وقيل: لا يتمُّون ركوعها، ولا سجودها.
وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في سجوده. وقال قطربٌ: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله، وفي قراءة عبد الله: «الذين هم عن صلاتهم لاهون» .
[وعن ابن عباس أيضاً: هم المنافقون يتركون الصلاة سراً، ويصلونها علانية، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى الآية، وهذا يدل على أنها في المنافقين قوله: {الذين هُمْ يُرَآءُونَ} ، ورواه ابن وهب عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه] .
فصل
قال ابن عبَّاس: ولو قال: «في صلاتهم ساهون» لكانت في المؤمنين، وقال عطاء: الحمد لله الذي قال: {عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} ولم يقل: في صلاتهم، فدل على أن الآية في المنافقين.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: أي فرق بين قوله تعالى: {عَن صَلاَتِهِمْ} وبين قوله: «في صلاتهم» ؟ .
قلت: معنى «عَنْ» أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين، ومعنى «فِي» أن السَّهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه إنسان، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقع له السَّهْوُ في صلاته فضلاً عن غيره.
قال ابن الخطيب: قال كثير من العلماء: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما سها في صلاته لكن أذن الله له في ذلك الفعل بياناً للتشريع في فعل السَّاهي، ثم بتقدير وقوع السهو منه، فالسهو على أقسام:(20/516)
أحدها: سهو الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأصحابه، وذلك يجبر بالسنن تارة، وبالسُّنن والنوافل تارة.
والثاني: ما يكثر في الصلاة من الغفلة، وعدم استحضار النِّيَّة، وهذا يقع كثيراًَ.
والثالث: ترك الصَّلاة، لا إلى قضاء الإخراج من الوقت، ومن ذلك صلاة المُنافق؛ لأنه يستهزئ بالدين، والفرق بين المُنافق والمُرائي: أنَّ المنافق يبطن الكفر ويظهر الإيمان والمرائي: إنما يظهرُ زيادة الخُشُوع ليعتقد من يراه دينه، أو يقال: إن المنافق لا يصلي سراً، والمرائي تكون صلاته عند النَّاس.
قال ابن العربي: السَّلامة عند السَّهو محال.
قوله: {الذين هُمْ يُرَآءُونَ} ، أي: يُري الناس أنه يصلي طاعة، وهو يصلي تقيَّة كالفاسق، يري أنه يصلي عبادة، وهو يصلي ليقال: إنه يصلي، وحقيقة الرِّياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلةِ في قُلوب الناس، وهو من وجوه:
أولها: تحسين السَّمت، يريد بذلك الجاه، والثناء.
وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة ليتشبه بالزهادِ.
وثالثها: إظهار السخط على الدنيا، وإظهار الوعظ، والتأسّف على فوات الخير والطاعة.
ورابعها: إظهار الصلاة، والصدقة، وتحسين الصلاة، لأجل رؤية الناس، وغير ذلك مما يطول ذكره.
فصل في الرياء
لا يكون الرجل مُرائياً بإظهار العمل المفروض، لأن حق الفرائض الإعلان وإشهارها لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ولا غمةُ فِي فَرائضِ اللهِ» ، ولأنها أعلام الإسلام وشرائع الدين، ويستحق تاركها الذم، والمَقْت، فوجب إماطة التُّهمة بإظهارها، وأما التطوع فحقه أن يخفى؛ لأنه مما لا يلام بتركه، ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتداء كان جميلاً، وإن قصد بإظهاره أن الأعين تنظر إليه، ويثنى عليه بالصَّلاح فهو الرياء.
قوله: {وَيَمْنَعُونَ الماعون} . في «المَاعُون» أوجه:
أحدها: «فاعول» من المعن، وهو الشيء القليل، يقال: ما له معنة، أي: قليل، قاله قطربٌ.
الثاني: أنه اسم مفعول من أعانه يعينه [والأصل: مَعُون، وكان من حقّه على هذا أن يقال: معون ك «مقول» و «مصون» اسم مفعول من: قال وصان، ولكن قلبت الكلمة بأن قدمت عينها قبل فائها، فصار موعون، ثم قلبت الواو الأولى الفاً كقولهم تاب وصام في توبة وصومة، فوزنه الآن مفعول، وفيه شذوذ معان كقام، وأما مفعول فاسم مفعول الثلاثي.(20/517)
الثاني: القلب وهو خلاف الأصل.
الثالث: قلب حرف العلة ألفاً وإن لم يتحرك، وقياسه على تابه وصامه بعيد لشذوذ المقيس عليه، وقد يجاب عن الثالث بأن الواو متحركة في الأصل قبل القلب، فإنه بزنة معوون الوجه] .
والثالث: أن أصله «معونة» والألف عوض عن الهاء.
ووزنه «مفعل» ك «ملوم» ، ووزنه بعد الزيادة «مافعل» .
فصل في تفسير الماعون
اختلف المفسرون في «الماعون» ، وأحسنها: أنه كان يستعان به، وينتفع به كالفأس والدلو، والمقدحة.
قال الأعشى: [المتقارب]
5323 - بأجْودَ مِنهُ بِمَاعُونهِ ... إذَا ما سَماؤهُمُ لَمْ تَغِمْ
ولم يذكر المفعول للمنع، إما للعلم به، أي: يمنعون النَّاس، أو الطالبين، وإما لأن الغرض ذكر ما يمنعونه، تنبيهاً لخساستهم، وضَنّهم بالأشياء النافعة المستقبح منها عند كل أحد.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على التهديد العظيم بالسَّهو عن الصَّلاة، والرياء، ومنع الماعُون، وذلك من باب الذنوب، ولا يصير المرء به منافقاً، فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على هذا الفعل؟ فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن الخطيب: المراد بالمصلين هنا المنافقون الذين يأتون بهذه الأفعال وعلى هذا التقدير: دلّت الآية على أن الكافر له مزيد عقوبة على فعل محظورات الشرعِ، وتركه واجبات الشَّرع، وذلك يدل على أنًّ الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.
الثاني: قيل لعكرمة: من منع شيئاً من المتاع كان له الويلُ؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثتهن فله الويل، يعني: ترك الصلاةِ، وفعل الرياء، وترك الماعون.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} غَفرَ اللهُ لهُ إنْ كَان مُؤدِّياً للزَّكَاةِ» والله تعالى أعلم.(20/518)
سورة الكوثر(20/519)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
مكية، في قول ابن عباس، والكلبي، ومقاتل، ومدنية في قول الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وهي ثلاث آيات، وعشر كلمات، واثنان وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} ، قرأ الحسن وابن محيصن، وطلحة، والزعفراني: «أنْطَيْنَاكَ» بالنون. قال الرازي، والتبريزي: أبدل من العين نوناً.
فإن عنينا البدل الصناعي فليس بمسلَّم، لأن كل مادة مستقلة بنفسها، بدليل كمال تصريفها، وإن عنينا بالبدل: أن هذه وقعت موقع هذه لغة، فقريب، ولا شكَّ أنها لغة ثابتة.
قال التبريزي: هي لغة العربِ العاربةِ من أولى قريش.
وفي الحديث: «اليَدُ العُلْيَا المُنطِيةُ، واليَدُ السُّفلَى المُنطَاةُ» .
وقال الشاعر وهو الأعشى: [المتقارب]
5324 - جِيادُكَ خَيْرُ جِيادِ المُلوكِ ... تُصَانُ الجِلالَ وتُنْطَى الحُلُولاَ
قال القرطبي: «وروته أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قراءة، وهي لغة في العطاء أنطيته: أعطيته» .(20/519)
والكوثر: «فَوْعَل» ، من الكثرةِ، وصف مبالغة في المفرط الكثرة، مثل النوفل من النَّفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيءٍ كثيراً في العدد، والقدر، والخطر: كوثراً؛ قال: [الطويل]
5325 - وأنْتَ كَثيرٌ يَا ابْنَ مَرْوانَ طَيِّبٌ ... وكَانَ أبُوكَ ابْنَ العقَائِلِ كَوثَرا
قيل لعجوز رجع ابنها من السَّفر: بم آب ابنك؟ .
قالت: آب بكوثر، أي: بمال كثير.
والكوثر من الغبار الكثير، وقد تكوثر إذا كثر؛ وقال الشاعر:
5326 - وقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حتَّى تَكْوثَرَا ... فصل في المراد بالكوثر
اختلفوا في الكوثر الذي أعطيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقيل: نهر في الجنة رواه البخاري وغيره.
وروى الترمذي عن ابن عمران قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الكَوْثَرُ: نهرٌ فِي الجنَّةِ، حَافتَاهُ مِنْ ذهَبٍ، ومَجْراهُ عَلى الدُّرّ والياقوت، تُربتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وماؤه أحْلَى مِنَ العَسلِ، وأبْيَضُ مِنَ الثّلْجِ» .
وقال عطاء: هو حوض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموقف وفيه أحاديث كثيرة.
وقال عكرمة: الكوثر: النبوة، والكتاب.
وقال الحسن: هوالقرآن. وقال ابن المغيرة: الإسلام.
وقال ابن كيسان: هو الإيثار.(20/520)
وقال الحسن بن الفضل: هو تيسير القرآن، وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب هو كثرة الأصحاب والأتباع والأمة.
وحكى الماورديُّ: أنه رفعة الذكر.
وقيل: [الشفاعة: وقال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقيل: الصلوات الخمس.
وقيل الفقه في الدين.
وقيل غير ذلك] .
قال القرطبيُّ: وأصح الأقوال: الأول، والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نصًّا في الكوثر.
فصل في الكلام على هذه السورة
قال ابنُ الخطيب: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها، فإنه ذكر في الأول البُخل، وترك الصلاة، والرياء، ومنع الماعون، وذكر هنا في مقابلة البخل: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} وفي مقابلة ترك الصلاة: قوله: «فَصلِّ» أي: دُمْ على الصلاة، وفي مقابلة الرياء قوله تعالى: {لِرَبِّكَ} أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون قوله: «وانْحَرْ» ، أي: تصدَّق بلحم الأضاحي، ثم ختم السُّورة سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} ، أي: أنَّ المنافق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سَيمُوتُ ولا يبقى له أثر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، في الآخرة الثواب الجزيل.
قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} .
قال ابن عبًّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أقم الصلاة المفروضة عليك.
وقال قتادة، وعطاء، وعكرمة: فصل لربك صلاة العيد يوم النحر، «وانْحَرْ» نسُككَ.
وقال أنس: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينحر، ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر.(20/521)
قال سعيد بن جبير: نزلت في «الحديبية» حين حصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن البيت، فأمره الله تعالى، أن يصلي، وينحر البدن، وينصرف، ففعل ذلك.
قال ابن العربي: «أما من قال: إن المراد بقوله تعالى: {فَصَلِّ} الصلوات الخمس، فلأنها رُكْن العبادات، وقاعدة الإسلام، وأعظم دعائم الدين.
وأما من قال: إنها صلاة الصبح بالمزدلفة، فلأنها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر» .
قال القرطبي: وأما من قال: إنها صلاة العيد، فذلك بغير «مكة» ، إذ ليس ب «مكة» صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فصل
الفاء في قوله: «فصلِّ» للتعقيب والتسبب، أي: تسبب هذه المنة العظيمة وعقبها أمرك بالتخلي لعبادة المنعم عليك، وقصدك إليه بالنحر لا كما تفعل قريش من صلاتها، ونحرها لأضيافها، وأما قوله تعالى: {وانحر} ، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومحمد بن كعب القرظي: المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره، وهو مروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: استقبل القبلة مكة بنحرك، وهو قول الفراء، والكلبي وأبي الأحوص.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر أي تتقابل نحر هذا بنحر هذا.
وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر، أي: تتقابل.
[وعن عطاء: أنه أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
وقال محمد بن كعب القرظي: يقول: إن ناساً يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله - تعالى - فقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله تعالى.
والنَّحر في الإبل بمنزلة الذَّبح في البقر والغنم] .(20/522)
قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} . يجوز أن يكون «هُوَ» مبتدأ و «الأبتر» خبره، والجملة خبر «إن» ، وأن يكون فصلاً.
وقال أبو البقاء: «أو توكيد» ، وهو غلط؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر.
والأبترُ: الذي لا عقب له، وهو في الأصل: الشيء المقطوع، من بترهُ، أي: قطعه.
وحمار أبتر: لا ذنب له، ورجل أباتر - بضم الهمزة -: الذي يقطع رحمه.
قال: [الطويل]
5327 - لَئِيمٌ نَزتْ فِي أنْفهِ خُنزُوانَةٌ ... عَلى قَطْعِ ذِي القُرْبَى أحَذُّ أباتِرُ
وبتر - بالكسر -: انقطع ذنبه.
قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: من لا ولد له ومن الدواب: الذي لا ذنب له.
[وكل من انقطع من الخير أثره، فهو أبتر. والبترُ: القطع بترت الشيء بتراً قطعته قبل الإتمام، والانبتار: الانقطاع، والباتر: السيف القاطع] .
وفي الحديث: «مَا هَذهِ البُتَيْرَاء؟» لمن أوتر بركعة واحدة، فأنكر عليه ابن مسعود.
