قال الزمخشريُّ: «وإن شئت جعلت» نِصفَهُ «بدلاً من» قَلِيْلاً «وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل» .
وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من «اللَّيْلِ» كما تقدم.
إلا أن أبا حيان اعترض هذا، فقال: «وإذا كان» نِصفَهُ «بدلاً من» إلاَّ قليلاً «، فالضميرُ في» نصفهُ «إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه، وهو» الليْل «لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير: إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة، وإن عاد الضمير إلى» اللَّيْلِ «فلا فائدة في الاستثناء من» الليْلِ «، إذ كان يكون أخصر، وأفصح، وأبعد عن الإلباس: قم الليل نصفه، وقد أبطلنا قول من قال:» إلاَّ قَليلاً «استثناء من البدل، وهو» نِصْفَهُ «وأنَّ التقدير: قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف، وأيضاً ففي دعوى أن» نِصفَهُ «بدل من» إلاَّ قَلِيلاً «، والضمير في» نِصْفَهُ «عائد على» الليْلِ «، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصلح، وليس المراد من الآية قطعاً» .
قال شهاب الدين: يقول بجواز عوده على كل منهما، ولا يلزم محذور، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع، بل هو استثناء معلوم من معلوم، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث، والليل ليس بمجهول، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد، قال الله تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] ، وقال تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] ، وكان حقه أن يقول: لأنه بدل مجهول من مجهول، وأما ما ذكره من أنه «أخصر منه، وأوضح» كيت وكيت، أما الأخصر، فمسلم وأما أنه يلبس، فممنوع، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ، وبهذا الوجه استدل من قال: يجوز استثناء النصفِ، والأكثر، [ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه] ووجه الدلالة على الثاني: أنه عطف «أوْ زِدْ عليْهِ» على «انْقُصْ مِنْهُ» ، فيكون قد استثنى الزائد على النصف، لأن الضمير في «مِنْهُ» وفي «عَليْهِ» عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف، وهو نظير أن يقول: له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً، فالزيادة على النصف بطريق العطف، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه.
الثالث: إن «نِصفَهُ» بدل من «الليل» [أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول، إلا أن(19/455)
الضمير في «مِنْهُ» و «عَليْهِ» عائد على الأقل من النصف،] وإليه ذهب الزمشخريُّ، فإنه قال: «وإن شئت قلت: لما كان معنى {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ} إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى: قم أقل من نصف الليل، فيرجع الضمير في» مِنْهُ «و» عَليْهِ «، إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث» .
الرابع: أن يكون «نِصفَهُ» بدلاً من «قَلِيْلاً» كما تقدم؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً، فقال: «ويجوز إذا أبدلت» نِصْفَهُ «من» قَلِيْلاً «وفسرته به أن تجعل» قَلِيلاً «الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف، والثلث، والربع» انتهى.
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني: فقال: وقد أكثر الناس في هذه الآية، وفيها وجهان ملخصان:
أحدهما: أن القليل في قوله: «إِلاَّ قَليْلاً» ، هو الثلث، لأن قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ} ، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان، فيكون قيامُ الثلث جائزاً، وهو قوله: {إلاَّ قَلِيلاً} فكأنه قيل: قم ثلثي الليل، ثم قال: «نِصْفَهُ» فمعناه: أو قم نصفه، من باب قولهم: «جالس الحسن، أو ابن سيرين» على الإباحة، فحذف العاطف، فالتقدير: قم الثلثين، أو قم النصف، أو انقص من النصف، أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، والثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه مندوباً، فإن قيل: فيلزم على قراءة الخفض في «نصفه» و «ثلثه» أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك من الواجب الأدنى، لأنه تعالى قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تاركاً للواجب؟
قلنا: المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ، فهو كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] .
الثاني: أن «نِصْفَهُ» تفسير ل «قَلِيْلاً» لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف، فالمعنى: قم نصف الليل، أو انقص منه(19/456)
نصفه، وهو الربع، أو زد عليه نصفه، وهو الربع، فيصير المجموع ثلاثة أرباع، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف، أو ربع الليل، أوثلاثة أرباعه، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية، لأن الربع أقل من الثلث، وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} يدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط، لم يلزم ترك قيام الثلث.
الوجه الخامس: أن يكون {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من القيام، فيجعل «الليْل» اسم جنس، ثم قال: {إِلاَّ قَلِيلاً} ، أي: إلا الليالي التي تُخِلّ فيها، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب، قاله ابن عطية، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ، وهو تأويل بعيد.
السادس: قال الأخفش: الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه، قال: كقولك: «أعطه درهماً درهمين ثلاثة» .
وهذا ضعيف جداً، لأن فيه حذف حرف العطفِ، وهو ممنوعٌ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله، كقولهم: «أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً» .
وقول الآخر: [الخفيف]
4920 - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا ... يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ
أي: «لحماً وسمكاً وتمراً» ، وكذا: كيف أصبحت، وكيف أمسيت، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء.
السابع: قال التبريزي: الأمر بالقيام، والتخيير في الزيادة، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاسثتناء وارد على المأمورية، فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه «أو زِدْ عليْهِ» ، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة، والنقصان واقعاً على الثلثين، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب.
الثامن: أن «نِصْفَهُ» منصوب على إضمار فعل، أي: قم نصفه، حكاه مكي عن غيره، فإنه قال: «نِصْفَهُ» بدل من «الليْلِ» .
وقيل: «انتصب على إضمار: قم نصفه» .
قال شهاب الدين: «وهذا في التحقيق، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً، لأن البدل على نية تكرار العامل» .(19/457)
فصل في نسخ الأمر بقيام الليل
اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة: أن الناسخ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} إلى آخرها، وقيل: قوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} وعن ابن عباس أيضاً: أنه منسوخ بقوله {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} ، وعن عائشة أيضاً، والشافعي وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: الناسخ قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .
قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت {يا أيها المزمل} قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .
قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة لفضله كما قال تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} .
قال القرطبيُّ: «والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] . فدخل فيها قول من قال: إن الناسخِ الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ، ولو على قدر حلب شاة، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب، والفضل في القرآن، والسنة» .
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كنت أجعل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتحنحون، ويتفلون، فخرج إليهم فقال:» أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ، وإنْ قَلَّ «، فنزلت {يا أيها المزمل} ، فكتب عليهم، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل، فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهرٍ، فنزل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} ، فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل، إلا ما تطوعوا به.
قال القرطبيُّ: ومعنى حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ثابت في الصحيح، إلى(19/458)
قوله:» وإنْ قَلَّ «وباقيه يدل على أن قوله تعالى {يا أيها المزمل} نزل بالمدينة، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون، وقد تقدم عنها في» صحيح مسلم «حولاً.
وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً: وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها، وذكر عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه كان بين أول» المُزمِّل «وآخرها سنة، قال: فأما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد كان فرضاً عليه، وقيل في نسخه عنه قولان:
أحدهما: أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات.
والثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان:
أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولاً، وقول عائشة ستة عشر شهراً.
الثاني:» أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ «.
قوله: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} ، أي: لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني.
قال المبرد: أصله من قولهم: «ثغر رتل ورتل» بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا جملت فيه، ويقال: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل.
فقوله تعالى: {تَرْتِيلاً} تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارىء.
روى الحسن: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال:» أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} ، هذا الترتيل «.
وروى» أبو داود «عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ، ويقال له: اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها «.(19/459)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ، الجملة من قوله: «إنَّا سَنُلقي» مستأنفة.
وقال الزمخشريُّ: «وهذه الآية اعتراض» ثم قال: «وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن، لأن الليل وقت السبات، والراحة، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة، ومجاهدة لنفسه» انتهى.
يعني بالاعتراض من حيثُ المعنى، لا من حيث الصناعة، وذلك أن قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} مطابق لقوله: «قُمِ الليْل» ، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين.
فصل في معنى الآية
المعنى: سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل «قَوْلاً ثَقيْلاً» يثقل حمله، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد.
وقيل: المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة: ثقيل - والله - فرائضه وحدوده. وقال مجاهد: حلاله وحرامه.
وقال الحسن: العمل به.
وقال أبو العالية: ثقيل بالوعد، والوعيد، والحلال والحرام.
وقال محمد بن كعب: «ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم، ويبطل أديانهم» .
وقيل: على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم.
وقال السديُّ: ثقيل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليَّ، أي يكرم عليّ.
وقال الفراءُ: «ثَقِيْلاً» أي: رزيناً.(19/460)
وقال الحسن بن الفضل: ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد.
وقال ابن زيد: هو ثقيل مبارك في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة.
وقيل: ثقيل: أي ثابت كثبوت الثقيل في محله، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً.
[وقيل: ثقيل: بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده، ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة، والنحو، وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله] .
وقيل: هو الوحي، كما جاء في الخبر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك، حتى يُسَرَّى عنه «.
وقال القشيري: القول الثقيل هنا: هو قول:» لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ «، لأنه ورد في الخبر:» لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ «.
قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل} .
في الناشئة أوجه:
أحدها: أنها صفة لمحذوف، أي: النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة، أي تنهض وترفع من «نشأت السحابة» إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض، قال: [الطويل]
4921 - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى ... وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ
الثاني: أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ، على أنها مصدر من «نشأ» إذا قام ونهض، فيكون كالعافية والعاقبة، قالهما الزمخشري.
الثالث: أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل، أي: قام من الليل.
قال أبو حيان: فعلى هذا هي جمع ناشىء، أي: قائم، يعني: أنها صفة لشيء يفهم الجمع، أي: طائفة، أو فرقة نائشة، وإلا ف «فاعل» لا يجمع على «فاعلة» .
قال القرطبي: «قال ابن مسعود:» الحبشة « [يقولون: نشأ، أي قام. فلعله أراد(19/461)
أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة] غالبة عليهم، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب» .
الرابع: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل} : ساعاته، وأوقاته؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء.
قال القرطبيُّ: «لأنها تنشأ أولاً فأولاً، يقال: نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشىء، وأنشأه اللهُ فنشىء، فالمعنى: ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة، لأن كل ساعة تحدث» .
وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ: بما كان بعد العشاء، إن كان قبلها فليس بناشئة، وخصصتها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بأن تكون بعد النوم، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة.
قوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} .
قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ: بكسر الواو، وفتح الطاء بعدها ألف، والباقون: بفتح الواو وسكون الطاء.
وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة: «وِطْأً» ، بكسر الواو وسكون الطاء.
وظاهر كلام أبي البقاء أنه قرىء بفتح الواو مع المد، فإنه قال: «وِطْأ» بكسر الواو بمعنى مواطأة «، وبفتحها اسم للمصدر، ووطأ على» فعل «وهو مصدر وطىء، والوطاء: مصدره» وِطَاء «ك» قِتَال «مصدر» قَاتلَ «، والمعنى: أنها أشد مُواطأة، أي: يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص.
والوطء - بالفتح والكسر -: على معنى أشد ثبات قدم، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر «وعلى كل تقدير: فانتصابه على التمييز.
قوله: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} .(19/462)
حكى الزمخشريُّ: أن أنساً قرأ:» وأصوب قِيْلاً «فقيل: له: يا أبا حمزة إنما هي» وأقْوَمُ «، فقال: إن أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ: {فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 25]- بالحاء المهملة - فقيل له: هي بالجيم فقال: جَاسوا وحاسوا واحد.
قال شهاب الدين: «وغرضه من هاتين الحكايتين، جواز قراءة القرآن بالمعنى، وليس في هذا دليل؛ لأنه تفسيرُ معنى، وأيضاً، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر، وهذه الحكاية آحاد، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً، {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43 - 44] ، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما تبرم منه قال: طعام الفاجر يا هذا، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه، وليس فيه دليل، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفط مبين» .
قال الأنباري: وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال: إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله، واحتجوا بقول أنس هذا، وهذا قول لا يعرج عليه، ولا يلتفت إلى قائله، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها، واشتملت على غايتها لجازأن يقرأ في موضع {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا، حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: «نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، إنما هو كقول أحدكم: تعلم، وتعال، وأقبل» ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في «هَلُمَّ» ، وتعال، وأقبل «، فأما ما لم يقرأ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، وتابعوهم، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت، ومال، وخرج عن مذهب الصواب، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم. انتهى.
فصل في فضل صلاة الليل
بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر، وأجلب للثواب، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب، والعشاء، ويقول: هذه ناشئة الليل.
وقال عطاء وعكرمة: هو بدوام الليل. قال في الصحاح:» ناشئة الليل «أول ساعاته.(19/463)
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كلهُ، لأنه ينشأ بعد النهار، وهو اختيار مالك.
قال ابن العربي:» وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة «.
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة.
وقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل.
وأما قوله: {أَشَدُّ وَطْأً} ، أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل، فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو، وفتح الطاء، وأما على قراءة المد: فهو مصدر «واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً» ، أي: وافقت على الأمر من الوفاق، تقول: فلان مواطىء اسمه اسمي، أي: موافقه، فالمعنى أشد موافقة بين القلب، والبصر، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات، والحركات، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما، قال تعالى: {ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله} [التوبة: 37] ، أي: ليوافقوا، وقيل: أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر.
وقيل: أشد ثباتاً من النهار، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء: الثبات، تقول: وطئتُ الأرض بقدمي.
وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي: القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي: أشد استقامة واستمراراً على الصواب، لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.
وقال قتادة ومجاهد: أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم.
وقيل: أشد استقامة لفراغ البال بالليل.
وقيل: أعجل إجابة للدعاء، حكاه ابن شجرة.
وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً، وأكثر بركة.
قوله: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} .(19/464)
قرأ العامة: بالحاء المهملة، وهو مصدر «سَبح» ، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء، وهي البعد فيه.
وقال القرطبيُّ: السَّبْحُ «الجري، والدوران، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح» شديد الجري «. قال امرؤ القيس: [الطويل]
4922 - مِسَحٍّ إذَا السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى ... أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ
وقيل: السبح: الفراغ، أي: إن لك فراغاً للحاجات بالنهار.
وعن ابن عباس وعطاء:» سَبْحاً طَويْلاً «يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقرأ يحيى بن يعمر، وعكرمة وابن أبي عبلة:» سَبْخاً «بالخاء المعجمة.
واختلفوا في تفسيرها: فقال الزمخشريُّ:» استعارة من سبخ الصوف، وهو نفشه، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ، وتفريق القلب بالشواغل «.
وقيل: التسبيخ، التخفيف، حكى الأصمعيُّ:» سبخ الله عنك الحمى، أي: خففها عنك «.
قال الشاعر: [الطويل]
4923 - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ ... إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ
أي: خفف، ومنه» قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعائشةَ، وقد دعت على سارق ردائها: «لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ» ، أي: لا تخففي إثمه.
وقيل: التسبيخ: المد، يقال: سبخي قُطنكِ، أي: مديه، والسبيخة: قطعة من القطن، والجمع: سبائخ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً: [البسيط]
4924 - فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا ... يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ(19/465)
وقال أبو الفضل الرازي: «قرأ ابن يعمر وعكرمة:» سَبْخاً «- بالخاء المعجمة - وقالا: معناه نوماً، أي: ينام بالنهار؛ ليستعين به على قيام الليل، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسراها: فلا تجاوز عنه» .
قال شهاب الدين: «في هذا نظرٌ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة» .
وقال ثعلب: السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب، والسبح: السكون «.
ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء «، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ.
وقال أبو عمرو: السَّبْخُ: النوم والفراغ، فعلى هذا يكون من الأضداد، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة.
قوله: {واذكر اسم رَبِّكَ} ، أي: ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.
وقيل: اقصد بعملك وجه ربِّك.
وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه.
وقيل: اذكر اسم ربِّك في وعده، ووعيده؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته.
وقال الكلبي: صلِّ لربِّك، أي: بالنهار.
قال القرطبيُّ: وهذا حسن، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] .
قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، هذا مصدر على غير المصدر، وهو واقع موقع التبتل، لأن مصدر» تفعَّل «» تفعُّل «نحو» تصرَّف تصرُّفاً، وتكرَّم تكرُّماً «، وأما» التفعيل «فمصدر» فعَّل «نحو» صرَّف تصريفاً؛ كقول الآخر: [الرجز]
4925 - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ ... فأوقع «الانفعال» موقع «التفعل» .
قال الزمخشريُّ: لأنَّ معنى «تبتَّل» بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل.(19/466)
والبَتْلُ: الانقطاع، ومنه امرأة بتول، أي: انقطعت من النكاح، وبتلت الحبل: قطعته.
قال الليثُ: التبتل: تمييز الشيء من الشيء، وقالوا: طَلْقةٌ بَتْلةٌ، يعنون انقطاعها عن صاحبها، فالتبتُّل: ترك النكاح والزهد فيه، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
4926 - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها ... مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ
ومنه الحديث: أنه نهى عن التبتل، وقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ» والمراد به في الآية الكريمة: الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح.
والتبتل في الأصل: الانقطاع عن الناس، والجماعات، وقيل: إن أصله عند العرب التفرد. قاله ابن عرفة.
قال ابن العربي: «هذا فيما مضي، وأما اليوم، وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعُزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: وانقطع عن الأوثان، والأصنام، وعن عبادة غير الله.
وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم، والتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى:
{وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] ، والتبتل المنهي عنه: سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ، والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن «.
قوله: {رَّبُّ المشرق والمغرب} .
قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ: بجر» ربِّ «على النعت ل» ربِّك «، أو البدل منه، أو البيان له.
وقال الزمخشري: وعن ابن عباس: على القسم بإضمار حرف القسمِ، كقولك:» والله لأفعلنَّ «وجوابه» لا إله إلاَّ هُو «، كما تقول:» والله لا أحد في الدار سوى زيد «.(19/467)
قال أبو حيَّان: لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، لأن فيه إضمار الجار، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب» مَا «، وحدها، فلا تنفى ب» لا «إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً، أو بماض في معناه قليلاً.
نحو قول الشاعر: [البسيط]
4927 - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً ... مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ، والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب» مَا «؛ كقوله: [الطويل]
4928 - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ
قال شهاب الدين:» قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية، أم فعليه تنفى ب «ما» ، أو «لا» ، أو «إن» بمعنى: «ما» ، وهذا هو الظاهر «.
وباقي السبعة: ترفعه، على الابتداء وخبره الجملة من قوله» لا إله إلا الله «، أو على خبر ابتداء مضمر، أي:» هُو ربُّ «، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض.
وقرأ زيد بن علي:» ربَّ «بالنصب على المدح.
وقرأ العامة:» المشْرِق والمَغْرِب «موحدين.
وعبد الله وابن عباس:» المشَارِق والمغَارِب «.
ويجوز أن ينصب» ربَّ «في قراءة زيد من وجهين:
أحدهما: أنه بدل من» اسم ربِّك «، أو بيان له، أو نعت له، قاله أبو البقاء، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى.
والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر، أي: فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه، وما بينهما اعتراض.
والمعنى: أن من علم أنه رب المشارق، والمغارب انقطع بعمله إليه» واتَّخذهُ وَكِيْلاً «، أي: قائماً وقيل: كفيلاً بما وعدك.(19/468)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
قوله: {واصبر على مَا يَقُولُونَ} ، أي: من الأذى، والسب، والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم، وفوض الأمر إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} ، الهجر: ترك المخالطةِ، أي: لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم.
قال قتادة وغيره، نسختها آية القتال.
وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه [أقوام] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم.
قال ابن الخطيب: وقيل وهو الأصح إنّها محكمة.
قوله: {وَذَرْنِي والمكذبين} . يجوز نصب «المُكذِّبِيْنَ» على المعية، وهو الظاهر، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة.
والمعنى: ارض بي لعقابهم، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً، «أولي النعمة» أي: أولي الغنى، والترفه واللذة في الدنيا {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} يعني إلى مدة آجالهم، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر.
وقيل: «ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً» مدة الدنيا.
قوله: «أوْلِي النَّعمَةِ» ، نعت للمكذبين. و «النعمة» - بالفتح -: التنعم، وبالكسر، الإنعام، وبالضم: المسرَّةُ، يقال: نِعْمة ونُعْمة عين.(19/469)
وقوله: «قَلِيلاً» ، نعت لمصدر، أي: تمهيلاً، أو لظرف زمان محذوف، أي: زماناً قليلاً.
قوله: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} ، جمع نكل، وفيه قولان:
أشهرهما: أنه القيد.
وقيل: الغل؛ وقالت الخنساء: [المتقارب] .
4929 - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ ... وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ
قال الحسن ومجاهد وغيرهما: الأنكال: القيود، واحدها: نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة، وقيل: سمي نكلاً، لأنه ينكل به.
قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم.
وقال الكلبيُّ: الأنكال: الأغلال.
وقال مقاتل: الأنكال: أنواع العذاب الشديد.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ» - قال الجوهريُّ: بالتحريك - قيل: وما النكل؟ قال: «الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» - ذكره الماورديُّ، قال: ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي.
قال ابن الأثير: «النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل، وهو المنع، والتنحية عما يريد يقال: رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ، كشبه وشبهٌ، أي: ينكل به أعداؤه، وقد نكل الأمر ينكل، ونكل ينكل: إذا امتنع، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها» .
والجحيم: النار المؤجَّجَةُ.
{وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} . «الغُصَّةُ» : الشجى، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ، ويقال: «غَصِصتُ» - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان، قال: [الرمل](19/470)
4930 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي
والمعنى: طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج وهو كالغسلين، والزَّقُّوم والضريع. قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج.
وقال الزجاجُ: أي: طعامهم الضريع، وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد: هو كالزقوم.
والغصة: الشجى، وهو ما ينشب في الحلق من عظم، أو غيره، وجمعها: غُصَص، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك «غَصِصْتَ» يا رجل تَغُصُّ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم «.
ومعنى الآية: أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهذه هي الأمور الأربعة: الأنكال، والجحيم، والطعام الذي يغص به، والعذاب الأليم، والمراد به: سائرُ أنواع العذابِ.
قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} . أي: تتحرك، وفي نصب» يوم «أوجه:
أحدها: أنه منصوب ب» ذرني «، وفيه بعد.
والثاني: أنه منصوب بنزع الخافض أي: هذه العقوبة في يوم ترجف.
الثالث: أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به» لَديْنَا «.
والرابع: أنه صفة ل» عَذاباً «فيتعلق بمحذوف، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف.
الخامس: أنه منصوب ب» ألِيْم «.
والعامة:» تَرجُف «- بفتح التاء، وضم الجيم - مبنياً للفاعل.
وزيد بن علي: مبنياً للمفعول، من أرجفها: والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة.(19/471)
قوله: {وَكَانَتِ الجبال} ، أي: وتكون الجبال {كَثِيباً مَّهِيلاً} ، الكثيب: الرمل المجتمع.
قال حسان: [الوافر]
4931 - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ ... كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ
والجمع في القلة:» أكْثِبَةٌ «، وفي الكثرة:» كثبان «و» كُثُب «ك» رَغيف وأرغِفَة، ورُغْفَان ورُغُف «.
قال ذو الرمة: [الطويل]
4932 - فَقلْتُ لهَا: لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ ... لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا
قال الزمخشري: من كثبت الشيء إذا جمعته، ومنه الكثبة من اللبن؛ قالت الضائنة: أجَزُّ جُفالاً، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً.
