار المنكر ثلاثة أضرب:
إنكار باليد، وإنكار باللسان، وإنكار بالقلب.
على حسب ما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان "،(2/774)
فقيل: إن الأول للسلاطين، والثاني للعلماء، والثالث للعوام.
فإن قيل: كيف حثَّ هاهنا على الأمر بالمعروف،(2/775)
وقال في غيره: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ؟
قيل في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قولان: أحدهما:
إن ذلك حثٌّ على أن يغيّر الإِنسان على نفسه قبل أن ينكره على
غيره، وهو خطاب للعامة.
والثاني: ما قال أبو ثعلبة الخشني، وقد سئل عن هذه الآية فقال:
سألت عنها خبيراً، لقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر،(2/776)
فإذا رأيت شحًّا مطاعاً، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام ".
وجعل تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم المفلحون، لأن
من تولى إصلاح نفسه، ثم صلاح غيره بغاية وسعه، فقد زكى
نفسه، وزكى غيره، وقد قال تعالى فيمن يهذب نفسه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) ، وقد تقدم أن الفلاح الحقيقي هو البقاء الأبدي والنعيم السرمدي.(2/777)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
التفرّق على ثلاثة أضرب:
تفرّق بالأبدان، وتفرّق بالأقو ال والأفعال، وتفرّق بالاعتقادات.
وكذلك الاختلاف؛ إلا أن الأظهر في الاختلاف أن
يكون بالأقوال والأفعال والاعتقادات، وفي التفرق أن يكون
بالأبدان، وذكر تعالى اللفظين، ليبين أن أهل الكتاب تجادلوا
بكل ذلك، وعلى هذا قال ابن عباس والربيع: تفرّقوا واختلفوا
في أحكام مبتدعة وأهواء متبعة بعد أن كانوا إخواناً، وإن من
كان قبلهم هلكوا بالمراء والخصومات، ثم ذكر ما لهم من عظيم(2/778)
العذاب في الآخرة بالنار الدائمة، وفي الدنيا بمحنها ونُوبها.
ونبه بقوله: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أن سبب استحقاقهم
العذاب افتراقهم واختلافهم، تنبيهاً أنكم إن فعلتم فعلهمْ
استحققتم العذاب استحقاقهم.
إن قيل: كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"الاختلاف في أمتي رحمة" مع ما ذكر من ذم الاختلاف؟(2/779)
قيل: الاختلاف ضربان: اختلاف في الأصول الجارية من الطرق
مجرى طريق الشرق من طريق الغرب، وذلك هو المذموم، فإن
ما عدا الجهة المأمور بسلوكها مؤد إلى الباطل. وإلى هذا يوجه
قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
والثاني: اختلاف في الفروع الجارية من الطرق مجرى بنيات طريق إلى مقصد واحد يسلكها، كل على حسب اجتهاده، ومقصد جميعهم واحد، فإن إباحة الله سلوك كل واحد من تلك الطرق فسحة لهم ورحمة، وإياه قصد بقوله:(2/780)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
ابيضاض الوجه عبارة عن المسرة، واسودادها عن الغم.
وعلى ذلك (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) ، ثم قال: (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) .(2/781)
وعلى ذلك قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) .
وهذا الابيضاض والاسوداد أبلغ من المحسوسين.
وقال بعض المتكلمين: يحمل ذلك على المحسوس.
لكونه حقيقة فيه، وهذا خطأ، وذلك لأنه لم يعلم
أن ذلك حقيقة فيهما جميعاً، فليس الاسوداد والابيضاض
أكثر من كيفية عارضة في الوجه، قلّ ذلك أم كثر،(2/782)
ومعلوم أن من ناله غمّ شديد يعرض لوجهه - لتبرّمه وتكدره -
اسوداد في وجهه، وليس قلّة السواد والبياض مما يخرج اللفظ
عن الحقيقة، ثم حمل الآية على هذا أولى، لأن ذلك حاصل لأهل
القيامة باتفاق، سواء كانوا في الدنيا سودانا أو بيضانا، وعلى
ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) .
وأما كفرهم بعد إيمانهم فقد قال الحسن: بعد إظهارهم الإِيمان بالنفاق) ، وقال قتادة: كفروا بالارتداد بعد(2/783)
الإسلام، وقيل: بعد الإِقرار الذي اقتضاه قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) .
وقيل: كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أقرّوا به قبل
بعثته، وعموم اللفظ يقتضي كل ذلك، ولا تنافي بينها.
وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟ ، وحذف القول
من نحو ذلك كثير نحو: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) .
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)(2/784)
أي يقولون، ولما حذف الفعل حذف معه الفاء
الذي يكون جواب أما، ويوم ظرف لقوله عظيم، ولا يكون
عند البصريين ظرفاً لقوله عذاب، لأن الاسم إذا وُصِف لا يعمل
عندهم.
إن قيل: لِمَ كرر لفظة (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ؟
قيل: قال بعض النحويين: إن ذلك للتأكيد.
وتمكين المعنى في النفس، وقيل: (قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) تمام
الكلام، و (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تنبيهاً أن ذلك لهم مؤبدا،(2/785)
وقيل: قوله: (هُمْ فِيهَا) راجع إلى مقتضى قوله: (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهو المسرة، تنبيها أن تلك المسرة دائمة لا كمسرّات الدنيا التي تنقطع.
وإن بقيت أسبابها. فأحوال الدنيا وإن كانت سارة متبرم منها بدوامها.
ولهذا قيل: لَلعافية تمُل أكثر مما يُملُّ البلاء.
إن قيل: المقابلة في الاثنين غير صحيحة، فإن التقابل الصحيح أن يكون المذكور في الثانية عكس المذكور في الأولى، وليس قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) عكسا لقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ؟
قيل: مراعاة التقابُل على ضربين: تقابل اللفظ، وتقابل المعنى.
وهو أفضلهما عند أصحاب المعاني.
فالتقابل حاصل من حيث المعنى، وعدل عن لفظ الخبر في قوله:
(أَكَفَرْتُمْ) وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) إشارة إلى ما يقال لهم،(2/786)
ونبّه أنهم يُقابلون مع العقوبة بالتبكيت، وقد قيل: التبكيت
أعظم العقوبتين، وأن يقال لهم: (ذوقوا) ، وذلك دلالة على مبالغة
الغضب عليهم.
إن قيل: كان الوجه أن يقال: ألستم قد كفرتم؟
فلفظ الاستفهام في القرآن محمول على الإِنكار، والإِنكار متى تجرد
عن حرف النفي يكون للنفي نحو قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وإذا
كان للإِثبات قرن به حرف النفي؟
قيل: الألف في الأصل للاستخبار، والاستخبار أعمّ من الاستفهام.
وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والمستخبر قد يقصد إلى أخذ إقرار المستخبر أو إلى إلجائه إلى الإِقرار بما ينكره، وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) استخبار على هذا الوجه، وتقريع لهم، وعلى ذلك(2/787)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) .
قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
قال الفراء: معناه هذه آيات الله، وقد تقدم الكلام في
قوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) ، وآيات الله يصح أن تكون
الكتاب، وأن تكون جميع الآيات المسموعة والمعقولة مما يظهره الله.
ويكون معنى (نَتْلُوهَا) نُبينُها بوجوه التبينات،(2/788)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قوله: (بِالْحَقِّ) أي الحق يقارنه، أو هو الحق، وفي قوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا) تنبيه على اعتبار ما تقدم ذكره لما اقتضى عدله في معاقبة الكفار.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قد تقدم تفسير ذلك، ونبه بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على شيئين: أحدهما: إبطال قول من زعم أن الأشياء تبقى عناصرها فلا تفنى.
والثاني: على أنه يصحُّ أن يتوهم ارتفاع الأمور كلها مع بقائه تعالى.
وأنه لا ينكر عدمها انتهاءً، كما لا يُنكر ذلك ابتداءً.
إن قيل: وما وجه إيراد هذا القول(2/789)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
في هذا الموضع؟
قيل: إنه لما بيّن تعالى ما اقتضى عدالته وعقبه
بذكر التبرؤ من ظلمهم بيّن بهذا القول استغناءه عن الظلم، وأن
الظلم يتحرّاه من يروم ما لغيره، ومحال أن يُعتقدَ في مالكِ الكلِّ
ومن منه البدءُ وإليه العودُ الظلمُ.
قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
إن قيل: لمَ قالْ: (كُنْتُمْ) ولم يقل: أنتم؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول:
كنتم فيما قضيت وقدرت وبنيت عليه الشرائع خير أمة بشريطة
أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله) ،(2/790)
فقد تقدم إن هذه الشريعة أكمل الشرائع، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
"أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى".
والثاني: أن الإِشارة بذلك إلى من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الإِسلام، وإلى هذا ذهب عمر، وقال: هذا لأولنا، ولو شاء الله لجعله لآخرنا أيضاً.
فقال: أنتم، فكنا كلنا أخيارا.
ويؤكّد ذلك ما روي(2/791)
عن عبد الله قال: جمعنا رسول الله، ونحن أربعون رجلا، فقال:
"إنكم منصورون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليأمر
بالمعروف ولينه عن المنكر".
الثالث: أن ما تشارك فيه الأحوال الثلاث: الماضي والحال والمستقبل.
لا فرق بين أن تقول: كنت كذا أو أنت كذا، لأن القصد ليس إلى تخصيص الزمان، بل إلى ذكر ثبوت ذلك الشيء، وأيًّا من ذلك ذكرت، فإنه لا يقتضي من حيث اللفظ نفي الآخر، وإذا كان كذلك كان أولى الألفاظ بمثله: كان، لأنه يقتضي الحصول، ولا يقتضي تغيير ذلك الشيء من حيث
اللفظ، وإذا أورد تعالى جل أوصافه على ذلك، نحو (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ، وقيل: (كُنْتُمْ) في اللوح(2/792)
المحفوظ، وهذا كالأول.
إن قيل: لأي شيء وصفهم بأنهم خير أمة.
وقد علم أن أشرار الناس في هذه الأمة أكثر من
الأخيار، وأن كثيراً من الأمم المتقدمة كانوا حْيراً من كثير هذه الأمة؟
قيل: ليس الاعتبار بأشخاص الناس، وإنما الاعتبار بما
صارت الأمة به أمة، والشريعة به شريعة، وقد تقدم أن هذه
الشريعة أفضل الشرائع إذا اعتبرت بها، على أنه قد قيد
فقال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ، أي أنتم خير أمة على هذه
الشريطة لأن قوله: (تَأْمُرُونَ) في موضع الحال.(2/793)
قال ابن عباس ومجاهد وأبو هريرة: كونهم خيرا هو أنه لم
يؤمر نبي قبله بالقتال، وقهر الناس على الدخول فيما فيه
صلاحهم إلا هذه الأمة، فإن الله يقودهم بالسلاسل من
الكفر إلى الإِيمان، وقال غيرهم: لم يكن في أمة من الآمرين(2/794)
بالمعروف، والناهين عن المنكر أكثر مما في هذه الأمة.
إن قيل: لم أخَّر الإِيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟(2/795)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
قيل: الإِيمان هاهنا ليس هو الإِقرار بالله فقط، بل هو الوفاء
بشروطه والقيام بشرائعه، الذي هو تمام الإِيمان وكماله
على ما ذكرناه فيما تقدم، وقال: (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)
فقابل به المؤمنين، لأن الفسق أعم من الكفر، فبيّن أن
المؤمنين المخلصين قليل جدًّا، وأن أكثرهم فاسق: إما كافر.
وإما منافق.
قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
قال ابن عباس والحسن: عنى بالأذى الكلام المؤذي.
وجعل بعضهم الآية مخصوصة(2/796)
في بني قريظة، قال: ووحد المخبر على ما أخبر به تعالى، وجعلها
بعضهم عامة، وقال: إن كان ما ينال المؤمنين من الكفار كلاما
كان أو قتالاً فهو أذى عارض (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، كما
قال في غير موضع.
وقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) لم يجزمه، لأنه إذا جُعِلَ جواباً اقتضى أن النصرة عنهم ممنوعة في حال المقابلة فقط،(2/797)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وإذا رُفِعَ اقتضى أنهم ممنوعون عنها في كل حال.
وقال بعض النحويين: رفع ذلك ليكون كماخر سائر الآيات المتقدمة.
وهذا القول هو بحسب مراعاة اللفظ دون المعنى.
قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قيل: هي مخصوصة في بني قريظة على ما تقدم.
وقيل: هو أمر وإن كان لفظه خبراً، فأمر بتذليل أهل
الكتاب، وأخذ الجزية منهم على ما ذكره الفقهاء وبينوه.
وقيل: هو خبر عام عن جميعهم.
فإن قيل: كيف يصحُّ ذلك(2/798)
مع أنه قد يُرى من أهل الكتاب من لا يكون في مذلة ولا فقر.
قيل: المذلّة هي التي تلزمهم ليس يجب أن تُعتبر في الأشخاص.
ولا في الأعراض الدنيوية من الجاه والمال، بل يجب أن يُعتبر ذلك
بالأحوال الشرعية، والعز والذل الحقيقيين، اللذين يقتضيهما الدين.
وإياه قصد بقوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقد قيل: كل عز مصيره إلى ذل فهو ذل، وما يتصوره بعض الناس عزًّا من غرور الدنيا فهو المذلة عند التحقيق.
وكذلك المسكنة ليست قلة المال، وإنما هي الحرص، وفقر النفس.
ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الغنى غنى النفس "(2/799)
وقيل لحكيم: هل لفلان غنى؟
فقال: أما الغنى فلا أدري، إلا أن له مالا كثيراَ.
وقال الشاعر:
. . . قد يكثر المال والإِنسانُ مفتقر.
وقيل: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم، كقوله تعالى:
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى الأول، فالدعاء من الله واجب.
إن قيل: لم قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)
فأعاد ذكر الحبل، وفصل؟
قيل: لأن الكافر يحتاج إلى حبلين أي عهدين، عهد من الله.
وهو أن يكون من أهل كتاب أنزله الله، وإلا لم يكن مقرًّا على دينه بالذمة، ثم يحتاج إلى حبل من الناس،(2/800)
أي أمان وعهد يبذلونه على ما بيّنه الفقهاء.
والناس هاهنا خاص للمسلمين، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)
أي استحقوا عقابا منه، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي نالهم ذلك بكفرهم.
وقوله من بعد: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) قيل: هو بدل من الأول.
فإن كفرهم ليس هو إلا عصيانهم، واعتداؤهم.
وقيل: بل جعل الكفر علّةً لما نالهم من الذِّلة والمسكنة.
وجعل عصيانهم علة لكفرهم، وذلك أن الذنوب الصغائر
إذا استمر عليها الإنسان أفضت إلى الكبائر.
والكبائر تفضي إلى الكفر، ولهذا قال(2/801)
تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب ".
وفي قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) تحذير لنا وتنبيه، كأنه قال: اجتنبوا
المعصية، وهي التي أدّت بهم إلى الكفر المقتضي لعظم العقوبة
إن قيل: كيف قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) ، ولا يصح في الإِثبات
أن يقال: اعتصمت إلا بحبل فلان، والاستثناء في الإِثبات لا يكون
إلا من لفظ عام؟
قيل: إن قوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) مقتض لمعنى(2/802)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
العموم، كأنَّه قيل: بكل حال، فيصح أن يقال: إلا بحبلٍ.
قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
الأمّة: الجماعة، وقد تقدم.
وجعلها الزجاج هاهنا الاستقامة.
وقال: تقديره: ذوو طريقة مستقيمة، والأول أولى.
لأنه لا يحتاج فيها إلى إضمار.
والقائمة: العادلة،(2/803)
وقال مقاتل: مطيعة، وقال بعضهم: مسلمة، وهذا
كلة واحد، فإن العادل لا يكون عادلا حتى يكون مسلما مطيعا.
والمطيع لا يكون مطيعا حتى يكون مسلما عادلا.
والآناء: جمع إنْي كانحاء في جمع نِحْي، وقيل: هو جمع إِنى نحو مِعًا وأمعاء.
وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً) كلام تام أي لا يستوون.
ثم قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أي منهم أمة قائمة.
وقال بعضهم: تقديره:(2/804)
أي ليسوا سواء هم وأمة قائمة، يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد.
وقال الفراء: ذكر أمة قائمة، وحذف الأخرى كقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فما أدري أرشد طلابها
وتقديره: أم غي، وما قاله إنما يصح إذا جعل (أُمَّةٌ) بدلاً(2/805)
من الضمير في (لَيْسُوا) ، أو جعل الواو فيه كالواو في أكلوني
البراغيث، ويجعل (أُمَّةٌ) اسم ليس، وتكون المفاضلة
بين أمة قائمة وأمة غير قائمة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)
قيل: عنى به صلاة العتمة، لأنها لم تكن إلا لهذه الأمة.
واستدل بما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخْر صلاة العشاء
ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرونه.
فقال: "إنه ليس أحد من أهل الأديان يذكر الله في هذه الساعة غيركم ".
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: عنى الصلاة بين(2/806)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
العشائين، وقيل: تلاوة القرآن بينهما، والسجود.
قيل: عبارة عن الصلاة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)
كلاهما في موضع الصفة لـ (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) .
قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)(2/807)
ذكر تعالى حال الأمّة التي تقدم ذكرها، وابتدأ بذكر الإِيمان بالله.
وعنى الإِيمان الذي لا تصحُّ عبادة من دونه.
والمسارعة والمبادرة والعجلة تتقارب، لكن السرعة أعمها
والمبادرة لا تكاد تستعمل إلا في البدن، والعجلة أكثر ما
تستعمل فيما يتحرى عن غير فكر ورويَّة، أو في إمضاء العزيمة
قبل استكمال الروية، ولهذا يقال: "العجلة من الشيطان "،(2/808)
وقال تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)
فإن قيل: لو كانت مذمومة لما قال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) .
قيل: موسى عليه السلام أورد ذلك على سبيل الاعتذار إبانة أنه قصد فعلا محمودا، وإن تحرى العجلة فيه، ومن قصد فعلا محمودا فقد يعذر في وقوع ما يكره منه، والمسارعة في الخير هي أن يتدرج الإِنسان في ازدياد العرفة بفضله، واختياره والسرور بتعاطيه، وتقديمه على الأمور الدنيوية، وأن لا تؤخره عن أول وقت إمكان فعله وعلى ذلك قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ومدح تعالى قوماً فقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) .
أي يسابقون بهممهم وأبدانهم، فلذلك كرره، ولمراعاة
المسارعة وكون بعض المسارعين أعلى منزلة من بعض،(2/809)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) ، وبين تعالى في آخر الآية أن
فاعل ذلك من الصالحين، والأقرب في مِن أن تكون للتبيين.
وأنهم هم الصالحون، ولذلك قال في الأول (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قُرئ بالياء ردَّا إلى قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) .
وقُرئ بالتاء لإِدخال المخاطبين فيهم وتغليبا للخطاب،(2/810)
وقوله: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) كقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ)
وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) ، كل ذلك تنبيه على
أن عمل المحسنين لا يضيع المدلول بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ، وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
وقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) .
وأنهم بخلاف الكفار الذين قال فيهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. وقوله: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) الآية.
وقال الجبّائي: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) مجاز في هذا الموضع، لأن(2/811)
وصف الله بانه يشكر مجاز، وقوله ذلك لتصوره الشكر على
وجه واحد، والشكر باعتبار الشاكر والمشكور على ثلاثة أوجه:
شكر الإِنسان لمن فوقه، وذلك بالخدمة والحمد، وشكره لنظيره.
وذلك بالمقابلة، وشكره لمن دونه، وذلك بالإِثابة، ولذلك يمدح
تعالى بأنه شكور، وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)
تنبيهاً أنه يقابله بالشكر الذي هو الثواب، ولعله تصور أن
الشكر لا يكون إلا بالقول، ومن الأدون للأعلى، وذلك فاسد(2/812)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) فجعل الشكر
معمولا، ووصَفَه بأنه شكور وشاكر.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
أغناه: إذا جعل له غنى، وأغنى عنه: جعل له غَنَاءً في
الدفع، ولما ذكر في الآية الأولى أن ما يفعله الإِنسان من الخير لن
يُكفَر، بيّن أن ما يعدونه خيراً إنما ينفع بعد الإِيمان، فأما مع(2/813)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
افتقاده فلا نفع، وذكر أجلّ ما هو عندهم خير، وهو الأموال
والأولاد، وأنها لا تغني عنهم، وعلى ذلك ما حكى عن الكفار:
(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم إياها.
قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) .
الصّر: برد يحرق النبات.
وقال مجاهد: هو النار.(2/814)
وأصله صوت النار، وكأنه حكى به الصرير والصرصرة.
ونحوهما، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان وأهل مكة(2/815)
لإِنفاقهم المال في معاداة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لما بيّن في الآية الأولى أن مالهم لا يغني عنهم، بين أن إنفاق هؤلاء مع كونه غير نافع ضار
لهم، وراجع بالوبال عليهم، فمن المفسرين من قال القصد
إلى تشبيه ما لهم المنفق بالحرث. المحرق، وكفرهم المهلك بريح
ذات صِرٍّ، لكن أخرج التشبيه ملفوفاً لا مكشوفاً، على تحقيق
مطابقة لفظ المشبّه والمشبّه به، وذلك نحو ما تقدم.
ومنهم من قال: القصد في ذلك تشبيه أموالهم في إهلاكها إياهم بريح
ذات صِرٍّ في كونها مهلكة لحرث قوم، ثم اختلفوا في هذه
النفقة، فمنهم من جعلها لما أنفقه هؤلاء وأمثالهم في معاداة(2/816)
المسلمين، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) .
ومنهم من جعلها لكل ما ينفقه الكافر، أي شيء أنفقه فإن
الكافر معاقب في ذلك كله، كما أن المؤمن مثاب على ما أنفقه على
أي وجه أنفقه، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد:. "إنك لتؤجر في نفقتك كلها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ".
ووجه ذلك أن المؤمن(2/817)
لا يأخذ إلا من حيث على ما يجب وكما يجب، ولا يضع
إلا كذلك، والكافر بخلاف ذلك، ومنهم من قال: (مَا يُنْفِقُونَ)
عبارة عن أعمالهم كلها، لكن خصّ الإِنفاق لكونه أظهر
وأكثر، وإنما خصّ حرث قوم ظلموا أنفسهم من أجل أن
الناس فيما يصيبهم أمن، الجائحة ضربان:
صالح لا يستحق عقوبة، فإذا نالته صار ذلك له أجراً مُدَّخرا.
فكأنه لم يضع ماله، وسيِّئ يستحق عقوبة، فإذا نالته فقد ضاع ماله في الحال وفي المآل، ومنهم من قال: معنى (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي زرعوا
الحرث في غير وقته، تنبيها أن الكفار أساءوا فيما كان ينبغي
لهم أن يفعلوه إساءة هؤلاء الحرّاث في حرثهم من تقديم أو تأخير.
إن قيل: كيف قال: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) ، وقد قيل: متى
هبت الريح لم يؤثر الصِرُّ؟
قيل في ذلك أجوبة:(2/818)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
الأول: أن كل صر لا ينفك من ريح معه، لكن التي معها الصرُّ ضعيفة بحيث
لا يحُسُّ بحركتها، وإنما تمنع الصرّ إذا تحركت حركة شديدة.
والثاني: أنه تعالى خصَّ ذلك تنبيهاً أن أموالهم بطلت من حيث لم
يحتسبوا: كبطلان حرث هؤلاء من حيث لم يحتسبوا، فإنهم كانوا
آمنين من الصرِّ لوجود الريح.
والثالث: أنه عنى بالصرِّ صوت الريح وشدة عصوفها، وعنى أنها أصابته الريح ففرقته، كقوله: (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) ، ونحو هذه الآية في بطلان عمل الكفار قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) .
وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) فإنما عقب به لأنه لما كان أخذ مال الغير وإبطاله قد يتصوره من لا يعرف حقيقة الأمر بصورة الظلم بين أنه لم يظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم، حيث لم يضعوا مال الله حيث أمرهم.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)(2/819)
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعمل لمن اختصصته كالشعار والدثار، ويقال: لبست فلاناً إذا اختصصته، وعلى ذلك قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ)
وألوتُ في الحاجة: قصَّرت، وألوت، فلانا ألواً أي أوليته
تقصيراً بحسب الجهد، فقولك جهداً تمييز -(2/820)
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) أي لا يقصروا، آلى أي حلف، هو أفعل من
ذلك، كأنه أزال التقصير ببذل ذلك القول.
فقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي لا يقصرون في إيصال الخبال إليكم.
والخبال: الفساد، الذي يلحق ذات الحيوان.
يقال: في قوائم الفرس خبل وخبال، أي فساد من جهة الاضطراب، وفلان مختبل الرأي، وقول زهير:
هنالك إدْ يستخبلوا المالَ يخبلوا. . .(2/821)
أي إن طلب المال منهم إفساد شيء من إبلهم فعلوا، والعنت
تحرّي المشقة، يقال: عَنِتَ فلان عنتاً، وأعنتة غيره، وعنّته.
قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) .
وأكمةُ عنوت: صعبة المسلك، وعنود والمعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة مشقة.
قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن قوماً صافوا جماعة من اليهود، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، والآية تقتضي النهي عن الركون إلى من وما(2/822)
يتحرى بك طريقة فساد: إنساناً كان أو شيطاناً أو قوة من قوى
نفسك تحيد بك عن الحق، كالهوى ونحوه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان.
بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه
عليه ".
ونهى عمر عن الاستعانة بالكفار، واحتج بهذه الآية،(2/823)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
وقد تقدم الكلام في أنه على أي وجه لا يصح الاستعانة بهم.
ونبه بالاستدلال بكلامهم على فساد اعتقادهم، وأن ذلك لا يخفى
منهم، كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، وعلى نحوه قال
الشاعر:
ولا حن بالبغضاء والنظرِ الشزر
ثم بيّن أن مالا يبدو منهم أكثر، وأخبر بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ)
أنه أظهر ما يمكنهم الاستدلال به على معاداتهم.
قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) .(2/824)
العضُّ معروف، ومنه رجل عف: شديد الخصومة، كقولهم:.
أزوم، وفلان يازم المأزم ونيّب على كذا، والعضُّ: علف الأمهار
مما له مضغ شديد كالنوى والقت اليابس. والأنامل واحدتها
أُنملة، ولم يأت أفعل مفرداً إلا قولهم: بلغ(2/825)
أشده، وقد كثر ذلك في الجمع، نحو: أكلُب وأفلُس.
ويعبر عن التأسف بقرع السن وعض الأنامل، وذلك لا نشاهد من
حال المتأسف، قال الشاعر:
عضضت أناملي وقرعت سني
أكلت يدي لما جنته تندما(2/826)
والغيظ هو الغضب والغم، فإن الغضب يقال فيما معه القدرة.
على الانتقام، والغمّ فيما ليس معه قدرة الانتقام، والغيظ فيما
ليس معه تمام القدرة على الانتقام، ولذلك يُستعمل في صفات
الله الغضب دون الغيظ، والكتاب كله يعنى الكتب المنزلة.
فوضع موضع الجمع، إما لكونه للجنس كقولك: كَثُرَ الدرهم
في أيدي الناس، أو لكونه في الأصل مصدرا.
ولفظ الإِفراد أولى في هذا الموضع، لأنه يتضمن أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويتضمن أنهم يؤمنون بتفاصيل كل كتاب.
بخلاف من قال فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) .
وقوله: (أُولَاءِ) قيل: معناه الذين، وتحبونهم صلته،(2/827)
وقيل: معناه هؤلاء، وفيه وجهان: الأول: أن يكون كقولك
ها أنا ذا، وها أنتم هؤلاء، فيكون هؤلاء خبر الابتداء.
و (تحبونهم) في موضع الحال، وهم راجع إلى ما تقدم ذكره.
والثاني: أن يكون هؤلاء مبتدأ ثانيا، و (تحبونهم) خبره.
والجملة خبر للأول، كقولك: أنت زيد تحبه، ويكون هم راجعاً إلى
هؤلاء. ومحبتهم لهم: إرادة الإِسلام لهم، لأن ثمرة المحبة
النصيحة وإرادة الخير، وبين أنهم لا يحبون ذلك لكم، لأنهم لا
يريدون لكم الإِسلام الذي هو الخير المحض، ثم بيّن أنكم
تؤمنون بكتب الله، وهم لا يؤمنون ببعض الكتاب.
وقوله: (وَإِذَا لَقُوكُمْ) كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ،(2/828)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
وقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) .
وقوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)
وقوله: (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم وإيجاب ذلك لهم، وإن لم يكن إيجاباً
عليهم، وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كقوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) .
وقوله: (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) ونحو ذلك.
قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)(2/829)
الحسنة: عبارة عن كل ما يستحسنه الإِنسان مما يسّره
من نعمة ينالها في بدنه وماله، وجاهه، والسيئة تضادها.
والمسّ والإصابة يُستعملان في الخير والشر، إلا أن المصيبة
اختُصَّت، بما يسوء، ويقال: ضرّه يضره وضارّه(2/830)
يَضيره، وقُرئ: لا يَضُرُّكُم، والضمة فيه إتباع للضاد.
نحو مدُّ، ويجوز الفتح والكسر كما يجوز في مدّ.
وقال بعض النحويين لا يضركم مرفوع رفعاً صحيحاً، وتقديره: فلا
يضركم، وحذف الفاء كقول الشاعر:(2/831)
من يفعل الحسنات الله يشكرها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر، والكيد: الاحتيال
للغير بمكر ومقاساة، وعلى سبيل تصور هذا المعنى قيل: فلان
يكيد بنفسه، والمكر مثله إلا أنه أعم، لأنه قد يقال في اجتلاب
المنفعة.
إن قيل: على أي وجه يمنعْ صَبرهم وتقواهم من أن(2/832)
يضيرهم كيدهم، قيل: من أوجه: الأول: من الفيض الإِلهي
والنصرة الموعود بها في نحو قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله: (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
والثاني: أن من عُرف منه الجد أحجم عنه العدو.
كما قال رجل ضئيل أسر رجلًا قويًّا، فسأله أمير المؤمنين:
كيف تمكنت منه؟
فقال: وقع في قلبي أني آخذه ولا أبالي بالقتل، ووقع
في قلبه أنه مأخوذ وخاف القتل، فنصرني عليه خوفه وجرأتي.
والثالث: أن المتذرّي بالصبر والتقوى تتحمل نفسه الشدائد.
فلا يبالى بمكايدة عدوه.
والرابع: أن الثقة بنصر الله أعظم ناصر.
والإِحاطة بالشيء يقال على وجهين:
أحدهما: في الأجسام.
والثاني: في العلم بالشيء والقدرة عليه.
فأما العلم فبأن يعلم حقيقة المحاط به ووجوده وجنسه وأوصافه، والغرض(2/833)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
المقصود منه، وعلى ذلك: (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) فصار
قوله: (بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كقوله: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ) .
وقو له: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ونحوه.
قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
التبوء: التمكن، يقال بوَّأته مكان كذا، أو لمكان كذا، وقيل: في حرف ابن مسعود:(2/834)
تُبوئ للمؤمنين، وإذ قيل معطوف على قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) آية في غلبتكم - مع قلتكم - الكفار مع كثرتهم.
وآية إذ غدوت ترتاد للمؤمنين مكانا للقتال، فانكشف الحال عما
كان لهم فيه آية، ولما أمرهم بالصبر والتقوى ذكّرهم ما خوّلهم
ببدر حيث صبروا واتقوا، وبأحد حيث كان منهم ما كان.
وذاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور أصحابه حيث قصده المشركون: هل يخرج إليهم أو يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، وذلك هو معنى تبَوُّئه للقتال أي موضع المشاورة، ولهذا خص المقاعد دون المقاوم، فقال له(2/835)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
عبد الله بن أُبيّ: نقيم بالمدينة، فإن قاتلونا قاتلنا في الأزقة وإلا
رجعوا عنا بالمذلة، وقال أكثرهم: نخرج إليهم، فدخل - صلى الله عليه وسلم - ولبس لأمته، وأعاد عبد الله قوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم ينزعها حتى يقاتل "
فخرج النبي، وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع بما يقول مؤمنهم ومنافقهم، عالم بما ينوي كل منهم.
قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)(2/836)
الهمّة قد تكون عزماً، وقد تكون حديث
النفس من غير أن يصير عزيمة، والفشل: الضعف الذي يكون من
تحير الإِنسان ظهر أو لم يظهر، وقد يقال لا يظهر من الإِنسان من
الإِحجام فشل أيضا.
والطائفتان، قال المفسرون: هم بنو سلمة وبنو حارثة، لما رجع عبد الله همّا بالرجوع،. ثم لم يفعلا،(2/837)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي وليهما في أن عصمهما عن الانصراف، ووليهما في أن جازاهما إذ لم يفعلا ما هما به، ورُوي أنه لما نزل ذلك قالت الطائفتان: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا، وقد أخبر الله أنه ولينا.
ونبّه بقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أن التوكل على الله
هو العاصم، وهو الفرض الأقصى من العباد في الدنيا.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
بدر: اسم ماء(2/838)
كان لرجل يقال له: بدر، فسُمي به، فصار ذلك الحرب
مسمى به، وجعلهم أذلة لا على الحقيقة والمصدوقة، - فمن
نصره الله فغير ذليل، ولكن على اعتبار العامة لقلتهم وقلّة
عِدّتهم، وهذه أيام تابع الله ذكرها وذكّر المسلمين بعظم ما
أولاهم فيها تثبيتاً لقلوبهم، وتذكيراً بنعمه عليهم، وأمرهم
بالتقوى المؤدية إلى شكرهم لها.(2/839)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
الكفاية: مقدار ما فيه سد خُلة، والفرق بين الاكتفاء والاستغناء:
أن الاكتفاء ما فيه سد الخُلة وسع أو ضاق، والاستغناء ما فيه
** السعة فهو أعم.
والإِمداد: اتصال الشيء بالشيء، وأصله من مد الحبل
والمد يقال تارة في الماء، ومده ماء آخر، وتارة في السير.
والمدة امتداد الوقت، والمادة زيادة ممتدة، والمداد المُدّ الذي هو
المكيال منه، والفَوْر أصله من فارت القدر والتنور، والفور(3/840)
منهم من تصور منه الوجهة والعجلة، وإليه ذهب ابن عباس
والحسن وجماعة، ومنهم من تصور منه فوران الغضب.
وإليه ذهب مجاهد والضحاك، والتسويم ترك الشيء وسومه،(3/841)
ومنه قيل: أسمت الإِبل وسومته، والتسويم أيضأ إظهار
سيماء في الشيء، وقد فُسر المسومة على الأمرين.
وقُرئ: مسوِّمَة أي معلمة لأنفسها.
وقد روي أنه نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم. . . . . . . . . .(3/842)
صفر، قال ابن عباس وغيره: عنى بذلك يوم بدر.
قال: ولم تقاتل الملائكة إلا في ذلك اليوم، وقال الحسن: أمدّهم
بخمسة آلاف، لأنه عنى مع الأولين، وقال غيره: بل خمسة
آلاف غير الثلاثة آلاف، وكانوا ثمانية آلاف، وقال بعضهم:(3/843)
إنما أمدهم بألف، لقوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)
ولم يمدهم بخمسة آلاف، بل المسلمون قالوا: إن كرز بن جابر يمدّ المشركين. فأنزل الله ذلك تسكيناً للمسلمين، ثم لم يُمِدّ المشركين.
فلم يمدّ الله المسلمين بهم،(3/844)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
ولهذا قال: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) .
قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
الضمير في قوله: (جَعَلَهُ) للإِمداد والوعد، ونبَّه أنه إنما أراد بوعدهم
وإمدادهم الملائكة نعمة عليهم، وهي مسرتهم وسكون
جأشهم، فأما النصر في الحقيقة فليس إلا منه بلا حاجة إلى
استعانة، وفيه حثٌّ أن لا يبالوا بمن تأخّر عن نصرتهم.
وتنبيه أنه يعين تارة بالمدد وتارة بغير المدد، وأنه ناصر كل
منصور أينما كان، وممن كان، إذ هو المسبب لجميعه، والفاعل(3/845)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
الذي لا يستغني فاعل عنه، ثم وصف نفسه بالعزة والحكمة.
تنبيها أن كل عِز منه، وكل حكمة عنه.
قوله تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
الكبت: الصرع على الوجه والرد.
والخيبة: حرمان البغية. وتخصيص قطع الطرف من حيث
إنّ نقص الأطراف من الشيء موصّل إلى توهينه وإزالته، وعلى
ذلك قال: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) .
وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) .
وقيل: عنى بالأطراف(3/846)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أعيانهم وصناديدهم.
وقوله: (ليقطع) أي نصركم ليقطع، أو وما النصر إلا من عند الله، ليقطع.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
هو راجع إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء، وهو نجو(3/847)
قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)
وقال بعضهم: ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر وإنما إليه.
ونبّه أنك مأمور لا آمر، ومرتسم لا مُرسِم، قيل: بل أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر للمشركين.
وقيل: بل أراد أن يدعو عليهم بالاستئصال لما كسروا رباعيته، فقال الله ذلك.
وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معطوف على قوله: (لِيَقْطَعَ) .
وقيل: بل معناه: إلا أن يتوب(3/848)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
أو يعذب، تنبيهاً أن أمرك تابع لأمر الله.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
بيّن بهذه الآية تحقيق ما قدّمه بأنه هو المالك للكل، وله المشيئة في غفران من شاء وتعذيب من شاء.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
إن قيل: ما اتصال هذه الآية بما قبلها؟
قيل: إنه لما نهى عن الكفر فيما تقدَّم، وقبَّح صورته.
وحذَّر منه، وبيّن قدرته عليهم حث قال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) نهى هاهنا عن تعاطي أفعال الكفرة، وقد(3/849)
تقدم الكلام في قُبح الربا، وأما أكله أضعافا فقد قال عطاء
ومجاهد هو أنهم كانوا في الجاهلية إذا باعوا أو أقرضوا إلى مدة
ثم تأخر القضاء زادوا على أصل المال لزيابة الأجل
المضروب.
إن قيل: لِمَ قال: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فجمع بين اللفظتين؟(3/850)
قيل: قال بعضهم ذلك للتأكيد.
وقيل مضاعفة من الضَّعْف لا من الضِّعف، ومعناه ما تعدونه ضِعْفا
هو ضَعْف، أي نقص، كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو) وقوله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) .
ومن هذا أخذ بعض المحدثين:
زيادة شيبٍ وهي نقصُ زيادتي. . . وقوة جسمٍ وهي من قوتي ضعفُ.(3/851)
ثُمَّ حثَّ على تقوى الله، وذكر أن ببلوغها ترجون الفلاح.
واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على فساد بعض ما يدعيه الشافعية
من دلالة الخطاب، فقال: لو كان ذلك صحيحا لكان يجوز أكل
الربا إذا لم يكن أضعافا، وهذا لأن يكون دلالة عليهم أولى.
لأنه لما زهَّدنا في الكثير منه فلأن نزهد في القليل أولى، على أن
القضية بذلك على مقتضى العموم، فمجيء ما ترك دلالة خطابه
في بعض المواضع لا يفسد هذا الأصل، كمجيء لفظ عام ترك
عمومه، وتكرير النهي عن الربا تفظيع لأمره، وتقبيح لشأنه.(3/852)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
إعداد الشيء تهيئته قبل الحاجة إليه.
وإنما أراد تقديره وإيجاده، فلا حاجة به تعالى إلى الإِعداد.
وأصله من العدّ، وقولك: أعددت كذا لكذا، أي اعتبرت قدره
بقدره.
إن قيل: ما وجه ذكر اتقوا النار بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) ؟
قيل: قد تقدّم أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) يقال باعتبار
ذاته، واتقوا النار باعتبار عقابه، فالأول للأولياء الأصفياء.
ولذلك وصله بالفلاح الذي هو أعلى درجة الثواب.
والثاني للمذنبين، فلذلك وصله بالرحمة، ولما كانت المنزلة
الأولى لا تحصل إلا لمن حصلت له المنزلة الثانية، حثَّ كافة(3/853)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
الناس على الاستعانة بتقوى عقوبته، والطاعة له ولرسوله في ترك
الربا وغيره من المعاصي؛ ليصلوا إلى الرحمة ذريعةً إلى الفلاح.
إن قيل: الفلاح لا يخرج من أن يكون رحمة؟
قيل: صحيح، ولكن الرحمة أعم من الفلاح، فكُلُّ فلاح رحمة، وليس كُلُّ رحمة فلاحاً، ومن قال في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) دلالة أن لا فاسق فيها، فليس باستدلال يوجب الركون إليه، لأن ما يصحُّ أن يشترك فيه أقوامْ إذا
قيل: أُعِدَّ لفلان. فليس فيه أنه لم يُعدّ لغيره.
ثم قد ثبت أن النار دركات، فأكثر ما في ذلك أن النار المعدَّة للكافر ليست للفاسق.
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
إن قيل: ما الفرق بين(3/854)
الطول والعرض؟ وهل هما على تقديرك ووضعك كالصعود
والحدور، أم هما شيئان مختلفان بالذات؟ وذاك أن الطول
والعرض من خواص الجسم، فالطول معتبر بالجانب الذي منه
ينشأ وإليه ينشأ. والعرض بالجانبين الآخرين، وذلكْ متصور في
الحائط والثوب والبيت، وقد يقال ذلك باعتبار الوضع في أشياء
كثيرة، وقد وقع شبهة على من لم يتمهر في المعقولات، ولم
يتجاوز منزل المحسوسات، وقال: إذا كانت الجنة في السماء
الرابعة على ما رُويَ في الخبر فكيف يكون عرضها عرض
السموات؛ فجاء قوم من اليهود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟
فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل "؟ ،(3/855)
وهذه معارضة تقنع العامة بما فيه المقنع، وتطلع الخاصة على ما
نبه عليه بقوله: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
وقد رُويَ عن ابن عباس: أن لله عوالم، هذا أحدها.(3/856)
وقال أبو مسلم بن بحر: العرض هاهنا من قولهم: عرضت الشيء
بالشيء في البيع، وذلك قائم مقام المساواة.
والمعنى: لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمناً لها، وذلك(3/857)
يفسده قوله في غير هذه الآية: (كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .
وقال بعضهم: هو من قولهم: فلان في جاه عريض، وفي سعة
ورحب، وقد يقال للكبير عريض، نحو: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) .
والمغفرة أصلها إزالة العقوبة، وإن كان قد يقال لها وللإِعطاء.
ولمّا أمَر تعالى بالاتقاء من النار، والاتقاء منها مقتضٍ
للمغفرة، وذلك منزلة التاركين للذنب، أمره في هذه الآية أن لا
يقتصر على التقوى من النار، التي هي مقتضية للمغفرة، بل
يتجاوز إلى طلب الجنة، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ) .(3/858)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
السّرّاء والضرّاء إشارة إلى حالي السعة والضيق، كاليسر
والعسر، وإلى حالي السرور والاغتمام، وقد فُسر بهما.
واللفظ يتناولهما، فإن السراء يقابلها الغم، والضراء يقابلها
النفع، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ليدل كل واحد على
مقابله، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة، فمن نظر إلى معنى
السراء قال السرور والغم، ومن نظر إلى معنى الضراء قال النفع
والضر، ولما كان الناس في الإِنفاق أربعة أضرب:
ضرب لا ينفق في حالي السّعة والضيق، وهو اللئيم على الإطلاق.
وضرب ينفق في حالي الضيق دون السعة، كما قال الشاعر:
وكان غنيَّ النفس في حال فقره. . . فصار فقيراً في الغنى خيفة الفقر(3/859)
وضرب ينفق في السعة دون الضيق، وهو من وجه جبان يخاف
الفقر، ومن وَجه حازم يأخد بالوثيقة في أمور الدنيا، وضرب ينفق في
الحالين، وذلك أحد رجلين: إما متهورَ لا يتفكر في العواقب، ولا
يُبالي من أين يأخذ وأين يضع، وذلك هو الموصوفِ بأنه من إخوان
الشياطين، وإما واثق بكفاية الله ينفق ما يحصل في يده اعتماداً على
خزائن ربه، لكن لا يتناول إلا من حيث ما يجب وكما يجب، ولا يضع
إلا كذلك، وهو الذي يتناول كل آية مُدحَ فيها المنفقون.
وكظم الغيظ: هو الحلم، فقد قيل: الحلم: كظم الغيظ، وهو والعفو
منزلتان شريفتان، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كظم الغيظ وهو يقدر أن ينفذه خيَّره الله في أي الحور شاء".(3/860)
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) ، وقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ينادي يوم القيامة مناد: من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس "، ثم تلا هذه الآية.
والفرق بين الحلم والعفو، أن الحلم راجع إلى حال
الإِنسان في نفسه، والعفو إلى ما بينه وبين غيره، وإن كان قلما
ينفك أحدهما عن الآخر، ووجه الآية أن الله حث في الآية الأولى(3/861)
على طلب الجنة المعدة للمتقين، ثم بيَّن حالهم وأفعالهم، فذكر
ما دلّ على جماع مكارم الأخلاق، وهو السخاء في حالي السرّاء
والضراء والحلم والعفو، وذلك أشرف ضربي الشرع، وذاك أن الشرع
ضربان: أحكام ومكارم، ولن يستكمل الإِنسان مكارمه إلا بعد أن
يستكمل أحكامه، فإن تحرِّي أحكام الشرع من باب العدل، وتحرّي
العدالة فرض، ومكارمه من باب الإِحسان، أي التفضل، وتحرِّي
التفضل نفل، ولا تقبل نافلة من أهمل الفرض، ولا يفضل من
ترك العدل، بل لا يصح تعاطي التفضل إلا بعد العدل، فإن العدل
فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف تصح الزيادة
على الشيء الذي هو غير حاصل في ذاته، وبيَّن تعالى أن من تخصص
بمكارم الشرع فهو محسن، والله يحب المحسنين، وإحسان العبد ومحبته
الله إياه هو أن يُرى متخصصاً بعامة أوصاف الله على غاية وسع(3/862)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
البشر، فيصدق عليه أن يقال: هو جواد وكريم وحليم، وودود
إلى سائر ما يصح أن يوصف به أولياء الله.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
الفاحشة: ما تناه قبحه مما يدرك بالبصر أو بالبصيرة، ولكونها
مستعملة فيهما قيل: فلان فاحش الطول. اعتبارا باستقباح
البصر إياه، وقيل للزنى والبخل المتناهي: فاحشة. اعتباراً
باستقباح البصيرة إياهما، ويقال: فلان ظلم نفسه. على ثلاثة أوجه:(3/863)
أحدها: إذا جنى على نفسه جناية لا يتخطاها.
والثاني: إذا ظلم ذويه الذين هم بمنزلة نفسه.
وعلى نحو ذلك قال الشاعر فيمن ظلم ذويه:
وما كنت إلا مثل قاطع كفِّه. . . بكفٍّ له أخري فأصبح أجذما
وعلى هذا الوجه قد يُقال ذلك فيمن ظلم واحدا من كافة الناس.
إذا كان الناس كنفس واحدة وآحادهم كأعضائها.
والثالث: أن ظلم الإِنسان غيره لما كان وباله راجعاً إليه.
يقال فيمن ظلم غيره:
قد ظلم نفسه، وعامة ما ذكر تعالى: ظلموا أنفسهم.
ذكره مقرونا بنفي ظلمه تعالى إياهم، نحو: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، وقد ذكر حيث نهى
عن ظلم الغير تنبيهاً على المعنى المتقدم، نحو قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) ، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)(3/864)
والإِصرار: الإِقامة على القبيح. مأخوذ - من الصّرار
والصُّرَّة، كأن المصر على الذنب جعل ذنبه مصروراً على نفسه.
أي معقودا لا يجد سبيلًا إلى حله.
وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في موضع الحال، أي لم يكن منهم إصراراً مع العلم، واشتراط العلم أنه قد يُعذر الإِنسان مع الجهل في ارتكابه بعض المآثم.
كمن تزوج أخته من الرضاعة وهو لا يعلم ذلك، وهذه الآية
مع الأولى مشكلة، يقال: هل قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا) صفة للمتقين
كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أم استئناف حكم؟ ولم أُعيدَ
ذكر الجنة منكّراً مقروناً بوصف آخر؟ ووجه ذلك أن الله تعالى(3/865)
لما أمر الناس بتقواه وتقوى ناره أولاً، وأمرهم بالمسارعة إلى
المنزلتين أولا: إلى طلب المغفرة التي يستحقها المتقي من النار، ثمِ
إلى الجنة العريضة التي يستحقها المتقي من الله، ذكر بقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) حال المتقين لله، المستحقين لتلك الجنة.
وقال: هم الذين تجاوزوا تعاطي أحكام الشرع إلى تعاطي
مكارمه، والذين اقتدوا بالله على غاية جهدهم في اكتساب
صفاته، ثم ذكر حال المستغفرين لوقوع فاحشة منهم أو
ظلم، وبين أن لهم جنات أدون من تلك الجنة، فقال: الذين إذا
أخلوا بشيء من الواجبات ذكروا الله فأقلعوا، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(3/866)
ولم يستمروا على فعل الشر، ثم قال: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) على سبيل الاعتراض بينه وبين تمام الكلام؟
تنبيها أن الإِنسان لا يجب أن يلتجئ إلا إلى الله، وبين أنه
من فعل ذلك لم يقتصر تعالى معه على ترك الذنب عليه، بل
يجعل له جنات، وجعل هذه الجنات على أوصاف يتصورها
الوهم، ويدرك مثلها الحس، وجعل للفرقة الأولى جنة لا
يتصورها الوهم، ولا يحيط بها الحسّ، فإن جنّة عرضها
السموات والأرض مع كونها في السماء إشارة إلى ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"ما لا عين رأت "، وذلك مما لا يتصوّره الوهم، ولا كانت
الفرقة الأولى عاملت أنفسهم وعباد الله بضرب عامل الله به عباد الله
وهو الجود والحلم والعفو، سماهم هو تعالى بما استحقه، وهو
المحسن، وقابلهم بمقابلةٍ يطلبها هو من العباد أن يقابلوه بها.
وهي المحبة، فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
والفرقة الثانية: عاملت أنفسها وعباد الله بما لا يصح أن يوصف الله به.
بل يوصف به العبد المتدارك لتقصيره، جعلهم من العَمَلة(3/867)
المستحقة للأجر، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة
الأولى فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، وهو أعم الأسماء
وأخصها به، تنبيها أنهم يراعونه بالإِلهية، وسمى نفسه
حيث ذكر مقابلة الفرقة الثانية ربهم، تنبيهاً أنهم يراعونه
بالنعمة الواصلة إليهم، التي هي سبب تربيتهم، وعلم أن
منزلة الفرقة الأولى منزلة الشاكرين الموصوفين بقوله:
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ، ومنزلة الفرقة الثانية منزلة
الصابرين الموصوفين بقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، فذكر في الشاكرين المجازاة الجارية بين الأحباء، وذكر في الصابرين الأجرة كفاءَ ما يجعل للأجراء، وإن كان قد جعلها بلا حساب، وشتّان ما بين الأجير والحبيب، وهذه من المواضع التي لم أر من تحرى مذهب
التحقيق، واشتغل به مع صعوبته، غير أن ابن بحر لما انتهى
إلى قوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ) ، قال: إن المغفرة المذكورة(3/868)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
هي المذكورة في قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
وكذلك الجنات هي الجنة التي عرضها السموات، وإن ذلك أجرتهم بتلك الأفعال، وهو مع أنه لم يتدبر التفصيل واختلاف المجازين والجزائين وأوصافها لم يتفكر في أن الفكرة إذا أُعيد ذكرها تُعاد معرفة،، وإلا كان الثاني غير الأول، فلو كانت المغفرة والجنات هي التي تقدم ذكرها لقال المغفرة والجنات.
قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
الخلاء: المكان الذي لا ساتر فيه، من بنية وغيرها، وقد يقال للمكان الذي لا ساكن فيه، وخليته تركته في خلاء، ثم يقال لكل تَرْكٍ: تخلية حتى
قيل: ناقة خلية: مخلاة عن الحلب، وامرأة خلية مخلاة عن
الزوج، وسميت السفينة المتروكة تمر بذاتها خلية، وزمان خالٍ
أي ماض، كأنه خلا عما كان فيه، وأصل السُّنّة من السنيّ أي(3/869)
صب الماء على وجه الأرض، وعلى التشبيه به قيل: سننت
الدرع، ووجه مسنون، والسنّة: الطريقة المجعولة للاقتداء
بها محسوسة كانت أو معقولة، وعُنِي بالسنة هاهنا ما كان من
القرون الأولى، أخيارهم وأشرارهم، وما كان في مقابلتهم(3/870)
منه تعالى ومجازاته إياهم إن خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشرًّا في الدنيا
تارة وفي الآخرة تارة، على ما بينه تعالى بكلامه، وشُوهد من
أحكامه، فنبهنا على اعتبار ما جرى به سننه، وأمرنا بالسير في
الأرض والنظر إليه، ولم يعن بالسير السعي بالأرجل، ولا
بالنظر نظر العين، فذلك غير مغنٍ بانفراده في معرفة سنة الله في
الذين خلوا، وإنما عنى إجالة الخاطر فيها، والنظر بالبصيرة
للمتحرين للحكم، والمنبهين على العبر، وعلى هذا قوله:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، وقوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) ، وقد(3/871)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
حمل بعض الصوفية قوله - صلى الله عليه وسلم - "سافروا تغنموا" على هذا.
قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
جعل تعالى القرآن بياناً للعامة والخاصة، فلهذا قال للناس لأنه
ما من ذي فكرة استمع إليه إلا حصل منه بيان ما، وجعله هدى
وموعظة للمتقين خاصة، وقد تقدم الكلام في تخصيصه هدى
لهم في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، فالفرق بين الهدى والموعظة:
أن الهدى يقال باعتبار معرفة الشريعة وسلوك طرقها إلى ثواب
الله تعالى، والوعظ يقال باعتبار معرفة الثواب والعقاب، إن(3/872)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
قيل: أيراد بذلك أنهم يهتدون ويتعظون، أم انهم يهدون ويعظون؟
قيل: يحتمل الوجهين، ويضحّ حمله عليهما، فهم
في الحقيقة يهتدون به ويتعظون، ويهدون به غيرهم ويعظون.
قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الوَهن والوهْي يتقاربان، لكن الوهْن ضعف، والوهْي يقال فيه وفي التخرق، فهو أعم.
والحزن: ألم موجع للنفس من فوت مطلوب أو فقد محبوب.
إن قيل: كيف أُمِرَ(3/873)
الإِنسان بأن لا يهن ولا يحزن، وليس ذلك باختياره، بل هو شيء
يعرض له بالاضطرار؟
قيل: النهي في الحقيقة متوجه إلى تعاطي فعل ما يورث ذلك، وإن كان في اللفظ متناولا للحزن والوهن، وذلك أن الحزن يعرض بأن لا يستشعر الإِنسان ما عليه جُبلت الدنيا.
ولا يعرف أن أموالنا وأبداننا عارية مستردَّة، ولا يحتمل صغار
المكاره، فيتوصل بها إلى احتمال ما هو أعظم منها، وعلى هذا
قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) .
وقوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : قيل: عنى في الاستقبال إشارة إلى
نحو قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، فيكون هذا وعداً لهم،(3/874)
وقيل: أراد في الحال فإنهم الأعلون بالحجة ورجاء المعفرة.
إشارة إلى نحو قوله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ومثله: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) .
وسبب نزول ذلك، قيل: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمر بطلب القوم بعد يوم أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهدنا
بالأمس "، فاشتد على المسلمين، وقالوا: فينا جرحى، فأنزل الله
تعالى ذلك، ونبَّه بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن من شرط(3/875)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
الإِيمان رفض الوهن والحزن وأنتم مؤمنون، فواجب أن لا تهنوا
ولا تحزنوا سيما والعلو لكم.
قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
الفرق بين المسّ واللمس:
أن اللمس أخص، فإنه بالحاسة، والمس به وبغيره، وهو ههنا(3/876)
عبارة عن الإِصابة والقرح أعم من الجرح، فإن الجرح إصابة
الجارحة في الأصل، والقرح يقال له ولما يحدث من ذاته، نحو
قَرِحَ البعير إذا خرجِ به قَرْحَة، وهي شِبه جرب.
والقرح مصدر ثم يسمى المقروح قرِحا.
والقُرْح الاسم، وقال بعض أهل اللغة: القَرْح: الجراحة.
والقُرْح: ألمها.
والدول والدور يتقاربان، لكن الدور أعم، فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي،(3/877)
وكذلك الجد، ولهذا قيل: "لا ينفع ذا الجدَ منك الجد"
أي الحظوظ الدنيوية غير نافعة في القيامة،، نحو: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) ، وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) قيل ليعرف، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد.
وقيل: إن مفعوله الثاني محذوف ومتى قيل في الله: إنه علم كذا أو لم يعلمه، فليس القصد إلى إثبات علمه أو نفيه.
وإنما القصد إلى إثبات ذلك الشيء أو نفيه، وإذا استعمل في غيره(3/878)
فإنه يقال على الوجهين، وأما الشهداء فقد قيل: هم المذكورون
في قوله (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) .
وقال الحسن وقتادة: عنى بها المقتولين في الحرب، وسُمُّوا بذلك لقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) الآية،(3/879)
لما جعلهم أحياء عند ربهم سُموا شهداء، وأصل ذلك أن غاية ما
يستحقه الإِنسان في الآخرة القرب من الله، وكونه عنده، ولما
وعد الله القتيل في سبيله بذلك سُمي شهيداً، ونبَّه تعالى بالآية أنه
غير إنصاف لمن ساوى العدو في المغالبة الدنيوية أن يحزن، فكيف
بمن كان غالباً، وبين بقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) أن
من حق العاقل أن لا يبالي بما يفوته مالاً كان أو جاهاً أو قهراً.
فإن الله جعل بِنْيَةَ الدنيا على أن تكون أعراضها دولاً بين أخيارهم
وأشرارهم، وليصبر الأخيار فيما يصيبهم من المحن، ويشكروا
ما ينيلهم من المنح، فيصلوا بذلك إلى ثوابه، وعلى ذلك
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)
إن قيل: هل يصح أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين؟
قيل: يجوز ذلك إذا كانت الدولة من الحظوظ الدنيوية، التي قد يُعطى الكافر منها أكثر مما يُعطى المؤمنون، قال قتادة: ولولا الدولة ما أوذي المؤمنون،(3/880)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
لكن قد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليتميز
المطيع من العاصي، وقد حكم تعالى في كل ذلك أن الغلبة
للمؤمنين في الحقيقة بقوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) .
وفي قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، تنبيه أنه لا ينصر الكافرين
في الحقيقة، وإن تصور بعض الناس ما يعطيهم في بعض
الأحوال نصرة منه، تنبيه أنه لا يظلم، فمحال أنه مع حكمه بأنه
لا يحب الظالمين يفعل فعلهم.
قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء من(3/881)
خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به.
قال الخليل: التمحيص: التخليص، عن العبث، يقال:
محِّص عنا ذنوبنا، والمحق هو إبطال الشيء حالا فحالا.(3/882)
والقصد بتمحيص المؤمن ما ذكره في قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) .
وقوله: (وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) وعلى معنى المحص ما ورد من لفظ
الفتنة والابتلاء، والقصد بمعني الآية أن المؤمن والفاسق كسبيكتي
ذهب: إبريز كَلف، وبهرج من خزف إذا فتِنَا خلص
الإِبريز، وانمحق البهرج، فكما أن السبك سبب لاختيار الإِبريز
وإعداده في خاصّ الخزانة، وسبب لاجتواء البهرج وطرحه
بالمبعد، كذا التكليف سبب لاصطفاء المؤمن لكريم جوارِه، وطرد
الكافر إلى حرق ناره، كما قال في المؤمنين. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، وقال في الكافرين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) .(3/883)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
معنى أم حسبتم: لا تحسبوا، واستعارة الاستفهام للنهي، مبالغة في المعنى،(3/884)
و (أَمْ) : على وجهين: معادلة للألف، ولاستئناف استفهام، ويُفسر ببل، ومن النحويين من قال: لا تنفك من أن تكون تابعاً للألف.
إما ملفوظاً به أو مقدراً، وقال: وتقدير الكلام ههنا لما ذكر قوله:
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أعلمتم ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) .
وقد تقدم أن كل موضع نُفي فيه علم الله فإنما هو نفي
لما يتعلق به، ويدل على صحة ذلك قولهم: ما علمت أحداً(3/885)
يخرج إلا زيدٌ، فجاز الرفع في زيد لما كان معناه ما يخرج أحد فيما
علمت إلا زيد، وأما قوله: (وَيعْلَمَ) فمنصوب على الصرف،(3/886)
وقد قُرئ (وَيَعْلَمْ الصَّابِرِينَ) بالجزم، والفرق بين العطف
والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين
مجتمعين كانا أو مفترقين، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين
معاً، ونفيهما معا، على ذلك قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله. . .
معناه لا تجمع بين الأمرين معاً، ويحتمل أن يكون (وَيَعلَمَ)(3/887)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
معطوفاً على قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) ، وذاك أنه لما ضمن
للصابرين دخول الجنة في غير موضع، بين ههنا أن لا يدخلوها
محكوماً لهم بالصبر، ولما يجاهدوا، إذ كان الصبر لا يثبت إلا
بمجاهدة النفس، ولم يعن بالمجاهدة الجهاد في حرب الكفار
فقط، بل أراد ذلك ومجاهدة الشيطان والنفس المدلول عليها
بقوله - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ونحو هذه الآية قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) .
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
سبب نزولها أن قوماً لم يحضروا بدراً كانوا يقولون: ليت لنا يوماً مثله، حتى نجاهد.(3/888)
وقيل: سببه أن قوماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لهم أن يأتوا المشركين في رحالهم ويقاتلوهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"لم أؤمر بذلك ".
والموت عبارة عن الحرب، كقول الشاعر:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا. . . إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
وأراد أنكم تمنيتم الحرب فلِمَ تحيّرتم؟ والنظر يكنى به عن
التحيرّ، نحو:(3/889)
. . والموت خزْيان ينظر
وقيل: وأنتم تنظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بين أظهركم، وذلك تبكيت لهم، وقول النحويين: أراد بالموت سببه، فحذف
المضاف، فقريب، وقول أبي علي الجبائي: إنه لا يجوز أن(3/890)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
يتمنّوا قتل المشركين لهم، "فإن قتل المشركين لهم كفر بالله، ولا
يجوز للمؤمن أن يتمنّى الكفر بالله، وإنما تمنّوا الموت الذي هو
فعل الله في الحال، التي يكون فيها أبعد من العاصي، فهذا تحَيُّل
لمراد القوم إنما تمنوا حرباً ليبلوا فيها بلاءً حسناً.
قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
رُوي أنه لما كان يوم أحد نادى منادٍ: قُتِلَ محُمّد، فقال قوم: علام نقاتل وقد قُتِلَ رسول الله؟! فأنزل الله ذلك.
والإِشارة بالمعنى إلى ما قال أبو بكر لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان يعبد محمداً فإنه قد مات، ومن كان(3/891)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها القوم إن الله قد نعى إليكم
نبيكم " ثم تلا الآية، ولفظ الاستخبار يتناول: (انْقَلَبْتُمْ) .
وقوله: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) تعريض بهم بأنهم يضرون أنفسهم.
إن قيل: كيفْ تعلق قوله: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) بما قبله؟
قيل: إن ذلك قضية حُذِفَ بعضُها، تقديرها: ومن أحسن يجزه الله.
فإنه سيجزي الشاكرين.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) .(3/892)
اللام في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ) على سبيل نسبة الانفعال إلى المنفعل، كقولك: الموت للنفس والنسج للثوب، ولما توهَّم المنافقون أن القتل غير
الموت، وأن الإِنسان سيجد سبيلًا إلى الخلاص منه، ولم يتصوروا
تقدير الله وأن ذلك مقضي لا انفكاك منه، حتى قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) ، بين تعالى أن الموت شيء مقضي محكوم به، وهذا
معنى (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) ، فلا تأخير له، ودل على ذلك بآيات الله.
نحو قوله تعالى: (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)
وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) .
وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)(3/893)
وقوله في هذه السورة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
وعلى ذلك قول الشاعر:
. . . أن الفرار لا يزيد في الأجل
ولما كان أكثر الأعمال مشتبه الصور، وإنما يتميز الخبيث من
الطيب بالنيات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيَّات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " الخبر.
والمجاهد في سبيل الله ثلاثة:
إما قاصد به الآخرة غير ملتفت إلى الدنيا،(3/894)
وإما قاصد عرضا دنيويًّا مراعيا فيه حكم النّه على ما ورد الأمر في
قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) .
وإما قاصد عرضاً دنيويَّا غير مراع فيه حكم الله على ما دل عليه قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) فُسِّر على الوجهين:
أحدهما: أن لفظ الثواب ههنا على التوسع، وإنما هو على نحو الحرث في
قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)
ويكون المعنى على نحو ما بينه في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) .
والثاني: أن الثواب هو الذي يحصُل للإِنسان ولا يلحقه فيه تبعة.
فالمراد به ما ذكره في قوله:(3/895)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من طلب الدنيا استعفافاً عن المسألة، وسعياً على أهله، بعثه الله ووجهه كالقمر ".
وقو له: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) قد تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) .
كأين: بمعنى كم، وأصله أي دخله الكاف، والنون في(3/896)
آخره هو التنوين، قيل: وإذا وقف يقال كأيْ على قول من قال
مررت بزيدْ، وكأيى على قول من قال بزيدي، وقال بعض
النحويين: يجوز أن يُقال كأيِّن في الوقف، لأنه لمّا تركبا صار التنوين.
كحرفٍ من الكلمة، كقولهم: رعملي ولعمري.
والرِّبيّ: قيل: التقيِّ العالم المنسوب إلى الربّ، وكذلك الرّباني وغُيِّرَ في النسبة كقولهم في أمس إمْسِيٌّ، وفي الجُمَّةِ جُمّانيّ، وقيل الرِّبيّون
الجماعات الكثيرة، ومنه قيل للجماعة رِبَّة، ولما يجمع فيه القِداح
رِباية، والفرق بين الوهن والضعف: أن الوهن إخلال يغير(3/897)
الإِنسان، ويضادّه الشّدة، والضعف أختلال بنقصه ويُضادّه
القوى، والاستكانة: الخشوعُ والتضرعُ للمخافة.
وقيل: قُتِل هو فعل مسند إلى قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) ، " و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) ، استئناف في موضع الحال، كأنه قُتل ومعه.
وقال الحسن: ما قُتل نبي قط في حرب.
وقال بعضهم ما قال الحسن؛(3/898)
وإن صح فإنّه لا ينفي أنه قُتل في غير حرب.
وقيل: إن قوله: (قُتل) فعل لقوله (ربيون) أي قُتِل جماعة منهم، فلم يهن الباقون منهم، ومن قرأ: (قَاتَلَ) فيحتمل الوجهين.
وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) .
فقد جعلهم محبوبيه تعظيماً لقدرهم، وإلى معنى المحبة أشار بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ، وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصبر خير كله ".
وقال: " الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد".(3/899)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
الفرق بين الدْنب والإسراف من وجهين:
أحدهما: أن الإسراف نجاوز الحد فى فعل ما يجب، والذنبُ عام فيه وفي التقصير، فإذاً كل إسراف ذنب، وليس كل ذنب إسرافاً.
والثاني: أن حقيقة الذنب: التقصير وترك الأمر حتى يفوت، ثم يؤخذ بالذنب. والذنب إذن في الأصل مقابل الإِسراف، وكلاهما مذمومان، أحدهما: من جهة التفريط. والآخر: من جهة الإِفراط.(3/900)
والمحمود هو العدالة، والقصد المنفك منهما، وثباتَ القدم في الأمر
اللزوم، وعلى هذا قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) ، وكيفيّة
تثبيت الأقدام، قيل بإلطاف من جهته، وقيل بإنزال الملائكة
عليهم، وذلك عام في كل نصرةٍ ينصر الله بها عبده من قوة نفسه.
ومما يعينه من خارج.
وقيل: أشار بذلك إلى سؤال الصيانة عما يحبط ما تقدم من الأعمال.
وهذا السؤال نحو ما رُوي(3/901)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ".
والآية هى من جملة الحكاية عن الرِّبيين، وتحقيقٌ لما قال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية، وحثٌّ على الاقتداء بمن
تقدّم في أحوالهم التي وصفوا بها، وهذه الجملة من التضرّع إلى
الله وهو جِماع سؤال الخيرات، فقد سألوا الله العفو عنهم فيما
كان منهم من إفراطٍ وتفريط، والحراسة في أنفسهم ونصرهم
على أعدائهم.
قوله تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) .
ذكر في ثواب الآخرة الحُسن تنبيها أن ثواب الدنيا بالإِضافة إليها غير
مُستحسنٍ لانقطاعه، ونبّه بالآية أنّ من أراد ثوابَ الدنيا(3/902)
لم يحصل له ثواب الآخرة، وأنّ من أراد الآخرة حصلت له الدنيا
والآخرة معا، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت همّته للدنيا شتت الله عليه أمره، وجعل فقره بين عَينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتِبَ له، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"
وهذا المعنى الذي اقتضاه الخبر ذكره(3/903)
ابن الرومي في قوله:
وتاجر الأجر لا يزال له. . . أمران كل متجرٍ تجره
أجر وحمد وإنما قصد الـ. . . أجر ولكن كلاهما اعتوره
وسئل سفيان بن عيينة: هل يُعطى المسلم ثواب عمله في
الدنيا؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) .
وقوله في قصة يوسف: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، تْم(3/904)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) .
هذا هو المعنى المذكور في قوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ) ، لكنه لما ذكر هناك باللفظ العام وهو أهل الكتاب الواقع على مؤمنهم وكافرهم خصَّ فريقاً منهم.
فإن قيل: لم غيّر العبارتين؟ ولم كرر ذلك؟
قيل: إنه عرّض في الأول بالنهي، فلما بيّن أحوال المنهيّ عن
طاعتهم، ونبّه على فساد طريقتهم وإرادتهم الشر بالمسلمين أعاد
النهي عن طاعتهم مصرِّحًا، وهذه الطريقة يسلكها الوعظة
المهرة، فنهي الإِنسان عما يهواه إذا لم يعرف قبحه إغراء بفعله،(3/905)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
فحقٌّ للواعظ أن يتوصل أولاً إلى كشف قبحه، وما يعرض فيه
من الفساد، ثم يصرحُ بتحريمه، والنفي عنه.
وقول الحسن: إنه عنى بالذين كفروا: اليهود والنصارى.
وقول السدّي: إنه أراد المشركين أبا سفيان وأصحابه، فكلاهما صحيح.
فاللفظ عام، ومطاوعتهما ترد على الأعقاب وتورث الخسران.
قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
لما تقرر في العقول: أن المولى يَعُزُّ بحسب عِزَّة مواليه.
وتقرر عند المسلمين أن الله هو العزيز في الحقيقة، وأن كل
عزيز فمنه وبه يَعزُّ، وقد كان نهاهم في الآية المتقدمة عن
موالاة الكفار، والدخول تحت طاعتهم بيّن، أن من(3/906)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
كان، الله مولاه فهو غني عنهم فهو خير مولى وناصر.
وهذا المعنى قد نبه تعالى عليه في مواضع بألفاظ كثيرة، نحو (نِعْمَ الْمَوْلَى) ، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) .
وفي لفظة بل تلطف وتنبيه أن من المحال أن يكون من تخصص
بموالاة الله، وعرف أن العزَّ منه أن يعتمد غيره أو يقصد سواه.
قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
الرعب: استرخاء القوى وتقطُعُها من الخوف، ومنه:(3/907)
جارية رعبوبة، ورعبت السنام قطعته، وبهذا النظر
قالوا: تقطَّع نياط قلبه، وانخلع قلبه، وتوزَع خاطره.
والسلطان: الحجة، وقد تقدم.
والمثوى: إطالة الملازمة.
وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا) أي إشراكهم،(3/908)
وقوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بدل من ما الأولى، لكن بمعنى
المصدر، إذ لا ضمير يرجع إليه، والثاني بمعنى الذي، إذ
فيما بعده ضمير، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر.
أو على تقدير: أعني شيئا لم ينزل به سلطانا.
والمعنى لا يختلف، ونبّه أنه لم يجعل لهم حجة فيما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ، ولقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) ، ولظهور حكمه، وما شوهد(3/909)
من صدقه. قال - عز وجل -: "نُصرتُ بالرُّعبِ ".
وتصديق ذلك قد شوهد، فقد كان الصناديد يقصدونه عليه السلام لمكاوحته أو الاغتيال عليه، فما كانوا إلا أن يُمكِّنوا أبصارهم منه فيذلوا.
ولمشاهدة الحالة قال فيه الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة. . . كانت بداهته تُغنيك عن خبر
وهذا أحد دلائل للنبوات التي يعتمدها من عرف الحقائق.
وليس هذا الرعب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل لأحزابه والمقتدين به، حتى نرى من رجح عقله وحسن في قمع الشهوة حاله مهيب.
وجعل جهنم مثوى مذموما بالإِضافة إلى الطباع، واعتبارها
بكراهتها لها،(3/910)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
وعلى ذلك قوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) .
الحسُّ: يُقال للإِصابة بالحاسّة نحو عِنْتُه ويَدَيْتُه، أي أصبته بهما.
ويُقال تارة لإِصابة الحاسّ نحو بطنته وظهرته، أي أصبتهما.
ولمّا كان إصابة الحاسّة قد يتولد منه فقد الروح استُعير للقتل،(3/911)
وإذنه هاهنا يصح أن يكون أمره، وأن يكون تسهيله وتوفيقه.
والفشل: ضعف النجيزة، وذلك يكون عن الحرب، وعن
السخاء، بل عن تحمل المضض، وجعل تعالى ميلهم إلى
الغنيمة فشلًا، فإن الحرص والبخل من فشل النجيزة، وسبب
نزول هذه الآية فيما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد وعد المؤمنين بقهر الكفار يوم أحد، ولما صفّ الصفوف جعل أُحُداً خلف ظهره.
واستقبل المدينة، وجعل عَيْنَينَ وهو جبل عن يساره، ورتب(3/912)
عليه رماة خمسين، واستعمل غليهم عبد الله بن جبير، وأوعز
إليهم أن قوموا في مصافكم، فإن رأيتمونا وقد غنمنا فلا تشاركونا.
وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، فلما رأوا الكفار يهزمون.
اختلفوا فبادر بعضٌ إلى المعركة، ونظر خالد بن الوليد إلى
الجبل وكان كمينًا للمشركين، فكَرَّ بالخيل، فقتل من بقي من
الرماة، وانتقضت صفوف المسلمين حتى كان ما كان، فقال(3/913)
قوم: إن الله قد وعدنا نصرنا، فتغيّرت قلوبهم، فبيّن تعالى أنه
قد صدقكم وعده، وأخذتم تقتلونهم إلى أن اعتراكم الفشل.
ووقع بينكم تنازع، فصرفكم عنهم.
وقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) قيل: الغنيمة.
(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي نصرة النبي في ترك
المكان والمبادرة إلى القتال.(3/914)
وقيل: بل عنى بمن يريد الآخرة من أقام حافظاً لما استُحفظ.
وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قيل: صرفهم إنما كان.
بمنع النُّصُرة وترك إنزال الملائكة عليهم والسكينة، وبإخراج
ما في قلوب الذين كفروا من الرعب، فبيّن أن لم يكن صَرفكم
عنهم خذلاناً لكم، بل كان مؤاخذة لميلكم إلى الدنيا وابتلاءً
لكم، كما بينه بقوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(3/915)
وذكر أنه عفا عما كان منهم من مخالفتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإخلالهم بالمركز، قال الحسن: عفا عنهم، إذ لم يستأصلهم.
فقد قتل منهم من قتل، وكسر رباعيّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: (عَفَا عَنْكُمْ) حيث عاقبكم في عاجل الدنيا، وأفضل
عليكم بذلك لكونه موعظة لكم في معاودة مثله) ، ثم بيّن أن(3/916)
الله ذو فضل في عفوه عنكم في انهزأمكم وفي صرفكم عنهم، الذي
صار سببا لتهذيبكم وتمحيصكم، وسبباً لأن تصيروا مجاهدين
في المستقبل، فيعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، فكل
ما هو سبب خير وإن كُره ففضل.
واختُلفَ في جواب (إِذَا) فقال الفرّاء: تقديره تنازعتم.
والواو مقحمة، قال: وذلك يكثر مع إذا نحو (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ) أي: فتحت.
وقوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ) أي ناديناه.
وقال ابن بحر:
ثم صرفكم جواب، وتقديره صرفك، وقال: ودخل (ثُمَّ)(3/917)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
في الكلام، لأنه في المعنى مثل: إذا، وكأنه رد لفظ إذا لما طال
الكلام، كقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، ثم قال:
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فأعاد لمَّا لمَّا طال.
فكذلك القول في (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) وهذا القول أستطرفه.
فإني أراه تصور ثُمَّ بمعنى ثَمَّ على التقدير الذي ذكره.
وقال البصريون: جوابه في هذه الأمكنة كلها محذوف.
قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
إذ: متعلق بقوله: (عَفَا) وبقوله: (ذُو فَضْلٍ) .
والإصعاد: الإِبعاد في الأرض، سواء كان(3/918)
في صعودٍ أو حدورٍ، وإن كان أصله من الصعود كقولهم:
تعال في أنْ صار في التعارف، قد يقال لغير معنى العلو.
والصعود: الذهاب في صعود. ولما روى قتادة والربيع: أن(3/919)
من هرب من المؤمنين ذهبوا في الوادي.
وروى الحسن أنهم صعدوا في الجبل.
وقرئ (تُصْعِدُونَ) اعتباراً بالرواية الأولى
و (تَصعَدون) اعتباراً بالرواية الثانية، وإنمّا ذلك باعتبار علوِّ
الإِنسان في أمرٍ تحرَّاه، كقولك: أبعدت في كذا، وارتقيت في
كذا كل مرتقى، فكأنه قيل: إذ تبعدون في استشعار الخوف،(3/920)
الاستمرار على الهزيمة.
وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) تعريض بهم في الهزيمة.
ونحوه تحرّاه حسان، بقوله.
ترك الأحبةَ أن يُقاتل دونهم. . . ونجا برأس طِمِرَّة وثّاب(3/921)
وقرأ الحسن: (وَلَا تَلْوُونَ) من ولي.
وقال بعضهم: هو خطأ.
ووجهه أن ذلك تبكيت لهم، وأنهم لم يلو ما وُلُو بل أخلّوا.