وخطب زياد خطبة بتراء، لم يذكر الله تعالى، ولا صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان للنبي درع يقال لها: «البتراء» سميت بذلك لقصرها وقال ابن السكيت الأبتران: العِيْرُ والعبد، سيما بذلك لقلة خيرهما.
[والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر] .
وقرأ العامة: «شَانِئك» بالألف، اسم فاعل بمعنى الحال، أو الاستقبال أو الماضي.
وقرأ ابن عبَّاس: «شنئك» بغير ألف.
فقيل: يجوز أن تكون بناء مبالغة ك «فعال» و «مفعال» ، وقد أثبته سيبويه؛ وأنشد: [الكامل]
5328 - حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ، وآمِنٌ ... ما ليْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ(20/523)
وقول زيد الخيل: [الوافر]
5329 - أتَانِي أنَّهُمْ مَزقُونَ عِرْضِي ... جحَاشُ الكِرمَليْنِ لهَا قَديدُ
[فإن كان بمعنى الحال، والاستقبال، فإضافته لمفعوله من نصب، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب.
وقيل: يجوز أن يكون مقصوراً من فاعل كقولهم: بر وبار، وبرد وبارد] .
فصل في أقوال العلماء في الآية
اختلف المفسرون [في المراد] بقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} فقيل: هو العاص بن وائل، وكانت العرب تسمي من له بنون، وبنات، ثم مات البنون، وبقي البنات: أبتر.
فقيل: إن العاص وقف مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان من خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا، والآخرة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: كان أهل الجاهلية، إذا مات ابن الرجل قالوا: بُتر فلان، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج أبو جهل لأصحابه، فقال: بتر محمد، فأنزل الله تعالى إن شانئك هو الأبتر يعني أبا جهل.
وقال شهر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط.
وقال السديُّ وابن زيد: إن قريشاً كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده: قد بتر فلان، فلما مات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القاسمُ ب «مكة» ، وإبراهيم ب «المدينة» ، قالوا: بتر محمد، أي: فليس من يقوم بأمره من بعده، فنزلت الآية.
وقيل: لما أوحى الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا قريشاً إلى الإيمان قالوا: انبتر منا محمد أي خالفنا وانقطع عنا، فأخبر الله تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنهم هم المبتورون قاله عكرمة وشهر بن حوشب.
فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة
قال أهل العلم: قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على(20/524)
معان بليغة، وأساليب بديعة، منها: دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير.
ومنها: إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه، ومنها: إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه ك «أتَى أمْرُ اللهِ» .
ومنها: تأكيد الجملة ب «إنَّ» .
ومنها: بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين، ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته.
ومنها: تعريفه ب «أل» الجنسية الدالة على الاستغراق، ومنها: فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في «الأنعام» سبب الشكر والعبادة.
ومنها: التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.
ومنها: أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر.
ومنها: حذف متعلق «انْحَرْ» إذ التقدير: فصلِّ لربِّك وانحر له.
ومنها: مراعاة السجع، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف.
ومنها: قوله تعالى: {لِرَبِّكَ} في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي، والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كلَّ خير إلا منه.
ومنها: الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: {لِرَبِّكَ} .
ومنها: جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة وإن كان المراد به شخصاً معيناً لَعَيَّنَه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً، قد يؤثر فيه شنؤه.
ومنها تأكيد الجملة ب «إنَّ» المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم، وتقدير القسم يصلح هاهنا.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا «هُوَ» فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين.
ومنها: تعريف الأبتر ب «أل» المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة.(20/525)
ومنها: إقباله تعالى على رسوله بالخطاب، من أول السورة إلى آخرها.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} سقاه اللَّهُ - تعالى - من أنهار الجنَّةِ وأعطي مِنَ الأجْرِ عَشْر حسناتٍ بعَددِ كُلِّ قربَانٍ قرَّبهُ العبادُ في كُلَّ عيدٍ أو يُقرِّبُونَهُ» .
وعن مكحول - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} كَانَ لَهُ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغربِ أبعِرةٌ، على كُلِّ كرَاريسُ، كُل كرَّاس مثلُ الدُّنيَا ومَا فيهَا، كتب بدقة الشَّعرِ ليْسَ فِيهَا إلاَّ صفة قصوره، ومنَازله في الجنَّةِ» .(20/526)
سورة الكافرون(20/527)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
مكية، في قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وهي ست آيات، وست وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن الخطيب: «هذه السورة تسمى سورة البراءة وسورة الإخلاص، والمشفعة» .
روى الترمذي من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إنَّها تعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ» .
وروى ابن الأنباري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل يا أيها الكافرون تَعدلُ رُبُعَ القُرآنِ» .(20/527)
وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «صلَّى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأصحابه في صلاة الفجر في سفرٍ، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» قَرَأْتُ عَلَيْكُم ثُلثَ القُرآنِ وربعهُ «» .
[وروى جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» أتُحِبُّ يا جُبير إذا خَرجْتَ سَفَرَاً أنْ تكُونَ مِنْ أمثلِ أصْحَابِكَ هَيْئةً، وأكْثرهمْ زَاداً «؟ قلت: نَعَمْ، فاقْرَأ هذه السُّور الخَمْسَ من أول: {قل يا أيها الكافرون} إلى {قل أعوذ برب الناس} ، وافتتِحْ قِرءاتَك ب» بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ «» .
قال:] فوالله، لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذَّهُم هيئة، وأقلهم مالاً، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زاداً، حتى أرجع من سفري ذلك.
قال ابن الخطيب: والوجه في أنها تعدل ربع القرآن، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات، والنهي عن المحظورات، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح، وهذه السورة مشتملةٌ وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح , وهذه السورة مشتملةٌ على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب , فيكون ربع القرآن. وخرج ابنُ الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي , قال: " جاء رجُل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أوصني , قال: " اقرأ عِنْدَ مَنَامِكَ: {قُلْ يا أيها الكافرون} فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ «» .
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ليس في القرآن أشدّ غيظاً لإبليس - لعنه الله - من هذه السورة؛ لأنها توحيد، وبراءة من الشرك.
وقال الأصمعي: كان يقال ل {قُلْ يا أيها الكافرون} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} المقشقشتان، أي: أنهما تبرئان من النفاق.(20/528)
وقال أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كما يقشقش الهناءُ الجرب فيبرئه.
قال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، والجرب في الإبل إذا قفل: قد توسَّف جلده، وتقشّر جلده، وتقشقش جلده.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، لقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمدُ، هلمّ فلنعبد ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلِّه، فإن كان ما جئت به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظِّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {قُلْ يا أيها الكافرون} ، ونزل قوله:
{قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: 64] ، فغدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسلمين في الحرم، وفيه الملأ من قريش، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقرأها عليهم، حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه السورة فيئسوا وآذوه، وآذوا أصحابه.
فإن قيل: لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم؟ .
فالجوابُ: لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم، فتكون المبالغة فيها أشد فبولغ فيها بالوصف الأشنع، وهو الكفر، لأنه مذموم مطلقاً، والجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة فقد يذم عند التقييد، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عِلْمُ الإنْسَانِ عِلمٌ لا يَنْفَعُ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ» .
فإن قيل: قال في سورة التحريم: {يا أيها الذين كَفَرُواْ} [الآية: 7] ، بغير «قُلْ» ، وهنا - جلَّ وعز - ذكر «قُلْ» وذكره باسم الفاعل.
فالجواب: أنه في سورة «التحريم» إنما يقال لهم يوم القيامة، وثمَّ لا يكون رسولاً إليهم، فإذا زال الواسطة، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين، لا كافرين، فلذلك ذكره بلفظ الماضي.
وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً إليهم، فقال تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون} .(20/529)
فأن قيل: هذا خطاب مع الكل، وكان فيهم من يعبد الله تعالى، كاليهود، والنصارى، فلا يجوز أن يقال لهم: {لا أعبدُ ما تَعْبُدُونَ} ، ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله: {وَلاَ أنْتُمَ عَابِدُونَ ما أعْبدُ} خطاباً مع الكل؛ لأن في الكفار من آمن، فعبد الله.
فالجواب: أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين، وهم الذين قالوا: نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة وأيضاً لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص، وإذا حملناه على خطاب المشافهةِ لم يلزم ذلك.
فصل
قال القرطبي: الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة ل «أي» ، لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كُفرهِ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم؛ ونحوه عن الماوردي: نزلت جواباً وعتاباً وعنى بالكافرين قوماً معينين، لا جميع الكافرين، لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات، أو قتل على كفره، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون.
فصل
قال ابن الأنباري: وقرأ من طعن في القرآن: «قل للذين كفروا، لا أعبد ما تعبدون» وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على ربِّ العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم، وتحريفهم، فمعنى قراءتنا: قل للذين كفروا، يا أيها الكافرون، دليل صحة هذا: أن العربي إذا قال لمخاطبه: قل لزيد: أقبل إلينا، فمعناه، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ، وأبلغ معنى، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: «يا أيُّها الكَافِرُونَ» وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ، ويدخلوا في جملة أهله، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم بدٌ، أو تقع به من جهتهم أذية، فمن لم يقرأ: {قُلْ يا أيها الكافرون} ، كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.(20/530)
فصل في الكلام على «يا»
قال ابنُ الخطيب: روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن «يا» نداء النفس، و «أي» نداء القلب و «ها» نداء للروح.
وقيل «يا» نداء الغائب، و «أي» للحاضر، و «ها» للتنبيه، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول: أدعوك ثلاثاً، ولا تجبني مرة.
قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} . في «مَا» هذه في هذه السورة وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «الذي» .
والثانية: فالأمر فيها واضح؛ لأنها غير عقلاء. و «ما» أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ، ومن منع جعلها مصدرية، والتقدير: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثل عبادتي.
وقال أبو مسلم: «ما» في الأوليين بمعنى «الذي» والمقصود: المعبود، و «ما» في الأخريين مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال: أنها كلَّها بمعنى «الذي» ، أو مصدرية، أو الأوليان بمعنى الذي، والثالثة والرابعة مصدرية، لكان حسناً، حتى لا يلزم وقوع «ما» على أولي العلم، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم، كما تقدم.
فصل في التكرار في الآية
اختلفوا في التَّكرار - هاهنا - هل هو للتأكيد، أم لا؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيد لقوله {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ثانياً تأكيد لقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أولاً.
ومثله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ، و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] في سورتيهما، و {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4] ، و {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4 5] وفي الحديث: «فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي» ؛ وقال الشاعر: [مجزوء الكامل]
5330 - هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْ ... دّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا(20/531)
وقوله: [الرجز]
5331 - يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ ... خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وأكْرمَهْ
وقوله: [الرجز]
5332 - يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وقوله: [الطويل]
5333 - ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله: [الرجز]
5334 - يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر ... إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرُ
وقوله: [المديد]
5335 - يَا لَبكْرٍ أنْشِزُوا لِي كُلَيْبَاً ... يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارُ
قالوا: والقرآن جاء على أساليب كلام العرب، وفائدة التكرير هنا، قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخباربموافقتهم على الكفر وأنهم لا يسلمون أبداً.
وقيل: هذا على مطابقة قولهم: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك [ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك] ، فنجري على هذا أبداً سنةٌ وسنةً، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي: أن هذا لا يكون أبداً.
وقال جماعة: ليس للتأكيد، فقال الأخفش: «لا أعبدُ» الساعة «مَا تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ» السنة «ما أعبدُ» فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير؛ انتهى.
وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفي عبادته لما يعبدون بزمان؟ هذا مما لا يصح، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة، فنزلت، فكيف يستقيم هذا؟ .
وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه، وهو كون «ما» في الأوليين بمعنى «الذي» ، وفي الأخريين: مصدرية، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى، وهذا موجود، كيف قدر «مَا» .(20/532)
وقال ابن عطية: لما كان قوله: «لا أعْبدُ» محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه جاء البيان بقوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أبداً وما حييت، ثم جاء قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب، كما قيل لنوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
{لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته انتهى.
وقال الزمخشريُّ: «لا أعبد» أريد به العبادة فيما يستقبل؛ لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن «أن» لا تدخل إلاَّ على مضارع في معنى الحال، ألا ترى [أنَّ «لَنْ» تأكيد فيما تنفيه «لا» .
وقال الخليل في «لن» : إن أصله:] «لا أن» والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية فيكف ترجى مني في الإسلام؛ {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي: وما عبدتم في وقت وما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلاَّ قيل: ما عبدت كما قيل: ما عبدتم؟ .
قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت.
فإن قلت: فلم جاء على «ما» دون «من» ؟ قلت: لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
وقيل: إن «ما» مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي انتهى.
[يعني أنه أريد به الصفة، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها» ] .
وناقشه أبو حيَّان، فقال: أما حصره في قوله: لأن «لا» لا تدخل، وفي قوله: إنَّ «مَا» تدخل، فليس بصحيح، بل ذلك غالب فيهما، لا متحتم، وقد ذكر النحاةُ دخول «لا» على المضارع يراد به الحال، ودخول «ما» على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون «لا» نفياً، لقوله: «نفعل» ولم يقع الفعلُ، قال: «وأمَّا» مَا «فهي نفي، لقوله: هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.(20/533)
وأما قوله تعالى: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} ، أي: وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن» عابدٌ «اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يعتبر بالحال، أو الاستقبال، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي، وهشام في جواز إعماله ماضياً.