[والمهيل: أصله» مهيول «ك» مضروب «استثقلت الضمة على الياء] فنقلت إلى الساكن قبلها، وهو الهاء فالتقى ساكنان، فاختلف النحاة في العمل في ذلك: فسيبويه، وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف، لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ» مفعل «.
والكسائي والفراء والأخفش: حذفوا الياء، لأن القاعدة في التقاء الساكنين: إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه:» مهول «إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء، ووزنه حينئذ» مفعول «على الأصل، و» مفيل «بعد القلب.
قال مكي: «وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام، فتقول: مهيول ومبيوع» ، وما أشبه ذلك من ذوات الياء، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين، وأجازه الكوفيون، نحو: مقوول، ومصووغ.
وأجازوا كلهم: مهول ومبوع، على لغة من قال: بوع المتاع، وقول القول، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم.
قال شهاب الدين: «التمام في» مبيوع، ومهيول «وبابه، لغة تميم، والحذف لغة سائر العرب» .(19/472)
ويقال: هلتُ التراب أهيله هيلاً، فهو مهيل فيه.
وفيه لغة: أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال، نحو أبعته إباعة فهو مباع. والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته.
وقال القرطبيُّ: والمَهِيلُ: الذي يمر تحت الأرجل، قال الضحاك والكلبي: المهيل: الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، فإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس: «مهيلاً» أي: رملاً سائلاً متناثراً.
قال القرطبيُّ: وأصله مَهْيُول، وهو «مفعُول» من قولك: هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً، إذا صببته.
يقال: مَهِيل ومَهْيُول، ومَكِيل ومكيول، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون.
قال الشاعر: [الكامل]
4933 - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين شكوا إليه الجدوبة: «» أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون «؟ قالوا: نهيل. قال:» كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ «» .(19/473)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النَّعمةِ بأهوال يوم القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا، فقال:
{إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً} يريد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسله إلى قريش {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} وهو موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل.(19/473)
قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأن أهل «مكة» ازدروا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى؛ لأنه ربَّاه، ونشأ فيما بينهم كما قال تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا} [الشعراء: 18] .
وذكر ابن الخطيب هذا السؤال والجواب وليس بالقوي لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولد، ونشأ فيما بين قوم نمرود، وكان «آزَر» وزير نمرود على ما ذكره المفسرون، وكذلك القول في نوح وهود وصالح ولوط، لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة «أخاهم» لأنه من القبيلة التي بعث إليها.
قوله: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} ، إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه «أل» العهدية، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً، أتوا به معرفاً ب «أل» ، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو «رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل، أو فأكرمته» ، ولو قلت: «فأكرمت رجلاً» لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 6] وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين» .
قال المهدوي هنا: ودخلت الألف واللام في «الرسول» لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب «سَلامٌ عَليْكُم» ، وفي آخرها «السَّلام عليْكُم» .
قوله: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، أي: شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل، أي: شديد.
قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه: «مطر وابل» ، أي: شديد، قاله الأخفش.
وقال الزَّجاجُ: أي: ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكاً، قال: [الكامل]
4934 - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى ... وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ
واستوبل فلان كذا: أي: لم يحمد عاقبته، وماء وبيل، أي: وخيم غير مريء وكلأ مستوبل، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ؛ قال زهير: [الطويل]
4935 - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا ... إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ
وقالت الخنساء: [الوافر](19/474)
4936 - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ ... فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا
والوبيل أيضاً: العصا الضخمة؛ قال: [الطويل]
4937 - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا ... وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ
وكذلك: «الوبل» بكسر الباء، و «الوبل» أيضاً: الحزمة من الحطب وكذلك «الوبيل» .
قال طرفة: [الطويل]
4938 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ
فصل في الاستدلال بالآية على «القياس»
قال ابن الخطيب: هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى.
فإن قيل هنا: هب أن القياس في هذه الصورة حجة، فلم قلتم: إنه في سائر الصور حجة، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس؟ .
قلنا: لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول: لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا، فإنَّ لقائلٍ أن يقول: لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا -، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم] ، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا.
فصل في معنى شهادة الرسول عليهم
قال ابن الخطيب: ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين:(19/475)
الأول: أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم، وتكذيبهم.
الثاني: أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق، ولذلك وصفت بأنها بينة، ولا يمتنع أن يوصف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك من حيث إنه يبين الحق.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد، لأن الله تعالى قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] أي: عُدُولاً خياراً، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة، وحمله على البيان مجاز، والحقيقة أولى من المجاز.
قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} .
«يوماً» إما منصوب ب «تَتَّقُونَ» على سبيل المفعول به تجوزاً.
وقال الزمخشري: «يوماً مفعول به، أي: فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر» .
وناقشه أبو حيان فقال: «وتتقون مضارع» اتقى «و» اتقى «ليس بمعنى» وقى «حتى يفسره به و» اتقى «يتعدى إلى واحد و» وقى «يتعدى إلى اثنين، قال تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور: 18] ولذلك قدره الزمخشريُّ: تقون أنفسكم لكنه ليس» تتقون «بمعنى» تقون «، فلا يعدى تعديته» انتهى.
ويجوز أن ينتصب على الظرف، أي: فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة، إن كفرتم في الدنيا. قاله الزمخشري.
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب «كفرتم» إن جعل «كفَرْتُمْ» بمعنى «جَحدتُمْ» أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة.
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة.
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار، أي: كفرتم بيوم القيامة.
فصل في المراد بالآية
قال القرطبيُّ: وهذا تقريع وتوبيخ، أي: كيف تتقون العذاب إن كفرتم، وفيه تقديم وتأخير، أي: كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم، وكذا قراءة عبد الله وعطية.(19/476)
قال الحسن: بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي: كيف تتقون عذاب يوم القيامة.
وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء، و «يَوْماً» مفعول ب «تتقون» على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم» ، وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله «كَفرْتُمْ» والابتداء «يَوْماً» يذهب إلى أن «اليوم» مفعول «يَجْعَلُ» والفعل لله - عَزَّ وَجَلَّ - كأنه قال: يجعل الله الولدان شيباً في يوم.
قال ابن الأنباري: وهذا لا يصح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله.
وقال المهدوي: والضمير في «يَجْعلُ» يجوز أن يكون لله - عَزَّ وَجَلَّ - ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم، صلح أن تكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عَزَّ وَجَلَّ - إلا مع تقدير حذف، كأنه قيل: يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً «.
وقال ابن الأنباري: ومنهم من نصب» اليوم «ب» كَفرْتُمْ «، وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق ب» كفرتم «احتاج إلى صفة، أي: كفرتم بيوم، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف، وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله: {فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً} .
قال القرطبيُّ:» هذه القراءة ليست بمتواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم» مفعول صريح من غير صفة، ولا حذفها، أي: فكيف تتقون الله، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء «.
والعامة: على تنوين» يَوْماً «، وجعل الجملة بعده نعتاً له، والعائد محذوف، أي: جعل الولدان فيه. قاله أب البقاء، ولم يتعرض للفاعل في» يَجْعلُ «، وهو على هذا ضمير الباري تعالى، أي: يوماً يجعل الله فيه، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في» يَجْعَلُ «هو فاعله، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة، أي: نفس اليوم يجعل الولدان شيباً.
وقرأ زيد بن علي: «يَوْمَ يَجْعَلُ» بإضافة الظرف للجملة، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير، ف «شيباً» مفعول ثان.(19/477)
وقرأ أبو السمال: «فكيف تتَّقُون» بكسر النون على الإضافة.
والولدان: الصبيان.
وقال السديُّ: هم أولاد الزنا.
وقيل: أولاد المشركين، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر، وذلك حين يقال لآدم: يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ. قال القشيريُّ: هم أهل الجنة، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم، وأوصافهم على ما يريد.
وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان، لكن معناه: أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة، ويقال: هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ. والله أعلم.
و «شيباً» : جمع «أشْيَب» ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء، نحو: أحْمَر حُمْرٌ؛ قال الشاعر: [البسيط]
4939 - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ ... والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ
وقال آخر: [الطويل]
4940 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... لَعِبْنَ بِنَا شِيباً، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
قال الزمخشريُّ: وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: رأيت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قال ابن الخطيب: إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين:
الأول: جعل الولدان شيباً وفيه وجهان:
الأول: أنه مثلٌ في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان، أسرع فيه الشيبُ لأن(19/478)
كثرة الهموم؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط، وذلك يوجب ابيضاض الشعر، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة.
الثاني: ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة، والشيب.
قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} . صفة أخرى، أي: متشققة بسبب هوله وشدته، فتكون الباء سببية، وجوز الزمخشريُّ أن تكون للاستعانة، فإنه قال: والباء في «به» مثلها في قولك: «فطرت العود بالقدُومِ فانفَطرَ بِهِ» .
وقال القرطبيُّ: ومعنى «به» ، أي: فيه، أي: في ذلك اليوم لهوله، هذا أحسن ما قيل فيه، ويقال: مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها، وخشيته من وقوعها، كقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض} [الأعراف: 187] ، وقيل: «به» ؛ أي: له، أي: لذلك اليوم، يقال: فعلت كذا بحرمتك، أو لحرمتك، والباء واللام وفي متقاربه في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ، أي: في يوم القيامة، وقيل: «به» أي بالأمر، أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً.
وقيل: السَّماءُ منفطر بالله، أي: بأمره. وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها:
قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقفِ تقول: هذا سماء البيت، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] .
ومنها: أنها على النسب، أي: ذات انفطار، نحو: امرأة مرضع وحائض، أي: ذات إرضاع، وذات حيض.
ومنها أنها تذكر، وتؤنث؛ أنشد الفراء: [الوافر]
4941 - فَلوْ رَفَعَ السَماءُ إليْه قَوماً ... لخُضْنَا بالسَّماءِ وبالسَّحَابِ
ومنها: اسم الجنس، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: سماة، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث.
ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله: {جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] و {الشجر الأخضر} [يس: 80] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] يعني: فجاء على أحد الجائزين.(19/479)
وقيل: لأن تأنيثها ليس بحقيقي، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه؛ قال الشاعر: [البسيط]
4942 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... والعَيْنُ بالإثْمِدِ الحَارِيِّ مَكحُولُ
قوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} ، يجوز أن يكون الضميرُ لله تعالى، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم، فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو «اللَّهُ» مقدر.
فصل في المراد بالوعد
قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف، وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهره دينه على الدين كله.
قوله: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} ، أي: هذه السورة والآيات عظة، وقيل: آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية، والإرشاد، فمن شاء أن يؤمن، ويتخذ بذلك إلى ربِّه سبيلاً، أي: طريقاً إلى رضاه، ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج، والدلائل.
قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} .
قال الكلبيُّ: والأشبه أنه غير منسوخٍ.
قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}(19/480)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} .
العامة: على ضم «اللام» من «ثلثي» وهو الأصل، كالربع والسدس.(19/480)
وقرأ هشام: بإسكانها تخفيفاً.
قوله: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} ، قرأ الكوفيون وابن كثير: بنصبهما، والباقون، بجرهما.
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى.
فالنصبُ: نسق على «أدْنَى» ؛ لأنه بمعنى وقت أدنى، أي: أقرب، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً، لأن الزمان لم يقم فيه، فيكون الثلث، وشيئاً من الثلثين، فيصدق عليه قوله: «إلاَّ قَلِيلاً» .
وأما قوله: «ونصفهُ» فهو مطابق لقوله: «ولا نِصْفهُ» ، وأما قوله: «وثُلثهُ» فإنَّ قوله: {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل، وأما قوله: {أَو زِدْ عَلَيْهِ} فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين. فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل، ويكون قوله تعالى: {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} ، وعلى قراءة النصب: فسر الحسن «تحصُوهُ» بمعنى تطيقوه، وأما قراءة الجر: فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم، وقد أوضح هذا كله الزمخشري، فقال: وقرىء: «نصفه وثلثه» بالنصب، على أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص وهو الثلث، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين.
وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف، وهو أدنى من الثلثين، والثلث، وهو أدنى من النصف، والربع وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير، انتهى.
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات. وقال أبو عبد الله الفارسي: وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة، وثلثه تارة، وأقل من النصف، والثلث تارة، فيصح المعنى.
فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة
قال القرطبي: هذه الآية تفسير لقوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم، ومعنى قوله تعالى: «تَقُومُ» أي: تصلي، و «أدْنَى» ، أي: أقل.(19/481)
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام: «ثلثي» بإسكان اللام، و «نصفه وثلثه» بالخفض: قراءة العامة - كما تقدم -، عطفاً على «ثلثي» والمعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، وثلثه، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفاً على «أدنى» ، والتقدير: تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراءُ: وهو أشبه بالصوابِ؛ لأنه قال: أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة.
قال القشيريُّ: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى قريب من الثلث، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم، وقيل: إنَّما فرض عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع.
قال القرطبيُّ: «وهَذَا تَحكُّمٌ» .
قوله: {وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ} . رفع بالعطف على الضمير في «تقُومُ» ، وجوز ذلك الفصل بالظرف، وما عطف عليه.
قوله: {والله يُقَدِّرُ الليل} .
قال الزمخشريُّ: «تقديم اسم الله - عَزَّ وَجَلَّ - مبتدأ مبنياً عليه» يقدر «هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير» .
ونازعه أبو حيَّان في ذلك، وقال: «لو قيل: زيدٌ يحفظ القرآن، لم يدل ذلك على اختصاصه» .
وقيل: الاختصاص في الآية مفهوم من السياق، والمعنى: ليعلم مقادير الليل، والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.
قوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} ، «أنْ لَنْ» و «أنْ سَيكُون» كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي، وحرف التنفيس.
والمعنى: علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك، والقيام به، أي: أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته.(19/482)
وقيل: المعنى: لن تطيقوا قيام الليل، والأصح الأول، لأن قيام الليل ما فرض كله قط.
قال مقاتل وغيره: لما نزل {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 - 4] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل، من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء، وانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فخفف الله عليهم، وقال: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} ، أي: علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم.
قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ، أي: فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.
وقيل: «فتَابَ علَيْكمْ» من فرض القيام أو عن عجزكم، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى إيسار، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري، فخفف عنهم ذلك التحري.
وقيل: معنى قوله: {والله يُقَدِّرُ الليل والنهار} ، أي: يخلقهما مقدرين، كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] .
قال ابنُ العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} .
قيل: المراد نفس القراءةِ، أي: فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم.
قال السديُّ: مائة آية.
وقال الحسنُ: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعبٌ: من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين.
وقال سعيد بن جبير: خمسون آية.
قال القرطبي: قول كعب أصح، «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» مَنْ قَامَ بِعشْرِ(19/483)
آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ «خرجه أبو داود الطيالسي.
وروى أنس بن مالك قال:» سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ» .
فقوله: «مَنَ المقُنَطرِيْنَ» ، أي: أعطي قنطاراً من الأجر.
وجاء في الحديث: «أن القنطار: ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض» .
وقال أبو عبيدة: القناطيرُ، واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه، ولا واحد للقنطار من لفظه.
وقال ثعلب: المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار.
وقيل: إن القنطار: ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً.
وقيل: هي جملة كثيرة مجهولة من المال، نقله ابن الأثير.
وقيل: المعنى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} ، أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآناً، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] ، أي: صلاة الفجر.
قال ابن العربي: «والأول أصح، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول» .
قال القرطبيُّ: «الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله» .
فصل في بيان أن الآية ناسخة
قال بعض العلماءِ: قوله تعالى {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} نسخ قيام الليل ونصفه،(19/484)
والنقصان من النصف، والزيادة عليه، ثم يحتمل قول الله - عَزَّ وَجَلَّ - {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معنيين:
أحدهما: أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره.
والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك بقول الله - تعالى -: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] ، فاحتمل قوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] أي: تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه.
قال الشافعيُّ: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة
قال القشيريُّ: والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إنما النسخ: التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} [البقرة: 196] ، فالهدي لا بد منه، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي، وعلىهذا فقال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسنِ.
قال الشافعيُّ: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي هذه، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً، فقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، معناه: اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
وقال قوم: إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه، وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} محمول على حقيقة النفل، ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} [الإسراء: 78] الآية، وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] الآية، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} ، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللأمة كما أن فرضية الصلاة، وإن خوطب بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: {يا أيها المزمل قُمِ الليل} [المزمل: 1 - 2] فهي عامة له ولغيره.
وقد قيل: إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ، ونسخت بالمدينة لقوله(19/485)
تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} ، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] .
وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة نسخ قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} ، وجوب قيام الليل
فصل في علة تخفيف قيام الليل
قوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليه قيام الليل، ويشق عليه أن تفوته الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
وقال ابن الخطيب: لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء، يعني المريض، والمسافر، والمجاهد، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
و «أن» في قوله: «أنْ سيَكونُ» مخففة من الثقيلة، أي: علم أنه سيكون.
قوله: «وآخَرُونَ» عطف على «مَرْضَى» ، أي: علم أن سيوجد منكم قوم مرضى، وقوم آخرون مسافرون، ف «يَضْربُونَ» نعت ل «آخَرُونَ» وكذلك «يَبْتَغُونَ» ، ويجوز أن يكون «يبتغون» حالاً من فاعل «يَضْرِبُونَ» ، و «آخَرُونَ» عطف على «آخَرُونَ» و «يُقَاتلُونَ» صفته.
فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه، وعياله، والإحسان، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «» مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ «ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} » .(19/486)
وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} .
وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي، أبتغي من فضل الله، ضارباً في الأرض.
وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، أي: صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل، ما تيسَّر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم.
وقال عبد الله بن عمرو: «قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَا عَبْدَ اللَّه، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ «
، ولو كان فرضاً ما أقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم.
فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته
إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} ، {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة.
فقال مالك والشافعيُّ: فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة.
قال الماورديُّ: فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد، وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه، ودلائل التوحيد أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه. وفي قدر الواجب أقوال:
الأول: قال الضحاكُ: جميع القرآن، لأن الله تعالى يسره على عباده.
الثاني: قال جويبر: ثلث القرآن.(19/487)
الثالث: قال السديُّ: مائتا آية.
الرابع: قال ابن عباسٍ: مائة آية.
الخامس: قال أبو خالد الكناني: ثلاث آياتٍ كأقصر سورة.
قوله {وَأَقِيمُواْ الصلاة} ، يعني الخمس المفروضة، وهي الخمس لوقتها، {وَآتُواْ الزكاة} الواجبة في أموالكم.
قاله عكرمة وقتادة، وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل: صدقة التطوع.
وقيل: كل فعل خير.
وقال ابن عباسٍ: طاعة الله الإخلاص.
قوله: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} . القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن، النفقة على الأهل، وقيل: صلةُ الرَّحمِ، وقرى الضيف، وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
قوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} تقدم بيانه في سورة «البقرة» .
قوله: {هُوَ خَيْراً} ، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً، و «هُوَ» إما تأكيد للمفعول الأول، أو فصل.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون بدلاً، وهو غلط، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال: إياه.
وقرأ أبو السمال وابن السميقع: «خير» على أن يكون «هو» مبتدأ، و «خير» خبره، والجملة مفعول ثان ل «تَجِدُوه» .
قال أبو زيد: هي لغة تميم، يرفعون ما بعد الفصل.
وأنشد سيبويه: [الطويل]
4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها ... وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
والقَوَافِي مرفوعةٌ، ويروى: «أقدرا» بالنصب.(19/488)
[وقال الزمخشريُّ: وهو فصل] ، وجاز، وإن لم يقع بين معرفتين، لأن «أفعل من» أشبه في امتناعه من حرف التعريف، المعرفة.
قال شهاب الدين: «هذا هو المشهورُ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات» .
وقال القرطبي: «ونصب» خيراً، وأعظم «على المفعول الثاني: ل» تَجِدُوهُ «و» هُوَ «فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، لا محلَّ له من الإعراب، و» أجْراً «تمييز» .
فصل في معنى الآية
المعنى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً} من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. قاله ابن عباس.
وقال الزجاجُ: {خير لكم من متاع الدنيا} .
قوله: {وَأَعْظَمَ أَجْراً} ، قال أبو هريرة: يعني الجنَّة، ويحتمل أن يكون «أعظم أجْراً» لإعطائه بالحسنة عشراً {واستغفروا الله} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير وقيل: غفور لمن لم يصرّ على الذنوب.
وقال مقاتل: غفور لجميع الذنوب لأن قوله «غَفُورٌ» يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل.
وأيضاً: غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ» ، والله أعلم.(19/489)
سورة المدثر(19/490)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
مكية، وهي ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها المدثر} ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.
وقرأ العامة: بتشديد الدال وكسر الثاء، اسم فاعل من «تدثَّر» وأصله: المتدثر فأدغم ك «المزمّل» . وفي حرف أبي: «المتدثر» على الأصل المشار إليه.
وقرأ عكرمة: بتخفيف الدال، اسم فاعل من «دثّر» - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي: المدثر نفسه، كما تقدم.
وعنه أيضاً: فتح الثاء.
ومعنى «تَدثَّر» لبس الدِّثَار، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار، «والشِّعَار» : ما يلي الحسد، وفي الحديث: «الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ» .
و «سيف دَاثِر» : بعيد العَهْد الصِّقال.
ومنه قيل للمنزل الدارس: داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال، أي: حسن القيام به.
قوله: «قُمْ» إما أن يكون من القيام المعهود، فيكون المعنى: قم من مضجعك، وإما من «قام» بمعنى الأخذ في القيام، كقوله: [الطويل]
4944 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ..... ... ... ... ... ... ... .(19/490)
وقوله: [الوافر]
4945 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ..... ... ... ... ... ... ... ...
في أحد القولين، فيكون المعنى: قيام عزم وتصميم، والقول الآخر: أن «قام» مزيدة، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات «عَسَى» فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً.
قوله: {فَأَنذِرْ} ، مفعوله محذوف، أي: أنذر قومك عذاب الله، والأحسن أن لا يقدر له، أي: أوقع الإنذار.
فصل في معنى الآية
المعنى: يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.
وقيل: ليس المراد التدثر بالثوب، فإن قلنا التدثر، ففيه وجوه:
أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن.
روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ لرَسُولٌ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي، ويسَارِي، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً» ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: {يا أيها المدثر} .
وثانيها: أن أبا جهل، وأبا لهب، وأبا سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي، اجتمعوا وقالوا: إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون. وقائل: كاهن. وقائل: ساحر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، فقالوا: كاهن: فقال:] الكاهن يصدق ويكذب، وما كذب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(19/491)
قط، فقال آخر: إنه مجنون، فقال الوليد: الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فشاع ذلك في الناس، فصاحوا يقولون: محمد ساحر والناس مجتمعون، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} .
وثالثها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نائماً، متدثراً بثيابه، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقال: {يا أيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ} كأنه قال: اترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له.
وإن قلنا: ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه:
الأول: قال عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة، والرسالة انْقُلْها، من قولهم: ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم.
قال ابن العربي: «وهذا مجاز بعيد، لأنه لم يكن تنبأ بعد، وإن قلنا: إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا: إنها ثاني ما نزل» .
الثاني: أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس، فكأنه قال: يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحقِّ.