وقوله: (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) ، أي هو بين جماعة
المتأخرين منكم.
وروي أن رسول الله) مم كان يناديهم: "يا عباد الله ارجعوا".
إن قيل: كيف قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) ،(3/922)
والإِثابة تُقال في المحبوب دون المكروه؟!
قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك يستعمل في المكروه على أحد وجهين:
إمّا لأن الثواب في الأصل ما يرجع إلى الإِنسان من ثمرة فعله خيراً كان أو شرّاً، ولكن تعورف في الخير، فإذا استعمل في المكروه فعلى اعتبار الأصل.
والثاني: أن ذلك على الاستعارة، وضرب من التهكُّم
في كلامهم، كقوله:
. . . تحيه بينهم ضرب وجيع(3/923)
وقال بعض المحققين. إنما ذكر لفظ الإثابة هاهنا في الغمّ، لأن
غمّهم وإن كان مكروهاً بالطبع فهو ثواب من الله من وجه، لأنه
كان سبب تهذيب نفوسهم، الذي بيّنه تعالى بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) ، وكل أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله بحيث
لا يقلقه فوت مطلوب وفقد محبوب فيا له من ثواب، ولهذا
قال حكيم: جماع الزهْادة في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)
فقوله: (غَمَّا) من المفسرين(3/924)
من اعتبر الغمّين بالمسلمين وقال: أحدهما: ما وصل إلى قلوبهم من الفشل.
والثاني: الخوف. وقيل: أحدهما: مخالفتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: فوت الغنيمة.
وقيل: ما سمعوا من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقيل: إشراف أبي سفيان عليهم.
والوجه: أن كل(3/925)
ذلك مراد، لأنه ليس يعني بذلك غمّين، بل غموماً كثيرة متتابعة
متوالية كقولهم: لبّيك وقوله: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ)
أي نعمه متوالية، ومنهم من اعتبر أحد الغمين بالمسلمين(3/926)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
والآخر بالكافرين. فقال: أنالوكم مثل ما أنلتموهم، تنبيهاً
على معنى قوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)
وقوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي عالم به يخبركم به، تنبيهاً
على ما قال: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)(3/927)
قرئ (تغشى) ردًّا على لفظ (أمنة) ، و (يَغشى) إلى لفظ (نُعاسًا) .
وقُرئ (كُلَّهُ) على الابتداء، و (كُلُّهُ) على التأكيد، وقيل: السبب في
نزولها أن يوم أحد تواعد المشركون بالرجوع، وكان المسلمون(3/928)
متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى على المؤمنين أَمَنَةً فنام بعضهم.
ونفى عن المنافقين الأمنة، فسهروا منزعجين، فمن حمل
النوم على الحقيقة قال: جعل ذلك رأفةً بهم،(3/929)
وتخصيص النعاس تنبيه على صيانتهم من الحالة المذمومة من
الامتلاء من النوم، ومنهم من جعله استعاوة لطمأنينة جأشهم.
وزوال خوفهم، وذلك لما ترى من حال المطمئن، ويوصف
المغموم بالسهر، ومنهم من تجاوز ذلك، وقال: إنّه لمّا ذكر في
الأول قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)
بيّن هاهنا أنه تعالى هذَّب طائفة من المؤمنين، حتى صارت نفوسهم آمنة مطمئنة تحت قضاء الله، وهذه حالة الرضى، فقد قيل: الرضى أن يكون العبد ساكنا تحت قضاء الله، مطمئناً عند كل وارد سَرَّ أم ساء، وهذه الحال ادعاها الشاعر صادقاً أو كاذباً في قوله:(3/930)
فسرَّ ولم ابتهج. . . وساء ولم أشتكي
وقوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) تنبيه على
خبث أنفسهم، وأنها أمارة بالسوء، وذاك أن المنافق شرير.
والشرير لم تتهذب نفسه وأحواله من الغضب والشهوة والحرص
وسائر الرذائل، وكأن ما معه عدو يؤذيه، ولهذا لا يمكنه أن يخلو
بنفسه، لأنه لا يجد شاغلًا له، وكأنه خُلِّيَ مع أُسود وأساود.
وقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) تنبيه على جهلهم وعدم معرفتهم
بحكمة الله ونعمته في قهر الكفار للمسلمين في بعض الأحوال.
وأنها نعمة. وظنهم غير الحق: ظنُّهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدقهم، ويأسهم من نصرة الله تعالى.
وقوله: (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ظن(3/931)
الكفار، أن هؤلاء المنافقين بعدُ في حيّز الكفار، وفي قِلَّةِ
معرفتهم الله بحكمة الله تعالى، وأنهم لا يعرفون الخير والنعمة
إلا المال والجاه والغلبة الدنيوية، فإذا فاتهم ذلك ساء ظنهم.
وقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) :
هل لنا طمع الغلبة، تنبيها أنهم استشعروا اليأس الذي يستشعره القوم
الكافرون، فأكذبهم الله تعالى، فقال: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
أي الغلبة الحقيقة له ولأوليائه، فإن حزب الله هم الغالبون.
وقيل: عنى بالأمر الاستئمار، أي لو شُووِرنا لأشرنا بترك هذا
المورد، فقال الله تعالى: (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي هو أعرف بالتدبير.(3/932)
وقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
معناه لولا أنا أكرهنا لما خرجنا، وفصل بين الحكايتين
عنهم، أعني (هَل لنا) وقوله: (يَقُوُلون) بجملتين:
إحداهما: جواب لهم، وهي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ) .
والثانية: تنبيه على ما في ضمائرهم، وهي قوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) .
ولمّا فصل بينهما أُعيد في الحكاية عنهم لفظ (يَقُولُونَ) لئلا تشتبه
الحكاية عنهم بما هو إخبار منه تعالى،(3/933)
وقال بعض المعتزلة: عنى بقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
أنه كقوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) وهذا إن كان
كما قاله هذا القائل، فقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) تصديق لهم.
وقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)
تكذيب لهم، وأنه محالٌ - أن لا يُقتلوأ مع أن قتلهم بذلك المكان
جارٍ في قضائه وتقديره، وقد حُمِلَ ذلك على وجهين: إما أنّ من
فدر له القتل لو لم يخرج لأتاه القتل، وهو في مضجعه في داره،(3/934)
والثاني: أنه لو كنتم أيها المؤمنون قعدتم في بيوتكم، ولم تخرجوا
للمحاربة لخرج من قُدِّر له القتل بسبب خفي إلى مضاجعهم في
الحرب أي مصارعهم فيُقتلون، تنبيهًا أن قضاء الله وتقديره
وعلمه لا يتغير، وأنه لا ينفع حذر من قدر، وإلى هذا أشار
الشاعر بقوله:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة. . . دعته إليها حاجةٌ فيطيرُ
وقال الأصمّ معناه: لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم، ولم
تخرجوا لبرز المسلمون الذين كتب عليهم أي أوجب أن يقاتلوا
محتسبين، ويكون هذا ثناء من الله تعالى على من استُشهد.
إن قيل: ما حقيقة الابتلاء والفصل بينه وبين المحص؟(3/935)
قيل: الابتلاء في الأصل هو الاختبار، الذي يفصل به بين الخير والشر
فهو اسم الفعل مبدأ ونهاية، فمبدؤه الاختبار، ونهايته الفصل بين
الخير والشر إذا استُعمل في الله تعالى، فإنّه يُراد به النهاية دون
المبدأ، الذي هو التوصل إلى الفصل.
وأما التمحيص فإزالة ما قد انفصل من الخير عن الشرّ.
وكان المقصود به ما ذكره الله تعالى في قوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .(3/936)
إن قيل: على ماذا عطف قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ) ؟ ولمَ كرّر الابتلاء بعد أن ذكره في قوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ؟ ولمَ علّق الأول بالذات كلها، والثاني
بما في الصدور؟ وما الفرق بين قوله: ما في الصدور، وبين قوله:
ما في القلوب، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟
قيل: أما ما عطف الابتلاء فعلى قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا) ، وفصل
بينهما بما هو تسديد الكلام وإشباع للمعنى، وهذا جائز، وقد
تقدم الكلام في نحوه، ويجوز أن يتعلق بمضمرٍ دلَّ عليه ما
تقدم من قوله: (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) ، وأما تكريره
وتعليق الأول بالذات والثاني بما في الصدور، فإن لله تعالى
تكليفين: الأحكام والمكارم كما تقدم، والأحكام قبل المكارم.
وجُلُها متعلِّق بالضمائر، وعملُ الجوارح فيها قليل، فحيث(3/937)
ما أراد منهم الحكم وهو الثبات في الحرب والجد بالجوارح، علّق
الابتلاء بالجملة، وحيث ما قصد المكارم من إصلاح الضمير.
من نقض الحزن ورفض الذعر ذكر الصدر، وحينما ذكر الإِيمان
المحض ذكر القلب، وكل موضعٍ يذكر الله في القرآن العقل.
والإيمان، فإنه يخصُّ ذكر القلب، وإذا أراد ذلك وسائر
الفضائل والرذائل ذكر الصدور، وهذا إذا اعتُبر بالاستقراء
انكشف، نحو قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .
وقوله: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ، وقوله: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم) .
وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) .
وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) .
وقوله: (فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، ولما كان التمحيص أخصَّ من الابتلاء
كما تقدم خصَّه بالقلب، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها
على بعض، فبإصلاح العمل يُتوصل إلى إصلاح ما في الصدور(3/938)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
من الشهوة والغضب، وبهما وبإصلاح ذلك يَتوصل إلى إصلاح ما
في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شك وريب، وذلك
ما يبلغه العبد، وبه يستحق اسم الخلافة لله المذكور في قوله:
(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، ثم قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة.
وخصَّ الصدور دون القلب إذ هي أعم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)(3/939)
قال السدّي: هو خاصّ في الذين انهزموا إلى المدينة.
وقال عمر وبه قال الربيع وقتادة: بل في الذين ولوا المشركين أدبارهم.
فيكون عامًّا فيمن أبعد ومن لم يبعد، وبيَّن أن الشيطان استزلهم
بخطيئة كانت منهم.
قال الزجاج: إنما أذكرهم خطايا سلفت لهم.
فكرهوا أن يُقتلوا قبل أن يتوبوا.
وقيل: بل كان منهم خطيئة صارت مسهلة لسبيل الشيطان إليهم.
فإن الإِنسان إذا حصّن ثغره بالعمل الصالح والعلم فقد سدَّ طريق الشيطان على(3/940)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
نفسه، ومتى أهمل ثغره سَهَل سبيل عدوه إليه، وجعل له ثلمة
يدخل منها عليه، وذلك بأن يُفسد إرادته، وبيّن أنه تعالى عفا
عنهم، وقيل: ذلك بحلمه عن تعجيل عقوبتهم.
وقيل: بل بالغفران عنهم عاجلاً وآجلاً، وهو الصحيح، لأنه جعل
علة عفوه الأمرين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) .
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) .
41)
51)
ثُلمة: الملْمة با لضم ": فرجة المكسور والمهدوم. القاموس ص (1452) .
لْصحفت في الأصل إلى (بحمله) والصواب ما أثبته.
ذكره ابن عطية عن ابن جريج. انظر: المحرر الوجيز (3 274) .
واختاره السمرقندي في بحر العلوم (1 310) .
قال أبو حيان: "ألجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في
الدنيا والاخرة 00. (إ تً أفَهَ غَفور زَصِير) أي غفور الذنوب.
حليم لا يعاجل بالعقوبة، وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن
هؤلاء الذين تولوا يوم أحد. . . " البحر المحيط (3 99) وانظر: جامع
البيان (7 327) ، والمحرر الوجيز (3 274) ، وتفسير القرآن العظيم
لابن كثير (1 395) .
سورة آل عمران، الإية: 156. ونصُّها: (يايخا اَلًذِينَءَامَنُوا لَا تَ) ولؤُا
؟ لَذِينَ كَفَرُوأ وَفَالُوأ لِإخوَنِهِتم اذَاضرًبُرا فِى اَ لازضِى أَؤ كاَلُؤا غُزً ى) ؤكاَلؤُأغَدَنَا
مَا مَالؤُاوَمَاقُتِلُوأ لِ) خحَلَ اَلمَهُ ذَلِكَ حَمتحر لى قُلوُبِهِتم وَاَلئَهُ قُيِءلَيمُميث وَأللَهُ سا
لغمَلُونَ بَصِيُرُ) .
941(3/941)
الذين كفروا عام، وإن كان قد قال السدّي:
عُني به عبد الله بن أُبيّ وأصحابه.
والضرب في الأرض: الإِبعاد في السفر.
وغُزًّى: جمع غازٍ، نحو شُهّد وقُوّل في شاهد وقائل.
وإخوانهم: من سلك طريقهم في الكفر والنفاق،(3/942)
والحسرة: الغمّ على ما فات، وأصلها الإِعياء عن إدراك المطلوب.
وسُمّي الغمُّ بذلك: إذ لا يفيد الإعياء، وعلى هذا قيل:
. . . إن ليتاً وإن لوًّا عناء
إن قيل: إذا كان الإِخوان هم المقول لهم، فالوجه أن يُقال:
لو كنتم، لأنه يقال: قلت لزيد: لو فعلت كذا، ولا تقول فَعَلَ وأنت
تعنيه، قيل معناه: قال بعضهم لبعض لأجل إخوانهم، أو
يعني قالوا لبعض إخوانهم إذا ضرب بعضهم في الأرض لو كان
الضاربون في الأرض عندنا. وتقدير الكلام: إذا ضربوا في
الأرض فماتوا أو كانوا غُزًّى فقتلوا: لو ظَلُّوا عندنا لما حدث(3/943)
ذلك بهم، وبيّن الله تعالى أن ذلك لا يثمر لهم إلا حسرة في
قلوبهم مع العلم بأن الله هو المحيي والمميت، وعلى نحوه قال
أبو ذؤيب:
يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت. . . نُشيبة والطرّ أو يكذب قيلُها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت. . . إليه المنايا عينُها أو رسولها
إن قيل: لِمَ قال: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولو علّق ذلك
بالسماع لكان أليق، لأن ما كان منهم قول مسموع لا فعل مرئي؟
قيل: لما كان قول الكافرين ذلك قصداً منهم إلى عمل يجادلونهم
خص البصر، كقولك لن يقول شيئاً وهو يقصد به فعلا يحاوله:
أنا أرى ما يفعله، إن قيل: إذا للمستقبل، وقد جُعِل ظرفا
لقوله قالوا، ولا يجوز أن يقول: جئتك إذا زرتني، فما وجه ذلك؟
قيل: إذا متى لم يُقصد به وقت معين، كان متضمّناً للشرط.
فيكون الفعل الذي هو في تقدير جوابه بمعنى(3/944)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
الاستقبال، وكأنه قيل: إن ضربتم في الأرض، أو كلما ضربتم
قالوا، واللام: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ) لام العاقبة.
قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) .
يقال: مِت ومُت، والضم أقيس، والكسر كثير، والآيتان(3/945)
تضمنتا إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص(3/946)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
على القتل في سبيل الله، وبيانه ما أقول: إن قُتلتم في سبيل الله أو
متم فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة تنبيها أنه أوجبهما للثواب.
ولمّا عنى في الثانية الموت المطلق والقتل العارض قدم أبينهما
عندهم إذ لابد منه، فكأنه قيل: إن حصل ما لابد منه بوجه وهو
الموت حتف الأنف، أو ما هو عارض، وعندكم أنه قد يكون
منه خلاص، وهو القتل، فالحشر لا محالة حاصل.
قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) .(3/947)
قال النحولِون (ما) زائدة، وعلى هذا (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) .
وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ، وأفاد التأكيد.
ووجه تأكيده أنه نكرة تدل على إبهام ما عُلِّق به، وإبهامه يقتضي التعجب.
فكأنه بعظيم من رحمته (لِنْتَ لَهُمْ) واللّين عبارة عن حسن الخلق.
وحسن الكلام بالصفو والزلال، حتى قال الشاعر:(3/948)
. . فتى مثل صفو الماء ليس بباخل.
استعمل في ضده الفظاظة.
وغلظ القلب: عبارة عن قلة الرحمة. وبإزائه رقّة القلب.
والانفضاض: التفرق، وانفضَّ وارفضَّ يتقاربان إلا أن انفضَّ اعتباراً بانكسار بعضهم عن بعض، وارفضَّ اعتبارا برفض بعضهم بعضاً.
والمشاورة: استخراج صائب الرأي عن الغير.
واششقاقه من شور العسل، وشرت الدابة وشورتها،(3/949)
والعزم: ثبات الرأي على الأمر، نحو إجماع الرأي، والتوكل
على الله الثقة به والوقوف حيثما وقف، وبين أدنى منزلة له
نحو ما قاله للأعرابي "اعقله وتوكل" وبين غايته التي هي
كحال إبراهيم عليه السلام بون بعيد.
ونبّه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
على فعمته على النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا وعلى أمّته ثانيا.
كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وأمره بالعفو عن
تقصيرهم فيما يلزمهم له، وأن يستغفر لهم من ذلك، كقوله:(3/950)
(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
ثم أمره بإجراء نفسه مجرى أحدهم في الرأي الذي هو خاصّ بالإِنسان.
ثم قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وإن قاربتم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على الله، وتقويتك به، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
واختُلِفَ في مشاورة النبي لأصحابه على أي وجه، فقال سفيان بن عيينة: ليقتدي به غيره، وقال قتادة: تطييباً لقلوبهم، ويجب أَن نقدّم مقدمة
تبيّن في أي أمر أولا تدخل الاستشارة؟ ثم من استشار غيره فلأي(3/951)
قصدٍ يستشير؟ فيقال: أمّا ما يُستشار فيه فهو الأمور الممكنات
المتعلقة باختيار الفاعل، وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة
المُستشِير برأي المُستشَار، أو لئلا يُلام إذا استبدَّ بالأمر، فيتفق
وقوعه بخلاف المراد، ولهذا قيل: الاستشارة حصنٌ من الندامة.
وأمن من الملامة، وتارةً طلبا لهداية المستشار، إما لأن يتبين له
خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر، وإمّا أن لا يعتقد هو
أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد برأيه فيما ربما يؤذي إلى
فساد: إما لإِكرامه أو تعظيمه، فإذا تقرر هذا فأمور النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تنفكّ: إما أن تكون شيئاً دينيَّا أو دنيويًّا.
فإن كان دينيا فمعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر، لما أمدّه الله تعالى به من النور الإِلهي، وما كان يستشيرهم في أصول الشريعة، لكن ربما كان يستشيرهم في شيء من فروعها، التي هي من مسائل الاجتهاد لنا، نحو ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار(3/952)
إصحابه في شعارٍ يرفع للصلاة، ومثل ذلك تشريف لهم أولا.
وتنبيه أن ما سبيله الاجتهاد فحقُّه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة
الصحيحة، لينقدح منها الصواب، وأمّا ما كان من الأمور
الدنيوية كالمساحة والكتابة والحساب، فمعلوم أنه كان مستغنياً
بغيره في كثير منها، بل قد صرّح في ذلك بقصوره (1) فيما رُوي أنه
__________
(1) الأولى مراعاة الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثَمَّ كان الأولى عدم استخدام هذه العبارة. والله أعلم.(3/953)
عليه السلام لما ورد المدينة ووجد أهلها يؤبِّرون (1) نخلهم، فقال:
"ما أرى أن ذلك ينفع " فتركوه، فتبين ذلك في نقصِ أثمارهم
فشاوروه فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور
آخرتكم" (2) .
وعلى هذا. ما كان يتعلّق بأمور الحرب المتعلقة
بتهييجها تارة وتسكينها تارة، وبالمنِّ فيها تارة وبالافتداء تارة.
ولذلك لما همَّ بمصالحة عُيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة.
قال بعضهم: أبوحي هذا أم برأي رأيته؟ قال: "برأي رأيته"
فراجعوه وبينوا له موضع الصواب، وترك رأيه لرأيهم.
__________
(1) يؤبرون: يلقّحون: المصباح المنير.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب - الفضائل - باب "وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عنيم في معايش الدنيا" رقم (2363) دون قوله: "وأنا أعلم بأمر آخرتكم " من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.(3/954)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
وكذا مراجعة عمر له بما همَ به من كتاب القضية عام الحديبية.
فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية حال الرسول عليه السلام
وغيره فيه سواء، والمشاورة مستحبة له كما هي مستحبة لغيره.
قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
أكثر المفسرين جعلوا نصرة الله للعبد في الحقيقة تقويته بأعظم السلطانين
الذي هو الحجّة القاهرة وأعظم التمكينين الذي هو العاقبة المذكورة
في قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وفي أشرف الدارين(3/955)
حيث لا ينفع مال ولا بنون. فقالوا: معناه: إن حصل لكم النصرة فلا تعتدُّوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غَلَبة، وإن
خذلكم في ذلك فلا تعتدّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا
نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل.
ومنهم من اعتبر ذلك في أمر الدنيا، فقال: معناه: إن نصركم الله في الدنيا بموافقتكم - صلى الله عليه وسلم - فلا غالب لكم، وإن لم ينصركم فلا ناصر لكم.
وحَمله على الأول يدخل فيه الثاني، فإن من نُصِر في آخرته فهو في
الدنيا منصور، وإن لم يدرك نصرته إلا بالبصيرة دون البصر، وحمله
على الثاني قد ينفك من نصرة الآخرة.
وقوله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمرهم بالتوكل عليه، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية الأولى، وأن يستجلبوا النصرة منه بذلك.(3/956)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
قو له تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
الغلول: تناول مال الغير بضرب من المكيدة، وكثر استعماله
في الغنيمة، وسبب نزول ذلك، قال ابن عباس: هو أن فُقِد
قطيفة حمراء يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها، وقال الضحاك: هو عتاب لمن استُحفظوا الثنيّة(3/957)
يوم أحد، حيث قال بعضهم: ربما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تناول شيئاً فهو له " فَنَبقى بلا غنيمة، فعلى هذا يكون هذا القول ثناء
عليه - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل ذلك حثٌّ، للنبي على التعفف، وإن كان معلوماً أنه لا يغُل، كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) .
ومن قرأ (يُغَلَّ) فقد قيل: نهي للناس أن ينسبوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/958)
من قولهم: أغللت فلانا. كقولهم: أكذبته.
وقرأ رجل بحضرة ابن عباس "يُغَل" فقال: بلى ويُقَتل.
فكأنه حمله على الخبر، ولم يرتض قراءته.
وقال الحسن: نَهْي أن يَخُونوه.
فإن قيل: فلم خصّه والخيانة معه ومع غيره مذمومة؟
قيل: قد قال بعض الناس: إن تخصيصه تعظيم له.
فإن الخيانة وإن كانت مستقبحة مع كل أحد.
فمع من يُرشح لهداية الناس أقبح،(3/959)
وقال بعض الناس: إن ذلك في الحقيقة نهي عن الخيانة رأسا في
كل ما أتى به النبيِ - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام، كقوله: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) .
وقال بعض الناس: قراءة من قرأ؟ (يَغُلَّ) أولى، لأن كل ما جاء في التنزيل من هذا النحو فمسندٌ إلى الفاعل دون المفعول.
نحو (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) .
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) .
وقوله: (وَمَن يَغلُل) تعظيم للغلول، وأنه لا انفكاك له من جزائه، فكأنّ ما قد غلّه يَصحبُه، وعلى هذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا أعرفنُّ رجلًا يأتي بفرسٍ له حَمْحَمة") .
وعلى هذا ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا أعرفن رجلًا يأتي ببعير قد غلّه له رغاء".(3/960)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
، وعلى هذا ما حُكِي عن لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) وقد تقدم الكلام في باقي الآية.
قوله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)(3/961)
قَرِئ: رُضوان، وهما مصدران نحو: كفران وحسبان.
وهو غاية الرضا، و (باء) بكذا رجع به، ومنه البَوَاء في القصاص.
إذا كان فيه مرجوع فيمن قتل.
والسخط: حصول غضب يقتضي عقوبة.
وإذا استعمل في الله فبمعنى إيجابه العقوبة.(3/962)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
والغيظ يقاربه، إلا أنه يُقال إذا كان معه تغيّر منكر، ولا يُوصف به
الله، والفرق بين المصير والمرجع: أن الرجوع هو انقلاب
الشيء إلى حال كان عليها، أو ما هو مُقدّر تقديرها.
والمصير: التنفل من حال إلى حال أخرى، فهو أعمُّ من الرجوع.
والقصد بالآية تبعيد ما بين الفريقين كقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) .
قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)(3/963)
قيل: هي صفة لـ (من اتبع رضوان) ، وبيّن أنه كما أن من باء بسخطٍ
من الله مأواه جهنم، فمن اتبع رضوانه هم ذوو درجات عند الله
أي ثواب كبير، والصحيح أنه قسّم الناس في الأولى قسمين: فائزاً
برضوانه وبائياً بسخطه، وبيّن في هذه أن القسمين كل واحد بين
البعض والبعض تفاوتا، وذاك أن الناس إذا اعتبروا فمن بين
ملكٍ مقرب، كما قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) .
وبين أخسّ بهيمة، كما قال: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) .
وما بينهما بحيث لا يمكننا حصره، ولذلك قيل في المثل:(3/964)
الناس أخيافٌ وشتّى في الشيم وكلُهم يجمعهم بيتُ الأدم
ولتفاوت درجاتهم وتفاوت ثوابهم وعقابهم ما روي أن
الجنة درجات والنار دركات، ونبَّه بقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) ، أنه لا يخفى عليه ما يتحرّاه كل واحد، فإذن(3/965)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
يقف كل موقفَه الذي يستحقه.
قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
المِنَّة: استكبار النعمة بالفعل أو بالقول، فأما بالفعل
فحسن، وأما بالقول فما لم يكن فيه وعظٌ ممن له الوعظ
فمستقبح، ولذلك قيل: المنّة تهدم الصنيعة، وقوله:(3/966)
(رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
قيل: عنى من أهل بيتهم ومن العرب.
وقال بعضهم: ليس هذا بسائغ، إذ لم يُخصّ أهل بيته به ولا العرب
خاصة، بل هو مبعوث إلى العالمين، فالوجه في قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
أي من البشر، وذاك أن كل ما أوجده الله في هذا
العالم لا يأخذ نفعه إلا مما بينه وبين المأخوذ منه ملاءمة ما، وذلك
حكم مستمر في كل شيء، فلما كان كذلك جعل الله تعالى الأنبياء
المبعوثين إلى كافة البشر بشراً مثلهم في الخلقة والصورة، وخصّهم
بفضل قوة التمييز والمعرفة، يأخذون من ملائكته وحْيَهُ.
ويولونهم، ولولا كونهم من جنسهم لما قدروا على أخذهم(3/967)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
منهم، ولهذا قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) ، فبيّن
تعالى نعمته عليهم أن رشح لهم من سَهُل تناولهم منه.
وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) لم يعن تلاوة آيات القرآن فقط.
بل عنى بذلك تنبيههم على آيات الله في السموات والأرض.
وفي أنفسهم، ولهذا حَسُنَ عطف قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)
عليه، وقد تقدم الفصل بين الكتاب والحكمة، ومعنى التزكية.
قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)(3/968)
دخل ألف الاستفهام على واو العطف ليفيد مع الاستفهام
تعلق ما بعده بما قبله، وكذلك إذا قلت: أوَ كانَ كما تقول؟ إذا
أردت بناء كلامك على كلام المخاطب، وكان المسلمون قتلوا
من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فلمّا كان يوم
أحد، وقُتل جماعة من المسلمين تغيّر قلوب قوم، فخاطبهم الله
بذلك، وعنى أنكم أنكرتم أن نالكم منهم شطر ما نالهم منكم.
وأخذتم تقولون: آَنى نالنا ذلك؟! فأجابهم الله بأن ذلك من عند
أنفسكم، فإن الله وعدكم أن ينصركم بشريطة أن تصبروا وتتقوا،(3/969)
فخالفتم، وقد قيل: مخالفتهم أنهم دُعُوا إلى التحصُّن بالمدينة
فأبوا إلا الخروج، وقيل لاختيارهم الفداء يوم بدر.
وقيل لمخالفة الرماة، والأولى أن يكون عامّاً في جميعها، وهو(3/970)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
إشارة إلى ما فضله قبل بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الآية.
إن قيل: ما وجه قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عقب هذه الآية؟
قيل: نبّه بذلك أن لم يصبكم ما أصابكم لوهن في دينكم أو ضعف في قدرة الله، فكأنه قيل: هو من عند أنفسكم، لا من خلل دخل في أمره، فإن الله على كل شيء قدير، ومن كان هذه حاله فهو قادرعلى دفاعهم.
قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
دخول الفاء في قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) لتضمن الذي معنى
الشرط، كأنَّه قيل: إن أصابتكم مصيبة فإصابتها بإذن الله،(3/971)
وقد أصابتكم، فإذا كان بإذن الله، وأصل الإِذن العلم بالشيء
من أذنت له، أي استمعت إليه فعلمته، ثم يُقال في التعارف
لمن لا يمنع من فعل شيء مع العلم به، والقدرة عليه على منعه.
سواء أمر به أو لم يأمر: فعل كذا بإذنه، فإذا حُمل على العلم
فنحو قوله: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وإذا حُمِلَ
على الأمر فليس يعني أنه أمر الكفار بذلك، وإنما عنى أنه أمر
الملائكة المذكورين في قوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) .(3/972)
إن قيل: وإذا حُمِلَ على الأمر فليس يعني العلم.
فكيف يصح وقد قال بعده: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) ؟
قيل: ليعلم المؤمنين أي ليحصل إيمان المؤمنين، وقد تقدم حقيقة ذلك.
ثم بيّن تعالى ما كان من ذنوبهم، فقال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي استعملوا النفاق في أعمالهم.
ولمّا قيل لهم إمّا أن تحاربوا أو تحضروا مكثّرين للسواد دافعين عن
الحوزة، قالوا مجيبين بما حكي عنهم، وقول السدّي: ادفعوا
بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا، وقول غيره: رابطوا(3/973)
بالقيام على الجبل إن لم تقاتلوا، وقول غيرهما: احضروا موضع
الحرب. ليست بأقوال مختلفة في المعنى، كما قدره بعض
النَقَلَة، وإلا ذلك اختلاف عبارات وتعيين أمثلة لمقصد واحد.
وحمل بعض الصوفية ذلك على الجهاد فيَقول: معناه إما أن تبلغوا
منازل الصديقين في مجاهدة وإماتة الشهوات أو ادفعوها عن(3/974)
ارتكاب المحارم، وزُفُوها عن احتقاب الماَثم إلط لم تقدروا على
الأول، ثم عيّرهم بقولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) ، أي لو
صادفنا من أنفسنا منكرا لارتسمنا ما رسمتم، تنبيهًا أنه خفي عليهم
عيوب أنفسهم، وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) تنبيه على نفاقهم؛ وذاك أن المنافق كأنه بين الكافر والمؤمن، فإنه من حيث ما يُظهر الشهادتين، ويلتزم ظواهر الشريعة بالقول، وظواهر الأعمال محكوم له بالإِيمان، ومن حيث يتحرى في اعتقاده تحري الكفار كافر، وبين أحوال المنافقين تفاوت، بيّن تعالى بهذا القول أنهم في هذا القول بالكفار أشبه منهم بالمسلمين،(3/975)
وأقرب: قيل: هو من القُرب وقيل: من القَرَب من الماءِ.
ثم بيّن تعالى علة قربهم من الكفر، فقال: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، تنبيهاً أن الاعتبار في الإِيمان المستحق به الثواب
بالنيات والضمائر، لا بالأقوال المجردة عن الاعتقاد، ولهذا شهد
للمنافقين في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) بالكذب، فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ، وحكم لمن تلفظ
بالكفر من غير مطابقة الاعتقاد له بالإِيمان، فقال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) ، ثم حذّرهم عن اعتقاد غير الحق بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) ،(3/976)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
كقوله: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) .
وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .
وهذه الآية كالشرح لما أجمله في الأولى، حيث قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) .
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
هذه الآية من تمام صفة المنافقين عبد الله بن أُبّي وأصحابه.
قالوا: إن قتلى أُحُد لو أطاعونا في التأخُّر عن القتال ولزموا
بيوتهم ما قُتلوا، وإعراب (الَّذِينَ) : إما نصب على البدل من
(الذين نافقوا) ، أو رفع على خبر الابتداء المضمر، أو بدل من
الضمير في (يَكتمُونَ) .
إن قيل: لم أخّر ذكر القعود عن القول(3/977)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
مع كونه مُقدّما في المعنى؟ قيل: إن قوله: (وَقَعَدُوا) في تقدير
الحال، أي قالوا وهم قاعدون، كقولك:، خرج زيد وقد ركب.
ويكون ركوبه قبل الخروج، وقد أكذبهم الله في ذلك بقو له: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) وكأنه قال: القتل ضرب من
الموت، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري
فادفعوا عنها الموت، وإذ لم يمكنكم ذلك دلّ أنكم مبطلون قي
دعواكم.
قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)(3/978)
روي عن ابن عباس والحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لما أُصيب إخوانكم بأحُدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترِدُ أنهار
الجنّة، وتأكل من أثمارها، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش.
فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يُبلِّغُ إخواننا
عنّا: أنّا أحياء في الجنّة، نُرزق، كي لا ينكلوا عن الحرب؟ فقال
تعالى: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل هذه الآية".
فدل ذلك أن الأرواح أحياء تُثاب وتُعاقب قبل أن تُعاد إلى الأجسام يوم القيامة، وعلى هذا قال في صفة آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، ودل عطف قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(3/979)
أن عرضهم على النار قبل يوم القيامة.
وروي: "إنّ أحدَكم إذا مات عُرضَ عليه مقعده بكرة وعشية.
فيقال: هذا مقعدُك حتى تُبعثَ إليه ".
وهذا قول السلف وأصحاب الحقائق، الذين عرفوا حقيقة الروح المعنيّة هاهنا، وكونه جوهرا.(3/980)
له بذاته قوام، وأما متأخرو المعتزلة الذين لم يتجاوزوا منزلي
الِحسّ والوهم، ولم يروا الروح إلا ريحا أو عرضا، فبعضهم(3/981)
قال: يعني أحياء يوم القيامة، ووصفهم بذلك في الحال لقرب
القيامة عند الله، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ)
أي في علم الله، وبعضهم قال: أحياء بالذكر، وبعضهم قال:
أحياء بالإِيمان، وإرادة هذه المعاني بالآية غير ممتنعة، فإن
المؤمنين أحياء بكل ذلك، كما قالوا، ولكنهم مع ذلك أحياء
بالأرواح على ما ورد به الخبر، وزعمهم أن ما ورد من الأخبار
في أرواح الشهداء ليس بصحيح، فإن العقل لا يقتضي ذلك.
فهم إن عنوا العقول الصدئة التي عناها من قال:(3/982)
فلان لم يؤت من العقل إلا مقدار ما يلزم به حجة الله فقد صدقوا، وإن
عنوا العقولَ المجلوة السليمة من درن الهوى المعنيّة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) .
وبقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) فليس كما ظنوا.
ومن زعم أن القول بحياة الأرواح يؤدِّي إلى القول بالرجعة
فوهم فاسد، ولئن كان ذلك يؤدي إلى ما قالوه فإحياء الله مَن
وصفهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الآية.(3/983)
وإحياء عيسى الأموات أكثر تأدية إليه، وأما على طريقة
المتصوفة المذكورة في قوله: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا)
فإنهم قالوا: لما كان الإِنسان مركباً من بدن وروح، والعقل تابع للروح.
والهوى تابع للبدن، وبتوهين أحدهما تقوية الآخر، نبّه تعالى أن
من جاهد نفسه، وقتل هواه في سبيل الله فلا تحسبنّه ميتاً، وعلى
هذا قيل: قتل النفس في الدنيا حياة الآخرة.
إن قيل: لم وصفهم بالفرح، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ؟ قيل: الفرح تجاوز الحد في السرور بالملاذّ، ولما كانت(3/984)
الملاذّ الدنيوية غير متنافس فيها ذمّ الفرحين بها، ولما كانت
الملاذّ الأخروية متنافساً فيها، كما قال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أباح لهم الفرح بها، حتى قال: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) .
وأما استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فتنبيه أنهم يعرفون نعمة
الله بالموت والقتل في سبيله، ويسرون إذا أخبروا بقتل أو موت
إخوانهم بخلاف أبناء الدنيا، وقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) متضمنٌ لذكر كل شيء يكدر الحياة، فإن ما يعرض
في الدنيا: إما خوف لوقوع محذور، أو حزن لفوت محبوب.
والضمير في: (عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون ضميراً للذين لم يلحقوا بهم، وأن
يكون للمستبشرين، وأن يكون لهما.
إن قيل: لم رفع (أَحْيَاءٌ) ونصب (فَرِحِينَ) ؟
قيل: لأن (فَرِحِينَ) حال للذين قتلوا، والنصب به أولى، و (أَحْيَاءٌ) استئناف، ولو نصب لكان معناه: بل احسبهم أحياء، ولم يُرد ذلك، وإنما أراد بتّ الحكم بكونهم أحياء.(3/985)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قوله تعالى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
إن قيل: ما الفرق بين النعمة والفضل هاهنا؟
قيل: الإشارة بهما إلى المذكورين في قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) ، فالنعمة هي الحسنى والفضل هاهنا الزيادة.
إن قيل: لِمَ نكرهما؟
قيل: التنكير في مثله على وجهين:
أحدهما: ليدل على بعض غير معين.
والثاني: قصد إلى إبهام المراد تعظيما لأمره، وتنبيهًا أنه(3/986)
يصعب إدراك شرحه، وكأن التنكير في هذا إشارة إلى نحو ما
قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
إن قيل: ما حقيقة (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ؟
قيل: لما كان من الأعمال التي صورتها في الدنيا صورة العبادات التي يستحق بها الثواب ما هو في الحقيقة غير عبادة يستحق بها الأجر.
وإياها قصد بقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
بيّن هاهنا أن عمل المؤمنين لا يجري مجرى أعمال هؤلاء.
إن قيل: ما الفرق بين الإِفضال والإِحسان؟
قيل: كلاهما اسم الزيادة على فعل العدالة.
وتجاوز ما يجب إلى ما يستحب، لكن الإِحسان يُقال
باعتبار جمال الفعل في نفسه وتحرِّي تحسينه، والإِفضال يقال
باعتبار فعل بفعل أو فاعل، فيقال للزائد على الإجزاء فاضل.(3/987)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فالاستجابة لله وللرسول، وإن جمع بينهما في
الإِيجاب فالواجب بالقصد الأول استجابة الله، لكن لمّا لم تتم
استجابته إلا باستجابة رسوله صار ذلك واجباً، لأن ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب، والاستجابتان مختلفتان، فإن استجابة
الله بتوجيده وعبادته، واستجابة رسوله بتلقي الرسالة عنه وقبول
النصح منه.
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)(3/988)
قيل: سبب نزول ذلك أن أبا سِفيان وأصحابه تقدموا إلى نُعيم
ابن مسعود ورضخوا له شيئاً، وقالوا: إذا مررت بمحمدٍ
وأصحابه، فقل: إنا قد أجمعنا على قصدهم بخيلٍ لا قبل لهم بها.
فلما أتاهم، وقال لهم ذلك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
إن قيل: لِمَ: (قال لهم الناس) وإنما قال ذلك رجل واحد؟
قيل: لمّا كان القائل لنُعيم أبا سفيان وأصحابه المعبرّ عنهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سُمي الُمنبّئ عنهم بذلك (النَّاسَ) ، تنبيهاً
أن المخوِّفين في الحقيقة هم المخوَّف منهم، والآية وإن نزلت فيهم(3/989)
فالمعنيُّ بها هم ومن جرى مجراهم، ونبّه بما حكى من جوابهم
وفعلهم على نهاية ما يُطلب من إيمان العبد وتوكله لما أظهروا
قولاً وفعلًا، وبيَّن أنهم عادوا بنعمة وفضل في دنياهم وأخراهم
في أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا أنهم لا يَعْرض لهم في
الدنيا ما يُحزن ويُخوّف من سوء، ولكن لا يؤثر فيهم، والمقصود
بهذه النعمة والفضل أعظم مما قال بعض المفسرين من أن المسلمين
لما حضروا بدراً الصغرى، ولم يحضروا للموعد صادفوا بها سوقاً،(3/990)
فاشتروا ما ربحوا فيه، فكان ذلك هو الفضل والنعمة، فإن
أرباح التجارة الدنيوية أدون من أن يكون مقتصراً عليها في مقابلة
المتوكلين على الله، الراضين عن الله تعالى، المرضي عنهم.
وقوله (رِضْوَانَ اللَّهِ) يجوز من حيث تقدير الكلام: أن يكون على معنى،(3/991)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
أن رضي الله عنهم، وأن يكون على أن رضوا عن الله، فإن من رضي
عن الله فقد رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وذكر تعالى في الآيات الثلاث ثلاث فرق، بعضهم أخصُّ من
بعض، وذاك أن المؤمنين المستجيبين لله عام، والذين أحسنوا واتقوا
أخصّ،، فجعل تعالى للمستجيب لله أجرا غير مُعين، وللمحسن
المتقي في ذلك أجراً عظيماً، وهذا شبيه بما تقدم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (وَاللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
إن قيل: إلى ماذا أشار بقوله: (ذَلِكُمُ) ؟
قيل: فيه أقوال:
الأول: أنه إشارة إلى من قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)(3/992)
فسمّاه شيطاناً لمشابهته في فعله، والثاني: أنه إشارة إلى الشيطان
المتعارف بين الناس، أي الشيطان الذي عرفتموه هو الذي يُخوّف.
والثالث: إشارة إلى ما دل عليه قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) .
أي ذلك العارض الذي هو الوهن والحزن شيطان: كقول الشاعر:
ما ليلة الفقير إلا شيطان. . .(3/993)
وأمّا (أَوْلِيَاءَهُ) فقد قال ابن عباس: معناه: يخوفكم
أولياءه، فعلى هذا حذف المفعول الأول، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) ووقولهم: فلان يعطي الدراهم، فالأولياء على هذا هم المخوف بهم،(3/994)
وقيل: بل أولياؤه هم المخوَّفون، وذاك أن الناس ضربان:
ضرب لا سبيل للشيطان عليه، وهم المعنيون بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، وضرب بخلافهم، وهم الذين قال فيهم: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ، وقد صرّح تعالى بذلك في قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
إلى قوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) .
وحقيقة خوف الله أمتثال أمره، وعلى هذا(3/995)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
قال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ثم قال: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، تنبيها أن من فرط الإِيمان التحققُ أن ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا، ومن علم ذلك علم أوامر الله، فاتّبعها في ترك ما يأمر به الشيطان.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
كما نهى تعالى عن الخوف مما يُتوقع من حزب الشيطان، نهى عن
الحزن على ما يفوته منهم، ووصف الكفار بالمسارعة في الكفر.
كما وصف المؤمنين بالمسارعة في الإِيمان، فقال: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ، وحقيقة المسارعة في ذلك أن يترقى الإِنسان فيما يتحرّاه منزلة فمنزلة، خيرا كان أو شرا، فيتعوَّده فيتقوَّى به(3/996)
على المنزلة الثانية، لأن الشر حاصلٌ بعضه عن بعض، وحاملٌ
بعضه بعضاً، وكذا الخير، وعلى هذا قال أمير المؤمنين: تبدو
نكتة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإِيمان ازداد البياض، فإذا
استكمل الإِيمان ابيض القلب كلّه، وإن النفاق يبدو نكتة سوداء.
كلما ازداد النفاق ازداد السواد، فإذا استكمل النفاق اسودّ
القلب كلّه، وبيّن أن لا يعود إلى الله من مسارعتهم في الكفر(3/997)
مضرة، كقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .
إن قيل: كيف جعل العلَّة في قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) أنهم لن يضروا
الله شيئاً، ولم يكن المسلمون يحزنون، لأجل أن خطر لهم أن
هؤلاء يضرُّون الله، إنما كان حزنهم أن يضروهم؟
قيل: معنى ذلك لن يضروا أولياءه، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى يقول: من آذي لي وليّا قد آذاني ".
وعلى التتبيه على هذا المعنى قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
وقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)(3/998)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
يريد إحباط عملهم بما استحقوه من الذنوب.
وقيل: يريد الحكم بحرمان ثوابهم، وأن لا يجعل
لهم ما يستحقه المطيعون، والفرق بين السرعة والعجلة إذا
اعتبرنا بنفس الفعل، هو أن السرعة أن لا يترك الأمر يتأخر عن
وقته، والعجلة فيه أن يقدمه على وقته، وإذا اعتبرنا بقوى النفس
فالعجلة ما يفعل على مقتضى الشهوة، والسرعة تقال فيها وفيما
يُفعل على مقتضى الرأي والفكرة، ولذلك ذم العجلة على
الإِطلاق، وقد حَمِدَ السرعة في مواضع.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)(3/999)
قد تقدَّم حقيقة الشرى والبيع إذا استُعملا في الكفر والإِيمان.
وقال كثير من المفسرين: هذه الآية في معنى الأولى، وقد أعيدت
تأكيدا، والصحيح أن الأول ذمٌّ للذين تحرّوا الكفر وتزايدوا
فيه متسارعين، وهذا ذمٌّ لمن حصّل الإِيمان فأفرج عنه، واستبدل
به كفراً، وهم الذين وصفهم بالارتداد على أعقابهم، وذمّ لمن
مُكَن من الإِيمان فرغِب عنه، وآثر الكفر عليه، فصار كالبائع
إيمانه بكفر.
وقوله: (شَيْئًا) في موضع المصدر، أو تقديره(3/1000)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
بشيء، فحذف الجارّ ونصبه، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان
عذابا أليماً، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى، حيث وصفه
بالعِظَم، إذ يقال العظيم اعتباراً بغيره مما هو من جنسه، وقد لا
يكون شديد الألم، وأليم يقال لما تناهى في الألم، إذ هو بناء
المبالغة، ويقال: هو أليم، سواء اعتُبر بغيره أو لم يُعتبر.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)(3/1001)
الإملاء إطالة المدة، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) .
وتملّيت حبيبا، وإملاء الكتاب على أحد القولين، والملوان.
وإذا قرئ بالياء فسهل، واذا قرئ بالتاء فصعب، فالذين كفروا
هو المفعول الأول، ولا يصح أن يجُعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) المفعول
الثاني، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر.
ويجبُ أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى.
و (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ولا يصح أن يجعل بدلاً كما جُعِل في(3/1002)
قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) .
وفي قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب (خيراً) حتى يصير المفعول الثاني، فيجب أن يكون بالياء
أجود، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي(3/1003)
أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا.
قالوا: والله يتعالى عن هذا القصد، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(3/1004)
فمنهم من قال: الآية على التقديم والتأخير.
وتقديرها: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
بل إملاؤنا خير لهم، ويكون مفعول (وَلَا يَحْسَبَنَّ)
هو (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) ، وعلق أن، وجعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعِلّة لتأخيرهم، تنبيهاً أن ذلك أولاهم ليصير معونة
لاكتسابهم الخير لأنفسهم، وهذا فاسد، لأن إنما يصح أن
يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره، ومنهم من قال:(3/1005)
الكلام على الترتيب، والمفعول هو (أَنَّمَا) وجعل اللام لام
العاقبة، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبييناً لقصد
الفاعل بفعله نحو (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
وتارة تبييناً لما أدى إليه الفعل، لا لقصد الفاعل، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (عَذَابٌ مهِين) ؟
قيل: لما ذكر هاهنا إملاء الإِنسان في الأعراض الدنيوية.
وذلك قد يكون في الدنيا هواناً وعذاباً(3/1006)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
لصاحبه، وهو لفقدان بصيرته يقدر أن الهوان في فقدانه فلا يُفرج
عنه؛ ذكر الهوان الذي هو أعمُّ الألفاظ الثلاثة من (العَظِيم)
و (اَلأَليم) و (ألمُهِينِ) ليعم الدارين، وعلى هذا قال:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
الخبيث: مستعار للعمل السيئ، والطيّب: للعمل الصالح(3/1007)
تشبيهاً للذِكر المسموع بالنشر المشموم، وعلى هذا قال الشاعر:
تبحثت عن أخباره فكأنما. . . نبشت صدأه بعد ثالثة الدفن
وقال اَخر:
. . . ثناء مثل ريح الجورب
وعلى هذا حمُل (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) ، (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ)
أي الأعمال في الخبث والطيب جارية مجرى فاعليها، وقيل: المؤمن
أطيب من عمله، والكافر أخبث، والاجتباء: كالاصطفاء،(3/1008)
وأصله الجمع، فكأن من اجتباه الله ضمَّه إلى نَفْسِه حتى يكون له
بأجمعه، بخلاف من قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)
وإلى ذلك الإِشارة بقوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وتحقيق التمييز من الله لا على سبيل التعرف، بل ليحصِّل الخبيث خبيثاً والطيب طيبا، وذلك حقيقة التكليف، وقد كرر الله تعالى هذا المعنى مع كل فصل، فقال:(3/1009)
(وَلِيَعلَمَ) ، (وَليَبتَليَ) و، (وَليمحصَ) و (لِيَمِيزَ) .
وقال من بعد: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ) ، كل ذلك
تنبيهاً على أن التكليف في الحقيقة هذه الأشياء، وأما الغيب فكل
ما لا تدركه الحواس وبداهة العقول، وهذا على القول
المجمل ثلاثة أضرب: ضربٌ استبد تعالى به ولم يُطلع عليه
أحداً لا الملائكة المقربين، ولا من دونهم، لاستغنائهم عنه.
وضرب قد يُطلِع عليه أصفياء عباده، وهو حقائق العلوم، وذلك
بحسب ما عُرف من حاجتهم إليه ومصلحتهم فيه، وإياه عنى
بقوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) .
وبيّن في الآية أن اطلاع العامة على غيبه وأقضيته(3/1010)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
منافٍ للحكمة، وذلك أن جماعة من الكفار سألوا النبى - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: هل نحن ممن يؤمن؟
ثم قال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تنبيهاً
على التوكل على الله وحُسن الظن بنبيه، والتحقق أنه يفعل بعباده
ما هو أصلح لهم، وأنّ بالإِيمان والتقوى يُستحق الأجر العظيم.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قُرئ بالياء على تقدير: لا يحسبن الباخلون البخل هو خير(3/1011)
لهم، فحذف البخل الذي هو المقعول الأول، لدلالة (يبخَلونَ)
عليه، كقولك: من كذب كان شرًّا له، وإذا قُرئ بالتاء فتقديره
لا تحسبّن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فحذف المضاف
لظهور المعنى، وبيّن بالآيتين أنهم جعلوا أعمارهم وأموالهم
مصروفة إلى ما أورثهم إثما أو عقوبة يوم القيامة، وتطويقهم ما
بخلوا به على طريق التشبيه والتقريب، نحو ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - "يأتي كنز أحدهم يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق
في حلقه،(3/1012)
فيقول: أنا الزكاة التى منعتني ".
وعلى هذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ، ونبّه بقوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على انتقال ما في أيديهم إليه، كما قال:
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، ونبّه أن ما خوَّلهم
لو أنفقوا على ما يجب وكما يجب لاستحقوا ثواباً، فلمّا لم يفعلوا
ذلك انتقل عنهم، وصار عقوبة لهم، وكأنه إلى مقتضى معناه
أشار من أوصى، فقال: اكتبوا هذا ما خلّف فلان يسوءه وبنوه(3/1013)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
انتقل عنه نفعه، وخفي عليه وزره، وبيّن أنه عالم ببخلهم، وما
يؤول إليه حالهم، وما يخبرهم به.
قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
لمّا أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال قوم من
اليهود تهكماً على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله فقير ونحن أغنياء، يستقرض منّا، فأنزل الله تعالى ذلك، ولم يُعَيرِّهم أنهم اعتقدوا فقر الله.
وإنما عيّرهم تجاهلهم وتكذيبهم وصرفهم الكلام إلى غير الوجه المقصود به، وعلى هذا قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) .(3/1014)
ونبّه بقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ) أنهم ارتكبوا
من المعاصي ما هو مثل هذا القول، أو أكثر منه، ولم يقل (بغير
حق) : أن في قتل بعض الأنبياء حقًّا، ولكن جعل ذلك حالهم
على العموم، أي هو في كل حال على غير حق، وكَتْبُ ذلك
قيل: هو على الحقيقة، وقيل: هو على طريق المثل، عبارة عن
حفظه، وأنه لا ينسى، واعلم أن الكتابة جعلها الله لنا عوناً(3/1015)
لحفظنا، وذاك أن اللفظ لا يُفهم إلا القريب دون البعيد، وإلا
الشيء بعد الشيء، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال، فربما لا يعيه
السمع، وإذا وعاه فربما لم يتصوره، وإذا تصوَّره فربما أخلّ به
الحفظ فأعانه الله بالكتابة، لتكون تكملة لقوة النطق، وواعية لما
يضيع من الفهم، ومدركة جملةً في حالة واحدة، فعُلِم من ذلك
أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل
أفهامنا، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال: كتب الملأ الأعلى
أعمالنا، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم؛ ولكن
لجبران نقيصة البشر، وليتذكَّر به ما لعله نسي، وليرى صورة
أعماله المتفرِّقة دفعة، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص
القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في
الآخرة؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة، وحينئذ قال: وعلى ذلك وصف
الكتابة بالنطق في قوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) .
وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وعلى هذا سمّى(3/1016)
الوحي كتابا، فقال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) ، ومعلوم أن
المنزل لم يكن وقت الإِنزال مكتوبا، قال: وعلى هذا معنى قوله:
تعالى (كِرَامًا كَاتِبِينَ) أي حافظين، وقال: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) .
قال: وعلى هذا قول الشاعر:
صحائف عندي للعتاب طويتها. . . ستُنشر يوماً والعتاب يطول
وهذا القول وإن كان له مساغ في مجاز اللغة، فأهل الأثر
على الوجه الأول، والله أعلم بحقائق أحوال القيامة، ومعنى(3/1017)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
(وَنَقُولُ ذُوقُوا) أي نُذَوِّقهم ذلك، ونوجب لهم.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
أي نكتب ما قالوا ونعاقبهم عليه جزاء لما ارتكبوه.
إن قيل: لِمَ خصّ اليد، وفيما ذكره عنهم أفعال بغيرها من الجوارح؟(3/1018)
قيل: لما كانت اليد هي الآلة الصانعة المختصة بالإِنسان، فإنه لما
كفى كل واحد من الحيوانات بما احتاج إليه من الأسلحة
والملابس، وسخّره لاستعمالها في الدفع عن نفسه، وخلق
الإِنسان عارياً من كل ذلك، جعل له الرؤية واليد الصانعة.
ليعلم برؤيته، وليعمل بيده فوق ما أعطى الحيوانات، فلما كان
لليد هذه الخصوصية صارت تُخص بإضافة عمل الجملة إليها.
إن قيل: لِمَ خص لفظ ظلَّام الذي هو للتكثير في نفي
الظلم في هذا المكان، ولم يقل على ما قال في قوله: (لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟
قيل: إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يُظن بمن يعذب غيره عذابا(3/1019)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
شديداً أنه ظلَّام قبل أن يُفحص عن حال جُرمه، بيّن تعالى
ذنبهم، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلَّام لهم، وإن كان
قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلَّام. تعالى الله عن الظلم.
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
القربان: أصلُه مصدرٌ كالشُكران والكُفران، وفي التعارف(3/1020)
اسم لما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى، وكَثُر استعمالُه في
النسيكة، والعهدُ كالعقد، ولمّا تعورف في الوصية والأمر.
كثُر استعماله مع: إلى، فقيل: عَهِدَ إليه، ولمّا ادعى اليهود
على ما أوقع شبهةً للجهلة، وكان حلُّها يصعب عليهم على
التحقيق، وربّما كان اليهود مع ذلك يشغبون فيه، سلّم
دعواهم كتسليم جدل وناقضهم فيها، وكأنه قيل:(3/1021)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
هَبِ الأمر كما قلتم أليس من الحق أن لا تقتلوا من الأنبياء من جاءكم
بالبيّنات وبالذي قلتم، وإذا قتلتموهم ولم تقبلوا قولهم، دلَّ
ذلك أنكم كاذبون في دعواكم؟ أنه عَهِدَ إلينا بذلك، فهذا معنى
قوله: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، وهذا أوضح
دلالة وأقربها مأخذاً وأخزاها لهم.
قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
إن قيل: لم قال: (وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ) والزبور هو الكتاب.
لقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كخطِّ زبور عسيب يمان(3/1022)
قيل: قد قال بعضهم: الزبور هو الكتاب المقصور على الحكمة
العقلية دون الأحكام الشرعيّة، والكتاب في تعارف القرآن
ما يتضمن الأحكام، ولهذا جاء في عامة القرآن كتاب وحكمة.
ففصل يينهما لهذا، واستعمل الكتابة في معنى الإيجاب، فعلى هذا
اشتقاقه من زبرت الشيء أي حكمتُه.
وقيل: الزبور اسم لما أجمل ولم يفصَّل، والكتاب يُقال لما قد فُصِّل.
قيل: واشتقاقه من الزُّبرة أي القطعة من الحديد التي تُرِكت بحالها.
وعلى هذا قال الشاعر:(3/1023)
وما السيفُ إلا زبرة لو تركتها. . . على الحالة الأولى لما كان يقطع
وقيل: الزبور ها هنا اسم للزاجر من قولهم: زبرته أي زجرته.
قال: وبيّن أنه تعالى أتاهم بالآيات الدالة على الوحدانيّة والنبوة.
وبالمزاجر المعنيّة بقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعتاب له.
فقد رُوِيَ أنه قال: "ما لقي أحد في الله ما لقيت".
فنبّه أن حال الأنبياء قبله كحاله، وحال أقومهم كحال قومه، وليس الشرط في نحو هذا الموضع للشك، كما تصوره بعض المفسرين، فأخذ يتخبط في جوابه، وإنما ذلك(3/1024)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
للتحقيق، ومورده كقياس شرطي موجب للحكم، وبيانه
إن كذَّبوك فقد كذبوا من صدَّقك، وقد صدَّقك الرسلُ قبلك.
فإذا كذَّبوك فقد كذَّبوا رسُلًا من قبلك.
قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
الفوز،: إدراك الأمنيّة. والمفازة في قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ) مصدر، ويُقال للمهلكة: مفازة تفاؤلاً، والصحيح أنهم لمّا رأوها تارة سببا للفوز، وتارة سبباً للهلاك سمّوها بالاسمين، وذلك بنظرين مختلفين، وكذا قولهم: هلك، وفاز، إذا مات،(3/1025)
كأنه رُئيَ الموت في بعض الناس هلاكا له، وفي بعضهم فوزا
له، إما لكونه متبلغا بذلك إلى فوز الآخرة ونعيم الأبد.
وإما لخلاصهم من شدَّةِ يَرَى الموتَ في جنبها فوزا.
وكذا النيّة أراها والأمنيّة من أصلِ واحد بنحو هذين النظرين.
وتخصيص الذوق هاهنا من حيث إنه ذكر الباخلين بالمال.
وهو قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ. . .) الآية.
وأعظم البخل بالمال يكون خشيةً من فقدان الطعام الذي به قوام الأبدان، ولهذا ذكر(3/1026)
ألأكل في عامة المواضع التي ذكر فيها احتجاز المال، نحو (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) فبيّن بالذوق أن الذي يخافونه طعام لابد منه، والغرور: مصدر أو جمع غارّ، كرقود، وقعود، في
جمع راقد وقاعد، والمتاع: التمتع،(3/1027)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
فنبّه أن السكون إلى الدنيا والتمتُّع بها غُرور، وأن الكيّس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت، واقتصر على زاد يتبلَّغ به.
قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قيل: سبب نزولها أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/1028)
ويحرِّضُ المشركين عليه حتى قتله محمد بن مسلمة.
وقيل: بل هو أن سمع أبو بكر يهوديًّا يقول: ترى إله محمدٍ فقيراً
حتى يستقرض منّا، فلطمه أبو بكر، وجُملة الأمر أنّ جميع
ما يُبتلى به الإِنسان ويُتعبَّد به ثلاثة أشياء: إما متعلّق بالمال.
وإمّا بالنفس، وإمّا بمجاهدة العدو، وأعظم المجاهدة الصبر(3/1029)
على الأذى المسموع من الأعداء، إذ هو سبب الشرور، ولهذا
قال الشاعر:
. . . وإن الحرب أولها كلام
فبيّن تعالى أنكم إن صبرتم - واتقيتم في هذه الأمور التي تُبلون
بها، فإن ذلك من عزم الأمور.
إن قيل: ما معنى: من عزم الأمور، وما الأمور التي جعل تعالى هذه الأشياء من عزمها؟
قيل: العزم: ثبات الشيء على الشيء، وإمضاؤه، والحزم
يقاربه، إلا أن العزم بالإِمضاء أشبه، إذ هو من العزم،(3/1030)
أي القطع، والحزم بجمع الرأي أشبه، إذ هو من حزمت الحطب
والقصب، أي جمعتُ، ولذلك قيل،: أحزم لو أعزم.
وأما الأمور التي عناها فيجوز أنها الثواب الذي جعل للصابرين
والصالحين والمتقين، وما أشبه ذلك، ويجوز أن تكون الأمور
إشارة إلى ما تقدم، ونبَّه أن بالصبر والتقوى يُتوصَّل إليه.(3/1031)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
النبذ: طرح الشيء لقلّة الاعتداد به، وقولهم: جعلت كذا
خلف ظهري أي أهملته.
وقيل: تقدير الآية على ما يقرب من فهم العامة.
وإذ نَبَذَ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق من تبيين ما أوتوه من الكتاب للناس، واشتروا به ثمناً قليلًا، وقد تقدّم الكلام في أخذ الميثاق عليهم، وكيفية ذلك(3/1032)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
وفي معاني الثمن القليل.
قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
المفازة من العذاب: هي المنجاة في قول الشاعر:
تحل بمنجاة من اللوم بيتها. . .
والكلام في تكرير (لَا تَحْسَبَنَّ) ، ودخول "الفاء في الأخير(3/1033)
منه صعب، وقد قال الزجاج: لا تحسبن، مكرر لطول القصة.
قال: والعرب تعيده إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها.
إعلاما أنّ الذي جرى متصل بالأول، تقول: لا تظنن زيداً إذا
جاءك وكلمك بكذا فلا تظننّه صادقا.
وقيل: الفاء زائدة.
والوجه في ذلك عندي أن قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) على الخبر وتقدير
الكلام فيه، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار
النار، ويقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)
والمعنى: والله إنك لا تحسبهم حينئذٍ أنهّم بمفازةٍ من العذاب.
أي لهم سبيل إلى الخلاص فلا تحسبنهم الآن، وهذا نهي والأوّل خبر،(3/1034)
وحذف مفعول أحد الفاعلين، وإذا قُرئ بالياء، فكذلك، ويكون
بتقديره: لا تحسبنّ أنفسهم كذلك.
والآية قيل: نزلت في قوم دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فنافقوه، فلمّا خرجوا، أثنى عليهم بعض الناس ففرحوا بذلك.
وقيل: نزلت في الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعّوا علماً وعبادة أثنى عليهم بها قومهم،(3/1035)
وقيل: نزلت في المنافقين المتخلفين عن الجهاد، المدعين دعاوى يُحبون
أن يُحمدوا عليها، وكيف ما كان. فالآية عامة في النهي عن
الرياء والتشبُّع، والذمّ لمن فعل خيراً ففرح به، وإلحاق الوعيد
بمن أحب أن يُحمد بما لم يفعل.
وقد رُوي أنّ إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها:
إذا أُعجب بنفسه،(3/1036)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
واستكثر عمله، وسُرَّ بمدحه بما لم يفعله.
إن قيل: - فكيف قال عليه السلام: "من سرّته حسنته
وساءته سيئته فهو مؤمن "؟
قيل: السرور بذلك محمود، والفرح به مذموم.
وقد تقدَّم الفرق بينهما، وبين بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
مع أنهم لا ينجون، فإنهم يعُذَبون عذاباً أليما.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)(3/1037)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
أتبع تكذيبهم فيما قالوا: إن الله فقير. وتبكيتهم
فيما فعلوه، وما وعدهم به من العذاب بما أنبأ
عن قدرته عز وجل وسعة ملكه.
وأن لا سبيل لهم إلى النجاة وإلى الخروج
عن ملكه وسلطانه، وهذا هو المعنى
الذي تحرّاه النابغة بقوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي. . .
لكن على الآية رونق الإِلهية وتعميم الملك والقدرة بلا مثنويّة.
وإضافة الفعل إلى موجد الليل والنهار.
قول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)(3/1038)
نبه تعالى أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى، وأن
جميع هذه الأشياء لا تنفك من ثلاثة أضرب:
إمّا موجود العين، قائم الجوهر، قابل للانتقال
وتبذل الأمكنة بأجزائه: كالسماء والنجوم.
وإمّا قابلٌ للاستحالة والتغير بجملته وأجزائه.
وذلك كالأرض وما عليها، وإما أن يكون مما لا بقاء له بحاله.
بل ينصرم، ويقابله نظيره كالليل والنهار، وقد ذكر ثلاثتها.
ونبه على حدوثها، لأن المتنقل لا ثبات له، والمستحيل لا بقاء له.
وما كان هذا حاله فغير منفك من دلالة الحدث، وما لم يخل من
محدِثٍ فمسخّر له، ومحال أن يكون المسخَّر المُحدَث أزليًّا واجب
الوجود، فإذن لابد له من موجد يوجده، وموجده واجب
الوجود، وذلك هو الباري تعالى، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .(3/1039)
ونبّه بقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أن من لم يكن ذا لُبٍّ قلَّ عناؤه في التفكُّر فيها، واللب هو اسم للعقل أزيل عنه الدرن، وذاك أن العقل وإن كان أشرف
مُدرك من الأشياء فهو في الأصل كسيف حديد لم يُطبع ولم يُصقل.
فإذا تُفُقِّد وتُعُهِّد بالحكمة صار كسيف طبع، فأُزيل خبثه، وشُحذ
حَدُّه، وكل موضع يذكر الله تعالى فيه أجلَّ مُدرَكٍ لا يمكن إدراكه
إلا بأجلِّ مُدرِك.
قال بعض الصوفية: هذه المنزلة وإن خُصَّ بها أولوا الألباب فمنزلة الأنبياء والأولياء أشرف منها، لأنهم ينظرون من خالق السموات والأرض إليها، ولهذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -(3/1040)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ، وهذا الذي قاله صحيح.
فإن الإِنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولاً بتدبر
مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته
به، فيصير ما كان دالا مدلولاً، وما كان مدلولاً دالا، وبهذا
النظر قال من سُئل: بِمَ عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل ما
سواه.(3/1041)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
الذكر: ذكر باللسان، وذكر بالقلب.
وذكر القلب ذكران: ذكر عن نسيان، وهو إعادة ما انحذف عن الحفظ، وذلك هو التذكر في الحقيقة، وذكر هو إدامة مراعاة ما ثبت في الحفظ.
وقوله: (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) عبارة عن حال الاضطجاع، وعلى
ذلك قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)
فمن حمل الآية على الصلاة، وقال: معناه لا يخلون بها
في شيء من أحوالهم قائمين إذا قدروا، قاعدين إذا عجزوا،(3/1042)
وعلى جنوبهم إذا مرضوا.
وقد رُوي في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسهل بن حنيف: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ".
ثم تلا الآية، ومنهم من جعله أعم من(3/1043)
ذلك، وقال: لا ينفكون من ذكر الله في جميع أحوالهم.
كقولك: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) .
ومنهم من جعله أعمّ من ذلك أيضا، وقال: معناه لا يتحرُّون بجميع
أفعالهم إلا وجهه، وبيان ذلك أن مباحات أولياء الله كلها
قُرَبٌ يُستحق بها الثواب، وذاك أنهم لا يأكلون ولا ينامون إلا
وقت الضرورة، ومقدار ما يستعينون به على العبادة، وما لا تتم
عبادتهم إلا به فذاك واجب كوجوبها.
وذلك قوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -:(3/1044)
"تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله ".
وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)
أي يقولون وليس يعني بذلك القول من دون العلم.
فإن ذلك إقامة شهادة، ومن شهد بشيء وهو على ما
شهد به، لكن لا يعلم كونه كذلك فشهادته مردودة بدلالة
قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
ومن عرف حقيقة ذلك وأقام هذه الشهادة فكأنهم شهدوا الله وهو يخلق(3/1045)
السموات، ولهذا قال تعالى في ذم الكفار حيث ثكلوا هذه
الفضيلة، فقال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وفي قوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) تنبيه أنه قصد تعالى بخلق هذه الأشياء قصداً صحيحا.
وذلك ما قاله الحكماء أن القصد بخلق السموات والأرض
إنّما هو الإِنسان، وإنّما خلق النبات والحيوانات قواماً له.
قال: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) .
والقصد بخلق الإِنسان أن يستخلفه في الأرض، فيقوم بحق الخلافة.
ويبلغُ بها إلى أعظم السعادة في جواره.
وعلى ذلك قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فلما تحقق المتفكرون ما لأجله خُلقت السموات والأرض، وعرفوا مآلهم سبَّحوه، واستعاذوا به من النار.(3/1046)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
يقال: خَزِي الرجل: إذا لحقه انكسار.
إمّا من نفسه بإفراط، يقال في مصدره الخزاية.
وإمّا من غيره، ويقال في مصدره الخزي.
وعلى هذا هان وذل، متى كان ذلك من نفسه.
يقال له الهُون والذُل، ومتى كان من غيره يُقال له الهوان والذل،(3/1047)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
والآية من تمام الحكاية عن المتفكرين في خلق السموات والأرض.
قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
الأبرار جمع بر وبارٍّ، نحو جَدّ وأجدادٍ، وصاحبٍ وأصحاب.
وأصله من البرّ أي المكان الواسع، فبرّه خوله برًّا، أي سعْة.
ويُقال للإِنسان إذا أكرم من دونه وأكرمه من فوقه برّه،(3/1048)
كما يقال فيهما: أحبَّ ووالى، والأبرار: هم الموصوفون
بقوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) .
والمنادي للإِيمان والداعي إليه: قد يكون العقل.
وكتابه المنزَّل، ورسوله المرسل، وآياته الدالة.
وإن كان الأظهر في هذا الموضع أن يكون الرسول.
لقوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ،(3/1049)
وقوله: (أَنْ آمِنُوا) يعني أي آمنوا، أو بأن آمنوا.
إن قيل: فعلى أي وجه قال: (فَآمَنَّا) ؟ أعلى طريق الامتنان، أو
الإِعلام. فإن كُلًّا مستشنع إيراده على الله تعالى؟
قيل: بل على طريق الامتثال، وليس هذا إشارة إلى أنهم قالوه نطقاً فقط، بل إلى أنهم حققوه فعلًا.
إن قيل: كيف جعل غُفران الذنوب وتكفير السيئات قبل التوقِّي؟
قيل: لأن تمام غُفران الذنوب وتكفير السيئات أن يوفّق العبد في الدنيا لمرضاته، ويحرسه عن تعاطي السيئات، ليكتسب ما يترشح به
لاستحقاق الثواب.
وقوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) نحو ما حكى عن غيره في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(3/1050)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
وفيه تنبيه أنهم لا يكرهون لقاء الله.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ".
قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
إن قيل: ما فائدةُ استنجازِ وعده مع العلم بأنه لا يُخلف؟(3/1051)
قيل: إن وعده تعالى عِبادَه على طريق الجملة، نحو قوله تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) .
وليس هذا السؤال خوفاً من إخلاف وعده، ولكن سؤالا أن
يرشحه لأن يكون من جملة من دخل في الوعد.
ولهذا قال: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) تنبيهاً أني لست أخشى خُلْفَ وعدك، لكني أخشى أن لا أكون من جملة الموعودين.
وقد قيل ذلك هو على جهة العبادة، وقد تقدم أن ليس القصد التفوُّه بذلك، بل فعل ما يقتضيه.
وقوله: (عَلَى رُسُلِكَ) أي على ألسنتهم، وعلى ما وعدت بإجابتهم.(3/1052)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
استجاب: أراد إجابتهم، والاستجابة في الحقيقة غير الإِجابة.
وإن كان يفهم منه ذلك، وقول الشاعر:
وداعٍ دعا بعد الهدوءِ من السرى. . . فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ(3/1053)
فهو أبلغ من قولك: لم يجبه، إذ فيه تنبيه أنه تعالى لا يضيع
عمل من لم يخرج عن الإِيمان بشرك، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
وذَكَر الذكر والأنثى، فقد رُوي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول الله، ما بال
الرجال يُذكرون في الهجرة دون النساء؟
فأنزل الله ذلك،(3/1054)
و (مِن) للتبيين، أو لاستغراق الجنس لتقدُّم النفي.
إن قيل: ما معنى قوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في هذا الموضع؟
قيل: تنبيهاً أن الأنوثية والذكورية لا تقتضي اختلاف الحكم في هذا الباب، وإنما الاعتبار بالأعمال والنيات، فمن قصد فيما يتحراه وجه الله فله
بقدره ثواب، ثم بيّن أنّ للذين هاجروا فضل رتبة، كما قال:
(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) .
ولم يعن بالمهاجرة والإِخراج من الديار ما كان من الكفّار فقط.
بل عناه ومن هاجر الأفعال القبيحة(3/1055)
والأخلاق الكريهة، وقاتل نفسه حتى قهرها.
والظاهر من قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)
أن ذلك حكم الآخرة، وعليه أهل الأثر.
وقال بعض الصوفية: عنى بتكفير سيئاتهم إزالة درنهم عنهم في الدنيا.
قال: وهذا المعنى هو المراد بقوله:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، وإدخالهم الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار التمكين من زهرات العلوم والاطلاع على كثير من الغيوب، التي وصفها حارثة في حقيقة الإِيمان.
حيث قال: وكأني بعرش ربي بارزا.
وقال: والأنهار هي أنهار الماء(3/1056)
المذكور في قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) .
قال ابن عباس: قرآنا، ثم قال: (ثَوَابًا فِن عِندِ اَللَّه) تنبيهاً أن هذا ثوابه
عاجلًا في الدنيا.
ثم قال: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
إشارة إلى ما له في الآخرة من الثواب، والله أعلم بما ادعاه هذا
القائل) .
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)(3/1057)
بعد قوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) على القول الأول؟
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أنه بيّن بقوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أن ما ذكره ثواب لهم.
ثم أخبر أن هذا الثواب لا يوجد إلا عنده.
فيكون قوله (أحسن، الثواب) إشارة إلى المذكور قبله.
والثاني: أن يكؤن حسن الثواب غير المذكور أولاً، فنبه أنّ ما
ذكرت أولاً هو الذي عرفتكم، وعند الله حسن الثواب، الذي لم
يُعَرِّفْكُموه لعجزكم عن الوقوف عليه إشارة إلى المذكور في
قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)
وفي قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .(3/1058)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
أصل الغًرِّ: الطيُّ الذي ينكسر عليه المطوي، فجُعِلَ عبارة
عمن انطوى على اعتقاد يمنع عن رفع بصيرته، ولذلك سُمي
الاعتمّاد طَوِية، ونحو الغرِّ الاستدراج تشبيها بالمدرج، ومن
هذا قال: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ؛ والتقلب في البلاد ليس يعني
المشي فيها، وإنما يعني التوسع في أعراض الدنيا،(3/1059)
والمتاع: ما فيه تمتع ما، والآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن جعل ما يتمتع به في الدنيا وإن كَثُرَ.
قليلًا في جنب ثواب الله تعالى.
فلا يجب أن يُغتر به، إذا اعتُبر بما يحصل
لأربابها في المآل من العذاب.
والثاني: أنه أراد بالقليل قلة الفناء.
وأراد بجهنم: جهنّم الدنيا وجهنّم الآخرة، تنبيهاً أن من حصل
له مال لا ينفك من شُغلٍ لا ينقضى عناؤه، وفقر لا يُدرك
غناؤه، وحزنٍ على فوت محبوب، وخوفٍ على فقد مطلوب.
كأنهم في جهنم من سَلْب ما لهم، وفي جهنم عند مآلهم، كما
قال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
وذكر (الْمِهَادُ) على سبيل المثل،(3/1060)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
كقوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ) .
قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
ذكره تعالى لـ (لَكِنِ) لكون حكم ما بعده منافياً لما قبله.
وقد ذكر في قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
الوجهان اللذان ذكرا في قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) . وقيل: عنى به أنهم من طيب عيشهم في القناعة.
ورفضهم فضولات الدنيا في جنّاتٍ صفتها كذلك.
وذلك على التشبيه، وإياه قصد بقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .(3/1061)
قال: والذي يدلّ على هذا قوله: (نُزُلًا) .
والنزُلُ ما يجُعل للإِنسان في طريقه، ليستعين به على سفره.
وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أو تفسير، كقولك:
هذا لك هبة، وفي قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) ،(3/1062)
الوجهان المذكوران في قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) .
وقيل: عنى بذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ".
تنبيهًا أن المؤمن يتبرم بها شوقا إلى ما أُعِدَّ له.
والكافر يطمئن إليها، ويشتاق إليها عند فراقها مع ما فيها من
الشوائب لما أُعِدَّ له من العذاب.
وقال عبد الله: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها.
ثم تلا هذه الآية في الأبرار.
وتلا قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) في الفجار.(3/1063)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
الخشوع: كالخضوع، لكن أكثر ما يقال في الخشوع ما اعتُبر
فيه حال القلب، والخضوع فيما اعتُبر فيه حال الجوارح.
وإن كان يُستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر.
فقول الحسن: الخشوع ثبات الخوف في القلب.
وقول غيره: هو ما يظهر من الخضوع الدال على الخوف
من عقاب الله، واحد في الحقيقة،(3/1064)
ولما ذم فيما تقدم كفار أهل الكتاب بيَّن هاهنا: أن من خالفهم
في سوء اعتقادهم وأفعالهم فحكمهم بخلاف حكمهم.
وذكر ما فيه تنبيه على الإِيمان والأعمال الصالحة، وترك تتبُّع دِقَاق
المطامع، وذلك أحكام الشرع.
إن قيل: ما فائدة قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ها هنا؟
قيل: الحساب إشارة إلى الثواب المجعول لهم في مقابلة فعلهم.
وسقاه حساباً لقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
وبيّن بقوله: سريع الحساب أن ذلك لا يتأخر عنهم.
لما كانت النفس مولعة بحب العاجل.