وأما قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ف» عَابِدُون «قد أعمله في:» مَا أعبدُ «، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله: «وهو لم يكن» ، إلى آخره، فسوء أدب على منصب النبوة، وغير صحيح؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يزل مُوحِّداً لله تعالى، مُنزِّهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه مجتنباً لأصنامهم يقف على مشاعر إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويحجّ البيت، وهذه عبادة، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم، ومعرفة الله - تعالى - أعظم العبادات.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
قال المفسرون: أي ليعرفون، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى.
قال شهاب الدين: ويجاب عن الأول: أنه من بنى أمره على الغالب، فلذلك أتى بالحصرِ، وأما ما حكاه سيبويه، فظاهر معه، حتى يقوم دليل على غيره، وعن إعماله اسم الفاعل مفسراً له بالماضي بأنه على حكاية الحال، كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] ، وقوله تعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] ، وأما كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يزل منزهاً موحداً لله تعالى، فمسلم ذلك. وقوله: «وهذه أعظم العبادات» فمسلم أيضاً، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة، وهي الصلاة المخصوصة؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم، وصلاتهم لها، فقابل هذا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بصلاته لله تبارك وتعالى، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن متعبداً قبل المبعث، وهو مذهب ساقط الاعتبار؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده، وهي: أنه كان يتحنَّثُ، كان يتعبد، كان يصوم، كان يطوف، كان يقف، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس.
وفي الجملة، فالمسألة خلافية، وإذا كان متعبداً فبأي شرع كان يتعبدُ به؟ فقيل: شريعة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: إبراهيم عليه السلام.
وقيل: موسى.
وقيل: عيسى - صلوات الله عليهم أجمعين -، وذلك مذكور في الأصول.(20/534)
ثم قال أبو حيان: والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل؛ لأن الغالب في «لا» أن تنفى المستقبل، ثم عطف عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نفياً للمستقبل؛ لأن اسم الفاعل العامل، الحقيقة فيه: دلالته على الحال، ثم عطف عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعبد ما يعبدون حالاً، ولا مستقبلاً وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر، ولما قال: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله: «مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول: إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ: كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول: {لا أعبدُ مَا تعبدُون} اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ} إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، {وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ} ، فإني أعبد إلهي.
قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه، فلما تحقق النفيُ رجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى خطابه بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ} مهادنة لهم، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في «لِيَ» : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه، وأسكنها الباقون.
وحذف «الياء» من «ديني» وقفاً ووصلاً: السبعة، وجمهور القراء، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب، وقالوا: لأنها اسم مثل الكاف في «دينك» والثاني قد تقدم إيضاحه.
فصل
في الكلام معنى التهديد، كقوله تعالى: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [البقرة: 139] ، أي: إن رضيتم بدينكم، فقد رضيناه بديننا، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[وقيل: السورة منسوخة.(20/535)
وقيل: ما نسخ منها شيء؛ لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم: أي جزاء دينكم، ولي دين: أي جزاء ديني، وسمى دينهم ديناً؛ لأنهم اعتقدوه] .
وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي، أي: لأن الدين الجزاء.
وقيل: الدِّين العقوبة، لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] ، والمعنى: لكم العقوبة من ربِّي، ولي العقوبة من أصنامكم، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام؛ لأنها جمادات، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبَّار السَّماوات والأرض. وقيل: الدين الدعاء، لقوله تعالى: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [غافر: 14] ، وقوله: {وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد: 14] .
وقيل: الدين العادة؛ قال الشاعر: [الوافر]
5336 - تَقُولُ إذَا دَرأتُ لهَا وضِينِي ... أهَذَا دِينهُ أبَداً ودينِي
والمعنى: لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان، ولي عادتي من ربي.
فصل
قال ابن الخطيب: «جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة، وذلك غير جائز؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه، ويعمل بموجبه، فلا يتمثّل به» . والله أعلم.(20/536)
سورة النصر(20/537)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
مدنية بالإجماع، وتسمى سورة " التوديع "، وهي ثلاث آيات، وست عشرة كلمة، وتسعة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} : عليك وعلى أمتك، والمقصود: إذا جاء هذان الفعلان من غير نظر إلى متعلقهما، كقوله تعالى: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] .
«أل» في «الفتح» عوض من الإضافة: أي: وفتحه عند الكوفيين، والعائد محذوف عند البصريين، أي: والفتح منه للدلالة على ذلك، والعامل في «إذا» : «جاء» وهو قول مكي، وإليه ذهب أبو حيَّان وغيره في مواضع وقد تقدم ذلك.
وإما «فسبِّح» ، وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفي، والتقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء، ورده أبو حيَّان بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، وفيه بحثٌ تقدم بعضه في سورة «الضحى» .
فصل في الكلام على «نصر»
النصر: العون، مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض، إذا أعان على إنباتها.
قال الشاعر: [الطويل]
5337 - إذَا انْسَلَخَ الشَّهْرُ الحَرامُ فَوَدِّعي ... بِلادَ تَمِيمٍ وانصُرِي أرضَ عَامرِ
ويروى: [الطويل](20/537)
5338 - إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَجَاوِزِي ... بِلادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِر
يقال: نصره على عدوه ينصره نصراً، أي: أعانه، والاسم: النُّصرة، واستنصره على عدوه، أي: سأله أن ينصره عليه، وتناصروا: نصر بعضهم بعضاً.
وقيل: المرادُ بهذا النصر: نصر الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على قريش قاله الطبري.
[وقيل نصره على من قاتله من الكفار وأن عاقبه النصر كانت له وأما الفتح فهو فتح مكة، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير هو فتح المدائن والقصور وقيل فتح سائر البلاد، وقيل ما فتحه عليه من العلوم، وقيل إذا بمعنى قد جاء نصر الله لأن نزولها بعد الفتح، ويجوز أن يكون معناه إذا يجيئك] .
فصل في الفرق بين النصر والفتح
قال ابن الخطيب: الفرق بين النصر والفتح، الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف الفتح عليه، ويقال: النصرُ كمالُ الدينِ والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمةِ، كقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] .
والنَّصْر: الظَّفر في الدنيا، والفتح: بالجنة.
فصل في المراد بهذا النصر
قال ابن الخطيب: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مؤيداً منصوراً بالدلائل، والمعجزات، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح «مكة» ؟ .
والجواب: أن المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع.
فإن قيل: النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [الأنفال: 10] فما فائدة التقييد بقوله تعالى: {نَصْرُ الله} ؟ .
فالجواب: معناه: لا يليق إلا بالله، كما يقال: هذه صنعة زيد، إذا كان مشهوراً، فالمراد هذا هو الذي سألتموه.(20/538)
فإن قيل: لم وصف النصر بالمجيء، وحقيقته: إذا وقع نصر الله، فما الفائدة في ترك الحقيقة، وذكر المجاز؟ .
فالجواب: أن الأمور مرتبطةٌ بأوقاتها، وأنه - تعالى - قد ربط بحدوث كلِّ محدث أسباباً معينة، وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم، والتأخر، والتبدل، والتغير، فإذا حضر ذلك الوقت، وجاء ذلك الزمان حضر ذلك الأثر معه، وإليه الإشارة بقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] .
فإن قيل: الذين أعانوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على فتح مكة هم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فما السبب في إضافة النصر إليه؟ .
فالجواب: أن النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدَّ لهم من داعٍ وباعث، وهو من الله تعالى.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد متقدماً على فعل الله، وهو خلاف قوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] فجعل نصر العبد مقدماً على نصره لنا.
فالجواب: أن لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله - تعالى - فإن أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكها العقول البشرية.
قوله: {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ} ، «رأيت» يحتمل أن يكون معناه: أبصرت، وأن يكون معناه: علمت، فإن كان معناه «أبصرت» كان «يَدخُلونَ» في محل النصب على الحال، والتقدير: ورأيت الناس يدخلون حال دخولهم في دين الله أفواجاً، وإن كان معناه: «علمت» كان «يدخُلونَ» مفعولاً ثانياً ل «علمت» والتقدير: علمت الناس داخلين في دين الله أفواجاً.
وفي عبارة الزمخشري: أنه كان بمعنى «أبصرتُ» ، أو «عرفت» .
وناقشه أبو حيان: بأن «رأيت» لا يُعرف كونها بمعنى «عرفت» قال: «فيحتاج في ذلك إلى استثبات» .
وقرأ العامة: «يدخلون» مبنياً للفاعل.
وابن كثير في رواية: مبنياً للمفعول و «فِي دِيْنِ» ظرف مجازي، وهو مجاز فصيح بليغ هاهنا.(20/539)
قوله: {أَفْوَاجاً} حال من فاعل «يَدخُلُونَ» .
قال مكي: «وقياسه:» أفوج «إلا أن الضمة تستثقل في الواو فشبهوا» فعلاً «- يعني بالسكون - ب» فَعل - يعني بالفتح - فجمعوه جمعه «انتهى.
أي: أن» فَعْلاً «بالسكون، قياسه» أفعُل «ك» فَلْس «و» أفلُس «إلا أنه استثقلت الضمةُ على الواوِ، فجمعوه جمع» فعل «بالتحريك نحو: جمل، وأجمال، لأن» فعْلاً «بالسكون على» أفعال «ليس بقياس إذا كان فعلاً صحيحاً، نحو: فرخ وأفراخ وزند وأزناد، ووردت منه ألفاظ كثيرة، ومع ذلك فلم يقيسوه، وقد قال الحوفي شيئاً من هذا.
فصل في الكلام على لفظ الناس
ظاهر لفظ «النَّاس» للعموم، فيدخل كل النَّاس أفواجاً، أي: جماعات، فوجاً بعد فوجٍ، وذلك لما فتحت «مكة» قالت العرب: أما إذْ ظفر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باهل الحرم، وقد كان الله - تعالى - أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان؛ فكانوا يسلمون أفواجاً أفواجاً أمة بعد أمةٍ.
قال الضحاكُ: والأمة: أربعون رجلاً.
وقال عكرمةُ: ومقاتل: أراد بالنَّاس أهل «اليمن» ، وذلك أنه ورد من «اليمن» سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرءون القرآن، وبعضهم يهلِّلُون، فسُرَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} وجاء أهل اليمن، رقيقة أفئدتهم لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجاً.
وروى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أتَاكُمْ أهْلُ اليَمنِ، وهُمْ أضْعَفُ قُلوباً، وأرَقُّ أفئِدَةٌ، الفقهُ يمانٍ، والحِكمةُ يَمَانِيةٌ» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لأجدُ نَفَسَ ربِّكُمْ من قبلِ اليَمنِ» وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه الفرجُ، لتتابع إسلامهم أفواجاً.
والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأهل «اليمن» و [الأنصار] .(20/540)
وروى جابرُ بنُ عبد الله قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّ النَّاس دخلوا في دينِ اللهِ أفواجاً وسيَخرُجُونَ مِنهُ أفواجاً» ذكره الماوردي.
قال ابن الخطيب: كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين.
فصل في المراد بدين الله
ودينُ الله، هو الإسلام، لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] ، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية، إشارة إلى أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً، وللدين أسماء أخر، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 35، 36] .
ومنها: الصراط، قال تعالى: {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الشورى: 53] .
ومنها: كلمة الله، ومنها النور: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] .
ومنها الهدى، قال تعالى: {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 88] .
ومنها العروة الوثقى {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوُثْقَى} [البقرة: 256] .
ومنها: الحبلُ المتين: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} [آل عمران: 103] .
ومنها: حنيفة الله، وفطرة الله.
فصل في إيمان المقلد
قال جمهور الفقهاء والمتكلمين: إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية، قالوا: إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج، وجعله من أعظم المنن على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً، لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل، وإثبات كونه تعالى منزّهاً عن الجسمية، والمكان والحيز، وإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، ولا إثبات الصفات، والتنزيه بالدليل، والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح، لا يقال: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه(20/541)
المسائل؛ لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل كانوا جاهلين بالتفاضل؛ لأنا نقول: إن الدليل لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان، فإن الدليل إذا كان مركباً من عشر مقدمات، فمن علم تسعة منها، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً، كان في النتيجة مقلداً لا محالة.
قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حال، أي: ملتبساً بحمده.
قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتسبيح، ثم بالحمد، ثم بالاستغفار، والفائدة فيه أن تأخير النصر سنين، مع أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على الحقّ، مما يثقل على القلب، ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا ينصرني، ولو سلطت على هؤلاء الكفار. فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر، أمر بالتسبيح أما على قولنا: فالمراد من هذا التنزيه، أنه تعالى منزَّه عن أن يستحق عليه أحد شيئاً [بل كل ما يفعله بحكم المشيئة الإلهية، فله أن يفعل ما شاء كما يشاء، ففائدة التسبيح: تنزيه الله تعالى عن أن يستحق عليه أحد شيئاً] .