الثالث: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة: «قُمْ فأنْذِرْ» عذاب ربّك.
فصل في لطف الخطاب في الآية
قوله تعالى: {يا أيها المدثر} ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل: يا محمدُ، كما تقدم في المزمل.
فصل في معنى «فأنذر»
ومعنى قوله تعالى: {فَأَنذِرْ} ، أي: خوِّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.(19/492)
وقيل: الإنذار هنا: إعلامهم بنوته - عليه السلام - لأنها مقدمة الرسالة.
وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود.
وقال الفراء: قم فصلِّ ومر بالصلاة.
قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، قدم المفعول، وكذا ما بعد، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك، أو للاهتمام به.
قال الزمخشري: «واختص ربَّك بالتكبير» .
ثم قال: «ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: ومهما تكن فلا تدع تكبيره» وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] .
قال أبو حيان: «وهو قريب مما قدره النحاة في قولك:» زيداً فاضرب «، قالوا: تقديره:» تنبَّهْ فاضرب زيداً «فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة» .
قال أبو الفتح الموصلي: يقال: «زيداً اضرب، وعمراً اشكر» وعنده أن الفاء زائدة.
وقال الزجاج: ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبِّر ربَّك، وكذلك ما بعده.
فصل في معنى الآية
معنى قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة، أو ولد، وفي الحديث: أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} . أي: صفه بأنه أكبر.
قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس، والتنزيه بخلع الأنداد، والأصنام دونه، ولا تتخذ ولياً غيره، ولا تعبد سواه، وروي «أن أبا سفيان قال يوم أحد:» أعْلُ هُبَل «، فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ «، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً، وصلاة بقوله» اللَّهُ أكبرُ «وحمل عليه لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله:» تَحْريمُهَا التَّكبيرُ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ «، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه، ومن موارده(19/493)
أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك، وإعلاناً باسمه بالنسك، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك.
والمنقول عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التكبير في الصلاة هو لفظ» اللَّهُ أكبَرُ «.
وقال المفسرون: لما نزل قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: اللَّهُ أكبر، فكبرت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري.
وقال الكلبيُّ: فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان.
قال مقاتل: هو أن يقال: الله أكبر.
وقيل: المرادُ منه التكبير في الصلاة.
فإن قيل: هذه السورة نزلت في أول البعث، ولم تكن الصلاة واجبة.
فالجواب: لا يبعد أنه كانت له - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب: وعندي أنه لما قيل له: {قُمْ فَأَنذِرْ} قيل بعد ذلك {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عن اللغو والرفث.
قوله: {وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
قيل: المراد الثياب الملبوسة، فعلى الأول يكون المعنى: وعملك فأصلح، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ، وروى منصور عن أبي رزين، قال: يقول: وعملك فأصلح.
وإذا كان الرجل خبيث العمل، قالوا: إن فلاناً خبيث الثيابِ، وإذ كان الرجل حسن العمل، قالوا: إنَّ فلاناً طاهر الثياب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا» ، يعني: عمله الصالح والطالح، ذكره الماوردي.
ومن قال المراد به القلب، قلبك فطهر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
4946 - ... ... ... ... ... ... . ... فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ
أي: قلبي من قلبك.(19/494)
قال الماورديُّ: ولهم في تأويل الآية وجهان:
أحدهما: المعنى: وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: وقلبك فطهر من القذر، أي: لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي: [الطويل]
4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ
ومن قال: المراد به النفس، قال: معناه ونفسك فطهر، أي: من الذنوب، والعرب تكني عن النفس بالثياب. قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ ومنه قول عنترة: [الكامل]
4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ ... لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقول امرىء القيس المتقدم. ومن قال: بأنه الجسم قال: المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة، ومنه قول ليلى تصف إبلاً: [الطويل]
4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى ... لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا
أي: ركبوها فرموها بأنفسهم.
ومن قال: المراد به الأهل، قال: معناه: وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] .
قال الماورديُّ: ولهم في تأويل الآية وجهان:
الأول: معناه: ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف.
الثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر.(19/495)
قال ابن الخطيب: «وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها» .
ومن قال المراد به الخلق قال معناه: وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه؛ قال الشاعر: [الطويل]
4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ ... إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان:
الأول: أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان، فيقال: المجد في ثوبه والعفة في إزاره.
الثاني: أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره، ومن قال: المراد به الدين فمعناه: ودينك فطهر.
جاء في الصحيح: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ، قالوا: يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ؟ قال: الدِّينُ» .
وروي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: معناه لا تلبس ثيابك على عذرة؛ قال ابن أبي كبشة: [الطويل]
4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ ... وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ(19/496)
يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم: تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة، أو كليهما. قاله ابن العربي.
وقال سفيانُ بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم، قاله عكرمة.
ومن قال: إن المراد به الثياب الملبوسة، فلهم أربعة أوجهٍ:
الأول: وثيابك فأنق.
الثاني: وثيابك فشمِّر، أي قصِّر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة، قاله الزجاج وطاووس.
الثالث: وثيابك فطهر من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء.
الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر.
قال ابن العربي: وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها، من أن المراد بها الحقيقة، والمجاز، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة، فهي تتناول معنيين:
أحدهما: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لغلام من الأنصار، وقد رأى ذيله مسترخياً: ارفع إزارك، فإنه أتْقَى، وأبْقَى، وأنقى.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ» فقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغاية في لباس الإزار الكعب، وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أيذالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء «، وفي رواية:» منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ «قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ(19/497)
عَنْه -: يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء «» .
والمعنى الثاني: غسلها بالماء من النجاسة، وهو الظاهر.
قال المهدوي: واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب، وليس ذلك يفرض عند مالك وأهل المدينة، وكذلك طهارة البدن، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل.
قال ابن الخطيب: إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته، فنقول: المراد منه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ:
الأول: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
وثانيها: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات.
وثالثها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَلَى شاةٍ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه، فقال: {يا أيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ} ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} على أن لا ينتقم منهم {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} عن تلك النجاسات والقاذورات.
قوله: {والرجز} . قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن: بضم الراء، والباقون: بكسرها.
فقيل: لغتان بمعنى، وعن أبي عبيدة: الضم أقيس اللغتين، وأكثرهما.
وقال مجاهدٌ: هو بالضم اسم صنم، ويعزى للحسن البصري أيضاً، وبالكسر ويذكر: اسم للعذاب، وعلى تقدير كونه العذاب، فلا بد من حذف مضاف، أي: اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه، أقام السبب مقام المسبب، وهو مجاز شائع بليغ.
وقال السديُّ: «الرَّجْز» ، بنصب الراء: الوعيد.
وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالرجز: الأوثان، لقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 10] ، وقال ابن عباس أيضاً: والمأثم فاهجر، أي(19/498)
فاترك، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي، قال: الرجز: الإثم.
وقال قتادة: الرجز إساف، ونائلة.
وأصل «الرُّجْز» : العذابُ، قال تعالى: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134] .
وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} [الأعراف: 163] .
قوله: {وَلاَ تَمْنُن} ، العامة: على فك الإدغام والحسن وأبو السمال والأشهب العقيلي: بالإدغام.
وقد تقدم أن المجزوم، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان، وتقدم تحقيقه في «المائدة» ، عند قوله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] .
والمشهور أنه من المنّ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه، وقيل: معناه «ولا تضعف» من قولهم: حبل متين، أي: ضعيف.
قوله: {تَسْتَكْثِرُ} ، العامة على رفعه، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه في موضع الحال، أي: لا تمنن مستكثراً ما أعطيت.
وقيل: معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت.
الثاني: على حذف «أن» يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل، كقوله: [الطويل]
4952 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى..... ... ... ... ... ... ... ...
في إحدى الروايتين. قاله الزمخشريُّ.
ولم يبين ما محل «أن» وما في خبرها. وفيه وجهان:
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب، أو جر على الخلاف فيها؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة، تقديره: ولا تمنن لأن تستكثر.
والثاني: أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها، أي: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قاله مكي.
وقد تقدم أن «تَمْنُنْ» بمعنى تضعف، وهو قول مجاهد.
إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ -: «وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى» .(19/499)
والكوفيون يجيزون ذلك، وأيضاً: فقد قرأ الحسن والأعمش: «تَسْتكثِرَ» أيضاً على إضمار «أن» ، كقولهم: «مُرْهُ يحفرها» .
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله: «ولا تمنن أن تستكثر» .
وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بدلاً من الفعل قبله. كقوله: {يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 68 - 69] ف «يُضَاعَفُ» بدلاً من «يَلْقَ» ؛ وكقوله: [الطويل]
4953 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
الثاني: أن يشبه «ثرو» بعضد فيسكن تخفيفاً. قاله الزمخشري.
يعني: أنه يأخذ من مجموع «تستكثر» [ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد، ألا ترى أنه قال: أن يشبه ثرو، فأخذ بعض «تستكثر» ] وهو الثاء، والراء وحرف العطف من قوله: {وَلِرَبِّكَ فاصبر} ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس: [السريع]
4954 - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ ... إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ
بتسكين «أشْرَبْ» - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك «عضد» ثم سكن.
وقد تقدم في سورة «يوسف» في قراءة قُنبل: «من يَتّقي» ، بثبوت الياء، أن «مَنْ» موصولة، فاعترض بجزم «يَصْبِر» ؟ .
فأجيب بأنه شبه ب «رف» ، أخذوا الباء والراء من «يَصْبِر» والفاء من «فإنَّه» ، وهذه نظير تيك سواء.
الوجه الثالث: أن يعتبر حال الوقف، ويجرى الوصل مجراه، قاله الزمخشري، أيضاً.
يعني أنه مرفوع، وإنما سكن تخفيفاً، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ.
قال أبو حيان: «وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما، وهو البدل معنى وصناعة» .(19/500)
فصل في تعلق الآية بما قبلها
في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء: إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال - جلَّ ذكره -: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ، أي: لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه.
قال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بحسناتك، فتستكثرها.
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ: ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.
وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فاصبر} .
وقيل: لا تمنن عليهم بنبوتك، أي: لتستكثر، أي: لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك.
وقال مجاهدٌ: لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك: حبل منين، إذا كان ضعيفاً، ودليله قراءة ابن مسعود: ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً، والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك.
وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منه من الله عليك، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته.
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك، لا تقل: دعوت فلم يستجب لي.
وقيل: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو يتناول الأمة؟ .
فالجوابُ: أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة.(19/501)
وقيل: المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك.
فإن قيل: هل هذا نهي تحريم أو تنزيه؟
فالجواب: أن ظاهر النهي التحريم.
فصل في المقصود من الآية
قال القفال: يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً، أو مساوياً، ويكون معنى قوله تعالى {تَسْتَكْثِرُ} ، أي: طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه العبارةُ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثاراً، حملاً للشيء على أغلب أحواله، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد للحاجة إلى من يربي أغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، ومن ذهب إلى هذا القول قال: السبب فيه أن يصير عطاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى.
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أظهر الأقوال قول ابن عباس» لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال «يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، ويقال للعطية: المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان يجمع للدنيا، ولهذا قال:
«مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ» وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث «.
قوله: {وَلِرَبِّكَ فاصبر} التقديم على ما تقدم. وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم.
{وَلِرَبِّكَ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون لام العلة، أي: لوجه ربِّك فاصبر، أي: على أذى الكفار وعلى عبادة ربك، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه، والمصبور عنه للعلم بهما.
والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام.
والثاني: ان يضمن» صبر «معنى:» أذعن «، أي: أذعن لربِّك، وسلم له أمرك صابراً، لقوله تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48] .(19/502)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} .(19/502)
قال الزمخشري: «الفاء» في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} لتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في «فإذا» متعلقة ب «أنذر» ، أي: فأنذرهم إذا نقر في الناقور. قاله الحوفيُّ.
وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى.
الثاني: أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} .
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب «إذا» ، وكيف صح أن يقع «يومئذ» ظرفاً ل «يوم عسير» ؟ .
قلت: انتصب «إذا بما دل عليه الجزاء؛ لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع» يومئذ «ظرفاً ل {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور، انتهى.
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس» عسير «؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين، ولذلك رد على الزمخشري قوله: أن» في أنفسهم «متعلق ب» بَلِيغاً «في سورة» النساء «في قوله تعالى {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 63] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره.
الثالث: أن ينتصب بما دل عليه» فذلك «؛ لأنه إشارة إلى النقر، قاله أبو البقاء، ثم قال:» و «يومئذ» بدل من «إذا» ، و «ذلك» مبتدأ، والخبر {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، أي: نقر يوم «.
الرابع: أن يكون» إذا «مبتدأ، و» فذلك «خبره، والفاء مزيدة فيه، وهو رأي الأخفش.
وأما» يَومَئذٍ «ففيه أوجه:
أحدها: أن يكون بدلاً من» إذا «، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث.
الثاني: أن يكون ظرفاً ل {يَوْمٌ عَسِيرٌ} كما تقدم في الوجه الثاني.
الثالث: أن يكون ظرفاً ل» ذلك «، لأنه أشار به إلى النقر.
الرابع: أنه بدل من» فذلك «ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن.
الخامس: أن يكون» فذلك «مبتدأ، و {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبره، والجملة خبر» فَذلِكَ «.
قوله:» نُقِرَ «، أي: صوت، يقال: نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك، ونقرتُ الرجل: إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه، وتلك الدعوة يقال لها: النقرى، وهي ضد الدعوة الجفلى؛ قال الشاعر: [الرمل](19/503)
4955 - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وقال امرؤ القيس: [الرجز]
4956 - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ ... يريد: النقر، أي الصوت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
4957 - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ ... ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ
والناقور: «فاعول» منه كالجاسوس من التجسس، وهو الشيء المصوّت فيه.
قال مجاهد وغيره: وهو كهيئة البوق، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك.
والنقير: فرع الشيء الصلب، والمنقار: الحديدة التي ينقر بها، ونقرت عينه: بحثت على أخباره استعارة من ذلك، ونقرته: أعبته.
ومنه قول امرأة لزوجها: مر بي على بني نظر، ولا تمر بي على بنات نقر، أرادت: ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها، وبينات نقر: النساء، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها.
قوله: {عَلَى الكافرين} . فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «عسير» .
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل «عَسِيرٌ» .
الثالث: أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «عَسِيرٌ» .
الرابع: أن يتعلق ب «يسير» ، أي: غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء.
إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وهو ممنوع، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف «غير» بمعنى النفي، كقوله: [البسيط]
4958 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ ... عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ(19/504)
وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة.
الخامس: أن يتعلق بما دل عليه «غَيرُ يَسيرٍ» ، أي: لا يسهل على الكافرين.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: فما فائدة قوله: «غير يسير» ، و «عسير» مغن عنه؟ .
قلت: لما قال - سبحانه وتعالى -: «على الكافرين» فقصر العسر عليهم، قال: «غَيرُ يَسِيرٍ» ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين، وزيادة غيظهم، وتيسيراً للمؤمنين، وتسليتهم، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل: المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية.
وقيل: الأولى، قال الحليمي في كتاب «المنهاج» : إنه تعالى سمى الصور اسمين، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وهذا مردود، لأن الناقور اسم لما ينقر فيه لا لما ينقر فيه، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين: ينقر في إحداهما، وينفخ في الأخرى، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر، والنفخ، لتكون الصيحة أشد، وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير، وهو نظير صوت الرعد؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكال، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء، ولذلك يقول: {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27] ، أي: يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى.
وقوله: «فَذلِكَ» ، أي: فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين «غير يَسيرٍ» أي: غير سهل، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل، إلا إلى عقد أشد منها، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم، وتسودُّ وجوههم، ويحشرون زرقاً، وتتكلم(19/505)
جوارحهم، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب، ويحشرون بيض الوجوه، ثِقال الموازين.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين، والكافرين، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ، وأن الولدان يشيبون، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول: لا يحسن الوقف على قوله {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، فإن المعنى: إنه على الكافرين عسير وغير يسير.
وعلى الثاني: يحسن الوقف، لأنه في المعنى: أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه، وهي أنه عليه عسير.
فصل في دليل الخطاب
قال ابن الخطيب: استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب، قالوا: لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين.(19/506)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، الواو في قوله: {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، كقوله: «والمُكَذبين» في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها.
وقوله تعالى: {وَحِيداً} فيه أوجه:(19/506)
أحدها: أنه حال من الياء في «ذَرْنِي» ، أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه.
الثاني: أنه حال من التاء في «خَلقْتُ» ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه.
الثالث: أنه حال من «مَن» .
الرابع: أنه حال من عائده المحذوف، أي خلقته وحيداً، ف «وَحِيْداً» على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي: خلقته وحده لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته؛ قاله مجاهد.
الخامس: أن ينتصب على الذَّمِّ، لأنه يقال: إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة، ومعنى «وَحِيْداً» ذليلاً.
قيل: كان يزعم أنه وحيد في فضله، وماله، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم.
فصل في معنى «ذرني»
معنى «ذرني» أي: دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد، «ومَنْ خَلقْتُ» هذه واو المعية، أي: دعني والذي خلقته وحيداً.
قال المفسرون: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة، وأذى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان يسمى الوحيد في قومه.
قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، فقال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} بزعمه «وَحِيْداً» لأن الله تعالى صدقه، بأنه وحيد.
قال ابن الخطيب: ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له، ذكره الواحدي، والزمخشري، وهو ضعيف من وجوه:
الأول: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة، بل هو قائم مقام الإرشاد.(19/507)
الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه، واعتقاده، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
الثالث: أنه وحيد في كفره، وعناده وخبثه؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف.
الرابع: أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه.
قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في «زَنِيْمٌ» .
قوله تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} ، أي: خولته، وأعطيته مالاً ممدوداً.
قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً -: ألف دينار.
وقال قتادة: ستة آلاف دينار.
وقال سفيان الثوري: أربعة آلاف دينار.
وقال الثوري - أيضاً -: ألف ألف دينار.
وقال ابن الخطيب: المال الممدود: هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً، ولذلك فسره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - غلة شهر بشهر وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزرع والضرع، وأنواع التجارات.
قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، كما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ، أي: لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير، والتقديرات تحكم.
قوله: {وَبَنِينَ شُهُوداً} ، أي: حضوراً لا يغيبون، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم.
وقيل: معنى كونهم شهوداً، أي: يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ.(19/508)
وقيل: «شهوداً» أي: صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ، والقيام بما كان يباشره.
قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة.
وقال السديُّ والضحاكُ: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك: سبعة ولدُوا بمكة، وخمسة بالطائف.
وقال مقاتل: كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ: خالد، وهشام، والوليد بن الوليد، قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص، وعبد القيس، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة: خالد، وعمارة، وهشام.
قوله: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} ، أي: بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه.
والتميهدُ عند العرب: التوطئة والتهيئة.
ومنه: مهدُ الصبيّ.
وقال ابن عباس: {ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً} أي: وسعَّتُ له ما بين «اليمن» إلى «الشام» ، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً: أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ} . لفظة «ثُمَّ» - هاهنا - معناها: التعجب كقولك لصاحبك: أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره: قوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، فمعنى «ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ، أي: ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ، وقد كفر بِي! قاله الكلبي ومقاتل، ثم قال:» كَلاَّ «ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ.
قال الحسنُ وغيره: أي: ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة، وكان الوليد يقولُ: إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له:» كلاَّ «لستُ أزيدهُ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله:» كلاَّ «حتى افتقر ومات فقيراً.
وقيل: أي: ثم يطمع أن أنصره على كفره،» كَلا «قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلاً بالكلام الأول.(19/509)
وقيل: «كَلاَّ» بمعنى «حقاً» ، ويبتدىء بقوله «إنَّهُ» يعني الوليد {كان لآيَاتِنَا عَنِيداً} ، أي: معانداً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به.
قال الزمخشريُّ: {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا} استئناف جواب لسائل سأل: لم لا يزداد مالاً، وما باله ردع عن طبعه؟ .
فأجيب بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} ، انتهى.
فيكون كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الهرة: «إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ» .
والعنيد: المعاند.
يقال: عاند فهو عنيد وعانِد، والمعاند: البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، والجمع: عند مثل: «راكع وركع» ، قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الحازميِّ: [الرجز]
4959 - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا ... إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا
وقال أبو صالح: «عنيداً» معناه: مباعداً؛ قال الشاعر: [الطويل]
4960 - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا ... نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ
وقال قتادة: جاحداً.
وقال مقاتل: معرضاً.
وقيل: إنه المجاهر بعداوته.
وعن مجاهد: أنه المجانب للحق.
قال الجوهري: ورجل عنود: إذا كان لا يخالط الناس، والعنيد من التجبر، وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف، والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير.
فصل في بيان فيما كانت المعاندة
في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة:(19/510)
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوة وصحة البعث.
ومنها: أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر.
ومنها: أن قوله «كان» يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان.
ومنها: أن هذه المعاندة، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى.
قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ، أي: سأكلفه، وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول: سألجئه، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء.
والصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً. رواه الترمذي.
وفي رواية: صخرة في جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، فإذا رفعوها عادت.
وقيل: هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق، كقوله: عقبة صعود وكؤود، أي: شاقة المصعدِ.
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده، وهو قوله تعالى:
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ، ويجوز أن يكون بدلاً من {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} .
يقال: فكر في الأمر، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه، وهو المراد من قوله «وقَدَّرَ» .
والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: أن الوليد فكر في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن لما نزل:
{حمتَنزِيلُ
الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} [غافر: 1 - 3] ، سمعه الوليد يقرأها، فقال: والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو، وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش: صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً، فقال له: ما لي أراك حزيناً، فقال: وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ، وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر،(19/511)
وقال: أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه، وأنتم تعلمون قدر مالي، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ .
قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه كاهنٌ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً، فهل رأيتموهُ كذلك؟ .
قالوا: لا والله. وقال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله.
قال: وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جريتمْ عليه كذباً قط؟ .
قالوا: لا والله. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه، فقالت قريش للوليدِ: فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ} أي في أمر محمدٍ والقرآن «وقدر» في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما.
قوله: {فَقُتِلَ} ، أي: لعنَ.
وقيل: قُهِرَ وغلبَ.
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء.
قال ابن الخطيب: وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام.
ومثله قولهم: قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ، وأخزاه الله ما أفجره، ومعناهُ: أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك، وإذا عرف ذلك، فنقول: هنا يحتملُ وجهين:
الأول: أنه تعجب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ.
الثاني: الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
قوله: {كَيْفَ قَدَّرَ} ، أي: كيف فعل هذا، كقوله تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الإسراء: 48] ثم قيل: بضرب آخر من العقوبة. «كيف قدَّر» على أيّ حال قدَّر. «ثم نظر» بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ.
قال ابن الخطيب: والمعنى أنه أولاً فكّر.
وثانياً: قدَّر. وثالثاً: نظر في ذلك المقدرِ، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث.(19/512)
قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ} ، يقال: عبس يعبس عبساً، وعبوساً: أي: قطب وجهه.
وقال الليث: عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك، وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل بسل. واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه، وهذا يدل على عناده، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس، والعبس أيضاً: ما يبس في أذناب الإبل من البعر، والبول؛ قال أبو النجم: [الرجز]
4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ
فصل في معنى الآية
معنى الآية: قطب وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.