ونبّه على أمرين: أحدهما: ما يجعل لهم في الدنيا المدلول عليه بقوله:
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) .(3/1065)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الثاني: أن المدعُوَّ به في الآخرة سريعٌ وقوعه وإن كان في ظنِّ الكافرين بطيئاً حصوله.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الصبر أعمُّ من المصابرة، إذ كان يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعل واحد، والمصابرة، يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعلان متقابلان.
والصبر: حبس النفس على ما يحمد،(3/1066)
وعما يُذمُّ، ولهذا قيل: هو اسم لأعم الفضائل.
وله ثلاث منازل:
إمساك الجوارح الظاهرة عن الإِقدام على ما يُكره.
وإمساك اللسان عن إظهار التألُم منه.
وإمساك القوى عن تحرُّكها بالتألُم منه.
وهذه منزلة الصدّيقين.
والمصابرة ضربان:
مصابرة العِدى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية.
ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل.
وهي عظماهما، والمرابطة كذلك على ضربين:(3/1067)
مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابطة النفس البدن، فإنها كمن أُقيم في
ثغر، وفُوِّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مُخل به إلى أن
يُعزَل عنه أو يُستردّ منه، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من
قال: اصبروا في أنفسكم، وصابروا عدوكم، ورابطوا الثغور.
وقول من قال: اصبروا بجوارحكم على الطاعة، وصابروا
بقلوبكم مع الله، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة، وقد نبّه(3/1068)
على - عموم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال:
"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة".
إن قيل: كيف أخّر ذكر التقوى؟
قيل: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى.
وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله، وذلك لا يكون إلا بعد هذه
الأشياء، وكأنه قال: إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا
الفلاح، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة.
فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة، قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتركوا
القبائح له، فبتركها تُدرك هذه الثلاث، ويكون الفلاح عبارة(3/1069)
عن هذه الثلاث، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدم، وعلى
الأول متأخر. والله أعلم.(3/1070)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قد تقدّم الكلام في الفرق بين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .
وأنه ذكر مع النّاس (الربُّ) ومع الذين آمنوا (اللهُ) ، فيا أيها الّناس خطاب عام، ويا أيها الذين آمنوا أخصّ منه، ويا عبادي أخصُّ منهما، وحيث يقصد خاصَّ الخاصِّ قال:(3/1071)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وإن كان الخطاب له
ولغيره نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) .
وقد تقدّم البهلام في أن أدنى منازل التقوى اجتناب الكفر.
وأعلاها أن لا تراعي من الدنيا والآخرة سوى الله.
وقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ذكر عامة المفسرين أنه عنى بالنفس
آدم، وزوجها: حواء.
وذكر بعضهم أنه عنى بالنفس الروح المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الأوواح قبل الأجسام بكذا سنة".
وعنى بزوجها البدن.
وقيل: عنى به التركيب، وإلى(3/1072)
نحوه أشار بقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) .
وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) ، ولا يصحُّ معنى ذلك في النبات إلاّ على
معنى التركيب، ونبّه بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على
أنها لا تنفك من ترتيب ما، وأن الواحد في الحقيقة ليس إلا هو
تعالى، قال: وعلى هذا نبّه بقوله: (وَاَلشَفعِ وَاَلوَترِ) ، وقال
معنى الشفع: الخلق، والوتر: الخالق.
وهذا القول في الآية(3/1073)
وإن كان متجهًا، فأهل الأثر على"ما تقدم.
إن قيل: على أي وجه خلق زوجها منها أخذ جزءًا فجعل زوجها؟
قيل: قال بعضهم: الشيئان قد يُقال لأحدهما:
هو من الآخر. إذا كان من عنصره وأصله.
كقولك: هذا القميص من قميصك.
وقد يقال ذلك إذا كانا مشتركَين في صفة، نحو (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) .
وقال بعضهم: أخذ جزءًا من آدم، وجعل منه حواء.
وعلى ذلك رُوِيَ: "خُلِقَتْ حواء من ضلع من أضلاع "،(3/1074)
وقال بعضهم: نبّه بقوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أن المرأة بعض من الرجل.
تنبيهًا على نقصانها وكماله، وآنجه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله ذلك أنها مخلوقة خلقة مُعْوَجة، لا ينتفع بها إلا كذلك، فلا يهمنّك تنقيتها، وعلى
ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المرأة خُلقت من ضلع، وإنك إن أردت أن تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
وبهذا النظر قيل: أَخسُّ صفات الرجل الشحُّ والجبنُ، وهما أشرف
صفات المرأة.
إن قيل: ما وجه عطف الأرحام على الله، والتقوى في الحقيقة
من الله ومن عذابه، لا من الرحِم، وقد كان الوجه أن يُقال:(3/1075)
اتقوا الله في الأرحام أو للأرحام؟
قيل: أجيب عن ذلك بأوجه:
الأول: أنه لما كان يقال: اتق الله، أي اتق عقوبة عصيانه.
واتق ذنبك، أي عقوبة ذنبك، قال ههنا: (اتَّقُوا اللَّهَ) ، أي اتقوا
عقوبته على طريق الجملة.
ثم قال: والأرحام. أي عقوبته في قطع الأرحام.
وخصّها بالذكر تعظيمًا لأمرها، وكأنه قيل: اتقوا
عقوبات الله عامة، وعقوبته في قطع الأرحام خاصة، وذلك
لتعظيمه أمر الرحم.
والوجه الثاني: أن تقديره: اتقوا الله في الرَّحِم، لكن حُذِف
الجارّ، وأُقيم حرف العطف مقامه، كقولهم: يدك والسكين.
أي احفظ يدك من السكين.(3/1076)
والوجه الثالث: أن تقديره: اتقوا الله وقوا الأرحام.
فأحدهما متقى، والآخر موقى، نحو قولهم: أعور عينك والحجر.
أي: قِ عينك، واتق الحجر.
إن قيل: ما وجه إعادة التقوى وعطف أحدهما على الآخر؟
قيل: إنه أمر في الأول بالتقوى أمرًا عامًا، ولهذا قال: (رَبَّكُمُ)
تنبيهًا على أفضاله، وإحالتهم على ما لا يمكن لأحد إنكاره.
ولما قصد الحث على الحافظة على الرَّحِم قذم ذكر الموجد باللفظ الذي
فيه التنبيه على القدرة التامة.
إن قيل: ما وجه ذكر (تَسَاءَلُونَ بِهِ) ؟(3/1077)
قيل: زيادة في الترغيب في تقواه، وتنبيهًا على كون تعظيمه
منغرسًا في قلوبنا، حتى إنا إليه نفزع إذا سألنا، ونبّه أنا كما نقول:
أسألك بالله. نقول: أسألك بالرحم، وتقدير الكلام: اتقوا الله
الذي تسألون به، والأرحام التي تسألون بها، لكن نبّه بوصف
الأول على وصف الثاني، وللقصد إلى هذا المعنى قرأ من قرأ:
" الأرحامِ " بالخفض.
إن قيل: ما فائدة قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ؟
قيل: تنبيهًا على وجوب مواصلة بعضنا بعضًا، لكوننا من ذات واحدة، وأنا(3/1078)
كبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وأمّا بخفض قوله: (وَالْأَرْحَامَ) فقد
قيل: فيه ضعف من حيث الإِعراب، ومن حيث المعنى (1) ؛
أمّا من حيث الإِعراب فلأن ضمير المجرور لمّا كان على حرف واحد قائم
مقام التنوين، والتنوين لا يصحُّ أن يعطف عليه، كذلك الضمير
المجرور، وأيضًا فلأنّ كلَّ ما يُعطف عليه يصحّ أن يُعطف هو.
ولمّا كان ضمير المجرور لم يصحَّ أن يعطف عليه، وبيان ذلك أنّ
للمرفوع والمنصوب ضميرًا منفصلًا، نحو: هو وهما وإيّا. فيصح
أن يُقال: رأيتك وزيدًا، أو رأيت زيدًا وإياك، وأتيتني وزيد.
وأتاني زيد وأنت، ولم يكن للمجرور ضمير منفصل يقع موقع
المتصل فيُعطف به، فلم يجز لذلك أن يُعطف عليه أيضًا.
__________
(1) القراءة بالجر متواترة، ومن ثم فلا يسوغ الاعتراض عليها.(3/1079)
وأمّا من حيث المعنى: فإن إعادة الأمر بالتقوى فلاقتران
ذكرها بصفة تحثُّ سامعها على استعمال التقوى، كقولك: اتقِ
الله الذي تخافه، واتقِ الله الذي بيده الخير.
فهذه الصفات هي التي تُحَسِّنُ التكرير.
فإذا نصبت الأرحام ففيه هذا المعنى.
وإذا جررته لم يكن في ضمنه من التحذير ما فيه إذا نصبتَه.
وإنما قال: (وَخَلَقَ مِنْهَا) ردًّا إلى لفظ النفس، وكلُّ اسم جنس، لفظه(3/1080)
مخالف لمعناه أي، التذكير والتأنيث، فلك اعتبار اللفظ طورًا
والمعنى طورًا، نحو: حمامة ونفس، وإذا كان عَلمًا نحو:
طلحة. أو صفة نحو: علَّامة ونسَّابة، فليس إلا اعتبار المعنى
دون اللفظ.
والرَّقيب. قال مجاهد: هو الحفيظ، وقال ابن زيد: عليم) .
وكلاهما صحيح، فحافظ الشيء يقتضي أن يكون عالمًا
به ليمكنه أن يحفظه، وبيَّن بقوله: (كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) أنه قبل
أن خلقكم وأوجدكم كان مراعيًا لكم، تنبيهًا أنه لا يخفى عليه
أمركم في كل حال.(3/1081)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
الخبيث والطيِّب: عبارتان عن الحرام والحلال، أي تدفعوا
إليهم شيئًا هو طيِّب لكم، وتأخذوا من مالهم ما هو خبيث لكم.
طلبًا للربح. هذا قول الضّحّاك والسُّدِّي.
وقيل: لا تتبدلوا الهزيل بالسمين.
وقيل: الطيِّب مقدار ما أبُيح تناوله من مال(3/1082)
اليتيم، والخبيث ما لم يُبح منه، وهو المشار إليه بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) .
وكل هذه الأقوال إشارات إلى ما يقتضيه عموم الخبيث والطيب.
والحَوب: الإِثم لكونه مزجورًا عنه، من قولهم: حاب حَوْبًا
وحُوبًا وحِيَابة، والأصل فيه حَوْب لزجر الإِبل، وتحوّب
نحو تأثم، وإيتاء اليتامى أموالهم، قيل: دفعها إليهم بعد
البلوغ، وسمّاهم حينئذ يتامى استصحابًا للحالة المتقدمة،(3/1083)
ويكون ذلك كقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وقيل: هو إنفاقها عليهم، ودفعها شيئًا
بمعد شيء على قدر الحاجة.
والضمير في قوله: (إِنَّهُ) قيل: للأكل. وقيل: للتبدُّل.
وقيل: للأموال، لكن اعتُبر المعنى(3/1084)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
لمّا كان المال والأموال في هذا الموضع سواء، كقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .، فإن الحوادث أودى بها
لمّا كان معنى الحوادث والحدثان واحدًا.
قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
العَولُ: الخروج عن حد الاستقامة، والعول في الفريضة خروج
عن حدِّ السهام المسماة، والعويل: الصياح الخارج عن حد الاستقامة
في الكلام، وذلك نحو الألفاظ التي يتحرّاها المصاب.
وعوَّلت عليه مِلتُ نحوه بالاعتماد، والِمعْول على بناء الآلة، كأنه آلة العول.(3/1085)
والآية تُؤوِلَتْ على وجهين:
أحدهما: قيل: إن الرجل قبل الإِسلام إذا مات كان وليُّه يسير في أيتامه سيرة غير قاصدة، ويأكل أمو الهم إسرافًا وبدارًا، وكانوا يسيرون في يتامى النساء
خاصة بأقبح سيرة، فإنها متى كانت اليتيمة ذات مال وجمال
تزوّجوا بها بأقلّ من مهرها، ثم لم يحُسنوا إليها، وإن كان أحدهم
لا يرغب فيها عَضَلها عن النكاح، طمعًا في مالها، فلما جاء
الإِسلام نُهوا عن ذلك بهذه الآية.
وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن خفتم أن لا تستعملوا العدالة -
أي إذا تزوّجتم بهن فتزوجوا من غيرهن. وإلى هذا ذهب ابن
عباس وعائشة.
والثاني: أنهم يتحرجون في أموال اليتامى، لمّا(3/1086)
عظَّم الله تعالى من أمرهم في نحو قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) الآية.
ولم يكونوا يتحرّجون من التزوُّج بعدد من النساء، فقال
تعالى إن تحرَّجتم عن تناول مال اليتيم خشية أن لا تُقسطوا.
فتحرجوا النساء أن لا تعدلوا بينهن، وانكحوا مقدار ما يمكنكم
الوفاء بحقوقهن.
وقيل: معناه إن خفتم أن لا تُقسطوا في حفظ أموال اليتامى.
وأن تجوروا في الإِنفاق على نسائكم.
فانكحوا عددًا مخصوصًا لا يحوجكم إلى أن تقسطوا.
إن قيل: فما معنى ذكر هذه الأعداد إن كان الأمر على ما وصفت؟
وهلّا قيل: فانكحوا ماطاب لكم من النساء سواهن؟(3/1087)
قيل: يجوز للحكيم إذا سئل عن حكم أن يجيب عنه، ويقرن إليه ما
علم أنّ بالسائل حاجة إليه. فلمّا سُئل عن ذلك، وكان فيهم من لا
يُبالي أن يتزوّج بالعدد الكثير من النساء، بيّن العدد الذي لا يجوز أن
يتعداه الإِنسان في وقت واحد، ولذلك أحيلوا على هذه الآية لما
استفتوا في يتامى النساء، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) الآية.
وقد اختُلف في العدد الذي يجوز أن ينتهى إليه في النكاح.
فمذهب عامة الفقهاء أنه لا يجوز مجاوزة الأربع، ومذهب بعض
الشيعة أنه يجوز بلا عدد كالسراري.
وقال: الآية ليست بتوقيفٍ، بل هي إباحة: كقولك: تناول ما أحببت واحدًا واثنين وثلاثة، وأنّ تخصيص بعض مقتضى العموم على طريق
التبيين لا يقتضي الاقتصار عليه، وذهب بعضهم ممن لا يعرف
شرط الكلام إلى أن المباح منهن تسع، وقال: الواو تقتضي
الجمع، فصار كقولك: اثنين وثلاثًا وأربعًا، وذلك تسع.
وأكد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسغ نسوة.
قال: وغير منكر أن(3/1088)
يذكر عدد واحد بلفظين، كما قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .
وهذا فاسد، أما أولاً: فإن العدول عن ذكر الشيء بلفظة
واحدة إلى لفظين، إما أن يكون لغرض نحو (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) ، لمّا خالف بين حكميهما أورده بلفظين.
أو يكون ذلك للعيّ والاستدراك عن نسيان، وكلام الله تعالى منزَّه
عن ذلك، ومنهم من ردَّ إلى واحدة، لتأويلٍ انتزعه من
الآيتين: إحداهما هذه، والأخرى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) الآية. قال: فبيَّن أنكم لا تستطيعون
تحري العدالة في النساء، وقال ههنا: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) .
فكأنه قال: انكحوا واحدة إن لم تستطيعوا أن تعدلوا.(3/1089)
فقد ثبت أن لا تستطيعوا، فإذًا، فانحكوا واحدة، وهذا القائل
خفي عليه الفرق بين العدلين، فإن العدل في تلك الآية تركُ ميل
القلب، وذلك مرفوع عن الإِنسان، لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) عنى به العدل الذي
هو حق القسم والنفقة، ولهذا قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن الخوف
يُقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يُقال: خفت أن لا أقدر
على بلوغ السماء أو نسف الجبل.
وهذه الأقوال المتقدّمة يُبطلها ما رُوي أنه لمّا نزلت هذه الآية
كانت تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "خل سبيل أربع ".(3/1090)
وكذا قال لابن مسعود الثقفي، وكان قد أسلم وتحته تسع
نسوة، واستدلَّ أهل الظاهر بالآية على وجوب النكاح.
واستدل بها بعض الفقهاء على أنه غير واجب، وبيان هذا أن(3/1091)
ما في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) إمّا أن يكون عبارة عن
المنكوحة، أو عن الزمان، أو العدد. فلا يصح الأول.
لأن (ما) لا يُعبَّر به عن أعيان العقلاء مجردًا، ولا عن العدد، لأنه محال أن يعني نكاح العدد، وإن عنى المعدود فالكلام راجع إلى أن يكون عبارة
عن العقلاء، فيجب أن يكون عبارة عن الزمان، فكأنه قال: اعقدوا
وقت ما يطيب لكم، والمخالف يوجبه طاب لنا أو لم يطب.(3/1092)
فإن قيل: معناه ما تاقت أنفسكم إليه، قيل: إن عنى ما تاقت
نفسه إلى العقد فليس ذلك مذهبًا لأحد، وإن عنى المخالف: ما
تاقت نفسه إلى الجماع، فلم يجر للجماع ذكر.
وقد تقدَّم الكلام في العول، فقول من قال:
ذلك أدنى أن لا تجاوزوا ما فرض الله.
وقول من قال: أن لا تميلوا، يرجعان إلى أصل واحد.
وقول الشافعي معناه: أن لا يكثر عيالكم.
وقد ذهب إلى هذا التأويل(3/1093)
زيد بن أسلم، وأجازه الأصمعي، وابن الأعرابي.
ومنه قيل: فلان يعول عشرة، وقال ابن داود: غلط
الشافعي، لأن صاحب الإِماء في العيال كصاحب الأزواج.(3/1094)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وابن داود لم يتصوّر ما قاله الشافعي، وذاك أنه لم يُرِد إلا ما أراد
غيره من حقيقة المعنى، وإنما تحرّى اشتقاق اللفظ، ولم يُرِد بالعيال
الأولاد، وإنمّا أراد النساء، فقد يُسمَّى كل من تسمونه العيال، وإن
لم يكن أولادًا، وأراد تعالى إن خفتم أن يكثر نساؤكم، فتحتاجوا
إلى تفقدهن بأمور تقصرون عنها، ولا يكون في مراعاتها إقساط.
وهذا راجع إلى ما ذهب إليه الآخرون.
قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
فالنحلة: العطية التي لا يُطلب بها عوض، وأصله عندي من النحل.
فكأنَّ نحلتهُ: أعطيته عطية النحل، وذلك ما قصده الحكماء من
وصف النحل في أنه لا يضر بشيء، وينفع أعظم نفع، وكأنه إلى
ذلك أشار بقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية،(3/1095)
والنِّحلة أخصّ من الهبة، إذ كل هِبة نِحلة، وليس كل نِحلة هِبة.
وسُمّي الصداق بها من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتُّع دون
عوض مالي. وقول قتادة وابن زيد: النّحلة: الفريضة.
فنظر منهم إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق.
واقتضت إيجاب إيتائهن الصداق.
ثم حكمه وقدره قبل الدخول وبعده، وقبل التسمية وبعدها.
فمأخوذ من غير الآية.
ودلّ بقوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ) أن لا يتحرّج الإِنسان من قبول
هبتها عن طيب نفس منها بها، ودلَّت الآية على أنه يجوز لها أن
تهب صداقها إذا كانت بالغة، خلافًا لما قال مالك: إن ذلك إلى وليّها.(3/1096)
وللأوزاعي حيث قال: لا يجوز لها حتى تلد.
أو يحول عليها الحول في بيت زوجها.
ولليث بن سعد حيث قال: لا يجوز عتق ذات الزوج ولا هبتها.
إلا في اليسير من غير إذن زوجها.
وذُكِرَ عن شريح أن رجلًا أتى بيّنة أن امرأته(3/1097)
أبرأته من صداقها عن طيب نفس، وأنكرت المرأة ذلك.
فقال شريح: هل رأيتم المال وقد دفع إليها؟ فقالوا: لا.
فقال: لو طابت نفسها لم ترجع فيه، فلم يجُزه.
إن قيل: لِمَ قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) فأفرد
وقال في الأخرى: (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) فجمع؟
قيل: التمييز على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يدلَّ ما قبله على عدد فلا يجُمع، نحو: عشرون درهماً.
والثاني: أن يشتبه، فلابد من جمع إذا أريد الجمع نحو قولهم: أفره القوم عبيدًا.
والثالث: أن يستوي الواحد والجمع لكونه معلومًا منها المعنى على حد، نحو
قولهم: فلان أحسن القوم عينًا، لأنه يعلم أن القوم لم يشتركوا(3/1098)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
في عين واحدة، والآية على هذا فلا يحتاج فيها إلى الجمع.
والضمير في (مِنْهُ) راجع إلى مصدر (فَأْتُوهُنَّ) .
قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
السُّفَهَاء قيل: النساء،(3/1099)
وقيل: الصبيان، ومنهم من اعتبر ذلك في كل من لم يكن حصيفا
في تدبير المال، ومنهم من اعتبر ذلك مع الحصافة في الدين.
وكُلّ واحد أشار إلى بعض من يتناوله الاسم على سبيل المثال.
فمعلوم أنه لا يصحُّ صرفها إلى النساء مفردات، لقوله: (وَارْزُقُوهُمْ)
والنهي عن إيتائهن المال على سبيل تفويض تدبير الأموال إليهن.
وقيل: على سبيل تمليكهن على وجه التمكين، لا على نهي الإِعطاء
بقدر ما يحتاجون إليه.
وقال ابن جبير: معناه لا تعطوهم أموالهم.
وإضافته إلى المخاطبين على اعتبار الجنس، نحو قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، ونظر بعضهم نظرًا آخر، فقال: عنى(3/1100)
بالسفهاء الوارثين، الذين يُعلم من حالهم أن يتسفهوا في استعمال
ما تناله أيديهم، فنهى عن جميع المال الذي يرثه السفهاء، ونبّه
بقوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) على الغرض الذي فصَّله الحكماء
من فائدة المال الموصل به إلى السعادة الحقيقة، بل قد أبانه النبي
- صلى الله عليه وسلم - بأوجز لفظ، فقال:
"من طلب الدنيا استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على أهله.
وتعطُّفًا على جاره، بعثه الله ووجهه كالقمر ليلة البدر.
ومن طلبها حلالًا، مكاثرًا، مفاخرًا، مرائيًا، لقي الله وهو
عليه غضبان ".
والقيام يكون مصدرًا واسمًا، والقوام لا يكون إلا اسمًا.(3/1101)
إن قيل: لِمَ قال: (فِيهَا) ولم يقل: منها. مع كون ذلك أظهر؟
قيل: قد ذكر بعضهم أن فيه تنبيهًا على ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "ابتغوا في أموال اليتامى، لا تاكلها الزكاة".
وأن المستحب أن يكون الإِنفاق عليها من فضلاتها المكتسبة.
والقول المعروف متضمن للأمر بتأديبهم وإرشادهم ووعدهم الجميل، الذي ذكره ابن جريج، وقال: هو أن يُقال له: إن رشدت مكنَّاك من مالك،(3/1102)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
وفيه المنع عن قهرهم، وإليه ذهب مجاهد استدلالاً بقوله تعالى:
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)
قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
الإِيناس فيما رُئي مرّة بعد أخرى فأُنس به.
وقد فسّره ابن عباس بالمعرفة.
والخليل فسره بالإِحساس. والرشد،(3/1103)
قال الحسن وقتادة: وهو الصلاح في الدين والإِصلاح للمال.
وقال مجاهد: هو الإِصلاح للمال فقط، وأمر تعالى بدفع المال إلى اليتامى
بعد البلوغ وإيناس الرشد منهم، وبعد الابتلاء، وجعل ذلك كلّه
شرطا في تسليم المال إليه، ومعلوم من الآية أن من دُفع إليه المال، ثم
فُقد منه الرشد أن يُعاد الحَجْرُ عليه، لأن الغرض بذلك حفظ
ماله، فلا فرق بين أن يكون المعنى الموجب للحَجْرِ ابتداء أو انتهاء.(3/1104)
والآية تقتضي أن كلَّ من حصل في يده مال لغيره لزمه حفظه له
كمال المفقود، ومال الفقراء في بيت المال، واللُقطة في يد الملتقط.
والابتلاء المراد في الآية، قيل: هو حال الصغر بأن يُدفع إليه
قليل من المال، فيرُى حفظه له وتصرفه فيه.
وقيل: هو بأن يجُرَّب في أمورِ أُخر.
وقيل: هو أن يختبر بعد البلوغ، وسفاهم يتامى
استصحابًا للحالة المتقدّمة، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا)
أي متجاوزين حد القصد المباح لكم، ومبادرة أن يكبروا، فيمنعوا
أموالهم) .
وقوله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) .
قيل: لا يتناول منه شيئًا.(3/1105)
(وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) من مال نفسه لا من مال اليتيم، لئلا يحتاج إلى مدِّ اليد إلى ماله.
وقيل: فليأكل بالمعروف من مال اليتيم.
وقيل: ذلك منسوخ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية، وقال الأصمُّ: فليأكل من مال اليتيم قرضًا.
وإليه ذهب عمر، فقال: إني في مال الله كوالي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف،(3/1106)
فإذا أيسرت قضيت. وقيل: يتناول الفقير
الأقل من قدر حاجته، أو قدر أُجرةِ مثله.
وقيل: ليس لوالي اليتيم أن يتناول ذلك، وإن تولى إصلاحه إلا بأمر من له الأمر، وإليه ينصرف ما رُوي أن رجلَا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن في حجري يتيمًا أفآكل من ماله؟
قال: "نعم، ما لم تقِ مالك بماله، أو تتخذ منه ذخرًا"،(3/1107)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
وإلى نحوه صُرف قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
والأمر بالإِشهاد عليهم عند دفع أموالهم إليهم على سبيل الإِيجاب.
وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) ، تنبيه منه تعالى أنه رقيب عليهم.
يعلم أسرارهم، وأنه يحاسبهم على ما يكون منهم، فليس للولي أن يخون، ولا لليتيم أن يدعي ما ليس له.
قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)(3/1108)
المفروض: المقطوع بإيجابه، والفرض الحزُّ في شِية
القوس، والفُرْضَة مقطع الماء، إمّا اعتبارًا بقطع الماء أو قطع
الخصومة فيه.
وبعض الفقهاء فرّق بين الفرض والواجب، فجعل الفرض أخصّ.
وقال: إنه يقتضي فارضا، والواجب لا يقتضيه.
قال: ولذلك يُقال: ثواب المطيعين واجب على الله.
ولا يقال: فرض عليه، ورُوي أن العرب كانوا يورثون الذكور
دون الإِناث، وقيل: كانوا لا يورّثون إلا من طعن من الرُّمَّاح
دون المستضعفين من الولدان، قيل: إن أوس بن ثابت مات(3/1109)
وخلَّف بنات وابني عم، فعمدا إلى المال وأخذاه.
فجاءت امرأة أوس ببناته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلمته ذلك، فأخبرها أن لا شيء لها ولا لهن. فأنزل الله تعالى الآية، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني عم أوس، فأمرهما أن لا يُخرجا من المال شيئًا، ثم نزلت آية الميراث، فقسّم المال عليهم، فاستدل بهذه الآية أصحاب الإِمام
أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام.
وقالوا: الأخوال والخالات وأولاد البنات من الأقربين.
وتعلَّق بذلك أيضًا من ورَّث الإِخوة مع الجد، وكذلك من ورّث العامل والمماليك.(3/1110)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
وقوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) يقتضي خلاف من ورّث ذوي الأرحام.
إذ ليس لأحد منهم نصيب مفروض.
فإن قيل: لِمَ أُعيد ذكر النصيب؟
قيل: لما أراد أن يبين كون نصيبهم مفروضا أعاد الموصوف معه.
ليستبين أن المفروض هو النصيب لا غير.
قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
أراد بالقسمة المقسوم، ولذلك: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ردّ إلى المعنى.
واختُلِفَ في الآية على أقوال: الأول: أنه عنى من ليس بوارث
من أولي القربى، وذلك على الاستحباب، فإما أن يُعطوا،(3/1111)
أو يُقال لهم قول معروف، وقيل: يجُمع لهم بين الأمرين.
والثاني: قال مجاهد: هو واجب، لكن يُعطون على قدر ما تطيب
به نفس الورثة، إذ كانوا وارثين.
قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يُقسّمون على الأقارب واليتامى والمساكين من الورِق والفِضة، فإذا صاروا إلى الأرضين والرقيق ونحوها، قالوا لهم قولاً معروفاً، أي قالوا لهم: بُورِك فيكم.
الثالث: أن أولي القربى ضربان: وارث يُعطى، وغير وارث.
فيُقال له قول معروف.
الرابع: يُعطى الحاضر البالغ، ويتُحرَّى في أمر(3/1112)
الغائب والصغير قولٌ معروف أي مصلحة.
الخامس. قال زيد من أسلم: هذا شيء أمِرَ به الموصي في الوقت
الذي يوصي، واستدلّ في ذلك بقوله بهد هذه الآية: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) الآية.
السادس: أنّ ذلك كان في الورثة واجبًا، فنسخته آية الميراث.
والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ، ثم قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) .(3/1113)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
أصل السداد: إزالة الاختلال، يقال: سددت الخرقَ. إذا ردمته.
والسهمَ إذا قومته، والفقرَ إذا أزلته، والسّداد ما يسدُّ به، والسداد
يُقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول، ورجل سديد متردد
بين المعنيين، فإنه مسدد من قبل متبوعه، ومسدِّد لتابعه، وفي
الآية أقوال: الأول: أنه نهي للحاضرين عند الموصي أن يأمروه
بما لا يجوز الوصية به.
والثاني: أنه نهي لهم أن يأمروه بترك الوصية.(3/1114)
الثالث: ما قد رُوِي عن ابن عباس أن ذلك وارد في
الحث على حفظ مال اليتيم، وأن عليهم أن يعملوا فيه بمثل ما
يحبون في ذريّتهم بعد موتهم.
الرابع: أنه نهي للموصي أن يوصي بما لا يجوز.
وكُلُّ هذه الأقوال يصح أن تكون مرادة بالآية، لأنه واجب أن لا يوصي بأكثر من الثلث، وواجب على من يحضره أن يحثَّه على ذلك، وأن لا يُوصي بأكثر من الثلث، وأن لا يخلّ بالوصية.(3/1115)
إن قيل: لِمَ قال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) ، ثم قال:
(فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) ؟ وهل بين الخشية والتقوى فرق؟
قيل: الخشية الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم.
ولذلك وصف به العلماء في قوله تعالى:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
والتقوى جعل العبد نفسه في وقاية مما يخشاه، ولذلك قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
فالخشية مبدأ التقوى، والتقوى غاية الخشية.
فأمر الله تعالى بمراعاة المبدأ والنهاية، إذ لا ينفع الأول دون الثاني.
ولا يحصل الثاني من(3/1116)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
دون الأول، ثم أمر تعالى مع ذلك بتحرِّي القول السديد، وذلك
متناول لكل قول مأمور به، وقول من قال: هو تلقين المحتضر
الشهادة، وقول من قال: هو ترك الرفث في تولي القسمة.
وقول من قال: هو الصدق في الشهادة - داخل في عموم الآية.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
الصّلا: النار، وصلي فلان بها وصليته: أدنيته منها.
وصليت اللحم: شويته.
فقوله: (وَسَيَصْلَوْنَ) من صِليَ، ويُصْلَون من أَصلَيتُ.
نحو (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) ، والسعير: المسعور.
واستعرت النار والحرب تشبيهًا بذلك، وهذه الآية مؤكَدة لما قبلها من(3/1117)
الأمو بالخشية والتقوى، ووعيد لمن تعدّى، وذكر الأكل لكونه
أكثر ما يرُاد له المال.
وقيل: إنه لما نزلت هذه الآية تحرَّج الناس من طعام اليتيم
حتى أنزل الله تعْالى: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، وليس هذا ناسخًا للأول، كما ظنّه قوم، لأنه ليس في قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ) إباحة لأكل مال اليتيم ظلمًا، فتكون هذه ناسخة لها، في(3/1118)
قوله: (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) وجهان:
أحدهما: أن ذلك تشبيه، إذ كان ذلك مؤدياً إليه.
كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يتهافتون في النار تهافت الجراد".
وكقول الشاعر:
إذا صُبَّ ما في الوَطْب فاعلم بأنه. . . دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا
فسمّى اللبن دما لكونه بدلاً منه.
والثاني ما رُوي أن النار تجُعل في بطنه يوم القيامة.
والقولان صحيحان وسيان، فإنه من(3/1119)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
كان حاله في الآخرة هذه، هو الذي حاله في الدنيا ما قاله الأولون.
قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
الوصية: تُقال فيما كان حتمًا، نحو قوله(3/1120)
تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم قال:
(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) .
وقال ابن عباس: كان المال للولد في الجاهلية.
والوصية للوالدين والأقربين، فنسخه هذه الآية.
واستُدِلَّ بما رُوِيَ أنه لمّا نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله قد أعطى كُلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث ".
وقال غيره: الآية غير ناسخة، بل هي تفسير لقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) .
واختُلِفَ: هل يدخل ولد الابن في(3/1121)
إطلاق الولد؟ فمنهم من قال: يدخل فيه، لقولهم: أولاد آدم.
ولأن جميع ما علق بالولد من الأحكام فابن الابن داخل فيه، نحو
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ، ثم قال: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ) .
وقوله: (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) ولا خلاف أن حكم ولد
الابن إذا لم يكن ولد صلب حكمه، وقد استثني من ظاهر
قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
الكافر والمملوك والقاتل وأهل ملَّتين، إلا عند معاذ.
فإنه يُورِّث المسلم من الكافر.
وقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فإنَّ الله جعل للبنات إذا
كُنَّ فوق اثنتين الثلثين، وللواحدة النصف، ولم يذكر فرض(3/1122)
البنتين، قال ابن عباس: حكمهما حكم الواحدة.
وقال سائر الفقهاء: حكمهما حكم ما فوقهما.
ثم اختُلِفَ من أيِّ وجه صار حكم الاثنتين حكم ما فوقهما؟
فقال بعضهم: إن ذلك أُجْرِيَ مجرى الثلاث بالقياس، لأنه به أشبه.
وقال بعضهم: بل اللفظ اقتضى ذلك، وهو الصحيح.
وبيان ذلك أنه قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
ولا فرق بين أن يقال ذلك أو يقال: للأثثيين مثل حظ الذكر.
وقد ثبت أن حظ الذكر إذا كان مع أنثى الثلثان.
فاقتضى ذلك أن فرض الأنثيين الثلثان، فصار ذلك
مدلولاً عليه بفحوى الكلام دون الصريح، وفرض الواحدة
وما زاد على البنتين فبالصريح، قال: ويقوي ذلك أن القسمة
العددية ضربان: مركب ومفرد، وقد ذكر حكم المركب بقوله:
(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) ، وحكم المفرد بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، والاثنان بدءُ المركب من الأعداد، فيجب أن يكون حكمه ملحقًا به.
ويدلُّ على ذلك ما قاله في آخر السورة قوله:(3/1123)
(وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، ثم قال: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ) ، فجعل حظ البنتين الثلثين، ولم يبيّن حكم ما زاد عليهما.
وبيّن في فرض البنات حكم ما فوق الابنتين، ليعلم من نطق
كل واحد من الاثنين حكم المسكوت عنه في الأخرى.
فإن قيل: متى جعل حكم الاثنتين حكم الثلاث فصاعدًا
سقط فائدة قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ؟
قيل: مثل هذا راجع إلى المخالف، لأنه يقال له: متى جعلت حكم الاثنتين حكم الواحدة سقط فائدة قوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ؟
وجوابه في ذلك جوابنا عما سأل، على أن ذكر ذلك على التنزيل الذي نزلناه ْلابد من ذكره، لأنه بيّن حكم الاثنتين بقوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، ثم بيّن حكم ما فوق الاثنتين، ثم حكم الواحدة.
ومن قال: تقدير الكلام: فإن كن نساء اثنتين، وإن قوله (فَوْقَ)
زائد كقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) ، لأنه أراد فاضربوا
الأعناق، فغير موافق في ادعاء الزيادة في الموضعين، وغير موافقٍ
في تأويل الابنتين، وبهلام الله تعالى منزه عن ذكر لفظ خلوةً عن
قصد معنى صحيح، إذكان ذلك لغوًا، تعالى الله عنه.(3/1124)
إن قيل: لِمَ ذكر فرض البنت إذا انفردت، ولم يذكر الابن
على الانفراد؟
قيل: لأن العرب كانوا يورّثون البنين دون البنات، فاحتيج إلى تبيين ذلك، دون ما بقوا على ما كانوا عليه.
وقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ظاهره يقتضي أن يكون
للأب السدس مع الولد: ذكرًا كان أو أنثى، كما أن فرض الأم
كذلك، لأنه لا خلاف متى كان الولد بنتا لا يستحق أكثر من
النصف، لقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فيُعطى
الأبوان السدسين بحكم النص، وبقي سدس يناوله الأب بما
نبّه عليه بقوله: (وَوَرِثَهُ ؤأَبَوَاهُ فَلِأُئِهِ اَلثلمشأ) ، لمّا جمع نصيبهما.
ثم أفرد نصيب الأم على أن الباقي للأب.
وقوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فالإِخوة ههنا
متناولة للإِخوة والأخوات، لكن غلب التذكير، وبين تعالى ميراث(3/1125)
الأم عند وجود الإِخوة، والظاهر يقتضي أن الأم تستحق السدس
إذا كانت للميت ثلاثة إخوة فصاعدًا.
وأما إذا كان أخوان فالظاهر لا يقتضي ذلك.
وقال ابن عباس: إن الآية لا تتناول ذلك، فلم
تحجب الأم عن الثلث بدون الثلاثة، ولا بالأخوات
منفردات، وخالفه سائر الصحابة، وحجبوها باثنين من
الإِخوة والأخوات، كما حجبوها بأكثر من ذلك.
وقالوا: المراد بالأخوة حصول من له الإِخوة دون العدد.
ودون الذكورية والأنوثية.
ولا خلاف أن الواحد لا يحجب الأم.(3/1126)
وقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:
الوصيّة مقدّمة في اللفظ مؤخّرة في المعنى.
فإن مراعاة الذين قبل مراعاة الوصية، وإنما قيل (أَوْ دَيْنٍ)(3/1127)
ولم يقُل أو، دين، ليقتضيهما مجموعين ومفردين.
وقوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ) ، قيل: القصد بذلك أن المنفعة بهما
متفاوتة، فإن المنفعة بالآباء في الصغر، وبالأبناء في الكِبَر.
وقيل: معناه تحرَّوا ما أُمرتم، ولا تعتبروا نفع الولد والوالد، فإن
ذلك يختلف عند اعتبار الآحاد.
وقيل: معناه لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة، فينتفع ولده بماله.
أم الولد أقرب وفاة فينتفع(3/1128)
الوالدان بماله، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر:
ما عِلمُ ذي ولد أيثكله. . . أم الولدُ اليتيم؟
وهذا الذكر في الآية كالاستطراد، والقصد به يجب أن يتحرَّى
في ماله الوجه الذي جُعل له المال، فلا يمنع ذا حق من حقّه، شفقة
على ورثته، ولا يضعه في غير حقه "تفاديًا من انتقال ماله إلى ورثته.
بل يجب أن يتحرى القصد في ذلك، فليس يدري عواقب الأمور.
وجملة ذلك أن في الآية حثّا على تفويض الأمر إلى الله، والرضا
بحكمه، وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) اسم موضوع موضع
المصدر، نحو قوله: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) ، و (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) .
ومعناه قسمة مقدرة، وقيل: معناه حتمًا(3/1129)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
لازمًا، وكلا المعنيين يقتضيه لفظ الفريضة.
قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
الكلالة: اسم لمن عدا الولد والوالد.
وقال ابن عباس: اسم لمن عدا الولد وورث الإخوة مع الأب، وإليه كان(3/1130)
يذهب ابن عمر ثم رجع عنه، ويدل أن الأب ليس بكلالة
قول الشاعر:
وإن أبا المرء أحمى له. . . ومولى الكلالة لا يغضب
ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال:
"من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة".
وقال بعضهم: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
فجعله اسم الميت، وكلا القولين صحيح،(3/1131)
فإن الكلالة مصدر، وهو اسم للمعنى الذي يجمعهما.
فسُمّي به الوارث تارة والموروث تارة، وتسميتها بذلك إما
لأنَّ النسب قد لحق به من طرفيه، أو لأنه كلَّ عن اللحوق
به، وذلك أن الانتساب ضربان:
أحدهما: بالعمق كنسبة الأب والابن.
والثاني: بالعرض كنسبة الأخ والعم.
وقال قطرب: الكلالة لمن عدا الأبوين والأخ(3/1132)
وليس بشيء، وقال بعضهم: هو اسم لكل وارث.
لقول الشاعر:
. . . وللكلالة ما يُسيم
ولم يقصد الشاعر ما ظنّه هذا القائل، فإنه إنما خص الكلالة
ليزهد الإِنسان في جمع المال، لأن تخليف المال لهم أشد من
تركه الأولاد، وإذا قُرئِ يورِث فكلالة مفعول، وإذا قُرئِ(3/1133)
يورَث فحال للميت.
فرض الله تعالى للزوج النصف إذا لم يكن للميتة ولد، دخل بها
أو لم يدخل، وجعل له الربُعَ إذا كان لها ولد، سواء كان منه أو من
غيره، وفرض الربُعَ للزوجات إذا لم يكن للميت ولد، والثمُنَ إذا
كان له ولد، وأجمعوا أن ولد الابن يقوم مقام ولد الصلب في حجب
الزوجين، إلاّ حكاية عن بعض المتقدمين، وأجمعوا أن للزوجة
الواحدة إذا انفردت ما للزوجات إذا اجتمعن، وذهبت طائفة إلى
أن من لا يرث من مملوك وقاتل يحَجب الزوجين والأم، لأن اسم
الولد يتناولهم، كما يحجب الإِخوة الأم مع الولد، وإن لم يرثوا،(3/1134)
وقوله: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ، جعل لواحدهم السدس.
وأشرك بين جماعتهم في الثلت، ولم يُفضِّل ذكرهم على
أنثاهم، وعنى بذلك ولد الأم بدليل قوله في إخوة الأب
والأم، (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
ورُوِيَ أن سعد بن مالك قرأ: وله أخ أو أخت من أم.(3/1135)
قال بعضهم: لعله فسَّر الإِخوة بذلك، فظنَّ السامع أنه
قرأه في القرآن، كما روي عن عمر: فامضوا إلى ذكر الله على
معنى التفسير للسعي، فظنَّ أنه قرآن.
وقوله: (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) فذلك لتغليب المذكَّر.
وقُرىء يوصِي بها، فإذا قُرِئ يوصَى بالفتح فصفة الوصية، وإذا قُرئ بكسر الصاد احتمل أن تكون صفة للوصية وأن تكون حالاً للموصي
وقرأ الحسن: غير مضار وصيةٍ بالإِضافة.
والباقون بالتنوين، ونصب وصية على المصدر أو على المفعول به.
والإِضرار أن يُقرَّ بمالٍ لأجنبي، ردّا(3/1136)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
للميراث، أو يبيع ماله أو شيئا منه محابيا فيه، أو يهب، أو يُعتق.
أو يوصي لوارثه قصدًا للإِضرار بغيره.
قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
بيّن بذكر الحدّ أن ذلك يؤدي بالإِنسان إلى العصيان.
ونبّه بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) على وجوب مراعاة ما بيّنه تعالى في الكتاب من أحكام المواريث، وما بيّنه - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله: " لا وصية لوارث "، وقوله: "لك الثلث والثلث. . . ".
قال ابن عباس: الضرار(3/1137)
في الوصية من الكبائر، ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) .
وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، فإذا أوصي حاف في وصيته، فيُختم له بسوء عمله ".
ووصف الفوز بالعظيم اعتبارًا بفوز الدنيا(3/1138)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
الموصوف بقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقليل والصغير
في وصفها متقاربان.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
كما وصف في مراعاة الحدود ثواب مراعيها وصف في
تضييعها عقاب متعديها، وأطلق القول فيهما ليكون عامًّا في
ذلك وفي غيره من الحدود التي بيّنها، وذكر في العذاب الهوان.
كما ذكر في غيره الخزي لما عُرِف من عادة كثير من الناس أن
تقل مبالاتهم بالشدائد ما لم يضامَّها، الهوان حتى قالوا: المَنيَّة
ولا الدنيَّة، والنار ولا العار.
فبيّن أنه يجُمع لهم الأمران.
قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)(3/1139)
فائدة الإِضافة في قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ) تنبيه على الحرائر.
وقيل: تنبيه على المحصنات دون الأبكار.
وقيل: على المزوجات أبكارًا كن أو ثيِّبات.
قال ابن عباس في هذه الآية، وفي قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) إن الزانيين كانا يُؤذيان بالتعيير والتعزير، والمرأة كانت تُحبس في البيت إلى أن أنزل الله قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
وقيل: المراد بالآيتين البكران.
وقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) :
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيب بالثّيب جلد مائة(3/1140)
والرجم "، وهذا مما استدلّ به من ادّعى جواز نسخ القرآن
بالسنة، ومن أنكر ذلك فله من ذلك أجوبة:
أحدها: أن هذا كان حكمًا مقيدًا بوقت، لقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) ، وتقديره: أمسكوهن إلى أن يتبين لكم حكمهن، فصار ذلك
بالكتاب معلومًا، وإنما حظ السنة فيه بيان قدر الزمان، الذي
وقَّته الكتاب مجملًا.
والثاني: أن الأذى كان في الأبكار اللاتي لم يتزوجن.
والحبس في التزوجات منهن قبل الدخول، بدلالة(3/1141)
قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ) ، ثم نُسِخَ حكم الحبس والأذى في
الأبكار بآية الجلد، وأما الرجم فقد أُخذ حكمه عن السنة.
ولهذا قال عليّ عليه السلام حيث جلد محصنًا ورجمه، فسُئل عن
ذلك؟ فقال: "أجلده بكتاب الله، وأرجمه بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ أنه لم يفهم من سنة النبي نسخ الآية.
والثالث: أن حُكم النسخ وقع بقرآن، قد رُفع تلاوته، وبقي حكمه.
وهو ما رُوي عن عمر رضي الله عنه: كان مما يقرأ في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.
فهذه أقوال عامة المفسرين، وأما ابن بحر فإنه قال: المراد بقوله:
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) ، وبقوله:(3/1142)
(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) ما يتعاطى الرجال بعضهم من بعض.
والنساء بعضهن مع بعض، وبقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما يتعاطى الرجل
مع المرأة، قال: ولا نسخ في ذلك، قال: ويدل على ذلك أن
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ) متضمنة للإِناث فقط، (وَاللَّذَانِ) يتضمن
المذكرين، قال: ولا يصحُّ أن يقال: إن الذكر والمؤنث إذا اجتمعا
غلب المذكر، لأن ذلك إنما يكون حيث تقدم لهما ذكر، نحو
قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)
قال: وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"مباشرة الرجل الرجل زنى، ومباشرة المرأة المرأة زنى".
وهذا الذي قاله وإن ساعده اللفظ فعدول عن سنن السلف.(3/1143)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قد ذُكر تفسيرها في الآية المتقدمة.
وقال مجاهد: هما الرجلان
الزانيان، يعني المتعاطيين اللواطة، يُعبَّر عنها بالفاحشة.
وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن "اللواطة الزنى الصغير "، وظاهر قوله: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) يقتضي أن التوبة
تُسقط الحبس والأذى عن الزانيين، وقد قيل: الإِعراض عنهما
هو ترك التثريب المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا زنت أمة أحدكم.. " الخبر إلى قوله: "فليبعها ولو بضفير، ولا يُثرِّب عليها".(3/1144)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
تعني أن قبول التوبة قد أخذ الله على نفسه تفضُّلًا لمن تاب
من قريب إذا بدر منه سوء، وقوله: (بِجَهَالَةٍ) فيه أقوال:
الأول: يأتيه سهوًا من غير قصد إلى الفاحشة.
الثاني: عن جهل بكونه ذنبًا.
الثالث: أن يعلمه لكن لا يعلم كونه كبيرة، ولا قدر
عقوبته.
الرابع: أن يعلمه ويعلم عقوبته، لكن يتبع شهوته،(3/1145)
ومرتكب الذنب وإن كان يعلم كونه ذنبا يقال له جاهل، ومن
هذا الوجه قال مجاهد: الجهالة: العمد، وقول من قال: الجهالة:
المعصية فعلى هذا، لأن كل معصية جهالة، وإن لم يكن كل
جهالة معصية، وقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي قبل
الموت، بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب ".(3/1146)
قيل: يا رسول الله: وما وقوع الحجاب؟ قال:
"موت النفس مشركة".
وروي: "من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ".
وسُمِّي مرةً قليلًا لقوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقريب والقليل
في نحو ذلك يتقاربان.
وقال بعضهم: نبّه بقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) على لطيفة، وهي أن الإِنسان إذا ارتكب ذنباً صدأ قلبه، فإن أقلع زال صدأه.
وإن استمرَ رِين على قلبه، وإن لم ينزع طُبعَ عليه وأُقفل.
ثم يتعذر عليه الرجوع، وعلى ذلك نبَّه بقوله في قصة
المنافقين) (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)
فإذا كان كذلك فحق لمن بدرت منه بادرة أن يتداركها قبل أن(3/1147)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
تصير الشهوة مستولية عليه، فتأبى الطباع على الناقل.
وقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
أعتدنا. قيل: أصله: أعددنا، فأبدل من إحدى الدالين تاء.
وقيل: هو أفعلنا من العتاد أي العدة.
وهو ادخار الشيء قبل الحاجة إليه.
والله تعالى غني عن الإِعداد.
وإنما القصد أنه لا يعجزه عذابهم حيث شاء.
والسيئات ههنا عبارة عن الشرك والكبائر.
وحضور الموت: معاينة مَلَكِ الموت.
بيّن تعالى أن التوبة تفوت إذا أُخِّرت إلى ذلك، ولذلك لم ينفع
إيمان من آمن عند رؤية العذاب، حيث قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) ، وقال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) الآية، وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) الآية.(3/1148)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وجعل الناس قسمين: مقصرين في العمل غير تاركين للإِيمان.
وهم الذين عناهم الله بقوله: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
وتاركين للعمل والإِيمان وهم المعنيون بقوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) .
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
العضل: التضييق عليها بالمنع من التزويج، وعضلت
الدجاجة بيضها، والمرأة بحملها، والبقعة بأهلها، وداء عضال
منه، ومعنى قوله: (أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) ما روي أن الرجل إذا
مات في الجاهلية يرث امرأتَه ورثتهُ: أخًا كان أو ابنًا من غيرها، فإن
شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها وأخذ مهرها،(3/1149)
وقوله: (كَرها) ، وقرئ: (كُرها) . قال الفرّاء: ما أكره عليه
الإِنسان فكَره وما كان من قبيل نفسه فكُره.
وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قيل: هو نصب معطوف على قوله: (أَن تَرِثُواْ) .
وذكر أن في قراءة عبد الله (ولا أن تعضلوهن) ،(3/1150)
وقيل: هو جزم على النهي.
قال ابن عباس وقتادة: المنهي عن العضل الزوج إذا لم يحتج إلى المرأة، فيمسكها رغبة في مالها.
وقيل: بل الوارث المانع لها من التزوُّج على سُنَّة الجاهلية.
وقيل: بل الولي، وكل هؤلاء منهيون في الشرع عن العضل.
فيصحُّ أن يكون خطاباً لجماعتهم.
والفاحشة المذكورة ههنا.
قال الحسن: هي الزنا، وللزوج أخذ الفدية إذا اطلع منها على ذلك،(3/1151)
وقال ابن عباس: هي نشوزها، وقد تقدَّم الكلام في الخُلع وجواز
أخذ الفدية عن البضع.
وقال الزبيري: الاستمناء من العضل، وكان للزوج منعها على ما أمر به تعالى في قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) ، وذلك قبل نزول الحد.
وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي حسب ما يعرفه العقل(3/1152)
والشرع، وقيل: هو النصفة والنفقة والإِجمال في القول.
وفي قوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) الآية.
أي ربّ شيء تكرهه، ويكون في ذلك خير، تنبيهًا على أمرين:
أحدهما: أن لا يجب للإِنسان أن يتبع الهوى، بل يفعل ما يقتضيه
العقل والشرع.
والثاني: التنبيه على كراهية الطلاق المدلول عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ".
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات ".
وقال بعضهم: ذلك تنبيه أنه ربما كانت الكراهية(3/1153)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
تعرُض لمصلحة، قال: وذلك حث على مفارقتها حيث عدم
موافقتها، وإن كانت النفس تكره ذلك، وعلى هذا نبّه بقوله
تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) .
قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه لفظاعته.
ويُستعمل في الفعل استعمال الصدق والكذب.
ولذلك قال ابن عباس: بهتانا: ظلما كبيرًا.
(وَإِثْمًا مُبِينًا) : ذنباً ظاهرًا، بيّن أنه لا يجوز لكم(3/1154)
الرجوع فيما أعطيتموهن طلقتموهن أو أمسكتموهن، وخصَّ
حال الاستبدال ليدخل فيه الحالة الأخرى، وذلك توكيد لقوله:
(وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وقد استثنى من ذلك المطلقات قبل الدخول
بهن، لقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) واستثنى منه أيضًا حال الافتداء المذكور في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية منسوخة بقوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) ، والصحيح أنها ليست منسوخة، وقد تقدم ذلك في سورة البقرة،(3/1155)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
وروي أن رجلًا كان عليه لامرأته من صداقها ألف دينار، فوضعتها له.
فطلقها وتزوج غيرها، فارتفعا إلى عبد الملك فقال: رد عليها.
فقال:
أليس الله يقول: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ) .
فقال: اقرأ الآية الأخرى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) الآية.
قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
يقال: أفضى إلى فلان أي وصل إلى فضاء منه أي سعة غير محظورة.
فمن الفقهاء من جعل ذلك عبارة عن الخلوة حصل معها المسيس أو بم يحصل، ومنهم من جَعَلَهُ(3/1156)
كناية عن المسيس، وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد والسدي.
ونبه أن المهر بإزاء ذلك المعنى، وقد نلتموه منهن فلا حق لكم إذًا
عليهن، والميثاق الغليظ: قيل هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
وقال مجاهد: الميثاق كلمة النكاح.
وقال الحسن: هو قول: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)(3/1157)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
وقيل: قول الذين يزفونها، وكل ذلك يصح إرادته بالميثاق.
قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
اختلفوا في النكاح ههنا، فحمله أصحاب أبي حنيفة على الجماع.
وقال: هو حقيقة فيه، فَحَرَّموا كل امرأة باضعها الأب حلالا أو
حراما على الابن.
وحمله الشافعي على العقد، وقال: هو حقيقة فيه.
ولم يحرم من النساء على الابن إلا ما تزوج بها أبوه دون(3/1158)
من زنى بها، والصحيح أنه للعقد، لأن أسماء الجماع والفرج
والغائط في لسانهم كنايات، وذلك أنهم لما عنوا بإخفاء هذه
الأشياء أخفوا أيضاً أسماءها، فعدلوا عن التصريح إلى الكنايات.
حتى إنهم متى عُرف فيما بينهم كناية في شيء من ذلك عدلوا إلى
كناية أخرى، ومن تتبع كلامهم عرف ما قلته، فكيف يستعيرون
لفظ الجماع لما هو أحسن عندهم منه، ثم لا خلاف أن العقدية
مراد، ولا خلاف أيضا أن الوطء بملك اليمين يجري مجرى العقد
في العقد بها، وقوله: (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) قيل: هو في موضع
المفعول، فوضع ما الذي هو للجنس موضع من الذي هو(3/1159)
للنوع، وقيل: معناه لا تنكحوا كنكاح آبائكم، فما في موضع
المصدر، وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) .
قال: بعضهم: معناه بعدما قد سلف كقولك: لا تبع من متاعي إلا ما قد بعت.
وقول الشاعر:
هجاؤك إلا أنّ ما كان قد مضى. . . عليَّ كأثوابِ الحَرَامِ المُهيْمِ
وقيل: هو بمعنى لكن على الاستئناف، كأنه قيل: لكن ما قد(3/1160)
سلف أنه كان فاحشة ومقتا.
وقال بعضهم: تقديره ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم، إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا، إلا مَا قَد سَلَفَ أي ما قد سلف ليس بفاحشة، وهذا لا يصح من أجل اللفظ، فإن ما يتصل بما بعد (أن) لا يقدم عليه، لا تقول:
عمرًا إن زيدًا يضرب، وتعنى أن زيدا يضرب عمرًا.
وتحقيق هذا الاستثناء أن قوله: (وَلَا تنكحُوا) دل على أنه محرم، وتعاطي
المحرم يقتضي العقوبة، فكأنه قيل: تستحقون العقوبة بنكاح ما
نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، فإن، ذلك متجافى عن عقوبته عنكم.
ولا يجوز أن يكون معناه متجافى عن الإِقرار عليه، فإنه مجمع
أن لا يُقَارّ عليه أحد إلا حكاية عمن لا يعتد به.(3/1161)
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) ، قيل: معناه نكاحهن بعد النهي فاحشة.
وكان زائدة، وقيل: عنى أنه كان فاحشة.
من قبل تنبيهًا أن ذلك لم يكن من الأشياء التي ورد بها الشرع.
ثم نسخ، كذا كثير من الأحكام، بل كان ذلك من المستشنع
الممقوت، ولذلك كان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي.
وقوله: (إِنَّهُ) أي إن ذلك النكاح، ودل عليه بذكر الفعل،(3/1162)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
كما دل على السفه بلفظ السفيه في قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قال ابن عباس: حرم الله أربع عشرة امرأة:
سبعًا من جهة النسب، وسبعًا من جهة السبب،(3/1163)
فالمحرمات من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات
والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ومن جهة
النسبب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة.
وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم، وحلائل
، أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الأختين، وقد
قال قبل: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) .
فقوله: (أُمَّهَاتُكُمْ) تناولهن والجدات وإن علون، وكذا البنات:
تناولهن وبنات الأولاد وإن سفلن، وكذلك الأخوات يتناول
التي للأب والتي للأم والتي لهما، وكذلك بنات الأخ وبنات
الأخت: يتناول بناتهما على ذلك الحد بناتهما وإن سفلن، وخص
تحريم العمات والخالات دون أولادهن، وجاز أن تكون بنات
الأخ وبنات الأخت مفردين، لأن الأخ والأخت يتناول كل واحد
منهما، وكان لفظ الواحد ههنا أخص لإِضافة الجمع إليهما،(3/1164)
وإنما قال: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) تنبيهاً على تأكيد
تحريم الرضاع أنها تجري مجرى النسب، ولأن في ذكر
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي) تنبيهًا أن ليس كل رضاع يحرم، إشارة
إلى ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تحرم الإِملاجة والإِملاجتان "(3/1165)
وقوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) لا خلاف أنه صفة
لربائبكم، وأنه لا يحرم التزوج بهن إلا بالدخول بأمهاتهن.
واختلف هل يرجع إلى قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) مع كونه
شرطاً في الربائب؟ ، فروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام
أنه يرجع إليهما، وأن من طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن
يتزوج بأمها، وقال عمر وابنه وابن مسعود: ليس يرجع إلا إلى
الربائب، وذكروا أن أم المرأة تحرم بنفس العقد، وأكد ذلك(3/1166)
بما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال:
"أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها".
وحكي عن زيد أنه فصل بين أن يطلقها قبل الدخول أو تموت عنه.
ولم يحرم بالطلاق وحرم بالموت.
وأجرى الموت مجرى الدخول، كما جعل الفقهاء في استقرار المهر،(3/1167)
وذهب عامة الفقهاء إلى أن لا فرق بين تحريم ربيبتك في حجرك
كانت أو لم تكن إلا ما حكى إسماعيل بن إسحاق: أن
امرأتي توفيت فلقيت عليّا عليه السلام فقال: ألها بنت؟ فقلت:
نعم، وهي بالطائف، فقال: أكانت في حجرك؟ فقلت: لا.
فقال: انكحها، فقلت: فأين قوله: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)
فقال: إنما ذلك إذا كان في حجرك، وما قاله(3/1168)
فهو ظاهر الآية.
واختلف في قوله: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هل يقتضي الزنا؟
فمنهم من قال: يتناوله وعليه تأول (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ومن قال: لا يتناوله، وقد تقدم ذلك.
وقوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) إنما خص ذلك
ليخرج منه المتبنى، فذلك في معنى قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الآية.
والحلائل ههنا كالأزواج، ثّمَّ.
وفي قوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)
تنبيه أنه لا يصح العقد عليهما معًا في الإِسلام.
ومتى فعل فعقدهما باطل، ومتى عقد على إحداهما فعقد الثانية باطل،(3/1169)
وعند أبي حنيفة: لا يجوز التزويج بإحدى الأختين إذا كانت الأخرى منه في عدة، ولا يجوز وطؤهما بملك اليمين عند عامة الفقهاء، ومتى وطئت
إحداهما لا يجوز وطء الأخرى إلا بإخراج الأولى من ملكه.
وقال أمير المؤمنين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أي عموم(3/1170)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يقتضي تحليلهما، وعموم قوله:
(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يقتضي تحريمهما.
قال: وأما أنا فأحرم ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أجاز ذلك.
وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَف) يراد به ما يراد بقوله (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) .
قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)(3/1171)
أصل الإِحصان والحُصن من الحِصن، ومنه درع حصينه
لكونه حصنًا للبدن، وكذلك فرس حصان، وبهذا النظم قال
الشاعر:
. . . أن الحصون الخيل لا مدر القرى
والحصان في الجملة المحصنة أي الممنوعة، إما بعفتها أو
بزوجها أو بمانع من شرفها أو حريتها، ولما كان الحِصْن في(3/1172)
أكثر المواضع يصح أن يكون من جهة الإِنسان نفسه، وأن يكون
من جهة غيره صح أن يقال محصَن ومحصِن، وهذا الموضع لما كان
المقصود به التزويج قُرئ (المحصَنات) لا غير، إذ كان سبب
إحصانها الزوج، والسفاح الزنا، وسمي بذلك لكون ذلك الماء
مضيعًا، إذ وضع في غير الموضع الذي يجب أن يوضع فيه.
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) منهم من أجرى على العموم.
وقال: حدوث الملك في الأمة يفرِّق بين الأمة وزوجها.
ورُوِي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، ورُوِي في ذلك أن(3/1173)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيع الأمة طلاقها".
ومنهم من خص ذلك في المشركات.
وجعل قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) استثناء منها.
وقال: كل امرأة سُبِيت فقد حلَّت لسابيها، واستدلَّ في
ذلك بما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعث جيشًا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لها أزواج من المشركين، فتحرّجوا من(3/1174)
غشيانهن، فأنزل الله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
وظاهر ذلك يقتضي أن الزوجين إذا سبيا معاً أو مفترقين
أن النكاح يبطل، كما قال مالك.
بخلاف ما قال أبو حنيفة حيث قال:
إذا سُبِيَا معًا لا يبطل النكاح.
وظاهر الآية يقتضي أنه يصح وَطْؤُها على كلِّ حال.
وإنما علم وجوب استبرائها بالسنة.
وقال طاوس:(3/1175)
وابن المسيب: القصد بالآية نهي عن الزنا.
والمحصنات محرّمة على كل واحد منكم إلا امرأته المعقود عليها
بالنكاح أو ملك اليمين، فهذا معنى (إلا ما ملكت أيمانكم) .
ويكون هذا أمرًا إنما مدح به في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) .
وقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
قيل: هو مصدر مؤكد من غير لفظ الأول.
وقيل: هو إغراء وحثٌّ والعامل فيه فعل مضمر.
وقال الكوفيون: هو إغراء(3/1176)
والعامل فيه عليكم، كأنه قيل: عليكم كتاب الله، وعلى ذلك
حملوا قوله:
يا أيها الماتح دلوي دونكا. . . إني رأيت الناس يحمدونكا
وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)
قال السدي: ما وراء المذكورات،(3/1177)
وقال عطاء: ما وراء ذات المحارم، قيل: والصحيح أن المراد
ما وراء كل ما حرّم الله كتاباً وسنة.
واختُلف هل في قوله: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) نسخ؟
فقال بعضهم: نسخ منه بعضه بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا الصغرى على
الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى".
وقال بعضهم: لا نسخ(3/1178)
فيه، وإنما ذلك تخصيص للآية، وقيل: ولأنه لما حرم الجمع
بين الأختين للنسب الذي بينهما نبّه على تحريم ذلك، لأن إحداهما
لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى من قبل النسب.
ولا ينتقض ذلك بأن يجمع الرجل بين المرأة وبين ابنة زوجها الأول، وإن كانت إحداهما لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى، لأن ذلك التحريم ليس من جهة النسب.
وقوله: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) يقتضي أن لابد من المهر
سُمِّي أو لم يسم في العقد.
واستدلّ أصحاب أبي حنيفة في أن لا يصح أن يجعل مهرًا
إلا ما وقع عليه اسم المال، وعلى ذلك(3/1179)
قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) .
وقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ)
كناية عن الدخول، وأصله الانتفاع به.
وقوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي مهورهن.
ورُوي عن ابن عباس أنه حمل ذلك على متعة النساء.
ورُوي عنه أنه قال: نزل "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"،(3/1180)
وقال قتادة: كذلك هو في قراءة أبيّ.
وحمل ذلك عامة الصحابة على النكاح.
وقد ورد في تحريم المتعة أخبار كثيرة، ذكرها الفقهاء في كتبهم.
ونبّه بقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ)(3/1181)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
أن لا جناح في وضعه بعد التسمية وإعطائه إياها والزيادة فيه.
قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
الطول: سعة في العطية، وهو أخصُّ من النيل.
فإن النيل يقال في القليل والكثير.
والطَول لا يقال إلا فيما يزيد على غيره كالطول في أنه يقال اعتبارًا بغيره.
وقال ابن عباس وعامة الصحابة: هو(3/1182)
الغنى، وذلك أن يجد من المال ما يجعله صداق حرة.
وإليه ذهب الثوري، والشافعي.
وقوّى ذلك بما رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من وجد ما يتزوج به حرّة فلا ينكح أمة".
ومال أبو حنيفة: هو أن يكون تحته حرة.
وقال بعض الصحابة: هو أن يجد في قلبه غنى عنها بأن لا يهواها.
وحُكي عن مالك:(3/1183)
لا بأس أن يتزوج الحُرَّةَ على الأمة، والأمة على الحُرَّةِ.
وأصل العنت: الشِّدَّة نحو العَنَد، لكن العِناتَ أبلغُ من العِنَادِ.
لأنه هو المؤدي إلى الهلاك.
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ومنه قيل: أَكَمَةُ عَنُوتٌ.
وقد فسر بالزنا تفسير عموم بخصوص(3/1184)
إذ هو المقصود منه، وهو المؤدي إلى هلاك الآخرة.
ولما بيّن الله تعالى المحرَّمات، وأحل ما وراء ذلك
بشروط ذكرها عقب ذلك بمن لا يستطيع مهر الحرائر ونفقتهن.
فأباح لهم تزوج الأمة، إذ هي أخف مهرًا ونفقة.
وشرط في جواز التزوُّج بها شرطين:
عدم الطَوْل، وخوف العنت.
وفصل بين بعض هذا الحكم وبعضه بفصلين:
أحدهما: قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) .
والثاني: حكم الأمة كيف ينبغي أن تكون صفتها حتى يجوز التزوج بها؟
ومثل هذا الاعتراض يسمى في البلاغة الالتفات.
وقوله: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فمنهم من جعل الإِيمان شرطًا.
وقال: يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة، وإن وجد طول الذمية الحرة.
وقوي بقوله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) .
ومنهم من قال: ذكر المؤمنات على طريق الفضل،(3/1185)
ولا يجوز التزوج بالأمة مع طول الذمية، قال: لأن العلة التي
لأجلها منع من التزوج بالأمة تعرض الولد للاسترقاق، وذلك
معدوم في الكتابيات الحرائر، فيجب أن يكون التزوج بها أولى
من الأمة.
وقوله: (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قال الأصم: أجمعوا أنه أريد به التزوج، وشرط الإِيمان في الأمة.
وقال الحسن ومجاهد والثوري وأبو حنيفة: هو على الاستحباب، فأجازوا
التزوج بالأمة الكتابية.
وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية المؤمنة.
لأن ما أبيح بشرط فلا يجوز ذلك على غير ذلك الشرط، سيما إذا كان الشرط بيانا لحكم.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) تنبيه على أن الاعتبار بالمواصلات
في الأحكام الدنيوية بظاهر الإِيمان لا بحقائقه، فإن الله يتولى السرائر،(3/1186)
وقوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) تنبيه على أمور منها:
معنى ما قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)
ومنها ما دلَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"مولى القوم ".
ومنها أنهم كانوا يعيرّون بالهجنة، فأراد أن يزيل هذا الاعتقاد عنهم،(3/1187)
وقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ، أي أربابهن، وذلك يقتضي
أن لا يصح تزوج الأمة إلا بإذن أهلها، ويقوي ذلك قوله
- صلى الله عليه وسلم -:
"إذا تزوج العبد بغير إذن، سيده فهو عاهر".
وقال عطاء: إذنه على الاستحباب لا على الوجوب.
وقوله تعالى: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
قيل: تقديره بإذن أهلهن، لكن حذف، كقوله (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)(3/1188)
وقال بعضهم: أجورهن: نفقاتهن والأول هو الوجه، لأن
النفقة تتعلّق بالتمكين لا بالعقد.
وقال مالك: تستحق الأمة المهر.
واستدل بهذه الآية على أن الرقيق يملك.
وقوله: (بِالْمَعْرُوفِ) هو أي على ما عرف من حكم الشرع.
وقيل: على سبيل الهبة، فإن المعروف يعبَّر به عن العطية.
وذلك كقوله (نِحْلَةً) .
وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) أمر بأن يكون
وطؤها لازمًا، ولا على سبيل المخادنة، واشتر اط الأمرين أن
قومًا كانوا يبيحون اتخاذ الجارية خدنًا،(3/1189)
وقرأ الحسن: "مُحْصِنَاتٍ"، وقال: معناها عفائف.
ولم يُجوِّز نكاح الأمة الزانية التي أُقيم عليها الحد.
وقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي زوّجن.
وقُرئ: "أَحصَن"، أي تزوَّجن، وقيل: أسلمن.
والأول أصح، وعلى التفسير الثاني(3/1190)
يقتضي أن الأمة إذا زنت - وإن لم تكن مزوّجة - تحدُّ
بحكم الآية، وأن الكتابية لا تحد وإن كانت مزوّجة.
وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ)
قد تقدّم أنه يتعلق بما قبله.
وقوله: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
إبانة أن الاختيار ترك نكاح الأمة رأسًا.
لئلا يكون ولده رقيقا لغيره.
وبين بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وأحكام القرآن لابن العربي (1 4 5 4) ، والمحرر الوجيؤ (4 86) .
والجامع لأحكام القرآن (5 143) .
أي أسلمن وهو قول ابن مسعود والشعبي والزهري والسدي والجمهور
كما ذكر ابن عطية. انظر: جامع البيان (8 99 ا - ا 20) ، وأحكام
القرآن للجصاص (2 68 1) ، والنكت والعيون (1 473) ، وأحكام
القرآن لابن العربي (1 4 0 4) ، والمحرر الوجيؤ (4 86) ، والجامع
لأحكام القرآن (5 143) .
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2 168، 69 1) ، وأحكام القرآن
لابن العربي (1 405، 505) ، والمحرر الوجيؤ (4 86) ، والجامع
لأحكام القرآن (5 43 1، 44 1) ، وتفسير غر ائب القرآن (2 397) .
انظر: اْقوال العلماء في تفسير العنت في: معاني القرآن للزجاج (2 42) .
وأحكام القرآن لابن العربي (1 407) .
انظر: جامع البيان (8 207، 208) ، ومعاني القرآن للزجاج (2 42) .
وأحكام القرآن للجصاص (2 175) ، وأحكام القرآن لابن العربي
(1 7 5 4) ، ومعالم التنزيل (2 98 1) ، والمحرر الوجيؤ (4 88!.
والجامع لأحكام القرآن (5 147) .
1191(3/1191)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
أن هذا وإن كان مكروها فقد غفر لكم، ورحمكم في إباحته.
فالأول هو تبين العادة، والثاني وهو قوله: (تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
حث على مكرمة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إياكم وخضراء الدمن ".
وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الحكم المراد وبين الفضل ليكون قد
أدّب عباده بالأمر.
قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
السنن: جمع السنة أي الطريقة المستقيمة.
وأصلها من سن الماء، وعنه استُعير من سن السيف
لما كان يشبه عند صقله بالماء.
واستُعير منه سن الفرس، كما يقال: صقل الفرس.
واللام في قوله: (لِيُبَيِّنَ)(3/1192)
فيه قولان؟ قال الفرَّاء: أردت أن يكون كذا
وأردت ليكون، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) .
وأمرت أن أعدل.
قال: ويُعَدَّى هذان الفعلان باللام تارة.
لكونهما طالبين للفعل المستقبل.
وقال بعضهم: بل الفعل محذوف، واللام للعلة على تقدير:
يريد الله ما يريد لأن يبين.
وقوله: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
منهم من خص وقال: أراد أن يحرم علينا ما حرم عليهن
بالنسب والرضاع والمصاهرة.
وقيل: عنى ول ما ذكره في قوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)(3/1193)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
ومنهم من أخذه أعم من ذلك، فقال: إن الله تعالى شرع لكل
أمة عبادة ومكارم، ولم يختلف حكم أصولها، وإن اختلفت
فروعها، وعلى ذلك قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .
فبين أنه يريد أن تكون هذه الأمة جارية مجرى هؤلاء في ذلك.
وقيل: عنى أنه يبين لكم طريق من قبلكم إلى الجنة.
وهو المسئول في قوله تعالى: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .
وبين أنه أراد به ذلك لعلمه وحكمته.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
الميل وإن كان عامًا في الميل إلى الخير والشر.
فالمقصود به ههنا الجور عن قصد السبيل.
ولما كان جميع عبادة الله بالقول المجمل ضربين،(3/1194)
صقل العقل، وقمع الشهوة، وكلُّ أمر ونهي فذريعة إليهما.
صار اتباع الشهوة سبب كل مذمة، فلذلك عبر بمتبع الشهوات عن
الفاسق والكافر، وعلى هذا قوله: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) .
فإن قيل: فليس اتباع الشهوات مذمومًا في كل حال.
بل منها ما هو محمود؟
قيل: قد قال بعض المتكلمين وبعض المفسرين:
عنى بذلك بعض الشهوات.
وقال بعضهم: عنى من يتبع الشهوات كلها.
والصحيح أن اتباع الشهوة في(3/1195)
كل حال مذموم، لأن ذلك هو الائتمار لها من حيث ما دعت.
وما سوّغ من تعاطي ذلك، فليس جواز تعاطيه من حيث دعت
الشهوة إليه، بل من حيث سوغ العقل أو الشرع، فذلك هو
اتباع لهما، ويؤكد ذلك قوله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
وقوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)
وقيل: عبد الشهوة أذلُّ من عبد الرق.
إن قيل: كيف أدخل اللام في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)
ولم يدخله في قوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ؟
وكيف أعاد ذكر إرادته التوبة؟ ولمَ قال: (وَاللَّهُ يُرِيدُ)
فقدم ذكر المخبر عنه، ثم قال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ)
فأخر المخبر عنه؟
قيل: أما إدخال اللام في الأول فلأنه عنى أنه يريد ما يريد
لأجل التوبة عليهم، وأراد بقوله (أن يتوب) أنه كما أراد ما هو
سبب التوبة عليهم، فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة
سبب الفعل دون الفعل نفسه، ففي هذا ظهور فائدة اللام وحسن(3/1196)
إعادته، واقتضى إعادته أيضا ذكر قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ)
ليبين أن إرادة الله لكم مضادة لما يريدونه.
وأما تأخير المخبر عنه في قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ) فيجوز أنه
جعل الواو للحال لا العطف، تنبيهاً أنه يريد التوبة عليكم
في حال ما يريدون أن تميلوا، فخالف بين الإِخبارين ليبين أن
الثاني ليس على العطف.
وتخصيص الميل العظيم هو أن الإِنسان قد يترك تحري الخيرات
من الإِيمان والأعمال الصالحة، إما لعارض شغل وإما لكسل.
وإما لضلالة، وهو أن يسبق إلى اعتقاد باطل فينشأ عليه.
وإما لفسق وهو أن يكون مع الاعتقاد يستلذ تعاطي الشر.
ومن تركه للشغل فهو أسهل معالجة ممن يتركه لكسل.
ومن تركه للكسل(3/1197)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
فهو أسهل ممن تركه للضلال، وكذا ما بعده، وكأنه قال:
إنهم أرادوا أن يجوروا جورًا عظيمًا، ليكونوا أبعد من الرشاد.
والإِشارة بالمعنى إلى نحو قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) ، وعلى ذلك قوله: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)
فإن قيل: فهلا خصَّ الميل ليزيل الإِشكال، إذ الميل تارة إلى الحق
وتارة إلى الباطل؟
قيل: لما كانت العدالة وسطا وكان أطرافها كلها جوزا.
ولذلك سميت وسطا، وسواء، وعدلاً، وصراطًا مستقيمًا.
نبّه بإطلاق لفظ الميل: أن الكفار يريدون منكم الميل
عن العدالة على أي وجه كان، إفراطا كان أو تفريطًا.
وكل ذلك ضلال، ولهذا وصَّى الله تعالى بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) .
قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)(3/1198)
قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ) في موضع الحال، كأنه قال:
والله يريد أن يتوب عليكم،مريدًا أن يخفف عنكم.
وفي الآية أقوال: الأول: قول من خصصها وحملها على ما تقدم.
وقال: عنى أنه أباح نكاح الأمة تخفيفا عنكم.
فالإِنسان ضعيف في تَحَيُّرهِ عن "إمساك نفسه عن مشتهاه.
الثاني: أنه خفف عنكم تكلف النظر، وأزال الحيرة فيما بين لكم
مما يجوز من النكاح.
الثالث: أنه قصد به ما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"جئتكم بالحنيفية السمحة".
وما ذكره في قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) .
والرابع: أنه تبين لكم مقصودكم وما دعيتم(3/1199)
إليه من الثواب العظيم لتعرفوه، فيخف عليكم الصبر في تحريه.
فالإِنسان لا يمكنه الصبر فيما لا يعرف ثمرة الصبر فيه، ولهذا
قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) .
الخامس: يريد الله أن يخفف عنكم بما يحُمّلكم من التعب.
فإن كل تعب يفضي إلى راحة عظيمة، فذلك في الحقيقة راحة.