وأما على قول المعتزلة، ففائدة التنزيه: هو أن يعلم العبد أن تنزيه اللهِ تعالى عما لا يليق ولا ينبغي بسبب المصلحة، لا بسبب ترجيح الباطل على الحق، ثم إذا فرغ العبد من تنزيه الله، فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطاه من الإحسان والبر، ثم حينئذ بالاستغفار بذنوب نفسه.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} أي: إذا صليت، فأكثر من ذلك.
وقيل: معنى «سَبِّحْ» صلِّ، قاله ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
[وقوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حامداً له على ما آتاك من الظفر، والفتح، واستغفره أي: سلوا الله الغفران.
وقيل: فسبح أي: المراد به التنزيه، أي: نزهه عما لا يجوز عليه، مع شكرك له، وبالاستغفار، ومداومة الذكر] .
وروي في «الصحيحين» عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «قالت: ما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة بعد أن نزلت سورة {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} إلا يقولُ فيها: سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدِكَ اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي» .
وقالت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آخر أمره لا يقوم، ولا يقعد،(20/542)
ولا يجيء، ولا يذهب إلاَّ قال:» سُبحانَ اللهِ وبحَمدهِ، أسْتغْفِرُ الله، وأتوبُ إليه «قال:» فإنِّي أمرتُ بِهَا «، ثم قرأ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} »
إلى أخرها.
وقال عكرمة: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أصحابه قط أشدّ اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها.
وقال مقاتل: «لما نزلت، فقرأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا، واستبشروا، وبكى العباس، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا يُبْكيْكَ يَا عمّ «.
قال: نُعيتْ إليك نَفسُكَ، قال:» إنَّهُ لَكَمَا تقُولُ «، فعاش بعدها ستين يوماً، ما رئي فيها إلا ضاحكاً مستبشراً» .
وقيل: «نزلت في» منى «بعد أيام التشريق، في حجَّة الوداعِ، فبكى عمر والعباس فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقال: لا بل فيه نعي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صدقتما، نعيت إليَّ نفسي «» .
وروى البخاري، وغيره عن ابن عبَّاس، قال: كان عمر بن الخطَّاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم، قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا، ومن أبنائنا من هو مثله، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم، قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورةِ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} ، فقالوا: أمر الله - جلَّ وعزَّ - نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا فتح عليه أن يستغفره وأن يتوب إليه فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ .
قلتُ: ليس كذلك ولكن أخبر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحضور أجله فقال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فذلك علامة موتك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: تلومونني عليه؟ وفي رواية: قال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تقول» .
فصل
فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يؤمر بالاستغفار؟ .
فالجواب: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في دعائه: «ربِّ اغفِرْ لِي خَطيْئَتِي وجَهْلِي، وإسْرافِي في أمْرِي كُلِّه، ومَا أنْتَ أَعْلَمُ بِهِ منِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطيئَتِي، وعمدي، وجهْلِي وهزلِي، وكل ذلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغفر لِي ما قدَّمْتُ وما أخَّرتُ، وما أعْلنتُ، ومَا أسْرَرْتُ، أنتَ المُقدِّمُ، وأنتَ المُؤخِّرُ، إنَّكَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ» .(20/543)
[وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستغفر لنفسه لعظيم ما أنعم الله عليه، ويرى قصوره عن القيام بحقّ ذلك.
وقيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى كن متعلقاً به سائلاً راغباً متضرعاً على رؤية التقصير في أداء الحقوق.
وقيل: الاستغفار نفسه يجب إتيانه لا للمغفرة بل تعبداً.
وقيل: واستغفر أي: استغفر لأمتك إنه كان تواباً على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم، وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار فماذا يظنّ بغيره] .
فصل في تفسير الآية
قد مرَّ تفسير الحمد، وأما تفسير قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ففيه وجوه:
الأول: قال الزمخشري: قل: سبحان الله، والحمد لله، تعجباً مما أراك الله من عجيب إنعامه، أي: اجمع بينهما، كقولك: الماءُ باللبن، أي: اجمع بينهما خلطاً، وشرباً.
الثاني: أنَّ التسبيح داخل في الحمد؛ لأنك إذا حمدت الله تعالى، فقد سبَّحته بواسطته، لأن الثناء عليه، والشكر له يتضمن تنزيهه عن النقائص، ولذلك جعل الحمد مفتاح القرآن، فمعنى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، أي: سبحه بواسطته، أن تحمده، وأن تسبحه بهذا الطريق.
الثالث: أن يكون حالاً، أي: سبحه مقدراً أن تحمد بعد التسبيح، كأنك تقول: لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً، فاجمعهما نية كما تنوي الصلاة يوم النحر مقدراً أنك تنحر بعدها، فيجتمع لك الثواب في تلك الحالة.
الرابع: أن هذه الباء كهي في قولك: فعلت هذه بفضل الله، أي: بحمده، أي: أنه الذي هداك لرشدك لا تجد غيره، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحَمدُ للهِ على الحَمْدِ» .
الخامس: قال السديُّ: «بحمدِ ربِّك» أي: بأمر ربك.
السادس: أن تكون الباء زائدة، والتقدير: سبح حمد ربك، أي: طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة، أو اختر له أطهر المحامد، وأذكاها وأحسنها أو ائْتِ بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد.(20/544)
السابع: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لا يتأخر أحدهما عن الآخر، ولا يمكن أن يؤتى بهما معاً، ونظيره: من ثبت له حق الشفعة، وحق الرد بالعيب وجب أن يقول: اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع، كذا هاهنا، قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ليقع معاً، فيصير مسبحاً حامداً في وقت واحد معاً.
[فإن قيل: التوبة مقدمة على جميع الطَّاعات، ثم الحمد مقدم على التسبيح؛ لأن الحمد على النعم، والنعم سابقة أيضاً، والاستغفار سابق، ثم التسبيح؟ فالجواب لعله بدأ بالأشرف تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق، أو نبّه بذلك على أن التسبيح والحمد الصادرين من العبد، إذا قابلا جلال الحقّ وعزته استوجبا الاستغفار، ولأن التسبيح والحمد إشارة إلى تعظيم أمر الله، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق الله، فالأول كالصلاة، والثاني كالزكاة فكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة، فكذا هاهنا] .
فإن قيل: قوله تعالى: {كَانَ تَوَّابَا} بدل من الماضي، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وأيضاً: هلا قال سبحانه: {غَفَّاراً} [نوح: 10] ، كما قال تعالى في سورة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وأيضاً قال تعالى: {نَصْرُ الله} ، وقال: {فِي دِينِ الله} وقال: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} ولم يقل: بحمد الله.
فالجواب عن الأول: أن هذا أبلغ كأنه يقول: إني أثنيت على من هو أقبح فعلاً منهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات الظاهرة العظيمة، كفلق البحر، ونتق الجبل ونزول المنِّ والسلوى عصوا ربَّهم، وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك، وهم دونكم، أفلا أقبل توبتكم، وأنتم خير أمة أخرجت للنَّاس؟ أو لأني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم أو هو إشارة إلى تخفيف جنايتهم، أي: لستم أول من جنى، والمصيبة إذا عمت خفت؛ أو كما قيل: [المتقارب]
5339 - كَما أحْسنَ اللهُ فِيما مَضَى ... كَذلِكَ يُحسِنُ فِيمَا بَقِي
والجواب عن الثاني: لعله خص هذه الأمة بمزيد الشرفِ، لأنه لا يقال في صفات العبد: غفار أو يقال: تواباً، ويقال إذا كان آتياً بالتوبة، فكأنه تعالى يقول: كنت لي سمياً من أول الأمر، أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن اختلف المعنى فتب حتى صرت سمياً في آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم التواب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً.(20/545)
[وأنه إنما قال: تواباً، لأن القائل قد يقول: أستغفر الله، وليس بتائب كقول المستغفر بلسانه المصر بقلبه، كالمستهزئ.
فإن قيل قد يقول: أتوب، وليس بتائب.
فلنا: فإذن يكون كاذباً، فإن التوبة اسم للرجوع، أو الندم بخلاف الاستغفار، فإنه لا يكون كاذباً فيه، فيكون تقدير الكلام: وأستغفر الله بالتوبة، وفيه تنبيه على خواتم الأعمال] .
والجواب عن الثالث: أنه راعى العدل، فذكر اسم الذَّات مرتين، وذكر اسم الفعل مرتين؛ أحدهما: الرب والثاني: التواب، فلما كانت التربية تحصل أولاً، والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً، واسم التوبة أخراً.
فصل في نزول السورة
قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت هذه السورة ب «منى» في حجة الوداع ثُمَّ نزلت: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] فعاش صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدها خمسين يوماً، ثم نزل: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزلت: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] فعاش بعدها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحداً وعشرين يوماً.
وقال مقاتل: سبعة أيام.
وقيل غير ذلك.
فصل
قال ابن الخطيب: اتفق الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: كيف دلت السورة على هذا المعنى؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال بعضهم: إنما عرفوا ذلك لما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب عقيب السورة، وذكر التخيير.
وثانياً: أنه لما ذكر حُصول النَّصر، ودخول النَّاس في دين الله أفواجاً، دل ذلك على حصول التمام، والكمال، وذلك يستعقبه الزَّوال؛ كما قيل: [المتقارب](20/546)
5340 - إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقصهُ ... تَوقَّعْ زَوالاً، إذا قِيلَ: تَمْ
وثالثها: أنه جل ذكره أمر بالتسبيح، والحمد، والاستغفار مطلقاً، واشتغاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أنّ التبليغ قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت، لأنه لو بقي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك، لكان كالمعزول عن الرسالة، وهذا غير جائزٍ.
ورابعها: قوله: «واسْتَغْفِرْهُ» تنبيه على قرب الأجل، كأنه يقول: قرب الأجل ودنا الرحيل فتأهّبْ. ونبه على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله يستكثر من التوبة.
وخامسها: كأنه قيل: كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته، وهو النصر والفتح، والله تعالى وعدك بقوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا، فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادة العالية.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورةَ:» النصر «فَكَأنَّمَا شَهِدَ مَع مُحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام فَتْح مَكَّة» .(20/547)
سورة " تبت " أو " المسد "(20/548)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
مكية، وهي خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وسبعة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، أي: خسرت. وتقدم تفسير هذه المادة في سورة غافر عند قوله: {إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] ، وأسند الفعل إلى اليدين مجازاً؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما، وإن كان المراد جملة المدعو عليه.
وقوله: {تَبَّتْ} دعاء، {وَتَبَّ} إخبار، أي: قد وقع ما دعي به عليه؛ كقول الشاعر: [الطويل]
5341 - جَزانِي، جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جزَائِه ... جَزاءَ الكِلابِ العَاويَاتِ وقَدْ فعلْ
ويؤيده قراءة عبد الله: «وقَدْ تبَّ» ، والظَّاهر أنَّ كليهما دعاء، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص؛ لأن اليدين بعض، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد.
وقيل: كلاهما إخبار، أراد بالأول: هلاك عمله، وبالثاني: هلاك نفسه، وإنما عبر باليدين؛ لأن الأعمال غالباً تُزاول بهما.
وقيل: المراد باليدين نفسه وقد يعبر باليد عن النفس، كقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] ، أي نفسك، وهذا شائع في كلام العرب يعبّرون ببعض الشيء عن كله، يقولون: أصابه يد الدهر، ويد المنايا، والرزايا، أي: أصابه كل ذلك.(20/548)
قال الشاعر: [مخلع البسيط]
5342 - لمَّا أكبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا ... عَليْهِ نَادَى ألاّ مُجِيرُ
وقال ابن الخطيب: وعبر باليدين، إما لأنه كان يرمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحجارة، وقيل: المراد دينه، ودنياه وأولاده، وعقباه، أو المراد بأحدهما جر المنفعة، وبالأخرى: دفع المضرة، أو لأن اليمين سلاح، والأخرى جُنَّة.
وقل: بمعنى ماله، وبنيه، «وتَبَّ» هو نفسه وقيل: «تبَّ» يعني ولده وعقبه، وهو الذي دعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «اللَّهمَّ سلِّط عليْهِ كَلباً من كِلابِكَ» لشدة عداوته، فافترسه الأسد.
وقرأ العامة: «لَهَب» بفتح الهاء، وابن كثير: بإسكانها.
فقيل: هما لغتان بمعنى نحو: النَّهَر والنَّهْر، والشَّعَر والشَّعْر، والبَعَر والبَعْر، والضَّجَر والضَّجْر.
وقال الزمخشري: «وهو من تغيير الأعلام، كقوله: شمس بن مالك، بالضم» ، يعني أن الأصل: بفتح الشين فغيرت إلى الضم.
ويشير بذلك لقول الشاعر: [الطويل]
5343 - وإنِّي لمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَعاهِدٌ ... بِهِ لابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ
وجوز أبو حيان في «شمس» أن يكون منقولاً من «شمس» الجمع، كما جاء «أذناب خيل شمس» ، فلا يكون من التغيير في شيء.