وقيل: عبس على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاه، والعبس: مصدر «عبس» مخففاً «، كما تقدم.
قوله:» وَبَسَرَ «، يقال: بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً» إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، يقال: وجه باسر، أي منقبض مسود كالح متغير اللون، قاله قتادة والسدي؛ ومنه قول بشير بن الحارث: [المتقارب]
4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ ... بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ
وأهل اليمن يقولون: بسر المركب بسراً، أي: وقف لا يتقدم، ولا يتأخر، وقد أبسرنا: أي صرنا إلى البسور.
وقال الراغب: البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو: بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر: بسر، وقوله تعالى: {عَبَسَ وَبَسَرَ} ، أي: أظهر العبوس قبل أوانه، وقبل وقته.
قال: فإن قيل: فقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت، وقد قلت: إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته.
قيل: أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد، يجري مجرى التكلف، ومجرى ما يفعل قبل وقته، ويدل على ذلك {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] .(19/513)
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة، ولكل منها مناسبة، أما ما عطف ب «ثُمَّ» فلأن بين الأفعال مهلة، وثانياً: لأن بين النظر، والعبوس، وبين العبوس، والإدبار تراخياً.
قال الزمخشريُّ: و «ثمّ نظر» عطف على «فكَّر» و «قدَّر» ، والدعاء اعتراض بينهما، يعني بالدعاء قوله: «فَقُتِل» ، ثم قال: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» الداخلة على تكرير الدعاء؟ .
قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى؛ ونحوه قوله: [الطويل]
4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي..... ... ... ... ... ... ... .
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ .
قلت: للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل، والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ، وتباعد، فإن قلت: فلم قال: «فَقالَ» - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب «ثُمَّ» ؟ .
قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث، فإن قلت: فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟ .
قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ} ، أي: ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله.
{واستكبر} حين دعي إلى الإيمان، أي: تعظم.
{إن هذا} أي: ما هذا الذي أتى به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ، أي: تأثره عن غيره.
والسحر: الخديعة.
وقيل: السحر إظهار الباطل في صورة الحق.
والأثر: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور، أي: ينقله خلف عن سلف؛ قال الأعشى: [السريع]
4964 - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا ... بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ
قال ابن الخطيب: فيه وجهان:(19/514)
الأول: أنه من قولهم: أثرت الحديث آثره، أَثراً، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي: بعدما ماتوا، هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عما كان.
والثاني: يؤثر على جميع السحر، وهذا يكون من الإيثارِ.
وقال أبو سعيد الضرير: يؤثر، أي: يُورَثُ.
قوله تعالى: {إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر} ، أي: هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر.
قال ابن الخطيب: ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
قال السديُّ: يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
وقيل: إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم.
قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً، لما روي في الحديث المتقدم: «أنه لما سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» حم «ثم خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً، ليس من كلام الجنِّ، ولا من كلام الإنس» الحديث، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا -: {إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر} ، إنَّما ذكره عناداً، أو تمرداً لا اعتقاداً.
قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} هذا بدل من قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} . قاله الزمخشري.
فإن كان المراد بالصعود: المشقة، فالبدل واضح، وإن كان المراد: صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.
فصل في معنى الآية
المعنى: سأدخله سقر كي يصلى حرها، وإنما سميت «سَقَرَ» من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس: «سقر» اسم للطبقة السادسة من «جهنم» .
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} . هذا مبالغة في وصفها، أي: وما أعلمك أي شيء هي؟ . وهي(19/515)
كلمة تعظيم، وتهويل، ثم فسر حالها، فقال - جل ذكره -: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} أي: لا تترك لهم لحماً، ولا عظماً، ولا دماً إلا أحرقته.
قوله: {لاَ تُبْقِي} ، فيها وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، قاله أبو البقاء.
يعني أن الاستفهام في قوله: «مَا سَقَرُ» للتعظيم، والمعنى: استعظموا سقر في هذه الحال.
ومفعول «تُبْقِي» ، وتَذرُ «محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها، ولا تذره، بل تهلكه.
وقيل: تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه.
والثاني: أنها مستأنفة.
قال ابن الخطيب: واختلفوا في قوله: {لا تبقي ولا تذر} .
فقيل: هما لفظان مترادفان بمعنى واحد، كرر للتأكيد والمبالغة، كقولك صدَّ عني وأعرض عني، بل بينهما فرق، وفيه وجوه:
الأول: لا تبقي من اللحم، والعظم، والدم شيئاً، ثم يعادون خالقاً جديداً،» ولا تَذرُ «أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبداً، رواه عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وقال مجاهد: لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا. وقال السديّ: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً. وقيل: لا تبقي من المعذبين، ولا تذر من فوقها شيئاً، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم.
قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} ، قرأ العامة: بالرفع، خبر مبتدأ مضمر، أي هي لواحة، وهذه مقوية للاستئناف في» لا تُبقِي «.
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر: بنصبهما على الحال، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها حال من» سَقرُ «، والعامل معنى التعظيم كما تقدم.(19/516)
والثاني: أنها حال من» لا تُبْقِي «.
والثالث: من» لا تَذرُ «.
وجعل الزمخشري: نصبها على الاختصاص للتهويل.
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة.
قال:» لأن النار التي لا تبقي ولا تذر، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار «.
و» لوَّاحةٌ «هنا مبالغة، وفيها معنيان:
أحدهما: من لاح يلوح، أي: ظهر، أي: أنها تظهر للبشر، [وهم الناس، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان، فقال:» لوَّاحةٌ «أي: تلوح للبشر] من مسيرة خمسمائة عام، وقال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، ونظيره:
{وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 36] .
والثاني: وإليه ذهب جمهور الناس، أنها من لوّحه أي: غيَّرهُ، وسوَّدهُ.
قال الشاعر: [الرجز]
4965 - تقُولُ: ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ ... يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ
وقال رؤبة بن العجَّاج: [الرجز]
4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ ... تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ
وقال آخر: [الطويل]
4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً ... تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ
ويقال: لاحَهُ يلُوحُه: إذا غير حليته.
قال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل، قال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] .
وطعن القائلون بالأول في هذا القول، فقالوا: لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ، مع قوله: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} .(19/517)
وقيل: اللوح شدة العطش، يقال: لاحه العطش ولوحه: أي غيره، قال الأخفش: والمعنى أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها؛ وأنشد: [الطويل]
4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً ... سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا
يعني باللوح: شدة العطش. والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة: أتت بالرهام.
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض، والبشر: إما جمع بشرة، أي: مغيرة للجلود. قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر: أبشار، وإما المراد به الإنس من أهل النار، وهو قول الجمهور.
واللام في «البشر» : مقوية، كهي في {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] .
وقراءة النصب في «لوَّاحَةً» مقوية، لكون «لا تُبْقِي» في محل الحال.
قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ، هذه الجملة فيها الوجهان:
أعني: الحالية، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة، وتوجيهات مشكلة.
فقرأ أبو جعفر وطلحة: «تِسعَة عْشرَ» - بسكون العين من «عشر» ؛ تخفيفاً؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد، وهذه كقراءة {أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً} [يوسف: 4] وقد تقدمت. وقرأ أنس وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «تِسعَةُ عشَر» بضم التاء، «عَشَر» بالفتح.
وهذه حركة بناء، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات.
وعن المهدوي: «من قرأ:» تِسْعَةُ عَشَرْ «فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف، فترك التركيب، ورفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء، وأسكن» انتهى.
فجعل الحركة للإعراب، ويعني بقوله: أسكن راء «عَشَرْ» فإنه في هذه القراءة كذلك.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً: «تِسْعَةُ أعْشُرٍ» بضم «تِسْعَة» و «أعْشُر» بهمزة مفتوحة، ثم عين ساكنة، ثم شين مضمومة، وفيها وجهان:(19/518)
قال أبو الفضل: يجوز أن يكون جمع «العشيرة» على «أعْشُر» ، ثم أجراه مجرى «تِسْعَة عشر» .
وقال الزمخشريُّ: جمع «عَشِير» مثل: يَمِين وأيْمُن.
وعن أنس - أيضاً -: «تِسْعَةُ وعْشُرْ» بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة.
وتخريجها كتخريج ما قبلها، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب.
ونقل المهدوي: أنه قرىء: «تِسْعَةٌ وعَشْرْ» ، قال: «فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف» عَشْر «على» تِسْعَة «، وحذف التنوين، لكثرة الاستعمال، وسكون الراء من» عشر «على نية الوقف» .
وقرأ سليمان بن قتة: بضم التاء وهمزة مفتوحة، وسكون العين، وضم الشين وجر الراء من «أعْشُرٍ» .
والضمة على هذا ضمة إعراب، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد، ويعربونها كالمتضايفين؛ كقوله: [الرجز]
4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ ... بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
قال أبوالفضل: ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ: «أعشر» مبنياً، أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذي هم على «سَقَر» تسعون ملكاً.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها.
قيل: هم خزنة النار، مالك وثمانية عشر ملكاً.
وقيل: التسعة عشر نقيباً، وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم.
قال القرطبي: وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم، قال كنا عند أبي العوام.(19/519)
فقرأ هذه الآية، فقال: ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكاً، قال: وأنى تعلم ذلك؟
فقلت: لقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [المدثر: 31]
قال: صدقت، هم تسعة عشر ملكاً.
قال ابنُ جريج: نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خزنة جهنم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْينُهُمْ كالبَرْقِ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ» ، الحديث.
قال ابن الأثير: «الصَّياصِي: قرون البقر» .
وروى الترمذي عن عبد الله قال: «قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
قالوا: لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: وبماذا غلبوا؟ .
قال: سألهم يهود، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ .
قال: فماذا قالوا؟ قال: فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم، فقالوا: أرنا الله جهرة، عليّ بأعداء الله، إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي الدرمك، فلما جاءوا، قالوا: يا أبا القاسم، كم عدد خزنة جهنم؟ .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَكذَا، وهَكذَا «، في مرة عشرة، وفي مرة تسعة، قالوا: نعم فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا تُربَةُ الجنَّةِ «؟ فسكتوا، ثم قالوا: أخبرنا يا أبا القاسم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ «.
قال ابن الأثير: الدرمك: هو الدقيق الحوارى.
قال القرطبيُّ: الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء، والنقباء، وأما جملتهم فكما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ، لها سبعُونَ ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا» .(19/520)
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم: «تسعة عشر» وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم.
قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزءاً.
وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فلما قال أبو الأسود ذلك، قال المسلمون: ويحكم، لا يقاس الملائكة بالحدادين، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما، ومعناه: لا يقاس الملائكة بالسجّانين، والحداد: السجان.
فصل في تقدير عدد الملائكة
ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً:
منها ما قاله أرباب الحكمةِ: أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية، هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية: فهي الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشَّهوة، والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية: فهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة والعادية، والنافية، والمولدة، فالجموع تسعة عشر، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ومنها: أن أبو جهنم سبعة، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، فالمجموع: ثمانية عشر.
وأما باب الفساق: فليس هناك إلا ترك العمل، فالمجموع: تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.(19/521)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
قوله: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} .
روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال: أيعجز كل مائة ان يبطشوا بواحدٍ منهم ثم يخرجون من النار؛ فنزل قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم.
وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة، ولا يستريحون إليهم، ولأنهم أشد الخلق بأساً، وأقواهم بطشاً، ولذلك جعل - تعالى - الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا.
وقيل: لأنَّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن.
فإن قيل: ثبت في الأخبار أنَّ الملائكة مخلوقون من النور، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟ .
فالجواب: أن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات، فكما أنه لا استبعاد في [إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد] في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.
قوله {وَمَا جَعَلْنَآ عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} . أي: بليّة.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: المعنى: ضلالة للذين كفروا.
وقوله تعالى {فِتْنَةً} مفعول ثانٍ على حذف مضاف، أي إلا سبب فتنة، و «الذين» صفة ل «فتنة» ، وليست «فتنة» مفعولاً له.
فصل في علة ذكر العدد.
قال ابن الخطيب: هذا العدد إنَّما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين:
الأول: أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لم يكونوا عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟ .
والثاني: أن الكفار يقولون: هذا العدد القليل، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة؟ .(19/522)
والجواب عن الأول: أن هذا السؤال لازمٌ على كل عددٍ يفرض.
وعن الثاني: أنه لا يبعد أن الله يزرق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - مدائن قوم لوطٍ على أحدِ جناحيه، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها.
وأيضاً: فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، ولا للعقل فيها مجال.
فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة.
دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - يريد الفتنة.
وأجاب الجبائي: بأن المراد من الفتنة تشديدُ التعبد ليستدلوا على أنه - تعالى - قادرٌ على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائةُ ألفِ ملكٍ أقوياء.
وأجاب الكعبي: بأن المراد من الفتنة الامتحانُ حتَّى يفوضَ المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة، وحاصله ترك الألطاف.
والجواب: أن نقول: هل لا يزال لهذه المتشابهات أثرٌ في تقوية داعية الكفر أم لا؟ فإن لم يكن له أثرٌ في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثرٌ في تقوية داعية الكفر، فقد حصل المقصود؛ لأنه إذا ترجَّحت داعية الفعل صارت داعيةُ الترك مرجوحة، والمرجوح يمتنع تأثيره، فيكون الترك ممتنع الوقوع، فيصير الفعل واجب الوقوع. والله أعلم.
قوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين} . متعلق ب «جعلنا» لا ب «فتنة» .
وقيل: بفعل مضمر، أي: فعلنا ذلك ليستيقن.
فصل في المراد بالآية
معنى الكلام: ليُوقنَ الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدَّة خزنة جهنَّم مُوافقةٌ لما عندهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم. ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام، ويحتمل أن يريد الكُلَّ، {وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً} لتصديقهم بعدد خزنة النار.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان، فما قولكم في هذه الآية؟ .(19/523)
فالجواب: نحملُه على ثمرات الإيمان، وعلى آثاره ولوازمه.
قوله تعالى: {وَلاَ يَرْتَابَ} ، أي: ولا يشك {الذين أُوتُواْ} أي: أعطُوا {الكتاب والمؤمنون} أي: المُصدِّقُون من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنَّ خزنة جهنَّم تسعة عشر.
فإن قيل: لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك: {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُوا الكتاب والمؤمنون} ؟ .
فالجواب: أن الإنسان إذا اجتهد في أمرٍ غامضٍ دقيقِ الحُجَّة كثير الشُّبه، فحصل له اليقين، فربَّما غفل عن مقدمةٍ من مقدِّمات ذلك الدليل الدقيق، فيعود الشرك، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكِّ، وأنه حصل له يقينٌ جازمٌ، لا يحصل عقيبه شكٌّ ألبتة.
قوله تعالى: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، أي: في صدورهم شكٌّ ونفاقٌ من منافقي أهل «المدينة» الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة، وهذا إخبار عما سيكون، ففيه معجزة {والكافرون} أي: اليهود والنصارى {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} يعني: بعدد خزنةِ جهنَّم، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: السورة مكيّة، ولم يكن ب «مكة» نفاقٌ، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بالكافرين: مشركو العرب، ويجوز أن يُراد بالمرض الشكُّ والارتياب لأن أهل «مكة» كان أكثرهم مشركين، وبعضهم قاطعين بالكذب، وقوله تعالى إخباراً عنهم: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} ؟ أي: هذا العدد الذي ذكره حديثاً، أي ما هذا من الحديث.
قال الليث رَحِمَهُ اللَّهُ: المثل الحديث، ومنه:
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [محمد: 15] ، أي حديثها والخبر عنها.
وقال ابن الخطيب: إنما سمَّوه مثلاً؛ لأنه لمَّا كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه رُبَّما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر تنبيهاً على مقصود آخر - لا جَرمَ سمَّوه مثلاً - لأنهم لمَّا اسغربوه ظنُّوا أنه ضرب مثلاً لغيره، و «مَثَلاً» تمييزٌ أو حالٌ، وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته.
فصل في لام: «وليقول»
«اللام» في قوله تعالى: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} جار على أصول أهل السُّنة؛ لأن ذلك مراد، وعند المعتزلة: هي لام العاقبة، ونسبوه إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - مع أنهم ينكرون ذلك، إما على سبيل التَّهكُّم، وإما على ما يقولونه.(19/524)
قوله: {كَذَلِكَ} : نعتٌ لمصدر، أو حالٌ منه على ما عرف، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدي أي: مثل ذلك الإضلالِ والهدى {يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ} كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم «يُضِلُّ» أي: يُعمي ويُخزي من يشاء، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة؛ لأنه - تعالى - قال في أول هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وقال - جل ذكره - في آخر الآية: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} ، ثم قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ} .
وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة، وتقدم أجوبتها.
قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} ، «جُنُود ربِّك» : مفعولٌ واجبُ التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول.
فصل في تفسير الآية
أي: وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار «إلاَّ هُوَ» أي: الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال: ما لإله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الجنود إلاَّ تسْعةَ عشرَ إلاَّ أنَّ لكلِّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو، ويحتمل أن يكون المعنى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} لفرط كثرتها {إِلاَّ هُوَ} فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق، وهو جل جلاله يعلمها.
ويكون المعنى: أنه لا حاجة بالله - سبحانه - في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة، بل هو الذي يعذِّبهم في الحقيقة، وهو الذي يخلق الألم فيهم، ولو أنه - تعالى - قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلَّةُ العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَهَا أن تَئِطَّ، مَا فيهَا مَوضع أرْبعِ أصَابعَ إلاَّ وفِيهَا مَلكٌ سَاجِدٌ» .
قوله جل ذكره: {وَمَا هِيَ} ، يجوز أن يعود الضمير على «سَقَر» أي: وما سقر إلاَّ تذكرةٌ أي عظةٌ للبشر، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها، أو النار لتقدمها، أو الجنود لأنه أقربُ مذكور، أو نار الدنيا، وإن لم يجرِ لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة، قاله الزجاج أو ما هذه العدة {إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.(19/525)
والبشر: مفعول ب «ذكرى» و «اللام» فيه مزيدة.(19/526)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قوله: {كَلاَّ والقمر} .
قال الفراء: «كَلاَّ» أصله للقسم، التقدير: أي: والقمر.
وقيل: المعنى حقّاً والقمر، فلا يوقف على هذين التقديرين على «كلا» .
وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردّاً على الذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم أي: ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار، ثم أقسم على ذلك بالقمر، وبما بعده.
وقيل: هذا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون.
وقيل: هو ردعٌ لمن ينكر أن يكون الكبر نذيراً.
وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
قوله تعالى: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} .
قرأ نافع وحمزة وحفص: «إذ» ظرفاً لما مضى من الزمان «أدبر» بزنة «أكْرَمَ» .
والباقون: «إذا» ظرفاً لما يستقبل «دَبَرَ» بزنة «ضَرَبَ» .
والرَّسْمُ محتمل لكلتيهما، فالصورة الخطية لا تختلف.
واختار أبو عبيد قراءة «إذا» ، قال: لأن بعده «إذَا أسْفرَ» ، قال: «وكذلك هي في حرف عبد الله» ، يعني: أنه مكتوب بألفين بعد الذال؛ أحدهما: ألف «إذا» والأخرى همزة «أدبر» .
قال: وليس في القرآن قسم يعقبه «إذ» ، وإنما يعقبه «إذا» .
واختار ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إذا» .
ويحكى عنه: أنه لما سمع «دَبَرَ» قال: «إنَّما يدبرُ ظهر البعير» .
واختلفوا: هل «دبر، وأدبر» بمعنى أم لا؟ .
فقيل: هما بمعنى واحد، يقال: دبر الليل والنهار وأدبر، وقبل وأقبل؛ ومنه قولهم: «أمس الدابر» فهذا من «دَبَر» ، و «أمس المُدبِر» ؛ قال صَخرُ بن عمرو بن الشَّريدِ السُّلمِيُّ: [الكامل]
4970 - ولقَدْ قَتلْتُكمْ ثُنَاءَ ومَوْحَداً ... وتَركْتُ مُرَّةَ مِثلَ أمْسِ الدّابرِ(19/526)
ويروى: «المُدْبِر» ، وهذا قول الفرَّاء والأخفش والزجاج.
وأما: «أدبر الراكب» وأقبل فرباعي لا غير.
وقال يونس: «دبر» انقضى، و «أدبر» تولى، ففرق بينهما.
وقال الزمخشري: «ودبر: بمعنى أدبر» ك «قبل بمعنى أقبل» .
وقيل منه: صاروا كأمسِ الدابر.
وقيل: هو من دبر الليل بالنهار، إذا خلفه.
وذكر القرطبي عن بعض أهل اللغة: «دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار» .
وقرأ محمد بن السميفع: «والليل إذا أدبر» بألفين، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ.
وقال قطرب: من قرأ «دبر» فيعني أقبل، من قول العرب: دبر فلان، إذا جاء من خلفي.
قال أبو عمرو: وهي لغة قريش.
قوله تعالى: {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} . أي أضاء، وفي الحديث: «أسِفرُوا بالفَجْرِ» .
ومنه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} [عبس: 38] .
وقرأ العامة: «أسْفَرَ» بالألف وعيسى بن الفضل وابن السميفع: «سَفَر» ثلاثياً.
والمعنى: طرح الظُّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة، وهما لغتان.
ويقال: سَفَرَ وجه فلان إذا أضاء، وأسفر وجهه حسناً: أي أشرق، وسفرت المرأة، أي كشفت عن وجهها، فهي سافرة.
قال القرطبي: ويجوز أن يكون سَفَرَ الظلام، أي كنسه، كما يسفر البيت أي: يُكنس، ومنه السفير، لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ، يقال: إنما سمي سفيراً لأن الريح تُسْفره، أي: تكنسه، والمُسفرة: المكنسة «.
قوله: {إِنَّهَا} . أي: إن النار.
وقيل: إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان. وفيه شيئان: عوده على غير مذكور، وكونُ المضاف اكتسب تأنيثاً.(19/527)
وقيل: إنه النذارة، وقيل: هي ضمير القصّة، وهذا جواب القسم وتعليل ل» كَلاَّ «والقسم معترض للتوكيد. قاله الزمخشري.
قال شهاب الدين:» وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر «.
قوله: {لإِحْدَى الكبر} . قرأ العامَّةُ:» لإحْدَى الكُبَر «بهمزة، وأصلها واو من الوحدة.
وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، ويروى عن ابن كثير:» لَحدى «بحذف الهمزة.
وهذا من الشُّذوذ بحيث لا يقاس عليه.
وتوجيهه: أن يكون أبدالها ألفاً ثُمَّ حذف الألف لالتقاء الساكنين، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ.
قال الواحدي: ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و» الكُبَر «: جمع» كُبْرَى «ك» الفُضَل «جمع» فُضْلَى «.
قال الزمخشري:» الكُبَر: جمع الكُبْرى «. جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث، فكما جمعت» فُعْلة «على» فُعَل «جمعت» فُعْلى «عليها، ونظير ذلك:» السَّوافِي «في جمع» السَّافِيَاء «وهو التراب التي تسفّه الريح، و» القَواصع «في جمع» القَاصِعَاء «كأنها جمع» فاعلة «قاله ابن الخطيب
فصل في معنى الآية
معنى» إحْدَى الكُبَرِ «أي إحدى الدواهي، قال: [الرجز]
4971 - يَا ابْنَ المُعلَّى نزَلتْ إحْدَى الكْبَرْ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثله: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء، لمن يستعظمونه. والمراد من» الكبر «دركات جهنم، وهي سبعة: جَهَنَّم، ولَظَى، والحطمة، والسَّعير، والجَحِيم، والهَاوية، وسَقَر. أعاذنا الله منها.