ولهذا قيل للرجل يتحمل تعبًا عظيمًا في عبادة: ألا تريح نفسك؟
فقال: راحتها أريد.
السادس: إنه لم يعن بالتخفيف ما يستخفه الطبع وتميل إليه
النفس، وإنما عنى ما يخف به تحمل ما يبلغنا إلى ثوابه، وعلى نحو
هذه الآية قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)
وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
ووصف الإِنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو:(3/1200)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) أو باعتباره بنفسه دون ما يقويه من
فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى
بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)
فأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه الله من القوة التي يتمكّن بها
من خلافة الله في أرضه، ويتبلّغ بها في الآخرة إلى
جواره تعالى - فهو أقوى ما في هذا العالم.
ولهذا قال تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) .
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع بعضهم من أن يأكل عند غيره.
حتى نزل قوله:(3/1201)
(وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى آخر الآية.
ولم يكن نسخًا لكن تبيينا.
وقوله: (بِالْبَاطِلِ) إشارة إلى الوجوه التي حظر تناول المال منها ووضعه فيها، واستثنى التجارة تنبيهًا على إباحة الكسب إذا كان من وجهه.
فمن نظر نظرًا فقهيًّا قال: ظاهرها يقتضي أن لا يجوز تناول الغير منها، كالصلاة والزكاة والميراث وغير ذلك.
وقال بعضهمْ: لم يعن بالتجارة المبايعة فقط.
بل عنى كل معاملة مباحة من قرض وفرض، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يحل مال امرى مسلم إلا بطيب نفس منه "،(3/1202)
ومنهم من عنى بذلك المنع من وضع المال وإنفاقه في غير الوجه المباح.
وقال: عنى بالتجارة الوجهة المباحة التي يحلُّ صرف المال إليها.
وأما من نظر نظرًا أدق من ذلك، فإنه جعل أكل المال بالباطل تناوله
من حيث لا يسوغه العقل، ولا يجوّزه الشرع، من استنزال الناس
عما في أيديهم بالخدع، ومساعدتهم على الباطل طمعًا في نفع.
وجعل من ذلك أيضاً وضعه حيث لا يجوز، وإنفاقه رياء كما قال
تعالى: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) ، وجعل هذه التجارة هي التجارة المذكورة بقوله تعالى:
(هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الآية.
وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)
الآية.(3/1203)
وشرط فيها التراضي، تنبيهًا أنه يحمد ذلك متى أنفق
الإِنسان في سبيل الله عن طيب نفس على الوجه الذي ينبغي وبمقدار
ما ينبغي، حسب ما بيّنه الله تعالى، ودل على رضاه في صرفه إليه.
وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) نظر إليه نظرات مختلفة.
ففسر بحسبها، الأول: لا يقتل بعضكم بعضًا.
قال: والنهي لا يصح إلا على هذا.
فإن الإِنسان مضطر إلى أن لا يقتل نفسه ما لم تعرض له شبهة
كشبهة أهل الهند في قتلهم أنفسهم.
قال: واستعار لفظ الخطاب في قوله (أَنْفُسَكُمْ) تنبيهًا أنه يجب أن
تكون نفس كل واحد منكم عند صاحبه كنفسه، قال: وعلى(3/1204)
ذلك نبّه بقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) .
قال: وعلى هذا قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) .
الثاني: من حمل الخطاب على ذلك لكن خصّص، وقال: لا يأكل
بعضكم مال بعض، الذي به قوامه، فيكون فيه قتله.
الثالث: لا يقتل بعضكم بعضا فيقتص منه فيكون كمن قتل نفسه.
الرابع: لا تقتلوا أنفسكم بضجر وغضب.
الخامس: لا تركبوا ما يؤدي بكم إلى القتل.
فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وهذا كالرابع إلا أن مأخذه أعم منه.
السادس: قول من نظر نظرًا أشرف فقال:
لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى هلاك الأبد، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وذلك بتصريف النفس في غير ما خُلِقَتْ له، وبيَّن للناس من(3/1205)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
العلم والعمل الصالح المدلول عليه بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
ولذلك سمى من صرف نفسه في غير ذلك خاسرًا.
حيث قال: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية.
قال: وقتل النفس في الحقيقة ترفيهها في الدنيا.
وباعتبار الدنيا والآخرة أُمِر الإِنسان تارة بقتل نفسه أي
قمعها وتذليلها، ونهي تارة عن قتلها، ومثل هذه الآية قوله
تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)
ويجري مجراها في احتمال النظرين قوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) .
قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
العدوان تجاوز العدالة بإفراط، وذلك أن العدل هو الوسط الذي تجاوزه الإِفراط والقصور عنه جميعا، فمن حاد عنه قيل: جار، ومن بالغ في(3/1206)
الجور قيل: طغى، ومن تخطاه بإفراط قيل: تعدى، وقيل لجميع
ذلك: الظلم، فالظلم أعم الأسماء.
إن قيل: كيف جمع بين الظلم والعدوان، وقدم العدوان مع كونه أخصَّ من الظلم، وحكم العام والخاص إذا اجتمعا أن يقدم العام على الخاص.
نحو قوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) ؟
قيل: في ذلك جوابان:
الأول: أن يكون العدوان إشارة إلى الظلم الذي يتجاوزه الإِنسان إلى غيره، وعنى بالظلم ظلم النفس المعني في قوله: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)
وهو الإِثم المذكور في قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
فبيّن أن من جمع بين الأمرين فقد ظلم نفسه، وظلم غيره، فهو مستوجب للنار، على هذا يكون العني بالظلم غير المعني بالعدوان.
الثاني: أنه قدم العدوان الذي هو أخص من الظلم تنبيهًا أن من ارتكب صغيرة ولم يقمع نفسه عنها جرَّته إلى ما هو أعظم منها، فنبه أن حق(3/1207)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
الإِنسان أن يحفظ نفسه عن الصغيرة خشية أن يقع فيما هو أعظم
منها، ومعنى الآية أن من يفعل ما نهُي عنه من قتل النفس وأكل
المال بالباطل وسائر ما تقدم النهي عنه فسوف يجعله صلا كما
قال: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) .
ونبّه بقوله (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
أنه لا يتعذر عليه عقابهم.
قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
من المفسرين - وهو أكثرهم - من حمل السيئات على الصغائر.
وقال: معنى الآية: إن تجتنبوا كبائر الذنوب نُكفّر عنكم صغائرها.
ثم اختلفوا على أي وجه اعتبار الصغيرة والكبيرة.
وذاك أن الصغير والكبير من الأسماء المتضايفة التي
لا يعرف أحدهما إلا باعتبار الآخر،(3/1208)
وقال بعضهم: في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك، وصغيرة
لا أصغر منها كحديث النفس أو همّه بسيئة ونحو ذلك.
وبينهما وسائط كل واحد بالإِضافة إلى ما فوقه صغير، وبالإِضافة إلى
ما دونه كبير، وقال: ومعنى الآية أن من عنَّ له أمران فيهما
مأثم، واضطر إلى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما وترك أكبرهما:
كمن أكره على أنْ يقتل مسلمًا، أو يشرب قدح خمر فارتكب
أصغرهما كُفِّر عنه ما ارتكبه.
وقال بعضهم: الذنوب كلها ضربان:
ضرب: كبيرة كالشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا.
وضرب: صغيرة، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال: الصغيرة
غير معلومة، وهي كل ما عُلِّق به وعيد في(3/1209)
الآخرة، أو جُعِل له عقوبة في الدنيا، وبعضها غير معلوم.
قالوا: والصغائر كلها يجب أن تكون غير معلومة، وإلا كان
إغراءً بالمعصية، وذلك أن الله تعالى وعد أن يغفر بتجنُّب الكبائرِ
الصغائرَ، فلو بيّنا جميعًا لكان المكلَّف لا يبالي بارتكاب الصغائر
مع تجنب الكبائر، فكان يؤدي ذلك إلى مفسدة، ومنهم من
قال: يجب أن يكونا معلومين، وإلا لم يصح أن تكون الكبيرة
معلومة من حيث ما هي كبيرة لما تقدم أن ذلك من الأسماء
المتضايفة، التي لا يُعرف أحدهما إلا بالآخر، قال: فالكبائر هي(3/1210)
محارم الله التي علم كونها محجورة، والصغائر ما هو متشكك فيه
المعني بقوله: "دع مما يريبك إلى ما لا يريبك ".
وعليه) دل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات.
وسأضرب لكم مثلًا: إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله محارمه.
ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه ".
فمرتكب الكبائر(3/1211)
جار مجرىً داخل الحمى، ومرتكب الصغائر جار مجرىً حوله.
والإِنسان منهي عن الدنو منه، ومن لا يعرف ذلك فهو مُعَرَّض
الوقوع فيه، ثم كما قد بين تعالى في كتابه أن يغتفر الصغائر بشرط
اجتناب الكبائر، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الصغيرة إنما تكون صغيرة ما لم يكن عليها إصرار. فقال:
"لا صغيرة مع إصرار".
وقال: "إن المحرمات تجتمع على الرجل فتهلكه".
وإذا كانت الصغيرة منهيّا عنها محذرًا منها فلا ضير بتعريفها.
بل يجب تعريفها، فالإِنسان بتجنُّب الكبيرة يصير مطيعا غير فاسق.
وبتجنُّب الصغيرة وهي المتشكك فيها يصير ورعًا، ولذلك قيل لبعض الصحابة: ما أشد الورع؟
فقال: ما أيسر الورع، إذا شككت في شيء فدعه،(3/1212)
وقال بعض الصوفية: اعتبار الصغيرة والكبيرة بمرتكب الذنب.
فقد يكون الذنب من زيد صغيرًا ومن عمرو كبيرًا، وذلك بحسب
مراتبهم في المعارف والأحوال، فالأولياء الذين بلغوا المنازل
قد يستعظم منهم ما لا يستعظم ممن لم يترشح لمنزلتهم، وذلك
معروف في السياسة الدنيوية، قال: ولهذا عاتب الله تعالى نبيه
في كثير من خطراته التي قد تجاوز بها عن غيره.
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: إن تجتنبوا هذه الكبائر التي
نهيتم عنها في الآيات المتقدمة كفَّرنا عنكم ما قد أسأتم فيه من(3/1213)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
قبل، والمدخل الكريم: ما وعد به من الثواب العظيم، وأشار
به إلى جميع منازله على اختلاف مراتبها، ونبه أن كل مدخل
لا يخرج عن كونه كريمًا أي مكرمًا.
قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
التمني: تشهي الإِنسان أن يُمنى له شيء، أي يُقدر، وذلك مذموم.
فإن تمنيّه إن كان لشيء قَدَرُهُ أن لا يُبلَغ إلا بالطلب
فيجب أن يطلبه لا أن يتشهّاه، وإن كان لشيء يأتيه بغير طلب
فتشهيه محال، وإن كان الشيء لم يُقدَّر ففي تشهيه معارضة حكمة(3/1214)
الله فيما قدر، ولذلك قيل: من تمنى فقد أساء الظن بالله.
ولكون ذلك غير مغن، قال الشاعر:
. . . إنَّ لَيْتًا وإنَّ لواً عناء
وقال:
. . . وما يغني عن الحدثان ليتُ
وهو مع ذلك ذريعة إلى التحاسد والبخل والظلم.
وقد رُوِيَ في الآية أن أم سلمة قالت: ليتنا كنا رجالاً فنجاهد،(3/1215)
فأنزل الله تعالى ذلك، وقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ)
قيل: إنها قالت: ليتنا لم يجعل ثوابنا في الآخرة على نصف ثواب الرجل.
كما جعل نصيبنا من الميراث، فأنزل الله تعالى تنبيهًا على أن
لا اعتبار في مجازاة الأعمال بالذكورية والأنوثية.
وقيل: هو تبيين لفضل الرجال كقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
وقيل: هو تبيين أن الحسد لا يُغني، وأن الله لا يغير لحسد حاسد.
وقيل: هو حث على طلب منزلة الحسود بالعمل الصالح دون الحسد والتمني، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"ليس الإِيمان بالتمني ولا بالتحلي "
وقال محمد بن بحر: معناه ليس كل ما للميت واجبًا للورثة.
بل له نصيب يوصي به.
قال: وذلك نحو ما ذكر الله تعالى في قوله:(3/1216)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) .
وبين بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أنه أعلم
بما يستحق كل إنسان، كقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) .
قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
المولى من الولاء، وهو تتابع الشيء من غير حائل.
وجعل المولى لمن تولى حفظ الشيء، وتُعورف في المعتِق، والمعتَق.
وابن العم، والحليف، وولي الأمر، والعصبة،(3/1217)
قال ابن عباس: هم الورثة ههنا، وقال مجاهد وقتادة: العصبة
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من مات وترك مالًا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلًّا فأنا وليه ".
بيّن أن لكل مال تركه الوالدان والأقربون موالي يرثونه.
وقوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قيل: عنى به(3/1218)
عقد الحلف، وكانت العرب تتوارث به، ثم نُسِخَ بقوله:
(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)
وذلك عن ابن عباس والحسن وسعيد وقتادة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: الآية تقتضي أن المعاقدة يُستحقُّ بها الإرث.
قالوا: ويقوِّي ذلك قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) .
فجعلِ ذوي الأرحام أولى من المعاقد، فدل ذلك أن المعاقد فيه حقّا.
قالوا: وروى تميم الداري أنه قال: يا رسول الله:
ما السنّة في الرجل يسلم على يد مسلم؟
فقال: "هو أولى بمحياه ومماته ".(3/1219)
وقيل: عنى الذين عقدت أيمانهم في الجاهلية، فجعل تعالى
لهم نصيبًا كنصيب الأخ من الأم، وسقط حكمهم بموتهم.
وقيل: جعل لهم النصيب من النصرة دون الإِرث.
وقد روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعطاء. قالوا:
وحكم الأول قديم بقوله: (وَالْأَقْرَبُونَ) .
واستؤنف قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قال ابن الحسن: عنى بالذين عاقدت أيمانكم: الأزواج لقوله تعالى:
(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)
قال: وصار المذكور في هذه الآية جملة ما فصَّله في آيات المواريث.
فصار هذه الآية كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطى كل ذي حق حقَّه "،(3/1220)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
قال: والأيمان جمع اليمين التي هي الجارحة.
وسُمي الحلف بها اعتبارًا بالصفقة في المبالغة.
قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
القنوت: القيام على وجه الطاعة، ويُستعمل في كل واحد منهما.
والنشوز: بغض المرأة للزوج، وأصله من النشز.
فكأنها هي المرتفعة بنفسها أو طرفها عن التزام ما يلزمها للزوج.
وبهذا النظر قال الشاعر:(3/1221)
إذا جَلسَت عند الإِمام كأنها. . . ترى رفقةً من ساعة تستحيلها
بيّن تعالى أن السياسة للرجل دون المرأة، وأن لكلِّ واحد
من الرجل والمرأة فضيلتين: إحداهما: تسخير من الله تعالى.
والأخرى من كسبه، فإحدى فضيلتي الرجل: ما خصّه به من علوه على
المرأة، والثانية: بإنفاق المال، وإحدى فضيلتي المرأة: قيامها بما يلزمها
من طاعة الأزواج، وحفظ غيبهم، وتحصين ما سلّموه إليهن.
والثانية: إسبال الله ستر رحمته عليها وحفظها بوصية الزوج بها، وتسخيره
للقيام بمراعاتها.
وقرأ أبو جعفر المدني: "بما حفظ اللهَ" بالنصب،(3/1222)
أي فعل ذلك بهن بحفظهن الله، وجعل بما بمنزلة المصدر.
وقوله: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ) قال بعض أهل اللغة: أي تعلمون.
وأنشد:
فلا تدفنني في الفلاة فإنني. . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها(3/1223)
وأرى قائل هذا تصور الظَن بصورة العلم، فأطلق عليه اسمه.
فأكثر الخوف مضمّن بالظن.
وقوله: (فَعِظُوهُنَّ) تنبيه على أنها تُوعظ أولاً، ثم تُهجر، ثم تُضرب.
وهذا مقتضى حكمة السياسة، وعليه بني قول الشاعر:
أناة فإن لم تغن عَقَّبَ بعدها. . . وعيد فإن أتغن أغنت عزائمه
وقوله: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) كالتصريح في الكناية عن الجماع.
وقول من قال: هجر الكلام فليس بشيء،(3/1224)
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تهجروا النساء إلا في بيوتهن، ولا تهجروهن إلا في المضاجع.
فإن أبين فاضربوهن ضربًا غير مبرح ".
وقوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) تنبيه على أن الذي يلزم هو بذل الطاعة في
الظاهر.
فأما المحبة بالقلب فليس من فعلها فتؤخذ به.
ونبّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) على أن الله تعالى مع هذه
الحالة يقتصر من عباده في كثير من عبادتهم على الظاهر،(3/1225)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
وقيل: نبه أن لا يظن أحد الزوجين إن كلفه إلا الحق، فإنه يتعالى ويكبر
عن الظلم.
قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
الشقاق: التعادي، ومنه قيل: شقّ فلان العصى، إذا تباعد في الخروج
عن الطاعة، ومنه المشقة، وشقّ على فلان كذا.
والتوفيق كالمساواة، ومنه توفيق الله تعالى، فإنه موافقة قضائه فعل العبد
فيما يقصده، ويقال الاتفاق في كل متطابقين على بعض الوجوه،(3/1226)
ولما بيّن تعالى من حال نشوزها ما يمكن للزوج إصلاحه، بين
ههنا ما يشتبه الحال فيه، واحتيج إلى ناظر فيما بينهما.
وأكثر العلماء على أن المأمور ببعث الحكمين الإِمام أو صاحبه.
وإليه ذهب مالك، والأصم، وجعلوا للحاكم الطلاق والخلع
كالوكيل، وإليه ذهب ابن عباس.
ومن الفقهاء من لم يجوِّز لهما الخلع والطلاق.
فإن ظاهر الآية لم يقتضهما، ولا فرق(3/1227)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
بين أن يكون الحكمان من أقاربهما، أو من قبلهما.
وقال ابن عباس: إرادتهما الإِصلاح أن يخلو كل واحد
من الحكمين بأحد الزوجين، فيتعرف حاله في السِّرِّ ليبني الأمر عليه.
وفي الآية دلالة على أن كُلّ أمرٍ وقع فيه تنازُع يجوز فيه التحكيم.
وبهذه الآية استدل في أمر الحكمين.
ونبَّه بقوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) أن من أصلح نيته في أمر يتحرّاه أصلح الله مبتغاه، كما رُوِيَ في الخبر أن "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ".
وقيل: إذا فسدت النيّة وقعت البلية.
قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
الجار اعتبارًا بكونه من ناحية دارك، من قولهم: جار
عن الطريق، ثم جُعِلَ أصلًا في بابه، فقيل: استجرت فلانًا(3/1228)
وآجرته. إذا رعيته مراعاة الجار.
والجنب أصله في الجارحة، ثم قيل في المكان اعتبارًا به.
فقيل: جنبته إذا أخذته في ناحية
الجنب، واجتنب عنه إذا تركه وتباعد عنه.
والأجنبي: الغريب، والجنابة: الاعتزال والتباعُد.
ومنه قيل للحالة المقتضية لترك الصلاة: جنابة.
والجار ذي القربى والجار الجنب: قيل: عنى به قرب الرحم وبعده.
وقيل: عنى به قرب المسافة(3/1229)
وبعدها، والصاحب بالجنب: قيل: جار البيت، دانيا كان نسبه
أو نائيا.
وقيل: هو الرفيق في السفر، وقيل: هو المنقطع إليك
رجاء خيرك، وقيل: المرأة.
(وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قيل: وقد أمر بالإِحسان إليهم، وأن لا يكلَّفوا ما لا يطيقون،(3/1230)
إن قيل: لم قدم الأمر بالإِيمان على النهي عن الشرك.
ومعلوم أن تجنُّب الشرك مقدَّم على حقيقة الإِتيان با لإِيمان؟
قيل: إن الشرك يقال على ضربين:
أحدهما: الشرك الأكبر، وهو إثبات صانع غير الله.
والثاني: الرياء، وإياه(3/1231)
عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى شداد بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أمران أتخوَّفهما على أمتي من بعدي: الشرك، والشهوة الخفية.
ألا إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولكنهم يراءون ".
فقلت: أشرك ذلك؟ قال: " نعم "، وإياه عنى تعالى بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) الآية.
إن قيل: لِمَ ذكر ههنا تسعة أصناف وأمر بالتوفُّر عليهم.
وذكر في سورة البقرة: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ)(3/1232)
وقال بعده: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) ؟
قيل: إن المذكور أولاً في سورة البقرة ما أمر به بني إسرائيل.
وأما قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) فهو أمر بإيتاء المال الذي
يقتضيه البر، لأنه قال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ، وهذه الآية
حتّ على فعل الإِحسان كلّه، نصرة كان أو صلة.
وقيل: إن قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) عنى المال كله على سبيل التبرُّع.
وذلك إذا طلب الإِنسان غاية البر، ولهذا قال الشعبي: ما
بَقَّى قول الله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) على(3/1233)
أحد شيئا من المال، ولإِرادة إخراج المال كلّه على التبرُّع خصَّ
الزكاة بعده بالذكر، فقال: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) .
وأراد بهذه الآية ما يحصل للإِنسان به تمام العبادة.
وفعل الإِحسان. وذلك لعبادة الله المتعرية عن الرياء، ومراعاة هؤلاء بالإِحسان.
فإن قيل: لم قدم الجار على ابن السبيل وله حق واجب في المال؟
قيل: ابن السبيل الذي له حقٌّ في المال هو الفقير، ولم يقصده بهذه
الآية، وإنما المقصود تفقُّد المذكورين على سبيل التبرُّع، وحقُّ
الجار أوكد من حقِّ الغُرباء. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورثه "؟
إن قيل: كيف قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) ؟(3/1234)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
قيل: المختال هو الذي يظن أن له بماله كرمًا، من قولهم: خِلْتُ، وكأنما
إلى معناه أشار تعالى بقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) .
والفخور: من يتبجح بالقُنْيَات الزائلة، فبيَّن تعالى أن من أمسك ماله، وصرفه عن الوجوه المذكورة فذلك لظنه أن له بماله خيلاء وفخرًا فيضنّ به، ويُبيِّن أن هذين سبب البخل ما روي:
"أهلك الناس شيئان: حبّ الفخر، وخوف الفقر ".
ولهذا عقبه بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) الآية.
فجعل تفسير الاحتيال والفخر البخل بالمال، والإِنفاق على وجه الرياء.
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)(3/1235)
البخل: أعظم المعايب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أي داء أدوى من البخل؟ "
وأعظم منه حثُّ الغير عليه، وكأن الشاعر بهذه الآية ألمَّ في قوله:
وإن امرأً ضَمنَّت يداه على امرئ. . . بنيل يد من غيره لبخيل
وقالوا: فلان يمنع دَرَّه ودرَّ غيره، والحرُّ يعطي والعبد يألم
قلبه، ولم يرُد تعالى بالبخل البخل بالمال فقط، بل بجميع ما منه
نفع الغير، من نصرة وعلم، ودخل في عموم الأمر بالبخل: من
ترك شكر من أحسن إليه، أو أخل بقضاء دين فيصير سببًا لمنع
الإِسداء إلى الغير، ولهذا قيل: لعن الله قاطعي المعروف.
وقال بعضهم: معناه يبخلون ويتأمرون على الناس، ويأمرونهم(3/1236)
بشكرهم مع بخلهم، فيكون قوله (بِالْبُخْلِ) في موضع الحال.
وإلى هذا أشار الشاعر بقوله:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما. . . تيه الملوك وأفعال المماليك
وقوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
يدخل فيه من يستحقر ما آتاه الله من نعمته مالاً كان أو عافية، ومن
خُوِّل علمًا ولم يفده مقتبسه منه، ومن ينسى كثير ما أنعم الله
عليه ويتذكر قليل ما يناله من نائبة، كقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قيل في تفسيره: ينسى النعم وي) كر
المحن، ونبه بقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) أن من(3/1237)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
فعل ذلك فهوكافر للنعمة، ومن كفر نعمة الله فقد أعدَّ له عذابَا.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
ذم في هذه الآية السّرف، كما ذمّ في الأولى البخل.
فمن السرف أن يتشبَّع الإِنسان بإنفاقه، فلا ينفقه على ما يجب.
وكما يجب فصار الإتيان كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)
وليس يعني بقوله: (وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) جحود ذلك باللسان فقط، بل عنى معه ترك ما تقتضيه هذه المعرفة، تنبيهَا أن المنفق رياء لو كان له حقيقة إيمان
لتذكر في تناول ما يتناوله، ولأدّاه ذلك إلى أن يتفكّر أين يضعه،(3/1238)
فإن قيل: فأيّ تعلُق لقوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا)
قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، كأته قيل: الذين ينفقون أموالهم
رياء الناس زين لهم الشيطان الذين هم قرناؤهم (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) ، وعلى ذلك قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)
ولم يعن بالشيطان إبليس فقط، بل عناه والهوى.
وكل ما دعاه إلى باطل، وصرفه عن حق.
وقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) في قوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) استدعاء
لطيف إلى تحرّي الإِيمان والإِنفاق على ما يجب، لأن لفظه استخبار
يستدعي جوابًا، ولا يمكن جواب المستخبر عنه المشتبه إلا بعد
التفكُّر فيه، والتفكُّر فيما ذكره تعالى يؤدّي إلى أن ليس على(3/1239)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
متحري ذلك ضير، بل له كل خير.
إن قيل: لِمَ قدّم الإِنفاق في الآية الأولى وأخَّره ههنا؟ قيل: لما
قصد في الأولى إلى ذمهم بالإِنفاق رياء لكونهم غير مؤمنين، قدّم
ذكره، وجعل قوله: (وَلَا يُؤمِنُونَ) في مو ضع الحال تنبيهًا أن
ذلك منهم لكونهم غير مؤمنين، ولما حثّهم في هذه الآية على ما يجب
أن يتحروه ابتدأ بذكر الإِيمان، تنبيهًا أن إنفاقهم غير معتد به إلا
بعد الإِيمان بهما.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
عنى بالظلم(3/1240)
ههنا بخس الحق ومثقال: مفعال: من الثقل، وضرب تعالى
الذَّرَّ مثلًا للشيء الصغير، تقريبًا على المخاطب.
واستُعمل لفظ المثقال تنبيهًا أن ذلك يعظم جزاؤه وإن صَغُر قدره.
وفي قراءة ابن مسعود: مثقال نملة. وإذا قرئ (حَسَنَةً) بالنصب فتقديره: إن
تكن الذرة حسنة، وردّ الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف.
وإذا رفع فمعناه: إن تقع حسنة، ولا تحتاج كان ههنا إلى(3/1241)
خبر، ويضاعِف ويُضَعِّفُ يتقاربان.
وقال القتيبي: يُضاعِف للمرة ويُضِعِّف للتكثير، وقد قال(3/1242)
تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، وقال: (أَضْعَافًا كَثِيرَةً)
و (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) .
وفائدة قوله: (مِنْ لَدُنْهُ) أن كلَّ ما أريد تعظيمه ينسب إلى
الله، فيقال: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، و (مِنْ لَدُنْهُ) ، و (له) .
و (بيت الله) ، و (نَاقَةُ اللَّهِ) ، وعلى هذا قوله تعالى:
(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ، ووصْفُ الأجر بالعظيم اعتبار
بالأجور الدنيوية.(3/1243)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
تقديره: كيف حالهم في ذلك الوقت استعظامًا لأمرهم؟!
وقوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فيه أقوال:
أحدها: أنه أشار إلى أُمته، ويكون قوله: (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) عامًّا.
وخصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته بالذكر تعظيمًا لهم.
والثاني: ما قاله ابن عباس: إن هذه الأمة تشهد للأنبياء، والنبي
- صلى الله عليه وسلم - يشهد لأمته تزكيةً لهم.
واستدلَّ بقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً) .
والثالث: إن قوله: (عَلَى هَؤُلَاءِ)(3/1244)
إشارة إلى الأنبياء الذين هم الشهداء على أممهم.
إن قيل: كيف يصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا للأنبياء الذين قبله وهو لم يحضرهم؟ وأي فائدة لشهادته وشهادتهم؟
قيل: إن الأنبياء لم يختلفوا في أصول ما دعوا إليه.
بل كلُهم لسان واحد في الدعاء إلى التوحيد.
وأصول الاعتقادات والعبادات، وسائر جمل الشريعة.
وعلى ذلك نبَّه بقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الآية.
وكل واحد منهم معتقد لما اعتقده الآخر، ومبلِّغ ذلك مثل ما بلَّغه الآخر.
ثم شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعة لأصول شرائع من تقدّمه، ولذلك قيل له: خاتم الأنبياء، وعليه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتًا، وترك موضع لبنة منه، فكنت موضع اللبنة"،(3/1245)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
وبهذا المعنى ألم بعض المُحدثين فقال:
نُسِقوا لنا نَسْقَ الحساب مقدّمًا. . . وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
وأما فائدة إقامتها عليهم فتبكيت للعاصين، وتشنيع عليهم.
وتزكية للمؤمنين، على ما ذكر في قوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) .
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
منهم من جعل الصفتين لفريق واحد، أي الذين جمعوا بين الكفر ومخالفة
الأمر، ومنهم من جعلهما وصفين لفريقين، أي الذين كفروا
وعصوا الرسول؛ فالأول للكفار، والثاني لأهل الكبائر،(3/1246)
وقوله: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي تمنوا أن لم يُبعثوا من القبور.
وقيل: أن جعلوا ترابًا كالبهائم، وقيل: أن لم يخلقوا رأسًا.
ونحوه قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) ،(3/1247)
وقوله: (لَوْ تُسَّوَّى) بتشديد السين على إدغام التاء في السين.
وتُسَوّى بالتخفيف على حذف إحدى التاءين.
وقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) قيل: فيه أقوال:
أحدها: ما رُوِيَ عن ابن عباس وقد سُئِلَ عن هذه الآية.
وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقال:
إن المشركين يوم القيامة لما رأوا أن لا يدخل الجنة إلا من كان مسلمًا.
قال بعضهم لبعض: تعالوا نجحد، نقول: ما كنا مشركين.
فلما قالوا ذلك ختم الله على ألسنتهم، وتكلّمت جوارحهم، فشهدت
عليهم، فودّوا لو ساخت بهم الأرض ولا يكتمون الله.(3/1248)
والثاني: ما قاله الحسن: إن الآخرة مواقف، وفي بعضها يظهرون.
ورُوِيَ عنه أن في بعضها لا يتكمون.
والثالث: أنهم لا يكتمون الله حديثًا، لنطق جوارحهم بذنوبهم.
فعلى هذا لا يكون قوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) داخلًا في التمنِّي.
بل هو استئنافُ كلام.
والرابع: أنه لم يقصد بقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) أنهم لا يقصدون كتمانه.
بل عنى أنه لا يتكتم، وذلك كقولك لمن كتم عنك شيئًا
فاطلعت عليه: لِمَ تكتم أسرارك عني.
والخامس: أن ذلك داخل في التمني، ولكن إشارة إلى حالهم في الدنيا وجحودهم، فإن كفرهم جحود لما ركَّز الله تعالى في فطرتهم.
ونقضٌ لما أخذ عليهم من الميثاق المدلول عليه بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) .(3/1249)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
السُّكر: هو من السَّكْر، أي سُدّ مجرى الماء، وذلك لسد البخار
الصاعد من المعدة قوة الفهم، وسكرت الريح:
أي سكنت، تشبيهًا بسكون الماء إذا سُدّ مجراه، وكذلك سكرت
أبصارنا: أي سُدّ مجراها، والسكر قد يقال لما يعرض من الهوى
والشباب والغنى.
قال الشاعر:
سكران سكر هوى وسكر شراب.(3/1250)
ويقال: سُكارى وسكرى.
والغائط: المنهبط من الأرض فكنى به عن الحدث؛ كالنجو
في كونه للمرتفع من الأرض.
والعذرة للفناء، والحشُّ للبستان، والكنيف للحظيرة.
والصَّعيد كالصعود، لكن الصعيد يقال لوجه الأرض.(3/1251)
والصعود للعقبة، ولما كان الصعيد يقال لوجه الأرض وللساطع منه.
اختلف الفقهاء لاختلاف نظرهم في أنه هل يجب أن يعلق باليد
شيء من التراب أم لا؟
فجوز الكوفيون أن لا يعلق باليد شيء من الأرض.
لكون الصعيد اسمًا لوجه الأرض.
ولم يجوِّز الحجازيون ذلك اعتبارًا بالصعود.
ولقوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)
وكذلك اختلفوا في أنه هل يجوز التيمم بما يخرج من الأرض
سوى التراب كالخل والزرنيخ؟
فجوز ذلك بعضهم ومنع منه آخرون.
فمن جوّزه قال: لأن الصعيد اسم لما تصاعد من الأرض.
والتيمُّم والتأمُّم: " التعمُّد، وفي قراءة عبد الله "فتأمَّموا".(3/1252)
و (عابري سبيل) : قال علي وابن عباس: هم المسافرون.
قالوا: ويجوز لهم التيمم عند الجنابة.
والصلاة عندهما اسم الفعل.
وقال الحسن وسعيد: عابر السبيل: المجتاز.
والصلاة يريد به موضعها، كقوله: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) .(3/1253)
والمريض الذي جُوّز له التيمّم: الجريح والقريح دون المحموم والمصدّع. والملامسة: الجماع، عن علي وعن ابن عباس.
وقيل: اللمس(3/1254)
باليد وما دون الجماع؛ عن ابن مسعود، وابن عمر.
وقُرِئ: "لمستم"، والأول في الجماع أكثر.
وقوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) ليس بنهي للسكران عن قربان الصلاة، كما تصوره بعض الناس فأطال فيه الكلام.
وقال: كيف يصح نهي من لا يعقل ما يقول، وإنما ذلك نهي المؤمنين عن السكر المانع(3/1255)
من الصلاة، كقوله تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
وقيل: إن ذلك نهي عن الشرب، وكان هذا تعريضًا بالتحريم.
فلما أنزل الله ذلك تحرَّج قوم فتركوها، وشربه قوم في غير
أوقات الصلوات إلى أن ورد تصريح التحريم.
وقال بعض أهل الورع: ليس النهي عن تعاطي الخمر.
بل ذلك عنه، وعن مقتضى سكر الهوى.
وسكر الاشتغال بالدنيا، وأمر بأن يجمع الإِنسان(3/1256)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
نفسه ويفرِّغ للعبادة همّه، قال: وليست الجنابة للحالة المعروفة
فقط، بل هي عبارة عن نجاسة النفس بالذنوب، وحثٌّ على
تجنُّبها وتطهير النفس منها بقوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ) .
فإن قيل: فما وجه تعلق هذه الآية بما قبلها.
والإِتيان بحكم التيمُّم عقب ما تقدم؟
قيل: لما أمر فيما تقدّم بالعبادة بقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وأعظم العبادة الصلاة، ولا تصحّ بغير طهارة بين عقيبها حكم ما يُطَهِّر، وحكم ما ينوب منابه إذا فُقِدَ.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
رَأَيت: يُعدّى بإلى تنبيهًا على معنى النظر والاعتبار.
وذلك في رؤية القلب دون الحاسة.
واشتراء الضلالة بالهدى:(3/1257)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
استبدالها به بغد حصوله، والرغبة في الضلالة بعد التمكّن من
الهدى، وقد أعاد تعالى هذا المعنى في مواضع تحذيرًا منهم.
وتخويفًا من الاغترار بهم، وعلى ذلك قوله من قبل: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) .
ونحوه قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
ظاهره كالبعيد من الأول، وكذلك قوله: (كَفَى بِاللَّهِ) وذلك
لتحرِّي الاختصار فيه، وتقدير الكلام: يريدون أن تضلوا السبيل.
وإذا أرادوا ذلك فهم أعداؤكم، والله أعلم منكم بعداوتهم لكم.
وهو تعالى وليكم ونصيركم، فإذن الواجبُ عليكم أن تتركوا(3/1258)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
موالاتهم، واستنصارهم، وتَسْتكْفوا بولاية الله ونصرته، وكفى
به وليا ونصيرًا.
قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
الليّ: أصله الفَتْلُ فاستعير لصرف الإِنسان عما يريده، وصرف الكلام من
وجه إلى وجه استعارة الجدل في الجدال، ومنه ليّ الغريم، ولواء الجيش
لكونه في الأصل خيطًا ملويا.
واللِّوى: الملوئ من الرمل؛ لا يصنعه البشر.
وقوله: (بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي جارحتهم أوكلامهم، وكلا هما في
الحقيقة واحد (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) أي يطعنون بِأَلْسِنَتِهِمْ في الدين،(3/1259)
وقوله (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يقال على وجهين:
أحدهما: دعاء على الإِنسان بالصمم.
والثاني: دعاء له، فقد تُعورِف قوله: أسمعته؛ في السب.
ورُوِيَ أن أهل الكتاب كانوا يقولون ذلك.
يرون أنهم يعظمون النبيَّ، وأنهم يدعون له، لأن قولهم (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) يقتضي ظاهره: أنا قْد عصينا من أمرتنا بعصيانه.
واسمع غير مشتوم؛ وحافظنا، وهم يقصدون بقولهم
(وَعَصَيْنَا) أنا عصيناك، واسمع لا سمعت، وراعنا أي
رَاعنًا، وذلك شتم فيما بينهم، فذكر تعالى أن ذلك ليّ(3/1260)
وطعن في الدين بألسنتهم، أي لُغتهم، ولو عدلوا عن هذه
الألفاظ إلى ما أُمِرُوا به لكان أنفع لهم، ولكن لما كفروا لعنهم
الله، أي منعهم التوفيق وشرح الصدر، وقد تقدّم معنى
اللعنة وتفسير قوله: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) .
وقوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) فيه قولان:
الأول: أنه متعلّق بما تقدَّم، كأنه قال:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا فيكم.
فتكون (مِن) للجنس أو للتبيين، وتكون للوقف على قوله:
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) .
والثاني: أن تكون استئنافًا على تقدير:
من الذين هادوا فريق، كقوله: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) .(3/1261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
واستقبح المبرّد هذا الوجه لحذف الموصول وترك الصلة.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
الطمس والطلس والدرس يتقارب، ولكن الطمس زوال
الأعلام المماثلة، قال: وبلدة طامسة أعلامها، والطلس زوال
الصورة، ومنه قيل: درهم مطلس، إذا لم يكن عليه نقش، والدرس
قد يقال في الأثر الخفي.
وطمس الوجوه منهم من أخذه(3/1262)
محسوسًا ثم اختلفوا؛ فمنهم من قال: عنى ذلك في الدنيا، وهو
أن ينبت الشعر على وجوههم فتصير صورتهم كصورة القردة
والخنازير، وتكون وجوههم إلى أقفائهم، ومنهم من قال:
عنى ذلك في الآخرة، وعلى ذلك قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) ، لأن وجوههم التي فيها العيون إلى ظهورهم.
ومنهم من أخذه معقولا، ثم اختلفوا: كيف يكون ذلك؟
فمنهم من قال: عنى أنا نردهم عن الهداية إلى الضلالة لما ارتكبوه من المعاصي،(3/1263)
نحو قوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) الآية.
والثاني: أن تكون الوجوه الأعيان والرؤساء.
والمعنى قيل: أن يجعل الرؤساء منكم أذنابًا.
وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الآية.
وقيل: إن ذلك في الآخرة، وهو أن قومًا من الكفار كانوا
يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فيعرضون على الجنة ثم يُردّون على
أعقابهم فيدخلون النار.
وقوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) في سورة البقرة.(3/1264)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
(وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)
أي نافذًا في حكم المفروغ منه.
وقيل: هو إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"أول ما خلق الله القلم، فقال له: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وقيل: الأمر ههنا إشارة إلى الإِبداع، وهو اختراع الشيء من غير أصل.
لا في زمان ولا في مكان، ولا بآلة، وذلك يعبر عنه بالأمر.
وعلى ذلك قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) .
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)(3/1265)
معنى أن يشرك به: أن يديم الإِنسان الشرك، فلا خلاف أن من لم يُدم
ذلك بل أقلع عنه بالتوبة على الوجه الذي يجب يُغفر له.
لكن اختُلِف في قوله (لِمَنْ يَشَاءُ) لكونه مجملًا.
فقال بعضهم: عنى به غير المشركين، فكأنه قيل:
يغفر ما دون ذلك لغير المشركين، ففيه توعُّد أن المشرك
مأخوذ بكل ذنب مع الشرك بخلاف المؤمنين، الذين قال لهم: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) .
ومنهم من قال: عنى به التائب بدلالة قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
وقول من قال: (لِمَنْ يَشَاءُ) يقتضي ذلك، أن فيما دون الكفر
ما يُغفر، وهو الصغائر، وفيه ما لا يغفر وهو الكبائر، وإلا لم
يكن لقوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) فائدة، فليس بصحيح لأن قوله:
(مَا دُونَ ذَلِكَ) عام للذنوب صغائرها وكبائرها، والمغفور له هو(3/1266)
الذي جعله خاصَّا منهما، فيقتضي أن ما دون الشرك كله يُغفر.
لكن يُغفر لبعض دون بعض، واشتراط (لِمَنْ يَشَاءُ) لئلا يقرر
أن ذلك عامٌّ للمشرك وغير المشرك، فصار قوله: (لِمَنْ يَشَاءُ)
عبارة عن غير المشركين.
وقولهم: إن الكبائر دون الشرك لو صح غفرانها لم يثبت فيها اللعن
ولا الحد على وجه النكال ليس بشيء.
فليس في ذكر اللعن ما يقتضي أن لا يُغفر لصاحبه.
وأما النكال في الدنيا فتعلُقهم به جهل أو تجاهل، لأن موضوع النكال
ليكون قمعًا للمنكَّل به عن معاودته وقمع غيره عن أن يحذو
حذوه، وليس ذلك من عقوبة الآخرة في شيء، بل قد قيل هو
مُسقطٌ لعقوبة الآخرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الحدود كفّارات لأهلها "،(3/1267)
ألا ترى أنه قد يُحدّ التائب مع أن العقوبة في الآخرة قد سقطت
عنه بالتوبة؟!
وما رواه جابر أنا كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى نزل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. دلالة على فساد قولهم، وما قالوه بأن هذا من أخبار الآحاد فلا يقبل فيما هو من باب التدين والعلم، فإن أخبار(3/1268)
الآحاد تُردّ فيما تعافه العقول الصحيحة، وقد علم أن العفو
من باب الإِحسان الذي حثنا عليه العقل والشرع، وبتحريه يصير
العبد من الصديقين والشهداء والصالحين.
والافتراء: يقال في القول والفعل كالصدق والكذب.
بل الافتراء وإن تُعوُرِف في القول فهو بالفعل أولى.
وكذا الاختلاق، لأنهما من فريت الأديم وخلقته.
ومعنى الإِثم العظيم هو الذي إذا اعتبر بالآثام كان(3/1269)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
أكثرها عقوبة.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
التزكية ضربان: أحدهما: بالفعل، وهو أن يتحرى الإِنسان ما فيه تطهير بدنه، وذلك يصحّ أن ينسب إلى العبد تارة نحو قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وإلى من يؤمر بفعله، نحو قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) .
والثاني: بالقول، وذلك بالإِخبار عنه بذلك، ومدحه به.
ومحظور على الإِنسان أن يفعل ذلك بنفسه، لا بالشرع فقط.
بل بمقتضى العقل، من غير داعٍ إلى ذلك، ولمّا قالت اليهود
والنصارى (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ذمّهم الله تعالى بذلك، وذمّ من(3/1270)
يفعل فعلهم، وحظر أن يمدح الإِنسان نفسه، بل أن يزكي غيره
إلا على وجه مخصوص، فالتزكية في الحقيقة هي الإِخبار
عما ينطوي عليه الإِنسان، ولا يعرف ذلك إلا الله تعالى.
ولهذا قال: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)
ونبّه بقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أن تزكيته ليست لضرب من الميل.
فهو منزه عن كبير الظلم وصغيره.
والفتيل: هو الخيط الذي في شق النواة.
وقيل: هو ما فتل من الوسخ بين الأصبعين.
تشبيهًا بالفتيلة هيئة وصغر قدر،(3/1271)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
ذكر ذلك تعظيمًا لزعمهم (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)
ونبّه بقوله: (وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) أنه لايخفى كونه مأثمًا.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
الجبت والطاغوت: في الأصل اسمان لصنمين، ثم صارا يستعملان
في كُل باطل، ولذلك قيل: ما عُبِدَ من دون الله فهو طاغوت،(3/1272)
ولذلك فُسِّر مرة بالصنم، ومرة بالشيطان، ومرة بالسحر، ومرة بكل
معظّم من دون الله، وإنما ذكرهم بإيتاء نصيب من الكتاب تقبيحًا
لفعلهم، فمن جحد الحق مع معرفته به فهو أقبح فعلًا وأعظم مأثمًا.
وعنى بالذين كفروا مشركي العرب، حيث زعموا أنهم أهدى
سبيلًا من المسلمين، ومعنى قوله: (لِلَّذِينَ) أي لأجلهم وفيهم،(3/1273)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
ولهذا قال: هؤلاء ولم يقل: أنتم، وباقي الآية مفهوم.
قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
النقير: النقطة في ظهر النواة، وقيل: حبة فيها، وقيل:
ما نُقِرَ بالأصبع من الحصى، وكيفما كان فذلك كالفتيل
والقطمير فيما يضرب به المثل في الشيء الحقير، و (إذن) متى
تقدّمه حرف عطف فقد يُترك إعماله، نحو قوله:(3/1274)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
(وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) .
وعطف بالجملة على ما قبله بأم على تقدير كلام قبله.
كأنه قيل: أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك.
فيلزم الناس طاعتهم؟
وقيل: أم بدل على معنى بل.
وكذلك قيل في قوله تعالى: (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) ، ونبَّه على بخلهم مع تمكُّنهم من المال.
قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
الحسد: غم يلحق الإِنسان بسبب خير ناله مستحقه،(3/1275)
قال ابن عباس: عنى بالناس ههنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
وقال قتادة: عنى به العرب، وقيل: عنى به المسلمين.
والفضل: ما خصّ به - صلى الله عليه وسلم - من النبوة.
وإنما ذكر الناس - وإن قصد به مخصوصًا -
لأنهم إذا كرهوا ما آُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد حسدوا الناس بما(3/1276)
أولاهم كمال الإِنسانية، وفيه تنبيه أنهم خارجون عن جملتهم.
ونبّه أنه كما آتاهم الفضل فقد آتى آل إبراهيم ما ذكره.
وأنه لو كان ما آتى محمدًا يقتضي أن يحسد عليه فما آتى
آل إبراهيم أولى بذلك، فيكون الكتاب والحكمة راجعًا
إلى ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما.
ويجوز أن يكون الكتاب والحكمة إشارة إلى ما أوتي النبي
- صلى الله عليه وسلم -، ويكون فيه تنبيه.
وما أنعم الله عليه هو إنعام عليهم إذ كان معرضاً لانتفاعهم به.
والملك العظيم قيل: ملك سليمان، والأصحّ أنه عامٌّ.
وأنه لم يعن به تملُك الغير، بل هو عام في ذلك.
وفيما اقتضى تملُك الإِنسان على نفسه
وقمعه لحرصه وسائر شهواته، فذلك هو أعظم الملكين.
وقوله: (فَمِنهُم) قال مجاهد: أي من أهل الكتاب من آمن بمحمد
- صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: منهم من آمن بإبراهيم من أمته، كما أنكم في أمر(3/1277)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
محمد كذلك تنبيهًا أنه ليس في صدّ بعضهم عن محمد توهين
لأمره، كما لم يكن في صدّ بعضهم عن إبراهيم توهين لأمره.
وفي قوله: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) تنبيه أنهم وإن لم تلحقهم
العقوبة معجّلة فقدكفاهم ما أُعِدَّ لهم من سعير جهنم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
إصلاؤهم بالنار: جعلهم صَلىً لها، كقوله:(3/1278)
(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) .
وقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) فيه قولان؟
أحدهما: أنه يُعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى.
كقولك: بدّلت الخاتم قرطا، إذا خالفت بين الصورتين.
الثاثي: أنه يُخلَق لهم جلود إذا نضجت لهم جلود، فالعذاب والألم يصل إلى ما تحت الجلود من الروح وغيرها بوساطة الجلود كوصول النار إليه بوساطة سرابيل القطران المذكور في قوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ، وتبيين ذلك أن الجلد واللحم متى تعريا(3/1279)
عن الروح لم يلحقهما ألم، فعُلِمَ أن المقصود بالألم ما فيه الروح
دون الجلود والأغشية، ولكون البدن للروح كالثياب للبدن.
يعبّر بالثياب عن البدن كقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)
وقول الشاعر:
ثياب بني عوف طهارى نقية. . . . . . . . . . . . . . .
وقو له تعالى: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) استعارة متناهية في وصول
الألم إلى الباطن، وعلى ذلك استُعير لهم الطعام في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) ذُكِرَ مع الذوق المس في قوله: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) تنبيهًا أن ذلك استعارة، ونبَّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)
أن لا سبيل إلى الامتناع عليه والفرار من عذابه.
وبقوله: (حَكِيمًا) أن ذلك تقتضيه الحكمة.(3/1280)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قد تقدّم الكلام في ذكر الإِيمان والأعمال الصالحة، ومعنى الجنات
التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر الخلود فيها أبدًا، والأزواج
المطهّرة، فأما قوله: (ظِلًّا ظَلِيلًا) فإشارة إلى النعمة، والنعمة
الدائمة، كما يقال: أنا في ظلك، وكما رُوي في الخبر: "سبعة
يظلهم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله "، والظليل إشارة(3/1281)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
إلى تمام وجود معنى الظلّية فيه، كقولهم: شمس شمامس.
وليل ألْيَل.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قال ابن جريج: نزل ذلك في عثمان بن طلحة رضي الله عنه
لما أخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة.
فأمره الله أن يردَّه(3/1282)
إليه، وقال: زيد ومكحول: نزل في ولاة الأمر.
قال ابن عباس: في كل مؤتمن على شيء، وهو أصحّ. فإنه عام،(3/1283)
وقد عظَّم الله أمر الأمانة، وبين أنه من خصائص الإِنسان، حيث قال
تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ثلاث يؤدين إلى البَّر والفاجر: الأمانة، والعهد،وصلة الرحم ".
وتأدية الأمانة استحفاظ المستودع ووضعه حيث ما أمر بوضعه فيه.
وليس ذلك في ردّ الوديعة فقط، بل في جميع ما خصّ الله تعالى به الإِنسان من ماله ونفسه، فكلُّ ذلك أمانة من الله عليه بحفظه حيث ما يجب حفظه، ويضعه حيث ما يجب وضعه، ولذلك قال تعالى:(3/1284)
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) .
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
"كلُكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ".
وقد دخل في عمومه: النهي عن كتمان العلم عن أهله.
وحفظه عن غير أهله، ولهذا قيل: لا تضع الحكمة في غير أهلها
فتظلمها، ولا تمنعها أهلها فتظلمهم، وقد حثَّ الله تعالى على
حفظ جميع العدالات بهذه، وبيانه أن العدالة في شيئين:
أحدهما: في حكم يختص به الإِنسان في نفسه، أو فيما بينه وبين(3/1285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
غيره، وقد تناول ذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، والثاني: في حكم يتولاّه ألإِنسان بين اثنين، وذلك
قد تناوله في قوله: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) .
ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) تنبيهًا أن من سمع وعظه، واستعمله فقد فاز فوزا عظيمًا، ونبّه بذكر السمع على حكم الأول على علمه بما يحدِّث الإِنسان به نفسه، وبالبصر على حكم مشاهدته لما يتعاطاه.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قيل: أولو الأمر الأمراء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولذلك قال: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
وقيل: الأمراء في زمانه وبعده، ورده إليهما إنما هو إلى حكمهما.
وحمل الشيعة ذلك(3/1286)
على الأئمة من أهل البيت.
وقال أبو هريرة: أولو الأمر أمراء السرايا.
وقد رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ".
وقال ابن عباس: هم أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وكل هذه الأقوال صحيح، ومراد بالآية، ووجه ذلك(3/1287)
أن أولي الأمر الذين يرتدع بهم الناس أربعة:
الأول: الأنبياء، وحكمهم على ظواهر الخاصة والعامة وبواطنهم.
والثاني: الولاة، وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم.
والثالث: الحكماء، وحكمهم على بواطن الخاصة.
والرابع: الوعاظ، وحكمهم على بواطن العامة، وعلى ذلك
قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) .
وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)
قيل: هو خطاب للكافة.
وقيل: بل لأولي الأمر منهم إذا وقع تنازع فيما بينهم في حكم،(3/1288)
وقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
أي راجعوه بالسؤال في زمانه، وإلى كتاب الله وسنة نبيه بعده.
وقال الأصمُّ: معناه ما لا تعلمونه فقولوا: الله ورسوله أعلم.
وهذا إن أراد به فيما لا سبيل لبشر إلى معرفته.
أو فيما لا يبلغ إلى مرتبته فصحيح.
وإن أراد أنه يقتصر على ذلك مع وجود سبيل إليه.
أو احتياجه إليه فرضى بأخسِّ منزلة.
وقد تعلّق بذلك مثبتوه أيضًا، وقالوا: جعل الله
أحكامه ثلاثة أقسام: مثبتًا بالكتاب، ومثبتًا بالسنة، وعليهما
دل قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، ومثبتًا بالاجتهاد
والاستنباط، وهو ما يرد إلى الكتاب وسنة نبيه، قال:
فالرد إليهما هو البناء علي حكمهما، وهذا هو القياس الشرعي، والرد(3/1289)
على هذا محمول على فائدة غير مستفادة من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) .
قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي من شرط الإِيمان أن لا يتخطَى
مرسوم الله تعالى ومرسوم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمن
ترك ذلك فقد ترك الإِيمان.
وقوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
قال مجاهد: أحسن جزاء وعاقبة.
وقال قتادة والسُّدّي: عاقبة.
وقال الزجاج: أحسن من تأويلكم من غير رد إلى كتاب الله والسنة.(3/1290)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
قد تقدّم أن الزعم مطية الكذب. والطاغوت مبنيّ من
طغى، كالجالوت من جال، وقيل: كل ما عُبد من دون الله
فهو طاغوت، وقيل: هو اسم لكل ما شغل عن الله من نحو(3/1291)
الهوى ونحوه، وعليه نبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الهوى إله معبود"، ثم تلا: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) .
ورُوِيَ أن. ذلك نزل في رجل من المنافقين دعاه يهودي في خصومة إلى حكم
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المنافق: بل نتحاكم إلى الكاهن، وقيل: بل قال إلى الصنم، وهو أنهم كانوا يحضرونه ويضربون بالقداح، فمن خرج قدحه حكم له، ونبّه بقوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)(3/1292)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
بعد قوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)
أن إرادتهم بهذا الفعل مقرونة بإرادة الشيطان أن يضلهم ضلالاً
بعيدًا، وأن بفعلهم ذلك يجد الشنيطان إلى ضلالهم سبيلًا، وهذا
تنبيه أنه لولا اتباعهم الشهوات وإخلالهم بالعبادات لما وجد
الشيطان إليهم سبيلًا، كما قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)
الآية. والضلال البعيد هو الذي يصعب الرجوع عنه.
وهو المشار إليه بقوله تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) .
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
الصد: كالسد: إلا أن السد بحائل محسوس.
والصد بحائل في النفس من إرادة أو كراهة، ونحو ذلك من الحوايل.(3/1293)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
والآية من تمام القصة الأولى، ومن الأشياء التي
دعوا إليها فصدّوا عنها آيات القتال، كقوله تعالى: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ) .
والتأكيد بالمصدر كقوله: (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)
(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) هو أن الفعل له حقيقة
ما وتجوُّزٌ به كاستعماله في بعض ما وُضِعَ له أو في غير ما وُضِعَ
له، وإذا أريد أن يبين أنه مستعمل على وجهه وحقيقته ضُمَّ إليه
مصدره. هذا فائدته.
قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
رُوِي أن ذلك المنافق مع اليهودي لما تحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي قال المنافق: لا أرضى بذلك.
ثم "تحاكما إلى أبي بكر فكان كمثل، ثم تحاكما إلى عمر.
فقال المنافق: كان من الأمر كذا، فقال له عمر: قفا لأخرج إليك.
فدخل وأخذ السيف فخرج وقتله،(3/1294)
فشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله؟
قال عمر: قتلته لأنه ردَّ حكمك، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"أنت الفاروق ".
ثم جاء أصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلفون
كذبًا إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا.
إن قيل: ما المسئول عنه بقوله: كيف؟
وما الذي يتعلق به إذا؟ وعلى ماذا عطف قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ) ؟
وأيّ مصيبة أريدت بذلك: التي نالتهم في الدنيا
بقتل صاحبهم أم شيء منتظر؟
قيل: أما المسئول عنه فمحذوف كما حُذِفَ في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ، وبقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ)
وتقديره: كيف حالهم ومقالهم؟
وأما إذا فإنه يتعلق بذلك المضمر.
وأما قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ) فمعطوف على قوله: (أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) ،(3/1295)
وتقديره: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم
بارتكابهم وبمجيئهم من بعد إليك حالفين كذبًا: إننا ما أردنا إلا
إحسانًا وتوفيقًا، وأما المراد بالصيبة المذكورة فما ينالهم في الآخرة
من العذاب والحسرة والندامة، فيقول: إن تألَّموا من هذه فكيف
تألمُهم إذا أصابتهم مصيبة في الآخرة، وقد تقدَّم أن الإِحسان
هو الفضل الموفي على العدالة، والتوفيق: موافقة أمر الله
والرضا بقضائه، وهما غاية ما يراد من الإِنسان، فنبه أنهم(3/1296)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
يدّعودن هاتين الحالتين كذبًا.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
القول البليغ: إذا، اعتُبر بنفسه، فهو ما يجمع أوصافا ثلاثة:
أن يكون صوابًا في موضع لغته، وطبقًا للمعنى المقصود به.
لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، وصدقًا في نفسه.
وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق.
ويجد من المقول له قبولاً، ويكون وروده في
الموضع الذي يجدر أن يورد فيه، فكل قول اجتمع فيه هذه
الأوصاف فهو البليغ من كل وجه، وقول العرب: أحمقُ بُلْغٌ
وبَلْغٌ، إذا بلغ مع حماقته حاجته، وقد يقال ذلك للمتناهى في
حماقته، وقول من قال: القول البليغ هو أن يقال لهم:(3/1297)
إن، أظهرتم ما في أنفسكم قتلناكم.
وقول من قال: خوِّفهم بمكاره تنزل بهم في الدنيا والآخرة.
فإشارة إلى بعض مقتضنى الآية، ونبه بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)
على أمرين: أحدهما: نهي الناس أن يُخفوا في أنفسهم غير الحق.
والثاني: أن يقتصر من كل واحد في أحكام الدنيا على ما يظهره.
وترك الفحص عما يضمره، وفي قوله تعالى:(3/1298)
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية، قولان:
أحدهما: أنه أمر أن يقابل جماعتهم بهذه المعاملة الثلاث، من الإِعراض عنهم، والتجافي عن ذمهم، وقول المعروف لهم.
والقول الثاني: أن كل واحد من الأحكام الثلاثة إلى فرقة على حدة، فالإِعراض عمن يظهر الإِسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" أمرت أن أقاقل الناس. . . " الخبر.(3/1299)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
والوعظ للأوساط. والقول البليغ للخواص. وهؤلاء الفرق
الثلاث هم المذكورون بقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) .
إلى آخر القصة.
قوله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
استغفار الإِنسان وتوبته يمكن أن يقال: هما في الحقيقة واحد، لكن
اختلافهما بحسب اعتبارهما بغيرهما؟
فالاستغفار يقال إذا استُعمل في الفزع إلى الله تعالى، وطلب الغفران منه. والتوبة ْتقال إذا اعتُبر بترك العبد ما لا يجوز فعله وفعل ما يجب.
ولا يكون الإِنسان طالباً في الحقيقة لغفران الله إلا بإتيان
الواجبات، وترك المحظورات، ولا يكون تائبًا إلا إذا حصل
على هذه الحالة، ويمكن أن يقال: الاستغفار مبدأ التوبة.
والتوبة تمام الاستغفار، ولهذا قال تعالى:(3/1300)
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) .
وأما استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم فهو
الدعاء لهم، وهو ضرب من الشفاعة في الدنيا، وعلى ذلك
حثَّ تعالى بقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
والقصد بالآية لما قتل عمر ذلك المنافق، وكان ظاهره الإِسلام
ووقع شبهة على من لم يتصوَّر حاله، بيَّن تعالى جواز قتله
بألطف حجة، دل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) ، وبيانه أن خصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام طاعته فيما يحكم به، تنبيهًا أن من لم يطعة لم يؤمن به، وهذا المقتول لم يطعه.
فإذًا لم يؤمن به، ومن لم يؤمن برسوله من غير مانع فمستحقّ للقتل.
فإذًا هذا المنافق(3/1301)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
مستحق للقتل.
إن قيل: لِمَ قال (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)
ولم يقل: فاستغفرت؟
قيل: تنبيهًا على مقتضى فضيلة الرسالة، وأن بفضيلتها يستحق قبول شفاعته وموقع استغفاره.
قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
المشاجرة: المنازعة، وأصله من اختلاط الأشجار.
وشَجَر بيته رفعه بالشجر، والشِّجار اسم ما يرفع به من الشجر.
ومصدر شَاجَره أي نازعه، والتشاجُر يكون بالأبدان بالحرب
وباللسان في القول.
والحرج: الضيق، وأصله الحرجة الملتفة(3/1302)
من الأشجار، وسأل عمر رضي الله عنه أعرابيًّا عن الحرج.
فقال: هو أن يلتف الشجر ويناشب فلا يصل إليه شيء.
قال: فكذلك قلب الكافر محظور عليه الإِيمان، ممتنع امتناع هذه
الحرجة.
وقوله: (لَا) في أول الكلام هو ردّ لزعمهم: أنا آمنا.
فقال: لا، أي ما آمنوا، ولفظة: لا، قد ينفى به الفعل
الماضي إذا لم يذكر معه الفعل، كقوله: أخرجتَ؟ فتقول: لا.
ويجوز أن يكون نفيًا للثاني، لكن حذف معه الفعل اكتفاء
بما ذكر من بعده، وعلى الوجهين قول الشاعر:
لا وأبيك أبنت العامري. . . لا يدعي القوم أني أفِرُّ(3/1303)
والآية من تمام القصة المتقدّمة، وقول من قال: نزل في حاطب
ابن أبي بلتعة حيث اختصم مع الزبير بن العوام في سبب(3/1304)
الماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فحكم للزبير.
فسخط حاطب، فإنه يجوز أن شأن نزوله هذه الحال، ويجوز(3/1305)
أن يكون قد نزل فيهما، وبيَّن تعالى أن التوقُّف في إلزام حكمك
فيما وقع بينهم من المشاجرة هو مخرج لهم عن الإِيمان، وإنما
يكون حصول الإِيمان الحقيقي بعد أن لا يروا ضيق صدر في جميع
ما تحكم به، (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) : أي يسلمون ظواهرهم
وبواطنهم، والتسليم منّا هو الإِسلام المأمور به في قوله:
(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ،(3/1306)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
وهو المسئول في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) .
قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
نبّه تعالى على عقيدتهم ووهن إيمانهم.
وأن المؤمن في الحقيقة من يسلِّم تسليمًا كما تقدّم ذكره.
وبين أن هؤلاء لم يؤمنوا، بعد، بحيث لو أوجب عليهم قتل
أنفسهم أو الإِخلال بدورهم لكان أكثرهم ممتنعين، ثم أخبر أنهم
لو قبلوا الموعظة لكان ذلك خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا، أي أشد
لتحصيل عملهم ونفي جهلهم، وقيل: أثبت لأعمالهم واجتناء
ثمرة فعالهم، وأن يكونوا بخلاف من قيل فيهم:(3/1307)
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
ورُوِيَ أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قالوا: لو أن ربنا تعالى فعل لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك منهم حقٌّ فقال:
"والذي نفس محمد بيده للإيمان أثبت في قلوب المؤمنين من الجبال الرواسي "، ورُوِيَ أنه أشار إلى عبد الله بن رواحة، وقال: "إنه من القليل ".
ورُوِيَ أنه(3/1308)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
قال: "إن ثابت بن قيس من القليل الذي استثنى الله تعالى".
قوله عز وجل: (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
بيّن أنهم لو قبلوا الموعظة لجمع لهم بين خير الدنيا والآخرة، وذلك هو المعني بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)
والصراط المستقيم الذي وعدهم هو الذي حرضَ على سؤاله في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
وإنما قال: (مِنْ لَدُنَّا) لأنه تعالى لا يكاد ينسب إلى نفسه من النعم إلا ما
كان أجلَّها قدرًا وأعظمها خطرًا، نحو: وروحنا.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)(3/1309)
أصل الرفق: التفكُّر في الأمر والتثبُّت، ويضاده الخرق.
وقيل ذلك للمعاونة، ومنه الِمرفق والمَرفق، والرفقة
للجماعة المعاونة في السفر، والرفيق كالصديق، ويقالان للواحد والجمع.
والفرق بين الرسول والنبيّ أن الرسول أخصّ.
فكل رسول نبي وليس كل نبيّ رسولاً.
فإنّ الرسول يختص بمن جعله واسطة بينه وبين عباده
لتبيين أحكامٍ بوحيٍ مسموع عن مَلَكٍ.
والنبيّ قد يقال لمن يجدد علىْ الناس شريعة من تقدمّه
وإن كان يوحى إليه بإلهام أو منام.
وأخصّ من الرسول أولو العزم من الرسل.
وقد تقدّم ذكر ذلك،(3/1310)
وقد قسّم الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام.
وجعل لهم أربعة منازل، بعضها دون بعض، وحثّ كافة الناس
أن لا يتأخروا عن منزل واحد منهم:
الأوّل: هم الأنبياء: الذين تمدهم قوة إلهية.
ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من قريب.
ولذلك قال تعالى في صفة نبينا عليه الصلاة والسلام:
(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) .
والثاني: الصديقون: وهم الذين يتاخمون الأنبياء في المعرفة.
ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من بعيد.
وإياه عنى أمير المؤمنين حيث قيل: هل رأيت الله؟ فقال:
ما كنت لأعبد شيئًا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان.
ولكن رأته القلوب بحقائق الإِيمان.
والثالث: الشهداء:وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة، حيث قال: كأني(3/1311)
أرى عرش ربي. وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "اعبد الله كأنك تراه ".
والرابع: الصالحون: وهم الذين يعلمون الشيء بإقناعات وتقليدات للراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى(3/1312)
الشيء من بعيد في مرآة، وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
أي كن من الشهداء بما تكتسبه من العلم والعمل الصالح.
فإن لم تكن منهم فكن من الصالحين.
وتقدير الآية على وجهين:
أحدهما: من أطاع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين يقدمهم ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب.
النبي بالنبي والصديق بالصديق، والشّهيد بالشّهيد والصّالح بالصالح،.
والثاني: أن قوله: (مِنَ النَّبِيِّينَ) يتعلق بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) ، وقوله: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى الملأ الأعلى، ثم قال: (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ويبين ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في
حين الموت: "اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى"، وهذا(3/1313)
ظاهر، وهذه الآية كأنها مردودة إلى ما تقدّم من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فلما تمّم القصة بيّن ما لمطيعهم من الثواب
بهذه الآية، ورُوِي أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كئيبًا، فقال: يا رسول الله نحن نغدو عليك ونروح ننظر في وجهك
ونجالسك، وغدًا ترفع إلى النبيين فلا نصل إليك. فسكت النبي
- صلى الله عليه وسلم - فجاءه جبريل عليه السلام بهذه الآية.(3/1314)
قوله عز وجل: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) .
لما كانت نعم الله تعالى ضربين: دنيويًّا ولا يصل إلينا من الله إلا
بواسطة، أو وسائط كالمال والجاه وغير ذلك. وأخرويًّا يصل
إلينا - لا بواسطة، بين الله تعالى أن ذلك الفضل الذي ذكره بقوله:
(أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) هو من الله علِي الإِطلاق، فنُسبَ إلى نفسه
تفخيمًا لأمره، كما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
وقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ونحو ذلك، فخبر الابتداء على
هذا هو (مِنَ اللَّهِ) ، ويجوز أن يكون مبتدأ، و (الْفَضْلُ)
خبره، كقولك: ذاك هو الرجل،، وهذا هو المال، تنبيهًا على
كماله، فإن الشيء إذا عظم أمره يوصف باسم جنسه، كقوله:
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) .
ويكون قوله: (مِنَ اللَّهِ) في موضع الحال، أو خبر ابتداء مضمر، ثم قال:(3/1315)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
(وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) تنبيهًا أنه هو أعرف بمقادير الفضل، وقد حكم
بأن الفضل المعتد به هو ذاك.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
حذركم: قيل: معناه أسلحتكم، وقيل: معناه احذروا.
والثبة للجماعة المنفردة، قال الشاعر:
وقد أعْدو على ثبةٍ كرام.(3/1316)
ومنه ثبت على فلان إذا ذكرت متفرق محاسنه، وتصغر ثُبة
على ثُبَيَّة، وتجمع على ثُبات وثُبين، وأما ثُبة الحوض فوسطه
الذي يثوب إليه الماء.
وأصل النفر: الانزعاج، وذلك على ضربين:
انزعاج عن الشيء، وانزعاج إليه، وعلى ذلك
الفزع: فزع عن الشيء، وفزع إليه.
قال: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم.
والنفر: للجماعة الذين ينفرون إلى حرب، والمنافرة في(3/1317)
الحكم أصله أن يتحاكم اثنان - أيهما أفضل نفرًا.
قال ابن عباس: هذه الآية نسخها قوله تعالى ة (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)
وإنما عنى بذلك التخصيص والتنبيه أن ليس يلزم النفر جماعتهم، ونحو
ذلك قوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) الآية، أنها في الحرب
وفي الحقيقة فيها وفي المبادرة إلى جميع ثواب الله.
وقوله: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) نحو (وَاتَّقُوا اللَّهَ) .
وقوله: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) .
ونحو قوله: (فَانْفِرُوا) ، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .(3/1318)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
وفي قوله: (ثبُاتٍ) أو (جَمِيعًا) تنبيه أنه لا يجب أن يعتبر طالب الحق كثرة مصاحبيه وقلتهمِ، نحو قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) .
قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
البطء والريث والأناة والثبات واللبث تتقارب،، ولكن الثبات يقتضي الزوال، ويقالان متعديين عن بطء تقول يبطئن أي يثبط غيره.
وقيل: يكثر هو التثبيط في نفسه.
بيّن تعالى أن قوما بعد فيكم ومنكم أي يتأخرون عن الحرب أو
يؤخرون غيرهم، فإن أصابكم جهد وبلاء من الدنيا يُسرّون
بتأخرهم عنكم، ويريدون أن ذلك نعمة نالتهم، تنبيهًا أنهم لا
يعدون النعمة إلا من أعراض الدنيا،(3/1319)
(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ)
أي غنيمة وظفر يتحسرون على تأخرهم عنكم
ويحسدونكم على الفضل الذي أوتيتم.
وفي قوله: (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أقوال:
الأول: أن يكون حكاية عنهم، أي ليقولن لمن يثبطكم:
كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة، حيث لم يستعينوا
بكم، ثم يقولون: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) فيكون القول الأول
منهم إثارة للشر.
والقول الثاني منهم إظهارًا للحسد.
والثاني: أن ذلك اعتراض متعلق بالجملة الأولى، وتقديره
يقولون: قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدًا، كأن لم تكن
بينكم وبينهم مودة، فأخّر ذلك، وذلك مستقبح في العربية،(3/1320)
فإنه لا يفصل بين بعض الجملة التي دخل في إثباتها، وتقديره:
يقول: يا ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزَا عظيمَا كأن لم تكن، أي
قولهم ذلك قول من ليس بينكم وبينهم مواصلة دينية.
وذلك تنبيه على ضعف عقيدتهم، وسوء نيتهم.
وقيل في قوله: (قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ) مِنَّة منه على قومه من المنافقين.
إذ يثبطهم عن الخروج، وإنه قد ظهر ثمرة نصيحته في قوله: (يَا لَيْتَنِي)
إيهام للذين قالوا لهم: إن ذلك كان بإيثار الرسول لمن أخرجهم
من دونه، وفي الآيتين تنبيه أن عامة الناس لا يعدّون إلا أعراض
الدنيا، فيفرحون بما ينالهم منها، ولا من المحن إلا مصائبها.
فيتألمون بما يصيبهم منها، وذلك قوله: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآية.(3/1321)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
الذين يشرون: أي يبيعون وهو المعني بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)
وقوله: (الَّذِينَ) هو فاعل (يُقتِل) ، والمفعول محدْوف.
وقيل قوله: (فَلْيُقَاتِلْ) أمر لمن يُبَطّئ وهم الذين يشرون.
ومعناه يشترون، فحثوا على ترك ما حكي عنهم في الآية المتقدمة.
وأن يجاهدوا في سبيل الله،(3/1322)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتصر على قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل عقبه
بقوله: (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) ؟
قيل: تنبيهًا أن من تحرّى القتال سواء قَتل أو قُتل، غَلب أوغُلب فقد وقع أجره على الله، وتقدير الكلام: يقتل أو يُقتل أو يغِلب، لئلا يتوهم السامع أن التزام الغلبة والبَراح من المعركة في كل حال سائغ.
ألا ترى أنه قد عظم التولي عن القتال بقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية، ومنهم من جعل المقاتلة في سبيله
مجاهدة للنفس، نحو ما رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام:
"جاهدوا أهواءكم ".
وجعل سبيل الله هو المذكور في قوله:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
والأجر العظيم ثواب الآخرة، ووصفه بالعظيم اعتبارا بعرض الدنيا.
كما وصف الثمن بالقليل.
قوله عز وجل: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)(3/1323)
قال ابن عباس: القرية الظالم أهلها: مكة.
وقال: كنت من الولدان، وإني كنت من المستضعفين فيها.
فإن قيل: ما الفرق بين المولى والنصير؟
قيل: المولى هو الذي يتولى حفظ الشيء في كل حال.
والنصير هو الذي. ينصره إذا حزبه أمر، فكان الولي
هو النصير في كل حال، والنصير هو المولى حال دون حال.
ومن هذا الوجه قال بعض المفسرين: أريد بالولي النبي وبالنصير
الملائكة، وقال بعضهم: جعل الله وليَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/1324)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
ونصيرهم التابع الذي ولَّاه عليهم، ونبه بعطف المستضعفين
على أن الحماية عليهم هو المقاتلة في سبيل الله، وأنّ
نصرتهم نصرته تعالى، وعطف قوله: (الْمُسْتَضْعَفِينَ) على
الله تعالى تعظيمًا، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) ، فعطف (وَالْأَرْحَامَ) على لفظ (اللَّه) تعظيمًا لأمره.
قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
المقاتل في سبيل الله يتناول المحارب بالسيف والمدافع عن الدين بالقول، والمنازع لهوى النفس ولوساوس الشيطان،(3/1325)
وقد تقدّم أن الطاغوت عام في كل ما شغل عن الله.
والمراد به وبالشيطان واحد، ونبّه أن من قاتل في سبيل الله فهو وليّه.
ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو ولي الشيطان.
ونبه بقوله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)
على ضعف أوليائه، ووصف كيده بالضعف إذ لا بطش له.
وإنما سلطانه بيّن باطل، ولضعفه في الحقيقة قال تعالى حاكيا عنه:
(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الآية.
قال بعض المفسرين: وصف كيد الشيطان بالضعف عند مقاتلة
الإِنسان في سبيل الله، فكأنه قيل: إن كيد الشيطان كان ضعيفًا على(3/1326)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
من يقاتل في سبيل الله، وقال بعضهم: وصف كيد الشيطان
بالضعف لضعف نصرة أوليائه بالإضافة إلى نصرة الله المؤمنين.
وقال بعضهم: الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت هم الذين
ينكرون ما تدعو إليه الحُجَج.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
رُوِيَ أن قومًا استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم -
في قتال المشركين قبل أن فرض عليهم القتال، فلم ياذن الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما فرض ذلك عليهم وهم بالمدينة
صعُب على قوم منهم ذلك،(3/1327)
فقالوا: (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)
أي: هلَّا؟ وهذا يجوز أن يكون قد تفوَّهوا به، ويجوز أنهم اعتقدوه:
وقالوه في أنفسهم، فحكى الله تعالى عنهم تنبيهًا أنهم لما استصعبوا
ذلك دلّ على استصعابهم أنهم غير واثقين بأحوالهم ولا مقدمين
لما يعتقدونه من حسن أعمالهم، ومن نحو هذا التمنِّي
حذّر في قوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) .
قال الحسن: هذا من صفة المؤمنين وما طُبعَ(3/1328)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
عليه البشر من المخافة لا على إظهار العصيان وكراهة الحق.
وقال غيره: بل هو من صفة المنافقين، الحُرَّاص على البقاء في
الدنيا، وبيّن أنهم يخشون القتل منهم كخشية الموت من الله.
وفيه تنبيه على جبنهم، وأنهم يخشون جيشهم الذين هم أمثالهم.
وذلك نهاية الخوف، وعلى هذا دلّ الشاعر في ذمّ قومٍ وجبنهم
حيث قال:
القوم أمثالكم لهم شعرء. . . في الرأس لا يُنشرون إن قتلوا
قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)(3/1329)
البروج: بيوت في قصور، وبها شُبِّه بروج السماء، وسُميت بها.
والمُشيَّدة المبنيّة بالشِّيد والمزينة بها، ومن قال المشيدة المطولة فنظر منه
إلى صفتها لا إلى حقيقة لفظها.
وفقهت كذا أي علمته بالتفكُّر، ومنه سمّي الفقه.
وقد حمل البروج في الآية على(3/1330)
القصور، فيكون معناه كقول الأسود بن يعفر:
ولو كنت في غُمران يحرسُ بَابَه. . . أَرَاجيلُ أُحْبوشٌ وَأسْوَدُ ألِفُ
إذًا لأتتني حيث كنت منيتي. . . يَخُبُّ به حَادٍ لإِثري قَائف
وحمل على بروج السماء، فيكون كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها. . . ولو نال أسباب السماءبسلَّم
فعلى هذا وصف البروج بالمشيّدة على طريق التشبيه، ولاعتبار(3/1331)
ذلك فُسِّرتْ بالمطوّلة، والقصد بذلك إلى نحو ما قيل: والموت
ختم في رقاب العباد، وإلى نحو معناه قصد بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) .