وكني بذلك أبو لهب: إما لالتهاب وجنتيه، وكان مشرق الوجه، أحمرهُ، وإما لما يئول إليه من لهب جهنم، كقولهم: أبو الخير، وأبو الشر، لصدورهما منه، وإما لأن الكنية أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بأسمائهم جدون كُناهم، أو لقُبحِ اسمه؛ لأن اسمه عبد العُزَّى، فعدل عنه إلى الكنية؛ لأن الله لم يضف العبودية في كتابة إلى صنم.
وقيل: اسمه أبو لهب، كما سمي أبو سفيان، وأبو طالب.(20/549)
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: لم أكناه، والكنية تكرمه؟ .
ثم ذكر ثلاثة أجوبة: إما لشهرته بكنيته، وإما لقبح اسمه كما تقدم، وإما لتجانس قوله: «ناراً ذات لهبٍ» لأن مآله إلى لهب جهنم. انتهى.
وهذا يقتضي أن الكنية أشرف، وأكمل لا أنقص، وهو عكس القول الذي تقدم آنفاً.
وقرئ: «يَدَا أبُو لهبٍ» بالواو مكان الجر.
قال الزمخشري: «كما قيل: علي بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان، لئلاَّ يغير منه شيء، فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير» مكة «ابنان: أحدهما:» عبدِ الله «بالجر، والآخر» عبدَ الله «بالنصب» .
ولم يختلف القراء في قوله: «ذَات لهب» أنها بالفتح. والفرق أنها فاصلة، فلو سكنت زال التشاكل.
[قال قتادة: تبت خسرت.
وقال ابن عباس: خابت.
وقال عطاء: ضلت.
وقال ابن جبير: هلكت. وقال يمان بن رئاب: صفرت من كل خير] .
فصل في نزول الآية
حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، أنه لما قتل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع الناس هاتفاً يقول: [مجزوء الوافر]
5344 - لَقدْ خَلَّوكَ وانْصَرفُوا ... فَمَا آبُوا وَلا رَجعُوا
ولَمْ يُوفُوا بِنذْرِهِمُ ... فَيَا تَبًّا لِمَا صَنَعُوا
فصل في نزول السورة
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لما نزلت: {وَأَنذِرْ(20/550)
عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى صعد الصَّفا، فهتف: يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ .
قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال:» يَا بَنِي فُلانٍ يَا بَنِي فُلانِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، يا بني عبد المُطَّلب «، فاجتمعوا إليه: فقال:» أرَأيْتُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلاً تَخرجُ بسفحِ هذا الجَبلِ، أكُنْتُمْ مُصدِّقِيّ «؟ .
قالوا: ما جرَّبنا عليك كذباً، قال:» فإنِّي نذيرٌ لكُم بينَ يدي عذاب شديدٍ «، فقال أبُو لهبٍ: تبَّا لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة» .
وفي رواية: لما سمعت أمرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربتُ بهذا الفهر فاهُ؛ والله إني لشاعرة: [منهوك الرجز]
5345 - مُذمَّماً عَصيْنَا ... وأمْرهُ أبَيْنَا
ودِينَهُ قَلَينَا ... ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله «أما تراها رأتك؟ قال:» مَا رأتْنِي لقَدْ أخَذَ اللَّهُ بَصرهَا عَنِّي «.
وكانت قريش تسمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مذمماً، ثم يسبونه، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «ألا تعجبون لما صرف الله تعالى عني من أذى كفار قريش يسبون ويهجون مذمماً وأنا محمد رسول الله» .
وحكى أبو عبد الرحمن بن زيد: «أن أبا لهب أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد؟ قال:» كَمَا يُعطَى المُسلمُونَ «قال: ما لي عليهم فضل؟ .
قال: وأيَّ شيءٍ تَبْغِي؟ قال: تبًّا لهذا من دينٍ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء. فأنزل الله تعالى فيه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} » .
وحكى عبد الرحمن بن كيسان قال: كان إذا وفد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد، انطلق إليهم أبو لهب، فيسألونه عن رسول الله ويقولون له: أنت أعلم به منا، فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر، فيرجعون عنه، ولا يلقونه فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا(20/551)
ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه، فقال لهم أبو لهبٍ: إنا لم نزل نعالجه، فتبَّا له وتعساً، فأخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فاكتأب لذلك، فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لهَبٍ} .
وقيل: إن أبا لهبٍ أراد أن يرمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحجر، فمنعه الله تعالى من ذلك، فنزلت: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} للمنع الذي وقع فيه.
فصل في تفسير التَّبِّ
قال ابن الخطيب: من فسر التبَّ بالهلاك، فلقوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] ، أي: في هلاك، ومن فسَّره بالخسران، فلقوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] ، أي: تخسير، ومن فسره بالخيبة، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأنه كان يدفع القوم عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه؛ لأنه كان شيخ القبيلة - لعنه الله - فكان لا يأتيهم، فلما نزلت هذه السورة، وسمع بها غضب، وأظهر العداوة الشديدة، وصار مُتَّهماً، فلما قال في الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد ذلك، فكأنه قد خاب لسعيه، ولعله إنما ذكر التب؛ لأنه إنما كان يضرب بيده على يد الوافد عليه، فيقول: انصرف راشداً فإنه مجنون، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً يضع بيده على كتفه، ويدفعه عن ذلك الموضع.
ومن فسر التبَّ بقوله: ضلت، فلأنه كان يعتقد أن يده العليا، وأنه يخرجه من «مكَّة» ، ويذلّه، ومن فسره: ب «صَفرَتْ» فلأن يده خلت من كل خير.
فصل في ترجمة أبي لهب
أبو لهب: اسمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وامرأته: العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال طارق بن عبد الله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: «يا أيُّها النَّاسُ، قولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهَ تُفلِحُوا» وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب ساحر، فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ .
فقالوا: محمد، يزعم أنه نبيّ، وهو عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال أبو لهب: سحركم محمد، إن أحدنا ليأكلُ الجذعة، ويشرب العُسّ من اللبن، فلا يشبع، وإن محمداً قد أشبعكم من فخذِ شاةٍ، وأرواكم من عُسِّ لبن.
قوله: {مَآ أغنى} . يجوز في «مَا» النَّفي، والاستفهام، فعلى الاستفهام يكون(20/552)
منصوب المحل بما بعدها، التقدير: أي شيء أغنى المال، وقدم لكونه له صدر الكلام.
وقوله: {وَمَا كَسَبَ} : يجوز في «مَا» هذه أن تكون بمعنى «الَّذي» ، والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي: وكسبه، وأن تكون استفهامية: بمعنى وأي شيء كسب؛ أي: لم يكسب شيئاً، قاله أبو حيان، فجعل الاستفهام بمعنى النفي، فعل هذا يجوز أن تكون نافية، ويكون المعنى على ما ذكر، وهو غير ظاهر.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: «وما اكتسبَ» .
فصل في معنى الآية
المعنى: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا ما كسب من الجاه. وقال مجاهد: وما كسب من مال، وولد الرجل من كسبه.
وقال أبو الطفيل: جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع على الفراشِ، فغضب ابن عباس، وقال: أخرجوا عنِّي الكسب الخبيثَ، يعني ولد أبي لهب.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ أطْيبَ ما أكَلَ الرجلُ من كسْبهِ» .
وقال ابن عباس: لما أنذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشيرته بالنَّار، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقَّا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنزل: {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} .
قال الضحاك: ما أغنى عنه ماله ما ينفعه ماله، وعمله الخبيث: يعني كيده، وعداوة رسول الله.
قوله: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} .
قرأ العامة: «سَيَصْلَى» بفتح الياء، وإسكان الصاد، وتخفيف اللام، أي: يصلى هو بنفسه.
وقرأ أبو حيوة، وابن مقسم، وعياش في اختياره؛ قال القرطبي: والأشهب العقيلي، وأبو سمال العدوي، ومحمد بن السميفع، «سَيُصلَّى» بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام، ومعناه سيصليه الله.(20/553)
وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو رجاء، والأعمش، ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وحسين عن أبي بكر عن عاصمٍ: بضم الياء.
ومعنى ذات لهب أي ذات اشتعال وتلهب، وقد تقدم القول فيه في سورة المرسلات.
قوله: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} .
قرأ العامة: بالرفع، على أنها جملة من مبتدأ وخبر، سيقت للإخبار بذلك.
قيل: وامرأته، عطف على الضمير في «سيصلى» سوغه الفصل بالمفعول، و «حمَّالة الحَطبِ» على هذا فيها أوجه: كونها نعتاً ل «امرأته» ، وجاز ذلك لأن إضافته حقيقية، إذ المراد المعنى، وكونها: بياناً أو بدلاً، لأنها أقرب من الجوامد لتمحض إضافتها، أو كونها خبراً لمبتدأ مضمر أي: هي حمالةُ.
وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ومريئته حمالة الحطب.
وعنه أيضاً: «ومريته» على التصغير، إلا أنه أقر الهمزة تارة، وأبدلها ياء، وأدغم فيها أخرى.
وقرأ العامة: «حَمَّالةُ» بالرفع، وعاصم: بالنصب على الشَّتم. وقد أتى بجميل من سبّ أم جميل.
قال الزمخشري: وكانت تكنى أم جميل، لعنها الله.
وقيل: نصب على الحال من «امرأته» إذا جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير.
ويضعف جعلها حالاً عند الجمهور من الضمير في الجار بعدها إذا جعلناها ل «امْرَأتهُ» لتقدمها على العامل المعنوي، واستشكل بعضهم الحالية - لما تقدم - من أن المراد به المعنى، فتتعرف بالإضافة، فكيف يكون حالاً عند الجمهور؟ .
ثم أجاب بأن المراد الاستقبال؛ لأنه ورد أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار، كما كانت تحمل الحطب في الدنيا.
وفي قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} قولان:
أحدهما: هو حقيقة.(20/554)
قال قتادة: كانت تعير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها، فعيرت بالبخل.
وقال ابن زيد والضحاك: كانت تحمل العِضَاهَ، والشَّوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطؤه كما يطأ الحرير.
وقال مُرَّة الهمذاني: كانت أم جميل - لعنها الله - تأتي كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
القول الثاني: أنه مجاز عن المشي بالنميمة، ورمي الفتن بين الناس؛ قال: [الرجز]
5346 - إنَّ بَنِي الأدْرمِ حَمَّالُو الحطبْ ... هُمْ الوشَاةُ في الرِّضَا وفي الغَضَبْ
عليْهِمُ اللَّعْنَةُ تَتَرَى والحَرَبْ ... وقال آخر: [الطويل]
5347 - مِن البيضِ لَمْ تَصطَدْ عَلى ظَهْر لأمَةٍ ... لمْ تَمْشِ بَينَ الحَيِّ بالحطَبِ الرَّطبِ
وجعله رطباً تنبيهاً على تدخينه، وهو غريب من ترشيح المجاز، يعني لم تمش بالنمام.
وقال سعيد بن جبيرٍ: حمالة الخطايا، والذنوب، من قولهم: فلان يحتطب ظهره.
قال تعالى: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] .
وقرأ أبو قلابة: «حاملة الحطب» على وزن «فاعلة» ، وهي محتملة لقراءة العامة، وقرأ عياض: «حمالة للحطب» بالتنوين وجر المفعول بلام زائدة تقوية للعامل كقوله تعالى:
{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وأبو عمرو في رواية: «وامرأته» باختلاس الهاء دون إشباع.(20/555)
قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} يجوز أن يكون «في جيدها» خبراً ل «امرأته» ، و «حبل» فاعلاً به وأن يكون حالاً من امرأته على كونها فاعلة، و «حَبْلٌ» مرفوع به أيضاً، وأن يكون خبراً مقدماً و «حَبْلٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة حالية أو خبر ثان.
والجيدُ: العُنُق.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
5348 - وجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
و «مِنْ مسدٍ» صفة ل «حبل» ، والمسد: ليف المقل.
وقيل: الليف مطلقاً.
قال النابغة: [البسيط]
5349 - مَقْذُوفةٍ بدَخيسِ النَّحضِ بَازلُهَا ... لَهُ صَريفٌ صَريفَ القََعْوِ بالمسَدِ
وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها؛ قال الشاعر: [الرجز]
5350 - ومَسَدٍ أمِرَّ مِنْ أيانِقِ ... ليْسَ بأنْيَابٍ ولا حَقَائِقِ
وجمع المسد: أمساد.
وقال أبو عبيدة: هو حبل يكون من صوف.
وقال الحسن: هي حبال من شجرٍ ينبت ب «اليمن» يسمى المسد وكانت تفتل.
فصل
قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا، وكانت تعيرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالفقر، وهي تحتطب في حبلٍ تجعله في عنقها من ليفٍ، فخنقها الله - عزَّ وجلَّ - به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار يلف على عنقها.
وعن ابن عباس: حبل من مسد قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً، وهو قول مجاهد وعروة بن الزبير، يدخل في فيها، ويخرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها، وقال قتادة: «حبل من مسد» حبل من وَدَعٍ.(20/556)
وقال الحسن: إنما كان حرزاً في عنقها.
وقال سعيد بن المسيب: كانت قلادة واحدة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقها في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون عذاباً في جيدها يوم القيامة.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيدها بحبل من مسد.