وفي تفسير مقاتل:» الكُبَر «اسم من أسماء النار.(19/528)
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» إنها «أي إن تكذيبهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لإحْدَى الكُبَر «أي: الكبيرة من الكبائر.
قوله: {نَذِيراً} . فيه أوجه:
أحدها: أنه تمييز من» إحدى «لما ضمنت معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكبر إنذاراً، ف» نذير «بمعنى» الإنذار «كالنكير بمعنى الإنكار، كأنه قيل: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، ومثله: هي إحدى النساء عفافاً.
الثاني
: أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضاً ولكنه نصب بفعل مقدَّر، قاله الفراء.
الثالث: أنه «فعيل» بمعنى «مُفْعِل» وهو حال من الضمير في «إنها» . قاله الزجاج، وذُكِّرَ لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنَّها «ذات إنذارٍ» على معنى النسب، كقولهم: امرأة طالق وطاهر.
قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: والله ما أنذرَ الخلائق بشيءٍ أدهى منها.
الرابع: أنه حال من الضمير في «إحدى» لتأويلها بمعنى العظم.
الخامس: أنه حال من فاعل «قُمْ» أول السورة، والمراد بالنذير: محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: قُمْ نذيراً للبشر، أي: مخوفاً لهم. قاله أبو علي الفارسي.
وروي عن ابن عباس، وأنكره الفراء.
قال ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: معناه يا أيُّها المدثِّر، قُم نذيراً للبشر، وهذا قبيح لطول ما بينهما.
السادس: أنه مصدر منصوب ب «أنذِر» أول السورة، كأنه قال: إنذاراً للبشر.
قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي: أنذر إنذاراً، فهو كقوله تعالى: {كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] . أي: إنذاري، فعلى هذا يكون راجعاً إلى أول السورة.
السابع: هو حالٌ من «الكُبَر» .
الثامن: حالٌ من ضمير «الكُبَرِ» .
التاسع: أنه منصوب بإضمار «أعني» .
العاشر: أنه حال من «لإحدى» . قاله ابن عطية.
الحادي عشر: أنَّه منصوب ب «ادع» مقدَّراً، إذ المراد به الله تبارك وتعالى.
روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين: «نذيراً للبشر» ، قال: يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا لكم منها نذير فاتقوها.(19/529)
و «نذيراً» على هذا نصب على الحال، أي ب {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} منذراً بذلك البشر.
الثاني عشر: أنَّه منصوب ب «نادى، أو ببلِّغ» إذ المراد به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث عشر: أنَّه منصوب بما دلَّت عليه الجملة، تقديره: عظُمتْ نذيراً.
الرابع عشر: هو حال من الضمير في «الكُبَرِ» .
الخامس عشر: أنَّها حال من «هو» في قوله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} .
السادس عشر: أنَّها مفعول من أجله، النَّاصب لها ما في «الكُبَرِ» من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: «إنَّها لإحْدى الكبر لإنذار البشر» . فظاهرُ هذا أنه مفعول من أجله. واعلم أنَّ النصب: قراءةُ العامَّة.
وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة: بالرفع.
فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان:
أن يكون خبراً بعد خبرٍ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ، أي: هي نذير، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ. وإن كان الباري تعالى أو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على خبر مبتدإ مضمر، أي: هو نذير.
و «للبشر» : إما صفة، وإما مفعول ل «نذير» واللام مزيدة لتقوية العامل.
قوله: {لِمَن شَآءَ} ، فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله: {لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] ، و {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ} [الأعراف: 75] ، وأن يتقدم مفعول «شاء» أي: نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر، وفيه ذكر مفعول «شاء» وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة.
الثاني: وبه بدأ الزمخشري: أن يكون «لمن شاء» خبراً مقدماً، و «أن يتقدم» مبتدأ مؤخر.
قال: كقولك: لمن توضّأ أن يصلي، ومعناه: مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم، أو يتأخر انتهى.
فقوله: «التقدم أو التأخر» وهو مفعول «شاء» المقدر.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: «أن يتقدم» هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن، وفيه حذف.
قال القرطبي: اللام في «لمن شاء» متعلقة ب «النذير» ، أي: نذيراً لمن شاء منكم(19/530)
أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره: {ولقد علمنا المستقدمين منكم} ، أي: في الخير {وَلَقَدْ علمنالمستأخرين} [الحجر: 24] عنه، قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 27] .
وقيل: المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله - عَزَّ وَجَلَّ - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر.
وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة، وكذب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عوقب عقاباً لا ينقطع.
وقال السديُّ: «لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة» .
فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل
احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه.
وجوابه: أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30] .
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم.
قال ابن الخطيب: وذكر الأصحاب جوابين آخرين:
الأول: معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين، التهديد، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} .
الثاني: أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى: لمن شاء الله منكم أن يتقدم، أو يتأخر.(19/531)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . فيه أوجه:(19/531)
أحدها: أنَّ «رَهِينَةٌ» بمعنى «رَهْنٍ» ك «الشَّتِيمة» بمعنى «الشَّتْم» .
قال الزمخشري: ليس كتأنيث «رهين» في قوله: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛ لأن «فعيلاً» بمعنى «مفعول» يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنَّما هي اسم بمعنى «الرهن» كالشتيمة بمعنى «الشّتم» كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة: [الطويل]
4972 - أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُويكِبٍ ... رَهِينَةِ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنَّه قال: «رَهْنِ رَمْسٍ» .
الثاني: أن الهاء للمبالغة.
الثالث: أنَّ التأنيث لأجل اللفظ.
واختار أبو حيان: أنها بمعنى «مفعول» وأنها كالنَّطيحة، وقال: ويدل على ذلك أنَّه لما كان خبراً عن المذكر كان بغير هاء، وقال تعالى: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} فأنَّثَ حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمَّا التي في البيت فأنَّثَ على معنى النَّفْسِ.
فصل في معنى رهينة
ومعنى «رهينة» أي: مُرتهَنَة بكسبها، مأخوذة بعملها، إمَّا خلَّصهَا وإمَّا أوبقها.
قوله: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} . فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق.
والثاني: أنَّه منقطع، إذا المراد به الأطفال والملائكة.
قال ابن عباس: المراد بهم الملائكة.
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا.(19/532)
وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم منا الحسنى، ونحوه عن ابن جريج قال: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون.
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» .
قال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم.
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون.
وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.
وقيل: هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم.
وقال أبو جعفر الباقرُ: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.
قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ} . يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جنات، وأن يكون حالاً من «أصحاب اليمين» ، وأن يكون حالاً من فاعل «يتساءلون» .
ذكرهما أبو البقاء. ويجوز أن يكون ظرفاً ل «يتساءلون» ، وهو أظهر من الحالية من فاعله.
و «يتساءلون» يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى «يسألون» أي يسألون غيرهم، نحو «دَعوْتُه وتَداعَيْتُه» .
قوله: {عَنِ المجرمين} فيه وجهان:
الأول: أن تكون كلمة «عن» صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين، فيقولون لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، فإنه يقال: سألته كذا، وسألته عن كذا.
الثاني: أن يكون المعنى: أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين.
فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يقولوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ؟ .
فأجاب الزمخشري عنه فقال: «المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين، فيقولون: قلنا لهم: مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ» .(19/533)
وفيه وجه آخر وهو: أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم، قالوا لهم: ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن.
قوله: {مَا سَلَكَكُمْ} : يجوز أن يكون على إضمار القول، وذلك في موضع الحال أي: يتساءلون عنهم قائلين لهم: ما سلككم؟ قال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق بعد قوله: «ما سلككم» وهو سؤال المجرمين، قوله: {يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين} ، وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين: ما سلككم؟ .
قلت: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ} ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر؟ أي: أدخلكم في سقر، كما تقول: سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه، والمقصود من هذا: زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى: ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار؟ فأجابوا: أن العذاب لأمور أربعة، ثم ذكروها وهي قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} .
قال الكلبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له: يا فلانُ.
وفي قراءة عبد الله بن الزبير: يا فلان، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن. قاله ابن الأنباري.
وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين، فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟ .
قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.
قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} ، هذا هو الدالُّ على فاعل «سلكنا كذا» الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم: «ما سلككم» [والتقدير: سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا.
قال أبو البقاء: هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل، وهو جواب: ما سلككم، وهو نظير «مناسككم» ، وقد تقدم في «البقرة» ]
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: معنى قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} أي: المؤمنين الذين يصلون {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} أي: لم نكن نتصدق.(19/534)
قال ابن الخطيب: «وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه» .
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} ، أي: في الأباطيل.
وقال ابن زيد: {نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قولهم - لعنهم الله -: إنه ساحر، كاهن، مجنون، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه.
وقيل: معناه: كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين، وقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} أي: نكذّب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم.
{حتى أَتَانَا اليقين} أي: جائنا الموت، قال الله تعالى: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] .
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟ .
فالجواب: أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] .
قوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} ؛ كقوله: [الطويل]
4973 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... .
في أحد وجهيه، أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] الآية.
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يشفع نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ؟ قالوا: لم نك من المصلين، إلى قوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} .
قال عبد الله بن مسعود: فهؤلاء الذين في جهنم.(19/535)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} عن القرآن، أي: فما لأهل «مكة» قد أعرضوا وولَّوا.
قال مقاتل: معرضين عن القرآن من وجهين:
أحدهما: الجحود والإنكار.
والثاني: ترك العمل بما فيه.
وقيل: المراد بالتذكرة: العظة بالقرآن، وغيره من المواعظ.
و «مُعرِضيْنَ» حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن «ما» الاستفهامية، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن.
و «عن التذكرة» متعلق به.
قال القرطبي: «وفي» اللام «معنى الفعل، فانتصاب الحال على معنى الفعل» .
قال ابن الخطيب: «هو كقولك: ما لك قائماً» .
قوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} ، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار، وتكون بدلاً من «معرضين» . قاله أبو البقاء. يعني: أنها كالمشتملة عليها، وأن تكون حالاً من الضمير في «معرضين» فيكون حالاً متداخلة.
وقرأ العامة: حُمُر - بضم الميم -، والأعمش: بإسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر: «مُسْتَنْفَرَةٌ» - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول، أي: نفَّرها القنَّاص.
والباقون: بالكسر، بمعنى نافرة.
يقال: استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب، وسخر واستسخر؛ قال الشاعر: [الكامل] .
4974 - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ ... فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ(19/536)
وقال الزمخشري: «وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها، في جمعها له وحملها عليه» .
فأبقى السِّين على بابها من الطلب، وهو معنى حسنٌ.
قال أبو علي الفارسي: «الكسر في» مستنفرة «أولى لقوله:» فرَّت «للتناسب، لأنه يدل على أنها استنفرت، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال: سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت: كأنهم حمرٌ ماذا؟ فقال: مستنفرة طردها قسورة، فقلت: إنما هي فرَّت من قسورة، فقال: أفرت؟ قلت: نعم، قال: فمستنفِرة إذاً» انتهى.
يعني: أنها مع قوله طرد، تناسب الفتح، لأنها اسم مفعول، فلما أخبر بأن التلاوة «فرّت من قسورة» رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة.
والقَسْورة: قيل: الصَّائد، أي: نفرت وهربت من قسورة، أي: من الصائد.
وقيل: الرُّماة يرمُونها.
وقيل: هو اسم جمع لا واحد له.
وقال بعض أهل اللغة: إن «القَسْوَرة» : الرامي، وجمعه: القساورة.
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: «القسورة» وهم الرماة والصيَّادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وأنشدوا للبيد بن ربيعة: [الطويل]
4975 - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا ... أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ
وقيل: «القسورة» : الأسد. قاله أبو هريرة، وابن عباس أيضاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال ابن عرفة: من القسْرِ بمعنى القهْرِ، أي: أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع؛ ومنه قول الشاعر: [الرجز]
4876 - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ ... كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ
أي: الأسد، إلا أن ابن عباس أنكره، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب، وإنما القسورة: عصبُ الرجال؛ وأنشد: [الرجز](19/537)
4977 - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ ... أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره
وقيل: القَسْورةُ: ظُلمَة الليل، قال ابن الأعرابي: وهو قول عكرمة.
وعن ابن عباس: ركز الناس؛ أي حسُّهم وأصواتهم.
وعنه أيضاً: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي: من حبال الصيادين، وعنه أيضاً: القسورة بلسان «الحَبَشَةَ» الأسد، وخالفه عكرمة فقال: الأسد بلسان «الحبشة» : عَنْبَسة، وبلسان «الحبشة» : الرُّماة، وبلسان «فارس» : شير، وبلسان «النَّبْط» : أريا.
وقيل: هو أوَّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل: قسورة.
فصل في المراد بالحمر المستنفرة
قال ابن عباس: كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حمر مستنفرة، قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية.
قال الزمخشري: وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء.
قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} ، أي: يُعطى كُتُباً مفتوحةً، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: «من رب العالمين» ، إلى فلان ابن فلان، ونُؤمر فيه باتباعك، ونظيره: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93] .
وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار.
وقال مطرٌ الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل.(19/538)
وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك.
قال ابن الخطيب: وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل.
وقيل المعنى: أن يذكر بذكرٍ جميلٍ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً، فقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!
قوله: «مُنشَّرة» .
العامة: على التشديد، من «نشَّرهُ» بالتضعيف.
وابن جبير: «مُنْشرَةٌ» بالتخفيف، و «نشَّر، وأنشر» بمنزلة «نزّل وأنزَل» : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من «صحُف» .
وابن جبير: على تسكينها.
قال أبو حيان: «والمحفوظ في الصحيفة والثوب:» نشَر «مخففاً ثلاثياً، وهذا مردود بالقرآن المتواتر» .
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير: «من أنشرت، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان، أو بمعنى منشورة، مثل: أحمدت الرجل، أو بمعنى: أنشر الله الميِّت أي: أحياه: فكأنه أحياها فيها بذكره» .
قوله: {كَلاَّ} ، أي: ليس يكون ذلك.
وقيل: حقّاً، والأول أجود، لأنه ردٌّ لقولهم. ثم قال: {بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} أي: لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً.
قوله: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} . أي: حقّاً أنَّ القرآن عظة.
وقيل: هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} بليغة {فمن شاء ذكره} أي: اتعظ به، وجعله نصب عينه.
والضمير في «إنه، وذكره» للتذكرة في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} وإنما ذُكِّرا؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن.(19/539)
وقيل: الضمير في «إنه» للقرآن أو الوعيد.
قوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ} .
قرأ نافع: بالخطاب، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون: بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله: «كُل امرىءٍ» ولم يُؤثِرُوا الالتفات.
وقراءة الخطاب، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى: {كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ} واتفقواعلى تخفيفها.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} ، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته، لا أن ينوب عن الزمان، بل على حذف مضاف.
قالت المعتزلة: بل معناه: إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه.
وأجيبوا: بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر.
قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} ، أي: حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال في قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} قال: قال الله تعالى: «أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ» .
وقال بعض المفسرين: أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ {يا أيها المدثر} أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذَّبه ب» مكة «» والله أعلم.(19/540)
سورة القيامة(19/541)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
مكية، وهي تسع وثلاثون آية، [وهي في المصحف أربعون آية] ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} .
العامَّة: على «لاَ» نافية، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه:
أحدها: أنَّها نافية لكلامٍ تقدم، كأنَّ الكفَّار ذكروا شيئاً، فقيل لهم: «لا» ثم ابتدأ الله قسماً.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: «إنَّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردِّ عليهم كقوله:» والله لا أفعل «ف» لا «ردٌّ لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة. لحق، كأنك أكذبت قوماً أنكروه» .
والثاني: أنها مزيدة. قال الزمشخري: قالوا: إنها مزيدة، مثلها في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] ، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] ؛ وقوله: [الرجز]
4978 - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ... قال ابن الخطيب: وهذا القولُ عندي ضعيفٌ من وجوه:(19/541)
أحدها: أنَّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفياً وإثباتاً.
وثانيها: أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته؛ وهي قوله: [المتقارب]
4979 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابنَةَ العَامِرِيْ ... يِ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ
وأيضاً: هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] ، وإذا كان كذلك، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام.
والجواب عن الأول: أنَّ قوله: لا وأبيك، قسمٌ عن النفي، وقوله: «لا أقْسِمُ» نفي للقسم، لأنه على وزان قولنا: «لا أقبل، لا أضرب، لا أنصر» وذلك يفيد النفي، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم، والحنث بفعل القسم، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب.
وعن الثاني: أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى، فذلك غير جائز؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً، وأنه لا يجوز.
وثالثها: أن المراد من قولنا: «لا» صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله - تعالى - بذلك لا يجوز.
الوجه الثالث: قال الزمشخري: «إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم؛ قال امرؤ القيس: [المتقارب]
4980 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري ... البيت المتقدِّم.
وقال غويةُ بنُ سلمَى: [الوافر]
4981 - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ ... لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي(19/542)
وفائدتها: توكيد القسم في الردِّ «. ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم: والوجه أن يقال: هي للنَّفي، والمعنى في ذلك: أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له، يدلُّك عليه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
وقيل: إنَّ» لا «نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى.
قال ابن الخطيب: كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل:» لا «ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة.
قال: وهذا فيه إشكال؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام.
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ:» فقول الزمخشري «: والوجه أن يقال إلى قوله: يعني أنه يستأهل فوق ذلك، تقرير لقوله: إدخال» لا «النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى» .
ثم قال: فإن قلت: قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنَّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده، ومؤكدة له، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منفياً كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى؟ .
قلت: لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف نفى {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} [البلد: 4] وكذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] ، وهذا من محاسن كلامه تعالى.
وقرأ قنبل والبزِّي - بخلاف عنه -: «لأقسم» بلام بعدها همزة دون ألف، وفيها أوجه:
أحدها: أنها جوابٌ لقسم مقدر، تقديره: «والله لأقسم» والفعل للحالِ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وأمَّا البصريون: فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها(19/543)
وهذا عند بعضهم، من ذلك التقدير: والله لأنا أقسم.
الثاني: أنه فعل مستقبل، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٌّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره، على أن سيبويه حكى حذف النون، إلا أنه قليل، والكوفيون: يجيزون ذلك من غير قلَّة، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله: [الكامل]
4982 - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ ... فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ
أي لأثأرن، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر: [الطويل]
4983 - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ ... ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ
الثالث: أنَّها لامُ الابتداء، وليست بلام القسم.
قال أبو البقاء: كقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 164] . والمعروف أنَّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلاَّ في خبر «إنَّ» نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 164] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس: {وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} [يونس: 16] فإنهما قرآها بغير الألف. والكلام فيها قد تقدم.
ولم يختلف في قوله: «ولاَ أقسم» أنه بالألف بعد «لا» ؛ لأنه لم يرسم إلاَّ كذا بخلاف الأول، فإنه رسم بدون ألفٍ بعد «لا» ، وكذلك في قوله تعالى {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] لم يختلف فيه أنه بألف بعد «لا» ، وجواب القسم محذوف، تقديره: لتبعثنّ، دل عليه قوله {أَيَحْسَبُ الإنسان} [القيامة: 3] .
وقيل: الجواب: «أيَحْسَبُ» .
وقيل: هو {بلى قَادِرِينَ} [القيامة: 4] ، ويروى عن الحسن البصري.
وقيل: المعنى على نفي القسم، والمعنى: إنِّي لا أقسم على شيء، ولكن أسألك أيحسب الإنسان.
وهذه الأقوال شاذَّة منكرة، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب، وإنما ذكرناها تنبيهاً على ضعفها.
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وابن جبير: معنى الكلام: أقسمُ بيوم القيامة، وهو قول أبي عبيدة، ومثله قوله: [الطويل](19/544)
4984 - تَذكَّرْتُ لَيْلَى فاعْترتْنِي صَبَابَةٌ ... فَكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتقطَّعُ
قوله: {بِيَوْمِ القيامة} ، أي: بيوم يقوم الناس فيه لربِّهم، والله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يقسم بما شاء، {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} ، لا خلاف في هذا بين القراء، وأنه سبحانه - جل ذكره - إنما أقسم بيوم القيامة تعظيماً لشأنه، وعلى قراءة ابن كثير أقسَم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} ردٌّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.
قال الثعلبيُّ: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، ومعنى «بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ» : أي: نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه، يقول: [ما أردت بكذا؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وغيرهم.
قال الحسن: هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه] ، ما أردت بكلامي هذا؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشَّرِّ لم فعلته، وعلى الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه.
وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.
وقيل
: المراد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - لم يزل لائماً لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنها الملومة، فتكون صفة ذمٍّ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً وعلى الأول: صفةُ مدحٍ فيكون القسم بها سائغاً.
وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسَّر في الآخرة على ما فرط في جنبِ الله تعالى.
قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن} . هذه «أن» المخففة وتقدم حكمها في «المائدة» و «أن» وما في حيِّزها في موضع الجرِّ، والفاصل هنا حرف النَّفي، وهي وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدّ مفعولي «حَسِب» أو مفعوله على الخلاف.(19/545)
والعامَّة: على «نَجْمَعَ» بنون العظمة، و «عِظامهُ» نصب مفعولاً به.
وقتادة: «تُجْمع» بتاءٍ من فوقُ مضومةٍ على ما لم يسم فاعله؛ «عظامه» رفع لقيامه مقام الفاعل.
فصل في جواب هذا القسم
قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنَّ العظام للبعث، فهذا جواب [القسم.
وقال النحاس: جواب] القسم محذوف، أي: لنبعثن.
والمراد بالإنسان: الكافر المكذب بالبعث.
قيل: «نزلت في عدي بن ربيعة قال للبني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَدِّثنِي عن يَومِ القِيامةِ مَتَى تكُونُ، وكَيْفَ أمْرهَا وحَالُهَا؟ فأخْبرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: لَوْ عَايَنْتُ ذلكَ اليَوْمَ لَمْ أصَدِّقكَ يا مُحمَّدُ ولَمْ أومِنْ بِه، أو يَجْمَعُ اللَّهُ العِظامَ؟ ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» اللَّهُمَّ اكفِنِي جَارَي السُّوءِ عدَيَّ بن ربيعَة، والأخنس بنَ شَريقٍ «.
وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت، وذكر العظام، والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق.
وقيل: المراد بالإنسان: كل من أنكر البعث مطلقاً.
قوله: {بلى} إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام، وهو وقف حسن، ثم يبتدىء» قَادِرين «، ف» قَادِرين «حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير.
وقيل: المعنى بل نجمعها نقدر قادرين.
قال الفراء:» قادرين «نصب على الخروج من» نَجْمعَ «أي نقدر ونقوى» قادرين «على أكثر من ذلك.
وقال أيضاً: يَصْلُح نصبُه على التكرير، أي: بلى فليحسبنا قادرين.