وقوله: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) .
أي لا يفهمون ما يوعظون به.
وقيل: عنى بالحديث الحادثة من صروف الزمان.
والمعنى ما لهم لا يتدبرون ما يحدث حالاً فحالاً من صروف الزمن.
كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) .
وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية.
قد طعن في ذلك قوم من الملحدة، وزعموا أن الآيتين متناقضتان.
قالوا: ويدل على تناقضهما على وهم مُوردها ونسيانه في الوقت(3/1332)
ما قد سبق من كلامه، وإلا فأي ذي مسكة من العقل يقول:
(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، ثم يقول منكرًا على ما قال ذلك (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فيثبت ما قد نفاه.
وينقض ما قد بناه، هذا من طعن الملحدة، فأما أهل الشرع
فقد تعلق بالآية الأولى الفرقة التي لقبها المعتزلة بالجبر.
فقالوا: إن قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) عام يدل على أن الأفعال
الظاهرة من العباد هي من الله، وتأولوا قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يقتضي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله تعالى
بوجهٍ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الآية الأولى بمعنى(3/1333)
الخصْب والجدب والفقر والغنى، فأما طعْن الملاحدة فظاهر
الوهن، وذلك أن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة:(3/1334)
كالحيوان الذي يقع على الإِنسان والفرس والحمار، أو من
الأسماء المختلفة كالعين، ولو أن قائلًا قال: الحيوان متكلم.
والحيوان غير متكلم، وأراد بالأول الإِنسان، وبالثاني الفرس
والحمار - لم يكن مناقضًا، وكذا إذا قيل: العين في الوجه.
والعين ليست في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين
الميزان أو السحاب، فكذلك الآية إذا أريد بالحسنة والسيئة في
الآية الثانية غير الذي أريد بهما في الآية الأولى، وفي هذا
قناعة لإِبطال هزيل هذا المعترض، ثم إذا تُؤمِّل مورد الكلام.
وسبب نزول الآية بأن ألا تعلّق لأحد الفريقين بالآية على وجه
يثلج صدرًا أو يزيل شكًّا، وسبب نزول ذلك أن قومًا أسلموا
ذريعة إلى غنى ينالونه، وخصب يجدونه، وظفر يحصِّلونه، فكان
إذا ناب أحدهم نائبة أو فاته محبوب، أو ناله مكروه أضاف سَيئُه
إلى النبي عليه الصلاة والسلام متطيرًا به، فقال تعالى: (تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي خصب وسعة (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)(3/1335)
أي جدب وفقر، لقالوا بك ونسبوها إليك.
الحسنةِ والسيئة هاهنا هما المذكورتان في قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) ، وفي قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) .
ونحو هذه الآية قوله في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) ،(3/1336)
وفي قوله في صالح: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) .
إن قيل: ما الفرق بين قولك: هذا من عند الله، وهذا من الله.
حتى قال في الأول: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
وقال في الثاني: (فَمِنَ اللَّهِ) ؟
قيل: قد قال بعضهم: إن قوله هذا من عند الله أعم.
فإنه قد يقال: فيما كان برضاه وبسخطه وفيما يحصل.
وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا ما كان
برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت فمن الله، وإن
أخطأت فمن الشيطان، ثم ذكر تعالى ما يصيب الإِنسان من
ثواب وعقاب ومحابّ ومكاره، مما في سببه صنع بشر، فقال:
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) .
وعنى بالنفس المذكورة هاهنا المذكورة في قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) .
ومقتضى الآية كقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) .(3/1337)
وكقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، وعلى هذا فسَّر ابن عباس فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) : يوم بدر (فَمِنَ اللَّهِ) ، (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) : يوم حنين (فَمِنْ نَفْسِكَ) .
إن قيل: كيف سمَّى العقاب سيئة، ومعلوم أنه في الحقيقة ليس بسيئة؟
قيل: إن ذلك كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
وقد تقدم مثل ذلك.
إن قيل: إذا كان معنى الآية الثانية على(3/1338)
ما ذكرت في أنه أريد به الثواب والعقاب فهلّا قال: ما أصابك
من حسنة وسيئة فمن نفسك، إذا كان مقتضى ثوابه وعقابه فعل
العبد؟
قيل: إنما نسب الله تعالى الحسنة إلى نفسه في الثواب.
تنبيهًا أنه سبب الخيرات، ولولاه لما حصل بوجه، فإنه يكسبه
للعبد بإرادة من الله وأمر وحثّ وتوفيقٍ، وأما السيئة وإن كانت
بإرادة من الله عند قوم فليست بأمر منه ولا حث ولا توفيق، ومع
ذلك أدّب بذكر ذلك عباده، ليراعوا فيما ينالهم نعمته عليهم.
وينسبوا الحسنات إليه، ويعلموا أنه سبب كل خيرات، وأنه لولاه
لما حصل منها شيء، وعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله ".
قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تخش إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربّك "، إن قيل: ما الفرق بين الحسن(3/1339)
والحسنة والحسنى، والسيئ والسيئة والسوءى؟
قيل: الحسن والحسنة يقالان في الأعيان والأحداث.
ولكن الحسنة إذا استعملت اسمًا فمتعارف في الأحداث دون الأعيان.
والحسنى لا تقال إلا في الأحداث، ومتى قيل: رجل سيِّئ
فإنما يعني به المسيء.
إن قيل: كيف قوبل الحسنة بالسيئة، وحقُّها أن تقابل بما يقتضي
معنى المسرة كما قال: مساءة ومسّرة، وساءه وسّره، ولا يقال في مقابلة ساء شيء من لفظ حسن؟
قيل: الحسن لفظ عام كما تقدم، والحسنة والحسنى المقابل بهما السيئة والسُّوءى مخصوصان في الأفعال ولما كان كل
فعل حسن يسّر صاحبه، وكلّ فعل قبيح يسوء صاحبه، صار
القبح والسوء في الأفعال متلازمين فيصح أن يُقال: الحسنة بالسيئة.
إن قيل: من المخاطب في قوله: (مَا أَصَابَكَ) ؟(3/1340)
قيل: قال بعضهم: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعناه للقوم الذين يبكتهم.
وفي هذا النوع من الخطاب ضرب من التعريض، ولأجل قصد
التعريض في نحوه. قيل: إياك أعني واسمعي يا جارة.
ويدلّ على كونه خطابًا له قوله من بعده: (وَأَرْسَلْنَاكَ) .
وقيل: هو خطاب لكل إنسان، وذلك نحو قول القائل:
أيها الإِنسان وكلكم ذلك الإنسان.
وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق المذكور في قوله:
(إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ)
قال: ولما كان لفظ الفريق والحي والجند مفردًا صحَّ أن يخاطب(3/1341)
ويخبر عنه بلفظ الواحدة تارة وبلفظ الجمع تارة، كلفظ كل ونحوه
من الألفاظ، وعلى هذا قول الشاعر:
تفرق أهلانا بُثَيْن فمنهم. . . فريق أقام واستقلَّ فريق
وكل هذا كلام في مقتضى حكم اللفظ، فأما من حيث المعنى
فالناس خاصهم وعامهم مراد بقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)
إن قيل: ما وجه قوله: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) بعد ذلك الكلام؟
قيل: لما كان قوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
إنذازا لهم، نبه بذلك أنه قد أزاح عللهم به، وأنهم متى عصوا فلا
حجة لهم، إشارة إلى قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) .
وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي يشهد تعالى ما يفعله(3/1342)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
ويفعلونه، ويشهد يوم القيامة، وكفى به مشاهدًا وشاهدًا.
قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
نبّه بذلك على حجة ظاهرة في وجوب طاعة نبيه.
وبيانه أنه إذا كان طاعة الله واجبة، وطاعته لا تتم إلا بطاعته.
لأن عامة أوامره لا سبيل إلى الوقوف عليها إلا من جهته.
وما لا يتم الواجب إلا به فواجب كوجوبه، اقتضى
ذلك أن من أطاع رسول الله فقد أطاعه، فنبّه بذلك على مقابله.
وهو أن من عصى رسوله فقد عصى الله، وكالأمر بطاعة الله
ورسوله الأمر بالإِيمان بهما في نحو قوله:(3/1343)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، فكذلك الأمر باستجابته في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) .
ثم قال: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) حثَّا على إبلاع ما ندب
إليه من المأمور به في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وتنبيهًا أن ليس يعود عليك مضرة ما يفعلونه في أنفسهم.
المدلول عليه بقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
وقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) .
قوله عز وجل: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
المعني بقوله: (وَيَقُولُونَ)(3/1344)
الذين يخشون الناس، وقد تقدّم أِن ذلك قيل من صفة المنافقين.
وقيل من صفة الناس كافة.
والتبييت: كل فعل أو قول دُبِّر بالليل.
ولأجله قيل: دع الرأي تَبِتْ، قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيّتوا. . . وكانوا أتوني بأمر نُكُرْ
وقيل: اشتقاقه من بيت الشعر، أو البيت المبني، وهو الذي
سوى من القول أو الفعل تسوية بيت شَعرٍ أو بيت شِعرٍ.(3/1345)
ونحو قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ) قوله: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) .
قال الكلبي: التبييت في لغة طيّ: التبديلُ.
ومعنى الآية أنهم يبذلون من أنفسهم الطاعة قولاً.
فإذا خرجوا من عنده عليه الصلاة والسلام دبروا أن
يفعلوا خلاف ما قالوا، (والله يكتب ما يُبتتون) ، أي يعلمه
ويحفظه) فيجازيهم به،(3/1346)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
والكتابة هاهنا كالاستنساخ في قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، ونسب ذلك إلى نفسه هنا، وإلى ملائكته في قوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ، وفي قوله: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) .
وقد تقدَّم أنه تعالى قد ينسب فعل أوليائه إلى نفسه تنبيهًا على ارتضائه، وكونه آمراً نحو قوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) .
وقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) .
وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، ثم أمره بالتوكل عليه، وقد تقدم أن من التوكل ملازمة أوامره والانتهاء عن نواهيه، وأن لا يرْجى ولا يخاف سواه، ونحو
قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) ، قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
قوله عز وجل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)(3/1347)
التدبير: النظر في دُبُر الأمور وتأملها، وقد يقال ذلك في تأمل الشيء بعد حصوله ومعرفة خيره من شره، وصلاحه من فساده، كقولك: تدبرت ما فعل فلان فوجدته سديدًا، وأصل التدبر من الدَّبر، ومنه الدّبور.
والدَّبر: المال الكثير الذي يخلفه الإِنسان ويجعله عدة: إما لنفسه
في مستأنف عمره، أو لعقبه.
إن قيل: كيف قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ، وما من كلام لعل فيه من الاختلاف ما في القرآن، فما من آية إلا وقد اختلف فيها الناس؟
قيل: لم يعن بالاختلاف ما يرجع إلى أحوال المختلفين، لاختلاف تصورهم لمعناه، أو اختلاف نظرتهم، ولا الاختلاف الذي يرجع إلى تباين الألفاظ والمعنى والإِيجاز والبسط، وإنما قصد إلى معنى التناقض، وهو إثبات ما نفى أو نفي ما أثبت، نحو أن يقال: زيد خارج، زيد ليس بخارج.
والمخبر عنه والخبر والزمان والمكان فيهما واحد.(3/1348)
ادعت الملحدة - لعنهم الله - فيه التناقض، من نحو قوله: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) .
فذلك خبران قد اختلفا، إما في الزمان أو في المكان أو في
المخبر عنه، أو في الخبر، وهذا ظاهر.
وقيل: معنى قوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
أنّ للإِنسان هاديين: الشرع والعقل.
كالأصل للشرع، فبيّن تعالى أن الذي أتاكم به من
الشرع لو كان من عند غير الله لكان مقتضى العقل يخالفه، فلمّا
لم يوجد بينه وبين العقل منافاة عُلم أنه من عند الله،(3/1349)
فإن قيل: فقد ورد في الشرع أشياء يقتضي العقل خلافها؟
قيل: كلا، فإن جميع ما ورد به الشرع لا ينفك من وجهين.
إما شيء يحكم به العقل لكونه حسنًا، مثل استعمال إله في الجملة.
وعبادة الرّب، أو يكون غير مهتد إلى معرفته لا أنه يستقبحه، فيُبين
- الشرع حسنه، وذلك كأعداد الصلوات وهيئاتها وأركانها، في
كونها عبادة على وجه دون وجه، وإما أن يأتي الشرع بشيء قد
قضى العقل بكونه قبيحًا فليس ذلك بموجود، وبعض الناس
تصور أشياء ينفر الطبع منها لعادات جارية، أو اعتقادات فاسدة.
ولم يفرِّقوا بينه وبين حكم العقل، فظنوا أن العقل حكم بضد
الشرع، كذبح البهائم.
إن قيل: ما وجه تعلُق هذه الآية بما تقدّم؟
قيل،: لمّا ذكر فيما تقدّم أحوال الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، ويتركون
كتاب الله ورسوله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، وذكر الذين
يخشون الناس ومقالهم فيما نالهم من حسنة أو سيئة.
ومخالفتهم في الطاعة، وكان كل ذلك منهم - لقلة تأمّلهم كتاب
الله، وتقديرهم أن ما أمروا به في ثاني الحال من القتال مناقض لما
أمر به قبل، من كفّ اليد وغير ذلك، بما يختلف لاختلاف
الأحوال، نبههم تعالى في هذه الآية أن كل ذلك لقلة تدبرهم،(3/1350)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وأنهم لو تدبّروا لعلموا أن ذلك حق نزل عليهم من الله، كما
قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) .
قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) .
الاستنباط: استخراج الشيء من أصله، كاستنباط الماء من
البئر، والجوهر من المعدن، وذلك كالإِثارة في إخراج التراب.
واستعير للحديث، قال الشاعر:
. . . يكفيك أثرى القول واستنباطي
قال الفرّاء: يقال نبطه، قال: ومنه النبط لاستنباطهم(3/1351)
الأرض عمارتها، والذين يستنبطونه منهم، قيل: هم أولو
الأمر الذين لهم معرفة استنباطه، فيكون ذلك حثا على ترك
من لا يعلم لمن يعلم ليستنبط هو بمعرفته، فإذا عرف عرفهم
ما يجب تعريفه، وقيل: عنى بالذين يستنبطونه الذين يبينونه.
ويكون ذلك نهيًا لهم عن الاستنباط بالتخمين والنظر، وحثًّا
على رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، وقد تقدم الكلام
آنفًا في أولي الأمر منهم، وقيل: سبب ذلك أن قومًا كانوا إذا(3/1352)
سمعوا من أفعال المؤمنين أو الكافرين ما فيه أمن أو خوف بادروا
إلى إشاعته، قبل أن يتحققوا معناه.
قال الفرّاء في سرايا النبي عليه الصلاة والسلام: وأنه كان إذا
نفذ سرية بحث المنافقون عنها، فأشاعوا حديثها.
قال الحسن: قد كان يفعل ذلك ضعفاء المسلمين، ويقولون
أقوالاً تخمينًا، فنهوا عن ذلك، والآية تقتضي أن لا يقدم
الإِنسان على ما لا يتحقق جواز الإِقدام عليه، ولا يقول إلا عن
بصيرة، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
الآية، وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ، اختلف في قوله: (إِلَّا قَلِيلًا) عمّا استثنى، وذلك لاختلاف تصوُّرهم لمعنى الفضل، فالأول عن الحسن(3/1353)
وقتادة تقديره:، يستنبطونه منهم إلا قليلًا.
الرابع: لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا منكم.
الخامس: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعًا قليلًا.
إن قيل: كيف القول الرابع والخامس، وقد علمنا أنه لولا
فضله لاتبع الشيطان، بل ماكانوا يوحدّون، فضلًا عن
أن يضلوا، فإنا لو تصوَّرنا فضله مرتفعًا لارتفع وجود الناس.
بل وجود العالم؟
قيل: إذا جرى الفضل على العموم فهو كما يقول، ومنِ أجله تحاشى من امتنع من أن يكون ذلك استثناء من قوله (لَاتَّبَعْتُمُ) فأما إذا جعلت فضله خاصا في هذا الموضع(3/1354)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
فمعناه صحيح، وبيان ذلك أن فضل الله وإن كان لا تُحصى
تفصيلاته، فالذي به هدانا إلى البلوغ إلى ثوابه فضلان: فضل
العقل وفضل الشرع، وعنى هاهنا بالفضل الشرع دون العقل.
وبيّن أنه لولا ما أنعم به على الناس من رسوله وكتابه لما اهتدى
من خلائقه بالعقل المجرد إلا قليلٌ من الناس، والقليل الذين لم
يكونوا يتّبعون الشيطان لولا فضل الله، هم الحكماء
والأولياء، الذين تتلو منزلتهم منزلة الأنبياء عليهم السلام.
وهذا ظاهر.
قوله عز وجل: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)(3/1355)
التنكيل: مصدر نكلت به، والنكال العقوبة التي تنكل المعاقب
وغير المعاقب عن إتيان مثله، وأصله من النكل، وهو ضرب من
القيد، ومنه نكل عن الشيء.
إن قيل: كيف قال: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكلّف الناس؟
قيل: لم يعنِ التكليف الاستدعاء الذي رشح له، ألا ترى أنه قال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية تقتضي أن على الإنسان أن لا يني في نصرة الحق وإن تفرد، يعد أن لا يني في فعله.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "لو خالفتني يميني جاهدتها بشمالي" وتلا هذه الآية.
وقال بعض الحكماء: من(3/1356)
طلب رفيقًا في سلوك طريق الحق فلقِلة يقينه، وسوء معرفته.
فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يفرح على رفيق ولا
يبالي بطولِ طريق، فمن خطب الحسناء لم يغلها مهر.
والفاء في قوله: (فَقَاتِلْ) قال الزجاج: هو جواب لقوله: (وَمَن
يُقتل) ، ووجه ذلك أنه محمول على المعنى كأنه قال: إن
أردت الفوز بذلك فقاتل، وقال بعضهم: هو متصل بقوله:
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
أي كن راجيا في دفع أذاهم،(3/1357)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
وقول المفسرين: عسى من الله واجب، أي الكريم إذا رُجِي
حقّق، وقوله: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)
تنبيه أنك لا تحتاج أن تقصر عن قتالهم، فالله معك، وهو أشد بأسًا
من عداك، فلا يجب أن يَنكادك من تاخر عنك.
قوله عز وجل: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
الشفاعة: من الشفع أي ضم الشيء إلى غيره.
وضد قولهم شفعه: أفرده، ولهذا قال الشاعر:
ومن يفرد الإِخوان فيما ينوبهم. . . تصبه الليالي مرة وهو مفرد(3/1358)
والشفعة متعارفة في ضم ملك بِيعَ إلى ملكك، والشفاعة في
انضمام إنسان إلى آخر فيما يطلبه، والشفاعة المذكورة.
في نحو قوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) هي في الآخرة معروفة
وأما في الدنيا فبأن يهدي الإِنسان غيره، فمن هدى غيره إلى
طريق خير فقد شفع له.
وأصل الكِفل الكَفل، فجعل اسمًا لمركبٍ من خِرَقٍ
وكساءٍ يوضع على الكِفْل، وقد يسمَّى ما يُكْسى العضو
باسمه، كقولهم: يد القميص وبدنُه، ورجل السراويل، والساقُ
والساعدُ لما يُلْبِسُ هذين العضوين، ثم استعير الكفل تارة(3/1359)
إن نبا ركوبه تشبيها بذلك المركب. قال الشاعر:
غير مِيلٍ ولاعواوين في الهَيـ. . . جا ولا عُزَّل ولا أكْفَالِ
ثم سُمي الفاجر في أي أمر كان كفلا، ولما كان ذلك الكفل
يجعل على قدر الكفل تصور فيه المماثلة، فقيل للمثل في العدد كفل.
فإن قيل: فلم فرق بينهما فقال في الحسنة: (نَصِيبٌ) ، وفي السيئة (كِفلٌ) ؟
قيل: يجوز أنه لما كان النصيب يقال فيما(3/1360)
يقل ويكثر، والكفل لا يقال إلا في المثل جاء في السيئة بلفظ
الكفل تنبيهًا على معنى المماثلة، وإشارة إلى ما قال: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) .
وقد قيل: الكفل المذكور هاهنا أكثر ما يقال في الشيء الرديء، فنبّه بلفظه على ذلك تنبيهًا على قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) .
فإن قيل: فقد قال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، وليس ذلك بمذموم؟
قيل: إنه عنى بالكفلين هاهنا أي له كفيلان من رحمته يتكفلان به من العذاب،(3/1361)
فيضَارع اللفظان، والمعنيان مختلفان، ولما حث الله تعالى في الآية
المتقدمة على تكلُّف ما أمر وتحريض المؤمنين، ورجاء الظفر
بالكفار، بين هاهنا أن من أعان غيره في فعل حسن فله نصيب في
ثوابه، وإن أعانه في فعل سيئ فله كفل منه، وذلك عبارة عمّا
بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"من سنَّ سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" الخبر.
وقال بعضهم: القصد بذلك أن من يدعو لغيره دعاءً حسنًا
فله فيه نصيب، ومن فعل بخلاف ذلك فكذلك.
قال: والسبب في هذا أن اليهود والمنافقين كانوا إذا دخلوا
على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: السام عليكم، يوهمون أنهم يقولون:(3/1362)
السلام عليكم، فأنزل الله ذلك، واستدل قائل هذا بقوله تعالى
بعد ذلك: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) .
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)
قال السدي: المقيت: المقتدر، وأنشد الكسائي فيه:(3/1363)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكنت على مساءته مقيتا
وقال ابن عباس: الحفيظ، وقوّاه الرجّاج.
وقال مجاهد: الشهيد، ورُوِيَ عنه: الحسيب،(3/1364)
وقال الضحاك: الرازق.
وقال غيرهم: المجازي، وحقيقته الذي يجعل للإِنسان قوتًا.
وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت "
- ويقيت - كأن الله تعالى يجعل لكل إنسان قوتا من
الجزاء بقدر فعله، ويجعل له في الدنيا والآخرة قدر ما يستوجبه.
وما قالوه فصحيح من حيث المقصد، لأن ما قدّره الله
تعالى للعبد فقد حفظه وشهده.
ورُوِيَ أن رجلًا سأل عبد الله بن رواحة عن المقيت؟
فقال: يقيت كل إنسان بقدر علمه.(3/1365)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
كأنه إشارة إلى ما قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله يحاسب عباده بقدر عقولهم ".
قوله عز وجل: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
التحية: من قولهم حيَّا الله فلانًا، أي جعل له حياة، وذلك
إخبار، ثم يُجعل دعاء، ثم يقال: وحيَّا فلان فلانًا إذا قال له
ذلك، وحكم به، كما يقال: أضللت فلانًا وأرشدته إذا
حكمت له بذلك، وأصل التحية من الحياة، ثم يقال لكل دعاء
تحية، لكون جميعه غير خارج عن كونه حياة، أو سبب حياة.
إما دنيوية وإما أخروية.
إن قيل: علي أي وجه(3/1366)
جعل قولهم: السلام تحية الملتقين؟
قيل: السلام والسِّلم واحد، بدلالة قوله: (فَقَالُوْا سَلَامًا قَالَ سِلْم) (1)
ولما كان الملتقيان من الأجانب قد حذر أحدهما الآخر استعملوا هذه
اللفظة تنبيهًا من المخاطب، أي بذلت لك ذلك وطلبته منك.
ونبه المجيب إذا قال: وعليك السلام. على نحو ذلك، ثم صار
ذلك مستعملًا في الأجانب والأقارب والأعادي والأحباب، تنبيهًا
أني أسأل الله ذلك لك، وأكثر المفسرين حملوا الآية على التحية
المجردة، فقالوا معناه: من حيّاكم بتحية فحيوا بأحسن منها أو
ردّوها أي قابلوه بمثلها، قالوا: ورد ذلك أنه متى قال قائل:
السلام عليكم، فإنه يقول: وعليكم السلام، أو يقول:
وعليكم، فهذا هو ردُّه، ويدلّ أنه إذا قال: وعليكم. فقد رد، أن
رجلًا دخل على عمر فقال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، فقال عمر: وعليكم، فظن الرجل أنه لم يسمع عمر.
__________
(1) هي قراءة حمزة والكسائي.(3/1367)
فأعاد عليه، فأعاد عمر مثل ما قال، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين
ألا ترد عليَّ كما أقول؟
قال: أو لم أفعل؟ وأما أحسن منها فأن يقول له أكثر من ذلك ما لم يستوف المسلِّم ألفاظ التحية، وذلك أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"عليكم السلام ورحمة الله ".
ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
فجاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم ".
فقيل له في ذلك، فقال: "إن الأول والثاني أتيا من التحية شيئًا فرددت عليهما بأحسن مما سلَّما، والثالث حيّاني بالتحية كلِّها فرددت عليه مثلها".
ومن المفسرين من قال له: إن من حيّاكم ببعض التحية(3/1368)
فحيوا بها تامَّة، ومن حياكم بالتحية تامة فردّوا مثلها، ومنهم
من قال: بل خُير كلهم بين الأمرين، وقال قتادة: بأحسن منها
للمسلمين، وبمثلها أهل الكتاب، وهو أن يقال: وعليكم.
وقال ابن عباس: من سلَّم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن
كان مجوسيا.
ومن المفسرين من حمل ذلك على الهدايا واللطف،(3/1369)
وقال: حقّ من تولى شيئًا أن يولِّي مثله وأحسن منه.
ومنهم من قال: السلام هاهنا السِّلْم، وهو أصله، قال: وهذا أمر منه
أن من بذل لكم السلم من الكفار بأن يروم الدخول في الشرع.
فابذلوا له، كقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) .
قال: وأمر بأن يرد على باذِلها مثلها أو أكثر منها.
قال: ومثله أن يبذل له الأمان مما خافه، وأكثر منه أن يبين أن له ما لهم، وعليه ما عليهم من النصرة والموالاة، وذلك مما قد بيّنه في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) .
قال: وذلك هو الذي بسطه من بعد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) .(3/1370)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) أي يحاسبكم
على كل شيء قلَّ أو كثر، فلا تتغافلوا عن صغيرة وكبيرة.
وقول عطاء: حفيظًا، وقول ابن جبير: شهيدًا فإشارة إلى
هذا المعنى، وقيل: (حَسِيبًا) أي كافيًا، من قولهم:
أحسبني هذا الشيء - أي كفاني - حتى قلت حسبي.
ومن قال ذلك جعله من باب: الداعي السميع. أي المسمع،(3/1371)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
وفيه (عَطَاءً حِسَابًا) أي كافيًا، والمعنى أن الله يعطي كل
شيء من المعرفة والحفظ والرزق ما يكفيه إذ هو حافظه.
قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
سمّى يوم القيامة لقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا) .
إن قيل: ما وجه هذه بعد تلك الآية؟
قيل: لمّا أمر المسلمين أن يقبلوا من بذل لهم السلام.
بيّن لهم بهذه الآية أن ذلك حكم للظاهر.
فأما السرائر فإن الله يتولاها يوم القيامة.
تنبيهًا أن الله لا يحب المنافق أن يغتر بهذا.
بل يتحقق أن الله له بالمرصاد.
إن قيل: كيف قاله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)(3/1372)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
وما كان صدقًا من الحديث لا يتضارب، فيكون من بعض
قائليه أكثر صدقا من قائل آخر؟
قيل: إن الصدق من صفة القائل لا من القول.
والقائلون إذا اعتبروا بأقوالهم فمنهم من يكون
صدقه في أحاديثه أكثر، فكأنه قيل إذا اعتبر الصادقون في أقوالهم
فليس فيهم أكثر صدقًا من الله، فإنه لا يقع في خبره كذب بوجه.
قوله عز وجل: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
الرَّكسُ والنَّكْسُ: الرَّذلُ، والركس أبلغ، لأن النكس ما جعل
أسفله أعلاه، والركس أصله ما جعل رجيعا بعد أن كان(3/1373)
طعاما فهو كالرجس، وقد وصف أعمالهم به، كما قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) .
ويقال: ركسه وأركسه، وأركس أبلغ، كما أنَّ أسقاه أبلغ من قولهم سقاه.
إن قيل: كيف قال: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) فنفى نفيًا مطلقًا، وقد أثبت للكفار سبيلا؟ فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) .
وقال: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) ؟
قيل: اسم الجنس إذا أطلق فليس يتناول إلا الصحيح.
ولهذا يقال: لا صلاة إلا بكذا.
وقالوا: فلان ليس برجل. لما كان أخلاق الرجل تتناول للكامل.
فلذلك لا يعد قائل ذلك كاذبًا.
واختلُف في سبب نزول هذه الآية على(3/1374)
أوجه: الأول: قال زيد: هي في الذين تخلَّفوا يوم أحد.
وقالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) .
الثاني: قال الحسن ومجاهد: هي في قوم قدموا المدينة وأظهروا الإِسلام.
ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك.
الثالث: قال ابن عباس وقتادة: في(3/1375)
قوم أسلموا بمكة، ثم أعانوا المشركين على المسلمين.
الرابع، قال السدي: في قوم بالمدينة أرادوا الخروج منها.
الخامس: قال ابن زيد: في قوم من أهل الإِفك، وما بعده نزل أنه
في شأن الهجرة، وجملة الأمر أن الناس كانوا اختلفوا في فئة
من المنافقين فئتين، أمَّنهم بعضهم ووالاهم بعضهم، فقال
تعالى: ما لكم قد صرتم فئتين مختلفتين فيهم، وقد خذلهم
الله، فبيّن أن لا سبيل لهم بعد أن أضلهم الله، كقوله
تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) .
وقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) ،(3/1376)
قال الحسن: معناه: أتريدون أن تجعلوا لأهل الضلال ما جعله الله
لأهل الهدى.
وقيل: أتريدودن أن تسموهم مهتدين، وقد سمّاهم الله ضالين.
وقيل: أتريدون أن تهدوهم كرهًا وقد جعلهم الله بما اكتسبوه حالاً فحالاً ضالين، وذلك إشارة إلى نحو قوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
وقوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) ، وقوله: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)
فقد تقدّم أن الله تعالى لما أجرى العادة أن من
تحرى الخير حالاً فحالاً ازداد هداية بسبب ذلك نفسه، إذ كان
فاعل أسباب الشيء قد يقال إنه فاعل للشيء، فإنه هو
أولى بأن يُسمّى فاعلًا، وقد تقدّم الكلام في الهداية والضلال
بما فيه الكفاية.
وانتصاب قوله: (فِئَتَيْنِ) على(3/1377)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
الحال عند البصريين، وعلى تقدير (كانوا) عند الكوفيين.
وعلى هذا القولين قولهم: مالك خارجًا؟.
قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
الهجرة: ترك الشيء والإعراض عنه مكانًا أو خليطًا، وسُمِّي
القبيح من الكلام هُجْرًا لكونه مقتضيًا لهجره، والرفث
هَاجِرَةً لكونه حاملًا على أن يهجره، وسُمّي المهاجر لتركه
وطنه، وصار اسم مدح في الإِسلام، وسُمّي من رفض فضولات
شهواته مهاجرًا، عنى تعالى أن الذين تقدّم ذكرهم ممن بقوا
بمكة وادعوا الإِسلام أنهم كفار، ويريدون لكم الكفر الذي هم(3/1378)
عليه، ومن أراد لكم الكفر فمحال موالاتهم، فلا تتخذوهم
أولياء حتى يسلموا، ويحققوا إسلامهم بالهجرة، ثم قال:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن كشفوا الغطاء فقط صاروا مرتدين، (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، ولا تكونن بينكم وبيتهم موالاة ونصر بوجه.
إن قيل: فما قائدة قوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) بعد أن قال: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) ؟
قيل: قد قال بعضهم ذلك على التوكيد، والصحيح أن الذين دخلوا في
الإِسلام من الأعراب فرقتان، فرقة هاجروا وفرقة أقاموا.
وبيّن الله تعالى أن من أقام ولم يهاجر فلا ولاء له، إلا أن يستنصروكم
على قومهم فتنصرونهم، وذلك في قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) فمنع تعالى عن موالاتهم بقوله:
(فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) كما منع بتلك الآية، ولم يمنعهم من
نصرتهم، ثم بيّن أنهم إن تولوا، أي ارتدوا عما أظهروه من(3/1379)
الإِسلام، وكشفوا الغطاء بالكفر، فلا يجوز أن توالوهم، ولا أن
تنصروهم بوجه.
قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
الحصر: حبس في ضيق، وعبّر عن البخل والجبن لانحصار النفس.
وكذلك عبر عنهما بضيق الصدر وعن ضدهما بسعة الصدر.
وبالبر المشتق عن البر أي السعة، والحصور الممنوع
عن الجماع بحبس شهوته، وعن الشراب بحبس ماله لبخله.
وفي اتصال هذه الآية بما قبلها وحكمتها صعوبة، ووجه ذلك(3/1380)
أنه لما أمر تعالى الناس فيما تقدم بالهجرة، ونهى عن موالاة من
تأخر، استثنى بهذه الآية من يحصل له إحدى حالتين؛ إما أن
يصلوا إلى قوم بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -
عهد لتعذر لحوقهم به، فيقيموا إلى وقت الإِمكان به؛ وإما أن يهاجروا ويأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين
فتحصر صدورهم أن يقاتلوا المسلمين لعلمهم بكونهم على الحق.
وأن يقاتلوا قومهم لكونهم غير آمنين على مالهم وذويهم، فهذا
معنى قوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ) .
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) إظهار من الله تعالى لنعمته
على المسلمين وأنه لو لم يهدهم لكانوا في جملة المتسلطين عليكم.
ثم بيّن أنهم إذ قد اعتزلوا وأظهروا الإِسلام فاتركوهم؛ فهذا
على ما ذكر هذا القائل هم الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم،(3/1381)
ولم يبلغوا الحدَّ الذي لا يحرجون في نصرة الدين إلى أهلٍ.
وقال قتادة - وقد رُوِيَ عن ابن عباس: - أن قوله:
(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ) هو في قوم من الكفار
اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة فلم يكونوا من الكافرين.
ولا مع المسلمين، قال: وهذا معنى (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)
قال: ثم نسخ ذلك بآية القتال، والقول الأول أظهر وأحسن.
وقوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) في موضع الحال عند الفرّاء.
قال: وتقديره قد حصرت صدورهم، وتقوَّى ذلك بقراءة الحسن
(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) ، وقال بعضهم:(3/1382)
هو خبر بعد خبر، كأنه قيل: أو حصرت صدورهم.
وقال الجرجاني في كتاب النظم: تقديره: وإن (جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فحذف إن.
قال: والفعل الماضي يقع في الشرط موقع المستقبل.
وفيما ادعاه إضمار إن عُهدة، فما أرى أهل اللغة يطابقونه عليه.
وقال المبرد: هو دعاء عليهم، وردّ(3/1383)
ذلك أبو علي الفسوي، وقال: قد أُمرنا أن نقول:
"اللهم أوقع بين الكفار العداوة والبغضاء".
فلا يجوز أن يُحمل على الدعاء، فيكون في قوله: (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ)
نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم.
وهذا القول من المبرد، ومن الرادِّ عليه مبني على أن الآية في الكفار على ما تقدّم من القول الثاني فيه.
ولقائل أن يقول: كما يجوز أن يُدعى عليهم بإيقاع العداوة.
يجوز أن يدعى عليهم بأن يجعلهم الله حيث لا يقاتلون أعداءهم
ولا قومهم، ويكون ذلك سؤالاً لموتهم، ويدلك على جواز
ذلك أنه لو جمع بين المقاتلين لم يمتنع، فكأن يقال: أوقع بينهم
العداوة والبغضاء، وأوهن كيدهم، واجعلهم بحيث لا يقاتلون
المسلمين ولا بعضهم بعضا، على أن قوله (قَوْمَهُمْ) قد يُعبّر به
عمن ليس منهم، بل هم من معاديهم كقولك: فلان صاحبك
وهم قومك، أي المناصبون لك.(3/1384)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
قوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الركس والرجسُ يتقاربان، لكن الرجس الحس.
وقيل: ركسه وركزه بمعنى؛ إلا أن الركس يقال في مكروه.
وقيل: الفتنة هاهنا الكفر، وقيل: الاختبار، والسلطان: الحجة(3/1385)
والبطش، وقد تقدّم حقيقته.
والآية قيل: نزلت في نعيم بن مسعود، وكان ينقل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كفار مكة.
وقال ابن عباس: نزلت في قبيلتي أسد وغطفان) ،(3/1386)
وقال قتادة: في حيٍّ من تهامة، وجملة الأمر أنه لمّا ذكر فيما تقدم من له
عذر بأحد الأمرين اللذين ذكرهما، ذكر هاهنا فرقة لا عذر لهم
كانوا يظهرون الإِسلام ثم يرجعون إلى عبادة اِلأصنام، كمن
ذكرهم في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) ، فذكر (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) ، ويطلبوا(3/1387)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
بدخولهم الإِسلام، ويكُفوا أيديهم عنكم، فقد أُبيح لكم
قتلهم، وقد جعل الله لكم عليهم حجة بما بينه.
وقوله: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي إذا ردوا إلى الكفر عادوا إليه فتنجّسوا به.
وقيل: إذا رُدّوا إلى الاختبار أي الإِسلام وجدوا يركسون
فيها، ويكون قوله: (أُرْكِسُوا) وجدوا كقولهم: أُحمدُوا
وأُذِمُّوأ، وقيل: الفتنة الاختبار إنما أريد به ما قصد بقوله:
(الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) .
ومعناه أنه إذا نالتهم محنة ارتدوا، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) الآية.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)(3/1388)
إن قيل: هل يجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى قال:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) ؟
قيل: إن قولك يجوز أو لا يجوز. إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك.
وقولك: ما كان لك أن تفعل كذا، وقولك: ما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما تعليلان بمعنى، وإن كان أكثر ما يقال للأول لما كان الإِحجام عنه من قبل نفسه، ويدلّ على أنه قد يقال: ما كان لك أن تفعل كذا - لمِا ذكرنا - قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) ، لأن معناه: ما كان لله ليتخذ ولدا
في أنه لا نهي، وعلى هذا قوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) .(3/1389)
فقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) أي ما كان المؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ، وهذا ظاهر، وهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا، ولكن يقع ذلك منه خطأ.
وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن مؤمنا إلا خطأ.
وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمنٍ بمتروك لا يقتص له إلا
أن يكون قتله خطأ، وهذا يرجع إلى الأول.
وقول بعض النحويين: إن هذا استثناء خارج فليس على التقدير الذي
ذكرناه، كذلك، بل هو واجب، وذكر على بن موسى القمّي(3/1390)
أن معنى ذلك: ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا أن يراه في دار
الحرب، فيظنه كافرا فيقتله خطأ، فيكون الخطأ راجعًا إلى القاتل
في كونه غير عالٍم بحال المقتول، وأما من قال: معنى (إِلَّا خَطَأً) ولا خطأ، واستدلاله بقول الشاعر:
وكلّ أخ مفارقه أخوه. . . لعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدانِ
أي: ولا الفرقدان، فذلك تشبيه فيه ما أرى أن محققي(3/1391)
النحويين يوافقونه.
وقيل: الخطأ في الأصل على وجوه، منها:
أن يقع بلا قصد من القاتل إلى القتل، ولا إلى الإِتيان به بوجه.
كمن سقط من يده شيء فأصاب نفسه فقتله، ومنها أن يقصد
ْإصابة الشيء غير المقتول، فاتفق إصابته فقتله، كمن يرمي صيدًا
فأصاب إنسانًا فقتله، أو يقصده ولكن لا بسلاح يقتل مثله، أو
يقصده بسلاح لكن لا يريد قتله، أو يقصده بسلاح ويريد قتله
لكن لا يعلمه محظور القتل، كمن يرمي مسلمًا في صف المشركين.
أو يقصده بسلاح ويريد قتله لا في دار الحرب، لكن القاصد غير
مكلف كالصبي والمجنون، وكل ذلك يقال له: قتل الخطأ، لكن
لذلك تعارف في الشرع هو المُراعى، وقد وبيّن ذلك في كتب الفقه.
والرقبة المؤمنة: أن يكون مولودًا في دار الإِسلام صغيرًا كان أو(3/1392)
كبيرًا، أو سباه من دار الحرب مسلم قبل البلوغ، أو أسلم بعد
البلوغ، وهذا الإِيمان هو الإِسلام، دون كمال الإِيمان المتقدّم
ذكره في غير هذا الموضع.
قال الحسن: ما في القرآن مؤمنة فلا يجزئ إلا من صام وصلى وحسن إسلامه، وما عدا ذلك فيجزئ فيه الصغير والكبير.
وقال إبراهيم: لا يجزئ في ذلك إلا البالغ.
وقدر الدية مختلف فيه والمفزع فيه إلى السنة.
وظاهر الآية يقتضي شيئًا مقدرًا.
والتتابع في صيام الشهرين مشروط، والظاهر(3/1393)
أن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يبطل التتابع كالحيض والمرض
الطارئ والإِغماء، وأما مصادفة الأيام التي حُظر فيها الصوم
كيوم العيد، وأيام التشريق، والإِفطار في السفر، أو الشهر الذي
يستحق صومه بالشرع كشهر رمضان، فإن ذلك يقطع التتابع.
ويوجب الاستئناف، وحكي عن مسروق أن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ) عنى من لم يجد الدية والرقبة، وسائر أهل العلم بخلافه.
فالدية حق الآدميين، والكفارة حق(3/1394)
الله، فلا تنوب إحداهما عن الأخرى.
وقال الأصمّ: ظاهر الكتاب يدل على أن الدية تلزم القاتل.
لأنه قال: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) فعطفها على الكفارة.
ومعناه: عليه ذلك.
وإنما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الخطأ تتحمل العاقلة عن
القاتل على سبيل المواساة، لا أنه نسخ الكتاب بالسنة.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي: يعفوا عن الدية، فجعل العفو
عنها صدقة منهم، تنبيهًا على فضيلة العفو وحثا عليه، وأنه جار
مجرى الصدقة في استحقاق الثواب الآجل به دون طلب العوض(3/1395)
العاجل، وهذا حكم من قُتل في دار الإِسلام خطأ.
وقوله:
(فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي من أهل
الحرب في الدار والمعركة، وفي فقد التمييز لا في معنى القرابة.
ولا فرق بين أن يكون مسلمًا دخل دار الحرب، أو أسلم هناك ولم
يهاجر.
وقيل: قد دخل في ذلك من أسلم في دار الإِسلام من
المشركين ولم يعلم القاتل به.
وخبر الحارث يدلّ على ذلك، لأنه قتل بالمدينة وقد كان أسلم.
وقيل: إنما أسقط الدية فيه إذا كان أولياؤه كفارًا وهو مؤمن.
فإن ديته راجعة إلى المؤمنين(3/1396)
فلا معنى لإِلزامهم.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)
أي كان المقتول خطأ من قوم كذلك.
واختلفوا هل الإِيمان شرط فيه؟
فقال الحسن ومالك: هو شرط، تقديره: إن كان المقتول خطأ مؤمنًا.
قال مالك: ولا كفارة في قتل الذمي.
ومنهم من قال: الآية واردة فيمن(3/1397)
كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فْاسلم.
ثم قتله مسلم من غير حرب، قالوا: وكان هذا في زمن الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، فأما بعد فقد أمروا بقتالهم.
ومنهم من قال: عنى بالميثاق الذمة إما بالعهد أو الاستئمان.
والظاهر أن كل قَتْل في عهد جائز بين المسلمين ففيه الدية والكفارة.
وتعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر فيما قبلها حُكم من أسلم فمنعه عذر من مقابلة أعداء المسلمين، وحُكم من لم يسلم، وإنما يريد أن يَسْلَمَ على(3/1398)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
الفريقين، فأمر في الأولى بالتجافي وفي الثانية بقتلهم، بيّن هاهنا
خطر قتل المؤمنين، وجعلهم صنفين: مقتولاً خطأ، ومقتولاً
عمدًا. فبيّن حكم الخطأ وجعل المقتولين ثلاثة أصناف على ما
فسرناه، ثم بيّن حكم قتل العمد، فقال تعالى:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
العمد: فعل الشيء عن إرادة واختيار، ويضاده الخطأ.
وصفة قتل العمد أن يقصده بحديدة أو حجر يقتل غالبًا، أو توبع
عليه بخنق أو بسوط فتوالى عليه حتى يموت.
والآية قيل نزلت في رجل فقده الكفار، وذاك أنه خرج في سرية
فنزلوا ماء، فخرج من أصحابه عليه السلام رجل فحمل عليه فقتله.
وقيل: هي في رجل رآه أخوه مقتولاً في بني النجار،(3/1399)
فشكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تُدفع إليه الدية فدفعت
إليه، ثم حَمَل على مسلم فقتله فهرب إلى مكة، ولا خلاف بين
عامة المسلمين أن التائب يخرج من هذا الحكم، وقد روي عن(3/1400)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا جاء فقال: هل للقاتل توبة؟
فقال: "نعم ".
ثم جاءه آخر فسأله عن ذلك، فقال: "لا توبة له "، فراجعه بعض
أصحابه في ذلك، فقال: "إن الأول كان قد قتل فكرهت أن
أؤيسه من رحمة الله، فيتملّكه الشيطان فيهلكه، وأما الثاني فرأيته
عازمًا على قتل رجل اعتمادًا على أن يتوب من بعد، فكرهت أن
يمني عزيمته ".
وأهل الوعيد يجرون الآية على العموم، ويخصصون به قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
ومخالفوهم يخصصون قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية، ويجرون تلك على العموم.
والمفزع لمن يريد تحقيق ذلك إلى غير الآيتين، والله أعلم.(3/1401)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
وقد تقدّم أن القصد بغضبه تعالى إلى إنزال عقابه.
دون تغيّر حال يعتري ذاته تعالى الله عن التغيّرات.
ولعنته في الدنيا: إبعاده من لَعَنَهُ عن الصفات النفيسة التي
يتخصص به أولياؤه، وفي الآخرة عقابه وتبعيده عن ثوابه.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قرئت: (تثبتوا) و (تبينوا) ، وقيل: التبيُّن أبلغ؛ لأنه قل ما يكون إلا بعد التثبُّت، وقد يكون التثبُّت(3/1402)
ولا تبين، وقد قُوبل بالعجلة في قولهم: التبيُّن من الله، والعجلة
من الشيطان فتبينوا، وقُرِئ (السَّلَم) و (السلام) .
والسلام قيل: التحية، وقيل: الاستسلام.
والسَّلَم والسِّلْم: الصلح.
وقيل: هو بمعنى الإِسلام، ويقال للصلح: السلم، فلا يكون مرادًا هاهنا، لأن المسلم مخيّر إذا طلب الكافر منه السلم بين أن يبذله له، وبين أن يمنعه، ورُوِيَ أنه خرج مقداد في سريته فمر برجل في غُنَيِمات، فقال: إني مسلم.(3/1403)
فلم يلتفت إلى قوله، فقتله وأخذ غنيماته، فلما رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكره، فقال: "هلَّا شققت عن قلبه ".
والآية تدل على أن المجتهد في مسائل الاجتهاد معذور، ولولا ذلك لما قارَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -.(3/1404)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
وقرأ أبو جعفر: (لست مَأْمنًا) أي مبذولاً له الأمان.
قوله عز وجل: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
الدرجة معروفة، ومنها أدرجت الكتاب: طويته طيًّا
يشبه الإِدراج، و (غير) يوصف به النكرة، وما فيه الألف
واللام إذا دلّ على الجنس، وقد يُستثنى(3/1405)
به، فإذا قُرِئ منصوبًا فعلى الاستثناء أو على الحال، وإذا
جُرّ فصفة للمؤمنين، وإذا رُفع فصفة للقاعدين.
والضرر: اسم عام لكل ما يضر بالإِنسان في بدنه ونفسه.
وعلى سبيل الكفاية عبّر عن الأعمى بالضرير.
فإن قيل: كيف يصحُّ حمله على الأمراض "النفسية.
وقد قال في ذم الكفار: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ؟
قيل: إن الذي عذرهم الله تعالى فيه هو ما لم يكن الإِنسان نفسه سببه.
وما ذموا به فهو المرض، أي الجهل الذي يكون هو سبب استجلابه من ترك إصغائه إلى(3/1406)
الحق، وإهمال نفسه من العادات الجميلة.
ولذلك قال ابن عباس أولي الضرر: هم أهل العذر، فعمَّم.
وقد ذكر عامة ما أجمله هاهنا في قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) الآية.
إن قيل: لم كرر الفضل وأوجب في الأول درجة، وفي الثاني درجات.
وقيدها بقوله: (منهُ) ، وجعل معها المغفرة والرحمة؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول:
أنه عنى بالدرجة ما يؤتيه في الدنيا من الغنيمة، ومن السرور بالظفر وجميل الذكر، وبالثاني ما يخولهم في الآخرة، ونبه بإفراد الأول، وجمع الثاتي أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير.
والثاني: أن المجاهدين في ثواب الدنيا يتساوون فيما يتناولونه، كمن يأخذ سلب مقتوله، وكتساوي نصيب كل واحد من الفرسان، ونصيب كل واحد من الرجالة، وهم في الآخرة يتفاوتون بحسب إيمانهم، فلهم درجات
حسب استحقاقه، ومنهم من يكون له الغفران، ومنهم من تكون له(3/1407)
الرحمة فقط، وكأن الرحمة أدنى المنازل، والمغفرة فوق الرحمة، ثم بعده
الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقو له: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) .
ومنازل الآخرة تتفاوت، وقد نبّه على ذلك بنحو قوله:
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) إلى قوله: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) . والثالث: أن الجهاد جهادان: صغير وكبير.
فالصغير مجاهدة الكفار، والكبير مجاهدة النفس، وعلى ذلك دلّ
قوله عليه الصلاة والسلام: "رجعنا من جهاد الأصغر إلى جهاد
الأكبر ".
وبقوله: "جهادك هواك".(3/1408)
وإنما كان مجاهدة النفس أعظم، لأن من جاهد
نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هان عليه مجاهدة العدى.
فخص بمجاهدة النفس بالدرجات تعظيمًا لها.
والرابع: أن الأول عنى به الجهاد بالمال، والثاني الجهاد بالنفس.
إن قيل: لِمَ ذكر مع الدرجات المغفرة والرحمة معًا؟ وما الفرق بينهما؟
قيل: إن المغفرة تُقال اعتبارًا بإزالة الذنوب، والرحمة تقال اعتبارًا بإيجاب التوبة، وإدخال الجنة،(3/1409)
والدرجات هي: المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة.
وقيل: إن الرحمة هي: أن يتوب عليه أمن، الذنب وإن كان بعد تبكيت
وعقاب، والمغفرة هي: أن يستر ذنوبه فلا تبكيت به.
والدرجات: هو أن يجعل لكل واحد درجة بقدر ما يليق به.
وهي المعبرة عنها بالغرفات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض.
أعدّ الله أعلاها للمجاهدين في سبيله "، فقال رجل: ما الدرجة؟
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنها ليست بعتبة".
__________
(1) تمام الحديث: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام.
(النسائي. 6 / 27) كتاب الجهاد، باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله.(3/1410)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
إن قيل: كيف قال: (وكلًّا وعد الله الحسنى) والكفار من جملة الكل؟
قيل: إن كلًّا هاهنا لم تتناول إلا من تقدّم ذكره من المؤمنين والمجاهدين
والقاعدين.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
(تَوَفَّاهُمُ) قيل: هو ماض، وقيل: تقديره تتوفاهم الملائكة.
وذلك في وصف قوم أظهروا الإِسلام ولم يهاجروا.
بل كثروا سواد المشركين يوم بدر فقتلوا،(3/1411)
فادعوا لما سألهم الملائكة الذين توفُوهم أنهم كانوا مستضعفين.
فكذبهم الله، وقيل: هم الذين نهى عن موالاتهم بقوله:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)
إن قيل: كيف لم يعذرهم لما اعتذروا بالاستضعاف وقد قال
من قبل: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) ؟
قيل: لأنهم كذبوا في دعواهم، والذين عذرهم هم الذين سلبهم الله القوى والقدرة، أو لم يعطهم ذلك كالصبي.
وقال بعض المحققين: ظلم النفس في الحقيقة هو التقصير في تهذيبها وسياستها المذكورة في قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وذلك أن كل إنسان
سائسُ نفسِه، فمتى لم يوف حق السياسة(3/1412)
فقد ظلمها ظلم الوالي رعيته، قال: وخاطب بذلك من أعطاه
القوة ومكّنه أن يبلغ الدرجات الرفيعة، فرضي لنفسه بأخس
منزلة، وكذبهم فيما ادعوه من استضعافهم تنبيهًا أن من أمكنه
استفادة ما به يقدر فهو في حكم القادر فلا يعذر، ثم استثنى
الأصناف الثلاثة فقال: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ)
فذكر لفظ عسى لئلا يركنوا كل الركون، وليكونوا ممن قال
فيهم: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) .
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)
أَخَّر ذكر الغفران إذ هو أبلغ، وقد تقدّم أن(3/1413)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
الوصفين إذا اجتمعا يقدمّ الأعم ويؤخر الأخص، تنبيه
على أن مثل هذه الصفة ليست على وجه المطابقة، واعتبارًا
لحصول المعفو عنه والمغفور له، بل ذلك له على وجه أشرف من
ذلك، والله أعلم.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
المُرَاغَم: المتحَرَّكُ إما من الرغام أي التراب.
وقيل: هو من رغم أنفه إذا غضب.
والمراد به قريب من قول الشاعر:(3/1414)
إذا كنت في دار يهينك أهلها. . . ولم تك ممنوعًا بها فتحول
وقيل: نزل ذلك في رجل من بني ضمرة كان مريضًا.
فقال: أخرجوني، فأشرف في الطريق، وقيل: إنه أخذ يمينه
بشماله وقال: قد بايعتك يارسول الله، فبين تعالى أن
المهاجر وإن لم يبلغ المقصد فله بذلك ثواب، وكذا من نوى(3/1415)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
خيرًا وعاقه عائق عن إتمامه.
قوله عز وجل: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
الضرب في الأرض من قولهم: ضرب العرق ضربًا.
إذا أسرع التحرك، والفتنة: المحنة وذلك يشتبه.
لذلك استعمل في القتل والإِحراق، ولأجل عمومها قال:
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، لأن الفتنة قد تكون قتلًا، وما هو أعظم من
القتل) ، وأهل الحجاز يقولون: فتنته، وأهل نجد يقولون:
افتنته ففتن فتونًا.
قال أبو عبيدة يقال: قصرت الصلاة(3/1416)
وقَصَّرتها وأقيصرتها.
والعدو يقال للوا حد وللجمع، كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)
واشترط في القصر السفر والخوف.
وقيل: إنه لما سأل عمر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ قال:
"صدقة تصدق الله عليكم بها، فاقبلوا صدقته ".(3/1417)
والقصر: قيل: عنى به الهيئات وأن صلاة المسافر ركعتان
تامتان، وذلك عن عمر وعائشة، وقيل: عنى قصر الركعات
عمَّا عليه في الحضر، قال ابن عباس وجابر: إن صلاة الحضر
أربع، والسفر ركعتان، والخوف ركعة، والضرب في الأرض(3/1418)
بعضهم يجعله على التعارف، ويعتبره بما يسمى سفرًا.
ولا خلاف أن الخارج إلى قرية بظاهر البلد لا يجوز له القصر.
وبعضهم قيده بمسيرة ثلاثة أيام بناء على تحديد مسح المسافر
وتحريم سفر المرأة بغير ذي محرم، وبعضهم حده بثمانية وأربعين ميلًا، اعتبارًا بسفر النبي عليه الصلاة والسلام.
وظاهر الآية يقتضي أن لا فرق بين الحج والجهاد وغيره من
الأسفار، ولا بين المطيع والعاصي.(3/1419)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قد علَّمنا تعالى كيف نصلِّي صلاة الخوف، فظاهر الآية يقتضي
ما قال ابن عباس: إن الإِمام يلي بكل فرقة صلاة تامة، وهم
يصلُون صلاتهم) في سائر الأوقات.
وقيل: كانت الرخصة في(3/1420)
ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط لفضل الجماعة معه.
ومذهب عامة الفقهاء على خلاف ذلك، وكيفية صلاة الخوف، والخلاف فيها مبينة في كتب الفقه.
وقال من يذهب إلى وجوب الجماعة: إن في شرع صلاة الخوف تنبيهًا على وجوب الجماعة،(3/1421)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
وقيل: في صلاة الخوف تنبيه على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة.
وأن تأخير أداء الصلاة عن وقتها لا يجوز، وأن إقامة الصلاة
كانت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مادام فيهم.
ونبَّه تعالى بقوله: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما لأجله أمر بتناول الأسلحة للتحرُّز، وأن في حال المرض والمطر يجوز وضع الأسلحة.
قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)(3/1422)
قيل: إن قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) ، وارد في صلاة المريض.
والآية تقتضي غير ذلك، لأنه قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) .
اللهم إلا أن يقول قائل ذلك: هو مثل قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي إذا أردت قراءة القرآن.
وقيل: هو حثٌّ على ذكر الله تسبيحًا وتعظيمًا، كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ.
وقوله: (مَوْقُوتًا) أي مؤدىً في أوقاته،(3/1423)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
وقيل: منجمًا في أوقاته، قال ابن عباس في هذه الآية وفي
قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)
إن الآيتين متضمّنتمان لأوقات الصلاة مجملة، وأن السنة شرحتها.
قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
لمّا كان بناء الكلام على فرض الجهاد، وكان ذكر الصلاة
كالاعتراض عاد إلى ما كان في ذكره، فقال: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) والوهن: ضعف مع فتور) ، وعاتبهم، فكأنه قال:(3/1424)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
إذا تساويتم في الألم وزدتم عليهم في أن حصل لكم من الرجاء ما
لم يحصل لهم، وعرفتم كون الله عليمًا بما يفعلونه حكيمًا فيما
أمركم به فأمْرُكم إذًا أعلى، فيجب أن تكون قلوبكم أقوى.
والآية يقاربها قول الشاعر وإن كان هي أبلغ:
قاتلي القوم يا خُزاع ولا يَدْ. . . خُلْكُم من قتالهم فشلُ
القوم أمثالكم لهم شعر في الْـ. . . رأس لا ينشرون إن قتلوا
قوله تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)(3/1425)
قيل: نزل ذلك في أنصاري سرق درعًا لعمه، فاتهُم بها فَرُئِي
في دار يهودي فأوهم القوم أن اليهودي سرقها، فأعان قوم من
المسلمين هذا الأنصاري، فاعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم، فأطلعه الله على الأمر، وعاتبه، وأمر بالاستغفار مما همّ به.
قال ابن بحر: يجوز أن تكون هذه الآية راجعة إلى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا)
فبيّن أنهم مع إظهارهم الإِيمان بما أنزل على الأنبياء يصدّون عمّا
يُدعون إليه من حكم الكتاب.
قال: ومعنى (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) راجع إلى قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) ، فنهى عن حسن الظن بأمثالهم، ونهى في هذه الآية عن الدفع عنهم.(3/1426)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
أعاد النهي عن الذب عنهم بقوله: (وَلَا تُجَادِلْ)
والمجادلة: المقاتلة، من قولهم: جدلت الخيل، وقيل: المنازعة من الإِلقاء
على الجدالة والجدال المطلق مذموم، ولهذا لم يطلقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيّده، قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
والاختيان: افتعال من الخيانة، واختيانهم أنفسهم(3/1427)
جعلهم إياها خائنة بما يفعلونه، كقولك: ظلم نفسه.
إن قيل: لم خصَّ لفظ الخوَّان بنفي المحبة عنه، وهو لا يحب الخائن أيضا؟
وقيل: تخصيصه هاهنا تعريض بهم، وتعظيم لفعلهم.
وتنبيه أن من يتحرى خيانة ولا يستمر عليها فهو مُعرّض أن يقلع
فيحبه، ومتى استمر عليها صار مطبوعًا على قلبه، لا يقلع
فتُرجى له المحبة، فإذًا الخائن قد يكون محبوبًا على وجه.
والخوان لا يكون محبوباً بوجه.
وقوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)
أي الخونة أبدًا يسترون على أنفسهم خيانتهم، لكون قبحها مركوزًا في
نفوسهم، ونبّه أنهم إن ستروها على الناس فليست تستتر على الله.(3/1428)
وأنهم لنقصهم وجهلهم بالله يراعون الناس أكثر
من مراعاتهم لعظمة الله، وإلى نحو هذا أشار النبي
عليه الصلاة والسلام بقوله:
"استحيوا من الله كما تستحيون من أحدكم ".
وهذا قريب من قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) الآية.
وقوله: (وَهُوَ مَعَهُمْ) نحو (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) .
قال ابن مسعود: من صلى صلاة عند الناس لا يُصلّي مثلها إذا خلى فقد استهان بالله. ثم تلا هذه الآية.(3/1429)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
خاطب الذَّابِّين عن هذا الخائن، ونبه أنكم وإن اعتقدتم
الذَّبَّ عنه في الدنيا وستر خيانته، فالشأن في يوم القيامة عند من
لا تخفى عليه خافية، وحيث لا ينفع إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومن فسّر الوكيل بالكفيل فتفسير عام بخاص، فإن الكفيل
وكيل ما، وليس كل وكيل كفيلًا.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
عامل السوء وظالم النفس وإن كانا يعودان إلى معنى واحد،(3/1430)
فذكرهما اعتبارًا بحالتين، وقيل: عمل السوء إشارة إلى فعل
الصغائر، وظلم النفس إلى الكبائر.
وقوله: (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) راجع إليه دون الأول.
فكأنه قيل: من فعل صغيرة أو استغفر من كبيرة يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا. وقيل: عمل الإِساءة ما يُفعل بالغير، وظلم النفس ما يختصُ به الإِنسان من ذنب لا يتعداه.(3/1431)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
وقد تقدم الكلام في السوء والسيئات، ومقابلتهما بالحسنات.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
الأصل في الاكتساب ما يجرّ به نفع، فاستعاره لما يجلب ضرًّا.
تنبيهاً أن صاحبه يقدر فيما تحراه أنه يكسب خيرًا وهو يكسب
شرًّا، ونحوه معنى قوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) .(3/1432)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.
ونبَّه بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) على نحو
قوله: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) .
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
عنى بالخطيئة ما لا يكون عن عمد، وبالإثم ما كان عن
عمد، ونبّه أن من رمى بأحدهما بريئًا فهو في استحقاق العقاب
سواء، وإن كان في ارتكاب أحدهما بخلاف الآخر.
وبيَّن أنه يحصل له بذلك معاقبة مرتكب البهتان، ومعاقبة مرتكب الإِثم.
وذلك تعظيم لنسبة الإِنسان ما ارتكبه إلى غيره عمدًا كان أو خطأ.
قال ابن بحر: إن ذلك يرجع إلى المنافقين الذين حكى(3/1433)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ، فقال تعالى في رده (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) .
وقال تعالى في آل عمر ان: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) ، فبين بالآيتين أن الذي أصابهم عقوبة لما كان منهم، وأنه عفا عنهم، وبين هاهنا أن من
أضاف ما أصابه من سوء في متوجهاته إلى النبي فقد أتى ببهتان وإثم.
قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
كان همّهم أن يضلوه بشهادتهم للأنصاري أنه برئ مما قرن(3/1434)
به، ومسألتهم إياه أن يقوم بعذره، وقد تقدَّم الكلام في
الفرق بين الكلام والحكمة.
وذكر ابن بحر وجهين:
أحدهما: لولا فضل الله بما أنزله من الكتاب والحكمة لهّم
الكافرون بإضلاله وإدخاله معهم في عبادة الأصنام، لكن لما هداه
صاروا لا يضلونه، بل يضلون أنفسهم.
والثاني: أن الإِضلال عبارة عن الإِهلاك، كقول الشاعر:
فآب مضلوه بخمر جلبه. . . وغودر بالحولان حزم وقائل(3/1435)
أي لولا أن الله حرسك لهمَّ طائفة بإهلاكك، وما يهلكون بما
يفعلون إلا أنفسهم بما يكسبون لها من العذاب الدائم.
إن قيل: قد كانوا همُّوا بذلك فكيف قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ) ؟
قيل: في ذلك جوابان:
أحدها: أن القوم كانوا مسلمين، ولم يهموا بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان عندهم على الصواب.
والثاني: أن القصد إلى نفي تأثير ما همُّوا به كقولك: فلان شتمك، وأهانك، لولا أني تداركت، تنبيهًا أن أثر فعله لم يظهر.(3/1436)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الرابع
الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني
(من الآية 114 من سورة النساء - وحتى آخر سورة المائدة)
تحقيق ودراسة: د. هند بنت محمد بن زاهد سردار
الناشر: كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](4/146)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
يقال: لكل ما يستحسنه العقل ويعترف به معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر، ووجه ذلك أنَّ الله ركز في العقول معرفة الخير والشر وإليها أشار بقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ) و (فِطرَتَ اللَّهِ) وعلى ذلك البر: ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، واطمئنانها إليه لمعرفتها به.(4/147)
والنجوى: تقال للحديث الذي تفرد به اثنان فصاعداً أو للقوم المتنلجين،
قوله تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) وأصل ذلك من النَّجْوه، والنَّجَاةُ:
أي الخلاص منها لكون الملتجي إليها ناجياً عن السبيل ويقال: هو في مضية
وتلفة من النوب، ولما كان المتناجيان كثيراً ما ينتبذان في نجوة، قيل انتجيا(4/148)
والنجا السرعة كقولهم: ارتفع في المسير ونجوت الجلد، لقولهم: رفعت عنه
الجلد، وإذا جعل النجوى للقوم فمَنْ مجرور على البدل أومنصوب على
الاستثناء، وإن جعلتها للحديث فتقديره: لا نجوى من أمر بصدقة، ولما كان
التناجى مكروهاً في الأصل حتى قال: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) صار ذلك من الأفعال التي تقبح ما لم يقصد به وجه محمود(4/149)
كالمكر والخديعة، فبيّن تعالى أن النجوى لا تحسنُ ما لم تخص بها هذه الوجوه
المستثناه.
فإن قيل: فهاهنا أفعال أخر تَحْسن فلم خص هذه الثلاثة؟
قيل هذه الثلاثة متضمنة للأفعال الحسنة كلها وذلك أنه نبه بالصدقة على الأفعال الواجبة وخص الصدقة لكونها أكثر نفعا في إيصال الخير إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هى الإحسان والتفضل وبالإصلاح بين الناس على سياستهم
وما يؤدي إلى نظم كلهم وإيقاع الألفة بينهم، ذلك أفضل الأفعال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قيل بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين ".
فإن قيل: فلم خص مَن أمر بهذه الأشياء دون من تولاها بنفسه وتوليها أبلغ من الأمر بها؟
قيل: في ضمن ذلك توليها، وذاك أنه إذا كان الآمر بالمعروف يستحق الحمد فمتوليه معلوم أنه مستحق لذلك، فكأنه قيل إن من تولي ذلك وآمن به، ونبه بقوله:(4/150)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أن أفعال الخير يستحق بها
الأجر العظيم إذا قصد بها وجه الله، لا أن يفعل رياء وسمعة واستجلاب منفعة أو محمدة من الناس، ووصف الأجر بالعظيم تنببهًا على حقارة ما يفوت في جنبه من أعراض الدنيا.
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
الشق: القطع طولا ومنه استعير
الاشتقاق، وشق العصا وشق عليه الأمر كقولهم مشقة الأمر، وشق كرددت
عصاه، ومشاقة الرسول أن يصير في شق غير شقة كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي يصيرون في حد غير حده، وذلك
أشبه بالاعتقاد والديانة، وأصل الصلا الملازمة، ومنه الصلاة للدعاء ومن أجله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ايصلوا يا ذا الجلال والإكرام) أي الزموا مراعاة ذلك،(4/151)
والصلا: ملازمة قرب النار للاصطلاء بها فجعل عبارة عن ملازمتها للعذاب
، والصلوان العرقان المكتنفان لجانبي الوركين، يجوز أنه اعتبر فيهما الاصطلاء
كتسمية اليد والرجل المصطلى، والآية قيل: نزلت في سارق الدرع حيث
أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حاله فأنكر وكذب، وقيل: في طعمة بن الأبيرق لما عبد الأوثان، ولما ذكر قيل: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)(4/152)
ذكر هنا من عمل ذلك ولم يستغفر، وعظم تعالى من يشاقق
الرسول بعد ما تبين الحق له، وعلى هذا قال بعض الحكماء: صغائر الأولياء
أعظم من كبائر العامة، وذاك أنه لا يعذر العالم فيما يرتكبه كما يعذر الجاهل.
فإن قيل ولم كان العالم أكبر جرماً؟
قيل: لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة بترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه أو يعرف من يصدقه، والعالم يستحق بترك معرفته وترك استعماله، فإذن هو أعظم جرما.
وقصد تعالى بقوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أن من لم يتبين له
الهدى فقد جعل الله له نورًا يهديه، ومن صار معاندًا قطع عنه التوفيق وتركه
هو وهواه، وانقطاع التوفيق هو المعنيُ باللعن والطرد وإليه أشار الشاعر
بقوله: -
إذاَ لمْ يَكُنْ عَونٌ مِنَ الله للفتَى ... فَأكْثَرُ ماَ يَجني عَلَيْه اجْتهَادَهُ
وبين بقوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) عظم حالها في العقاب، واستدل(4/153)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
بالآية على ثبوت الإجماع، وقيل: إن الله عظّم وعيد من يتبع غيرسبيل
المؤمنين " ولا حجة في ذلك لأن المراد بقوله (الْمُؤْمِنِينَ) الإيمان لا ذويه،
فكل موصوف بوصف علق به حكم نحو أن يقال: اسلك سبيل الصائمين والمصلين، يعني بذلك الحث على الاقتداء بهم في الصلاة والصيام، لا في فعل
آخر، فكما إذا قيل سبيل المؤمنين يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير.
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
إن قيل: لِم لَمْ يشترط فيه التوبة؟
قيل: إن المشرك إنما يلزمه الاسم ما دام يلزمه الوصف، فإذا زال(4/154)
وصفه زال اسم الشرك عنه، فإذا كان كذلك، فالمشرك ما دام مشركا لا يغفر له، ومن تاب زال عنه اسم الشرك، فإذا التائب الذي يغفر له ليس هو المشرك، بل هو المؤمن في الحقيقة، ومن أطلق عليه اسم المشرك فعلى اعتبار الماضي، وقوله: (أَن يُشرَكَ بِهِ) موضعه النصب، كأنه قال: لا يغفر الشرك، وقيل: لا يغفر من أجل أن يشرك به، أي لا يغفر من أجل الشرك شيئا من
الذنوب تنبيهًا، أن الذنوب قد تغتفر مع انتفاء الشرك، كما قال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، وقوله: (ضَلَالًا بَعِيدًا)
فقد تقدم أن الحق والصواب والعدالة وغيرها من وجوه البر تجري مجرى(4/155)
النقطة من الدائرة ومجرى المقرطس من المريء، وأن ما عداه كله باطل
وضلالٌ، لكن منه ما هو قريب ومنه ما هو بعيد، كما أن العدول عن المقرطس قد يكون قريبا، وقد يكون بعيداً، كذلك العدول عن الحق يكون قريباً وبعيداً، ولهذا قيل: سمى الله ذنوب الأنبياء، وفجور الكفار حميعاًالضلال، وإن كان بينهما بونٌ بعيدٌ، ولما كان كذلك وكان أفظع الضلال الشرك بالله، نبه بقوله: (ضَلَالًا بَعِيدًا) أن الشرك إذا اعتبر بسائر الضلالات، فهو أكبرهن وأعظمهن، فإن متحريه قد يضل عن الطريق المستقيم ضلالا يصعب رجوعه إليه، فإن مرتكب الذنب الصغير يجري مجرى الضال عن الطريق القريب يرجى عوده إليه، ومن قال إن هذه الآية مجمله، فإنه يجب أن يبني على قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) وإن بناء هذه على تلك يقتضي أن
يغفر ما دونها من الصغائر، فهذا تشبيه منه وترك للظاهر، فإنه تعالى بيَّن أنه(4/156)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
لا يغفر الشرك، وأنه يغفر ما دون الشرك لكن منهم المغفور له، وعلق بمشيئته فظاهره يقتضي أن الشرك لا يغفر لا محاله، لكن الشبهة في أعيان المغفور لهم الا في الذنب المغفور وهذا ظاهر.
قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) .
من المفسرين، من اعتبر التأنيث ها هنا في اللفظ دون المعنى، وقال: لما كان اسم معبوداتهم مؤنثة نحو اللات، والعزى ونحو الملائكة، سماها مؤنثاً تسميتهم الأذنين والخصيتين والأنثيين، حتى قال الشاعر:
............... ضَرَبْناهُ تَحت الأنثيْين على الكَرْدِ(4/157)
أي وتحت الأذنين.
وقال آخر:
ومَا ذَكَرٌ فإنْ تَسْمَنُ فأُنثى ... شديدٌ الأذَم لَيْسَ له بذي ضُرُوسُ
وعني بذلك القُراد لأنه ما دام صغيراً يقال له القراد، وذلك لفظ مذكر،
وإذا كبر يقال له يقاريد، وذلك لفظ مؤنث، فجعله مؤنثاً مذكر، ومنهم من اعتبر التأنيث من حيث المعنى وقال: الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أضرب: فاعل غير منفعل وذلك هو الباري تعالى فقط، ومنفعل غير فاعل وذلك هو للجمادات، ومنفعل من وجه فاعل من وجه هو الإنسان، فإنه بالإضافة إلى الله منفعل وبالإضافة إلى مصنوعاته فاعل، وعلى هذا الوجه(4/158)
مذاهب العرب في التأنيث والتذكير فقالوا: الواحدي ذكر واحدة أنثى،
قال: وقد علم أن أكثر ما عبده العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير
فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم بقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
وقول السلف: يقتضي الأمرين فقد اتفق: أبو مالك والسدي(4/159)
وابن زيد (الإناث اللات والعزى) وقال: ابن عباس والحسن
وقتادة: هي الأموات، وهذا القول يقتضي أنهم اعتبروا التأنيث في المعنى(4/160)
وقال الضحاك: هي الملائكة لزعمهم أنها بنات الله، وقرأ ابن عباس (إلا
أُنُثَا) أي وثناً، وهى جمع الوثن، والمارد، والمريد الذي لا يعلق بشيء من
الفضائل، و (صَرحٌ ممَرَّدٌ) . أي مملس لا يعلق به شيء لملاسته، وشجرة مرداء اعتبارًا بتعريها عن الورق، وغلام أمرد لتعريه عن الشعر، تعرى(4/161)
الشجر عن الورق.
إن قيل: كيف قال: - (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) ثم قال: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) فاقتضى نفي ما أثبت؟
قيل: ليس في ذلك نفيٌ فإن دعاء هم للأوثان دعاؤهم للشيطان،
وكل باطل قال له تارة الشيطان، وتارة الهوى، وتارة الصنم، لما كانت هذه
الأشياء متلازمة ومتشاركة في أنها تدعو إلى باطل، ولما كان عبادة الشيطان في نفوسهم قطعية، تبين لهم أن ما تدعونه وتزعمونه أنكم تقصدون به عبادة الله، وتقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وتقصدون
به الشيطان، ثم قال: (لَعَنَهُ اللَّهُ) التفاتاً، وصرف الكلام إلى وصف
الشيطان، وقوله: (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ) وذلك إما حكاية عما
أورده نطقاً، أو عما أتاه فعلا، ً فيكون نحو:
امتلأ الحوض وقال قطني................(4/162)
ومعنى قوله: (مَفْرُوضًا) معلوما مقسوما، وقيل: مقطوعا
منهم، وهم الذين سباهم الشيطان، ووصفهم بقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) والبتك: القطع على سبيل التفريق، وبتك الآذان؟
قيل:
هو الذي كانوا يفعلونه بالبحيرة، روي ذلك عن السدي، وقتادة، وعكرمة: وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملا بفطرته، فجعله(4/163)
الإنسان ناقصا بسوء تدبره، وذاك أن الإنسان بالقوة مخلوق خلقة كاملة، قد رشحه الله أن يزكي نفسه ومن دساها فقد خسسها، وتغيير خلق الله هو أن كل ما أوجده الله لفضيلة فاستعان الإنسان به في رذيلة فقد غير خلقه، وقد دخل في عمومه جعل الله للإنسان من شهوة للجماع، ليكون سببا للتناسل على وجه غصوص فاستعان به في السفاح واللواط، وذلك تغيير خلق الله تعالى، وكذا المخنث إذا نتف لحيته وتقنع تشبهًا بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبة بالفتيان، ودخل في عمومه أيضا كل ما حلله الله تعالى فحرموه، أو حرمه فحللوه، وعلى ذلك قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، وقد روى عن الحمن أنه قال: هو تغيير أحكام الله، ومن قال مرة: هو الوشم إشارة إلى(4/164)
ضرب التغيرات ليتبين به الغرض.
وكذا من قال بالخصاء، قول: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)
لفظه خبر ومعناه نهي، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ) فموالاة الإنسان غيره تكون على وجهين:
أحدهما: أن يقصد موالاته، والثاني: أن لا يقصد موالاته، لكن يقع منه ما
يرجع إلى صاحبه نفع فهو مواليه فعلا وإن لم يكن مواليه قصدا، وعلى هذا
المعاداة فقد يعادي الإنسان غيره قصدا، وقد يقصد موالاته لكن يقع منه ما
يرجع إليه ضرره فهو معاد له فعلا، وإن لم يكن معاد له قصدا، وعلى هذا(4/165)
(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
فاتخاذ الإنسان الشيطان مولى هو على الوجه الثاني، فإن الإنسان لا يقصد بفعله موالاة الشيطان.
فإن قيل: كيف قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) واتخاذ الشيطان
وليا مع الله مذموم، كاتخاذه من دون الله؟
قيل: لم يقصد بالآية هذا المقصد، وإنما أريد من ترك تحري موالاة، وفعل ما أدى به إلى موالاة الشيطان، فخسرانه ظاهر لا يتكتم على ذي بصيرة، وقوله: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) تحذير، وهذا الوعد من الشيطان تارة بالإرادات الودية، والخواطر الفاسدة، حسب ما ذُكر في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وتارة بلسان أولياء الشيطان، وسبب إمكان وصول ذلك إليه كون القوة المفكرة عمياء من تدبر نور الله، وقد تقدم الكلام في حقيقة الأمنية، وأما سبب الحسد، والنميمة، والظلم، وسائر الرذائل، والغرور: إظهار ما تعذر، من ظاهره فيه نفع، وأصله: الأثر الظاهر من الشيء لشيء غره حسنه مخالفة باطنه، ومن هذه سمى الدنيا(4/166)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
غرورا، فبين أن الشيطان لا يعدهم إلا الدنيا وزخارفها، وقد قال تعالى:
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)
قوله تعالى: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
المحيص: المَعْدِلُ عَلى سبيل الهرب، بيّن أن هؤلاء صاروا في أسر الشيطان، وكما لم يتفكروا من مولاته في الدنيا، لم يتفكروا من مصاحبته في مقره في
الآخرة، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) .