والمسدُ: الفَتْلُ، يقال: مسد حبله يمسده مسداً، أي: أجاد فتلهُ.
قال: [الرجز]
5351 - يَمْسدُ أعْلَى لحْمِهِ ويَأرِمُهْ ... يقول: إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار.
وقال ابن الخطيب: وقيل: المسد يكون من الحديد، وظنُّ من ظنَّ أن المسد لا يكون من الحديد خطأ، لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد، أو من غيره، ورجل ممسود، أي: مجدول الخلق وجارية حسنة المسد، والعصب، والجدل، والأرم، وهي ممسودة، ومعصوبة، ومجدولة، ومأرومة؛ والمساد: على «فِعَال» : لغة في المساب، وهي نحي السمن، وسقاء العسل، قال كل ذلك الجوهري.
[فإن قيل: إن كان هذا الحبل كيف يبقى أبداً في النار؟ .
قلنا: كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبداً في النار] .
فصل في الإخبار عن الغيب
تضمنت هذه الأيات الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه:
أولها: الأخبار عنه بالتباب، والخسار، وقد كان ذلك.
وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وقد كان ذلك.
وثالثها: الإخبار بأنه من أهل النَّار، وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر، هو وامرأته، ففي ذلك معجزة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فامرأته خنقها الله - تعالى - بحبلها، لعنها الله تعالى، وأبو لهبٍ رماه الله بالعدسةِ، بعد وقعة بدر بسبع ليال، فمات، وأقام ثلاثة أيام، ولم يدفن حتى أنتن، ثم إن ولده غسلوه بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسةِ، وكانت قريش تتقيها كما يتقى الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى «مكة» ، وأسندوه إلى جدار، ثم صمُّوا عليه الحجارة.(20/557)
فصل في جواز تكليف ما لا يطاق
احتج أهل السنة على جواز تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان مع تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه.
ذكر الثعلبيُّ عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {تَبَّتْ} رجَوْتُ أنْ لا يجْمعَ اللهُ تَعَالَى بَينهُ وبَيْنَ أبِي لهبٍ في دارٍ واحدةٍ» .(20/558)
سورة الاخلاص(20/559)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
مكية في قول ابن مسعود، والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، والسدي، وهي أربع آيات، وخمس عشرة كلمة، وسبعة وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} . في «هُوَ» وجهان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على ما يفهم من السياق، فإنه يروى في سبب النزول أنهم قالوا: صف لنا ربَّك وانسبه.
وقيل: قالوا له: أنُحَاسٌ هو أم حَديدٌ؟ فنزلت.
وحينئذ يجوز أن يكون «اللهُ» مبتدأ، و «أحد» خبره، والجملة خبر الأولِ، ويجوز أن يكون «الله» بدلاً، و «أحد» الخبر، ويجوز أن يكون «الله» خبراً أولاً، و «أحد» خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون «أحد» خبراً لمبتدأ محذوف، أي «هو أحد» ، والثاني: ضمير الشأن؛ لأنه موضع تعظيم، والجملة بعد خبره مفسرة.
وهمزة «أحد» بدل من واو؛ لأنه من الوحدة، وإبدال الهمزة من الواو المفتوحة قليل، منه: امرأة أناة من الونى، وهو الفُتُور، وتقدم الفرق بين «أحد» هذا، و «أحد» المراد به العموم، فإن همزة ذاك أصل بنفسها.
ونقل أبو البقاء: أن همزة «أحد» هذا غير مقلوبة، بل أصلها بنفسها، فالمراد به العموم. والأول هو المعروف.
وفرق ثعلب بين «أحد» و «واحد» بأنَّ الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان(20/559)
و «أحد» لا يدخله ذلك، ويقال: اللهُ أحد، ولا يقال: زيد أحد؛ لأن الله تعالى هذه الخصوصية، وزيد له حالات شتى. ورد عليه أبو حيَّان بأنه يقال: أحد وعشرون، ونحوه، فقد دخله العدد انتهى.
وقال مكيٌّ: إن أصله: «واحد» فأبدلت الواو همزة، فاجتمع ألفان؛ لأن الهمزة تشبه الألف، فحذفت إحداهما تخفيفاً.
وقرأ عبد الله وأبيّ: {الله أَحَدٌ} دون «قُلْ» .
وقرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {الله أَحَدٌ} بغير {قُلْ هُوَ} .
وقرأ الأعمش: «قل هو الله الواحد» .
وقرأ العامة: بتنوين «أحَدٌ» وهو الأصل.
وزيد بن علي وأبان بن عثمان، وابن أبي إسحاق والحسن، وأبو السمال، وأبو عمرو في رواية، في عدد كثير: بحذف التنوين للخفة، ولالتقاء الساكنين، كقوله: [الكامل]
5352 - عَمروُ الذي هَشمَ الثَّريدَ لقومهِ ... ورِجالُ مكَّة مُسنتُونَ عِجَافُ
وقوله: [المتقارب]
5353 - ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً
فصل
والصمد: الذي يصمدُ إليه في الحاجات، ولا يقدر على قضائها إلا هو.
قال: [الطويل]
5354 - ألاَ بكَّرَ النَّاعِي بخَيْرِ بَنِي أسَدْ ... بِعمْرِو بنِ مسعُودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
وقال آخر: [البسيط](20/560)
5355 - عَلوتهُ بحُسَامٍ ثُمَّ قلتُ لهُ ... خُذهَا حُذيْفُ فأنتَ السيِّدُ الصَّمدُ
وقيل: الصمد: المصمت الذي لا جوف له.
ومنه قوله: [الطويل]
5356 - شِهَابُ حُروبٍ لا تَزَالُ جِيَادهُ ... عَوابِسَ يَعلُكْنَ الشَّكيمَ المُصَمَّدَا
وقال أبيّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تفسيره، من قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وهذا يشبه ما قالوه من تفسير الهلوع، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستقلة بفائدة هذا الخبر، ويجوز أن يكون «الصَّمدُ» صفة، والخبر في الجملة بعده، كذا قيل، وهو ضعيف من حيث السِّياق، فإن السياق يقتضي الاستقلال بأخبار عن كل جملة.
قال القرطبي: [ «لأنه ليس شيء إلا سيموت] ، وليس شيء يموت إلا يورث» .
قيل: الصمد: الدائمُ الباقي الذي لم يزل، ولا يزال.
وقال أبو هريرة: إنه المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد.
وقال السديُّ: إنه المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب.
[وقال الحسن بن الفضل: إنه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وقال مقاتل: إنه الكامل الذي لا عيب فيه] .
قال القرطبيُّ: والصحيح من هذه الأقوال ما شهد له الاشتقاق وهو القول الأول، ذكره الخطابي.
فصل في لفظ أحد
قال ابن الخطيب: ونكر لفظ أحد، لأن الذي يعرفه الخلق من الموجودات محسوس، وكل محسوس منقسم، فأما ما لا ينقسم فلا يعرف، وعرَّف الصمد؛ لأنه الذي يقصد إليه في الحوائج، وذلك معلوم عند الخلق، وقدم {لَمْ يَلِدْ} وإن كان العرف سبق؛ لأنه الأهم، وقوله تعالى: {وَلَمْ يُولَدْ} كالحجة على أنه لم يلدْ، وجاء هنا {لَمْ يَلِدْ} ، وفي سورة «الإسراء» : {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء: 111] ، لأن من(20/561)
النصارى من يقول: عيسى ولدُ الله حقيقة، ومنهم من يقول: إن الله اتخذه ولداً تشريفاً، فنفى الأمرين.
فصل في الرد على من أسقط «قل هو»
قال القرطبي: وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامه ومثواه، وقرأ «الله الواحد الصمد» والناس يستمعون، فأسقط «قل هو» وزعم أنه ليس من القرآن، وغير لفظ «أحد» ، وادَّعى أن هذا الصواب، والذي عليه الناس هو الباطلُ، فأبطل معنى الآية، لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جواباً لأهل الشركِ، لما قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: صِفْ لَنَا ربَّك أمِنْ ذهبٍ هُو أم من نُحاس أم من [صفر] ؟ .
فقال الله تعالى رداً عليهم: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} ، ففي «هُوَ» دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب، فإذا سقط بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله - عَزَّ وَجَلَّ - والتكذيب لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وروى الترمذي عن أبيِّ بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «انسب لنا ربك» فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ، والصمد: الذي لم يلد، ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله تعالى لا يموت، ولا يورث.
وروى أبو العالية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر آلهتهم، فقالوا: انسب لنا ربك، قال: فأتاه جبريل بهذه السورة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} .
قال الترمذي: وهذا أصحّ.
قال القرطبيُّ: «ففي هذا الحديث إثبات لفظ،» قل هو الله أحد «، وعن عكرمة نحوه» .
وقال ابن عباس: «لَم يلدْ» كما ولدت مريم، و «لَمْ يُولدْ» كما ولد عيسى، وعزير، وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله، {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أواخر الآي على نظم واحدٍ.(20/562)
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: دل العقل على استحالة كونه تعالى ولداً ووالداً، والأحديَّةُ والصَّمديَّةُ يوجبان نفي كونه تعالى والداً، أو مولوداً، وذكر بعدهما كما ذكر النتيجة بعد الدليل.
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} . في نصب «كُفُواً» وجهان:
أحدهما: أنه خبر «يَكُونُ» و «أحَدٌ» اسمها و «لهُ» متعلق بالخبر أي: ولم يكن كفواً له كما تقدم وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية من حيث إنه يزعم أنه إذا تقدم الظَّرف كان هو الخبر وهنا لم يجعله خبراً مع تقدمه.
وقد رد على المبرِّد بوجهين:
أحدهما: أن سيبويه لم يحتم ذلك بل جوزه.
والثاني: أنا لا نسلم أنَّ الظرف هنا ليس بخبر، بل هو خبر، ونصب «كُفواً» على الحال، على ما سيأتي بيانه.
وقال الزمخشري: الكلام العربي الفصيح، أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه في كتابه على ذلك، فما باله مقدماً في أفصح كلام وأعربه؟
قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه، وهذا المعنى مصبُّه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه، وأحقه بالتقديم وأحراه.
والثاني: أن ينصب على الحال من «أحدٌ» ؛ لأنه كان صفة، فلما تقدم عليه نصب حالاً و «له» هو الخبر. قاله مكي، وأبو البقاء، وغيرهما.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً.
قال أبو حيان بعد أن حكى كلام الزمخشري ومكي: وهذه الجملة ليست من هذا الباب، وذلك أن قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ليس الجار والمجرور فيه تامَّا، إنما هو ناقص، لا يصلح أن يكون خبراً ل «كان» بل متعلق ب «كُفُواً» ، وتقدم على «كُفُواً» للاهتمام به إذ فيه ضمير الباري تعالى وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخير؛ لآن تأخير الاسم هو فاصلة، فحسن ذلك، وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره، أن «لهُ» والخبر، و «كُفُواً» حال من «أحَدٌ» لأنه ظرف ناقص، ولا يصلح أن يكون خبراً، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه، وسيبويه إنما تكلم في الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر.(20/563)
قال سيبويه: وتقول: ما كان فيها أحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت «فيها» مستقراً ولم تجعله على قولك: فيها زيد قائم، ثم أجريت الصفة على الاسم فإن جعلته على قولك: فيها زيد قائم نصبت، تقول: ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن، وإذا أردت أن يكون مستقراً، تكتفي به، فكلما قدمته كان أحسن، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير، قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
وقال الشاعر: [الرجز]
5357 - مَا دَامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا ... انتهى كلام سيبويه.
قال أبو حيَّان: فأنت ترى كلامه، وتمثيله بالظرف الذي لا يصلح أن يكون خبراً، ومعنى قوله: «مستقرَّا» أي: خبراً للمبتدأ، ول «كان» .
فإن قلت: قد مثل بالآية الكريمة.
قلت: هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام، وهو في قوله: [الرجز]
5358 - مَا دَامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا ... أجري فضلة، لا خبراً، كما أن «لهُ» في الآية أجري فضلة، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله: «ولم يكن له أحد» بل لو تأخر «كُفُواًُ» وارتفع على الصفة وجعل «لهُ» خبراً لم ينعقد منه كلام، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو «كُفُواً» و «لَهُ» متعلق به، والمعنى: لم يكن أحد مكافئه انتهى ما قاله ابن حيَّان.
قال شهاب الدين: قوله: «ولا يشك» إلى آخره، تهويل على الناظر، وإلا(20/564)
فقوله: «هذا الظرف ناقص» ممنوع، لأن الظرف الناقص عبارة عما لم يكن في الإخبار به فائدة كالمقطوع عن الإضافة ونحوه، وقد نقل سيبويه الأمثلة المتقدمة، نحو: «ما كان فيها أحد خيراً منك» وما الفرق بين هذا، وبين الآية الكريمة، وكيف يقول هذا، وقد قال سيبويه في آخر كلامه: «والتقديم والتأخير، والإلغاء، والاستقرار عربي جيد كثير» .
فصل
قرأ العامة: «كُفُواً» بضم الكاف والفاء، وقد سهل الهمزة الأعرج ونافع في رواية، وسكن الفاء حمزة وأبدل الهمزة واواً وقفاً خاصة، وأبدلها حفص واواً مطلقاً، والباقون بالهمزة مطلقاً.