وقيل: المضمر» كنا «أي: كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع:» قادرون «رفعاً على خبر ابتداء مضمر، أي»(19/546)
بلى «نحن» قادرون « {على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} والبنانُ عند العرب: الأصابع، واحدُها بنانةٌ؛ قال عنترة: [الوافر]
4985 - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا ... وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضاً: فإنها أضعف العظام فخصها الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى، ولا يقدرعلى جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: {على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلفِ الخنزيرِ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.
وقيل: نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60، 61] .
والقول الأول أشبه بمساق الآية.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وفي الآية إشكالات:
أحدها: ما المناسبة بين القيامة والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم؟ .
وثانيها: على وقوع القيامة
وثالثها: قال جل ذكره: أقسم بيوم القيامة ولم يقل: والقيامة، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في سائر السور: {والطور} [الطور: 1] {والذاريات} [الذاريات: 1] ، {والضحى} [الضحى: 1] .
والجواب عن الأول من وجوه:
أحدها: أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ» ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى(19/547)
السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] .
وقيل: القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.
وقيل: إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
والجواب عن الثاني: أن المحقِّقين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.
والجواب عن الثالث: أنه حيث أقسم، قال جل ذكره: «والذَّارياتِ» ، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء، فزال السؤال.
قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} . فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «بل» لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.
الثاني: أنها عاطفة. قال الزمخشري: «بل يريد» عطف على «أيحسب» ، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم: «وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر» .
وقال شهاب الدين: «وليس هنا إلا تقديران، ومفعول» يُرِيد «محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} والتقدير: يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و» أمامه «منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان» .
والضمير في «أمَامَه» الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس: يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله.(19/548)
وعن ابن عباس: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، قال: يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة وجاء في الحديث: «قال يقولُ: سوف أتُوبُ، ولا يتوبُ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ» .
وقال عبد الرحمن بن زيد: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} من البعث والحساب ودليله: يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب.
وقال الضحاك: هو الأمل، يقول: سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت.
وقيل: يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.
وإذا قلنا: بأن الهاء ليوم القيامة، فالمعنى: بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجورُ: أصله الميل عن الحق.
قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ} هذه جملة مستأنفة.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: تفسير ل «يفجر» فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل، ولو كان بدلاً لنصب، وقد يقال: إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده، وفيه بحث قد تقدم نظيره في «الذاريات» وغيره. والمعنى: يسأل متى يوم القيامة.
فصل فيمن أنكروا البعث
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ، وتقديره: أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً.
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين:
الأول: لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد، فيسقط(19/549)
السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني: سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} .
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.(19/550)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ البصر} . قرأ نافع وأبان عن عاصم: بَرَق بفتح الراء.
والباقون: بالكسر.
فقيل: لغتان في التحيُّر والدهشة، ومعناه لمع بصره من شدَّة شخوصه، فتراه لا يطرف.
وقيل: بَرِق - بالكسر - تحيَّر فزعاً.
قال الزمخشري: «وأصله من بَرِق الرجل إذا نظر إلى البرقِ فدُهِش بصرهُ» .
قال غيره: كما يقال: أسد وبقر، إذا رأى أسداً وبقراً كثيراً فتحيّر من ذلك.
قال ذو الرمة: [الطويل]
4986 - وكُنْتُ أرَى في وجْهِ ميَّةَ لمْحعةً ... فأبْرَقُ مَغْشِياً عَليَّ مَكانِيَا
وأنشد الفراء رَحِمَهُ اللَّهُ: [المتقارب]
4987 - فَنفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ... ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرقِ
أي: لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك.
و «بَرَق» بالفتح: من البريق، أي: لمع من شدَّة شُخُوصه.(19/550)
وقال مجاهد وغيره: وهذا عند الموت.
وقال الحسن: يوم القيامة، قال: وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان، كأنه قال: يوم القيامة إذا برق البصر، وخسف القمر.
وقيل: عند رؤية جهنم.
قال الفراء والخليل: «برِق» - بالكسر -: فَزِع وبُهِت وتحيّر، والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت: قد برِق فهو برِقٌ.
وقيل: «بَرِق، يَبْرَقُ» بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابيِّ: [الرجز]
4988 - لمَّا أتَانِي ابنُ عُمَيْر راغِباً ... أعْطيتُه عِيساً صِهَاباً فَبرِقْ
أي: فتح عينيه. قرأ أبو السمال: «بَلِق» باللام.
قال أهل اللغة إلا الفرّاء: معناه «فُتِح» ، يقال: بَلقْت الباب وأبلقتُه: أي: فتحتُه وفرَّجتُه.
وقال الفراء: هو بمعنى أغلقته.
قال ثعلب: أخطأ الفراء في ذلك.
ثم يجوز أن يكون مادة «بَلَقَ» غير مادة «بَرَقَ» ، ويجوز أن تكون مادةً واحدة بُدِّل فيها حرف من آخر، وقد جاء إبدال «اللام» من الراء في أحرف، قالوا: «نثر كنانته ونثلها» وقالوا: «وجل ووجر» فيمكن أن يكون هذا منه، ويؤيده أن «برق» قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما، قاله أبو عبيدة، وأنشد [الرجز]
4989 - لمَّا أتَانِي ابن عُمَيْرٍ ... البيت المتقدم.
أي: ففتح عينيه فهذا مناسب ل «بلق» .
قوله: {وَخَسَفَ القمر} .
العامةُ: على بنائه للفاعل.(19/551)
وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، ويزيد بن قطيب قال القرطبي: وابن أبي إسحاق وعيسى: «خُسِف» مبنياً للمفعول.
وهذا لأن «خسف» يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: خُسِفَ القمر، وخسف الله القمر.
وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس.
وقال بعضهم: يكونان فيهما، يقال: خُسِفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف، وتأيد بعضهم بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ»
، فاستعمل الخسوف فيهما، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد وجماعة: هما بمعنى واحد.
وقال ابن أبي أويس: الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه.
قال القرطبي: الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه، ويحتمل أن يكون بمعنى «غاب» ، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] .
قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} لم تلحقه علامة تأنيث؛ لأن التأنيث مجازي.
وقيل: لتغليب التذكير. وفيه نظر، لو قلت: «قام هند وزيد» لم يجز عند الجمهور من العرب.
وقال الكسائي: «جمع» حمل على معنى جرح النيران.
وقال الفراء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران.
وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى.
وقال عليّ وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار(19/552)
جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقيل: هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى: يجمع حرهما عليهم.
وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ.
قال ابن الخطيب: وقيل: جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال: يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا، أي: كل منهما يذهب ضوؤه.
فصل في الرد على من طعن في الآية
قال ابن الخطيب: طعنت الملاحدة في الآية فقالوا: خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر.
والجواب: أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
قوله: {يَقُولُ الإنسان} . جواب «إذا» من قوله: «فإذا برق» ، و «أيْنَ المفَرُّ» منصوب المحل بالقول، و «المَفَرّ» مصدر بمعنى «الفرار» وهذه هي القراءة المشهورة.
وقرأ الحسنان ابنا علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: بفتح الميم وكسر الفاء، وهو اسم مكان الفرار، أي أين مكان الفرار.
وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً، قال: «كالمرجع» وقرأ الحسن عكس هكذا: أي بكسر الميم وفتح الفاء، وهو الرجل الكثير الفرار؛ كقول امرىء القيس يصف جواده: [الطويل]
4990 - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ(19/553)
وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات.
فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة
يقول الإنسان يومئذ: أين المفر، أي: يقول ابن آدم، وقيل: أبو جهل: أين المفر، أين المهرب؟ .
قال الماوردي: ويحتمل وجهين:
أحدهما: أين المفر من الله استحياءً منه.
والثاني: أين المفر من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين:
أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه.
والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.
قوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} . تقدم الكلام ي «كلاَّ» ، وخبر «لا» محذوف، أي لا وزر له.
أي لا ملجأ من النار.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا حِصْن.
وقال ابن عباس: لا ملجأ وقال الحسن: لا جبل.
وقال ابن جبير: لا مَحِيصَ.
وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان، فتكون منصوبة المحل، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك.
و «الوزر» : الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح؛ قال الشاعر: [المتقارب]
4991 - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ ... مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ(19/554)
قال السديُّ: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي.
قوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} . أي: المنتهى. [قاله قتادة، نظيره: «وأن إلى ربك المنتهى» ] .
وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع، أي: المستقر في الآخرة حيث يقره الله.
و «المُسْتقَرُّ» مبتدأ، خبره الجار قبله، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار، وأن يكون مكان الاستقرار، و «يَوْمئذٍ» منصوب بفعل مقدر، ولا ينصب ب «مستقر» لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة.
قوله: {يُنَبَّأُ الإنسان} . أي: يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة {بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ} أي: بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود.
وقال ابن عباس أيضاً: بما قدَّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: «بِما قدَّمَ» مرة من أمواله لنفسه «وأخَّرَ» خلَّف للورثة.
وقال الضحاك: «بِما قدَّم» من فرض «وأخَّرَ» من فرض.
وقال مجاهد والنخعيُّ: يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره.
قال القشيري: وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت.
قوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} . يجوز في «بَصِيرة» أوجه:
أحدها: أنها خبر عن الإنسان، و «على نفسه» متعلق ب «بصيرة» ، والمعنى: بل الإنسان بصيرة على نفسه.(19/555)
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش: هو كقولك: «فلان عِبْرة وحُجَّة» .
وقيل: المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال: بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني: أنَّها مبتدأ، و «على نفسه» خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان:
أحدهما: أن تكون «بصيرة» صفة لمحذوف، أي عين بصيرة. قاله الفراء؛ وأنشد: [الطويل]
4992 - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً ... بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم ... مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ
الثاني: أن المعنى جوارحُ بصيرة.
الثالث: أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري: «بصيرة» : حُجَّة «بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] .
قال شهاب الدين:» هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة «.
الوجه الثالث: يكون الخبر الجار والمجرور و» بصيرة «فاعل به، وهو أرجح مما قبله؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» بصيرة «: أي: شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة: الشاهد، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] .
قال الواحدي: هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.(19/556)
قوله: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَه} . هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير: جمع معذرة على غير قياس ك» ملاقيح ومذاكير «جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان:
أحدهما: أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني: أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري:» فإن قلت: أليس قياس «المَعْذِرة» أن تجمع على معاذر لا معاذير؟ .
قلت: «المعاذير» ليست جمع «معذرة» بل اسم جمع لها، ونحوه: «المناكير» في المُنْكَر «.
قال أبو حيان:» وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير «انتهى.
وقيل:» مَعاذِير «جمع مِعْذار، وهو السِّتر، والمعنى: ولو أرخى ستوره، والمعاذير: الستور بلغة» اليمن «، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد: [الطويل]
4993 - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ ... عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ
قال الزجاج: المعاذير: الستور، والواحد: معذار.
أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه، وقد حذف الياء من «المعاذر» ضرورة.
وقال الزمخشري: «فإن صح - يعني أن المعاذير: الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب» . وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير: الستور والاعتذارات، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز.
فصل في معنى الآية
قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ: المعنى: ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ «.(19/557)
وقال مقاتل: ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك، نظيره قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر.(19/558)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
وحكى الماوردي عن ابن عباس: " ولو ألقى معاذيره " أي ولو تجرد من ثيابه. قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .
قال بعض الرافضة: عدم مناسبتها لما قبلها يدل على تغيير القرآن.
قال ابن الخطيب: وفي مناسبتها وجوه:
الأول: لعل استعجال الرسول إنما كان عند نزول هذه الآيات.
الثاني: أنه تقدم أن الإنسان يستعجل بقوله: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ثم بين أن العجلة مذمومة في أمر الدين، فقال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ، وقال تعالى بعدها: {بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} [القيامة: 20] .
الثالث: أنه قدم {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما يستعجل خشية النسيان، فقيل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن الأمور لا تحصل إلا بتوفيق الله - تعالى - وإعانته، فاعتمد على الله - تعالى - واترك التعجيل.
الرابع: كأنه قيل: غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه، وتبلغه إليهم ليظهر صدقك، وقبح عنادهم، لكنهم يعلمون ذلك بقلوبهم، فلا فائدة في هذا التعجيل.
الخامس: أن الكافر لما قال: «أين المَفر» ؟ كأنه يطلب الفرار من الله تعالى، فكن أنت يا محمد على مضادة الكافر، وفر من غير الله إلى الله.
السادس: قال القفالُ: الخطاب مع الإنسان المذكور في قوله {يُنَبَّأُ الإنسان} فإذا قيل له: اقرأ كتابك تلجلج لسانه، فيقال له: لا تعجل، فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك ونقرأها عليك، فإذا قرآناه فاتَّبعْ قرآنه بالإقرار {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وهذا فيه وعيد شديد وتهويل.
روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: كان(19/558)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا نزل عليه القرآن يحرك لسانه يريد أن يحفظه، فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .
قال: وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه في صدرك ثم نقرؤه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} فاستمع وأنصت، ثم علينا أن نقرأه، فيقال: «فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أتاه جبريل - عليه السلام - استمع، وإذا نطق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما أقرأه» خرجه البخاري أيضاً.
ونظير هذه الآية: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] . وقد تقدم.
وقال عامر الشعبي: إنما كان يُعجِّل بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا نزل عليه الوحي من حبّه له وحلاوته في لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن} الآية.
ونزل: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] ، ونزل: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} . قاله ابن عباس: و «قرآنه» أي وقراءته عليك، والقراءة والقرآن في قول الفراء: مصدران.
وقال قتادة: «فاتَّبع قرآنه» فاتَّبع شرائعه وأحكامه.
قوله: {وَقُرْآنَهُ} ، أي: قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، وأما الفاعل فمحذوف، والأصل: وقراءتك إياه، والقرآن: مصدر بمعنى القراءة.
وقال حسان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [البسيط]
4994 - ضَحَّوْا بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقال ابن عطية: قرأ أبو العالية: «إنَّ عَليْنَا جَمعهُ وقَرَتَهُ، فإذَا قَرَأنَاهُ فاتَّبع قَرَتهُ» . بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف. ولم يذكر توجيهها.
فأما توجيه قوله: «جَمعَهُ وقُرآنهُ» وقوله: «فاتَّبعْ قُرآنهُ» فواضح - كما تقدم - في قراءة ابن كثير في «البقرة» ، وأنه هل هو نقل أو من مادة «قرن» ، وتحقيق القولين مذكور ثمَّة فليلتفت إليه.
وأما قوله: بفتح القاف والراء والتاء، فيعني في قوله: «فإذا قَرَتَه» يشير إلى أنه قُرىء شاذّاً هكذا.(19/559)
وتوجيهها: أن الأصل: «قَرَأتَهُ» فعلاً ماضياً مسنداً لضمير المخاطب، أي: فإذا أردت قراءته، ثم أبدل الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة، ثم حذف الألف تخفيفاً، كقولهم: ولو ترى ما لصبيان، و «ما» مزيدة، فصار اللفظ «قَرَتَهُ» .
فصل في لفظ الآية
قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي بمقتضى الوعد عند أهل السنة، وبمقتضى الحكمة عند المعتزلة. «جمعه» في صدرك «وقرآنه» أي: يعيده جبريل عليك حتى تحفظه وتقرأه بحيث لا تنساه، فعلى الأول: القارىء جبريل عليك، وعلى الثاني محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد بقراءته: جمعه كقوله: [الوافر]
4995 - ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... لَمْ تَقْرَأ جَنِينَا
فيحمل الجمع على جمعه في الخارج، والقرآن على جمعه في ذهنه وحفظه لئلا يلزم التكرار، وأسند القراءة لله لأنها بأمره.
وقوله: «فاتبع قرآنه» قيل: حلاله وحرامه أو لا تقارئه بل اسكت حتَّى يسكت جبريل فاقرأ أنت، وهو أظهر؛ لأن الآية تدلّ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقرأ مع جبريل، وكان يسأله في أثناء قراءته عن المشكلات فنهي عن الأول بقوله «فاتبع قرآنه» ، وعن الثاني بقوله: {ثم إن علينا بيانه} .
قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: تفسير ما فيه من الحدود والحلال، والحرام. قاله قتادة. وقيل: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ما فيه من الوعد والوعيد.
وقيل: إنَّ علينا أن نبينه بلسانك. والضمائر تعود على القرآن، وإن لم يجر له ذكر.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يدل على أنَّ بيان المجمل واجب على الله - تعالى - أما عند أهل السُّنة فبالوعد والتفضل، وإما عند المعتزلة فبالحكمة. والله أعلم.
فصل في الرد على من جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب
احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية.
وأجاب أبو الحسين عند بوجهين:(19/560)
الأول: أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأنتم لا تقولون به.
الثاني: أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد في اللفظ ما يقتضيه ظاهره. فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي.
وذكر القفال وجها ثالثاً، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه فيحمل على الترتيب، ونظيره قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] .
قال ابن الخطيب: والجواب عن الأول: أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان، بل يقتضي تأخير وجوب البيان، فيكون الجواب بالمنع لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة، وعن الثاني: أنَّ كلمة «ثُمَّ» دخلت على مطلق البيان المجمل والمفصل، فالتخصيص بأحدهما تحكم بغير دليل.
وجواب القفال: بأنه ترك للظاهر بغير دليل.
فصل فيمن جوز الذنوب على الأنبياء
أورد من جوّز الذنوب على الأنبياء، بأن هذا الاستعجال إن كان بإذن، فكيف نهي عنه وإن كان بغير إذن فهو ذنب.
قال ابن الخطيب: والجواب: لعله كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي.(19/561)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله: {كَلاَّ} . قال الزمخشري: «كلاَّ» ردع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن عادة العجلة وحثّ على الأناة.
وقال جماعة من المفسرين: «كلاَّ» معناه «حقّاً» أي: حقّاً تحبّون العاجلة، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن الإنسان بمعنى الناس.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كلاَّ» أي: أنَّ أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه.
وقيل: «كلاَّ» لا يصلُّون ولا يزكُّون، يريد كفار «مكّة» .(19/561)
«بَلْ تُحِبُّونَ» . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يُحِبُّون، ويَذَرُونَ» بيان الغيبة حملاً على لفظة الإنسان المذكور أولاً لأن المراد به الجنس، وهو اختيار أبي حاتم؛ لأن «الإنسان» بمعنى الناس والباقون: بالخطاب فيهما، إما خطاباً لكفار قريش أي: بل تحبون يا كفار قريش العاجلة، أي: الدار الدنيا والحياة فيها {وَتَذَرُونَ الآخرة} أي تدعون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدم والإقبال عليه بالخطاب.
واختار الخطاب أبو عبيد، قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الإنسان قبل ذلك.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} فيه أوجه:
أحدها: أن يكون «وجوهٌ» مبتدأ، و «نَاضِرةٌ» نعتٌ له، و «يَومئذٍ» منصوب ب «نَاضِرَةٌ» و «ناظِرَةٌ» خبره، و «إلى ربِّها» متعلق بالخبر. والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى، وهذا معنى صحيح، والنَّاضرة: من النُّضرة وهي التنعم، ومنه غصن ناضر.
الثاني: أن تكون «وُجوهٌ» مبتدأ أيضاً، و «نَاضِرةٌ» خبره، و «يَوْمئذٍ» منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، كقوله: [المتقارب]
4996 - ... ... ... ... ... ... ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ
وتكون «نَاضِرةٌ» نعتاً ل «وُجوهٌ» أو خبراً ثانياً او خبراً لمبتدأ محذوف، و «إلى ربِّها» متعلق ب «ناظرة» كما تقدم.
وقال ابن عطية: وابتدأ بالنكرة؛ لأنها تخصصت بقوله: «يوْمَئذٍ» .
وقال أبو البقاء: وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة.
وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية: فلأن قوله «تخصصت» بقوله: «يَوْمئذٍ» هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه، وهو محال؛ لأنها جامدة، وإما لأنها موصوفة به، وهو محال أيضاً؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها.
وأما قول أبي البقاء: فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم.
الثالث: أن يكون «وُجوهٌ» مبتدأ، و «يُوْمئذٍ» خبره.
قاله أبو البقاءِ.
وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة.(19/562)
أما المعنى: فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك، وأما الصناعة: فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلالُ» .
الرابع: أن يكون «وُجوهٌ» مبتدأ و «نَاضِرةٌ» خبره، و {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ، قاله ابن عطية.
وفيه نظر؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام؛ إذ الظاهر تعلُّق «إلى» ب «نَاظِرةٌ» اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة» خبر لمبتدأ مضمر، أي: هي ناظرة إلى ربها، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف.
الخامس: أن يكون الخبر ل «وُجوهٌ» مقدَّراً، أي: وجوه يومئذ ثمَّ، و «نَاضِرةٌ» صفة وكذلك «ناظرة» .
قاله أبو البقاء: وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك.
والوجه: الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات. وكون «إلى» حرف جر، و «ربها» مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى» اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى «الرب» ويجمع على «آلاء» نحو {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا} [الرحمن: 13]- وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و «ربِّهَا» خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة» بمعنى منتظرة والتقدير: وجوه منتظرة نعمة ربها.
وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم.
وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة، فقال - بعد أن جعل التقديم في «إلى ربها» مؤذناً بالاختصاص -: والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقّع والرجاء؛ ومنه قول القائل: [الكامل]
4997 - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ ... والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا
وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب «مكة» وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقايلهم تقول: «عُيَيْنتي نويظرة» إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم.
قال شهاب الدين: وهذا كالحوم على من يقول إن «نَاظِرةٌ» بمعنى منتظرة، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول، فقال: ودخول «إلى» مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى» ؛ ألا ترى أنك لا تقول: انتظرت(19/563)
إلى زيد، وتقول: نظرت إلى زيد تعني نظر العين، ف «إلى» تصحب نظر العين، ولا تصحب نظر الانتظار، فمن قال: إن «ناظرة» بمعنى «منتظرة» فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه.
وقال القرطبي: «إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} [الزخرف: 66] ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] ، {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] ، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر» إلى «وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان» .
وقال الأزهري: «إن قول مجاهد: تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذا تقوله العرب؛ لأنهم يقولون: نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته» ؛ قال: [الطويل]
4998 - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً ... مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ
لما أرادوا الانتظار قال: تنظراني، وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه.
قال الشاعر: [الطويل]
4999 - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها ... مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ
وقال آخر: [الطويل]
5000 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى..... ... ... ... ... ... ... .
والنّضْرة: طرواة البشرة وجمالها، وذلك من أثر النعمة، يقال: نضر وجهه فهو ناضر.
وقال بعضهم: نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف، أي ثواب ربها ونحوه.(19/564)
قال مكي: «لو جاء هذا لجاز: نظرت إلى زيد، بمعنى: نظرت إلى عطاء زيد، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني» .
ونضَره الله ونضَّره، مخففاً ومثقلاً، أي: حسنه ونعمه.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نَضَّر اللَّهُ أمْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا» يروى بالوجهين.
ويقال للذهب: نُضَار من ذلك، ويقال له: النضر أيضاً.
ويقال: أخضر ناضر كأسود حالك، وقدح نضار: يروى بالإتباع والإضافة.
والعامة: «ناضرة» بألف، وقرأ زيد بن علي: «نضرة» بدونها، ك «فرح» فهو فرح.
فصل في الرؤية.
روى مسلم في قوله تعالى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
وقال عكرمة: تنظر إلى ربها نظراً، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد: تنظر أمر ربها، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده.