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
قد تقدم الكلام في نحوه، فبين أنه قد وعد بذلك في غير موضع من كتاب، بل في غير كتاب، وإذا كان هذا وعده، والوعد ضرب من القيل، وقد ثبت أنه أصدق قيلاً، فإذًا هو أصدق وعدا، ونحوه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)(4/167)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) .
وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
قد تقدم الكلام في حقَيقة الأمنية، ولما كان
أكثر ذلك قولا صادرا عن تخمين، لا عن تحقيق، جعل عما تخمن، قال الضحاك: كما أخذ كل فرقة تقول قولاً لا على مقتضى العلم.
كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) الآية.
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وخاطبهم مستجهلا لهم، كما روى:
" ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل) . وقوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)(4/168)
قال الحسن وابن زيد: هو في الكفار لأنهم مؤاخذون بصغائرهم وكبائرهم،
وقيل: هي الكبائر، وقيل: هو عام في جميع الناس، فإن من حصل منه سيء
جوزي به إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: (فمن ينجوا مع هذا يا رسول الله؟(4/169)
فقال عليه الصلاة والسلام: أما تحزن أما تمرض، أما يصيبك
اللأواء، قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك "
وقد روي: " أن الأمراض تمحيص "(4/170)
وكما أنه نبه أن شيئا من السيئات لا يبقى غير مجازى
به أيضا، وذكر الذكر والأنثى على التوكيد، وقيل: نبه بذكرهما، على سبيل المثل للسايس، والمسوس فيسمى المسوس أنثى، كما سماها الله تعالى زوجا، في قوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) ، ونبه بقوله:
(وَلَا يُظلَمُونَ نَقِيرًا) ، أنهم كانوا جوزوا بالشر فإنهم يجازون
بالخير، فإنهم إن لم يجازوا بذلك فقد ظلموا ظلما عظيما، والله تعالى متره عن صغير الظلم فكيف عن كبيره.
إن قيل: لم أطلق في الأول فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، وقيد في الثاني فقال: (مُؤمِنٌ) ؟
قيل: تنبيها أن عمل السوء يضر على كل حال، وأن يجزى للصالحات لا اعتداد به إلا مضامة الإيمان.(4/171)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
الدين، والملة، والإسلام واحد من وجه، لكن يقال باعتبارات مختلفة، فإن
الدين: هو الانقياد للحق وذلك معتبر بالعبد، والملة: القود إلى الحق من أمللت عليه الكتاب، وذلك معتبر بالله تعالى، وعلى نحوه قالوا: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ، وقال ابن بحر: هو أن يعدوَ الذئب على
شيء ضربا من العدو، فجعله اسما معتبرا أيضا بالعبد كالدين، وكأنه من نحو
قوله: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، وقوله قال:(4/172)
(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) ، والأول هو الوجه، والإسلام: يقال للإسلام
الحق والدخول في السلم والسلامة من جهة الله تعالى، والحنيفى؟
قيل: هو
المستقيم الطريقه، ومنه الأحنف: للمايل الرجل على سبيل التفاؤل، وقيل
حنف أي: مال، وسمى إبراهيم حنيفا من حيث مال عما عليه جمهور قومه
من المذاهب الباطلة، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) ، ونبه بقوله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أن عدوله عنهم
لم يكن على وجه مذموم، وإسلام الوجه لله الإخلاص للعبادة، كما قال
تعالى: (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) والذي مدح به إبراهيم عليه الصلاة
والسلام هاهنا هو الذي حكى عنه، في قوله عنه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا هو الإخلاص الذي هو أعظم مرتبة الإيمان(4/173)
، كالمذكور في قوله عليه الصلاة والسلام (الإيمان بضع وسبعون درجة) ،
ومتحروا هذه المترلة هم المستثنون في قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) .
بين تعالى في هذه الآية أن تمام حسن الانقياد لله
الإخلاص له مع الإحسان، أي تعاطي مكارم الشريعة فضلا عن الأحكام التي
هي العدالة، وقيل: معنى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: حسن أن يسلم وجهه لله
، منبها على فضيلة العلم، ونبه بلفظ الاستحسان في قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) أن ذلك غاية ما يبلغه قوة البشر، ثم قال: - (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي إذا فعل هذا فقد اتبعه، وتخصيصه أن كلا من الأمم
ادعى على ملة إبراهيم، فبين أنه بهذا يصير على ملته، وقيل معنى:
(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أي: إذا فعل ذلك فقد قام مقام إبراهيم
واستحق ما استحقه، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) أي: إنما(4/174)
اصطفاه لما كان فيه لا لحاجة إليه فلله ما في السموات وما في الأرض،
تنبيها على أنه غني عن عباده ومالك محيط بكل شيء، والواو في قوله: (وَلِلَّهِ) واو الحال، وإن كان كثيرًا تصوره أنه كلام مستأنف.
إن قيل: كيف أعاد ذكر إبراهيم ولم يقل واتخذه؟
قيل: لما كان ذلك كلاما مستأنفا، كان إعادة
ذكره أفحم، وأَدَلُ على موضع المدح، قال أبو القاسم البلخي: الخليل
من الخُلَّة أي الفقر لا من الخلة، قال ومن قاسه بالحبيب فقد أخطأ، لأن الله(4/175)
تعالى يجوز أن يحب عبده فالمحبة منه هي الثناء، ولا يجوز أن يخاله ما ليس بجنسه
، وهذا منه تشبيه لحقيقة موضوع المحبة لا يصح عليه كما لا يصح عليه الخلة
، فإن الخلة من تملك الود نفسه وخالطه، كقولهم: تمازح روحنا، ولهذا قال:(4/176)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قَدْ تَخَلَلْتُ مَسْلَكَ الروح منّي ... وبذا سُمِّيَ الخَليلُ خليلا
والمحبة: البلوغ بالود إلى حبة القلب، من قولهم: حبيته أي أصبت حبة
قلبه، نحو فأدته ورأسته، ومنكر أن يقال: حبيتُ الله، أو حبني الله، فإذا جاز في أبلغ اللفظ الاستعارة ففيما دونه أولى على معنى الثناء، كما ذكر أبو على أو علي معنى الاصطفاء، كما ذكر غيره.
قوله عز وجل: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)(4/177)
قوله: (وَمَا يُتْلَى) ؟
قيل: هو استئناف، على تقدير: ما يتلى عليكم بين لكم، وقيل: هو معطوف على الله أي: يفتيكم الله، ويفتيكم
ما يتلى عليكم، وقد تقدم في صدر الكتاب، أن فعلا واحدا يصح أن ينسب إلى فاعلين باعتبارات مختلفة.
فالإشارة بذلك إلى قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) ، وإلى - قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)(4/178)
وذلك أنه بين بالآيتين حكم المستفئ فيه، بسبب نزول الآية
أن عيينة بن حصن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
(أخبرنا أنك تعطي الصبي المال وتعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك) ، فأنزل الله تعالى الآية.
قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) ؟
قيل: تقدير: في أن تنكحوهن،
وقيل: عن أن تنكحوهن، قال أبو عبيدة: كلا التقديرين يصح(4/179)
لأنك تقول: رغبت أن أصحبك، في معنيين، وكانوا يرغبون في الحسان من
اليتامى فيتزوجوهن، وعن القباح فيعضلوهن ماكتب الله لهن؟
قيل: المهر، وقيل: الإرث، الذي لها ومن أجله يرغبون فيها أو يعضلونها، استدل من الآية(4/180)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
على أنه يجوز التزوج اليتيمة الصغيرة، وأنه يجوز أن يزوجها غير الأب والجد.
ولا دلالة في الآية، لأنه قال: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) وذلك بلا
استقبال، ولم يذكر في الآية من نزوجها، ومن يزوجها، ولا قصد الآية إلى ذلك فبين حكمه فيها.
قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
النشوز: أصله من النًّشْزِ، وهو كالطموح، وأكثر ما يستعمل في بغض المرأة الرجل، والأظهر هاهنا أنه بغض الرجل للمرأة، ويحتمل أنها إن خافت أن ينشز عليها البعل، لإعادة غيرها عليها، فأباح تعالى أن يتصالحا على ترك بعض حقها، قال ابن عباس: هي أنها تكون قد طعنت في السن يرى الزوج استبدال غيرها بها، فتقول أرضي منك بغير نفقة، أو بغير قسمة،
وقيل: نزلت في سودة، وكانت قد وهبت(4/181)
يومها لعائشة.
فإن قيل: لم قال: (أَوْ إِعْرَاضًا) والنشوز منطًوً عًلًى ذلك؟
قيل: الإعراض أعم، فبين أن لا فرق من أن يكون النشوز، أو ما دون
النشوز، ثم قال (وَالصّلحُ خَير) ؟
قيل: خير من النشوز، وقيل: خير من
الفرقة، والأجود أن يكون ذلك عاما فيهما، وفي غيرهما، فإن الناس مدعوون إلى التآلف، والتحاب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا "،
وكل موضع يمكن فيه الصلح أحرى بالصلاح على ما يقتضيه العقل والشرع، فالصلح خير، فصار ذلك اعتراضا عاماً، تنبيهاً أن هذا الموضع منه فهو اذُن خير، وكذا قوله(4/182)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) اعتراضا، تنبيها على ما في ذات الإنسان، والشح أبلغ من البخل إذ هو غريزة.
فإن قيل: فلم ذم إذا الإنسان عليه؟
قيل: ذم الإنسان إنما هو باتباعه بأكثر مما يجب، كما يذم باتباع الشهوة ووجوده في الإنسان محمود لوجود الشهوة، واتباعه هو المكروه،
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات شح مطاع)
فذم طاعة الشح لا ذاته ثم حرض على الإحسان والتقوى وضمن أنه يجازي بها، بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) .
قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)(4/183)
نبه تعالى على قصور الإنسان عن تحري العدالة بين نسائه، وأن يحرص على
تحريها سيما في الحب، ونهى عن كل الميل عن واحدة فتكون معلقة لا زوجا
مطلقة ولا ذات بعل، لا بعضه، نبه الله تعالى على صعوبة تحري الحق، وأن
الإنسان إذا لم يستطع العدل بينه وبين امرأته مع أن حقها معلوم، فكيف يستطيع أن يعدل بينه وبين رب العزة ونعمه لا تحصى، وحقوقه لا تستقصى، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا) ،
ثم قال: (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) أي: إن تحريتم الصلاح، واستجملتم التقوى بقدر وسعكم، فهو ما كان منكم.
فإن قيل: إذا كان الله لا يكلف إلا الوسع، وقد حكم أنكم لا تستطيعون(4/184)
أن تعدلوا، فلا ذنب فيما لا يستطاع، فكيف يغفر ذلك والغفران لا يكون إلا لذنب؟
قيل: الإنسان وإن كان لا يستطيع أن يعدل بين نسائه، فإنه يمكنه أن
يحترز من ذلك بأن لا يتزوج بعدة منهن، وكل ما دخل فيما لا يستطيعه فهو
مأخوذ بدخوله فيه، كمن شرب فسكر، ثم جنى جناية، فإنه مأخوذ بجنايته، لما كان هو سبب سكره، وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (اللهم إني أعدل فيما أعدل واستغفرك فيما لا أملك) ،
وكان يطوف بين نسائه ليقسم بينهن، ثم استأذهن أن تمرضه عائشة.(4/185)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
هوكقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وقولهم: إن لم يكن
وفاق فطلاق، كما أن لهما أن يصالحا بالوفاق، وبين أنه وإن خلقهم، خلقهم يضطر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقد أغنى كل واحد منهما عن الآخر يبدل له آخر، فهذا معنى الغنى، وفيه أيضا إشارة إلى الغنى المالي،
وقد روي عن الحسن بن علي أنه كان طلق زوجته، فقيل: له في ذلك، فقال: إني رأيت الله تعالى علق على الأمرين غنى، فقال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الآية، وقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)
والواسع: عام في الغنى، والقدرة، والعلم، وعقبه بالحكم، منبها أن السعة ما لم يكن معها الحكمة، والعلم، كان إلى الفساد أقرب منها إلى الصلاح.(4/186)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
لما قال (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) ، نبه على قدرته على ذلك بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، وسلاه عما يفوته من أغراض الدنيا، بالاعتماد عليه تعالى، وأكد ما قدمه من الأمر بالإصلاح بقوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) تنبهًا أنه لم يزل يوصي بفعل الخير، وبين أن ذلك لرحمته لا لحاجته فهو غني وقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) ،
راجع إلى قوله: (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا) أي: توكلت بكفايتكم، وكفى به وكيلا، وأعاد قوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ثلاث مرات لثلاثة معانٍ:
الأول: تسلية للإنسان عما فاته، والثاني: أن وصيته لرحمته لا لحاجته وأنهم إن كفروا به لا يضروه شيئاً، والثالث: دلالة على كونه غنيًا.
قوله عز وجل: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
أي: هو غني عن خلقه، ومع غناه قادر على
إفناء قوم والإتيان بآخرين، كما قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)(4/187)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وكما قال: (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ)
قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) ،
ويقال لما نزلت الآية ضرب يده عليه الصلاة والسلام على ظهر سلمان
وقال: (فمن قوم هذا) .
وقوله: (يُذْهِبْكُمْ) على هذا ليس يشير إلى الأعيان فقط، بل إلى الأنواع الذين هم العرب والعجم.
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
لما بيَّن أن(4/188)
له ما في السموات وما في الأرض.
بين أنه يعطي منهما ما يشاء من يشاء فثواب
الدنيا يرجع إلى ملك الآخرة، وهو الغنيمة وغيرها، من الأغراض الدنيوية
وثواب الآخرة يرجع إلى ملك السموات وهو الثواب الأخروي، ونبه أن كليهما منه كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) الآية، وكقوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) الآية،
وبين بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أنه عارف بالأغراض، والمقاصد، فهو يجازي كلا بحسب مقصده فالأعمال بالنيات،
ونبه أيضا أنه يؤتي كل واحد من أغراض الدنيا ما يراه أصلح له، كما قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)(4/189)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
وفي قوله: (فَضْلُ اللَّهِ) ثواب الدنيا والآخرة تبكيت
للإنسان حيث اقتصر على أدق السؤالين، مع كون المسؤول مالكا له ولا أشرف منه، وحث على أن يطلب منه ما هو أعلى، وأفضل من مطلوبه، وأن من طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء الهمة. \قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
أمر تعالى كل إنسان مراعاة العدالة،
ونبه بلفظ (قوامين) على أن ذلك لا يكفي مرة ومرتين،
بل يجب أن يكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار لها ما لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة ومرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً وبين أن العدالة التامة أن يكون حكم الإنسان على نفسه، وذويه، كحكمه على الأجانب، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أن تريد لأخيك ما تريد لنفسك) ، ونبه على أنه لا يجب أن ينتفع من إيجاب(4/190)
الحقوق محاباة لفقر من عليه الحق، أو ميلا لغئ غني فالله أرأف بعباده، وقوله:
(وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم) حث على إقامة الشهادة على نفسه بالإقرار، وعلى
دونه، ونحوه قوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ونص بعض الناس أن ذلك شهادة لهم، وقال: في صدر الإسلام كانت تقبل شهادة الإنسان لأبيه، ثم نسخ، وليست الآية تقضي إلا إقامة الشهادة عليهم لا لهم وذلك مقبول بكل حال، ونهي عن إلزام الحق والتزامه اتباعاً للهو ى، وتقدير: (أَنْ تَعْدِلُوا) كراهية أن تعدلو، وقيل:(4/191)
لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي: لتكونوا في اتباعكم عدولا، تنبيها أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان،
قوله -: (وَإِنْ تَلْوُوا) إشارة إلى التكبر عن قول الحق، نحو قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) الآية، وإنما قال بهما وأنت تقول رأيت زيدا أو عمرا فأكرمته، ولا تقول فأكرمتهما، فإن الإكرام يتعلق بأحدهما، والآية تتعلق بالناس كلهم غنيهم وفقيرهم، وجعلهم شهداء لله تعظيما لمراعاة العدالة وأنه بالحفظ لها يصير من شهداء الله، وانتصابها على الحال لقوله:(4/192)
(قَوَّامِينَ) أو صفة لها أو يكون قوامين حالا، وشهداء خبر كان، ومن
قرأ (تلوه) فمن ولي يلي، كأنه قال: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ومن قرأ (تلووا) فقد قيل: جعله من الَلي، أي: المطل، وفي ذلك مخاطبة لمن عليه الحق في ترك المطل، وللحاكم إذا تقدم
إليه الخصمان أن لا يدفع الطالب عنه حقه، والشاهدان لا يمتنع بالشهادة لهم(4/193)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بمحمد أديموا الإيمان، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بالأنبياء، قبل محمد آمنوا بمحمد،
وقال الزجاج: خاطب بذلك المنافقين الذين أظهروا الإيمان، وتقديره: على
ما قال أن الإيمان ضربان: ضرب: هو يحكم به في الظاهر، وهو الإتيان
بالشهادتين والتزام أحكام الشريعة، وهو الذي يُحصِّن دم الإنسان وماله إلا بحقه، وضرب: هو التخصص بحقائقه التي اقتضاها، قوله:(4/194)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) ،
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وقد
بينت في مكارم الشريعة أن الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: (اثنان
وسجون درجة) ، وبينت القانون الذي اقتضى ذلك، وأن تلك المراتب بعضها على بعض، فالإنسان إلى أن يصل في آخر درجة منها مأمور بالترقي إلى ما فوق منزلته، فالآية خطاب يتوجه على كافة المؤمنين أن يترقوا في تلك الدرجات، وقد ذكر تعالى في هذه الآية ما هو الإيمان الاعتقادي، وذلك الخمسة، وذلك هو الإيمان بالله وبالملائكة والكتاب والرسول واليوم الآخر، وهي المذكورات في خبر جبريل عليه الصلاة والسلام (حيث أتى النبي عليه الصلاة والسلام في صورة أعرابي فقال له: ما الإيمان؟) وذكر أن الكفر بهذا هو الضلال البعيد، فنبه أن(4/195)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
الانسلاخ من الهداية والضلال الذي قلما يرجي عود صاحبه، وقد ذكرت كيفية الضلال عن - الطريق في مكارم الشريعة.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قال قتادة: يعني أهل الكتابيين اليهود، آمنوا بموسى ثم كفروا بمن عداه، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمن عداه، ثم ازدادوا كلهم كفرا بمحمد، وقيل: آمنوا. بموسى ثم كفروا به لأنهم لم يؤمنوا
بعده بعده فهم في حكم من لم يؤمن، وقال مجاهد: هو في المنافقين المذكورين
في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)(4/196)
وقيل: هي في الذين قال فيهم: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) ،
ولم يرد أنهم آمنوا مرتين وكفروا مرتين وإنما ذلك إشارة إلى أحوال كثيرة، كقولك: فلان فعل ثم امتنع إلى هذا كان دأبه،
وقيل: كما أن الإنسان يندرج إلى غاية الفضائل ثلاث درجات، وهو أن
يحصل في أولها، ثم في أوسطها، ثم في منتهاها، كذلك يتضلع في الرذائل ثلاث درجات، ولذلك جعل الله له ثلاث عقوبات الرَّين والغشاوة والطبع، ومن(4/197)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
ترك الإيمان مرة بعد مرة، ثم ازداد تماديا في الغي، فقد صار من الذين وصفهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) ، ثم قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ، فبين تعالى أن من انتهى في الغي إلى هذا المنزل فقد صار بحيث لا يتوب، وإذا لم يتب لم يغفر له ولا ليهديه إذ هو لا يهتدي لكونه مطبوعا على قلبه لما ارتكبه،
وقال بعض الفقهاء: إن المرتد تقبل توبته سار
بالكفر أولم يُسر، لأنه جعلهم مؤمنين بعد دخولهم في الكفر.
قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
العِّزةُ: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهو من قولهم أرض عزاز أي صلبة، وتعزز اللحم اشتد(4/198)
وعزَّ كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، كقولهم: تظلف كأنه حصل
في ظلف من الأرض، وعزز المطر الأرض صلبها، وشاة عزوز قل درُّها،
والبشارة: الخبر الذي ظهر أثره في بشر الوجه، وأكثر ما يستعمل في
السرور، ويجوز أن يكون في مثل هذا الموضع رد إلى أصله، كالطرب الذي هو خفة من الفرح والترح في الأصل ثم كثر في الفرح، فرد الشاعر إلى أصله في قوله:
وأراني طَرباً في إثرهم ... طَرَبَ الوَالِهِ أو المُخْتَبَل(4/199)
ويجوز أنه استعمل للبشارة، في ضده على سبيل التهكم،
نحو قول الشاعر:
.................. تحية بينهم ضربٌ وجِيعُ
ووصف المنافقين بأنهم موالون الكفار كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) الآية، ثم قال: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) تنبيها أن لا عزة لهم وإنما العزة لله ولرسوله والمؤمنين، فقد ذكر من منه العزة ومن جُعل له العزة في الأولى، ذكر من منه العزة فقط دون من جعلت له، ونفى ذلك عن الكفار تنبيها أنه وإن حصل لهم حوله(4/200)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
تسميتها الجهلة عزا فليس ذلك في الحقيقة بعز إذا اعتبرت الحقايق.
قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
منع تعالى المؤمنين من مجالسة من قصده العناد والهزؤ، وليس
له قصد إلى حماع الصدق ولا نية رجاء أن يسخر بلى حق، فأما من رجي أن
يقلع عن رأيه فجائز مجالسته بل واجب، ولهذا قال الحسن: إنا كنا إذا
رأينا باطلا تركناه حتى لا يسرع ذلك في ديننا،
وقول ابن عباس: لمن يجوز أن يقعد معهم بوجه حتى نزل قوله تعالى:
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) نسخ ذلك، فليس يقصد حقيقة النسخ، وإنما يعني أن الآية كانت تحمل على العموم، فعلم بهذه الآية تخصيصها وأنه يجوز مجالستهم إذا رجي منهم رشدا، ولا يجوز فيما يؤدي بهم إلى فساد
ولهذا قال تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)(4/201)
ونبه بقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) على أًن الاستماع إلى الباطل مكروه، كما أن التفوه به مكروه، وبهذا ألم الشاعر فقال:
سَمعُكَ صُنْ عَنْ سَمَاع القُبْح ... كَصون اللسان عن اللَّفظِ بهِ
والسامع للذم شريك له والمطعم للمأكول كالآكل. ونحو الآية قوله
تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وبين أن المنافق الذي يظهر بلسانه الإيمان
دون قلبه، والكافر الذي يصرح بالكفر هما سيّان في استحقاق النار، فإن
الاعتبار بإخلاص النية كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولكل امرئ ما نوى) .(4/202)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
الاستحواذ: الاستيلاء، وأصله من استحوذ البعير على الأتان، إذا استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها، ويقال: استحاذ، وهو القياس، وقد جعل تعالى ما للمؤمنين فتحا، وما للكافرين نصيبا، تنبيها أن الذي حصل للكافرين هو من الدُّولة من أهل الدنيا، وذمهم لأنهم يراوون الفريقين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (شر الناس ذو الوجهين يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) ،(4/203)
ومن هذا قيل: إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجها،
وقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)
فإن أمير المؤمنين جعله معتبرا بقوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقيل: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) في القيامة
وقال غيره: لن يجعل الله له سبيلا في الفتح، الذي جعله للمؤمنين لا في
النصيب الذي قد يجعله للكافرين من الأغراض الدنيوية،
وقال السدي: السبيل الحجة لم يجعل ذلك للكافرين،
وحمل الفقهاء: ذلك على الحكم،
فقالت الشافعية: الإسلام يعلوا ولا يعلى، قالو: أمر يقتضى ذلك(4/204)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
أن لا يملك الكافر عبدا مسلما ولا يصح شراءه، واقتضى أن لا يقتل مؤمن بكافر، واستدلت الحنفية على من ارتد انقطعت العصمة بينه وبين امرأته، قبل انقضاء العدة فلا يكون له إليها سبيل.
قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
قد تقدم في مخادعة الله، وبين أنه متشبعون بنقل الخبر، وأن كسلهم يدل على تشبعهم، والذكر ههنا الأولى أن يراد به ما يكون باللسان، دون ما يكون بالقلب، ونفي ذلك عنهم يقتضي أن
ذلك ليس عن نية وطوية صحيحة، والرياء كالنفاق لأنه أعم.
قوله عز وجل: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
التذبذب: الاضطراب،(4/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قال النابغة:
تَرى كُل مُلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ
وصفهم بأنه مندفعون من الجانبين لا موجة لهم، ثم بين الإرشاد ولا رشد
لهم كما قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) .
وقد تقدم الكلام في الإضلال.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)(4/206)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
نهى عن اتخاذ الكافرين أًولياء من دون المؤمنين، وذلك أن يستعان بهم استعانة المرؤوس بالرئيس، والمنتصر بالناصر لاستعانة المستخدم بالحاكم، وعلى ذلك قوله: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) وبين أنكم إن فعلتم ذلك جعلتم على أنفسكم سلطانا للعقاب، وجعل الحجة سلطانا نحو: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا) ، (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ) ،
قال بعضهم يصح أن يقال لا سلطان لله على المؤمنين المخلصين،.
بمعنى أنه لا يعذبهم.
قوله عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)(4/207)
الدركات والطبقات يقال في العقاب كالدرجات في الثواب، ونبه بهذه الآية على نهاية رداءة المنافقين، وأنه منتهى الكافر لأنه يساويه في اعتقاده، ويزيد عليه في كذبه، لأنه يدعي ما ليس له والمنافق مرائي، وبين أنه تعالى لا ينصرهم ولا يجدون من ينصرهم عليه كقوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) واستثى ممن يجعلون في النار للتائبين.
جعل من تمام التوبة إصلاح العمل، والاعتصام بالله
وإخلاص الدين، وهذه الشرائط الثلاث من تمام التوبة، كما أن الأعمال
الصالحة من تمام الإيمان، ومن لم يأت بذلك فإنه يقال له تاب على المجاز،
وحذف الياء في الخط في قوله (يُؤْتِ اللَّهُ) اتباع اللفظ لالتقاء الساكنين
كقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ) وكقوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) .(4/208)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
وحذفها من قوله: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) للتخفيف، وقوله: (يَسْرِ) لكونه رأس الآية.
قوله عز وجل: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
أي تعالى الله عن عذابكم فلا يعذبكم إذا عرفتم ووفيتم حقها،
إن قيل: لم أخر الإيمان عن الشكر؟
قيل: لأنه عني به معرفة النعمة التي يتوصل به إلى معرفة النعم،
ومعرفة المنعم هي الإيمان، فإذا الشكر على هذا الوجه مقدم على الإيمان، لأنه أرفع منه وهو لا ينفك عن الإيمان، والإيمان قد ينفك عنه، ووصفه نفسه بالشكر تنبيها أنه يقابلهم بما يكون منهم، فقد تقدم أن الشكر قد يكون من المولى للعبد بمعنى مقابلته بما يكون من خدمته،
ونبه بقوله: (عَلِيمًا) أنه لا يخفى عليه ما يتحراه العبد.(4/209)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله: (مَنْ ظُلِمَ) رفع على تقدير: لا يرضى أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم، أو على تقدير: أن يسوء في المقال إلا المظلوم، وسمَّى المجاهرة بالسوء سوءا تنبيها أنه لو لم يكن ذلك على سبيل المقابلة لكان سوءاً لفظه خبر ومعناه للإباحة، كأنه قال: لا يجهر بذلك إلا المظلوم، وذلك كقوله:
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - (اذكروا الفاسق بما فيه)
رخصه لمن أذي بغير أن يذكَر فعله لا رخصة في اغتياب الناس من غير حاجة إلى ذكرهم، ومثل قوله: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) تقديره: لكن من ظلم فإنه له أن يذكر ظالمه بأن يدعو عليه، أو يغتابه. بما فعل على سبيل الشكاية،
قال مجاهد: قد دخل في ذلك من ضاف(4/210)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
رجلا فلم يؤد حق الضيافة.
قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
جميع ما يفعله الإنسان مع غيره من الإحسان، إما إحسان يبديه أو إحسان يخفيه، أو يخاف عليه لسوء يجنيه قد ذكره تعالى وبيّن أنه يجازي به، ونبه بقوله: (عَفُوًّا قَدِيرًا) على مجازاة المتعافي بالعفو عنه وقدرته عليه.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)(4/211)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
الإيمان بالله لا يتم إلا بتصديقه، مقاله ومقال رسوله
والرسل كلهم يجرون مجرى واحد، فمن كفر ببعضهم كالكافر بكلهم، من
حيث أنه لم يتحرَّ الحق، فالحق من حيث ما هو حق لا منافاة بينه،
إن قيل لم أعاد ذكر الرسل ولم يقل بين الله وبينهم فيكون أوجز؟
قيل: لما عنى أنهم يفرقون بين الله ورسله وبعض رسله، وعنى بقوله: (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) كل رسله لأن كل من كفر ببعضهم كفر بكلهم،
فلو لم يعد ذكرهم لاقتضي أن يكون معناه يفرقون بين الله وبين جماعة الرسل، فإن المضمر لا يفيد إلا ما يفيد مظهره، فأعاد ذكرهم لما كان الأول عاماً والثاني خاصًّا.
وقوله عز وجل: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) أي
يتحرون لطلب رئاستهم سبيلا ليس بحق،
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) إن آمنوا ببعض الأنبياء، وهذا الكلام
مبنيّ عَلى قياس، كأنه قيل: كل من فرق بين الأنبياء فهو كافر حقا أعتدنا له
عذابا مهينا، وهؤلاء قد كفروا ببعض الأنبياء فإذاً أعتدنا لهم عذابا مهينا.
قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)(4/212)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
كما بين في الآية الأولى حكم من فرق بين بعض الأنبياء وبعضهم، بّين حكم
من خالفه: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) .
وَذكر أجرهم، كما ذكر في الأولى عقاب من فرق
بينهم، ونبه بذكر الغفران على غفران ذنوبهم وبالرحمة على مجازاتهم بالإحسان.
قوله عز وجل: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)(4/213)
نبه تعالى على ما كان من تحكيمهم واقتراحهم على
ما ينافي السياسة الإلهية، وبيّن أن ذلك ليس بأول جهالاتهم وجناياتهم، فقد
اقترحوا على موسى ماهو أبعد وأشنع مما سألوك، ولأنهم سألوا إدراك الباري
بالحاسة في الدنيا، فرجها الصاعقة لما ارتكبوه من الظلم في طلب ذلك، وثانيا: أنهم عبدوا العجل بعد إتيانهم الحق وعبادتهم للعجل بعد إتيان الحق أشنع وأفظع، مع أنه في كل حال أشنع،
وقوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) يجوز أن يكون ذكر منه ثالثة ويجوز أن يكون اعتراضا وتوكيدا لما قبله، وأنهم مع
ما أوتي نبيهم من المعجزات يرتكبون ما يرتكبون، ورفع الطور؟
قيل: كان
على سبيل تخويفهم، وقيل إظهاره المعجزة، وثالثا من كان بمخالفتهم فيما
أمروا من دخول باب من أبواب بيت المقدس، وأن يقولوا حُط عنا ذنوبنا،(4/214)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
وقال بعض الناس: معنى ذلك خذوا الحق من حيث ما يجب أخذه، ولا يطلبوه من غير وجهه، قال: وهذا استعارة، نحو قول الشاعر:
أتيت المروة من بابها.
ومعنى (سُجَّدًا) أي متواضعين لقبول الحق، ورابعا ما كان من تعديهم
في السبت، فأعاد ذكر الميثاق تنبيها أنه أخذ عليهم ذلك مرة بعد أخرى.
قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
ما في قوله: (فَبِمَا) زائدة مؤكدة(4/215)
ومعنى توكيدها أنها تقتضي تكثير معنى الفعل الذي يدخل عليه، كما أن التشديد وزيادة الحروف في مفعيل ومفعال وفعال يقتضي ذلك،
وقيل: بل (ما) ها هنا اسم نكرة اقتضى حالا مجملة،
وقوله (نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ) وما بعدهما بدل منه، كأنه قيل: فبشيء ما لعنوا، ثم فصَّل ذلك الشيء وخص ما كان منهم في هاتين الآيتين سبعة أشياء تقضي الميثاق المذكور في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم المطلق، وقولهم على مريم البهتان، وادعائهم قتل عيسى وقولهم قلوبنا غلف،(4/216)
أي ادعوا أن قلوبهم أوعية العلوم، فكذبهم الله، بقوله تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) وقيل: معناه قلوبهم محجوبة عن العلم، كقوله:
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ)
وأثبت لهم ها هنا إيمانا قليلا، اعتبارا بظاهر أقوالهم حيث قالوا نؤمن ببعض ونفى عنهم في الأول الإيمان اعتبارا بالحقائق، وأن ذلك المقدار غير معتد به، ووجه ذلك أن من فعل بعض ما أمر به فإنه يصح أن يقال: لم يفعل ما أمر به اعتبارا بالفعل كله، ويصح أن يقال: قد فعل بعض ما أمره اعتبارًا بما ظهر منه، اعتد به أو لم يعتد،
وقوله: (وَكُفْرِهِمْ) فإنه أعاد ذلك تنبيها أنهم كفروا بالمسيح وبمحمد عليهما الصلاة والسلام،
وقيل: لارتدادهم مرة بعد أخرى،
والبهتان: الكذب الذي يبهت منه سامعه فظاعة وشناعة،
والباء في قوله: (فَبِمَا) قيل: هو متعلق بقوله: (حَرَّمنَا) وقوله: (فَبِظُلمٍ) بدل(4/217)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
منه وأدخل الباء فيه لما تباعدا بينهما، وقيل: هو متعلق بمضمر، كأنه قيل:
سبب هذه الأشياء: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ)
والمعنى ارتكابهم - لهذه القبائح أفضى بهم إلى هذا الاقتراح.
قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)(4/218)
إن قيل: كيف حكى عنهم أنهم قالوا قتلنا رسول الله
ولم يقروا بكونه رسولا؟
قيل: هو أن يكون ذلك من جملة الحكاية وذكروه على سبيل التهكم زعما منهم أنه لو كان رسولا لما قدرنا على قتله، ويجوز أن يكون ذلك من قول الله تشريفا له لا حكاية عنهم، كأنه قال أعني رسول الله ونفى قتله وذكر أن ذلك شُبِّه لهم،
واختلفوا في حال عيسى، فقيل: ألقي شبه على رجل فقدر أنه هو فصلب، قالوا: فهذا معنى قوله تعالى: (شُبِّهَ لَهُم) فاعترض على ذلك،
وقيل: ثبت أنهم يدعون صحة ذلك ويقولون أن هذا جائز في الأمور الإلهية، وأن منه النبوة، كيف يصح أن يفعل ذلك فيرى الناس بعيونهم صورة رجل وهو يصلب، ثم يذمهم، حيث قالوا إنه صلب، وهل يلعن الإنسان مع ذلك أن يرى امرأة يقدرها أنها امرأته، فيدنوا منها ثم يعاقبه الله بذلك؟
قيل: إن ذلك شيء يفعله الله فتنة بعد فتنة الحكمة تتعلق به فليس يجب للإنسان أن يظن ذلك في كل وقت، وإنما ذمهم تعالى
بتبجحهم بقتل الأنبياء إلا أن الأمر شبه لهم،
وقال بعضهم: إذا رأى واحداً أو اثنان أو إنسانا من بعيد، وفيه مماثل من عيسى فلما فقدوه من ظنوه إياه، فصار هذا الخبر ماض فيما بينهم فإنه يستند إلى من يصح عليه الخطأ والكذب، وبين(4/219)
أن المختلفين فيه يقولون عن تخمين واتباع ظن،
إن قيل: كيف جعل اتباع الظن مستثى من العلم وليس بداخل فيه؟
قيل: حقيقة في كل اعتقاد ظنا كان أو وهما أو تخيلا أو حسا، ألا ترى أن النابغة في صفة الطير:
جَوانِحَ قَدْ أيْقنَّ أنَّ قَبيلهُ ... ما الْتَقى الجَمْعَان أوَّلُ غَالِب
فاستعمل في الظنون اليقين وهو أشرف العلم، وقد يقول لمن يدعي العلم
وهو لا يعلمه، علمك ظن، فعلى هذين يصح أن يستعمل العلم في الاعتقاد
وإن لم يكن معه سكون النفس، فلما ادعى القوم أنهم علموا قالوا مالهم به من علم فأدخل عليه من، تنبيها على استغراق جنس المعارف التي يحصل منها
الاعتقادات، ثم قال: (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) فذكر أضعف وجه يحصل به
الاعتقاد، ولهذا قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فجعل اتباع الظن سبب للخرص أي الكذب.(4/220)
قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا) أي ما قتلوا ذلك لاعتقاد من قولهم قتلت كذا علما
أي بحقيقته، كأنه قيل: ما تحققوا معرفة ذلك؟
قيل: أراد به القتل الحقيقي وإنما قال يقينا لأنه يقال فلان فعل كذا ظنا إذا توهم أنه فعله، وفعله يقينا إذا تحقق أنه قد فعله،
وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِليهِ) قيل: معناه رقى بشخصه كما هو إلى السماء، وإليه ذهب - جماعة من أصحاب الحديث،
وقيل معناه: مع ذلك أنه شرف مكانه من بين الأنام كقوله: (وَرَفَعنَاهُ
مَكَانًا عَلِيًّا) وكقول الشاعر:
بلغنا السما حسابنا ... لولا السما لحر بالسملة
وقول لآخر:
لَنا بَيْتٌ على عُنُق الثريّا..........(4/221)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وذكر قول (إليه) تنبيها على تعظيم المرفوع، لا إلى إشارة إلى حد محدود،
تنبيها على أنه حصل له به أعلى الشرف، وإلى نحوه أشار (إِلَى رَبِّكَ
المُنتَهَى) (وَإِلَيهِ المَصِيرُ) ومثل هذا يشار إليه ولا يمكن
الكشف عن حقائقه باللفظ، وإنما يدركه الإنسان بحسب ما جعله له من نوره.
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
قيل: ما أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى عليه السلام قبل موت عيسى إذا نزل من السماء، يكون أهل الكتاب خاصا لمن كان في زمان نزوله، وقيل: بل ذلك عام.
والضمير في قوله: (قَبلَ مَوتِهِ) راجع إلى (أحد) المضمر في قوله:(4/222)
(قَبْلَ مَوْتِهِ) راجع إلى أحد المضمر في قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)
ويعني به وقت المعاينة حيث تصير العلوم بالآخرة ضرورية ويرتفع التكليف.
فإن قيل: فأي تشريف لعيسى إذا قلتم إن الحقائق كلها تظهر في تلك الحلل؟
قيل: تشريفه أنه جعله من جملة الحقايق التي من أُجِلَّ في الدنيا بمعرفتها لم يعتمد لعمله كمعرفة الله، ومعرفة الملائكة، والقيامة، وإلى نحو هذه المعرفة أشار تعالى بقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)
وعلى هذا حكى عن فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) .
وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أي شاهدا
أنه بلغهم رسالة ربهم كقوله: (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) وهو الذي قال:(4/223)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) فهو يشهد على نفسه
بالعبودية، وعليهم بسماع الرسالة.
فإن قيل: فأي تعلق بقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) بما تقدمه؟
قيل: نبه بما تقدم أنهم اعترفوا بصدقه في الدنيا، قبل خروجهم منها يعقبه هذا، تنبيها أنه يلزمهم شهادته عليهم يوم القيامة.
قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
ظلمهم عام في جميع ما ارتكبوه مما لا يجوز، وتخصيص الأشياء الثلاثة المذكورة بعده تعظيما لها.
واعلم أن تحريم الله على ثلاثة أضرب: الأول: تحريمه الخبائث وكل ما ليس له هذا بوجه والبدن تعافه كالذباب، والخنافس، والأشياء المخلوقة من فضول البدن
وهذا الجنس يحرم عقلا وشرعا.
الثاني: ما يعلم ضره أكثر من نفعه وقد يظن بعض الناس فيه نفعا كثيرا، فهو متردٍ من التحريم والتخيل في العقل، وضرب نافع في الأحوال الدنيوية جداً، إلا أن نفعه ليس بضروري، والعقل لا يقتضي(4/224)
بتحريمه، والشرع قد حرمه في حال دون حال، تهذيبا للنفوس عبادة، ودفعا لسلطان شهوتهم كتحريم الشحم على بني إسرائيل، وهو ما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) الآية، فنبه تعالى أنهم لما أسرفوا
وصاروا يظلمون، ويصدون عن سبيل الله، حرم عليهم بعض الأطعمة، ليكون في ذلك عقوبة لهم من وجه وتهذيب يقمع شهوتهم من وجه، فقلة الطعم سبب لتوهين الشهوة، ولتوهينها أمر تعالى في كل شرع بصوم، ليكون ذلك سببا لمنعها عما تدعو إليه، فلا تكون كالبهائم التي تأكل ما تشتهي، وإلى نحو هذا أشار قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا تصحوا) ، فإن في الصوم صحة(4/225)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
للبدن، وصحة النفس،
وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) لما نبهً بما تقدم
أنهم كفروا، ذكر ما أعد للكافرين ليكون فيه إشارة إلى أنهم يستحقون
ذلك العذاب، أنهم من جملتهم.
قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
الراسخ في العلم: هو الذي لا يعترضه شبهة لتمكنه في معرفته
وتحققه بها، وكونه من الذين قال فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) فنبه أن الراسخين في العلم يعرفون معنى النبوة ويعتبرونه، فحيث ما وجدوه يتبعوه، فالحق لا ينافي بعضه بعضا.(4/226)
إن قيل: ما وجه لكن ها هنا؟ وهو لإبطال الشيء وإثبات آخر، فما الذي أبطل ها هنا؟
قيل: لكن وإن كان كما قلت، فتارة تجيء بعد نفي، ما جاءني زيد
ولكن عمرو، وتارة تجيء بعد إيجاب، والإبطال فيه مقدر، نحو جاءني زيد لكن أخوه أحسن إلي، والتقدير: أخوه لم يجئني لكن أحسن إلي، فأغنى عن الإبطال بذكر الإيجاب، ولما اقتص عن اليهود ما كان منهم، وألزمهم المذمة، بيّن أن الراسخين لم يذهبوا مذهبهم، لكن يؤمنون بكل ذلك ويستحقون به الثواب،بخلاف هو لا الذين يستحقون العقاب،
وقوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)
قيل: هو عطف على قوله: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي: وبالمقيمين الذين
يقيمون الصلاة.
وقيل: الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين وهذا إذا جعله
عطفا لم يجوزه سيبويه لعطف الظاهر على المضمر المجرور، وإن جعلته على
تقدير من وحذفه لدلالة ما قبله عليه جوزه لتجويز قوله: ما كل بيضاء شحمة، وسوداء تمرة، على تقدير: ولا كل سوداء تمرة.
وحكى أن عائشة قالت:(4/227)
إني لأجد في كتاب الله لحنا من جهة الكاتب وسيقيمه العرب بألسنتها وقرأت (وَالمُقِيمِين) (1) .
ولسيبويه باب في كتابه يذكر فيه أن كل وصف يجيء على
المدح والذم، يصح فيه الاستئناف مرفوعا ومنصوبا، ويجوز منه إتباع الموصوف
__________
(1) لا يصح ولا يثبت.(4/228)
على هذا يحمل قول الشاعر:
النَّازلُون بكُلِّ مُعتَرك ... وَالطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزُر(4/229)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
وقد ذكر تعالى عامة الإيمان الاعتقادي، فإن جماعة ذلك هي المذكورة في
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الآية
ولم يذكر الملائكة ها هنا في ضمن الإيمانَ (وَمَا أُنْزِلَ) إيماناً بالملائكة الذين
نزلوا به وإنما قدم الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان بالله ها هنا لأن القصد من الآية إليه، والمذكور بعده على سبيل التبع، وذكر من الإيمان العملي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهما ركنا العبادة، وعلى هذا يخصهما في عامة الآيات من بين العبادات.
قوله عز وجل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
ذكر تعالى في هذه الآية اثني عشر نبيا بأسمائهم وأجمل ذكر باقيهم، وذكر بعض أولي العزم وبعضا من غيرهم، وذكر بعضهم على الترتيب، وذلك أنه أراد أن(4/230)
يبين أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم، وخصه بما خص كل واحد منهم به
تفضيلا له وتشريفا، وأنه جرى معهم مجرى، فذلك من الحساب المبني بجملته
عن تفصيل ما تقدم، فذكر نوحا الذي هو أول أولي العزم من الرسل والنبيين
ومن بعده مجملا، ثم فضل النبيين فذكر إبراهيم الذي كان أول النبيين من أولي العزم بعد نوح، وذكر معه من جرى منه مجرى أبعاضه في كونهم تابعين له، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، ثم ذكر الطرف الآخر من أولي العزم وهو عيسى ثم الأواسط أيوب ويونس وهارون، ثم ذكر من أوتي الكتاب مجملا وهو داوود، فإن الزبور وهو اسم الكتاب، إذ كتبه كتابة غير مفصلة، وأفرد ذكر موسى من حيث إنه خص بالتكلم، وكل هذه الفضائل كان للنبي - صلى الله عليه وسلم -.(4/231)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
نبه أن بعثة الأنبياء إلى الناس مما لا يستغنون عنه، لقصوركلهم عن إدراك جزئيات مصالحهم، وفضول أكثرهم عن كلياتهم وجزئياتها، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ليكون قد أزاح عللهم، لذا قال تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) .
قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) .(4/232)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قال: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) .
قوله عز وجل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
اتصل ذلك بما قبله اتصال إثَبات الحق بعد إنكار من أنكره، ومعنى شهادة الله: إقامة البينة الدالة على ثبوته، وعلى هذا قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الآية، أي: أقام البينة الواضحة على وحدانيته، وأعظم الشهادة ما يقتضي علم المشهود عنده، فالشهادة من الناس قد لا توقع العلم، وشهادة الله إقامة البراهين المثلجة للصدور موقعة للعلم مزيلة للشك، فمن أعظم شهادته إتيانه لمعجزاته كالقرآن الذي هو كما قال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
وقوله: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) قيل: بعلمه بك، وأنك(4/233)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
مستحق للنبوة، كما قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) .
وقيل: أنزله بالعلم الذي يحتاجون إليه، أي هو. متضمن للعلم، وذكر شهادة الملائكة تنبيها أن العقول الصحيحة تعرف صحة نبوتك، وأنكم لو استعملتم العقول لاطلعتم على ذلك، لإطلاعهم ووقوفهم عليه، لمشاركتكم إياهم، ولأنهم أتوكم بما لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الملأ الأعلى، فهذا معنى شهادة الملائكة.
ثم قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي بما أقام من الأدلة على صحة نبوتك
عن الاستشهاد بغيره.
قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
الضلال أعم من الكفر، فكل كفر ضلال، وليس كل ضلال كفرا، والناس في الضلال ضربان: ضال غير مضل، وضال مضل، وهو أعظمها جرماً وأكبرها عقابا، والمضل بالإضافة إلى غيره قد ضل ضلالا بعيدا، وهو الذي كفر وضل عن سبيل الله.(4/234)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
قيل: عنى الله بالجمع بين الكفر الذي هو أعظم الظالمين وبين ظلم العباد. وقيل: تقديره: إن الذين كفروا وظلموا الذين ظلموا،
نحو قول الشاعر:
ومنْ يَهْجوا رَسُولَ الله منكم ... ويَمْدَحَه ويَنْصُره سَواءُ
أي ومن يمدحه بحذف (من) .
وقوله: (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي(4/235)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
لا يوافقهم لغير ذلك إذ لا يستحقون بل لا يقبلون.
وقوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي لا يصعب عليه تعذيبهم، ولا يستعظمه، فالحكمة تقتضي ذلك.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
(الباءَ) في قوله: (بِالحَقِّ) للتعدية، كقوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) .
(خَيْرًا) نحو (انتَهُواْ خَيْرًا لَّكم) وتقديره: آمنوا وائتوا خيرا لكم.
فدل بلفظ الإيمان على إتيان الخير.
قال الكسائي: تقديره يكن الإيمان(4/236)
خيرا لكم، وأجاز الكسائي مثله في الخير، وقال: سمعت اتقوا من خيرا لكم.
وأنشد: -
فَوَاعِديْهِ سَرْحَتيْ مالِكِ ... أَوالرُبَا بَينَهُما أَسْهَلاً
وقوله: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي
نفع إيمانكم عائد عليكم وأما هو فغني عنكم، ونبه بقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على غناه، ولم يعن الموضوع منهما فقط، بل يعني مع
ذلك ما ركب منه السماء والأرض، كقوله لفلان: ما في هذا الثوب أي غزله ونسجه فمنه، تنبيه أن له السماوات والأرض كما أن له ما فيهما اهـ.(4/237)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قوله عزَّ وجلَّ: (
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
الغلو: الخروج عن القصد، ومفارقة العدل، من قولهم: غلا السعر،
وغلت القدر.
خاطب بذلك النصارى فيما يدعونه من الافتراء على الله وعيسى، وقد تقدم الكلام في منافاة الربوبية للولد، وسماه كلمة الله كقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ) .
قيل: بشارة الله، وقيل: لأنه مدى كلمة الله وسماه روحا لقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)
وقيل: لأنه كان يحي الناس إحياء الروح،
وقيل: لأنه سبب للحياة الأخروية، كما أن الروح سبب(4/238)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
للحياة الدنيوية.
وقيل: انتهوا خيرا لكم.
قيل: فيه الوجهان المقدمان، وقيل: انتهوا انتهاءاً خيرا لكم، بقوله:
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)
على غناه عن الأولاد، وبقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أنه القائم
بحفظ الأشياء، والولد يحتاج إليه، ليكون وكيلا لأبيه، وهو تعالى مستغن
لأنه هو الحافظ لكل شيء.
قوله عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
الاستنكاف: الأنفة من قوله نكفت الدم أي نحيته بالإصبع حتى قيل للدم
نكف، وقيل: بحر منكوف لا ينزح.
قيل: هو من النكف أي نحيته قطيف بالعنق، وقيل: من النكفين، وهما لحمتان متدليتان من العنق، واستعمالها(4/239)
في التكبر كالصعر ميل العنق والعزم بالأنف، وعلى ذلك قال الشاعر:
إن الكَريمَ مَنْ بَلَغَتْ قُواهُ ... وإن اللئيمَ دَائِمَ الطرْف أَقْوَدُ
والعبودية وإن كانت متضمنة بالمذلة إذا اعتبرت لغير الله، فإنها مقر الشرف
إذا اعتبرت به تعالى، فلهذا الاستنكاف منها.
والاستكبار: طلب التكبر لغير استحقاق، التكبر قد يكون باستحقاق، وذلك إذا كان طلبا لعزة النفس والتلطف عن الأغراض الدنيوية.
نبه تعالى أن لا استنكاف لأحد في عبادته وأن
المستنكف عنها لا ينجو منه، بل يفتقر إليه فيجازي به.
والضمير في قوله تعالى: (فَسَيَحشرُهُم) راجع إلى كل من تقدم فلهذا فصل من بعد.
واستدل بعض المتكلمين بالآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وقال: مثل
هذا الكلام إذا ذكر على طريق التحمد مؤخرا الأشرف فالأشرف، فيقال:
لا يستنكف الحاجب من خدمة فلان ولا الوزير ولا الأمير، ولا يقال على
عكس ذلك، فاعترض على ذلك بأشياء أحدهما: أنه قد يذكر في مثل هذا
الموضع في مرتبة واحدة، فيقال: الرشيد لا يستنكف من ذلك ولا المأمون(4/240)
أيضا، فقد خص الله تعالى عيسى من دون غيره من الأنبياء، فلا دلالة أنه
أفضل من كلهم، وأيضا فقد قال: (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
ولا دلالة أن غير القربين أفضل من الأنبياء، فأجاب هذا المجيب أن المسلمين
اختلفوا على وجهين: فمن قائل قال: الأنبياء أفضل، وقائل قال: الملائكة
أفضل ولم يقل أنهما سواء وكذا قالوا: لا فرق بين عيسى وغيره، في كونهم
فوق الملائكة، أو دونهم، وكذا لم يفرقوا بين المقربين، وغير المقربين في هذا المعنى.
وهذا الجواب كما ترى، وقد اعترض على ذلك أيضا فقيل: إنما ذكرت من
قولك لن يستنكف الحاجب من خدمتي، ولا الوزير، إنما يكون في اسمين مفردين كما مثلت به، فأما إذا ذكرت مفردا أو جملة فليس يقتضي ما ذكرت، كقولك: لن يسنكف الحاجب أن يخدمني، ولا الصغير، والكبير من أصحاب(4/241)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
الأمير، قال: فهنا لا يقتضي أن يكون الصغير، والكبير أفضل من الحاجب،
فأجاب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن هذا الموضع قصد به التكثير، لا التكبير
والآية قصد بها التكبير، والثاني: أن ما ذكرت إنما يكون في جملة يدخل
المعطوف عليه في عمومه كقوله: والصغير، وليس عيسى مما يدخل في جملة
الملائكة، واعترض على ذلك تنبيها بقوله: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) واستدل على تفضيل الملائكة هنا
بقوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) فاثبتوا فلولا أنهم فوقهما لما اغتر بذلك،
وكذا أيضا استدل بقوله: (وَلَاَ أَقُولُ لَكم إِنِّى مَلَكُ) فتبين
أنه لا يدعي لنفسه مرتبة ولا يليق به فهذا هو دلالته من حيث الظاهر.
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
الفرق بين الاستنكاف والاستكبار، الاستنكاف نكف في قوله(4/242)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
أنفة وليس في الاستكبار نحو ذلك، والولاية تقتضي إخلاص المودة والنصرة
معونة كان معها الولاية أو لم تكن، وقوله: (وَيَزِيدُهُم مِّن فَضلِهِ)
إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) .
إنما ذكر من دون الله تنبيها أن كل ولاية ونصرة فمنه مبدؤها حتى ولو تصورناه مرتفعا لما صح ذلك بوجهه تعالى الله علوا كبيرا.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
عنى بالبرهان الآيات القاهرة المبنية عن المعجزات، وبالنور القرآن لأنه به يعرف الطريق إلى الله.
خاطب بذلك الكافة، وبين أنه أزاح عللهم بالعقل والشرع
كما قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) من أن من عرف ذلك واعتصم به دخل في(4/243)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
رحمته التي يستحقها التائبون (فَضْلِهِ) أي إحسانه الزائد على ما استحقه وأنه
يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الطاعة في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة.
قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الاستفتاء: طلب الفتيا للحكم.
وقد تقدم معنى الكلالة، وقوله: (وَلَهُ أُخْتٌ) أي أخت من أبيه
وأمه أو من أبيه وقد ذكر الحكم في أول السورة،
وقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي لترجعوا إلى كتابه إذا جهلتم فتعلموا منه، وتقديره: يبين لكم ضلالكم الذي من جانبكم أن تتحروه إذا تركتم، ومن تبين له الضلال تبين له الحق، فإن معرفة أحدهما متضمن بمعرفة الآخر ولا دونه، وقد قال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)
هو الزجر عن القبائح والإنسان إذا ترك عن المزاجر والنواهي، ولم يأخذ بمقتضى العقل، صار بالطبع(4/244)
بهيمة، ولذلك قال للكفار: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) .
قال: هذا أبلغ من قولكم يبين الله لكم أن لا تضلوا
لأن في معرفة الشر معرفة الخير، وليس في معرفة الخير المعرفتان جميعا.
وقال الكسائي: تقديره لئلا يضلوا فحذف (لا) ،
وقال البصريون: تقديره: حذر أن تضلوا.(4/245)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
سورة المائدة
السورة التي يذكر فيها المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
أصل العقد في الحبل ونحوه كالربط فاستُعير للعهد المؤكد ولا استعارة.
من ذلك قال الشاعر:(4/246)
قَومٌ إِذَا عَقدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقهُ الَكَرَبَا
وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)
والعقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين
العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركزه الله تعالى بمعرفته في الإنسان فيتوصل إليه، إما ببديهة العقل، وإما بأدق نظر، وعليه دل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية،
وضرب أوجبه الشرع: وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فذلك ستة أضرب،
وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء، أو يلزم بالتزام الإنسان إياه،
فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب:
فالأول: واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقُربِ، نحو أن يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله،
والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه: كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك.
والثالث: مستحب ترك الوفاء به وهو ما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) .(4/247)
والرابع: واجب ترك
الوفاء به، نحو: أن يقول علىَّ أن أقتل فلاناً المسلم، وذلك ستة في أربعة
وعشرين ضرباً من العقود.
فظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه
واجباً أو قربة، ومن المفسرين من حمل ذلك على حِلْفَ الجاهلية دون(4/248)
حِلْفَ الإسلام. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) .
والصحيح أن ذلك عام، وأن معنى قوله: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) أن
الإسلام قد بين ما يجب التزامه، وما لا يجب وإن ما كان يحتاج إليه في الجاهلية من المحالفة للحماية قد كفوا في الاسلام، فقد قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فبيَّن أن حماية بعضهم على بعض لازمة تحالفوا، أو لم يتحالفوا(4/249)
ونحو هذه الآية قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وذم المُخّل بذلك حيث قال:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) .
وقوله: (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ فالبهيمة: ما لا نطق له من الحيوان كالعجماء، لكن اختص في المتعارف بما عدا السباع، والطير والأنعام، وأصلها في الإبل ثم استعملت في الأزواج الثمانية، إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في ذلك الخيل والبغال والحمير،(4/250)
فإن قيل: ما وجه إضافة البهيمة إلى الأنعام؟
قيل: كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) .
وقيل: لما كانت الأنعام في أصل اللغة تقع على كل نعمة جرت مجرى
الصفات، أضيفت البهيمة إليها إضافة اليوم إلى الجمعة، كأنه قال البهيمة التي هي من جملة ما أنعم الله عليكم به.
وقيل: لما كان قد تقدم تحليل الله النعَّم في سورة الأنعام لأن سورة المائدة تأخر نزولها عن الأنعام فيما روي نبه بقوله:(4/251)
(بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) على تحليل البهيمة الجارية مجرى الأنعام في كونها محللة
فيكون لهذه الآية دالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام، وما في سورة الأنعام دال على تحليل الأنعام فقط، ويدل على ذلك قول من قال من السلف: بهيمة الأنعام هي بقر الوحش والظبي، لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حللاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب قيل: هو تنبيه أن المباحات محظورة على من ليس بمؤمن.
وقيل: بل ذلك تشريف لهم اعتباراً بالسياسات الدنيوية، لأن الملك
يخص بالخطاب الشريف الأمثل فالأمثل.
ولا تفرع بلفظ الخطاب على(4/252)
الأنام وإن كانوا في الحكم تبعاً للأماثل، قال وعلى ذلك قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) وحكم الكتابيات
حكمهن، وقوله تعالى: (إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم) أي ذلك سوى ما حرمته
مما يتلى، واعتبر بعضهم لفظ الاستقبال، وقال أراد ما سيحرمه وذلك لمجهول بعد.
قال: فالآية مجمله، وليس كما ظن، فإن قوله: (مَا يُتلَى) تنبيه على
تلاوة القرآن على التأبيد، وقد يتناول ذلك ما تقدم.
ذكر الله إياه، وما ذكره في هذه الآية.
وقوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) معناه كلوا ذلك على أن لا يكون صيداً في حال الإحرام،(4/253)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) الحِكْمَةُ، والحَكْمَةُ من أصل الإبانة إذا كان في القول قيل: له حكم وقد حكم، وإذا كان في الفعل، قيل: له حِكْمَةٌ وحُكْمٌ وله حِكَمٌ فإذا قلت: حكمت بكذا، فمعناه قضيت فيه بما هو حكمه، وإن كان يقال حكم فلان بالباطل، بمعنى أجرى الباطل مجرى الحكمة، فحكم الله تعالى مقتضٍ للحكمة لا محالة فنبه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أن ما يريده يجعله حكمه حثاً للعباد على الرضا به كما قال عليه الصلاة والسلام: حاكياً عن ربه تعالى: (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليطلب رباً سواي) .
فالله يحكم ما يريد، وحكمه ماضٍ ومن رضي بحكمه استراح في نفسه، وهُدِي لرشده، ومن سخط نقد حكمه واكتسب بسخطه سخط الله وإمقاته.
قوله تعالىْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)(4/254)
الشعائر: حمع شعيرة أي العلامة، وأصلها إصابة
الشعر، كقولك عانه وكبده، يقال للحواس المشاعر، قال الحسن: شعائر
الله دينه وفرائضه، وقول عطاء: هي مناسك الحج، فأشار إلى نحو ما قال
الحسن.
وقوله: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي القتال فيه وقيل: هو تحريم
النسىء المذكور في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) .(4/255)
والهدي أصله فيما يُهدى من النعَّم، وقد يستعمل في كل ما يتقرب به إلى الله
وعلى ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المبكر للجمعة كالمهدي بدنه، إلى أن قال ثم الذي يليه كالمهدي بيضة) ، فجعل البيضة هدياً.
والقلائد ما يطوق به الهدي شعاراً له، وقيل: نبه بذلك على تحريم كل ما يحتص بالهدي فنص على أدناه الذي لا قدر له تنبيها على ما فوقه، كقوله تعالى: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)
وقيل: أراد به المقلدات فبين تحريم المقلَّد وغير المقلَّد(4/256)
وقال بعضهم معنى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) : أي لا تمنعوا الكفار من
التمسك بشعائره، فقد كانوا مجتمعين مع المؤمنين في إقامة
المناسك فمن قال هذا قال الآية منسوخة لقوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
وعلى الأول خطاب للمسلمين لمراعاة أحكام الدين عاماً، أو أحكام الحج، ولا يكون فيه نسح،
وقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)
قيل: عنى الفضل الدنيوي المطلوب بالمكاسب المباحة.
وقيل: بل الفضل الأخروي.(4/257)
(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) رخصة كقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ليجزم أن التكسب مكروه، ولا يقال ذلك للكسب المحمود في عامة كلامهم.
وقول الشاعر:
جَرِيمَةُ نَاهضٍ في رَأسِ نَيْقٍ -
على طريق التشبيه. والتنبيه أن العقاب يرتكب بالجرائم، لا قبل أدائها(4/258)
كما ذكر بعض الحكماء ما ذو والد وإن كان بهيمة إلا ويذنب لأجل أًولاده
وعلى هذا المعنى قيل: فلان يجرم لأهله، وقوله تعالى: (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي لأجل أن صدوكم.
وقولهه: (أَن تَعتَدُوا) أي على أن تعتدوا، ونهى المسلمين عن الاعتداء على من ظلمهم فأبغضوهم لظلمهم إياهم، وقرأ إن صدوكم، ويكون في تقدير المستقبل.
إن قيل كيف قال هاهنا هذا، وقد قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) قيل الأمور به في قوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) إباحة المُجازاة للظالم بمثل فعله فسماه باسم الأول.
وقوله تعالى: (أَن تَعتَدُوا) نهى عما هو أكثر من المجازاة، أو حث على العفو، وقوله:
(شَنَئَانُ) إذا قرأ بفتح النون فمصدرٌ، نحو نَزوَان وطَيَران، وإذا قرأ(4/259)
بسكونها فاسم، نحو عطشان أي لا يحملنكم بغيض قوم، أي من يبغضون
منهم.
وقيل: شَنْآن وشَنَآن. بمعنى وأكثر ما يقال في المصادر، والأوصاف
، والأفعال التعدية.
والتقوى في هذا الموضع اسم لغاية ما يبلغه الإنسان وهي
المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) فكأنه قال تعاونوا على أدنى المنازل من
الخير وأقصاها، وقيل: بل البِرُ أعلى المنزلتين فإنه ما اطمأن إليه القلب من غير أن ينكره بجهة أو سبب، والتقوى: اجتناب المآثم، فكأنه قيل تعاونوا على فعل الخير وترك الشر.
وقوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالإثم يتناول جنايات العبد بينه وبين الله وما بينه وبين العباد.(4/260)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
والعدوان ما بينه وبين غيره وهو أخص، وعقب ذلك بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) . زجراً عما نهى عنه.
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
(الْمَيْتَةُ) هاهنا ما فارقته الروح من غير تذكيه مما له نفس سائله، وقد يقال: ذلك لما ليس له نفس سائله، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أحل لنا@ ميتتان ودمان) ، (وَالدَّمُ) هاهنا هو(4/261)
الدم المسفوح بدلالة قوله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) فعرَّف في الآية الدم ولحم الخنزير، وإشارة إلى ما ذكره هاهنا.
وتخصيص لحم الخنزير لا يقتضي تحليلَ شحمه وسائر ما فيه لأن ذلك نص على أفضل ما فيه ليدل على ما دونه.
وقال بعض الفقهاء: لا يجوز الانتفاع(4/262)
بثمنه، ولا باستعمال شيء منه في غير الأكل والإهلال: التكبير: من قولهم
أهل الصبي كأن الصبي يكبر الله فعلاً، وإن لم يكبِّره قولاً؛ لدلالته على
الآية، كتسبيح الشجر والمدر فعلاً وإن لم يكن تسبيحه قولاً، فحرم ما سُميَّ
عند ذبحه الأصنام، (وَالْمُنْخَنِقَةُ) ما وقع في حلقه ما خنقه حبلاً كان
أو غيره، (وَالْمَوْقُوذَةُ) : المقتولة بضرب، يقال: وقذته
ضرباً، ويدخل فيه كل مقتول بغير ذكوه، فأما المرمي من الصيد بما يخرج بحدة فغير داخل في الموقوذة، بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام:
(إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب وخرق فكُل، فإن أصابه بعرض فلا يحل فإنه وقيذه) .(4/263)
(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة من سطح أو جبل أو في بئر يُؤَديِّ
سقوطها إلى أذاها.
(وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بالنطاح، ناطحة كانت أو منطوحة.
(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) مما افترسه سبع فمات.
وقوله: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) راجع إلى المنخنقة وما بعدها.
وإدراك ذكاته هو أن تؤخذ له عين تَطرف أو ذَنَبٌ يُحَّرك.
على ما روي عن أمير المؤمنين، والذكاة:(4/264)
بقطع الحلقوم، والمريء ومستحب أن تقطع معهما الوَدَجين،
و (النُّصُبِ) حجر كانوا ينصبونه ويتقربون بالذبائح له، والاستقسام بالأزلام هو ما كانوا يفعلونه في الميسر، كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) .
فإن قيل ذكر (ما) في قوله (ما أهل) (وما ذبح) ، وذكر هاهنا (أن تستقسموا) دون (ما) ؟
قيل: لأن المحرَّم في الأول نفس المذبوح، والمحرم هاهنا الاستقسام فأما المذبوح على الشريطة المشترطة في الشرع فإنه وإن قسم بالأزلام لا يحرم عينه.
وقيل: الأزلام قداح تكتب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي فإذا أرادوا أمراً(4/265)
ضربوا ذلك فاعتبروا ما يخرج منه.
والفسق والفجور: هما الخروج عن أمر الله
فالفسق من قولهم فسقت الرُطَبة من قشرها.
والفجور من فجر الماء،
وقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي أن لا يحققوا أن لا يمكنهم
أن ينسخوا ما أمرهم من دين الحق.
وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قيل: لما كان الإسلام شرع شيئاً منشئاً بيَّن تعالى بهذه الآية كماله، وقيل: إن الأديان الحق كلها جارية مجرى دين واحد وكان قبل الإسلام في الشيء بين إفراط وتفريط بالإضافة إلى شرعيتها، وذلك على حسب ما كان يقتضي حكمة الله في كل زمان فكمَّله الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعله وسطاً مصوناً
عن الإفراط والتفريط، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
وكمله وتممه به كما قال عليه الصلاة والسلام: (بُعثت لأُتمم مكارم
الأخلاق) .
وقال: (إن مثل الأنبياء كمثل بيت ترك بينه موضعُ لبنة فكنت اللبنة) .(4/266)
فهذا معنى قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
وهذا هو الذي اقتضى أن تكون شريعته مؤبدة لا نسخ ولا تغيير، فالأشياء في التغيير والتنقل ما لم تكمل فإذا كملت فتغيرها فساد لها، ولهذا قال: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ونبه بقوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
على أمرين: أحدهما: أن الإسلام هو الدين المرتضى على الإطلاق
لا تبديل له ولا تغيير، وسائر الأديان مثله كان مرتضى في وقت دون
وقت، وعلى وجه دون وجه، والقوم دون قوم، وهذا الدين بعد أن شُرعِ
مرتضًا في كل وقت، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في موسى: (لو كان حيا ما وسعه إلا اتباعي) ولأجل ذلك قال تعالى:(4/267)
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية. فقوله تعالى: (اليومَ) إشارة إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -
أو إشارة إلى اليوم الذي أنزلت هذه السورة. فقد كان في النسىء في زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً إلى آخر أيامه، فحينئذ كمل وصار بحيث لا تغيير فيه ولا تبديل بنسخ ونسخ.
إن قيل: كمَّل الدين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكم تعالى أن دينه هو دين إبراهيم حيث قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) . قيل: ونبه تعالى أن هذا الدين الذي هو دين إبراهيم من
حيث أنهما داعيان إلى الحق ومشتركان في أصول الشريعة، لكن ما شُرِع على(4/268)
لسان إبراهيم كان مبدأ الإسلام، وما شُرِع على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الإسلام.
فمن حيث إن هذا مؤيد ناسخ لفروع ما تقدم قال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ومن حيث إنه شارك دين إبراهيم في الأصول صار هو إياه، وهذا ظاهر
لمن عرف قوانين الكلام.
إن قيل: إن ذلك يقتضي أن يكون الأديان كلها
ناقصة، وأن يكون دينه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك اليوم ناقصاً.
قيل: الكامل والناقص من الأسماء المتضايفة التي تقال باعتبار بعضها بعض، فالصبي إذا اعتبر بالرجلِ فهو غير كامل، وإذا اعتبر بمن هو على سنه فهو كامل، إذا لم يكن مذموما فكذلك دين الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتبر بأهل زمانهم كان كاملاً، وإذا اعتبر بدين النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانه لم يكن كاملاً وليس النقصان المستعمل هو النقص
المذموم فلفظة ناقص تستعمل على وجهين.
إن قيل: ما وجه فائدة قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
بعد قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ؟
قيل لما بين تعالى أنه أكمل دينهم بيَّن بعده أن ذلك الدين هو الإسلام
وقد رضيته كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) .
وقوله: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أضاف النعمة إلى نفسه تشريفاً لها.
وقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) منه أن الخشية في الحقيقة يجب أن تكون ممن
منه مبدأ النفع والضُر دون الوسائط فقد قيل: أعجز الناس من خشي من(4/269)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
لا ينفعه ولا يضره، دون الذي بيده الخير.
وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي من ناله ضرورة ولم يجنف، أي: لم يمل لما تبين إثماً بل راعى الحقَّ وقصد دفع أذى الجوع. فالله تعالى لا يؤاخذه به فإنه كان غفوراً لذنوب عباده رحيماً بهم.
فهو أهل أن لا يؤاخذهم بما فسح لهم
فيه وعلى نحو هذه الآية دل قوله تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلا إِثمَ عَلَيه) .
قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
الطيب التام الذي يستلذ عاجلاً وآجلا، وذلك هو الحلال
الذي لا يُعْقِبُ إثما، وقوله:(4/270)
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) مبتدأ. وقوله: (فَكُلُواْ) في موضع الخبر.
قال بعضهم: هو معطوف على الطيبات وتقديره: صيدوا ما علمتم، والأول أجود، والجوارح: الصائدات الكاسبات من الكلاب والفهود ونحوها بالجرح بناب أو مخلب، ومنها قيل جَرَحَ فلان واجترح إذا اكتسب، والمكلَّب: المضرُّي على الصيد سواء أضرى كلباً أو غيره.
وبعض المفسرين خص ذلك بالكلب وكره صيد جوارح الطير إذا قتلت، وقال إن ذلك لا يستعمل فيه التكليب.
ومن شرط المعلَّم أنه إذا دُعِيَ أجاب وأن لا يأكل من الصيد ومتى(4/271)
كان ذلك فإنه يؤكل وإن قتله، وقال الكوفيون: صيد جوارح الطير
يؤكل منه، وإن أكل.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سميت فَكُلْ وإن أكل منه فلا
تأكل) يقتضي خلاف ما قالوه، ومعنى:(4/272)
(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(4/273)
إشارة بقوله: (أَمْسَكْنَ) أن لا يأكلن.
وظاهر الآية أن لا فرق(4/274)
بين كلب المجوسي والمسلم إذا أرسله المسلم، بخلاف ما قال الثوري: أنه
يكره الاصطياد بكلب المجوسي، وأجمعوا أنه إذا قدر على ذبح ما أمسكه
المُكلب فلم يذبح فلا يؤكل، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(4/275)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قال ابن عباس: يعني لأوليائه، وجعل ذلك أمناً لهم، وقال: بل ذلك تخويف لمن خالف أمره.
قوله عز وجل: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
يعني اليوم ما تقدم ذكره في قوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
وفي قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك إشارة إلى
عام الوداع.
(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عند الشافعى: - هم(4/276)
بنو إسرائيل من اليهود والنصارى دون من دخل في دينهم بعد الإسلام، لقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) .
وقال ابن عباس: فهم الصابئون.
وروي عن علي: أنه لا تحل ذبائح النصارى العرب.
وعند أبي حنيفة: أن ذلك يتناول أيضاً من يدخل بعد الإسلام في(4/277)
دينهم احتجاجاً بقوله تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فحَكم
أنهم منهم. ويعني بطعامهم ما يذبحونه ويتولون الصنْعةَ، ومما يملكونه، ولم
يحتج أن يشترط فيه رضا مالكه إذا لم يكن القصد إلى ذلك وقوله:
(وَطَعَامُكُم حِلٌّ لهُم) أي يجوز أن تطعموهم،
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي العفائف، وقال(4/278)
الشافعي: عنى الحرائر منهم، ومنع الحر من التزوج بإمائهن، ويقوَي قوله
: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) .
وكان ابن عمر رضي الله عنه: يكره التزوج بالكتابيات
وإذا سئل عن ذلك يقرأ هذه الآية قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) ويقول في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من الذين كانوا منهم فأسلموا كقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) وغيره
حمل قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) على أهل الأوثان والمجوس(4/279)
وقال ابن عباس: لا لمجل نكاح الحربيات منهن لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ)
وأكد ذلك بقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
والنكاح يقتضي المودة لقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) .
وقال: من جوز التزوج منهن أن المودة المنهي عنها هى المودة الدينية، وأما المودة الزوجية فهي التبقية، وذلك غير محظور.
قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي بالدين الحق.
والحَبْطُ أصلهْ الحَبَطُ وهو داء يأخذ الإبل في أجوافها من كلأٍ يستوبله.
وقيل معناه: من(4/280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
لم يشكر الله بالإيمان، أي هو ذو إيمان فقد حبط عمله تنبيهاً أن الاعتقاد لا يكفى ما لم يضامه شكر نعمه بإقامة عباداته.
وقيل معناه: من لم يراع حقيقة الإيمان بالاعتقاد لم تنفعه أعماله.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قال أصحاب أبي حنيفة: ظاهر الآية تقتضي أن لا يجب في
الوضوء النية، والقول بوجوبه يقتضي زيادة في النص والزيادة في النص تقتضي النسخ، ونسخ القرآن لا يجوز اتفاقاً بخبر الواحد والقياس فلا يصح إذاً إثبات النية، وقال بعض الشافعية: بل الآية تقتضي إيجاب النية لأن معنى(4/281)
قوله: (إِذَا قُمتُم) إذا أردتم ولو لم يكن معناه ذلك لم يكن لذكره فائدة.
وقال بعضهم: الآية تقتضى الترتيب، لأن الفاء في قوله: (فَاغسلُوا)
تقتضي ترتيب غسل الوجه على القيام، فإذا ثبت ترتيب الوجه على القيام ثبت في غيره لأن أحداً لم يفصل، وليس ذلك بشىء فإن الفاء وإن كانت تقتضي الترتيب فإنما اقتضى ذلك في الجملة لا في البعض، ولم يقتضي ترتيب الأعضاء والمأمور بغسلها بعضاً على بعض، والأظهر أن الترتيب اقتضتاه قول النبي
- صلى الله عليه وسلم -: (ابدأوا بما بدأ الله به) وفعله الذي فعله تبياناً للآية، وقد رنب ثم قال:
(هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) ،
والمرفقان داخلان في الغسل بدلالة(4/282)
ما روي من الأخبار، وظاهر الآية تقتضي مسح الرِجل لولا ما روي في ذلك
من الأخبار سواء قرئ بالنصب أو بالجر، وذاك أنه إذا نُصِبَ فهو كقوله(4/283)
مررت بزيد وعمرواً، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة مسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقيل له: في ذلك.
فقال: (عمداً فعلت) وظاهر أول الآية أن كل صلاة تقتضي الطهارة لكن لما
شرط في البدل وهو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) عُلم أن ذلك شرط في المبدل أيضاً، ولأن الإجماع
على أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحصل حدث وقد استحب تجديد
الوضوء لكل صلاة من أجل ظاهر اللفظ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوضوء على الوضوء نور على نور) ،
وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بالوضوء) .(4/284)
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) وهوكقوله:
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) والجنابة بإنزال الماء
أو بالتقاء الختانين، وقوله: (فَاطَّهَّرُوا) أي تطهروا فأدغم فسكن تاء
الفعل وأدخل عليه ألف الوصل.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) أي مَرَضاً يمنع من استعمال الماء (أَو عَلَى سَفَرٍ) أي سفراً يُعدم فيه الماء وظاهر اللفظ يقتضى قليل السفر وكثيره ولكن الأَخبار خصته.(4/285)
وملامسة النساء كناية عن الجماع عند عامة الصحابة، وذكر عن ابن عمر: آية اللمس بأي موضع كان من البدن، وإليه ذهب الشافعي، وقال قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) يقتضي أن يطلب، لأن عدم الوجود يقتضي الطلب، وظاهر
الآية تقتضي أن لا يجوز التيمم إلا بعد عدم قليل الماء وكثيره، ومستعمله وغير(4/286)
مستعمله لكن استثنى المستعمَل، بدلالة قوله تعالى: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا) ولا خلاف أن ذلك يقتضى الماء المطلق، إلا عند الأصم، فإنه
أجاز التوضؤ بماء الورد وما يجري مجراه في الرقة،
وقوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي تراباً.