قال
القرطبي
: وتقدم
في البقرة أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان إلا قوله تعالى «أتتّخذنا هزواً» .
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «كفاء» بالكسر والمد أي لا مثل له، وأنشد للنابغة: [البسيط]
5359 - لاَ تَقْذفنِّي برُكنٍ لا كِفاءَ لَهُ ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقرأ نافع في رواية: كِفَا بالكسر وفتح الفاء من غير مد كأنه نقل حركة الهمزة وحذفها.
والكفو النظير كقوله: هذا كفؤ لك: أي نظيرك، والاسم الكفاءة بالفتح.
قال ابن الخطيب: والتحقيق أنه تعالى لما أثبت الأحديَّة، والصمديّة، ونفى الوالدية، والمولودية ختم السورة بأن شيئاً من الموجودات يمتنع أن يساويه في شيء من صفات الجلال، والعظمة لانفراده سبحانه، وتعالى بوجوب الوجود لذاته.
فصل
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَقُول الله تعالى: كذَّبنِي(20/565)
ابنُ آدمَ ولمْ يكُنْ لهُ ذلِكَ، وشَتمنِي ولمْ يكُنْ لهُ ذلِكَ، فأما تَكْذيبهُ فقوله: لن يُعِيدنِي كَمَا بَدأنِي، وليْسَ بأوَّل الخَلقِ وليس بأهْونَ عليَّ مِنْ إعَادَتِهِ، وأمَّا شتمهُ إيَّاي، فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحدُ الصَّمَدُ، لم ألدْ ولم أولَدْ ولم يكن لي كفواً أحد» .
فصل في فضائل هذه السورة
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر ذلك له، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» والَّذي نَفْسِي بيدهِ، إنَّها لتعْدِلُ ثُلثَ القُرآنِ «» لأن القرآن أنزل ثلاثاً؛ ثلثاً: أحكام. وثلثاً: وعد ووعيد. وثلثاً: أسماء وصفات، وجمعت هذه السورة أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات.
وروى مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم ب {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال:» سلُوه لأيِّ شيءٍ يصْنَعُ ذلِكَ «؟ فسألوه: فقال: لأنَّها صفةُ الرَّحمنِ، فأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أخبرُوهُ أنَّ الله تعالى يُحِبُّهُ «» .
وروى الترمذي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمع رجلاً يقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَجَبَتْ «، قلتُ: ومَا وَجبَتْ؟ قال:» الجَنَّةُ «» .
وروى أنس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مَنْ قَرَأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} خمسِينَ مرَّة غُفِرَتْ ذُنوبهُ» .
وروى سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» مَنْ قَرَأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} أحَدَ عشرة مرَّة بَنَى اللهُ لهُ قصْراً في الجنَّةِ، ومن قَرَأهَا عِشْرينَ مَرَّةً بَنى اللهُ لهُ قَصرينِ في الجنَّة، ومن قَرأهَا ثلاثين مرَّةً، بَنَى له بِهَا ثلاثة قُصُورٍ في الجنَّة «فقال عمرُ بن الخطاب: والله يا رسول الله إذاً لنُكثِّرنَّ قُصُورنَا، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» اللهُ أوسعُ مِنْ ذلِكَ «» .(20/566)
وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} في مَرَضِه الَّذي يَمُوتُ فِيهِ لمْ يُفْتَنْ في قَبْرِهِ، وأمِنَ من ضغطهِ القبْرِ، وحمَلتهُ الملائِكةُ يومَ القِيامةِ بأكُفِّها، حتَّى يُجيزَ الصِّراطَ إلى الجنَّةِ» . فصل في أسماء هذه السورة
في أسمائها: قال ابن الخطيب: سورة التفريد، وسورة التجريد، وسورة التوحيد، وسورة الإخلاص، وسورة النجاة، وسورة الولاية، وسورة النسبة، لقولهم: انسبْ لنا ربَّك، وسورة المعرفة، وسورة الجمال، وسورة البراءة؛ لأنها تبرئ من النفاق، وسورة الأساس، وسورة المحضر؛ لأن الملائكة تحضر لسماعها، وسورة المانعة، والمنفرة، لأنها تنفر الشيطان، وسورة النور، لأنها تنور القلب، والله نور السموات والأرض. والله أعلم.(20/567)
سورة الفلق(20/568)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر، ومدنية في قول ابن عباس، وقتادة، وهي خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} . هذه السورة، وسورة «النَّاس» ، و «الإخلاص» نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سحرته اليهود، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء، وليستا من القرآن، وخالف به الإجماع من الصحابة، وأهل البيت.
قال ابن قتيبة: لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوِّذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعوذ الحسن والحسين بهما، فقدر أنهما بمنزلة: «أعوذُ بكَلمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ من كُلِّ شيطانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ» .
قال ابن الأنباري: وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام ربِّ العالمين؛ المعجز لجميع المخلوقين، و «أعِيذُكما بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامةِ» من قول البشر، وكلام الخالق الذي هو آية، وحجة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الأدميين على مثل عبد الله بن مسعود، الفصيح اللسان، العالم باللغة العارف بأجناس الكلام.
وقال بعضُ الناس: لم يكتب عبد الله المعوذتين؛ لأنه من أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في إتقانه، وحفظه لهما، ورد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] و {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} [الكوثر: 1] و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الاخلاص: 1] وهن يجرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، والنسيان مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب؛ إذ(20/568)
الصلاة لا تتم إلا بقراءتها، وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها، والأمن من نسيانها، صحيح، وليس من السور في هذا المعنى مجراها، ولا يسلك به طريقها.
فصل في تفسير السورة
تقدم الكلام على الاستعاذة، و «الفلقُ» : هو الصبح، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: مفلوق، وفي الحديث: «الرُّؤيَا مثلُ فلقِ الصُّبْحِ» .
قال الشاعر: [البسيط]
5360 - يَا ليْلَةً لَمْ أنمْهَا بِتُّ مُرتفقاً ... أرْعَى النُّجُومَ إلى أن نَوَّرَ الفلقُ
وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي: [البسيط]
5361 - حتَّى إذَا ما انْجَلَى عَنْ وجْههِ فلقٌ ... هَاديهِ فِي أخريَاتِ اللَّيْلِ مُنتَصِبُ
يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه.
وقيل: الفلق: الجبال، والصخور، تنفلق بالمياه، أي: تتشقق وقيل: هو التفليق بين الجبال، لأنها تنشق من خوف الله تعالى.
قال زهير: [البسيط]
5362 - مَا زِلتُ أرْمُقهُمْ حتَّى إذَا هَبطَتْ ... أيْدِي الرِّكابِ بِهِمْ من راكِسٍ فَلقَا
والراكس: بطن الوادي.
وكذلك هو في قول النابغة: [الطويل]
5363 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أتَانِي ودُونِي رَاكِسٌ فالضَواجِعُ
والراكس أيضاً: الهادي، وهو الثور وسط البيدرِ تدور عليه الثيران في الدِّياسة.
وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان.
وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان، والصبح، والحب، والنوى وكل شيء من نبات وغيره. قاله الحسن وغيره.(20/569)
قال الضحاك: الفلق: الخلق كله، قال: [الرجز]
5364 - وسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصاً ربِّ الفَلق ... سِرَّا وقَدْ أوَّنَ تَأوين العَقَقْ
قال القرطبيُّ: «وهذا القول يشهد له الاشتقاقُ، فإن الفلق: الشَّق، يقال: فلقت الشيء فلقاً، أي: شققته، والتفليق مثله، يقال: فلقته فانفلق وتفلق، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق: قال تعالى: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95] .
[والفلق مقطرة السمّان، فأما الفِلق بالكسر فهو الداهية، والأمر العجيب يقال منه: أفلق الرجل وافتلق، وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق؛ قال الشاعر: [الرجز]
5365 - واعجَبَاً لِهَذِهِ الفَليقهْ ... هَلْ يُذْهِبَنَّ القُوَبَاءَ الريقَهْ
والفِلْقُ أيضاً: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل منهما: فِلْق، وقولهم: جاء بعُلق فلق وهي الداهيةِ، يقال منه أعلقت وأفلقت. أي جئت بعُلق فلق، ومر يفتلق في عدوه أي بالعجب من شدته] .
قوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} ، متعلق ب» أعوذ «، والعامة: على إضافة» شرِّ «إلى» ما «، وقرأ عمرو بن فايد:» مِنْ شرِّ «بالتنوين.
وقال ابن عطية: وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة الذين يرون أن الله لم يخلق الشَّر:» مِنْ شرِّ «بالتنوين،» مَا خلقَ «على النفي وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيةٌ على مذهب باطل انتهى.
ولا يتعين أن تكون» ما «نافية، بل يجوز أن تكون موصولة بدلاً من» شرِّ «على حذف مضاف، أي: من شر شر ما خلق، عمم أولاً، ثم خصص ثانياً.
وقال أبو البقاء: و» ما «على هذا بدل من» شر «، أو زائدة، ولا يجوز أن تكون نافية؛ لأن النافية، لا يتقدم عليها ما في حيزها، فلذلك لم يجز أن يكون التقدير: ما خلق من شر، ثم هو فاسد في المعنى. وهو رد حسن صناعي، ولا يقال: إن» مِنْ شرِّ «متعلق ب» أعُوذُ «وقد أنحى مكي على هذا القائل، ورده بما يقدم.
و» ما «مصدرية، أو بمعنى» الذي «.
فصل في المقصود بشر ما خلق
روى عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس خاصة؛ لأن الله تعالى لم يخلق أشرَّ منه،(20/570)
وأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السِّحر، وذلك إنَّما يتم بإبليس وجنوده، لعنهم الله، وقيل: جهنم وما خلق فيها.
وقيل: عام؛ أي من شر كل ما خلقه الله وقيل: ما خلق الله من الأمراض، والأسقام [والقحط] وأنواع المِحَنْ.
وقال الجبائي والقاضي: هذا التقييد باطل؛ لأن فعل الله - تعالى - لا يجوز أن يوصف بأنه شر؛ لأن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمر به، وذلك متناقض؛ لأن أفعاله - تعالى - كلها حكمة وصواب، فلا يجوز أن يقال: شرّ.
وأيضاً: فلأن فعل الله لو كان شرَّا؛ لوصف فاعله بأنه شر، وتعالى الله عن ذلك.
والجواب عن الأول: أنه لا امتناع في قوله: أعوذ بك منك، كما رد عن الثاني أن الإنسان لم تألم وصف بالألم كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
وعن الثالث: أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، ومما يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} [المعارج: 20] .
قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، «إذا» منصوب ب «أعوذ» أي: أعوذ بالله من هذا في وقت كذا، كذا.
والغسقُ: هو أول ظلمةِ الليل، يقال منه: غسق الليل يغسق، أي: يظلم.
قال ابن قيس الرقيَّات: [المديد]
5366 - إنَّ هَذا اللَّيْلَ قدْ غَسقَا ... واشْتكَيْتُ الهَمَّ والأرَقَا
وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم، ووقب على هذا: أظلم.
وقيل: نزل، قال: وقب العذاب على الكافرين: نزل.
5367 - وقَبَ العَذابُ عَليْهِمُ فكَأنَّهُمْ ... لحِقَتْهُمْ نَارُ السَّمُومِ فأحْصِدُوا(20/571)
وقال الزجاج: قيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النَّهار، والغاسق: البارد، والغسق: البرد؛ ولأنَّ في الليل تخرج السِّباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشرِّ على العبث، والفسادِ، فاستعير من الليل.
قال الشاعر: [البسيط]
5368 - يَا طَيْفَ هِنْدٍ لقَدْ أبْقَيْتَ لِي أرقاً ... إذْ جِئْتنَا طَارِقاً والليلُ قَدْ غَسَقا
أي: أظلم واعتكر، وقيل: الغاسق: الثُّريَّا، لأنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك. قاله عبد الرحمن بن زيد.
وقال القتبي: القمر إذا وقب إذا دخل في ساهورة كالغلاف إذا خسف وكل شيء أسود فهو غسق.
وقال قتادة: «إذَا وقَبَ» إذا غاب.
قال القرطبي: وهو أصح، لماروى الترمذي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر إلى القمر، فقال:» يا عَائِشةُ، استَعِيذِي باللهِ من شرِّ هذا، فإنَّ هذا هُوَ الغاسقُ إذا وقبَ «» ، قال: هذا حديث حسن صحيح.
[وقيل: الغاسق: الحيَّة إذا لدغت، وكأن الغاسق نابها لأن السم يغسق منه أي: يسيل، يقال: غسقت العين تغسق غسقاً، إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقاً، لانصباب ظلامه على الأرض، ووقب نابها إذا قامت باللدغ] .