وجمهور أهل السُّنَّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، ويقولون: النظر المقرون ب «إلى» ليس اسماً للرؤية، بل لمقدمة الرؤية، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}
[الأعراف: 198] فأثبت النظر حال عدم الرؤية، ويقال: نظر إليه شزراً، ونظر إليه غضبان ونظر راضياً، ولا يقال ذلك في الرؤية،(19/565)
ويقال: وجوه متناظرة، أي: متقابلة ويقال: انظر إليه حتى تراه، فتكون الرؤية غاية للنظر، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال: [الوافر]
5001 - وجُوهٌ نَاظرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ ... إلى الرَّحْمنٍ تَنتظِرُ الخَلاصَا
ولا رؤية مع النظر المقرون ب «إلى» ، وقال تعالى: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 77] ومن قال: لا يراهم، كفر، قالوا: ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى: {نَاظِرةٌ} أي: منتظرة كقولك: أنا أنظر إليك في حاجتي، أو يكون «إلى» مفرد «آلاء» وهي النعم - كما تقدم - والمراد: إلى ثواب ربها؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل، أو يكون المعنى أنها لا تسأل، ولا ترغب إلا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، كقوله: «اعْبُد الله كأنَّك تَرَاهُ» .
قال ابن الخطيب: والجواب: لنا مقامان:
أحدهما: أن نقول: النظر هو الرؤية كقول موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب.
المقام الثاني: سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية، لكن يقدر حمله على الحقيقة، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأم قولهم: نحمله على الانتظار قلنا: الذي هو بمعنى الانتظار، وفي القرآن غير مقرون، كقوله تعالى: {انظرونا نَقْتَبِسْ} [الحديد: 13] ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] ، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب «إلى» ليس بمعنى الرؤية؛ لأن وروده بمعنى الرؤية، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك وقوله: «وجوه ناظرات يوم بدر» . شعر موضوع، والرواية الصحيحة: [الوافر]
5002 - وجُوهٌ نَاظِراتٌ يَوْمَ بَكْرٍ ... إلى الرَّحمنِ تَنتظِرُ الخَلاصَا
والمراد من هذا الرحمن: مسيلمة الكذاب؛ لأنهم كانوا يسمُّونه رحمن اليمامة، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء.
وقولهم: هو مفرد «آلاء» أي: نعمة ربها.(19/566)
قلنا: فيصدق على أيِّ نعمة كانت.
وإن قلنا: لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة، وإن كانت غاية في القلة والحقارة، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة، فكيف ينتظرون نعمة قليلة، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة، ومثال هذا: أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب «إلى» المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول.
قال
القشيري
: وهذا باطل؛ لأن واحد «الآلاء» يكتب بالألف لا بالياء.
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل.
وأما قولهم: المراد ثواب ربها، فهو خلاف الظاهر، هذا ما ذكره ابن الخطيب.
وروى القرطبي في «تفسيره» قال: خرج «مسلم» عن جرير بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا «ثُمَّ قَرَأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} [ق: 39] » متفق عليه.
وفي كتاب «النسائي» عن صهيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «فيُكشَفُ الحِجابُ فيَنظُرونَ إليْهِ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ» .
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، فيقُولُ اللَّه تعالى: ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةٍ» .(19/567)
وقال القرطبي: وقيل: أضاف النظر إلى العين؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين، قال تعالى: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] ، أي على عينيه، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ} [الملك: 22] .
«فقيل: يا رسُول اللَّهِ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم؟ قال:» الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم «.
قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، أي: وجوه الكفار يوم القيامة شديدة كالحة.
والبَاسِر: الشديد العبوس، والباسل: أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة.
وفي» الصِّحاح «: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها، وبسر الرجل وجهه بسوراً أي: كلح، يقال:» عَبسَ وبَسَرَ «.
وقال السديُّ:» بَاسِرةٌ «متغيّرة، والمعنى: أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها.
قوله تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .
أي: توقن وتعلم.
قال ابن الخطيب: هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق.
والفاقرة هي الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة.
سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر.
قال النابغة: [الطويل]
5003 - أبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقَابلِي ... وضَرْبَةُ فَأسٍ فَوقَ رَأسِي فَاقِرَهْ
أي: داهية مؤثِّرة، يقال: فقرته الفاقرة، أي: كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة.(19/568)
وقال قتادة: «الفاقرة» : الشر، وقال السديُّ: الهلاك.
وقال ابن عباس وزيد: دخول النار، وأصلها الوسم على أنفس البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم. قاله الأصمعي.
يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر مَلْويّ لتذلله وتروضه.(19/569)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
قوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي} «كَلاَّ» ردْعَ وزَجْر، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف فقال: {إِذَا بَلَغَتِ التراقي} أي: بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] وقوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] .
وقيل: «كَلاّ» معناه «حقّاً» إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي.
وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. و «التراقي» : مفعول «بلغت» والفاعل مضمر، أي: النفس وإن لم يجرِ لها ذكر، كقول حاتم: [الطويل]
5004 - أمَاوِيَّ ما يُغنِي الثَّراءُ عن الفَتَى ... إذَا حَشْرجتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي: حشرجت النفس.
وقيل: في البيت: إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس، والعامل في «إذَا بَلغت» معنى قوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 30] ، أي: إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى، ويكون قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] معطوف على «بلغت» .
و «التراقي» : جمع «ترقوة» ، أصلها: «تراقو» قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها.(19/569)
والترقوة: أحد عظام الصدر. قاله أبو حيان، والمعروف غير ذلك.
قال الزمخشري: ولكل إنسان ترقوتان، فعلى هذا يكون من باب: غليظ الحواجب وعريض المناكب.
وقال القرطبي: «هي العظام المكتنفة لنُقْرة النحر، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر، وهو موضع الحَشْرجة» .
قال دريدُ بن الصمَّةِ: [الوافر]
5005 - ورُبَّ عَظِيمةٍ دَافعْتُ عَنْهَا ... وقَدْ بَلغَتْ نُفوسُهُمُ التَّراقِي
وقال الراغب: «التَّرْقُوة» : عظم وصل ما بين نُقرة النحر والعاتق انتهى.
وقال الزمخشري: العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال. ووزنها: «فَعْلُوة» فالتاء أصل والواو زائدة، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة «ترق» .
وقال أبو البقاء والفراء: جمع تَرْقُوَة، وهي «فَعْلُوة» ، وليست ب «تَفْعلَة» ، إذ ليس في الكلام «رقو» .
وقرىء: «التراقي» بسكون، وهي كقراءة زيد: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد تقدم توجيهها.
وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
فصل في الرد على من طعن في الآية
قال ابن الخطيب: قال بعض الطَّاعنين: إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه: من راق وحتى تلتف الساق بالساق، والجواب: أن المراد من قوله: {حتَّى إذَا بَلَغَت التَّرَاقِي} ، أي: إذا حصل بالقرب من تلك الحالة.
قوله: {مَن رَاقٍ} مبتدأ وخبر، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.(19/570)
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً.
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، قالوا: هو من الرقية.
وروى سماك عن عكرمة قال: «من راق» يرقي ويشفي.
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً: هل من طبيب يشفيه، وهو قول أبي قلابة وقتادة. وقال الشاعر: [البسيط]
5006 - هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ؟ ... أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ؟
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء: أنه من رقي يرقى: إذا صعد.
والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
وقيل: إن ملك الموت يقول: «مَن راقٍ» أي: من يرقى بهذه النفس.
قال شهاب الدين: و «راقٍ» اسم فاعل إما من «رقى يرقي» من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة» يعني الفاتحة، وهو اسم من أسمائها، وإما من «رَقِيَ يرقَى» من الرَّقْي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول: من يصعد بهذه الروح يقال: «رَقَى - بالفتح - من الرُّقية، وبالكسر من الرَّقْي» ، ووقف حفص على نون «من» سكتة لطيفة، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو «من راشد» .
قال الواحدي: إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون «من» في قوله: «من راق» .
وروى حفص عن عاصم: إظهار النون واللام في قوله: «من راق» و «بل ران» . قال أبو علي الفارسي: «ولا أعرف وجه ذلك» .
قال الواحدي: والوجه أن يقال: قصدوا الوقف على «من» و «بل» ، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
قوله: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} ، أي: أيقن الإنسان أنه الفراق، أي: فراق الدنيا، والأهل(19/571)
والمال والولد، وذلك حين يعاين الملائكة، وسمي اليقين هنا بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً.
قال ابن الخطيب: وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باقٍ بعد موت البدنِ؛ لأن الله - تعالى - سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق} . الالتفاف هو الاجتماع، قال تعالى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] ومعنى الكلام: اتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
وقال الشعبي وغيره: التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكربِ.
قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى.
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضاً: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفنِ.
وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت.
قال النحاس: القول الأول أحسنها، لقول ابن عباس: هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحنِ العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساقٍ.
قال أهل المعاني: إن الإنسان إذا دهمته شدة شمَّر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق، قال الجعديُّ: [الطويل](19/572)
5007 - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا ... وإنْ شَمَّرتْ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
قوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} . أي: إلى خالقك يومئذ، أي: يوم الساق، أي: المرجع، و «المساق» «مفعل» من السوق وهو اسم مصدر.
قال القرطبي: «المساق» : مصدر ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} «لا» هنا دخلت على الماضي، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى: لم يصدق ولم يصل.
قال: [الرجز]
5008 - إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا
وقال آخر: [الطويل]
5009 - وأيُّ خَمِيسٍ، لا أتَانَا نِهَابُهُ ... وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا
وقال مكيٌّ: «لا» الثانية نفي، وليست بعاطفة، ومعناه: فلم يصدق ولم يصل. قال شهاب الدين: «وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه» .
وجعل الزمخشري {فلا صدق وصلى} عطفاً على الجملة من قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} قال: وهو معطوف على قوله: «يسأل أيان» أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن الكريم.
واستبعده أبو حيان.
وقال الكسائي: «لا» بمعنى «لم» ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله:
{فَلاَ اقتحم العقبة} [البلد: 11] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه: فهلا اقتحم، بحذف حرف الاستفهام.(19/573)
وقال الأخفش: «فلا صدّق» أي: لم يصدق، كقوله تعالى: «فَلا اقْتَحَمَ» أي: لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي: لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير: [الطويل]
5010 - ... ... ... ... ... ... . ... فَلاَ هُوَ أبْداهَا ولمْ يتقدَّمِ
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه لم يصدق بالرسالة، «ولا صلى» أي: دعا لربه - عَزَّ وَجَلَّ - وصلى على رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقال قتادة: «فلا صدق» بكتاب الله «ولا صلى» لله تعالى.
[وقيل: لا صدق بمالٍ ذخراً له عند الله تعالى «ولا صلى» الصلوات التي أمر الله بها.
وقيل: فلا آمن بقلبه] ولا عمل ببدنه.
قيل: المراد أبو جهل.
وقيل: الإنسان المذكور في قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان} [القيامة: 3] .
قوله: {ولكن كَذَّبَ وتولى} الاستدراك هنا واضح؛ لأنه لا يلزم من نفي التصدق والصلاة، التكذيب والتولي لأن كثيراً من المسلمين كذلك فاستدرك ذلك بأن سببه التكذيب والتولي، ولهذا يضعف أن يحمل نفي التصديق على نفي تصديق الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لئلا يلزم التكرار فتقع «لكن» بين متوافقين، وهو لا يجوز.
قال القرطبي: ومعناه كذب بالقرآن، وتولى عن الإيمان.
قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} . أي: يتبختر افتخاراً بذلك. قاله مجاهد وغيره.
«يتَمطَّى» جملة حالية من فاعل «ذهب» ، ويجوز أن يكون بمعنى شرع في التمطِّي، كقوله: [الطويل]
5011 - فَقامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسْيفهِ ...(19/574)
وتمطى - هنا - فيه قولان:
أحدهما: أنه من «المَطَا» وهو الظهر، ومعناه: يَتبختَرُ أي يمد مطاه ويلويه تبختراً في مشيته.
الثاني: أن أصله «يتمطّط» أي يتمدّد، ومعناه: أنه يتمدد في مشيته تبختراً، ومن لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول، ويفارقه في مادته، إذ مادة «المطا» : «م ط و» ، ومادة الثاني: «م ط ط» ، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهية اجتماع الأمثال نحو: تطيبت، وقصيت أظفاري، وقوله: [الراجز]
5012 - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ ... والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المُطَيْطَاءِ وخدَمتهُمْ من فَارِس والرَّومِ كان بَأسهُمْ بَيْنَهُمْ» .
و «المطيط» : الماء الخاثر أسفل الحوض؛ لأنه يتمطّط، أي: يمتدّ فيه.
وقال القرطبي: التمطط: هو التمدد من التكسُّل، والتثاقل فهو متثاقل عن الداعي إلى الحق، والتمطي يدل على قلة الاكتراث.
قوله: {أولى لَكَ فأولى} تقدم الكلام عليه في أول سورة القتال، وإنما كررها هنا مبالغة في التهديد والوعيد، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد؛ قالت الخنساء: [المتقارب]
5013 - هَمَمْتُ بنَفْسِيَ كُلَّ الهُمومِ ... فأولَى لِنفْسِيَ أوْلَى لَهَا
وقال أبو البقاء هنا: «وزن» أولى فيه قولان:
أحدهما: «فَعْلَى» والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث.
والثاني: هو «أفعل» ، وهو على القولين هنا «علمٌ» ، ولذلك لم ينون، ويدل عليه ما حكى أبو زيد في «النوادر» : هو أولاة - بالتاء - غير مصروف، لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد، فعلى هذا يكون أولى مبتدأ، و «لك» الخبر.(19/575)
والثاني: أن يكون اسماً للفعل مبنياً، ومعناه: وليك شر بعد شر، و «لك» تبيين.
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومقاتل والكلبي: «خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنَ المَسْجدِ ذَاتَ لَيْلةٍ فاسْتقَبلهُ أبُو جَهْل على بَابِ المَسْجدِ ممَّا يلي باب بني مَخْزُوم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أوْلَى لَكَ فأوْلَى، ثُمَّ أوْلَى لَكَ فأوْلَى «فقال أبو جهلٍ: أتُهدِّدنِي؟ فواللَّهِ إنِّي لأعزُّ أهل هذا الوَادِي وأكْرمهُ، ولا تَسْتطِيعُ أنْتَ ولا ربُّكَ أن تَفْعَلا بِي شَيْئاً ثُمَّ انسَلَّ ذَاهِباً» ، فأنزل الله - تعالى - كما قال الرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ومعنى أوْلَى لَكَ يعني ويل لك؛ قال الشاعر: [الوافر]
5014 - فأوْلَى ثُمَّ أوْلَى ثُمَّ أوْلَى ... وهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ؟
وقيل: هو من المقلوب، كأنه قيل: «ويل» ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كقوله: [الطويل]
5015 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... لَكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
أي لك الويل ثم الويل.
وقيل: معناه الذم لك أولى من تركه.
وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي «أولى» في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كما تقول: قد وليت الهلاك، أي دانيت الهلاك، وأصله من «الولي» وهو القرب، قال تعالى: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} [التوبة: 123] أي: يقربون منكم.
قال القرطبي: «وقيل: التكرير فيه على معنى من ألزم لك على عملك السيّىء الأول ثم الثاني والثالث والرابع» .(19/576)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان} ، أي: أيظن ابن آدم «أن يترك سُدى» أي: أن يخلى مهملاً، فلا يؤمر ولا ينهى. قاله ابن زيد ومجاهد.(19/576)
وقيل: أن يترك في قبره أبداً كذلك لا يبعث، و «سدى» حال من فاعل «يترك» ومعناه: مهملاً، يقال: إبل سدى، أي: مهملة.
وقال الشاعر: [المتقارب]
5016 - وأقْسِمُ باللَّهِ جَهْدَ اليَمِي ... نِ ما خلقَ اللَّهُ شَيْئاً سُدَى
أي: مهملاً، وأسديت حاجتي، أو ضيعتها، ومعنى أسدى إليه معروفاً، أي: جعله بمنزلة الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه.
قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ} . العامة: على الياء من تحت في «يك» رجوعاً إلى الإنسان.
والحسن: بتاء الخطاب، على الالتفات إليه توبيخاً له.
وقوله: {مِّن مَّنِيٍّ يمنى} . قرأ حفص: «يُمْنَى» بالياء من تحت.
وفيه وجهان:
أحدهما: أن الضمير عائد على المني - أي يصب - فتكون الجملة في محل جر.
والثاني: أنه يعود للنطفة، لأن تأنيثها مجازيّ؛ ولأنها في معنى الماء. قاله أبو البقاء.
وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان.
وأما النحاة فيجعلونه ضرورة؛ كقوله: [المتقارب]
5017 - ... ... ... ... ... ..... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وقرأ الباقون: «تُمْنَى» بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب؛ لأنها صفة المنصوب.
فصل في معنى الآية
والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت «منى» لإراقة الدماء، والنُّطفة: الماء القليل، ويقال: نطف الماء، أي: قطر، أي ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره. ثم قال تعالى: {فَخَلَقَ فسوى} أي: فسواه تسوية، وعدله تعديلاً بجعل الروح فيه.
وقيل: فخلق فقد فسوى فعدل.(19/577)
وقيل: «فخلق» أي: نفخ فيه «فسوى» فكمل أعضاءه. قاله ابن عباس ومقاتل.
{فَجَعَلَ مِنْهُ} أي: من الإنسان.
وقيل: من المني «الزوجين، الذكر والأنثى» أي: الرجل والمرأة.
فقوله تعالى {الذكر والأنثى} يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور، وقد تقدم تحقيقه في «طه» ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [طه: 63] .
فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى
قال القرطبي: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة «الشورى» أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «يمنى» في قوله تعالى {من منيّ يمنى} ؟ فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النَّجاسة، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله - تعالى - إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في «عيسى ومريم» - عليهما الصلاة والسلام -
{كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} [المائدة: 75] والمراد منه قضاء الحاجةِ.
قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بَقَادِرٍ} أي: أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء.
وقوله: «بقَادرٍ» اسم فاعل مجرور ب «باء» زائدة في خبر «ليس» وهذه قراءة العامة.
وقرأ زيد بن علي: «يقدر» فعلاً مضارعاً.
والعامة: على نصب «يحيى» ب «أن» لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة.
وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان: بسكونها، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب. وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف، وجمهور النَّاس على وجوب فك الإدغام.
قال أبو البقاء: لئلا يجمع بين ساكنين لفظاً وتقديراً.
يعني أن الحاء ساكنة، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضاً للإدغام، فيلتقي ساكنان لفظاً، وهو متعذر النطق، فهذان ساكنان لفظاً.(19/578)
وأما قوله: تقديراً؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك، وقراءته أن يُحْيِّ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر: [الكامل]
5018 - تَمْشِي بِسُدَّة بَيْتهَا فَتُعيّ ... وأما أهل «البصرة» فلا يدغمونه ألبتة قالوا: لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب.
وقال مكي: وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرَّاء لأجل تحرك الياء الثانية، وهو لا يجوز عند البصريين، لأن الحركة عارضة.
قال شهاب الدين: ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء، وهو قوله: «فتعيّ» فهذا مرفوع وقد أدغم، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام «.
فصل في معنى الآية
المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلَى.
روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أنَّه كَانَ إذَا قَرأهَا، قال: «سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وبَلَى» «.
وقال ابن عباس: من قرأ {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} إماماً كان أو غيره فليقل:» سُبْحَانَ ربِّيّ الأعْلَى «ومن قرأ: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1] إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غير.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنَ قَرَأ سُورةَ القِيامةِ شَهِدتُ أنَا وجِبْريلُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنه كَانَ مُؤمِناً بِيوم القِيامَةِ وجَاءَ وَوجْههُ يُسْفِرُ عَن وُجُوهِ الخَلائقِ يَوْمَ القِيامَةِ «والله أعلم وأحكم.(19/579)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
مكية، وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: هي مكية.
وقال الجمهور: مدنية.
وقيل: فيها مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} [الإنسان: 23] إلى آخر السورة وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيدج قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقرأ {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له دعه يا ابن الخطاب قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه، وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوف إلى الجنة ".(20/3)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -، والمقصود من السورة عام، وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} في «هل» هذه وجهان:(20/3)
أحدهما: أنها على بابها من الاستفهام المحض، أي: هو ممن يسال لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة. كذا قاله أبو حيان.
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام: والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه، كيف يمتنع عليه بعثه، وإحياؤه بعد موته، وهو معنى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] أي: فهلا تذكرون، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى.
فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض، وهذا هو الذي يجب أن يكون؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه.
والثاني: قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه: أنها بمعنى «قد» قال الفرَّاء: «هل» تكون جحداً وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره: بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ .
وقال الزمخشري: «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: «أهل» ؛ بدليل قوله: [البسيط]
5019 - سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا ... أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ؟
فالمعنى: أقد أتى، على التقرير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب «حين من الدهر لم يكن» فيه {شَيْئاً مَّذْكُوراً} أي: شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى.
فقوله «على التقرير» يعني المفهوم من الاستفهام، وهو الذي فهمه مكي من نفس «هل» لا تكون بمعنى «قد» إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم، أو تقريراً كالآية الكريمة.
فلو قلت: هل جاء زيد، يعني: قد قام، من غير استفهام لم يجز. وغيره قد جعلها بمعنى «قد» من غير هذا القَيْدِ.
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد، وحسن ذلك اختلاف لفظهما؛ كقوله: [الطويل](20/4)
5020 - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ ... فالباء بمعنى «عن» وهي مؤكدة لها، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ؛ كقوله: [الوافر]
5021 - فَلاَ - واللَّهِ - لا يُلْفَى لِمَا بِي ... ولا لِلمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى «قد» ، وبقي على الزمخشري قيد آخر، وهو أن يقول: في الجمل الفعلية، لأنه متى دخلت «هل» على جملة اسمية استحال كونها بمعنى «قد» لأن «قد» مختصة بالأفعال.
قال شهاب الدين: وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن «قد» لا تباشر الأسماء.
فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية
قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي: إن المراد بالإنسان هنا آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو مروي عن ابن عباس.
وقيل: المراد بالإنسان: بنو آدم لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} .
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن.
وقوله: {حِينٌ مِّنَ الدهر}
قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح.
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره.
وقال الحسن: خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر(20/5)
والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض، وآخر ما خلق آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فهو كقوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} .
فإن قيل: إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً {حينٌ من الدَّهْرِ} مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً.
فالجواب: أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان، ومن قال: إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
قوله: «لم يكن» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحال.
والثاني: أنها في موضع رفع نعتاً ل «حين» بعد نعت، وعلى هذا فالعائد محذوف، تقديره: حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. والأول أظهر لفظاً ومعنى.
فصل في تفسير الآية
روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} : لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل: كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً. قاله الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلام: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق حيواناً بعده، ومن قال: إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} إذ كان مضغة وعلقة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قرأ هذه الآية: ليتها تمَّت فلا نبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى أولاده , وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فقال: ليتا تمّت.(20/6)
قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} . يعني ابن آدم من غير خلاف «من نُطْفَة» أي: من ماء يقطر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء، فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه: [الرجز]
5022 - مَا لِي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ ... هَلْ أنْتِ إلاَّ نُطفةٌ فِي شَنِّه؟
وجمعها: نطف ونطاف.