وقيل: وجه الأرض، وإن لم يكن عليه التراب، وقوله: (منهُ) يقتضي ما قاله الشافعي أنه يجب أن يعلق باليد منه(4/287)
شيء، وقوله: (طَيّبًا) أي طاهر والطيب في وصف الأرض ما ليس
بسبخ، بدلالة قولَه: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ،
وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) منهم من اعتبر ذلك
في الدنيا، وقال: ظاهره يقتضي أنه لا يريد أن يتطهروا ويغتسل
مع الخوف على النفس من الشدة والضنى.
وقائل ذلك يقتضي بطلان قول من يوجب الغسل من الجنابة مع المرضى، ومنهم من(4/288)
قال: معنى ذلك لا يعتبروا الجهل والمشقة في هذه العبادات بالحال الظاهرة،
واعتبروا بالمال فإن ذلك ذريعة إلى تطهير نفوسكم، وما يفضى بكم إلى النعيم
المعد لكم، لتعلموا أنه لم يرد حرجاً بما أوجبه عليكم، فإنكم إذا اعتبرتم ذلك شكرتم الله على ما طلعكم وعلمتم أن ذلك ليس بحرج ومشقة حملكموها، ونحو ذلك قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يعني الطهارة من الذنوب، وقد
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من
وجهه وإذا غسل يده خرجت ذنوبه من يده) وذلك قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
وقد حُمل على ذلك قوله: (وَثِيَابكَ فَطَهِّر) .(4/289)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله عز وجل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
الميثاق: العهد المستوثق منه وميثاق الله تعالى: المأخوذ من عباده على أضرب: الأول: ما أخذه عليهم بالفطرة: وهو ما رَكَزَه فيهم من المعارف.
الثاني: ما أخذه عليهم بما أفادهم من العلوم المكتسبة.
الثالث: ما أخذه عليهم ببعثة الأنبياء وإلزامهم بالشرائع.
الرابع: ما يلزم بعضَهم عن بعض بما يجب عليهم
الوفاء به، وقد حمل الآية على كل ذلك.
وقوله: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا) تفسير الميثاق الذي أخذه، ووجهه ذكر النعمة. والميثاق بعد أصحاب الطهارة تذكير(4/290)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
للنقمة، وتأكيد لوجوب طاعته. وإن قيل: لما قال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) ولم يقل نعم الله؟
قيل: لفظ الواحد في هذا الوضع أبلغ ففيه تنبيه أن في ذكر
نعمة واحدة شغل عظيم مع أن لفظ الواحد في نحوه يقتضي الجنس.
وذكر نعمته هو شكرها.
وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي يقوي الإنسان من
العقل والفكر والتخيل الغضب والشهوة.
وذكر الذات للمبالغة وعلى ذلك قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) .
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)(4/291)
(قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي خلفاءه شهداء بالعدالة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ)
وذلك يقتضي الشهادة لحقوق الناس كما قال الحسن: وعلى قومهم فبما يخالفون أمر الله فيه، كما قال غيره: ولأمر الله أنه حق. كما قال الزجاج. وقيل: معنى الشهادة الحضور أي كونوا في جميع ما يتحرونه مشاهدين لله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن لم تكن تراه فإنه يراك) ،
وعدي قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)(4/292)
وعدي قوله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بـ على - حملاً على معنى لا يحملنكم.
وقوله: (عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا) أي على ترك العدالة وذلك قريب من قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)
فالاعتداء قريب من قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) لكن قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) أبلغ.
وقوله: (هُوَ) أي العدل فأضمر المصدر لدلالة الفعل عليه كقولهم: -
من كذب كان شراً له أي الكذب شراً له،
إن قيل كيف قال: (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وأفعل إنما يقال في شيئين أُشْرِكا في معنى واحد لأحدهما مزية.
وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا هو من جملة العدالة.
فما معنى قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ؟
قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت، فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء، لا على ما عليه
من حقيقة الشيء في نفسه، قطعاً لكلامه وإظهار التبكية، فيقال لمن اعتقد مثلاً في(4/293)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
زيد فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمروا
أفضل منه، فقال أَجزِم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله
تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد عُلِم أن لا خير فيما يشركون
بوجه والآية نزلت في يهود احتالوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: في قريش لما صدوا المسلمين. فأمر الله تعالى المسلمين ألا يتركوا معهم مع ذلك استعمال العدالة.
إن قيل: كيف تصور الظلم وقد أُبيح للمسلمين أن
يقتلوهم ويسبوهم ويسلبوهم وقيل: كل ذلك أُبيح لهم على وجه دون
وجه، متى أُخِل لمراعاة الحكم المسنون في شيء من ذلك، فهو ظلم
بل من فعل الإنسان بالكافر مع ما أمر أن يفعل به قصداً إلى
التشفي منه تحرياً لأمر الله، ففى ذلك تعدياً فأوجب الله تعالى تحري العدالة
مع كل محق، ومبطل وإقامة الشهادة بالحق في كل أمر، وبين الله أنه
تعالى عالم بما يتحرونه، ولا يخفى عليه خافية.
قوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
في قوله: (مَغْفِرَةٌ) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع مفعول وعد الله(4/294)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
كقول الشاعر:
وَجَدْنا الصَّالِحينَ لَهُمْ جَزاءا ... وَجَناتٍ وَعَيْناً سَلْسَبيَلا
فجعل قوله: (لهم) جزاء في موضع المفعول به وعطف على
موضعه قوله: (جَناتٍ) بالنصب والثاني أن مفعول وعد محذوف،
وقوله: (لَهُم مَّغفِرَةٌ) تفسير له وعلى كلا التقديرين لا يختلف المعنى.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
ذلك استئناف كلامهم متضمن للوعيد بتضمن الآية الأولى للوعد.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)(4/295)
قيل عنى قوماً من اليهود هموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وروي: أن يهودياً انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسل سيفه
وقال من يصونك مني، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: الله، فشام سيفه وأذعن لى) .
وذكر نعمة الله لشكره وقد تقدم ذلك ونبه بقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أنه(4/296)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
لا يجوز للمؤمن أن يفزع إلى غير الله في شيء من أموره.
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
النَّقْبُ كالثقْبِ لكن الثقب يقال لما قضى من الجانب الآخر والنَّقْب، قد يقال له ولغيره وباعتباره قيل: النقبة لأول ما يبدأ من الحرب وقيل لضرب من السراويل نقبةٌ، وكلب نقيبٌ مثقوب الحنجرة لئلا يرفع صوته.
والمناقب ما ينقب عنه من المفاخر والنقيب
كالعريف يقال نقب وعرف وهو الذي عنى أحوال الجيش.
قال أبو عبيدة: هو الضامن على القوم.
قال قتادة: هو الشاهد،
وقيل: هو فعيل في معنى مفعول وهو المختار، وذلك إشارة إلى(4/297)
ما قال: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) .
والمذكور في قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)
وأصل التعزير النصرة إما بأن لا يَظلم أولا يُظلم.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال بعضهم: - أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟
فقال: تمنعه من الظلم) .
وتعزير السلطان عى بذلك كما سمي التأديب، وإقراض الله عبارة
عن كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمي ذلك قرضاً تلطفاً بعباده وأن(4/298)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
ما يطلبه منهم مع كونه في الحقيقة مُلكاً له تعالى، يأخذه ليرد عِوَضًه خيراً
منه، وعلى ذلك: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)
والقرض: اسم للمقرض كالعطاء في كونه اسم للمُعْطى.
وقيل: هو موضوع موضع الإقراض، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)
(وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي ضمن نصرتكم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يتصل به قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) .
وقوله: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) .
جملتان فصل بهما بين الكلامين المتصلين على سبيل الاعتراض المؤكد للكلام،
وقال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) أي إن أديتم الفرائض ونصرتم الرسل
وأنفقتم في سبيل المكارم، تجوفي عن ذنوبكم ومكنتم من الجنة، ومن كفر بعد أخذ الميثاق فقد ضل عن الصراط المستقيم.
قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)(4/299)
قد تقدم ذكر نقض الميثاق وقلوبهم قاسية هي كقوله: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) . وقرأ قَسيَّة وقيل هي فعيله منه، وقيل: معناه ليست بخالصة الإيمان من قولهم درهم قسي إذا خالطه غِشية الخائنة.
قيل: مصدر كالخيانة، نحو عوفي عافية (والمؤتفكات بالخاطئة) ، و (أهلكوا بالطاغية) .
وقائله: بمعنى قيلولة. وقيل معناه: تطلع على جماعة خائنة، وقيل: على رجل خاص كقوله راوية وداعية ونابغة قال الشاعر:(4/300)
حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بِالوفَاءِ وَلمْ تَكُنْ ... للغَدرِخَائِنةَ مُغِل الأصبُعً
إن قيل لما قال: (وَنَسُوا حَظًّا) فنكَّر؟
قيل للإنسان حظان: حظ دنيوي، وحظ أخروي، فأشار بقوله (حظًّا) إلى الأخروي.
ونبه بقوله: (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) على أن الله قد ذكرهم ذلك بما وضع فيهم من العقل وبما أنزل عليهم من الكتب فنسوه أي تركوه، واستعارة لفظ النسيان لتركهم إياه مبالغة في ذمهم وتمام القصة عند قوله: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ثم استأنف على سبيل الذم لهم (وَلَا تَزَالُ تَطَّلعُ)
وقوله: (فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح) أمر بالعفو عما يضمرونه،
وقيل: أمر بالعفو عمن دخل في العهد.
وقال قتادة: ذلك منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) .(4/301)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وقال غيره: بل بقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) . والوجه أن يكون أَمَر بالعفو عن المستبطن وعمن دخل في العهد فلا تكون منسوخة.
قوله عز وجل: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
ذم النصارى بنقض الميثاق، كما ذم اليهود وجعل عقوبتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وأصل الغِرَا: من أغرا به أي لصق، وكيفية إيقاع الله الجداوة بينهم على ما تقدم من(4/302)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
نسبته تعالى نحو ذلك الفعل إلى نفسه.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
أعاد بما يخفون من الكتاب إلى مثل إخفاء بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم رجم الزاني، وأخذهم الرشى،
وقوله (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي يتجافى من إظهار كثير مما يخفونه، وبَّين في
هذه الآية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي: - النبوة والعقل والكتاب.
وذكر في الآية التانية ثلاث أحكام، يرجع كل واحد إلى نعمه مما تقدم.
فقوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) راجع إلى(4/303)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) أي بهذا البيان إلى طريق السلامة من
التبعة ممن تحرى مرضاة الله.
قوله تعالى: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) راجع إلى قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ) .
وقوله: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) راجع إلى قوله: (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) . كقوله: (هُدًى لِّلمُتَّقِينَ) .
والسلام قيل هو: اسم الله تعالى نحو قوله: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ) .
وقيل: هو السلامة نحو الخسار والخسارة
والضلال والضلالة.
سبل السلام هي المشار إليها بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) .
قوله عز وجل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وإن قيل: إن أحداً لم يقل الله هو المسيح، وإن قالوا:(4/304)
المسيح هو الله، وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت، فيقولون
يصح أن يقال: المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما يصح أن يقال: الإنسان هو حيوان وهو نبات لما كان مركباً منهما.
قالوا ولا يصح أن يقال اللاهوت هو المسيح، كما لا يصح أن يقال الحيوان هو الإنسان.
قيل: إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت،
وهو ما روي عن عمد بن كعب القرظي: أنه
لما رفع عيسى عليه الصلاة السلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا
ما تقولون في عيسى فقال أحدهم: أتعلمون أحداً يحيي الموتى إلا الله فقالوا
لا، فقال: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقالوا: لا.
فقال: أتعلمون أن أحداً يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله، قالوا: لا.
قال: فما الله إلا مَنْ هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه.
وهذا كذلك. الكريم زيدٌ أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
إن قيل: (فا) في قوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)(4/305)
مما يقتضي تكذيبهم فيما ادعوه قيل:
ذكر تعالى بذلك شيئين اقتضيا تكذيبهم. وذلك أنهم مقرون أن الله تعالى هو
سبب وجود عيسى وأمه. وأنه تعالى غاية الموجودات وسببها ومالكها ولا شيء هو سبب لوجود الله تعالى وأنه أهو مالك قادر على إهلاك كل ذلك، فنبه تعالى بقوله: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أنه لو ارتفع كل ذلك لصح
مع بقائه ولو تُوُهِمَ هو تعالى مرتفعاً لما صح وجودهم، وهذا أوضح دلالة أن
لا يصح فادعوه في عيسى ثَمَّ.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تنبيها أن الإنسان يحتاج إلى الابن ليتقوى به أيام حياته ويخلفه بعد وفاته، والله تعالى غني
عن ذلك إذ هو مالك السموات والأرض وما بينهما وموجودها.
وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) أي اعتقدوا اعتقاداً باطلاً عن ظن كاذب
لأن هذا هو حقيقة الكفر وقيل معناه جحدوا نعمة الله وهذا على اعتبار معنى
الكفر في الأصل.(4/306)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
ادعى كل واحد من اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه وقد رُوي أنهم قالوا ذلك قولاً حذرهم النبي عليه الصلاة والسلام نقمة الله، فقالوا: لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه وزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن وَلَدَكَ بكري من الولد، وأمَّا النصارى فقد قيل إنهم قالوا ذلك لِمَا حُكِي عن قول المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، ورُوي أنهم قالوا: ما اقتضى معناه هذا القول وإن لم يتفوهوا بذلك تفوهاً كقولك: فيمن يدعي تخصصاً بسلطان فلان يقول أنا يد السلطان ولسانه، قيل:
وكانوا يقولون إن غضب الله علينا كما يغضب الإنسان على ابنه وحبيبه.
فكذبهم الله فيما ادعوه من محبتهم له ومحبته لهم، فإن المحبة تقتضي ترك المخالفة ومن أحب الله لم يخالفه، ولهذا قال الشاعر:(4/307)
تَعْصِي الإلَه وَأَنتَ تُظْهِرُ حُبَّه ... هَذا مُحال فِى القِياسِ بَدِيعُ
لَوكَانَ حُبُكَ صَادقاً لأطَعْتهُ ... إِن المُحبَ لِمنْ أَحبَّ مُطِيعُ
ولو أنه يحبهم لما عذبهم.
فقد رُوي أنه إذا أحب الله عبداً تعهده وأحسن إليه. رُوي عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله قال ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببتهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) .
إن قيل: كيف احتج عليهم بهذا ولم يقولوا إنا لا نعذب بل قالوا: إنا لا نعذب إلا أياماً بقدر ما عبدنا فيه العجل؟
قيل: إنه إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الله إياهم، فكأنه قيل: فلم عذب من كان قبلكم الذين كانوا أمثالكم ثم قال: (بَل أَنتُم بَشَرٌ ممَّن خَلَق) أي نسبتكم إليه نسبة العبودية كسائر الناس وإنما يَفْضُل من يفضل بالتقوى، كما قال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .(4/308)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وكرر مع هذه الآية قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) توكيداً لكونهم مُلكاً له، ونبه بقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) على معنى قوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ونحوه من الآيات.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله: (أَن تَقُولُوا) أي كيلا تقولوا بيَّن الله لكم أن
تضلوا.
والفَترَة السكون والبطوء يقال فَتَرَ الشيء فُتُوراً.(4/309)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
وقد تقدم أن بعثة الأنبياء من ضرورات العباد الى لا يسًتًغَني
عنها فعامة الناس يجهلون جزئيات مصالحهم وكلياتهم، وخاصتهم
يعرفون كلياتها دون جزئياتها، ولا يمكنهم أن يفرقوا الكليات.
على التحقيق إلا بعد انقضاء كثير من
عمرهم، فسَهَّل الله السبيل على جماعتهم من هدايتهم
إلى مصالحهم وعلى ذلك قوله:
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)
فبين أنه تعالى أزاح علتهم فيمن بعث إليهم من البشير والنذير
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قيل: ملوكاً أي أحرزوا من رزق المطامع الدنيوية،
وروي عن ابن عباس أنه قال: من كان له(4/310)
زوجة وخادم ودار فهو ملك.
وقيل: من له ما يستغني به عن تكلف
الأعمال فهو ملك. وقيل: جعلهم ملوكاً من حيث ملكوا أنفسهم
بالتخلص من القبط بعد أن استعبدوهم.
وقيل عنى بقوله: (مُّلُوكًا) أي جعلكم بالقوة التي آتاكم مستصلحين لذلك، فإن من له المعرفة بالسياسات الثلاث سياسة لنفسه وسياسة لداره وسياسة لضعفه فهو ملك وإن لم يتولى سياسة غيره.
فجعل النبوة فيهم خاصاً وجعل
الملوكية فيهم عاماً للمعنى الذي ذكرنا، وقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) ممن تقدمهم، وإنما قال ذلك بالإضافة إلى
الأديان فإن الله خلق الإنسان وجعل لهم ديناً ينشأُ حالاً فحالا، فكل يوم
هو في كمال، فدين موسى - عليه السلام - كان أكمل من دين من قبله، ودين عيسى - عليه السلام - أكمل من دين موسى، ودين محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الأديان إذْ كان به كمل كما(4/311)
قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
وقيل: أراد آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين مما عدا الإنسان،
فإن قيل: هذا لا يصح لأمرين أحدهما: أن يسقط تخصيص بني إسرائيل، والثاني: أنه لا يقال: لما عدا جنس العقلاء أحد قيل أما كون هذه النعمة على غير بني إسرائيل فليس يقتضي أن لا يخصصوا بالخطاب، فقد يقال لكل واحد ممن يتنبه على نعمة الله عليه أليس قد منَّ الله عليك بأن أعطاك يداً تبطش به، ولساناً تتكلم به، وليس يقتضي مشاركة غيره في هذه النعمة أن
لا يكون للمخاطب فائدة، وأما قولنا: وإن كان يختص به جنس العقلاء
فقد يقال ذلك لغيره إذا حمع بينه وبين جنس العقلاء كلفظة مَنْ في قوله(4/312)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) فأطلق مَنْ على البهائم
لما كان تفضيلاً لجملة منها العقلاء.
قوله عز وجل: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
الأرض المقدسة: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. وقال مجاهد: هي أرض الطور. وقال قتادة: هى الشام.(4/313)
إن قيل كيف قال: (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ثم قال: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ)
قيل: قال بعضهم: وهب الله ذلك لهم ثم حرمها عليهم لَمَّا تلقوا نعمته
بالرد والكفران.
وقيل: كتب لهم أنهم إن دخلوها فهي لهم.
وقيل: معنى (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي أوجبها عليكم.
إن قيل: فقد كان يجب أن يقول كتب الله عليكم على هذا؟
قيل: إنما ذكر لكم معنى لطيف وهو أنه نبه أنه أوجب عليهم وجوباً يستحقون به ثواباً يحصل لهم.
وذلك كقولك لمن يرى تأذياً بشيء أوجب فيقال: هذا لك لا عليك، تنبيهاً
على الغاية التي هي الثواب. وإذا قيل كتب عليه فليس اللفظ يقتضي
على الغاية التي هي الثواب بل يقتضي مجرد الإيجاب فذكر أنهم امتنعوا من
دخولها لكون قوم جبارين فيها، واشترطوا أن لا يدخلوها إلا أن يُخلُّوا
لهم.
وقولهم (وَإِنَّا لَن نَّدخُلَهَا) فقد قال بعضهم: إن ذلك ليس(4/314)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
بعصيان منهم بل بإظهار العجز عن دخولها، ورُوي أن هؤلاء
الجبارين كانوا قوماً لهم بسطة في الجسم حتى أن رجلين من النقباء ذهبا
يتجسسان فرآهما رجل منهم في بستانه فجعلهما في الكم من الفواكه
ونثرهما بين يدي ملكهم فقال: أنتم تريدون قتالنا، ارجعا إلى قومكم
فأخبراهم بخبرنا.
وقال بعض الناس: الأرض المقدسة، عبارة عن الدين
الحق الذي رشحه الله لهم فامتنعوا من تحريه تفادياً من قوم كانوا على
ذلك الدين، كانوا يُسْتحقَرُون. وهذا بعيد على ما يقتضيه رد
الكلام.
قوله عز وجل: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)(4/315)
قال قتادة: يعني رجلين من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم.
وقيل: من الذين كانوا يخافون من الجبارين فأنعم الله عليهما بالإسلام
فَأَمِنَهُماَ، وقيل: كان يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا وكانا من
النقباء. وبيَّنَا أن الله تعالى يُنزل النُّصرة بقدر الجُهد، وأنكم إذا
بذلتم من أنفسكم الاجتهاد في الدخول عليهم الباب وجدتم من الله
النصرة، ويجعل الغلبة لكم وأمراهم بالتوكل، فكأنه قال: إن كنتم
متوكلين على الله يكفكم على ما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .(4/316)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قوله عز وجل: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
ذكر جهلهم وقلة معرفتهم بالله، وأنهم ما قدروا الله حق قدره حيث أُمروه أن يستصحبه إلى الجواب استصحاب الأشخاص وبكَّتَهم بامتناعهم من الدخول إماً جُبناً وإما قصداً إلى العصيان، وأيهما كان فمذموم.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (أَبَدًا) وقوله: (مَّا دَامُوا فِيهَا) ؟
قيل: إن امتناعهم من دخولها لكون هؤلاء فيها، وإن اعتبار ذلك ليس في وقت دون وقت بل كل وقت، ما يدخلونها من كونهم فيها وروي أن المقداد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما والله ما نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نُقْتل حيث شئت) .(4/317)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قولًهً عًز وجل: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
أظهر موسى شرَّ ما به وبيَّن عذره في غيره وأن ذلك لقلة انقيادهم له.
إن قيل: كيف يصح أن يقول لا أملك إلا نفسي، والإنسان في الحقيقة لا يملك نفسه وأخاه، إذا الملك هو التصرف في الشيء بالبيع والشراء؟
قيل: هذا سؤال من هو بعيد عن متصرفات كلامهم، بل عن معرفة
حقائق الأشياء، فإن الإنسان إذا انقاد له قواه فيما يَسُومُها من فعل
الخير، يقال: هو مالك لنفسه وإذا امتنعت عليه قواه، يقال: هو غير
مالك لها، وليس تصرف المِلِك والمَالك على وجه واحد.
وإعراب قوله: (وَأَخِى) محتمل له أربعة أوجه: الأول الرفع عطف على(4/318)
موضع (إنَّي) .
الثاني: على الضمير في أملك،
الثالث: نصب على المضمر في (إنَّي) ،
الرابع: نصب على قوله: (نفسِى) .
وقوله: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا) أي بين مسكننا في الدنيا.
وقيل: بين منزلينا في الآخرة، ولم يقل بيننا وبينهم
بل قال: (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ليكون دعاؤه أبلغ
وأقرب إلى استعمال الأدب في مخاطبة الله تعالى، ولأنه من يجوز
أن يصلح منهم بعضهم، فيجب أن لا يعين، بل يذكر
الوصف الذي هوالفسق فيتعلق به الحكم، وذكر
الفسق دون الكفر إذ(4/319)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
هو أعم منه.
قوله عز وجل: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قال الربيع: حرم عليهم أربعين سنة، وقال الحسن وقتادة: بل
حُرم عليهم على التأبيد، وإنما كانوا يتيهون أربعين سنة.
فقوله: (أَربَعِينَ سَنَةً) يتعلق بقوله: (يَتِيهُونَ) على هذا،
وتحريم ذلك عليهم قيل: إنه كان(4/320)
تحريم تعبد فإنهم أمروا أن لا يدخلوها.
وقيل: منعوا منها من جهة إضلالهم عنها فإنهم كانوا إذا أمسوا ردهم الله بقوة إلهية إلى حيث ما ارتحلوا عنه فقوله: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) وأنهم ما خرجوا من التيه حتى مات هؤلاء
وانتقل أمرهم إلى أبنائهم.
وروي أن قدر الأرض التي تاهوا فيها ستة فراسخ.
وقد قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه، لأن ذلك(4/321)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
كان عذاباً عليهم دونهما.
ومن لفظ التيه اشتق تَاه فلان وتَوَّهه.
(فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قيل: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة تسلية له بأن المخالفة على الأنبياء عادة الفسقة في
كل زمان.
وقيل: بل هو من حملة ما خوطب به موسى وإن كان فيه
تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
القربان اختص في المتعارف، بالذبيحة المتقرب بها.
وإن كان في الأصل عاماً في كل ما يتقرب، فهو فعلان كالعدوان(4/322)
والشكران والكفران.
قيل: ابنا آدم كانا هابيل وقابيل، وكانا من قصتهما أن حواء ولدت مع كل واحد منهما بنتاً فالتي ولدت مع قابيل سميت إقليميا والتي مع هابيل لبوخ، ثم إن حواء قالت ليتزوج كل واحد منكما أخته المولودة مع أخيه وكانت إقليميا أحسن من لبوخ فقال هابيل سمعت وأطعت، وقال قابيل لا أرضى بل أريد إقليميا التي ولدت معي، وكان غرضه جمالها، فلما اختلفا قال لهما ليقرب كل واحد منكما قربان فمن قبل الله قربانه يتزوج إقليميا، وكان هابيل صاحب غنم وعَهِدَ إلى كبش أنتج فذبحه، وكان قابيل صاحب زرع وعَهِدَ إلى سيء من الفوم رديء فقربه فنزلت نار من السماء وأخذت الكبش وكان ذلك علامة قبول القربان.
ورد في الخبر: أن هذا الكبش حصنه الله في الجنة إلى أن فُدي به ذبيح إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: رعى في الجنة ثمانين خريفاً. وقيل: أربعين،
وقيل إن ذلك في(4/323)
رجلين من بني إسرائيل يقال لهما ابنا آدم فإن إحلال الله للقرابين في
زمن إسرائيل، واستدل هذا القائل بقوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) ، والأول أصح، فقد روى مسروق عن عبد الله، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها) .
والذي لم يُقبل منه القربان إما لكونه، على(4/324)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
غير الوجه الذي كان يجب أن يكون عليه ما لكون صاحبه مقصراً في
سائر عباداته ولما قال أخوه حسداً (لَأَقتُلَنَّكَ) قال:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) حثاً له على التقوى، أي لا تقتلني فإنه إنما
لم يقبل منك لأنك لست بمتق، والله يتقبل من المتقين.
وفي الآية تعظيم أمر الحسد، وأنه يحمل الإنسان على أعظم الكبائر، وقد قيل: أثاني الشرور ثالثه الحرص والكبر والحسد فآدم (أولى) من الحرص وإبليس من الكبر وقابيل من الحسد.
قوله عز وجل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
قال ابن عباس: يعني إن بدأتني بالقتل لم أبدأ بقتلك، ولم يعنِ أني لا أمنعك عني، فمنع الإنسان القائل عن نفسه بقدر وسعه واجب.
وقيل: إن من تعرض لقتله فله أن يدفع عن(4/325)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
نفسه وله أن يستسلم. وعن أيوب قال: أول من أخذ بهذه الآية في
هذه الأمة عثمان، وقيل: قد كان حِينئذٍ يجب أن لا يدفع أحد عن
نفسه، كما روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: (من
لطم من ناحية يمينه فليُمكن من ناحية شماله) ، وذلك عن الحسن
ومجاهد.
قوله عز وجل: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
أي بإثم قتلي وإثمك الذي كان منك فلم يتقبل لأجله قربانك.
إن قيل كيف جاز أن يريد لغيره أن يفعل الشر، وأن يكون
من أصحاب النار؟
قيل: أراد ذلك بشرط القتل أي أريد إن قتلتني أن تبوء بإثمي وإثمك وأن
تكون من أصحاب النار، وهذه الإرادة ليست بقبيحه.(4/326)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
والبًوًاءُ الرجوع، والمباءُ المنزل الذي يَنزلُ فيه الإنسان، وهم في هذا الأمر
بوأ أي سواء يرجع إليه كل واحد مثل رجوع الآخر ومنه فلان بوأ فلان
في القود.
قوله عز وجل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
قوله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) كقولهم أسمحت قرينته وانقادت نفسه، وسولت، يقال: طاعت نفسه، وطوعت وتطوعت، والنفس توصف تارة بأنها طوعت
فيما أمرت من الشر كهذه الآية، وتارة بأنها أمرت بالشر كقوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، ونبه بقوله: (فَقَتَلَهُ) أنه تبع(4/327)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
شيطانه الداعي إلى ذلك تنبيها أن متابعة الشيطان والهوى سبب كل شَر
ولهذا قال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ) ،
وقال: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) إشارة إلى نحو قوله: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) .
قال ابن عباس: أما في الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ،
وأما في الآخرة فأسخط ربه تعالى، وأمر به إلى النار.
قال قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .
قال يُريهم من الإنس قابيل ومن الجن إبليس، فقد روى:
أنه لم يكن يدري قابيل كيف يقتل أخاه فأخذ يطعن رأسه فجاء إبليس
فقال خذ هذه الصخرة فأشدخه بها.
قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)(4/328)
قال ابن عباس: لما قتل أخاه تحير لم يدرِ كيف يفعل به فقيض الله تعالى
غرابين تقاتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فتنبه قابيل لدفن أخيه،
ووجه ذلك أنه ما من صنعة يتعاطاها الإنسان بالتعلم إلا وقد سخر الله لمثل ذلك الصنعة حيوانا يتعاطاه، وجعل الله تعالى ذلك سبباً لتعلم الناس ذلك منه، فمن الحيوان ما يسبح ومنها ما يمشي ومن عادة الغراب دفن الأشياء فلما رأى قابيل ذلك تنبه لما يجب أن يفعل فاستصغر نفسه لقصوره عن معرفة
ما اهتدى إليه الغراب، فأخذ يتحسر، ويتولول وندم ندماً لا يثنيه
ولا يحد به كما قال الشاعر: -
َ.............. ومَا يُغْنِي مِنْ الْحَدَثَانِ لَيْتَ
وليست هذه الندامة بندامة التوبة.(4/329)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الأجل: قطع الماء والآجل وقت مقطوع يقطع من وقته، والآجل نقيض العاجل وهو الذي جُعل له أجل ما، والأَجَلُ قطيع من الغنم، وذلك لقولهم الصُّرمة والقطعية والفرقة ونحوها مما اشتق من الأسماء المتضمنة لمعنى القطع. وأَجَّل فلان على فلان جنى عليهم جناية. أجله حضر.
قوله: (مِن أَجلِ ذَلِكَ) أي من جناية ذلك، وقيل: من سبب ذلك كقولهم من أجله وبَّين بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أنه كان من أول من سنَّ القتل.
وعنده شُرع هذا الحكم، وذلك كقولك من أجل ماعز شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الرجم، أي عنده شرع، وإنما خص بني إسرائيل
دون غيرهم لأن كتابهم أول كتاب بيَّن فيه فيه الأحكام.(4/330)
وقيل: لأنه كثر منهم القتل، وبيَّن أن الساعي في قتل نفس لم يلزمها قتل
ما يقتضي الاقتصاص أو فساد وذلك إلى نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: (كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان) .
وقوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)(4/331)
فإن الناس لما كانوا كجسم واحد ونسبة آحادهم إليه كنسبة
أعضاء الجسم الواحد إليه، صار الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعي في
إهلاكهم، كما أن الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعى في إهلاك
كله، صار قتل الواحد كقتل الناس، ولهذا جاء في التفسير أن المؤمنين
خصم للقاتل ولهذا قال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) ، وقال مجاهد: فلو قتل الناس جميعاً لم يرد
في جزاءه على جزاء قوله: (وَمَن أَحيَاهَا) أي من نجاها من الهلاك إمَّا
بالحماية عليها، وإمَّا بالعفو عنها إذا لزمها قِصاص يستحب منه العفو.
قال مجاهد: (مَنْ أَحْيَاهَا) أي من ترك قتلها.
قال الحسن: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا) أي من أضله عن طريق الهدى،
(وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي دعا مشركاً إلى الإيمان فهداه وأرشده(4/332)
فكأنما أحيا آدم عليه الصلاة والسلام وولده إلى القيامة.
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) . تنبيه أن الله لم يخلهم من بشير ونذير على عبادته في الأمم.
والإسراف: الإبعاد في الخروج عن الحق، وعن الاستقامة التي هي
العدالة في كل شيء هذا أصله، وإن تُعورف في الخروج عن العدالة في إنفاق
المال، وقد وصف قوم لوط بالإسراف لخروجهم عمَّا أبيح لهم إلى ما حُظر عليهم، فبيَّن تعالى أن كثيراً منهم بعد مجيء رسلهم بالبينات يخلون بالعدالة وما شرع(4/333)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
لهم وأبعدوا في التعدي.
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
محاربة الله ورسوله: هو السعي في الأرض بالفساد، وسمي ذلك محاربة الله ومحاربة رسوله تعظيماً، والسعي في الأرض قيل: هو في الصحراء،
وقيل: هو في البلد أيضاً، وهو الأصح.
قال الحسن: الآية نزلت في المشركين المحاربين
والحكم مختص بهم، وقيل: نزلت في العُرَيْنيِّينَ، وذلك أن قوماً من عُرَيْنَة(4/334)
أتو المدينة وأسلموا وأقاموا ما شاء الله ثم شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة واستأذنوه في الخروج إلى لقاح الصدقة ليقيموا فيها إلى أن يَصِحُّوا وأذن لهبم، فنالوا من ألبان اللقاح، وثابت قواهم، ثم ارتدوا، وقتلوا الرُّعاة، وساقوا اللقاح، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم في طلبهم فأُخذوا وقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمِلَتْ أعينهم، ولم تسلم دمائهم حتى ماتوا.
وقيل: الآية في أهل العهد، وأكثر الفقهاء حملوا على المسلمين أيضاً،(4/335)
وجعل مالكٌ: الإمام مخيراً فيمن سعى بالفساد من الأحكام الثلاثة،
وقد رُوي ذلك عن ابن عباس. وجعل غيره الحكم ترتباً، وقال من قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، وقتل فقط قيل لم يصلب. ومن أخذ المال
فقط قطع يده ورجله من خلاف يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يُقتل
ومن لم يأخذ المال وإنما يُخوَّفُ ينفى من الأرض، وذلك بأن يطلب.(4/336)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
فإن تاب قبل القُدرة عليه عُفي عنه، وإلا أخذ فحبس.
وقيل: نفيه: طرده من بلد إلى بلد. روي ذلك
عن ابن الزبير وعن ابن عبد العزيز،
وقيل: الطلب، وقيل: القتل بعد القتل، ردعاً لغيره، ونبه على تعظيم
ما ارتكبه أنه يجمع عليه حد الدنيا، وعقوبة الآخرة.
قال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
الاستثناء راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب
__________
(1) الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم - رضي الله عنه -.(4/337)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
وفي إقامة الحدود، وقال بعض الفقهاء: كل حق لله مختص بقَاطع
الطريق فالتوبة قبل القدرة يُزيل ما عليه إن كان من حقوق الله،
وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوسيلة: القربة وهي دون الوصيلة،
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لكل من أظهر
الإيمان سواء كان في مبدئه، أو في وسطه، أو في منتهاه.
وتقوى الله: - هو الامتناع عن المحارم، وتحري الواجبات،
وابتغاء الوسيلة، كما قال عليه الصلاة السلام حكاية عن الله عز وجل:(4/338)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
(ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل) الخبر.
والمجاهدة في سبيله: هو بذل الجهد فيما تقدم من إقامة الفرائض، وبيَّن
أنكم إذا فعلتم ذلك كنتم راجين للفلاح المذكور في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) . والفلاح العام: هو البقاء بلا فناء، والغنى بلا فقر، والقدرة
بلا عجز والعزُّ بلا ذل. ونبه باختصاص لفظ الابتغاء على بذل الجهد.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
أي لو حصًّل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصداً
بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه لم ينفعه، وذلك حثٌّ على المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد.
وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال
ْ(4/339)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
للكافر يوم القيامة، أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهَبا لكنت
مفتدياً به، فيقول: - نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أهون من ذلك فأبيت) (1) .
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ) الواو عطف، أو يكون بما بعد حال.
قوله عز وجل: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
أي يسألون أن يخرجوا منها، وذلك هو المذكور في قوله: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) ، والمقيم الذي لا يزول ولا يتحول،
قال ابن عباس: كل شىء من أمر الدنيا يبلى ويفنى،
__________
(1) نص الحديث في البخاري (6057) هكذا:
" يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ ".(4/340)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وكل شيء من أمر الآخرة يبقى ويتجدد.
قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) نبه بذلك على أنهم
يحتالون لذلك ولا ينفعهم.
قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
السارق: المتناول مال غيره مستتراً،
وقد يقال: للخائن سارق على التشبيه.
وقول - صلى الله عليه وسلم -: (أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته) فعلى التشبيه.
واختلف في الآية، فمنهم من قال: هو مجمل كقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وإجماله(4/341)
من حيث يحتاج إلى شرائط لا يُنبئ الظاهر عنها.
ومنهم من قال: هو غير مجمل من حيث إنه يتناول لكل سارق،
وما لم يُرِد منه فهو مخصص،
وقال بعضهم: الألف واللام في (السارق والسارقة) للعهد.
والآية واردة في سارق المِجَن، وامرأة سرقت، لكن الحكم عام من حيث إنه قد ثبت أن حكم الشريعة في الواحد حكمها في
الجماعة من شرطهم شرطه.
وقال بعضهم: هو للجنس، وبعضهم جعلها بمعنى الذي، وذلك يتضمن معنى الشرط ويكون مفيداً للعموم.(4/342)
وقراءة عامة القراء (السارقُ) بالرفع، وكان عيسى ينصب نحو قولهم زيداً
فاضربه، والوجه الرفع؛ لأن النَّصب مختار حيث لا معنى للشرط، نحو زيداً
فاضربه، فأما كل لفظ متضمن لمعنى الشرط فالرفعُ نحو قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ، ونحو: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) .
إن قيل: لم قدم المذكر في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(4/343)
وأَخَّر في قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ؟
قيل: لأن السرقة أكثر ما يوجد بالرجال، والزنا أكثر ما يوجد سببه من النساء، بل توهمنا امتناع انقياد المرأة أصل وجود الزنا.
وبيَّن أن الله تعالى عزيز في انتقامه، حكيم في حكمه.
واختلف في قدر ما يقطع به، فروي عن عمر وعلي أنه يقطع في خمسة،
وعن أبي سعيد الخدري في أربعة، وعن أبي بكر في ثلاثة،
وعن ابن عباس في عشرة، وعن عائشة في ربع دينار،
وإليه ذهب الشافعى، ومالك والحسن في(4/344)
ثلاثة، وقال أبو حنيفة: لا يقطع من يسرق طعاما
يسرع إليه الفساد، أو ثياباً أوحديدا، أو قصباً، أو
زرنيجاً، ونَوْرَةَ، وقد روى: (ولا يقطع في ثمر ولا كثر) ،(4/345)
وقال الشافعي: ما لم يُحَّرز فأمّا إذا أحرز وبلغ قيمتُه ما يُقطع فيه
قُطِعَ، وأما قدر القطع من اليد فعند الخوارج من المنكب وعند غيرهم من
الرسغ.
وقد روى أبو هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقاً من
الكوع) .(4/346)
ولأن المقصد بقطعه أن لا يبطش، ولا يتناول بها، وبذلك يحصل
الغرض، ولا يقطع إلا يمينها بدلالة قراءة ابن مسعود (فاقطعوا
أيمانهما) فذلك يؤخذ به حكماً، وإن لم يؤخذ به تلاوة.
وإنما ذكر الأيدي بلفظ الجمع، وتارة بلفظ الاثنين، وتارة بلفظ الواحد كقول الشاعر: -(4/347)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
ظَهْرَاهُما مِثلَ ظُهُور التَرْسينِ
فذكر في موضع مثنى، وفي موضع مجموعاً، وقال:
كلوا في بعض بطنكم تصحوا
فأتى بلفظ المفرد، ومتى كان شيئاً لاثنين يصح اشتراكهما في أحدهما
لا يصح أن يذكر إلا بلفظ التثنية، لئلا يشتبه نحو رأيت عبداكما، ولا يصح إذا أردت الاثنين أن يقول: عبدكما أو عبيدكما.
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد، ورُجىَ له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رُجيَّ له الغفران، ولم يسقط عنه الحد بدلالة ماروي ابن عمر: (أن امرأة سرقت على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقطعها، فقال قومها: نحن نفديها خمسمائة دينار، فقال: اقطعوها، فقطعوا يمناها، فقالت المرأة: - هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم، أنت اليوم في خطيئتك كيوم ولدتك أمك) .(4/348)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
فأنزل الله (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ، ولم يقل: بعد سرقته، ليكون عاماً في هذا الحكم، وفي غيره، واشترط إصلاح العمل تنبيها أن التوبة باللفظ غير مُغنية ما لم يضامها ما يحققها من الفعل، وجعل علة قَبُول توبته كونه تعالى غفوراً رحيماً.
قوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
لما أمر بالتقوى، وابتغاء الوسيلة إليه بالجهاد في
سبيله، ودعاهم إلى الفلاح وبيَّن قبلُ ما يلزم المحاربين، وبعدُ ما يلزم
السُرَّاق، وذكر قبول توبتها، ذكر قدرته على تعذيب من يشاء، وغفران
لمن يشاء في الدنيا بما شرعه، وفي الآخرة بما قدره.
وقال ابن عباس: فيعذب من يشاء على الذنب الصغير،
ويغفر لمن يشاء على الذنب الكبير،(4/349)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
وفي هذا النحو قال الشاعر:
يعفوا الملوك عن الكبير ... من الذنوب بفضلها
ولقدتُعاقِب في الصغير ... وليس ذاك بجهلها
إلاليُعرف فضلها ... ويخاف شدة ملكها
وإنما قال يعذب من يشاء فقدم ذكر العقوبة على الغفران، لأن القصد بما
تقدم الردع عن ارتكاب ما يقتضى عقوبة الدارين فكان تقديم ما يقتضي ذلك
أولى.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)(4/350)
قيل: نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إلى السيِّدين، سيد الأوس وسيد الخزرج، سعد بن معاذ، وسعد بن
عبادة، فاستشار قريظة أبا لبابة أننزل على حكم محمد؟ فأشار
إليهم بأنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زلت قدماي حتى علمت أني قد
خنت الله ورسوله، والآية عني بها أبو لبابة والمنافقون الذين وصفهم في قوله:(4/351)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) .
وقوله: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يكتسبونه عاجلاً شيئاً
بعد شيء، على خلاف ما قال فيه: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) .
وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وقوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قائلون له، وقيل: سمَّاعون كلامك
لأجل أن يكذبوا عليك، ويسمعون ذلك لأجل قوم آخرين.
وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن، ويكذبون عليه.(4/352)
وقيل: يحرفون حكم التوراة، وذلك كقوله في البقرة: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إلى قوله: (وَهُم يَعلَمُونَ)
وقوله في آل عمران: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) .
وقوله: (هَذَا) أي الحكم الذي قلناه، وقيل: الدِّية.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله موضعه، وبيَّن أحكامه.(4/353)
وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي أمركم محمد بغير ذلك فاحذروه.
وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) قال الحسن: عذابه كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) .
وقال السدي: ضلالة. وقال الزجاج: فضحيته
وقوله: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي من الكفر عقوبة لهم،
وقيل: لم يحكم بطهارة قلوبهم.
والقولان مرادان على نحو ما تقدم من أمثال هذه الآية.
وذلك بخلاف من وصفهم بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) .(4/354)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
وقوله: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) .
وقد قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) .
وقوله تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي يستحي منه من السبي والقتل والجلاء.
قوله عز وجل: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
السحت والمحق متقاربان معنى، لتقارب لفظيهما.
لكن السحت أبلغ إذ هو الاستئصال شيئاً فشيئاً يقال: سحته(4/355)
فأسحته، وسمي الحرام والمستقبح من الكسب والوخيم العاقبة منه سحتاً، كما سمي الحرام ناراً في قوله: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) ، وفسر
السحت هاهنا بالرَّشوة تفسير العام بالخاص.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا الآمراء من السحت) .
والمقصود من الآية مثل ما قاله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) .
وقيل: عنى بالسحت الربا، المذكور في قوله:(4/356)
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) .
واختلف في قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، فقال: ابن عباس: -
نُسِخَ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فجعل حكم التخيير
منسوخاً بإيجاب الحكم بينهم.
وقال الشعبي: بل حكمه ثابت.
وقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) حث على
استعمال العدالة عند تولي(4/357)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
الحكم لا إيجاب وعلى هذا قال الحسن: خلُّوْا بين أهل الكتاب وحاكمهم
وإذا ترافعوا إليكم فاحكموا بينهم بما في كتابكم.
وقال بعضهم: التخيير قبل أن (يعقد) لهم الديَّة والجزية، والإيجاب (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) بعد عقد الدية لهم بالجزية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس قال: ويدل أن الآية نزلت في
بني قريظة والنَّضير ولم يكن لهم ذمه.
قوله عز وجل: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أنكر الله تعالى تحكيمهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لا يؤمنون به وعندهم الحكم في التوراة، والمعنى هاتين الحالتين(4/358)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
مستنكر بتحكيمهم إياك،
وقوله (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصدقونك فيما تحكم به،
والواو واو حال.
وقوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
الهدى والنور إشارة إلى معنى واحد، لكن الهدى يقال
اعتباراً بالأدلة المنصوبة، والنور اعتباراً بما يعين على معرفة الأدلة، تشبيهاً بنور البصر، ونور الشمس.
وقيل: الهدى إشارة إلى ما فيه من الحكم
الشرعي، والنور إشارة إلى ما فيه من الحكم العقلي،
وقد يُسمى كل واحد من المعقول والمشروع تارة نوراً وتارة هدى.
إن قيل: ما معنى قوله: (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) والنبي لا يكون غير مسلم؟
قيل: الإسلام هاهنا الإخلاص لله في التوكل عليه وتفويض الأمر إليه، نحو قوله:(4/359)
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) .
وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) .
وقوله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) .
وقوله: (اَلَّذِينَ أَسلَمُوا) صفة لهم على سبيل المدح لا على
سبيل التخصيص، أو بدل من قوله: (النَّبِيُّونَ) ، واللام في قوله:
(لِلَّذِينَ هَادُوا) متعلق بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ) ... للذين هادوا.
وقيل: متعلق بقوله: (فِيهَا هُدًى) ومعنى هادوا: أي تابوا(4/360)
من قوله: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) .
وقيل تقديره: يحكم بها النبيُّون الذين هادوا، والمعنى يحكم لهم وعليهم، لكن المعنى تذكيرهم عن داعيهم وعلى هذا قال بعضهم: يحكم فيهم، لأن قولك فيهم يتضمن معنى وعليهم،
وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) قيل: متعلق بالأحبار، أي العلماء بما استحفظوا، وقيل: متعلق بقوله: (يحكُمُ بِهَا) لأجل ما استحفظوا أي لما استُودِعوا، وقوله: (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي هم من جملة من قال فيهم: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) ،
وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
يتعلق به الخوارج، وزعموا أن التارك(4/361)
لحكم الله على كل حال كافر، وقال غيرهم: ومن لم يحكم بما أنزله جاحدا فهو كافر، وقيل معناه: من لم يحكم بأن ذلك عامداً له فهو كافر، وقيل:
الكافر هاهنا جاحد للنعمة من الكفران لا من الكفر،
وقيل: الكفر يقال على ضربين: كفركبير، وهو المذكور في قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية.
وكفر صغير وهو المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام:
(من ترك الصلوات فقد كفر) ، وعلى هذا قال ابن جريج: كُفر دون كُفر،(4/362)
وظُلم دون ظُلم، وفِسق دون فِسق، قال الحسن: إن الله تعالى أوجب على الحكام ثلاثا، أن لا تتبعوا الهوى، وأن تَخْشوْهُ ولا تَخْشوا الناس، وأن لا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، قال وعلى هذا قوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) .
وقد استدل بهذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
متعبد بأحكام من قبله.(4/363)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله عز وجل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
أخبر تعالى بما أوجب عليه من القِصَاص.
واتفق الفقهاء: أن ذلك واجب علينا لوجوبه عليهم، لكن منهم
من قال: لم يكن في شريعتهم الدِّية، وقد جعلها في شريعتنا تخفيفاً على هذه الأمة،
وقوله: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يقتضي القَوَدُ فيه فقاءاً كان أو إذهاباً بضوئها.
ومن قال لا يُفعل من ذلك إلا الفقاء فليس بشىء، فالعين ليست بالعين في الحقيقة إذا لم تكن مبصرة بل بالأعضاء كلها إذا بطلت منفعتها خرجت عن أن تكون في(4/364)
الحقيقة إياه إلا اعتبار الصورة التخطيطية، وذلك غير معتدٍ به ما لم يكن فيه
النفع.
واختلف الصحابة في عين الأعور، وهل يلزم فيه القَودُ ودِّية كاملة.
فمنهم من أوجب ذلك فيها لكونها سادَّة مسدَّ العينين.
والأنف يلزم فيها القصاص بالقطع.
وقال أبو حنيفة: إذا قطع الأنف من أصله فلا قصاص لأنه
لا يمكن اسشيفاؤه فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد.
وقوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) إيجاب للقصاص في سائر الجراحات،
وقرئ: (وَالعَينُ بِالعَينِ) بالرفع كقولك: إن زيداً منطلق، وعمروا ذاهب.(4/365)
وقوله: (وَالْجُرُوحَ) إذا قُرئ بالنصب فعلى العطف، وإذا قُرئ
بالرفع فعلى الاستئناف،
وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) خطاب لولي القتيل وللجروح حثٌّ له على العفو، وذكر لفظ التصدق تنبيهاً على أن عفوه جار مجرى صدقةٍ يستحق بها ثواب، وتصير كفارةً له، وذكر هاهنا أن تارك الحكم بما أنزله ظالم، والظلم أعم من الكفر، لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرا.(4/366)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
ولذلك قال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
وقوله عز وجل: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قفيناه: بعثناه خلفه، يقفوه: أي يتبع قفاه، ومنه قافية الشعر، والقفي: الضيف الذي يبعث خلفه تكرمه له، والأثر: ما يظهر للحاسة، والإثار الاختيار، واستثاره اختاره لنفسه،
والهدى: يقال لما يستدل به، والموعظة لما يوعظ به، والفسق أعظم(4/367)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
من الكفر والظلم، وأصله الخروج إلى حظر الله، من قوله: فسقت
الرطبة إذا خرجت عن طلعها.
إن قيل: لم كرر قوله: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَين يَدَيه مِنَ التَّورَاةِ) ؟
قيل: يجوز أنه أراد بالأول مصدقاً لما بين يدي التوراة، وبالثاني نفس التوراة، فبين أن عيسى عليه الصلاة والسلام أتى بما يُصدق به موسى، وكتابه أتى بما يصدق كتاب موسى.
قوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)(4/368)
المهيمن: قيل الحفيظ، وقيل الرقيب، وقيل: الأمين، وقيل: الشاهد،
قال أبو عبيدة: الحاذق في علمه، وقال ابن عيينه: أصله مُؤيمن فقلبت همزة هاء، كما قالوا: - أهرقت في قولهم أرقت، وقد قيل: همين يهمينه. وحقيقة المعنى أنه جعل هذا الكتاب حافظاً ومستولياً لسائر ما تقدم من كتبه يحكم عليها وهي لا حكم عليه، وينسخها وهي لا تنسخه، وصح على هذا: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ، يعني ما ننسخ من(4/369)
الكتب المتقدمة (نأت بخير منها) ، يعني من الكتاب العربي.
والشرعة والشريعة: في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من (1) الدين الذي يوصل إلى الحياة الأبدية، كما سمى كتابه المهيمن على ما تقدم.
ومن أصله: أشرعت القِباء وشُرعت في الماء، وهم شرع.
والمنهاج: الطريق المستقيم، يقال: طريق نهج ومنهج.
إن قيل: ما الفرق بين الشرعة والمنهاج؟
قيل: قال بعضهم: الشرعة إشارة إلى الدين وهو الشرع، والمنهاج: إشارة إلى الدليل الذي يتوصل إلى معرفته والتخصيص به،
وقد رُوي عن ابن عباس أنه قحال: شرعةً ومنهاجاً: ديناً وسبيلا.
إن قيل: كيف قال: (لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرْعَةً وَمِنهَاجًا) فاقتضى ذلك أن
__________
(1) كأن هنا سقط في الكلام واتضح ذلك بمراجعة فتح القدير حيث ذكر: الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من الدين، انظر (2 لم 48) . وذكر الراغب في مفرداته قريبا من هذا المعنى في مادة شرع.
وقد نقل الآلوسي عن الراغب في تفسيره (2 لم 153) قال: وقال الراغب سمي الدين شريعة تشبيهاً بشريعة الماء من حيث أن من شرع في ذلك في الحقيقة روى وتطهر، وأعني بالري ما قاله بعض الحكماء كنت أشرب الماء فلا أروى فلما عرفت الله رويت بلا شرب، وبالتطهر
ما قال تعالى: (وَيُطَهِّرَكم تَطهيرًا) .
والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح،
والعطف باعتبار جمع الأوصاف.(4/370)
لكل واحد من الأنبياء شريعة غير شريعة الآخر، وقال في موضع:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .
فذكر أنه شرع لجميعهم شريعة واحدة.
قيل: الذي استوى فيه شريعة جُماعِه هو أصول الإيمان والإسلام، أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم والقرابين، فإن أصول هذه الأشياء لا ينفَّك منها شرع بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد به كل واحد من الأنبياء فروع العبادات من كيفياتها وكمياتها، فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل أمة، وعلى مقتضى الحكمة من الأزمنة المختلفة،
ووجه آخر: أن الشرائع إذا عتبرت بالشارع(4/371)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
فمقتضى حكمته يصح أن كلها واحدة، وكذا إذا اعتبرت لغرض والقصد الذي هو مصلحة المشروع له وإذا اعتبرت بذوات الأفعال فهي شرائع كثيرة، وعلى هذين النظريتين، قال الله تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ، وقال في موضع آخر: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ،
وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) ، كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) .
قوله عز وجل: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
قوله: (وَأَنِ احْكُمْ) فهو معطوف على معنى الكتاب، وقوله: (مُصَدِّقًا) إلى قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(4/372)
أي أنزلنا بأن احكم.
وقيل: من الواجب أن احكم، والأول أوجه، لأنه لا يقع أن افعل إذا كان بعده أمر إلا من موقع المصدر.
ويتقارب فتله عن كذا.
(فِتْنَةٌ) ولكن فتنه يقال في الصرف عن الخير والشر، وفتله يقال في الصرف عن الخير.
إن قيل: لم قال: (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فخص البعض؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه عنى بذلك الكفر والنفاق الذي لا غفران فيه، لكن ذكر البعض منها يكون أردع للعباد.
والثاني: لأنه ذكر البعض للمبالغة تنبيها على أنه
إذا أصابهم ببعض الذنوب يقال في كلٍ أولى.
إن قيل: لما كرر (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ؟
قيل: قال بعضهم: إن ذلك في حكمين:
حكم في المحصن، وحكم قتيل كان فيهم، ففرق كل واحد منهما نهي عن(4/373)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
الهوى، تنيبها أن الهوى لا يسفر عن نجاح ولا في صلاح.
وقال بعضهم: - تقدير الكلام أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وبأن احكم
بما أنزل، وبأن لا تتبع الهوى، فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع الهوى فأخبر بإنزال ذلك أولاً، ثم أمر به أمراً مجزماً، وقدم الأمر على الإخبار عن الأمر به
تأكيداً، وتقدير الكلام: - قد أوجبت عليك الحكم بذلك، وترك إتباع الهوى فاحكم بذلك.
قوله عز وجل: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أنكر عليهم تحريهم الجاهلية وتركهم لحكم الله، ثم قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
تنبيها أن ذلك يعلمه الموقن،
وقوله: (لِقَوْمٍ) قيل: عند قوم،(4/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
وقيل: أراد لقوم (يُوقِنُونَ) عليهم، فدل مالهم على ما عليهم.
إن قيل: كيف يكون حكم أحسن من حكم إذا كانا حقين؟
قد يحكم أحد الحاكمين بعلم يحكم الآخر بغلبة ظن، وكلاهما حسنان، والأول أحسن، وقد يجتهدان في حكمين وأحدهما أقرب إلى الحكم نحو اجتهاد داوود وسليمان.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
الاتخاذ الاعتماد هاهنا، وأصله افتعال من الأخذ، والأخذ حوز الشيء وذلك تارة بالتناول، وتارة بالاعتماد عليه، وتارة بالإهلاك نحو: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) .
الآية، نزلت في عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أُبي(4/375)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
لما تبرأ عبادة من مولاة اليهود، وتمسك عبد الله بها وقال أخاف الدوائر.
وقيل: نزلت في أبي لبابة بن المنذر لما نصح لليهود وأشار بأنه الذبح،
وقال ابن عباس والحسن: إنها نزلت في نصارى بني تغلب
قال قوم إنهم كبني إسرائيل في جواز أكل ذبائحهم، لأنه قال: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) .
قوله عز وجل: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)(4/376)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
أي ترى المنافقين يسارعون في الدخول في جملتهم،
وقيل: يسارعون في مرضاتهم،
والدائرة: دوران الأمر من قولهم والدهر بالإنسان دواري.
والدورة والدولة يتقاربان،
والفتح قيل فتح مكة، وقيل: بل نفعاً أتى من الله.
والأمر هاهنا واحد الأمور يأتي بأمر لا يعرفون سببه ووجه إلزامهم في ذلك أن الأمور ضربان: واجب، وممكن، وما وعد الله تعالى من نصرة المؤمنين فواجب كونه أي صادق الوجود. يقال: هب أن لك ليس من الواجب إما جعلتموه من الممكنات التي عسى أن تكون، فأخبر أن المنافقين يميلون إلى الكفار ويقولون لا نأمن أن تكون لهم دولة على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لقلة إيمانهم بما ضمن الله من نصرة المؤمنين وقال تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) على ما فعلوه، ونبه أنه يأتيهم بذلك، فإن عسى منه واجب.
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)(4/377)
أي أقسموا أن يوالوكم على الكفار، ولم يفعلوا،
وقوله: (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي أبلغ الإيمان وأقصاها من قولهم جهد
في الأمر ونصبه على المصدر،
وقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يصح أن يكون معطوفاً على ما حكى عن الذين آمنوا، ويصح أن يكون استئناف كلام من الله على طريق الإخبار،
وعلى طريق الدعاء عليهم.
وإذا قرأ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فتقديره: عسى الله أن يأتي بالفتح، وأن يقول الذين آمنوا.
وقرأه أهل المدينة، يقول الذين آمنوا بغير الواو.(4/378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
وإنما قال: (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) فخص لفظ الإصباح لأمرين:
أحدهما: لما كان أكثر محاربتهم وغاراتهم وقت الصباح كثر عبارتهم عن التغيرات وعلى هذا قول الشاعر:
يَا راقداً الليلَ مسروراً بأوله ... إن الحوادثَ قَدْ يَطرقنَ أسحاراً
والثاني: أنه لما كان بالإصباح انتهاء الظلمة، وانتشار الأشعة، وظهور ما كان بالليل مستتراً خص (فأصبحوا) تنبيهاً على زوال غمة الجهالة وظهور الخفاء كقولهم فِى المثل لما يظهر: بزغ الخفاء بداء الصبح لذي العينين،
ونحو ذلك.
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قرأ أهل المدينة من يرتدد وذلك لغة.
قوله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ليَني الجانب على المؤمنين،(4/379)
كما قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الآية،
وقيل: هى فيمن ارتد في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، وقيل: فيمن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأظهر أنه فيهم وفي غيرهم، وأنه وعد تعالى أنه يحفظ دينهم بقوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويتحرى مرضاتهم ويتحروا مرضاته، وذلك كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) .(4/380)
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) .
وقد تقدم حقيقة محبة الله للعباد ومحبتهم له، وجعل من حقيقة محبتهم لله أن وصفهم أنهم أذلةٍ على المؤمنين، أي متواضعين، فالتواضع الانقياد لما يورث رقة والتعزز على من يورث صعبة، وفي وصفهم بذلك وصف ينفي الجهل
عنهم، وحصول العلم لهم، وتهذيب أنفسهم فإن التواضع ثمرة العلم وتهذيب النفس، وقد تقدم أن الجهاد ضربان: مجاهدة الغير، وذلك إما
باللسان، وإما بالبنان، ومجاهدة النفس، وذلك بإصلاح القوة العلمية، وإصلاح القوة العملية.
المجاهد إمَّا مجاهد للنفس، وإمَّا لشياطين الإنس والجن،
قال بعضهم: - جهاد النفس أن لا نتركها تفتر عن الطاعة، وجهاد
الشيطان أن لا يجد منك فرصة فيأخذ منك حظاً، وجهادُ العَدُوَّان تدنوا من
صفة المسلمين.
قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) أي الجهاد في سبيل الله، وما ذكر
به القدم للذين يحبهم ويحبونه: (يُؤتِيهِ) أي المستحقين.(4/381)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
قوله عز وجل: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
الولي والمولى: متقاربان، لكن الوليَّ من الأسماء المتضايفة، ويقتضي أن من واليته مواليك، وقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) .
وقال في صرضع: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) ، وقال: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا)
وقال: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ) .
لما نهى عن موالاة الكافرين خاطب المؤمنين بأن لا يغتروا بهم، وأن يعلموا أنهم مواليهم الله ورسوله والمؤمنون، ثم وصف المؤمنين الذين يوالونهم، فقال: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) أي يوفون حقها، لا الذين وصفهم بقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) الآية.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تقديره: من يتول(4/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
هؤلاء فهو من حزب الله، وحزب الله غالب، فإن من يتول الله ورسوله
غالب.
(وَهُم رَاكِعُونَ) قيل: أي خاشعون كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) .
وقيل: عنى ركوع الصلاة، وذلك نزل في علي - رضي الله عنه -، فإنه تصدق بخاتم وهو في الصلاة، فالراكع يريد به الركوع
الذي هو أحد أركان الصلاة.
واستدل بالخبر والآية على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها،
وفيه دلالة على أن الصدقة النافلة تسمى زكاة.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)(4/383)
الذين آمنوا هم المخاطبون في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ، والمذكورون في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)
ونهاهم عن موالاة المتهكمين بدين الحق أي عن الاستعانة بالمشركين،
وقد روي أن قوماً من اليهود أتوه ليخرجوا معه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لا نستعين بمشرك) ، وقد تقدم أن الاستعانة بهم لا تجوز على وجه يكونون هم الغالبون.
فأما أن يستخدموا في المهن، وما يورثهم المهانة لا العز فجائز.
قُرئ (وَالكُفَّارَ) بالنصب، معطوفاً على قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا) ،(4/384)
وبالجر معطوفاً على قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وعنى بالكفار من عدا أهل الكتاب من ملحد وعابد وثن،
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تنبيه: أن من شرط الإيمان مضامة التقوى، ومن شرط التقوى الغضبَ لدين الله، وتركُ موالاة من اتخذ دينكم هزواً ولعباً، ومن لا يغضب لدينه فليس بمؤمن حقيقة.
وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) معطوف على قوله:
(اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا) وداخل في صلة الدين، ومن تمام
وصفهم كأنه قيل: اتخذوا دينكم هزواً ولعباً واتخذوا الصلاة هزواً ولعباً إذا ناديتم إلى الصلاة، وهذا تخصيص بعد العموم، أي يتخذون الدين جملةً هزواً
ولعباً، ويتخذون النداء إلى الصلاة كذلك، ونحوه قوله: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) و (مِن) في قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) للتبيين وإظهار ذلك من يفعل ذلك وليس هو التخصيص.(4/385)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
يقال: نَقِمَ ونَقَمَ عليه نِقْمةً إذا أنكر ما فعله وسَخِطَ عليه ولتضمين النقمة
السخط والإنكار استعمل في كل واحد منهما على الانفراد، والسبب في نزول هذه الآية أن قوماً من اليهود أتوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: عن من يؤمن بالله، فقال: (
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)
الآية، فلما سمعوا ذكر عيسى نقموا فأنزل الله ذلك تنبيها أنكم أنكرتم غير
منكر وهو إيماننا مع فسقكم، ومخرج هذا الكلام الإنكار لقول الشاعر:(5/386)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
وَمَا نَقَمُوا مِنْ بَني اميَّة إلا ... أنهم يَحلُمُونَ إنْ غَضبُوا
قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
المثوبةُ في الخير كالعقوبةِ من الشر، واستعارتُها للعقوبة نحو قول الشاعر: -
... تَحيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجيعُ
وقول غيره:
تعليقها الإسراج والإحكام.
ذكر أن إيماننا بالله وما أُنزل إلينا إن كان شراً عندكم، فإني أنبئكم بما هو شرٌ عاقبةً عند الله منه وهو ممن أَبْعدَهم الله من رحمته وسخط عليهم ومسخهم القردة والخنازير
وقوله: (شَرٌّ مكَانًا) أي مُتَصرِفاً، وأضل عن الطريق المستقيم.
وقوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوف على قوله: (لَعَنَهُ اللَّهُ) أي من لعنه الله(5/387)
ومن عبد الطاغوت أي الشيطان وعبادته الشيطان طاعته إياه فيما سوَّل له.
وقرأ ابن مسعود (وَعَبَدُوا) رداً إلى المعنى وهو أجود.
وقُرئ وعبُد الطاغوت وعَبَدَ الطاغوت.
فمن قرأ عُبد فليس بوجه عند أهل العربية، لأنه ليس من(5/388)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
أمثله الجمع، وقد فسرنا به خدم الطاغوت، وأما عَبَد فجمع عَبيد، نحوْ رغيف ورُغف، وسرير وسُرر، وتقدير ذلك وجعل منهم عُبَد
الطاغوت، كقولك جعلت زيداً أخاك أي حكمت بذلك وأما عَبُد فإما أنه
واحد وقع موقع الجمع، أو جعل جمع عابد نحو خدم، أو أصله عَبُد فسكن نحو عَضُدٌ وعَضْد.
قوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
أي يظهرون الإيمان ويدخلون كافرين، ويخرجون كافرين، تنبيها أنهم كاذبون فيما يظرون من الإيمان و (وَإِذَا) إشارة إلى قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) .
وإلى نحو قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) .
قوله عز وجل: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)(5/389)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
في ذلك مسابقتُهم إليه، وذلك في السوء
كقوله في الحسنى: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
وحثٌّ لها، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .
والإثم إشارة إلى نحو الذي قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وأكلهم السحت إلى قوله: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
الإثم أعم من العدوان، والعدوان أخص منه وأعم من
أكل السحت، وأكل السحت أخص منهما لأن كل أكل
السحت عدوان، وليس كل عدوان يكون أكلاً للسحت.
قوله عز وجل: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)(5/390)
لولا إذا دخل على فعل ماضي فالتوبيخ: (لَوْلَا جَاءُوا) .
وإذا دخل على فعل مستقبل فللتخصيص.
والرباني منسوب إلى الرب وهو الذي تولى الله تربيته بالعلم،
قرأ عبادة: بزيادة الألف والنون فيه كقولهم: شعرانيٌ.
وقال بعضهم: الرباني ليس في كلامهم في الأصل.
والأحبار الذين يراعون الأعمال، وأصله من حَبْرتُ أي حسنت
وكان عبارة عن المحسنين.(5/391)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
إن قيل: (يَعمَلُونَ) وفي الثانية: (يَصنَعُونَ) وهل بينهما فرق؟
قيل: الصنع أخص من العمل كما أن العمل أخص من الفعل، وذاك أن الفعل يقال فيما كان من الحيوان، وغير الحيوان وبقصد وعن غير قصد، والعمل لا يقال إلا ما كان من الحيوان وبقصد، والصنع لا يقال إلا ما كان من الإنسان بقصد واختيار وبعد فكر وتحري أحاده، ولهذا يقال: دخل رجل صانع أي حاذق، وثوب صنيع أي مجاد. فحيثما ذُكِّر كافتهم قال:
(لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ) وحيثما ذكر خاصتهم وحفظة العلم والعمل ذكر: (لَبِئسَ مَا كَاْنُواْ يَصنَعُونَ) .
قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو بخيل ْممسمك، كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)(5/392)
وقيل قالوا: إنه فقير كقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، قال الحسن: معناه: - يده مقبوضة عن
عذابنا، وقوله: (غُلَّتْ أَيدِيهِم) دعاء عليهم،
وقيل: هو خبر، والدعاء والخبرُ إذا كانا من الله واحد،
وقول من قال: لو كان هذا إخباراً لوجدوا لذلك، فلعمري إنهم قد وجدوا كذلك، فقد رُوي أن اليهود أبخل خلق الله،
وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) نِعَمه متكاثرة،
وتشبيه اليد على طريقة كلام العرب في استعارة هذه اللفظة.
وقد ذكر لفظ اليد في آيات.
وقيل: تتنيتها لأنه أراد عطية الدنيا والآخرة، وقيل: بل قصداً إلى ثوابه
وعقابه، وقيل: بل قصد إلى تكثير نعمه.
فالتثنية يعبر بها عن كل كثرة(5/393)
نحو قولهم: لبيك وسعديك.
وقوله: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي إنَفاقه على مقتضى الحكمة لا على حسب شهوتكم.
وقوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)
ما يسمعون من(5/394)
القرآن، ووجه ذلك ما تقدم أن القرآن بمنزلة الغذاء، والمعقولات بمنزلة
الدواء الذي يوازي الصحة، والكافر والمنافق مريضان، كما قال: (فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) . فكما أن المريض لا يوافقه الغذاء بل يزيده مرضاً كذلك
المنافق يزداد بسماع القرآن طغياناً وكفراً.
وإلقاء العدواة بينهم هو تعريف لليهود قبح اتخاذ النصارى المسيح ربًّا، وتعريف النصارى قُبح نسبة اليهود المسيح إلى أما هو أقبح به.
ويدخل في ذلك معاداة النصارى بعضهم لبعض،
وقوله: (كُلَّمَا أَوقَدُواْ نَارًا لِّلحَربِ) أي إذا هموا بإثارة شر
أوقع الله بينهم منازعة تكف شرهم وتدفع شوكتهم، فمنازعتهم لبعض يورث فشلاً، كما قال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) .
وقال في الكفار:(5/395)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) وقال: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ،
وقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أي مساعاتهم
لطلب الإفساد فلا يعينهم الله، فإن الله لا يحب المفسدين، أي لا يعينهم
على تحريهم الفساد.
قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
التكفير: ستر الذنوب حتى تصير بمنزلة ما لم يُعْمَلْ، ويصح أَن يكونَ أصلُه
إزالة الكفر كقولهم: مرضت فلان وقدْيت عينه.
ذكر أنهم لو أصلحوا اعتقادهم وأفعالهم لغُفروا وأُثيبوا، كقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) .
قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)(5/396)
كما جعل تعالى لجزاء إيمانهم تكفير السيئات، وجزاء تقواهم
إدخال الجنات، جعل جزاء توفية أحكام كتب الله سعة الرزق، وذلك أنهم
لما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وكتموا ما أنزل الله بسحت كانوا يحوزونه، بيَّن تعالى أن ذلك العَرَض بل أكثر منه وأطيب لم يكن ليفوتهم لَوْ وفوا كتب الله حقها.
والأكل من فوقهم إشارة إلى الثمار ومن تحت أرجلهم إلى الزروع.
وقيل: بل الإشارة بقوله: (مِنْ فَوْقِهِمْ) إلى المطر، وبقوله: (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إلى الثمار والحبوب جميعاً، كقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) .
وقيل: ذلك إشارة إلى أنهم كانوا ينالونها، قال: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) وعلى هذا:(5/397)
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) .
وقوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ، وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) ،
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
وقوله: (مِّنهُم أمَّةٌ مقتَصِدَة) أي عادلة غير عَادِيَة ولا مقصره وهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) .
وقوله: (سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) نحو: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)
وقوله: (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) .(5/398)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قيل: السبب في نزول هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهاب قريشاً، فأنزل الله ذلك.
فروي: (أن أعرابياً همَّ بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسقط السيف من يده فجعل يضرب برأسه حتى انتثر دماغه) .
إن قيل: كيف قال: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك كقوله: إن لم تبلغ فما بلغت.
قيل معناه: وإن لم تبلغ كل ما أُنزل إليك يكون في حكم من لم تبلغ شيئاً، تنبيها أن تقصيرك في بعض ما أمرت به يحبط عملك.
وقيل: عنى بقوله: (مَا أُنزِلَ إِلَيكَ) ما ذكره بعد هذه الآية.
وهو قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن ينالوك(5/399)
بسوء من قتلٍ أو أسرٍ أو قهرٍ. وأصل العَصْمِ: من عصم القِربة أي
شَدِّها، وعصمة الله للعبد حفظ سره بما يَردُ عليه من موارد الشر.
وقيل: معنى يعصمك من الناس أي من بينهم العصمة المختصة بالنبوة ونحو قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) .
ليس يعني أنه لا يبذل لهم فعصمة الله وتوفيقه وتسديده مبذولة
لكل من رغب فيها وترشح لقَبُولها.
ولكن الكفر يمنع منه، فإنه يعانده وينافيه كمنافاة المتضاد.
واستدل بهذه الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكتم شيئاً مما أنزل الله بخلاف ما قالت الرافضة: أنه قد كتم أشياء على سبيل التُّقية.(5/400)
قال بعض الصوفية: ما يتعلق به مصالح العباد وأُمر بإطلاعهم عليه، فمنزه عن
كتمانه، وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه
كتمانه.(5/401)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)(5/402)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
إن قيل: قوله: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) داخل فيه التوراة والإنجيل إذ كل ذلك منزل من الله، فلم أُفردا؟
قيل: إنه أفردهما بالذكر على سبيل التفصيل وخص ما أُنزل بالقرآن.
فإن قيل كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد عُلم أن القرآن قد نسخ
التوراة والإنجيل، ولا يصح إقامةُ جميعها؟
قيل: يجوز أنه عنى الإقرار بصحة ثلاثتها، ويجوز أنه أراد أحكام أصولها، فإن ثلاثتها تستوي في ذلك وإنما الاختلاف في الفروع
بسحب مصالح الأزمنة.
وقيل: أراد إقامة هذه الكتب بإظهار ما فيه
من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديق بعضها بعضاً.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)(5/403)
إن قيل: كيف قال: (مَن آمَنَ مِنهُم بِاللَّهِ) و (مَن) يدل على ما تقدم، وتقديره: من آمن من المؤمنين ومن الذين هادوا، وذلك خُلْفُ من
الكلام؟
قيل في ذلك وجهان:
أحدهما: أن معنى قولِه: (إِنَّ آلَّذِينَءَامَنُوا) : أظهروا الإيمان وأَمِنُوا من القتل والسبي وهم الموصوفون بقوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) .
وقوله: (مَنءَامَنَ مِنهُم) أي من يحقق الإيمان فبيَّن أن المُظهِر للإيمان، والذين ما داموا فيهم ممن ذكرهم، لا يسقط عنهم الخوف والحَزَن في الدارين ما لم يتحققوا بتصديق الله، والإيمان بالمعاد، والتحري لمصالح الأعمال والثاني مَنْ في قوله: (مَنءَامَنَ بِاَللَّه) راجع إلى قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) دون قوله: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا) .
إن قيل: ما وجه قوله: (وَالصَّابِئُونَ) وقد ذكر النحويون أن المعطوف على اسم (إنَّ) قبل الخبر لا يصح فيه الرفع؟
قيل إن ذلك لا يصح منه الرفع إذا عطف على موضع إنَّ(5/404)
ويخبر عنهما بخبر واحد نحو أن يقول: إن زيداً وعمرو منطلقان، فأما إذا جعل الثاني مرتفعاً بالابتداء وجعل خبر أحدهما مضمراً يصح.
كقول الشاعر:
.......... فَإنِّى وَقيَّارٌِ بهَا لَغَرِيبُ
وتقدير الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله لا خوف عليهم، واستغنى بخبر أحدهما عن مضمر
الآخر وعلى هذا قول الشاعر:
وإلا فاعْلَمُوا أنا وأنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينَا فيِ شِقَاقِ
وقيل: قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) معطوف(5/405)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
على المضمر في قوله: (ءَامَنُو) كأنه قيل: إن الذين آمنوا هم
والذين هادوا والصابئون.
قال الفراء: الرفع يصح بعد إنَّ ويصح في كل معطوف، ولا يتغير فيه الإعراب نحو الذي وإخوانه، وهذا وهذه.
قوله عز وجل: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قد تقدم حقيقة أخذ الميثاق منهم، وأن ذلك بما ضمن عقولهم على ما دل عليه قوله:(5/406)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية.
وبعضه بما أَنزل إليهم من الآيات، وبعضه بالأيمان المؤكدة وكل ذلك مما ذكره المفسرون، وإنما قال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) فعطف
المستقبل على الماضي تنبيها على أن ذلك عادتهم ماضياً ومستقبلاً،
ونبه بقوله: (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ) أنهم يتبعون الهوى فيما يتحرونه، فلا
يستحقون جهداً وإنْ طابقو الحق إذ ليس لهم إلا سلوك سبيل الهوى، وأصل
الهوى: والهوا واحد وهو لا مِسَاك له، ومنه: (اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) ، وسُمى الدار هاوية لذلك.
قوله عز وجل: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
الفتنةُ العذاب والبليَّةُ، وأصلها: إدخال الذهب والفضة النار(5/407)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
للاختيار، ولذلك قال تعالى: (يَومَ هُم عَلَى النَّارِ يُفتَنُونَ) ، وتارة يعتبر ما تحمل من العذاب فيستعمل فيه نحو: (وَفَتَنَّاك فُتُونًا) .
وقُرأ: (أَلَّا تَكُونُ) بالرفع والنصب. فالرفع على
تقدير أنه لا تكونُ فتنة وذلك أبلغ في ذمهم، وقد تقدم أن الظن والحسبان
يستعملان تارة فيما قوى في النفس وتارة لما ضعف، ومن ذكر بعدهما إن
المشددة والمخففة منهما فقصد إلى تقوية الاعتقاد ومن ذكر بعدهما أن الناصبة
للفعل فلضعف الاعتقاد، وارتفاع قوله: (كَثِيرٌ) على البدل من الضمير في
: (فَعَمُواْ وَصَمُّواْ) وعلى تقدير التفسير: أي العُميُ والصُم كثير منهم ثم
بين أنه تعالى لعلمه كاملاً بما يعملون بالمرصاد يحاربهم.