وقيل: الغاسقُ: كل هاجم يضر، كائناً ما كان، من قولهم: غسقت القرحة، إذا جرى صديدها.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، لو أنه صح، أن [القمر في جرمه غير مستنير، بل هو مظلم، فهذا هو المراد من كوته غاسقاً، وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر] الشهر والمنجمون يقولون: إنه في آخر الشهر منحوس، قليل القوة؛ لأنه لا يزال نوره بسبب ذلك تزداد نحوسته، فإن السحرة إنما يشتغلون في السحر الموروث، للتمريض في هذا الوقت، وهذا مناسب لسبب نزول السورة فإنها نزلت؛ لأجل أنهم سحروا النبي صلى الله عيه وسلم لأجل التمريض.(20/572)
قوله: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} ، النَّفَّاثات: جمع نفاثة، مثال مبالغة من نفث، أي: نفخ، واختلف فيه.
فقال أبو الفضل: شبه النفخ من الفم بالرقية، ولا شيء معه.
قال عنترة: [الوافر]
5369 - فإنْ يَبْرَأ فلمْ أنفُثْ عليْهِ ... وإنْ يُفْقَدْ فحُقَّ لهُ الفُقُودُ
وقال الزمخشري: «النفخُ مع ريق» .
وقرأ الحسن: «النُّفَّاثات» بضم النون، وهو اسم كالنفاثة. ويعقوب وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر وعبد الله بن القاسم: «النافثات» ، وهي محتملة لقراءة العامة.
والحسن وأبو الربيع: «النفثات» دون ألف محاذر وحذر، ونكّر عاسقاً وحاسداً؛ لأنه قد يتخلف الضرر فيهما؛ فإن التنكير للتبعيض، وعرف النفاثات إما للعهد كما يروى في التفسير، وإما للمبالغة في الشَّر.
فصل في معنى النَّفَّاثات
قال المفسرون: يعني السَّاحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها.
قال أبو عبيدة: النفاثات هي بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الشاعر: [المتقارب]
5370 - أعُوذُ بربِّي مِنَ النَّافِثَا ... تِ في عِضَهِ العَاضهِ المُعْضِهِ
وقال متمم بن نويرة: [السريع]
5371 - نَفَثْتُ فِي الخيْطِ شَبيهَ الرُّقَى ... مِنْ خَشْيةِ الجِنَّة والحَاسدِ
فصل
روى النسائي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ عَقَدَ عُقدةً ثُمَّ نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلَّق شيئاً وكُلَ إليْهِ» .(20/573)
واختلف في النَّفث عند الرقى: فمنعه قوم، وأجازه آخرون.
قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح، ولا يعقد.
قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث من الراقي، والصحيح الجواز؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينفث في الرقية.
وروي محمد بن حاطب أن يده احترقت، فأثبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فجعل ينفث عليها، ويتكلم بكلام، وزعم أنه لم يحفظه.
وروي أن قوماً لدغ فيهم رجل، فأتوا أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقى ويتفل حتى برئ، فأخذوها، فلما رجعوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكروا ذلك له فقال: وما يدريكم أنها رقية؟ خذوا واضربوا لي معكم سهماً.
وأما ما روي عن عكرمة فكأنه ذهب فيه إلى أن النفث في العقد مما يستعاذ به بخلاف النفث بلا عقد.
قال ابن الخطيب: هذه الصناعة إنما تعرف بالنِّساء، لأنهن يعقدن في الخيط، وينفثن، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر، وإحكام الهمَّة والوهم فيه، وذلك إنما يتأتَّى من النساء لقلة عملهن، وشدة شهوتهن، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى.
قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} ، الحسدُ: هو تمني زوال نعمة المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة: هي تمنّي مثلها وإن لم تزل من المحسود، وهي الغبطة، فالحسد: شر مذموم، والمنافسة مباحة.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المؤمن يغبط والمنافق يحسد» وقال: «لا حَسَدَ إلاَّ في اثنتينِ» يريد الغبطة.
قال ابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لما كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قربت إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذوا مشاطة من أثر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدة من أسنان مشطه، فأعطاه اليهود؛ ليسحروه بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتولى ذلك ابن الأعصم، رجل من اليهود.(20/574)
فصل في أن الله خلق الخير والشر
هذه السورة دالة على أن الله خلق كل شر، وأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتعوذ من جميع الشرور، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} وذلك خاتمة ذلك الحسد تنبيهاً على عظمته، وكثرة ضرره، والحاسد عدو نعمة الله تعالى.
قال بعض الحكماء: الحاسد بارز ربَّه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت إلي هذه القسمة.
وثالثها: أنه ضاد الله، أي: أن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله.
ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم، وزوال النعمة عنهم.
وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعاً، وغمًّا، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً، واحتراقاً، ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً.
وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاثةٌ لا يُسْتَجَابُ دعاؤهُم: آكلُ الحرامِ، ومُكثرُ الغِيبةِ، ومنْ كانَ في قلبِهِ غلٌّ أو حسدٌ للمسلمين» .
روى [الثعلبي عن أبيّ]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها» وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا أخْبرُكَ بأفضل ما تعوَّذ بهِ المتعوِّذُونَ» ؟ قلت: بلى يا رسُول اللهِ، قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} «والله أعلم.(20/575)
سورة الناس(20/576)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
مكية، وهي ست آيات، وعشرون كلمة، وتسعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} . قرئ: «قُلَ عُوذُ» بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام، ونظيره: {فَخُذَ رْبَعَةً} [البقرة: 260] .
وأجمع القراء على تلك الإمالة في «النَّاس» إذا كان في موضع الخفضِ.
ومعنى «رَبّ الناس» مالكهم، ومصلح أمورهم، وإنما ذكر أنه «رَبّ الناس» ، وإن كان رباً لجميع الخلق لأمرين:
أحدهما: لأن الناس معظمون، فأعلم بذكرهم أنه ربٌّ لهم وإن عظموا.
والثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرِّهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم، وإنما قال: {مَلِكِ الناس إله الناس} لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم، ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه دون الملوك، والعظماء.
قوله: {مَلِكِ الناس إله الناس} . يجوز أن يكونا وصفين ل «ربّ الناس» وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان.
قال الزمخشري: فإن قلت: «ملك الناس، إله الناس» ؟ ما هما من «رب الناس» ؟ قلت: هما عطف بيان، كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق، بين ب {مَلِكِ الناس} ثم زيد بياناً ب {إله الناس} ؛ لأنه قد يقال لغيره: «رب النَّاس» ، كقوله: {اتخذوا(20/576)
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] ، وقد يقال: «ملك النَّاس» ، وأما «إله النَّاس» فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.
واعترض أبو حيَّان: بأن البيان يكون بالجوامد، ويجاب عنه بأن هذا جارٍ مجرى الجوامد وقد تقدم تقريره في «الرحمن الرحيم» أول الفاتحة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: «بربِّ النَّاس» مضافاً إليهم خاصة؟ .
قلت: لأن الاستعاذة وقعت من شر الوسواس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فهلاَّ اكتفي بإظهار المضاف إليه الذي هو النَّاس مرة واحدة؟ لأن عطف البيان للبيان، فكان مظنةً للإظهار دون الإضمار» .
وكرر لفظ «النَّاس» ؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار، ولأن التكرار يقتضي مزيد شرف الناس، وأنهم أشرف مخلوقاته.
قال ابن الخطيب: وإنما بدأ بذكر الرب تعالى، وهم اسم لمن قام بتدبيره، وإصلاحه من أوائل نعمه إلى أن رباه، وأعطاه العقل، فحينئذ عرف بالدليل أنه مملوك وأنه ملك، فثنى بذكر الملك، ثم لما علم أن العبادة لازمة له، وعرف أنه معبود مستحق للعبادة وعرفه أنه إله فلهذا ختم به.
قال ابن الخطيب: ولم يقرأ في المشهورة هنا «مالك» بالألف، كما قرئ به في الفاتحة، لأن معنى المالك هو الربُّ، فيلزم التكرار.
وقرئ به في الفاتحة، لاختلاف المضافين، فلا تكرار.
قوله: {مِن شَرِّ الوسواس} .
قال الزمخشري: «اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر: فوِسْواس - بالكسر» كزِلْزَال «، والمراد به الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته، وشغله الذي هو عاكف عليه، وأريد ذو الوسواس» . انتهى، وقد مر الكلام معه أن المكسور مصدر، والمفتوح اسم في «الزلزلة» ؛ فليراجع.
والوَسْوَسَةُ: حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وَسْوَسة ووِسْوَسة - بكسر الواو - قاله القرطبي.
ويقال لهمس الصائد، والكلاب، وأصوات الحليّ: وسواس.(20/577)
قال ذو الرمة: [البسيط]
5372 - فَبَاتَ يُشئِزُهُ ثَأَدٌ ويُسهِرهُ ... تَذؤُّبُ الرِّيحِ والوَسْوَاسُ والهِضَبُ
وقال الأعشى: [البسيط]
5373 - تَسْمَعُ للحَلْي وسْوَاساً إذا انصَرفَتْ ... كمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
قوله: «الخنَّاس» أي: الرجَّاع؛ لأنه إذا ذكر الله - تعالى - خنس، وهو مثال مبالغة من الخنوس.
يقال: خنس أي تأخر، يقال: خنستة فخنس، أي أخرته فتأخر، وأخنسته أيضاً. وتقدم الكلام على هذه المادة في سورة: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] .
{الذى يُوَسْوِس} : يجوز جره نعتاً وبدلاً [وبياناً لجريانه مجرى] الجوامد، ونصبه ورفعه على القطع.
قال القرطبي: «ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} [التكوير: 15] يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها» .
فصل في الكلام على الشيطان
قال مقاتل: إن الشيطان في سورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، سلَّطه الله على ذلك، فذلك قوله تعالى: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الشَّيطَانَ يَجْرِي من ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» رواه البخاري ومسلم.
قال القرطبي: «ووسوسته: هو الدعاء إلى طاعته، حتى يصل به إلى القلب، من غير صوت» .
قوله: {مِنَ الجنة} . فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من «شرّ» بإعادة العامل، أي: من شر الجنة.
الثاني: أنه بدل من ذي الوسواس؛ لأن الموسوس من الجن والإنس.
الثالث: أنه حال من الضمير في «يُوسْوِسُ» حال كونه من هذين الجنسين.
الرابع: أنه بدل من «النَّاس» وجعل «مِنْ» تبييناً، وأطلق على الجن اسم النَّاس؛(20/578)
لأنهم يتحركون في مراداتهم. قاله أبو البقاء: إلا أنَّ الزمخشري أبطله، فقال بعد أن حكاه: «واستدلوا بنفر ورجال في سورة» الجنِّ «، وما أحقه لأن الجنَّ سموا حنًّا لاجتنانهم، والناس ناساً لظهورهم من الإيناس، وهو الإبصار، كما سموا بشراً، ولو كلن يقع الناس على القبيلين، وصح ذلك، وثبت لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن، وبعده عن التصنُّع، وأجود منه أن يراد بالنَّاس: الناسي، كقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الداع} [القمر: 6] ، ثم يبين بالجنة والناس؛ لأن الثقلين هما النوعان الموصفان بنسيان حق الله عَزَّ وَجَلَّ» .
الخامس: أنه بيان ل {الذى يُوَسْوِسُ} على أنَّ الشيطان ضربان: جني، وإنسي، كما قال: {شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] ، وعن أبي ذر، أنه قال لرجل: هلاَّ استعذت من شياطين الإنس.
السادس: أن يتعلق ب «وسوس» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الإنس، ومن جهة الجن.
السابع: أن «الناس» عطف على «الوسواس» ، أي: من شر الوسواس والناس، ولا يجوز عطفه على «الجنَّة» ؛ لأن النَّاس لا يوسوسون في صدور النَّاس، إنما يوسوس الجن، فلما استحال المعنى حمل على العطف على الوسواس، قاله مكي.
الثامن: أن «مِنْ الجنَّةِ» ؛ حال من «النَّاس» أي: كائنين من القبيلين، قاله أبو البقاء، ولم يبين أي الناس المتقدم أنه صاحب الحال، وعلى كل تقدير فلا يصح معنى الحالية في شيء منها، لا الأول، ولا ما بعده، ثم قال: «وقيل: هو معطوف على الجنة» ، يريد: «والنَّاس» الأخير معطوف على الجنة، وهذا الكلام يستدعي تقدير شيء قبله وهو أن يكون الناس عطفاً على غير الجنة؛ وفي الجملة فهو كلام يتسامح فيه.
فصل في شياطين الإنس والجن
قال الحسن: هما شيطانان لنا: أما شيطان الجن، فيوسوسُ في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادةُ: إن من الجن شياطين، وإنَّ من الإنس شياطين فتعوذ بالله من شياطين الجن والإنس.
وعن أبي ذر: أنه قال لرجل: هل تعوَّذتَ بالله من شياطين الإنس؟ [(20/579)
الأنعام: 112] . .
قال: أو من الإنس شياطين؟ قال: نعم، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] .
وذهب قوم: أنَّ المراد بالناس هنا الجن، سموا بذلك ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} [الجن: 6] ، وكما سموا نفراً في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} [الأحقاف: 29] .
فعلى هذا يكون «والنَّاس» عطفاً على «الجنَّةِ» ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين.
وقيل: معنى: {مِن شَرِّ الوسواس} ، أي: الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس.
قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - تجَاوَزَ لأمَّتِي مَا حدَّثتْ بِهِ أنفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أو تَتَكلَّمْ بِهِ» والله أعلم.(20/580)