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)(5/408)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قالوا: إن الله هو المسيح، وذلك حكاية عن اليعقوبية
الذين قالوا إن المسيح ابن مريم هو الله، وبين أن المسيح نهاهم أن
يعتقدوا ذلك حيث قال: اعبدوا الله ربي وربكم وأنه بيَّن أن من يشرك
بالله يمنعه الجنة ويخلده النار فلا يجد ناصراً.
وأصل التحريم جعل الشيء ممنوعا منه إما بالحكم كتحريم الله الخمر وإما بالمنع القهري كتحريم الله الجنة على الكافر.
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
أخبر عن النسطورية والمَلَكِية، فهم الذين يقولون أب وابن وروح القدس فيجعلون الله أحد الأقانيم الثلاثة، ومن أن الله هو واحد وهو سبب الموجودات، وهددهم إن لم ينتهوا يعذبون.(5/409)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ،
وذلك يقتضي أن يكون بعضٌ منهم كافرين.
وقد قال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) فحكم بكفر جميعهم قيل: إنما قال الذين كفروا منهم تنبيها أن العذاب يتوجه على من دام به الكفر ولم يقلع، ولهذا عقبه بقوله: (أَفَلَا يَتُوبُونَ) .
إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ) فذكر المس، وذلك يقتضي بتقليل العذاب.
قيل: بل المس يقتضي مبالغة في وصف عذابهم، لأن المس يقتضي اللمس، وذلك أعم الحواس وأكثرها وجوداً إذ لا حيوان إلا وله اللمس، ولأنه أعرف الحواس عند الخاص والعام.
قوله عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
الصديقة الكثيرة الصدق، فقد قيل: إنها لم تكذب قط،
وقيل: لتصديقها جبريل لما قال:(5/410)
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) .
الخلو: تعرِّي الزمان أو المكان مما فيه، أو تعرى الشيء من زمان ومكان. وإذا قيل: لا يخلوا الأمر من كذا، فمعناه لا يتعرى ولا ينفك،
احتج تعالى على من ادعى الربوبية لعيسى بما يزيل الشبهة في ذلك، وهو أن غاية ما لعيسى صلى الله عليه وسلم كونه رسولا، ذا معجزات قد شاركه في مثلها غيره من الأنبياء كإبراهيم حيث أُلقي في النار فسلم منها، وموسى حيث أَلقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وفلق البحر له في تسع آيات، وأنه في كونه من غير أب لم يكن بأعجب من آدم الذي
كان من غير أب ولا أم، ونبه على قصوره عن آدم بكونه من أم، وأن كونها
صديقه لا يقتضي لها ولا لابنها الربوبية بل أكثر ما في ذلك أن يكونا من جملة
الصديقين، ثم نبه على بعضهما بافتقارهما إلى الطعام المقتضي لبعض الحاجة فكنى تعالى عن ذلك بأحسن كناية ثم عجب منهم بقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وإذا كان حالُهما لا يخفَى ومع
ذلك ينصرفون عن الحق وتفهمه.
قيل معنى: (يُؤْفَكُونَ) : يصرفون(5/411)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
كاذبون فيما يدعونه.
قوله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
إن قيل لم قال: (مَا لَا يَملِكُ) ولم يقل (مَن) ، وقد قصد بذلك نفيُ إلاهية
عيسى، وكيف قال: (يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلَا نَفعًا) وقد كان عيسى
يملك ذلك وإن كان بتخليق الله إياه، ولمَ قدم الضر على النفع، ولم أتبع ذلك قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وقد كان من حق المقابلة أن يُقال
والله هو الضار النافع؟
قيل: أما ذكر (مَا) فلكونه للجنس والنوع المقتضين لمعنى عام يقصد بذكره وأن ذلك يقتضي المشاركةَ والمشابهةَ، وتنزه الإلهية عن ذلك فأنكر تعالى بذكر ما ادعوه كل ما اقتضى مشابهةً ما، وإنما قال:
(لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لأنه لما كانت الإشارة على ثلاثة(5/412)
أضرب: عن مالك الضر والنفع بوجه، ومالك لبعض ذلك بتمليك كالإنسان، ومالك لهما لا تمليك وهو الله تعالى صار مالكاً، لذلك بالتمليك في الحكم من لا يملك من هذا الوجه.
قال المسلمون: لا يملك أحدٌ شيئاً غيرُ الله، وقالوا:
الأشياءُ في يد الناس عاريةٌ مستردة. وأما تقديم الضر على النفع؛ فلأن الإنسان يخدم غيره إما لدفع الضرر أو لجر النفع، والناس يراعون دفع الضرر قبل جر النفع، ولذلك كان الاحتراز من المَضَارةِ كلها واجباً وليس طلب المنافع كلها واجباً، فلذلك قدم هاهنا الضرر.
فإن قيل: فقد قاله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
فقدم ذكر النفع؟
قيل: تقدم النفع في هذا المكان أولى لأنه لما ذكر تحريهم عن أنفسهم فيما يجرون لها.
والإنسان يتحرى لنفسه النفع لا الضر، بيَّن أنهم لا يملكون ما يحبون
فلأنفسهم، بل لا يملكون أيضاً في حقيقة الضر فضلاً عن النفع.
وأما إتباعه بقوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) فهو أنه لما لم ينكروا أن الله مالك الضر والنفع، ولا أنه قادر على مجازاة من استحق المجازاة، بل أشركوا بينه وبين غيره عَقَّبه بما اقتضى معنى ملكه للضر والنفع، وقدرته على المجازاة وذكر أنه هو المجازي(5/413)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
فإن قوله: (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أنه يجازي بما يسمعه
ويعلمُه، وإدخال هو في قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أن هذا الحكم خاص له لا يشاركه فيه غيره، صار مقتضى الكلام أنه يملك النفع والضر وأنه يجازي كل أحد باستحقاقه.
قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
الغلو: تجاوز الحد من قولهم غلا السهم وغلا السعر ويستعمل في الإفراط
دون التفريط، والخطاب قيل هو للنصارى حيث تجاوز القصد في عيسى
عليه الصلاة والسلام فادعوا له الربوبية.
وقيل: هو خطاب لهم ولليهود، فالنصارى غلوا في رفعه،
واليهود في وضعة،
وقوله: (غَيْرَ الْحَقِّ) انتصب بإضمار: (وَلَا تَقُولُواْ) كقوله: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، وبيَّن أن الذي عليه قومهم هو من مقتضى الهوى فنهاهم عن اتباعهم فيه.(5/414)
كما قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)
وإنما جمع الهوى تنبيهاً أنهم متفاوتون، والمراد في باطلهم،
إن قيل: لم كرر قوله: (ضَلُّوا) ؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه أراد قد ضلوا عن سواء السبيل،
فلما فصل بينه وبين ما يتعلق به أُعيد ذكره، كقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) .
أعاد قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ) .
الثاني: أنه أريد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، ضلوا كون ذلك تبيناً لما ضلوا عنه،
والثالث: أن الاشارة بقوله: (ضَلُّواْ مِن قَبلُ) إلى ضلالهم في شريعتهم قبل إتيان نبينا - صلى الله عليه وسلم -،(5/415)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
وبقوله: (وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والرابع: أن الإنسان قد يعتقد أن يُضل غيره وهو ضال بذلك، فبيَّن الله تعالى أن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم غيرهم إشارة إلى نحو قوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) .
والخامس: أن الله تعالى أرسل هاديين العقل والرسول، والعقل متقَدِّم على
الرسول من حيث أنه بالعقل يهتدي إلى معرفة الرسول، فقوله: (ضَلُّواْ)
إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل وضلوا عن سواء السبيل إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
الاعتداء والتعدي والعدوان خروج عما حَدَّ ورسم،
إن قيل: على أي وجه لعنوا على ألسنتهما؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنهم فعلوا ما استحقوا به اللعن
فلعناهم بأسمائهم، وذلك راجع إلى آبائهم، فقد روي أن(5/416)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
داوود بلغه أن قوماً اجتمعوا على منكر فقصدهم ليعظهم فاستفتحهم الباب فلم يفتحوا وقالوا: نحن قردة، فقال: كونوها فمسخهم قردة، وإن قوماً آذَوْا عيسى عليه الصلاة والسلام فلعنهم،
الثاني: أنهما قالا: من لم يفعل كذا فلعنة اللَّهِ عليه، فعصو، فصاروا ملعونين من هذا الوجه.
الثالث: أن الله تعالى لما أنزل على كل واحد منهما كتاباً اقتضى أن من خالفه فهو ملعون، فخالف هؤلاء، فصاروا من هذا الوجه ملعونين.
قوله عز وجل: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
التناهى: أن ينهى بعضهم بعضاً، والانتهاء الانزجار، وهو أبلغ من الانتهاء(5/417)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
والمعنى لم يكونوا ينتهون، ولا يتناهون عن القبح الذي أناطوه، ثم ذم فعلهم.
قوله عز وجل: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
أى ترى كثيراً من الذين لعنوا موالين للكفار في محاداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك يجر إليهم سخطَ الله ويدخره لهم وبئس المدخر سخطه تعالى وما يثمر لهم الخلود في العذاب ونحو قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) .
قوله عز وجل: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
النبي يجوز أن يكون إشارة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام
ويجوز أن يكون إشارة إلى نبيهم، ونبه أنهم لو آمنوا بمن ادعوا الإيمان به
لما فعلوا ما فعلوا، فإن دينهم لا يقتضي ما يرتكبونه ويفعلونه،
ويجوز أن يكون النبي إشارة إلى الجنس، أي الإيمان بالله وبالنبوة والكتاب، لا يقتضي ما يتحرونه من مولاة الكفار.(5/418)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
إن قيل: فكيف قال: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) بل كافرون؟
قيل الإشارة: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي أحبارهم وعلمائهم
وأماثلهم، فيشير إلى أن فسق هؤلاء هو الذي اقتضى أن يرتكب
جماعتهم ما يرتكبونه وذلك لما أنبا بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) .
قوله عز وجل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
أصل العدواة المباعدة ومنه يعدي والعدا للمكان المتفاوت.
والقس والقسيس: العابد الكثير الذكر.
والرهبان جمع راهب كالركبان والفرسان جمع راكب وفارس،
بيَّن أنه كما بَيْن الأخيار تفاوت كذلك بين الأشرار تفاوت،
وكما أن من أتى من(5/419)
الطاعة ما هو أدنى كان ثوابه أدنى، كذلك من أتى من المعصية أكثر كان
عقابه أكثر، ولهذا جعل في الجنة درجات، وفي النار دركات، فالله لا يبخس عاملاً عمله. فلا يساوي بين من جحده وبين من يؤمن به ولا يكفر بأنبيائه، ولا بين من يجحد جميع أنبيائه، وبين من يجحد بعض أنبيائه فالمشركون به أبعد من الله من اليهود، واليهود أبعد من النصارى وإن أبعد الناس عن الإسلام اليهودُ والمشركون، أما اليهود فلأنهم بَعدُوا عن المسلمين بدرجتين إذ قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وأما المشركون فلأنهم بعُدوا بدرجات إذ قد جحدوا التوحيد والنبوات.
إن قيل فلم قدم ذكر اليهود والمشركون شرٌ منهم؟
قيل: لأن الآية المتقدمة في ذكرهم، والقصد كان إليهم، فكان
تقديمه لذلك أولى.
وبين أن أقرب الناس إليهم قوم ادعوا التنصر ليس ذلك إشارة إلى جماعة النصارى بل قوم منهم.
ولهذا قال: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) .
ويدل على ذلك ما روي في التفسير(5/420)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
أن ذلك إشارة إلى النجاشى، وأصحابه الذين آمنوا من بعد. ثَمً بيَّن أن
منهم القسيسين والرهبان وأنهم يتحرون الحق ولا يستكبرون عن قبوله والضمير في (أنهم) راجع إلى القسيسين والرهبان، وقيل: راجع إلى المعنيين بالدين كلهم.
قوله عز وجل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
الفيض سيلان عن امتلاء وأفضا لسيلانه وفاضته دمعة إذا امتلأت العين ثم سالت، وعنه اسستعير خبر مستفيض، وأفاض القوم من عرفه، فذكر تعالى أنهم يبكون ويؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم من جملة من وصفهم بقوله:(5/421)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
ومعنى (فَاكْتُبْنَا) أي اجعلنا منهم وثبتنا في جملتهم.
قوله عز وجل: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
كأنه قيل لهم: لِمَ آمنتم به؟ فقالوا: ولم لا نؤمن أي نصدق بالله وبالحق الذي جاءنا.
وقوله: (وَنَطمَعُ) من جملة قوله: (وَمَا لَنَا) ،
ويجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون في موضع الحال،
أي لما لا نؤمن طامعين في أن يجعلنا ربنا من الصالحين
وذلك إشارة إلى قوله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) .(5/422)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قوله عز وجل: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) .
قد تقدم ما هو تفسير لهذا ودلَّ قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أنهم محسنون واستحقوا ذلك تنبيهاً أن ذلك.... (1) .
فإن قيل: فمن المحسنين من لا يجزى فهو الذي إساءته أكثر؟
قيل: المحسن المطلق هو الذي لا يستحق أن يوصف بضده ويكون وصفه بالحسن مطلقاً، ووصفه بالإساءة مقيداً، فأما من إساءته مُوَفيةٌ على إحسانه فلا يطلق عليه اسم الحسن.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
لما ذكر حال الذين قالوا: - إنا نصارى، وذكر أن منهم قسيسين ورهباناً فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات قد أحلَّها الله
__________
(1) سقط في الأصل.(5/423)
لهم، ورأى تعالى قوما سوقوا إلى حالهم وهموا أن يقتدوا بهم حتى رأوا أنَّ قوَماً من أصحابه عليه الصلاة والسملام همُّو بإخصائهم، همُّوا أن يفعلوا فعلهم، وبيَّن ما دل على ما قال: (بعثت بالحنيفية السهلة) ،
وقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا)(5/424)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
يجوز أن يكون حكماً لما دل عليه قوله: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) وأن
لا تعتدوا إلى تناول المحظورات، وتكون الآية نهياً عن الطرفين في التفريط والإفراط وحملاً على القصر المذكور في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) . ونحو ذلك من الآيات، وبيَّن أنه لا يحب المعتدين، أي
الاعتداء منافٍ لمرضاة الله،
فإن قيل: ولِمَ لمْ يقل والله يبغض المعتدين ليكون أبلغ؟
قيل: بل قوله: (لَا يُحِبُّ) أبلغ من وجه؛ لأن من المعتدين من
لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأنه لا يحبه، وهو من لم يكن اعتداءه كبيرة، وكل مبغض غير محبوب، وليس كل من لا يكون محبوباً علته مبغضاً. قال بعضهم: معنى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) أي لا تخلطوا مالكم من الحلال
بمغصوب، ولا تفعلوا فيه فعلاً يصير به حراماً، فتكونوا قد جعلتم الحلال
حراماً.
قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الرزق: يقال لما جعل غِذَا، ويقال(5/425)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
للعطية جميعاً، وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي ما يتغذى به، (وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ) أي مما أعطيناهم، ولتردد هذه اللفظة بين المعنيين اختلفوا أن ما رزق الله العبد هل يصح أن يكون حراماً؟
قال بعضهم هذه الآية يقتضي أن الرزق يقع على الحرام
أيضاً لأنه خص فقال: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) فلولا أنه يتناولهما
لما كان لتخصيصه فائدة، وقال مُخالفة قوله: (حَلَالًا طَيِّبًا) انتصابه على أنه
حال مؤكدة كأنه قيل: كلوا مما رزقكم الله فهو حلال طيب،
وبيَّن أن الله الذي آمنتم به حثكم أن تتقوه فتمام الإيمان التقوى.
قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)(5/426)
اللغو واللغي: ما لا يعتد به من المقال والفعال ومن هذا قيل: لصوت العصافير اللغو، وقيل أُلغيت كذا أي طرحته لقلة الاعتداد به.
واللغو في اليمين، روت عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (هو قول الرجل لا والله وبلى والله) موقوفاً عليها.(5/427)
وقال ابن عباس: - هو أن يحلف على أمر يراه كذلك وليس على ما يراه، وروي عنهْ أنه قال: هو أن تحلف البتَّ على شيء وأنت غضبان،
وقال بعضهم: - هو أن يحلف الرجل على معصيته بأن يفعلها فينبغي أن لا يفعلها قال وهذا لا كفارة فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على يمين فرأى أن غيرها خيراً منها فليركها، فإن تركها كفارتها) وقيل: بل لا إثم في تركها وعليه الكفارة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على شيء فرأى غيره خيراً فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) القَسَمُ ضربان: قسم على ماضي، وقسم على مستقبل،
فالماضي: إما لغو وإما غموس، ولا كفارة فيها عند أبي حنيفة.
وأما عند الشافعي ففي الغموس الكفارة دون اللغو.(5/428)
قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، يعني عند الشافعي: مؤاخذة
الآخرة أي العقاب، والمؤاخذة بالكفارة عند أبي حنيفة مؤاخذة العقاب دون
الكفارة، واختلف في الكفارة على أوجه، أما في الإطعام فقد اختلف فيه:
هل الأولى أن يجمعوا على إطعامهم أو يدفع إليهم، فإذا جُمعوا عليه فهل يُطعَمون وجبه أو يطعمون غداءً وعشاء، وإذا أعطوا كم يعطون؟
قال الحسن: يعطي كل مسكين نصف صاع من بر.
وقال بعضهم: نصف صاع بر، وصاع من تمر.(5/429)
وقال ابن عباس وابن عمر رضى الله عنه الله عنهما: بل مدٌّ من بُر وهو
قول مالك والشافعي، وقال سعيد بن جبير: مُدان، مدٌّ لطعامه، ومدٌّ
لإدامه، ولا خلاف أنْ الذكر والأنثى في ذلك سواء، وذُكِّر اللفظ (عَشَرَةَ)
تغليباً للمذكر،
وقوله: (مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم)
قيل: هو راجع إلى مرات الإطعام، وقيل: هو راجع إلى جنس الطعام، وقيل: راجع إلى قدر ما يطعمون إن أطعم أهله مُداً فمداً، وإن أطعمهم صاعاً فصاعا.(5/430)
وأمَّا الكسوةُ: فقد قيل: لكل مسكين ثوب إزار ورداء،
وقال مالَكْ: - يكسوا الرجل ثوباً والمرأة درعاً وخماراً، فذلك أقل ما يجزي فيه الصلاة.
قال الشافعي: يجزي منها قطعة من سراويل وعمامة ومُقْنَعَه.
وأما تحرير الرقبة(5/431)
فإيقاع الحرَّية عليه، وتخصيص لفظ الرقبة، فقد قيل: ذلك لأنهم كانوا إذا
أسروا أسيرا شدَّقه إلى عنقه فإذا خُلِّيَ قيل: حرر رقبته، فصار ذلك عبارة عن العتق، وحقُّ المعتَق أن لا يكون به عيب يضر بعمله كالعمى والشلل.
فأما العور فإنه لا يضر، وقيل: يكره عتق المختل، ولا يجوز عتق الصبي
الصغير، قال سليمان بن موسى: الرقبة لا تقع إلا على الكبير، فأما الصغير
فيقال له النَسمَة، وقال إبراهيم: كل موضع في الشرع ذكر فيه رقبة(5/432)
مؤمنة فإنه لا يجزئ إلا الذي صام وصلى، أي بلغ.
وقوله: (فَمَن لَّم يَجِد) أي لم يجد فضلاً عن قوت عياله في يومه وليلته، فإن له أن يكفر بالصيام.
وقال قوم: إذا لم يكن عنده مائتا درهم.
وأما الصوم فقد قيل: متتابعات، ولذا قرأ أُبيٌّ - رضي الله عنه -
(فصيام ثلاثة أيام متتابعات) ، واعتبر ذلك أبو حنيفة في الحكم،
وإن كانت التلاوة منسوخة.
وقال بعض الشافعية: قواه ذلك كفارة الحكم.
(إِذَا حَلَفتُم) يدل على(5/433)
أن له أن يكفر إذا حلف قبل أن يحنث، ولم يقل إذا حنثتم.
وقوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) أي أقلوا منها ولا تبذلوها لا للغوها، ولا ما يؤخذ بيمين اللغو، وإن لم يؤخذ به فقد يُودي بالإنسان إلى أن يتعود إكثار اليمين، وقيل معناه: إذا حلفتم فلا تنقضوها،
كقوله: (وَأَوفُواْ بِعَهدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّم) وقوله: (أَوفُواْ بِالعُقُودِ)
والصحيح أن الآية تتناول الأمرين - جميعاً
وعلى هذا قول الشاعر:
قَلِيلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمِينِه ... وإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّت!
وجملة الأمر أن الإنسان مندوب إلى أن لا يحلف، ومن حلف على أن(5/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
لا يفعل فعلاً يجب أو يستحب أن يفعل فحقه عليه أن لا يحنث،
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يحنث في يمينه ويكفر،
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يفعل، فاستوى فعله وتركه، فإن شاء حنث وكفَّر، وإن شاء حَفِظ اليمين.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي أعلام دينه، أحكامه الدنيوي والأخروي، رجاء أن يعرفوه حق المعرفة، فإذا عرفتموه وفعلتم ما أمرتم يكونون أقرب إلى أن توفوا حق شكره.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
النجس والرجس والرجز متقارب، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالفعل ولهذا فُسر بالإثم والسخط. والخمر بالاتفاق: عصير العنب المشتد، وقد يسمى نقيع البُسر والتمر خمراً،(5/435)
قال ابن عباس: نزل تحريم الخمر وهي الفضيح، وروى النعمان بن
بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً)
وهذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الخمر هاتين الثسجرتين من
النخل والعنب) فإنه لا يقتضي أن لا يكون من غيرهما، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (كلُ مسْكرٍ حرام) ، يقتضي تحريم ذلك جميعاً، سواء أسكر
ومن شأنه أن يسكر؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الماضى والحال والمستقبل، وقد تقدم الكلام في تحريم الخمر في سورة البقرة.
الميسر الضرب(5/436)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
بالقداح على الجَزور، وسمي بذلك اعتقادهم أنه سبب يسار الفقر لما ينالهم من لحمه، وقال أمير المؤمنين: - الشطرنج من الميسر، وقيل:
القمار كله منه أي حكمه حكمُه.
والأنصاب ما نصب للعبادة من الأوثان،
وقيل كان حجرا بين يدي الصنم يذبح عليه،
وعلى هذا قال الشاعر:
...... وَمَا هُرِيقَ عَلى الأَنْصابِ مِنْ جَسَدِ
والأزلام: قداح يكتب على بعضها افعل، وعلى بعضها لا تفعل،
أو يكتب عليها حسن أو مذموم، فكانوا إذا أرادوا أمراً ضربوه
واعتمدوه فيما يفعلونه،
وقوله: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من تربيته.
قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)(5/437)
لما كان هذان يتولد منهما العدواة خصهما بإعادة ذكرهما،
فأمَّا الأنصاب فإنها سبب الكفر المحض، وهذه العلة في الخمر تقتضي
مشاركة البُنية إياها.
إن قيل: الذي يصد عن ذكر الله هو شرب الكثير دون
القليل، فحسبه أن يكون هو المحرم؟
قيل: بل ذلك منهما فإن القليل داعٍ مَن شربه إلى الكثير، وشرب الكثير داعٍ إلى ذلك بلا واسطة.
وقوله: (فَهَل أَنتُم مُّنتَهُونَ) نهاية الردع والزجر.(5/438)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
وقوله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
روى أنه لما نزلت الآية الأولى قال: قد مات منا عدة، يشربون الخمر فما حالهم؟ فأنزل الله هذه الآية،
روى أنها نزلت: في قوم كانوا قد حرموا على أنفسهم المباحات،
وروى أن قدامة ابن مظعون شرب الخمر فأراد عمر أن(5/439)
يجلده، فتلا قدامة هذه الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إذا أيقنت واجتَنبتَ ما حرم الله عليك.
إن قيل ما الفرق بين الإيمان والتقوى والحسنى؟
قيل: الإيمان: - هو الإذعان للحق على سببيل التصديق له بالتبيين.
هذا وإن كان في المتعارف صار اسماً للتخصيص بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وبالتقوى: - جعل اليقين وقاية من السخط بالانتهاء عما نهى، والإتيان بما أمر.
والإحسان: تحري الأفعال الجميلة في الإيمان والتقوى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لما قيل له: ما الإحسان؟ فقال: (أن تحبد الله كأنك تراه) وثالثهما مرتبة وإن كان لكل واحد مراتب.
إن قيل ظاهر الآية يقتضى أن المؤمن المتقي المحسن يجوز له أن يتناول ما يريد تناوله والجناح عنه مرفوع، قيل: رفع الجناح عنه، لا لأنه(5/440)
أبيح له ما حظر على غيره، بل لأنه أَمِنَ أن يأتي بما هو محظور، وهذا كقَولك: لن أمنت أن يتعدى طوره لا بأس عليك فيما صنعته، ولا حجر عليك
فيما أردته وارتكبته، يعني أنك مأمون الغاية أن يتعدى طورك،
فبين بالآية أن من صار بهذه المنزلة من الإيمان أحجم عن المحظور وعفي عنه، وعلى هذا قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية.
إن قيل: ما وجه تكرير ذكر الإيمان والتقوى؟
قيل في ذلك أوجه:
الأول: ليس من آمن واتقى فيما كان قد حرم عليه وقت إباحة الخمر وأدام الإيمان واستعمل التقوى، إلا أن في ترك شربه. ثم النهي في غير ذلك واستعمل الحسنى جناح فيما شربه من الخمر، وتعاطاه من الميسر، قبل أن يحرم ذلك.
الثاني: لا جناح في تناول المباح من آمن واتقى فيما مضى، وفي الحال وفي المستقبل، فأما من ترك ذلك في أحد الحالين، ولم يقلع بتوبة فله الإثم.
الثالث: أنه أراد استعمال الإنسان الإيمان والتقوى فيما بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس، وبينه وبين الله.(5/441)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
الرابع: أن للإيمان والتقوى على القول المجمل ثلاثة منازل:
إما أن يكون الإنسان في أوله وأوسطه أو في منتهاه، وكذا الفسق ثلاث
منازل، كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) فبيَّن أن الإنسان إذا استوعب المنازل الثلاث فقد كمل
وصار بحيث لا يتناول إلا المباح فلا جناح عليه لذلك فيما طعم.
الخامس: أن للتقوى ثلاث منازل:
الأول: ترك المحرمات،
الثاني: ترك الشبهات،
الثالث: ترك بعض المحللات تهذيباً لنفسه، لا تحريماً ومن بلغ هذا
المبلغ فلا جناح عليه فيما يتناوله بعد ذلك،
وبيَّن بقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أن من فعل ذلك فقد صار محسناً،
وإذا صار محسناً صار لله محبوباً فإن الله يحب المحسنين.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)(5/442)
الابتلاء: - استخراج ما عند الإنسان من البلاء، أي الفعل كالاختيار في كونه استخراج خبر الإنسان،
وقوله: (بِشىَءٍ منَ الصَّيدِ) قيل: - (مِن) للجنس أي بصيد البر دون البحر وصيد الإحلال دون الإحرام،
وقيل للتبيين لقوله: (فَاجتَنِبُواْ الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ) ،
وقيل: للتبعيض أي من أجر الصيد ما يمكن اصطياده،
وقوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي ما كان مستأنساً منه،
وقيل: فراخ الطيور، وصغار الوحش والبيض،
فقد روي: (أنه أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - بيضتان(5/443)
فامتنع منهما، وقال: (مُحْرِمون) ، وقضى عليه الصلاة والسلام في بيض
نعام أصابها محرم ثمنه، وما تناله، وما حكمه هي الممتنعات، ولم يعن الرماح فقط بل عناها وسائر الأسلحة، أي جعل تعالى ذلك ليكون ذريعة إلى ظهور أفعالكم وما يستحقون به الجزاء،
وقيل: إن قوله: (لَيَبلُوَنَّكمُ) أي يوجب الله تعالى ذلك عليكم لترضوا به
أنفسكم، وتتوصلوا إلى الامتناع عن محارمه الخفية، ليعلم بذلك كيف تضبطوا أنفسكم حتى لا يطلع عليكم غيركم وإنما يطلع عليه رب العزة، وذلك إشارة إلى خفيات القلوب والسرائر.
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي من تعدى في هذه الظواهر بعدما حظر عليه فيما ولا يراعي أمره فأولئك هم الذين يتعدون ويستحقون العذاب الأليم.(5/444)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
ذكر لفظ القتل دون الذبح والذكوة لأمرين:
أحدُهما: - أنه أعم الألفاظ في ذلك،
والثاني تنبيه أن ما يصيبه غير مذكي والصيد هاهنا
مخصوص في كل متوحش يؤكل لحمه عند أكثر الفقهاء،
بدلالة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم، الحيَّةُ والفأرة والعقرب والكلب العقور) ،
وفي خبر آخر: (الذئب والفأرة والغراب والحدأة) ،(5/445)
وقيل نبه بقوله العقور على ما يؤذي.
واختلف في الصيد بتذكية المحرم هل يأكله حلال؟
فأجراه بعضهم: مجرى ذبح المجوسي والوثني،
وأجراه بعضهم: مجرى ذبح الشاة المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوب،
(وَأَنتُم حُرُمٌ) ، أي مُحرمون - بحج أو غيره، أو داخلون
في الحرم، وأجمعوا أنه لم يرد أنهم في الشهر الحرام، وإن كان اللفظ
يحتمله، وقوله: (وَمَن قَتَلَهُ ومِنكُم مُّتَعَمِّدًا) فيه ثلاثة أقوال: -(5/446)
الأول: ما روي عن ابن عباس: أن الكفارة لا تلزم المخطئ لتخصيص العمْد.
الثاني: ما روي عن مجاهد أنه إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه
الجزاء، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه.
الثالث: وهو الأكثر أن عليه الكفارة، على كل حال وتخصيص العمْد بالذكر لقوله: (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ) وذلك تخصيص بالعامد دون المخطئ، وأكد ذلك بأن الأصول تقتضي المساواة بين العمْد والخطأ فيما يختص بإتلاف المال.(5/447)
وقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) .
قد تقدم أن المثل يقع على الند الذي هو مماثلة في الجنس،
وعلى الشبه الذي مماثلة في الكيفية، وعلى المساواة التي هي
المماثلة في الكمية، وعلى المشاكلة التي هي المماثلة في الهيئة،
فلما كانت المماثلة لا تختص، صار اللفظ مشتركاً.
فاختلف فيه فاعتبر ابن عباس: المماثلة في الخِلْقَة،
وإليه ذهب سعيد بن جبير وقتادة ومالك والشافعي،
واعتبر عطاء ومجاهد المماثلة في القيمة،
وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقالوا: إن شاء اشترى بها طعاماً، فأعطى كل مسكين مُداً، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.(5/448)
واللفظ بالأول أليق لقوله: (مِنَ النَّعَمِ)
وفي الآية قراءتان: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) بالتنوين، (وجَزَآءُ مثلِ)
بالإضافة، فإذا قرأ بالتنوين فلأنه يجعل الجزاء اسماً لا يجازى به مثل أي مماثل
لما قتل.
وقوله: (مِنَ النَّعَمِ) في موضع الوصف للجزاء.
قيل: هو أجود من الإضافة فإن الواجب هو جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثل المقتول،
فإن قيل: المقتول ليس بمقتول فيكون له جزاء، وإذا أضيف جزاء إلى مثل، فذكر المثل هاهنا كما من نحو أنا أكرم مثلك وجعلنا أكرمك،
وقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) أي يجب أن يحكم بذلك عدلان،
وروى قبيصة بن جابر قال:(5/449)
ابتدرت أنا وصاحب لي ظبياً فأصبته فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلَك له
فأقبل على رجل إلى جنبه فنظرا في ذلك فأتيت صاحبي وقلت إن عمر لم يدر لم يحكم حتى جمع صاحباً له، فسمع ذلك عمر، فأقبل علىَّ ضرباً بالدِّرة، وقال أما سمعت (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) وهذا ابن عوف وأنا ابن الخطاب.
وقوله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)
قال الشافعي عنى عدل الهدي، وذاك أنه يقوِّم الهدي،
وقال أبو حنيفة: عنى عدل الصيد فإنه يُقوِّم الصيد،
وقوله (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) إخبار أنه لا يجوز نحر الهدي إلا في الحرم
، واختلف في الطعام، هل يجوز غير في الحرم؟
وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)(5/450)
أي عن قتل المحرم، وقيل: عن المرة الأولى،
وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)
روي عن جماعة أنهم كانوا لا يحكمون على المحرم إذا أعاد
إلى القتل الصيد وكان إذا استفتوا يقولون: هل جنيت شيئاً قبل فإن قال:
نعم، لم يحكموا عليه، وإن قال: لا، حكموا عليه،
وقول فقهاء الأمصار أنه يحكم عليه بكل حال.(5/451)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
البحر: يتناول كلًّا مالحاً كان أو عذباً، في جدول كان أو في نهر.
قال تعالى: (وَمَا يَستَوِي البَحرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ) ،
وقوله: (وَطَعَامُهُ) أي ما قذف به البحر ميتاً،
وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته) .(5/452)
والصيد هاهنا قيل: هو المصيد، وقيل: هو المصدر.
فعلى الأول قال بعض العلماء: أكل المصيد على كل حال غير محظور.(5/453)
واستدل بما روى أبو قتادة (أني أصبت حمار وحش فقَلت:
يا رسول الله: أصبت حمار وحش وعندي فضله، فقال كلوا فنحن
حرم) ،
وعلى الثاني قال بعضهم: الاصطياد محرم، فأما أكل ما يصيد غيره
فيجوز، واستدل على ذلك ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام:
(وقد سئل عن الصيد فقال: (حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوا أو يُصاد لكم) .(5/454)
فقال بعض العلماء: (وَطَعَامُهُ) أي ما يصاد له، قال: وهذا يدل على
أن ما اصطاد المحرم أو صيد له من صيد البحر غير محرم عليه،
قال الحسن (وَطَعَامُهُ) يعني البُر والشعير ونحوهما مما يتغذى بالماء،
وقيل: عنى ما مات فيه.
وعليه دل قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(الطهور ماؤه الحل ميتته) .
وقيل: يتناول ذلك كل ما في البحر إلا ما استثناه السنة.(5/455)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
وقال بعضهم: - بل ذلك يتناول السمك فقط.
وقوله: (مَتَاعًا) مصدر مؤكد، كقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
بعد قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
قوله عز وجل: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
الكعبة: بيت مَرْبَع شبيهاً مكَعب ومنه قيل: كَعْبُ ثدي المرأة.
وقوله: (البَيتَ الحَرَامَ) يصح أن يكون بدلاً من قوله:(5/456)
(الْكَعْبَةَ) ، وقوله: (قِيامًا) في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً
ثانياً، ويصح أن يجعل (البَيتَ الحَرَامَ) مفعولاً ثانياً، ويجعل (قِيامًا)
حالاً، والقيام، والقوام ما يُقوم به الأمر في معاشهم وصلاح أبدانهم،
ونقاء نفوسهم، ونبه تعالى أن الإنسان إذا تفكر فيها بيَّن الله لهم من يعظِّم
الكعبة أ. والشهر الحرام والهدي والقلائد.
فنبهه بذلك أن الله تعالى لإحاطة علمه بالأشياء قبل كونها ومعرفته لمصالح العباد جعل ذلك سبباً لعبادتهم لله تعالى،
قال الأصم: (قِيامًا لِّلنَّاسِ) أي: دائماً لهم لا يُنْسخ حكمه،
وقال الحسن: يعني بالشهر الحرام: الأشهر الحرم فأخرج اللفظ
مخرج الواحد،
فإن قيل ما فائدة قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد
قوله: (مَا فِى السَّموَات وَمَا فِى الأَرضِ) ؟
قيل: إن لفظ قوله: يعلم إخبار عن المستقبل (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أن ليس علمه مقصور على ما تقدم، بل هو عالم الغيب والشهادة،
إن قيل: كيف جعل قياماً علة لعلمنا أن الله يعلم ما في السموات والأرض؟(5/457)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قيل: ليس هذا متعلق بل هو متعلق به وبما قبله.
ونبه أنه تعالى قيض إما باعث من خارج أو باعث من داخل على تحريم
القتال في الشهر الحرام، ولتعظيم الكعبة ليكون ذلك سبباً لمصالح الناس التي من تفكر فيها علم أن الله فعلَه لعلمه بالخفيات.
قوله عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
نبه بذلك أنه تعالى حيث سخر هذه الأمور وبينها دل ذلك أنه فعل ذلك لما أراده من عباده ليثيب المحسن ويعاقب المسىء، وذلك يقتضي أن يعلموا أنه يعاقب قوماً ويرحي قوماً كيفما تقتضيه حكمته.
قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
الرسول المبعوث في أمر وأصله السائر على رِسْلٍ، ومنه تَرَسَل في القراءة إذا أمر فيه بلا تكلف، والرِّسْلُ اللبن، وكأنه اسم
للمرسل من الضرع كقولهم البعض، والبعث، والبَلاَغُ: وصول المعنى
إلى المقصود به، والبَلاَغَةُ رابع يتصل به المعنى إلى النفس وفي هذا بَلاَغٌ كفاية يبلغ بها مقدار الحاجة، أي الرسول قد بلغ ما أمر وليس عليه أكثر من ذلك في أمر الرسالة ثم الله يتولى السرائر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أقضي بينكم بالظاهر ويتولى الله السرائر) .(5/458)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
الخَبِيثُ: هو الباطل في الاعتقاد. والكذب هو المقال الطالح في الفعال، وأصله الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الذي تظهر ردأته في الاختيار ولهذا
قال الشاعر:
سَبَكْنَاهُ ونَحْسِبُهُ لُجَيْنَاِ ... فَأبْدَى الكِيرُ عن خَبَثِ
ومتى اعتبر الطيب بالخبيث فهو كالدائرة من النقطة، بل كالشيء الذي
لا قدرة له بالمرأى، فبين الله تعالى الطيب وإن استقللتموه فخير من الخبيث، وإن استكثر قوة حتى يعجبكم كثرة، ونبه أن الاعتبار في الأشياء ليس بالقلة والكثرة وإنما ذلك بالجودة والرداءة، فالمحمود القليل خير من الذميم الكثير، ولهذا قيل: أقلل وأطب.(5/459)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
إن قيل: كيف جعل الخبيث هاهنا كثيراً، وقد قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ) فجعله قليلاً،
وقال: (قُل مَتَعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ) ؟
قيل: استكثاره للخبيث هو على نظر المغترين بالدنيا،
واستقلاله هو على ما عليه حقيقة الأمر.
وقوله: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) ليس بخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بل هو خطاب لكل معتبر.
كقول الشاعر:
تَرَاهُ إذا مَاحَييتَهُ سَهْلاً ... كَأنكَ تُعْطِيهِ الذي أَنت قَائِلُهُ
ولأجل أن الخطاب عام من حيث المعنى قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) بلفظ الجمع والمعنى استعملوا التقوى راجين أن تبلغوا الفلاح، تنبيهاً
أن التقوى هى التي تُبَلِّغ.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)(5/460)
البُدُوّ في القول: يقال تارة لظهوره، وتارة يقال لظهور تأويله وحقيقته. والعفو: يقال تارة لما يفضل عن الكفاية، كقوله: (مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفوَ)
أي ما فضل عن القوت، وتارة يقال لترك الشيء، قبل وجوبه كقوله عليه
الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق) .
وتارة يقال لترك(5/461)
ما لزم فتجوفي عنه نحو (فَاعف عَنهُم وَاصفَح) ،
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه خرج يوماً غضبان وجلس على المنبر فقال: (لا أُسأل عن شيء إلا أجبت، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال: في النار، وقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والله يعلم من آباؤنا) ، فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنه كان في الحج لما قال سراقة بن جعشم له عليه الصلاة والسلام: - أفي كل عام فقال عليه الصلاة والسلام: (لو قلت نعم لوجبت) الخبر.(5/462)
وقيل: كان سؤالان في مجلس، وعلى هذا قال تعالى: - حكاية: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) ، وهذا في سؤال
دون سؤال، وقوله: (أَشيَاَءَ) عند الكسائي بناها أفعال، قال: ولم
يصرف تشبيهاً بحمراء، وهذا يلزمه أن لا يصرف أنباء، وعند الأخفش
والفراء أنها أفعلاء، ويلزمهما أن يصغر على شيئان وقد امتنع من ذلك، وعند(5/463)
الخليل أنها فعلاء قلبوها، كما قلبوا أينق عن أنيق، وقِسِيّ عن قُووس
قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنها) أي عن الأشياء المسؤول عنها، وقيل عن
المسألة، والقولان في التحقيق واحد.
إن قيل ما موضع قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنهَا) وما فائدة الإتيان بذلك؟
قيل هو وصف لقوله: (أَشيَاَءَ) كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها، أي لم يكلفكم السؤال عنها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل) أي لم أوجبها، وذاك لأن الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب: ضربٌ يجب السؤال عنه:(5/464)
وهو ما كُلف به الإنسان، وفيه أمر وإياه توجه أن أفتي لجريج بالاغتَسال
فقال: (قتلتموه، هلا سألتم عنه، شفاء العيي السؤال) ،
وضربٌ يكره أو يحظر السؤال عنه، إياه توجه قوله عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء) ، وضرب يحبون السؤال عنه والسكوت عنه، وهو ما يحب أن يحمدوا
لا يؤخذ به(5/465)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
الإنسان إن بحث عنه واستكشف.
ثم قال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أًي غفور عنكم ما سبق منكم حليم لا يبطش بكم فيما ارتكبتم.
قوله عز وجل: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
والطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام متقاربة
ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها، لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك، وفيما تطلبه بنفسك.
والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك،
فكل سؤال طلب، وليس كل طلب سؤالاً،
والسؤال يقال في الاستعطاف، فيقال سألت فلاناً كذا.
ويقال في الاستخبار، فيقال سألته عن كذا،
وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر،
وذلك أخص من السؤال، وكل استخبار سؤال،
وليس كل سؤال استخباراً.
والاستفهام طلب الإفهام وهو أخص من الاستخبار.
فإن قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار، وليس استفهام وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والاستعلام: طلب العلم فهو أخص من الاستفهام،
إذ ليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن، ويحتمل أن كل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما.(5/466)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
وقوله: (قَد سَأَلَهَا) نبه على وجهين:
أحدهما: أنه استخبار، إشارة إلى نحو قوله لأصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله: (قَد سَأَلَهَا) وبين قوله: قد سأل عنها.
والثاني: أنه استعطاف إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى عليه الصلاة والسلام، والسائلين من صالح عليه الصلاة والسلام الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها،
وقوله: (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أي كفروا ولم يعترفوا،
أو يعني كفروا تشبيها.
قوله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
الجُعْلُ عام فيما يكون قولاً وحكماً، وفيما يكون عملاً وصنعاً،
ويكون تارة بمعنى صار، ولا يتعدى كقولك جعل فلان يقول كذا،
وتارة بمعنى صيَّر، ويتعدى إلى مفعولين كقولك: - جعلتُ الطين خزفاً، وجعلت زيداً عدلا، أي حكمت بذلك،
وتارة بمعنى فعل، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك هذه الآية،
وجعل بالجُعْل هو الحكم لإيجاد العين، فإن الله تعالى موجد هذه الأعيان، ولكنه غير حاكم فيها(5/467)
بأحكامهم. فبين أن الله تعالى ما حكم بهذه الأحكام، ولكن الذين كفروا
حكموا بذلك، وحكمهم بذلك لافترائهم على الله، وافترائهم على الله من حيث أن أكثرهم لا يعقلون، فجعل علة حكمهم بذلك افتراءهم على الله، وجعل علة افترائهم على الله كون أكثرهم لا يعقلون.
إن قيل لما خص أكثرهم أنهم لا يعقلون؟
قيل: إنه إشارة بذلك إلى ديانتهم المقلدة دون الذين علموا بطلان
فعلهم لكن يمنعهم لرئاستهم أن يقلعوا عن ذلك مع معرفتهم ببطلانه.
ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أماثلهم الذين يتبعون العقل وإن كانوا يعلمون ببطلان ما يفعلون.
البحيرة: - الناقة المشقوقة الأُذن، وهي كل ناقة نتجت خمسة
أبطن من كانت الخلقة أنثى شقوا أذفا فلا يُجَزُّ لها وبر، ولا يذكر اسم الله
عليها إن ذكيت، وحُرم على النساء لبنها، وإن ماتت اشتركت الرجال والنسل في أكلها.
والسائبة: المسيبة وكان أحدهم ينذر، لأنه يخلص بناقته(5/468)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
شبيهاً، والوصيلة: الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر يقال: وصلت
أخاها، فيذبحونه لآلهتهم.
والحامي: الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، وكان يقال حمى ظهره، فيسيب ولا يركب.
قوله عز وجل: - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قال أهل اللغة: أصل تعالي دعا إلى العلو، ثم استعمل في
كل مكان علوا كان أو سفلاً، وقيل: إن ذلك يقال اعتباراً بالعلو الذي هو
المرتبة الرفيعة، فإذا قيل تعالي كأنه قيل اطلب بفعلك هذا علواً وشرفاً كقولك لمن دعوته تفضل أي اطلب بذلك الفضل وانعم ونحو ذلك،
ثم كثُر وصار كأنه موضوع المجرد.
والمعنى إذا دعوا إلى الكتاب والسنة أعرضوا وزعموا أنهم
مكتفون بما شاهدوا عليه آبائهم كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) .(5/469)
وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ)
الألف دخل للتعجب من جهلهم أي أو يكفهم ذلك، وإن كان آباوُهم
لا يعلمون، فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم،
وأشير بأنهم من جملة الفرقة الثالثة الذين وصفوا فيما رُوي:
(الناس عالم، وتعلم، وحائر نافر لا يطيع مرشداً) .
وقال على رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم
على سبيل نحاه ونهج رعاع وأتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجاؤا إلى ركن وثيق فيمتنعوا) .(5/470)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقوله: (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) إشارة إلى أنهم هم الرعاع أتباع.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قيل لا يضّركم ولا يَضِيركم من ضَارَه يُضِيَره يَضُورُه
وجُعِل جواباً.
ولا يضُّركم الأجود أن يكون رفعاً لا جواباً وإن جاز أن
يكون في موضع الجزم على الجواب على معنى أنكم إن أصلحتم أنفسكم، ولم يتحروا ما فيه فسادكم وإفساد غيركم، لم يضركم فلا يكونا كمن قبلهم(5/471)
ليحملوا أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
وليس في الآية حثٌّ على ترك النهي عن المنكر كما نقله قوم، فقد تقدم حث الله على ذلك في آيات كثيرة نحو قوله:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
وقال حاكياً عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) .
ومدح القائلين بذلك فقال: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه) ،
ويدلك على(5/472)
ذلك أنه قال: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) .
ومن الاهتداء إنكار المنكر.
وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: (إني أراكم تتناولون هذه الآية:
(عَلَيكُم أَنفُسَكُم) وقد عهدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا هذا على هذه الأمور وهو يقول: إن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمهم الله بعقابه) ، وما بينكم وبين أن يعمهم بعقابه إلا أن تناولوا هذه الآية على غير تأويلها، وإنما المعنى لا تعتدوا بآبائكم واحفظوا أنفسكم أن تزِّل كما زلَّ غيركم، وإذا اهتديتم فليس عليكم من ضلال من خالفكم شيء. كقوله: (لَّيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم) ،(5/473)
وقوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) .
قيل: وفيها حثٌّ على أن نظر الإنسان لنفسه أن يهذب نفسه
قبل أن يهذب غيره، وأن يعتبر حال نفسه قبل اعتبار حال غيره.
وعلى هذا: (قُوَاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا) .
فأمر أن يبدأ بنفسه.
وقيل: إن ذاك إشارة إلى ترك النهي باليد واللسان، حيث يعلم أنه لا يغني ولا يجدي كما ورد في الخبر (إذا رأيتم هوى متبعا وإعجاب المرء بنفسه فعليكم أنفسكم) .(5/474)
وقيل: عنى من يضل من أهل الكتاب إذا التزموا الجزية، فيقول دعوهم وشأنهم
ولا يضركم منهم شيء، وقيل: إن ذلك إشارة إلى وقت مخصوص.
فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(ترك النهي إذا قدم كنيسة دمشق فجعل مسجداً، وإذا رأت الكاسيات العارية) .
قيل: هذا كان في زمن الوليد بن عبد الملك، فهو الذي هدم الكنيسة وضمها إلى المسجد.(5/475)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
وقال: مكحول وعبد الله بن مسعود: (عَلَيكُتم أَنفُسَكُم) إنما هو إذا غاب
الواعظ وأنكر الموعوظ، وقيل: عنى بقوله: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم) أي
لا تعتد بهؤلاء فيما يفعلونه من الشر وتركن إليهم وتستمرئ لنفسك ما تستمرئ لغيرك. كما يفعله كثير من الناس في أنهم يأخذون برخصهم فيؤدي ذلك بهم إلى الهلاك، وهذا كقولهم: كل شاة تناط برجليها.
وقيل: إن ذلك توكيد لقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي عليكم في أسئلتكم بما يعود منافعه عليكم لا يضاركم ولا يضركم كقولهم: - الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كفيت.
وقيل: معناه عليك نفسك فاشغلها قبل أن تشغلك
فإن لم تصلحها أفسدتك.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)(5/476)
هذه الآية يتعلق بها حكم التقدير والإعراب والفقه، فأما تقديرها: فهو إذا حضر أحدكم الموت فشهادة بينكم اثنان ذوا عدل، أو إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فآخران من غيركم إن لم يكن ذوا عدل منكم، فإن ارتبتم تحسبونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمناً، واستغنى عن جواب إذا حضر بقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم) ، وعن جواب إن ضربتم، بقوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، وعن جواب الفاء بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) ، وقوله: (بِاللَّهِ) يصح أن يكون استئنافاً فيكون هو الذي يتفوه
به المقسم على تقدير فيقسمان، ويقولان: - تالله لا نشتري.
ويجوز أن يكون متعلق بيقسمان، فيكون قوله: (لَا نَشترِي) على تقدير: والله لا نشتري فهذا تقدير الآية.
فأما إعرابها: فقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم) يجوز أن يكون
مبتدأ وخبره قوله: (اثنانِ) كأنه قيل: شهادة بينكم شهادة اثنين.(5/477)
ويجوز أن يكون تقديره: عليكم أن تُشْهِدَ اثنان، فيكون قوله: (شَهَادَةُ) ابتداء محذوف الخبر و (اثنَانِ) مرتفع بقوله (شَهَادَةُ) .
وقيل: يكون (شهادة بينكم) مبتدأ وقوله: (اثنانِ) فاعل، ويرتفع به، ويستغني عن خبر الابتداء كقولهم: - قائم الزيدان.
وقوله: (إِذَا حَضَرَ) خبر، لقوله: (شَهَادَةُ)
وقوله: (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من قوله:
(إِذَا حَضَرَ) وقيل هو ظرف لقوله: (إِذَا حَضَرَ) ، وحضور الموت:(5/478)
حضور أسبابه من المرض ونحوه.
وقوله: (أَوْ آخَرَانِ) ليس على التخيير، بل معناه: إنما يقبل الآخران في السفر خاصة، إذا عدم العدلان وأمَّا فيهما فقد اختلف في قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال بعض الفقهاء: إذا كان من غير قبيلتكم، ولم يعن من غير المسلمين، لأن شهادتهم لا تقبل علينا بوجه، ويقوي ذلك بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) وقال إنما يفعل بمن في قلبه استعظام الصلاة فينزجر عن اليمين مخافة العقوبة، وإلى هذا ذهب الحسن.
قوله: إنه أريد من غير قبيلتكم.
وقال بعضهم عنى من غير المسلمين، قال والقصة التي نزلت الآية في سببها(5/479)
يدل على ذلك، فهو أن تميماً الداري وعدياً، وكانا حينئذٍ نصرانيين
بنجران فخرج معهما مولى لعمرو بن العاص يقال له بديل، ومعه متاع.
فلما قدموا الشام مرض المولى وكان مسلماً فكتب وصيته ولم يعلم بذلك تميم
وعدي، وقدما المدينة، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص، وأخبراه بموت
بديل، فقال عمرو: ولقد توجه من عندنا بأكثر من هذا المتاعِ، فهل باع
شيئا، فقالا: لا، فمضى بهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما أن بديلاً ما ترك غير هذا، ثم إن عمرو بن العاص ظهر على آنية فضة عند تميم، فقال هذه الآنية لي وهى مما كان مع بديل، فقالا: كنا اشتريناها منه، فقال عمرو: لقد سألتكما(5/480)
هل باع شيئاً، قلتما: لا، فقالا: نسينا، فذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: إنا كنا ابتعنا الآنية ولم يكن لنا عليه بيِّنة فكرهنا أن نقر، فنزلت الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر يجوز إذا لم يوجد العدلان
وقد حكم أبو موسى في مثله بذلك، وقال هذا حكم ثابت غير منسوخ.
وقال بعضهم: - ذاك في الكافر في أول الإسلام ثم نسخ بآية
الشهادة، ولا يجوز الآن شهادة الذميّ على المسلم بوجه، وقد بيَّنت أن لا يمين على الشاهد بوجه، ولا يجوز الارتياب على الشاهد لمكان اليمين، ولا يجوز(5/481)
أيضاً أن يجعل يمين الورثة معارضة ليمين الشاهد، فيجب أن يكون ذلك منسوخاً بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ومن قال بالأول فقال بقوله:
(فَيُقسِمَانِ) ليس بإيجاب، وإنما هي أن يبتدئ الشاهد فيحلف من غير أن
يُحلًف، فذكر أنه لا يعرج على يمينه ولا يعتد به، وإنما كان منسوخاً أن لو
كان ذلك واجباً.
إن قيل: لما قال: (لَا نَشتَرِى بِهِ ثَمَنًا) والثمن هو الذي يُشْتَري به
لا يشتري هو؟
قيل: قد قال بعض أهل اللغة: - أراد ذا ثمن فحذف المضاف، وقيل: إن كل شراء بيع وليس كل بيع شراء، وذلك يختلف بالاعتقاد في الثمن والمثمن، ولهذا قيل: بعتُ واشتريت من الأضداد، فعلى هذا
كأنه جعل الثمن مصوراً بصورة البيع، فلهذا قيل ذلك وقد دل في موضع آخر: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) .
وقوله: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي للميت، ولو كان المشهود قريباً وذلك لما في طبع الإنسان من ميله إلى أقاربه، ومن هذا الوجه رد شهادة الأب للابن، والابن للأب، وأضاف(5/482)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
الشهادة إلى الله تعظيماً لها كقوله: (وَأَقِيمُواْ الشاهَدَةَ لِلَّهِ) .
وقرأ
الشعبي: (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ) بالتنوين، وجعل الله مجروراً ومنصوبًا
على تقدير القسم.
قوله عز وجل: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قوله: (الأولينِ) يحتمل إعرابه أوجهاً:
الأول: أن يكون مبتدأ وقوله: (فَآخَرَانِ) خبر.
وتقديره: إن عثر أنهما استحقا إثماً أي أن اطلع وقف على أن الشاهدين
هما الآخران من غير أن يحيفا في شهادتهما فاستحقا إثماً، فالأوليان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم أي من أهل الميت،
ويجوز أن يكون قوله: (فَآخَرَانِ) مبتدأ، و (الأَولَينِ) خبره،
ويجوز أن يكون قوله:(5/483)
(فَآخَرَانِ) مبتدأ و (يَقُومَانِ) خبره، و (الأَولَيَنِ) بدل إمَّا
من قوله: (فَآخَرَانِ) أو من الضمير في قوله: (يَقُومَانِ) أو يكون
خبر ابتداء مضمر، فهذه ستة أوجه في إعرابه،
وقد أجاز أبو الحسن وجهاً سابعاً: وهو أن يكون: (الأَولَينِ) صفة لقوله: (فَآخَرَانِ) قال: ويجوز ذلك، وإن كان قوله: (فَآخَرَانِ) و (الأَولَينِ)
معرفة، لأن ذلك تعريفه للجنس، وقوله: (فَآخَرَانِ) قد وصف، والنكرة
الموصوفة قريبة من المعرفة بالألف واللام الدالة على الجنس،
ولهذا صح أن يوصف ما فيه الألف واللام بغيره مثل في نحو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
وحُكي: مرَرْتُ بالرجل مثلك، وذلك أنهما (الأَولَينِ) أي هما أولى من غيرهما، لأنهما أعرف بأحوال الميت، ولأنهما من المسلمين، فإن الخطاب من أول الآية مصروف إليهم،(5/484)
وقوله: (عَلَيهِمُ) يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون (على) باقي على
ظاهره كقولهم: استحق على فلان مال، أي لزمه ووجب عليه الخروج
منه.
الثاني: أن يكون قوله: (عَلَى) بمنزلة (مَنْ) كقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي منهم.
الثالث: أن يكون بمنزلة في موضع (عَلَى) مقام (في) كما وضع (في) مكان (على) في قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخلِ) .
وقرأ إسحاق (عليهما الأوليان)(5/485)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
فيكون لهذا مرتفع، قوله: (الأَولَينِ) بقوله: (استَحَقَّ) والمفعول
الذي هو المستحق محذوف.
وقرأ: (مِنَ الَّذِينَ استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) الجمع، أي من الأولين الذين استحق عليهم، هذا المعنى فيكون
قوله: (الأَولَينِ) بدلاً من الذين.
وقرأ ابن سيرين: (مِنَ الَّذِين استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) تثنية الأول وليس ذلك بالوجه، فقد قال: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) فكيف يقول بعده الأولين.
قوله عز وجل: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)(5/486)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
أن يتحرى هذا الفعل ومرجاته أقرب إلى الإنسان إمَّا لصلاحه
في نفسه، وإمَّا لخوفه أن تُردَّ أيمانه على الأوليان بعد أيمانهم فيحلفوا على جنايتهم فيُفضحوا، فيقيمون الشهادة على وجهها تفادياً من ذلك،
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) إما توحدون به فإنكم إن لم تتقوا ولم تسمعوا لصرتم فاسقين، فإذا فسقتم لم يهديكم الله، فالله لا يهدي القوم الفاسقين. إن قيل لم قال: (يَأتُواْ) فذكر بلفظ الجمع، وما تقدم هو تثنية؟
قيل: لأنه لم يعنهما فقط بل عنى الناس كلهم، أي ذلك أدنى أن يصير الناس هكذا.
قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قيل تقدير الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية،
وإنما المعنى لا يهديهم إلى طريق الجنة في ذلكٍ اليوم.
وقيل: معناه اذكروا يوم، ويكون اليوم مفعول فعل مضمر لا ظرفاً،
لأنه لم يرد اذكروا في ذلك اليوم.(5/487)
إن قيل: كيف قالوا لا علم لنا، فنفوا العلم كله عن
أنفسهم وذلك كذب؟
قيل: في ذلك أوجه: الأول: قال الحسن: من هَوْلِ
ذلك اليوم نَسُوْا كل ما عملوه،
فإن قيل: وكيف يصح ذلك، وقد قال: (وَلَا خَوفٌ عَلَيهِم) ،
وقال: (لَا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ) ؟
قيل: إن معنى لا يحزنهم ولا خوف عليهم أنه لا يصيبهم ما يقتضيه
الخوف، إلا أنه يعتريهم، وهذا كقولك لمن يرتعد خوفاً لا خوفاً عليك، أي
لا يحق خوفك.
الثاني: قال ابن عباس: لا علم لنا بالإضافة إلى علمك، وهذا
لمن استخبر من هو أعلم بالخبر منه، فيقول: لا علم لي.
التالث: أن السؤال يقع على ما اعتقده، لا ما أظهروه، وذلك لا علم للأنبياء به، إنما يعلمه المطلع.(5/488)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
على السرائر والضمائر جل وعزَّ.
الرابع: أن قوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) سؤال عن كل ما أجيبوا، لا عن بعضه، وهم عرفوا بعض ذلك، ولم يعرفوا أكثره، فقالوا: لا علم بكل ذلك
ووجه هذا السؤال توبيخ الكفار كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) ، وعَلَّامُ: لمن كثر علمه، ولم يوالي بعلمه، وهو في هذا الموضع لهما.
قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)(5/489)
قوله: (إِذ قَالَ اللَّهُ) قيل: مفعول بفعل مضمر
كأنه قيل: اذكر وقت ما قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك، يعني: اذكر يوم القيامة، وقيل تقديره: ماذا أجبتم إذ قال الله.
(وإِذ أَيَّدتُّكَ) فعلتُ من الأيدِ أي القوة، وقرأ (أَيَّدتُّكَ) وهو أفعلت منه، وقال الزجاج: يجوز أن يكون فاعلت منه نحو عاونت.
ومن نعمة الله على والدتك أن اصطفاها على نساء العالمين، وأن جعل لها النخل حيث قال:(5/490)
(وَهُزِّى إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ) وغير ذلك.
وروح القدس: جبريل.
قيل: هو تقديسه وروحه هو نفخة فيها من روحه.
والكتاب قيل: عنى بالكتاب، وقيل: بل باسم كل كتاب أنزله تعالى، ثم خص التوراة والإنجيل تعظيماً لهما.
وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي تهدي الناس في حالة الصغر
والكبر بخلاف ما كان عامة الأنبياء والحكماء، وذكر الإذن في الأمور الإلهية التي خصه الله تعالى بها تنبيهاً أن ذلك لم يكن للآلهة فيه بل كان ذلك بإذنه ومن فضله عليه، وتخصيصه به، ولم يذكر في قوله: (وَإِذ عَلَّمتُكَ) وفي قوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ) فإن في هذين قد شارك المسيح غيره.
وكف بني إسرائيل عنه قد كان من بعضهم بالعصمة، ومن بعضهم بالحجة، ومن بعضهم(5/491)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
بتسخيرهم له وائقيادهمْ إلى غير ذلك من الوجوه،
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فعلك سحر، وقرأ (إن هذا إلا ساحر) أي عيسى عليه الصلاة والسلام.
قوله عز وجل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
الحواريون، روي أنهم كانوا قصارين، وروي أنهم كانوا صيادين.
وقد قال بعض المحققين: يعني أنهم سموا حواريين، أي كانوا يغسلون نفوس البشر عن النجاسات النفسية، ويعني أنهم صيادون أنهم يصيدون الناس عن
الباطل، ويجعلونهم في شبكة الحق، وقد شرح ذلك في كتاب (مكارم
الشريعة) ، وسمي حاشية الرجل حوارية تشبيهاً بأصحاب عيسى عليه الصلاة
والسلام.
والوحي هنا قيل: هو على سبيل الإلهام، والتوفيق نحو:(5/492)
(وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) وقيل: هو على سبيل الابتلاء لهم من آياته
الباهرة.
وقيل: على لسان نبيهم، فالوحي قد يقال في كل ذلك نحو:
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا) أي على لسان نبي.
وقوله: (وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) يعى بالإلهام.
وقوله: (فَأَوحَى إِلَيهِم أَن سَبِّحُواْ بُكرَةً وَعَشيًّا)
قال بعض الحكماء: كما أن كل ساكت ناطق من جهة الدلالة،
فكل دال على معنى من الله فهو وحي منه وعلى هذا قال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) .
وهذا معطوف على ما ذكر تعالى.
ومن نعمه عليه فهمه، وأشهد خطاب فهم لعيسى على سبيل الاستشهاد
منهم، والإسلام هاهنا أبلغ من الكتاب فإنه يقتضي الاستسلام المذكور في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) .(5/493)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
(إِذ) هاهنا لم يجعله معطوفاً، بل جعله داخلاً في فعله.
قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إليهم في وقت ما قالوا كذا،
واستفهامهم عن استطاعة الله، قيل: فيه أقوال:
الأول: أنهم قالوا ذلك قبل أن تستحكم معرفتهم بالله.
الثاني: قال الحسن: هل ترى أن يفعل، كقولك
القادر المتمكن هل يمكنك أن تفعل كذا، وهذه الاستطاعة على ما يقتضيه الرأي والحكمة، لا على ما يقتضيه القدرة، لأنه قد يقال: فلان لا يستطيع كذا وليس(5/494)
يعني أن القدرة كذلك، وإنما يعني أن رأيه لا يتوجه إليه.
الثالث: إن استطاع وأطاع يعني كقولهم استجاب وأجاب،
ومعنى: (هَل يستطيعُ) أي هل يستطيع أن يجيب، كقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي يجاب، وقرأ الكسائي (هَل تستطيعُ رَبَّكَ) ونصب
رَبَّكَ، يعني هل تستطيع سؤالِكَ ربِّكَ.
والمائدة قيل: أصله من ماد، المنكّر يميد إذا أمتك ذا نحوك.
وقيل: من ماد أعطاه، وامتاده، استعطاه،
قال: أبو عبيدة فلفظها فاعله، ومعناه مفعول نحو: (عيشةٍ راضِيَةٍ) .
وقيل: بل هو معنى الفاعل، فوصف بذلك كما يقال: شجر ومطعمة، أيضاً يقال مائدة(5/495)
عطية وعلى ذلك مطعم سألوه، ومائدة من الطعام. فقال عيسَى (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لعذروا ومن سؤال ذلك إن كان لكم إيمان، فلم
تقلعوا عن السؤال بل ذكروا علة سؤالهم.
فقالوا نريد الأكل منها وأن يكون سببا لاطمئنان قلوبنا، كما قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فحينئذ سأل الله عيسى ذلك متضمن أن يتخذوا ذلك اليوم يوم عيد.
وقوله: (وَارزُقنَا) قيل ارزقناه، وقيل: ارزقنا شكره، فضمن الله
ذلك أن ينزلها بشرط أن من يكفر بها عذبه أعظم تعذيب.
قيل إنه أراد أن يمسخهم قردة وخنازير.
وقيل: بل عني عذاب الآخرة، المعنى بقوله: (وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أَكبَرُ) ، فاختلفوا هل أنزل الله ذلك؟
فقال الحسن: - إن ذلك استفراض من الله تعالى، ووعد بشرط أنهم إن أرادوها بهذه(5/496)
الشريطة أنزلها فرغبوا عنها فلم ينزلها الله تعالى.
وقال غيره بل ذلك وعد من الله تعالى، ووعيد مقرون به لا يشترط في الوعد وقد أنزلها.
فمن قال بذلك، قال كانت تلك المائدة طعاماً من الأرز والسمك، وأن عيسى قال لهم: - صوموا كذا يوماً، ثم سألوه فصاموا، فأنزل الله سبعة أحوات، وسبعة أرغفة.
وقال ابن جبير: كان على المائدة كل شيء إلا اللحم، وأنزل الله
ذلك يوم الأحد فجعلوه عيداً.
وقيل: أكل منها أربعة آلاف رجل، وبقيت على حالتها، ثم كفر بها قوم فمسخهم الله قردة وخنازير.
وحمل بعض المتصوفة الآية على المثل والإشارة، وقال: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، وعلى هذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مأدبه فقال: (القرآن مأدبة الله في أرضه) .(5/497)
وبهذا النظر جعل الأدب والمأدبة من أصل، فإن الطعام غذاء البدن والعلم غذاء الروح، وعلى هذا ما قيل: إن متعلماً قرب من باب عالم، فقال: أطعمني فأعطاه لقمة، فقال: إني أسأل ما يحي النفس، لا ما يتعب الضرس، قال هذا القائل: وإنما القوم رغبوا في حقائق لم يأت وقت إطلالهم عليه،
ولم يكتسبوا الحالة التي تمكنهم الوقوف عليه، فقول عيسى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حثٌّ منه على اكتساب التقوى واستعمالها.
فيقول: إن حصلتم الإيمان وهو العلم الحقيقي، فاستعملوا التقوى فبها تنال هذه المنزلة.
ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) .
فلما ألحُّوا في السؤال سأل عيسى فقال: (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وقال وهذا كما سأل إبراهيم فقال:(5/498)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ، وقال موسى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) . وإنما سأل حالة لا تجعل إلا للأنبياء والأولياء في الآخرة، فبين الله تعالى أن ذلك غير سهل ما دمت على هذه الحالة، وبين تعالى أن من تخصص هذه
الحالة، وكان منه حال ينافي الإيمان عذب أشد العذاب، فقد قيل: صغائر
العامة كبائر الأولياء، والقليل من ذنوبهم يعظم عقابه فإذا يعذب ما كان
من كفره عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فمن بلغ مبلغهم، ولم
يؤتوا بما أوتوا.
الله أعلم بالحقائق.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
إن قيل: (وَإِذ قَالَ) إخبار عما مضى، فمتى كان هذا السؤال؟(5/499)
قيل في ذلك جوابان:
أحدهما: أدن ذلك إخباراً عما يكون يوم القيامة، فذكر لحظة الماضي تقريباً للفعل، وإخبار بأنه في حكم ما قد كان كما قال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) .
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) ونحو ذلك.
والثاني: أن ذلك قاله حين رفعه إلى السماء وجهة سؤاله مع علمه تعالى إن لم يكن من عيسى ذلك. وتبكيت للكَفْرةِ وتكذيب لهم.
إن قيل ما وجه قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وهم لم يتخذوهما من دونه، وإنما اتخذوهما معه وأيضاً فإن هذا متعين أنهما لو اتخذوهما إلهين معه لكان يجوز لأنك إذا قلت اتخذت فلاناً دوني صفياً فإنما أنكر إفراده باتخاذه.(5/500)
قيل: إن قوله: (مِن دُونِى) يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكر اتخذتموهما معبودين، ولم يتخذوه معبوداً، وذلك أنهم لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يعبد معه غيره، فلهذا قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
والثاني: أن: (دُونِ) هاهنا للقاصر عن الشيء وهم
عبدوا المسيح وأمه فيما توصلا إلى عبادة الله. كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا: (مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى) ، فكأنه قيل:
أنت قلت اتخذوني إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال سبحانك منزهين عن
ذلك، وأنكر أن يقول ما لا يحق أن يعلمه تعالى.
وبيَّن أنه علام الغيوب فيما خفى علمه عنا فيه.
إن قيل ما وجه قوله: (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فأثبت لله نفساً.؟
قيل: النفس عبارة عن الذات، يقال: جاءني فلان بنفسه، وقيل عنى في معني مقابل النفس بالنفس.(5/501)
وقيل: نفس العالم، وإضافته إليه على وجه الملك لا على وجه البعضية، تعالى الله عن البعضية.
وهذا كما روى (الريح من نفس الرحمن) ، ونحو ذلك،
وقيل: القصد إلى نفي النفس عنه، فكأنه قال تعلم ما في نفسي ولا نفس لك، قصد إلى نفى التركيب
قال وعلى هذا قال الشاعر:
لا ترى الضبُّ بها يتحجر
قصداً إلى أن لا ضب ولا حجر هاهنا، فيكون من الضب الأحجار.
وقيل:
عئ تعلم ما أنا عليه، ولا أعلم ما أنت عليه.
وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)
قيل: إن بدل من الهاء، وقيل: إن بدل من (مَا) ، وقيل: خبر ابتداء(5/502)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
مضمر، وقيل: إن هو بمعنى أي وهو تفسير لما أمر به.
والرقيب المطلع على الشيء الحافظ له.
إن قيل: كيف قال: (فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى) وقد قلتم إن عيسى
عليه الصلاة والسلام لم يقتل؟
معنى التوفي أخذ الشيء وأيضا وليس هو الموت، وإنما الموت بعض الذي يقتضيه لفظ التوفي، ألا ترى إلى قوله تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) فجعل
النائم متوفي، فقوله: توفاه ورفعه. بمعنى.
وقيل: إن الله تعالى نفى أنه صلب كما زعموا، فإنه تعالى رفعه ثم أماته، وبيّن في الجواب أنه كان يرقبهم ما دام فيهم، فلما توفي لم يخف عليه تعالى حالهم، وذلك مذكور على طريق التعظيم لا على طريق التعريف.
قوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)(5/503)
إن قيل كيف قال: (عِبَادُكَ) والعبد أكثر ما يقال فيمن عبد لا فيمن ملك، وهم لم يعبدوا الله في الحقيقة، أو قد عبدوا عيسى وأمه؟
قيل: بل العباد يستعمل مع الله فيقال الناس عباد الله، ولا يقال عباد الأمير إلا على التشبيه، والعبيد يقال في الله، وفي غيره، ثم الناس كلهم يعبدون الله تسخيراً وقهراً، وإن لم يعبدوه طوعاً، فإنهم إذا عبدوا غيره على أنه
المنعم عليهم فهم يعبدون الله لأنه هو المنعم وعلى هذا: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) .
وقال تعالى: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) .
فإن قيل لو كانوا يعبدون الله بفعلهم لما داموا؟
قيل: إنما يدمون بقصدهم فيما يفعلونه، لأنهم يقصدون عبادة غير الله والإنسان مثاب ومعاقب بنيته، ولهذا قال: (إنما الأعمال بالنيات) .
ولما قال لا يستحق الجمادات ويستحقها ثواباً استحقاق الإنسان والملائكة والجن.
إن قيل: كيف قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) وجواب الشرط
إنما يصح فيما يقع بوقوع الشرط، وقد علم أن هؤلاء عباده عذبهم أو لم يعذبهم.
قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، وتقديره: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك أي من
أمرتهم بعبادتك، تنبيها أنهم لم يعبدوك فاستحقوا عقابك،(5/504)
إن قيل كيف جاز أن نقول وإن تغفر لهم فيُعرّض بسؤاله العفو عنهم مع علمه أنه تعالى قد حكم بأنه:
(مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ؟
قيل: قال أبو العباس المبرد رحمه الله: " إن تغفر كذبهم عليّ حيث قالوا: عيسى أمرنا بذلك فإنهم عبادك أي شئت لعلمك بهم فالذي سأله العفو عنهم والغفران لهم فيما هو حق له ".
وقيل: إن هذا السؤال إنما هو كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على
كل مايريده وعلى مقتضى حكمه وحكمته.
تنبيه أنه تعالى جمع القدرة والحكمة، فهو قادر على أن يفعل أي المقتضين بإرادته لهذا قال: (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تنبيهاً أنه لا امتناع لأحد من عزه ولا اعتراض في حكمته، ولهذا قال أنت العزيز ولم يقل الغفور، وإلى هذا أشار الحسن رضي الله عنه حيث قال: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبعزتك ما كان منهم.
فإن قيل: فكيف قال (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالأليق أن يوضع الغفور قبل العزة هاهنا أولى فهي تنبيه أنك تجمع القدرة والحكمة، ولم يقصد إنزال الغفران للكفرة منهم وإلى نحو هذا قصد الشاعر في قوله:
أذْنَبْت ذَنْباً عَظيماً وأنت للعَفْوِ ... فإن غَفَرْتَ تَفَضَلاً وإن جَزَيْتَهُ(5/505)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قوله عز وجل: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
أي من صدق في الدنيا نفعه صدقه اليوم، ولم يرد أنه ينفعهم ما صدقوا فيه ذاك اليوم، ولم يعن صدق المقال فقط بل عناه والصدق في الأفعال وهو ترك الرياء وإخلاص المسار إليه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يؤتى يوم القيامة بقارئ القرآن فيقال له ما كنت تفعل؟ فيقول: كنت أقرأ القرآن، فيقول له: كنت تقرأ ليقال إنك قارئ، وقد قيل ذلك فيؤمر به إلى النار) وقرأ (يَومُ) بالرفع، وهو الأكثر، فيكون الإشارة إلى اليوم، فإذا نصب فإشارة إلى ما في اليوم، أي هذا الحكم، وهذا القول الذي ذكرت يكون في يوم ينفع الصادقين صدقهم، والخلود يقتضي اللزوم والدوام، يقال: خلوداً في الديوان، وأخلد(5/506)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
فلان إلى الأرض كقوله: ركن إليها ولزمها على الدوام، والمعنى اللزوم ولم يصح أن يوصف الله تعالى بالخلود كما وصف بالدوام.
قوله عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
تنبيه على تكذيب النصارى فيما ادعوه من ربوبية عيسى وأمه
عليهما السلام، وقد تقدم وجه تكذيبهم نحو هذا الكلام.(5/507)
رأيت فيه بحاراً أمواجها تتلاطم
وأفواج فوائدها تتصادم وأذعنت بهم
من دقائق معانيه الفائقة ورقائق ألفاظه الرائقة،
ما أنساني سماع الأغاني من الطربات الغواني (1)
انتهى.
__________
(1) لم أقف عليه عند غير الراغب ولعله من قوله والله أعلم.(5/508)
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات محمد ذي الكمالات، وآله وصحبه ما أشرقت بنور ربها قلوب المؤمنين والمؤمنات
وبعد.
فهذا ما يسره الله وأعانني عليه، ولعلي أكون وقد اطلعت على ألوان مختلفة
ومتباينة في حياة الراغب ومنهجيته في التأليف، وقدرته على السبر والتقسيم
، وتبحره اللغوي والنحوي، الذي يوحي بدراسة لشواهده الشعرية على غرار شواهد القرطبي، وكشفت الستار عن غموض عقيدته، وتأويله بعض صفات الخالق عز وجل بطرق عقلية وفلسفية، وتأثره بعلماء عصره من أئمة المعتزلة والأشاعرة، مما يستلزم قيام دراسة منهجية لكتابه المفردات وخاصة أنه متداول بين مختلف المراحل التعليمية، كما لا يفوتني الإشارة إلى ميله لآراء الشافعية، ْوبراعته في النقد والتوجيه والإتيان بالحجة والبرهان، وحسبي بهذا العمل الذي اعتبره باكورة عملي في إثراء المكتبة الإسلامية، وحسبي أن أكون قد أرضيت رغبتي العلمية، التي لم آل في إرضائها جهداً، فإن سلم البحث فذلك من فضل الله، وإن كانت الأخرى، فذاك جهد المقل، وطاقة الناشئ الذي لا يزال يرقب من وراء الغيب أملاً فسيحاً.
هذا.. ولا يفوتني أن اعتذر - إلى من قرأ رسالتي - عما يكون في هذا
البحث من أخطاء هينة لا تخفى على فطانة قارئه، ولا تدق عن إدراكه، فإن مرَّ بها فرجائي إليه أن يلتمس لها عذراً، وأن يصححها مشكوراً وتلك شكيمة الكرام أهل الخلق الطاهر، والأدب الحميد، وألا يكون ممن قال فيهم الشاعر:
فإن رأوا زلَّةً طاروا بها فرحاً. . . عني وما وجدوا من صالحٍ دفنوا
والله سبحانه وتعالى أسال أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأن يحقق لي
به ما تصبوا إليه نفسي وتسموا إليه همتي، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(5/509)