قوله: «أمْشَاجٍ» : نعت ل «نُطْفَةٍ» ووقع الجمع نعتاً لمفرد؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76] أو جعل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع.
وقال الزمخشري: «نُطْفةٍ أمشاج» كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي الفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال: نطفة مشج؛ قال الشماخ: [الوافر]
5023 - طَوتْ أحْشَاءَ مُرْتِجَةٍ لوقتٍ ... عَلى مَشجٍ سُلالتُهُ مَهِينُ
ولا يصح في «أمْشَاجٍ» أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما.
فقد منع أن يكون «أمشاج» جمع «مشج» بالكسر.
قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن «أفعالاً» لا يكون مفرداً.
قال سيبويه: وليس في الكلام «أفْعَال» إلا أن يكسر عيله اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد ب «أفعال» تأولوه انتهى.
قال شهاب الدين: هو لم يجعل «أفعالاً» مفرداً، إنما قال: يوصف به المفرد، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة، وكل قطعة من البرد برداً، فوصفوهما بالجمع.
وقال أبو حيان: «الأمشاج» : الأخلاط، وأحدها «مَشَج» بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال، أو مشيج كشريف وأشراف. قاله ابن العربي؛ وقال رؤبة [الرجز](20/7)
5024 - يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ ... لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ
وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير: [الوافر]
5025 - كَأنَّ الرِّيشَ والفُوقيْنِ مِنْهُ ... خِلافُ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مشيجُ
ويقال: مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط، فمشيج ك «خليط» ، وممشوج ك «مخلوط» انتهى.
فجوز أن يكون جمعاً ل «مشيج» كعدل، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك.
وقال الزمخشري: «ومشجه ومزجه بمعنى، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ» .
وقال القرطبي: ويقال: مشجت هذا بهذا أي: خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلواط وخليط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، وهو دم الحيض، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها، فاختلطت النُّطفة بالدم.
وقال الفراء: أمشاج: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: الأمشاج في الحمرة، والبياض في الحمرة، وعنه أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة.
قال القرطبي: «وقد روي هذا مرفوعاً؛ ذكره البزار» .
وعن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم، ونحوه.(20/8)
قال قتادة: هي أطوار الخلق: طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وطوراً عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً.
قال ابن الخطيب: وقيل: إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والتقدير: من نطفة ذات أمشاج، فحذف المضاف وتم الكلام.
قوله: «نبتليه» . يجوز في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل خلقنا، أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له.
والثاني: أنها حال من الإنسان، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى «نبتليه» نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف.
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة» .
قال شهاب الدين: «وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم» .
وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل: إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء، وهذا لا حاجة إليه.
فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه
قوله: «نبتليه» : لنبتليه، كقولك: «جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا» ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}
[المدثر: 6] أي: لتستكثر.
ومعنى: «نبتليه» نختبره، وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار، وفيما يختبر به وجهان:
أحدهما: قال الكلبي: نختبره بالخير والشر.
والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء.(20/9)
وقيل: «نَبْتَلِيه» نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ. وقيل: نكلفه؛ ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
والمعنى: إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، والمعنى: جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] وقد يراد بالسميع المطيع، كقوله: «سَمْعاً وطَاعَة» ، وبالبصير: العالم، يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل: المراد بالسمع والبصر: الحاسَّتان المعروفتان، والله - تعالى - خصهما بالذكر؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي: بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.
فصل في ان العقل متأخر عن الحواس
قال ابن الخطيب: أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، قال: والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء: هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله: {إِمَّا شَاكِراً} . نصب على الحال، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من مفعول «هَدَيْنَاهُ» أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء: وقيل: وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين: لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.(20/10)
والثاني: أنه حال من «السبيل» على المجاز.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، كقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً» .
والعامة على كسر همزة «إما» وهي المرادفة ل «أو» وقد تقدم خلاف النحويين فيها.
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا: «إن» الشرطية زيدت بعدها «ما» ثم قال: «وهذا لا يجيزه البصريون؛ لأن» إن «الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6] ، ولا يصح إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب» شاكر «، وأيضاً لا دليل على الفعل» انتهى.
قال شهاب الدين: لا نسلم أنه يلزم رفع «شاكراً» مع إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب «شاكراً» تقديره: إنا خلقناه شاكراً فشكوراً، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً.
وقرأ أبو السمال، وأبو العجاج: بفتحها، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها العاطفة وأنها لغة، وبعضهم فتح الهمزة؛ وأنشدوا على ذلك: [الطويل]
5026 - تُنفِّخُهَا أمَّا شِمالٌ عَرِيَّةٌ ... وأمَّا صَبَا جُنحِ العَشِيِّ هَبُوبُ
بفتح الهمزة.
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء؛ قال [البسيط]
5027 - أيْمَا إلَى جَنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ ... وحذف الواو بينهما.
والثاني: أنها «إما» التفصيلية وجوابها مقدر.
قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً فبتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى، ولم يذكر غيره.(20/11)
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب بعد حكايته أن «شاكراً وكفوراً» حالان: إنّ المعنى: كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
وقيل: وانتصب «شاكراً وكفوراً» بإضمار «كان» والتقدير: سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
وقيل: معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي يتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته كقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك: «قد نصحت لك إن شئت فاقبل، وإن شئت قاترك» فتحذف الفاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد، أي: إنا هديناه السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .
وقيل: حالان من السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر.
وقيل: حالان من السبيل، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
قال ابن الخطيب: وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة.
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون «إما» في هذه الآية كما في قوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] والتقدير: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة، قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً} [الإنسان: 4] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل الأول، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين، سواء آمن أو كفر، وبهذا بطل قول المجبرة.
وأجيب: بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق، وبطل تأويل المعتزلة.(20/12)
فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور
قال القرطبي: «جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر، وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه، حكاه الماوردي» .(20/13)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ} .
قرأ نافع والكسائي، وهاشم وأبو بكر، «سَلاسِلاً» والباقون: بغير تنوين.
ووقف هؤلاء، وحمزة، وقنبل عليه بالألف بلا خلاف.
وابن ذكوان والبزي وحفص: بالألف وبدونها - يعني بلا ألف - والباقون: وقفوا بالألف بلا خلاف.
فقد تحصّل من هذا أن القراء على أربع مراتب، منهم من ينون وصلاً ويقف بالألف وقفاً بلا خلاف وهما حمزة وقنبل، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف بلا خلاف، وهو أبو عمرو وحده، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف تارة وبدونها أخرى، وهم ابن ذكوان وحفص والبزي، فهذا ضبط ذلك.(20/13)
فأما التنوين في «سَلاسِل» فذكروا له أوجهاً:
منها: أنه قصد بذلك التناسب؛ لأن ما قبله وما بعده منون منصوب.
ومنها: أن الكسائي وغيره من أهل «الكوفة» حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا «أفعل منك» .
قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها، وأن هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً قالوا: «صواحب وصواحبات» ، وفي الحديث: «إنَّكُنَّ لصَواحِباتُ يُوسُف» ؛ وقال: [الرجز]
5028 - قَدْ جَرتِ الطَّيْرُ أيَامِنينَا ... فجمع «أيامن» جمع تصحيح المذكر.
وأنشدوا: [الكامل]
5029 - وإذَا الرِّجالُ رَأوا يَزيدَ رَأيْتهُمْ ... خُضعَ الرِّقابِ نَواكِس الأبْصَارِ
بكسر السين من «نواكس» وبعدها ياء تظهر خطًّا لا لفظاً لالتقاء الساكنين، وهذا على رواية كسر السين، والأشهر فيها نصب السين، فلما جمع شابه المفردات فانصرف.
ومنها: أنه مرسوم في إمام «الحِجَاز» و «الكوفة» بالألف، رواه أبو عبيد، ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف «البصرة» أيضاً.
وقال الزمخشري: فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف ما لا ينصرف.
قال شهاب الدين: «وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة، لا سيما على مشيخة(20/14)
الإسلام، وأئمة العلماء الأعلام، ووقف هؤلاء بالألف ظاهر» .
وأما لمن لم ينونه فظاهر، لأنه على صيغة منتهى الجموع.
وقولهم: قد جمع نحو «صواحبات، وأيامنين» لا يقدح؛ لأن المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وعدم وقوفهم بالألف واضح أيضاً. وأما من لم ينون ووقف بالألف فاتباعاً للرسم الكريم كما تقدم.
وأيضاً: فإن الروم في المفتوح لا يجوزه القراء، والقارئ قد يبين الحركة في وقفه فأتوا بالألف ليبين منها الفتحة.
وروي عن بعضهم أنه يقول: «رَأيْتُ عُمَراً» بالألف، يعني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلاسل: جمع سلسلة وهي القيود في جهنم، وقد تقدم الكلام عنها في سورة «الحاقة» .
فصل
اعلم أنه بيّن - هاهنا - حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء، وكلّفهم ومكّنهم مما أمرهم فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثَّواب، والاعتداد هو اعتداد الشَّيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه، كقوله تعالى: {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] ، والأغلال: جمع غل، تغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم. وقد تقدم الكلام في السعير أيضاً.
قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} الآية. لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للشاكرين، والأبرار أهل الصدق، واحدهم: برّ، وهو من امتثل أمر الله تعالى.
وقيل: البر: الموحد، والأبرار: جمع «بار» مثل: «شاهد وأشهاد» .
وقيل: هو جمع «بر» مثل: «نهر وأنهار» .
وفي «الصحاح» : وجمع البر: الأبرار، وجمع البار: البررة، وفلان يبرُّ خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّما سمَّاهُم اللهُ - تَعالَى - الأبْرَارَ؛ لأنَّهُمْ بَرُّوا الآبَاءَ والأبناءَ، كما أنَّ لِوالديكَ عَلَيْكَ حقًّا، كذَلكَ لَوَلدكَ عَليْكَ حقًّاً» .
وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذَّرَّ.(20/15)
وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدّون حق الله، ويوفون بالنذر، وفي الحديث: «الأبْرَارُ الَّذينَ لا يُؤذُوَن أحَداً» .
{يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} . أي: من إناء فيه الشراب.
قال ابن عباس: يريد الخمر.
والكأس في اللغة: الإناء فيه الشراب، وإذا لم يسمَّ كأساً.
قوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} المزاج: ما يمزج به أي: يخلط، يقال: مزجه يمزجه مزجاً أي: خلطه يخلطه خلطاً.
قال حسان: [الوافر]
5030 - كَأنَّ سَبيَئةً من بَيْتِ رَأسٍ ... يَكونُ مَزَاجهَا عَسلٌ ومَاءُ
فالمزاج كالقِوام اسم لما يقاوم به الشيء، ومنه مزاج البدن: وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة.
و «الكافور» : طيب معروف، وكأن اشتقاقه من الكفر، وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته، والكافور أيضاً: كمائم الشجر الذي يغطّي ثمرتها.
قال بعضهم: الكافُور: «فاعول» من الكفر كالنّاقور من النَّقر، والغامُوس من الغمس، تقول: غامسته في الماء أي: غمسته، والكفر: القرية والجبل العظيم؛ قال: [الطويل]
5031 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تُطَلَّعُ ريَّاهُ من الكفَرَاتِ
والكافور: البحر، والكَافِر: الليل، والكَافِر: الساتر لنعم الله تعالى، والكَافِر: الزارع لتوريته الحب في الأرض؛ قال الشاعر: [السريع]
5032 - وكَافرٍ مَاتَ على كُُفْرِهِ ... وجَنَّةُ الفِرْدَوسِ للكَافِرِ
والكفَّارة: تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف شجر مكنون، فيغرزونه بالحديد، فيخرج إلى ظاهر الشجر، فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.(20/16)
ويقال: كفر الرجل يكفر إذا وضع يده على صدره.
فصل في الآية
قال ابن الخطيب: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً، فما السبب في ذكره؟ .
والجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن عباس: اسم عين ماء في الجنة يقال له: عين الكافور أي: يمازجه ماء هذا العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته.
وثانيها: أن رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم، فخلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك التراب فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون ريحها لا طعمها.
وثالثها: أن الله تبارك وتعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه - تعالى - يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها من المضرات في الدنيا.
قال سعيد عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك.
وقيل: أراد بالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب، كقوله تعالى: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] ، أي: كَنَارٍ.
وقيل: كان في علم الله تعالى، و «كان» زائدة، أي: من كأس مزاجها.
قال القرطبي: ويقال: «كافور وقافور» وهي قراءة عبد الله بالقاف بدل الكاف، وهذا من التعاقب بين الحرفين كقولهم: «عربي فجّ وكجّ» .
ومفعول «يشربون» إما محذوف، أي: يشربون ماء أو خمراً من كأس، وإما مذكور وهو «عيناً» ، وإما «من كأس» و «من» مزيدة فيه، وهذا يتمشّى عند الكوفيين والأخفش.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولاً، وبحرف(20/17)
الإلصاق آخراً؟ قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم، وأول غايته، وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول: شربت الماء بالعسل» .
قوله: {عَيْناً} . في نصبها أوجه:
أحدها: بدل من «كافوراً» ؛ لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وفي برده.
الثاني: أنها بدل من محل «من كأس» . قاله مكي. ولم يقدر حذف مضاف.
وقدر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً، خمر عين. وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدراً على وجه البدل من «كافور» .
قال: «والثاني: بدل من كافور، أي: من ماء عين، أو خمر عين» . وهو معنى حسن.
والثالث: أنها مفعول ب «يشربون» يفسره ما بعده، أي يشربون عيناً من كأس.
الرابع: أن ينتصب على الاختصاص.
الخامس: بإضمار «يشربون» يفسره ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظر؛ لأن الظاهر أنه صفة ل «عين» فلا يصح أن يفسر.
السادس: بإضمار «يعطون» .
السابع: على الحال من الضمير في «مزاجها» . قاله مكي.
وقال القرطبي: «نصب بإضمار أعني» .
قوله: «يشرب بها» . في الباء أوجه:
أحدها: أنها مزيدة، أي: يشربها، ويدل له قراءة ابن أبي عبلة: يشربها معدى إلى الضمير بنفسه.
الثاني: أنها بمعنى «من» .
الثالث: أنها حالية، أي: يشرب ممزوجة بها.
الرابع: أنها متعلقة ب «يشرب» والضمير يعود على الكأس، أي: يشربون العين بذلك الكأس، والباء للإلصاق كما تقدم في قول الزمخشري.
الخامس: أنه على تضمين «يشربون» معنى يلتذّون بها شاربين.
السادس: على تضمينه معنى يروى، أي: يروى بها عباد الله، وكهذه الآية الكريمة في بعض الأوجه قول الهذلي: [الطويل]
5033 - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ(20/18)
فهذه يحتمل الزيادة ويحتمل أن تكون بمعنى «من» .
وقال الفراء: «يشربها ويشرب بها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها: يروى بها وينفع بها، وأما يشربونها فبيِّن، وأنشد قول الهذلي، قال: ومثله: يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً» .
والجملة من قوله «يشرب بها» في محل نصب صفة ل «عيناً» إن جعلنا الضمير في «بها» عائداً على «عيناً» ولم نجعله مفسراً لناصب كما قاله أبو البقاء، و «يفجرونها» في موضع الحال.
فصل في المراد بعباد الله هاهنا
قال ابن الخطيب: قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} يفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، وإذا ثبت هذا فقوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [الزمر: 7] لا يتناول الكفار، بل يختص بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، ولا تدل الآية على أنه - تعالى - لا يريد الكفر للكفار.
قوله: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} . أي: يشققونها شقًّا كما يفجر الرجل النَّهر هاهنا وهاهنا إلى حيث شاءوا، ويتبعهم حيث مالوا مالت معهم.
روى القرطبي عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أرْبع عُيونٍ في الجَنَّةِ اثْنان يَجْرِيَانِ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ؛ إحداهما الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تعالى يُفجِّرونها تفجيراً وعينان يجريان من فَوْقِ العرشِ نضَّاختان: إحداهُما الَّتي ذكر اللهُ تعالى سبيلاً، والأُخرى: التَّسْنِيمُ» ذكره الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» .
وقال: فالتَّسْنيم للمقربين خاصة، شراباً لهم، والكافور للأبرار شراباً لهم، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزَّنجبيل والسَّلسبيل فللأبرار [منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب فما كان للأبرار مزاج] للمقربين صرف، وما كان للأبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج، والأبرار هم الصادقون والمقربون: هم الصديقون.
قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر} يجوز أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ألبتة، ويجوز أن يكون خبراً ل «كان» مضمرة.(20/19)
قال الفراء: التقدير «كانوا يوفون بالنَّذر في الدنيا، وكانوا يخافُون» انتهى. وهذا لا حاجة إليه.
الثالث: جواب لمن قال: ما لهم يرزقون ذلك؟ .
قال الزمخشري: «يوفون» جواب من عيسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ .
قال أبو حيان: «واستعمل» عسى «صلة ل» من «وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد» عسى «غير مقرون ب» أن «وهو قليل أو في الشعر» .
فصل في معنى الآية
معناه: لا يخلفون إذا نذروا، وقال معمر عن قتادة: يأتون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات.
وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله تعالى.
وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار، أي: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا والعرب قد تزيد مرة «كان» وتحذف أخرى.
وقال الكلبي: «يُوفُونَ بالنَّذرِ» أي: يتممون العهود لقوله تعالى {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} [النحل: 91] و {أَوْفُواْ بالعقود} [المادة: 1] أمرٌ بالوفاء بها؛ لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
قال القرطبي: «والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه [من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حد النذر هو إيجاب المكلف على نفسه] من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه» .
وقال ابن الخطيب: الإيفاءُ بالشيء هو الإتيان به وافياً.
وقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن تقول: لله عليَّ كذا وكذا من الصدقة، أو يسلم بأمر يلتمسه من الله - تعالى - مثل أن تقول: إن شفى الله مريضي، أو ردَّ غائبي(20/20)
فعليَّ كذا وكذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله: إن أتى فلان الدَّار فعلى هذا، فمنهم من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذور.
فصل في المراد بالإيفاء بالنذر
قال القشيري: روى أشهب عن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال «يُوفُونَ بالنَّذْرِ» هو نذر العتق، والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال: قال مالك: «يُوفُونَ بالنَّذرِ» قال: النذر هو اليمين.
قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنه تعالى قال عقيبه: «ويخَافُونَ يَوْماً» وهذا يقتضي أنهم إنما وفَّوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ويؤكده قوله تعالى:
{وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهمُ التي ألزموها أنفسهم.
فصل في زيادة كان
قال الفراء وجماعة من أهل المعاني: «كان» في قوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة، والتقدير: كانوا يوفون بالنذر.
قال ابن الخطيب: ولقائل أن يقول: إنا بينا أن «كان» في قوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها؛ لأنه - تعالى - ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي: سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك ين الحال والاستقبال، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنه الآن يوفون بالنذر.
قوله: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ، أي: يخافون يوم القيامة، و «كَانَ شَرُّهُ» في موضع نصب صفة ل «يَوْم» .
و «المُسْتطِيرُ» : المنتشر، يقال: اسْتَطَار يَسْتطِيرُ اسْتيطَاراً، فهو مستطير، وهو «استفعل» من الطيران.
قال الأعشى: [المتقارب]
5034 - فَبَانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا ... دِ صَدعاً على نَأيِهَا مُسْتَطيرَا
والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة، أو استطال إذا امتدّ، ويقال: استطار الحريق إذا انتشر.(20/21)
وقال الفرَّاء: المستطير: المستطيل، كأنه يريد أن مثله في المعنى، لأنه أبدل من اللام راء، والفجر: فجران، مستطيل كذنبِ السَّرحان وهو الكاذب، ومستطير، وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض.
وقال مقاتل: كان شره فاشياً في السموات، فانشقت وتناثرت بالكواكبِ وفزعت الملائكة في الأرض، ونسفت الجبال وغارت المياه.
فإن قيل: أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى، وكل ما كان فعلاً لله، فهو حكمه وصواب، وما كان كذلك لا يكون شرًّا، فكيف وصفها الله بأنها شرّ؟ .
والجواب: إنما سميت شرًّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه، وصعبة عليه كما سميت الأمراض، وسائر الأمور المكروهة شروراً.
قال ابن الخطيب: وقيل: المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
فإن قيل: لم قال: كان شره، ولم يفل: سيكون شره مستطيراً؟ .
فالجواب: أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته.
قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} وهذا الجار والمجرور حال إما من «الطعام» أي: كائنين على حبهم الطعام كقوله تعالى: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} [البقرة: 177] .
قال ابن عباس ومجاهد: على قلة حبهم إياه وشهوتهم له، وإما من الفاعل.
والضمير في «حبه» لله تعالى، أي: على حب الله، وعلى التقدير: فهو مصدر مضاف للمفعول.
قال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطَّعام.
قوله «مسكيناً» . أي: ذا مسكنة، «ويَتيماً» أي: من يتامى المسلمين «وأسِيراً» أي: الذي يؤسر فيحبس، وذلك أن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه، واليتيم: هو الذي مات من يكتسب له، وبقي عاجزاً عن الكسبِ لصغره، والأسير: هو المأخوذ من قومه المملوك رقبة، الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً.(20/22)
قال ابن عباس والحسن وقتادة: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم.
فإن قيل: لمَّا وجب قتله، فكيف يجب إطعامه؟ .
فالجواب: أن القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجهٍ أن يعاقب بوجه آخر، وكذلك لا يحسن فيمن عليه قصاص أن يفعل به ما هو دون القتل، ويجب على الإمام أن يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأسير: المحبوس.
وقال السديُّ: الأسير: المملوك، وقيل: الأسير: الغريم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أسِيرُكَ غَريمُكَ» وقال عطاء: الأسير من أهل القبلةِ وغيرهم.
قال القرطبي: «هذا يعم جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا» .
وقيل: الأسير: الزوجة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ، فإنَّهُنَّ عوانٍ عِنْدكُمْ» .
قال القفال: واللفظ يحتمل كل ذلك؛ لأن أصل الأسر هو الشك بالقدر، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له.
فصل في الكلام على الآية
قال القرطبي: قيل نسخ آية المسكين آية الصدقات، وإطعام الأسير بالسيف قاله سعيد بن جبير.
وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام.
وقال الماورديُّ: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام، وهذا برٌّ وإحسان.(20/23)
قوله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} على إضمار القول، أي: يقولون بألسنتهم لليتيم والمسكين والأسير إنما نطعمكم في الله - جل ثناؤه - فزعاً من عذابه وطمعاً في ثوابه {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} أي: ولا تثنوا علينا بذلك.
قال ابن عباس: كذلك كانت نيَّاتهم في الدنيا حين أطعموا.
وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.
قيل: هذه الآيات نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفى به.
وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر، وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعلي، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد، وأبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ذكره الماوردي.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً.
وقيل: نزلت في علي وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وجارية لهما اسمها فضة.
قال القرطبي: نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً، فهي عامة، وما ذكر عن عليٍّ، وفاطمة لا يصح.
وروى جابر الجعفي في قوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذر} ، عن قنبر مولى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذراً، فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن برأ ولدي صمت ثلاثة أيام شكراً.
وقالت فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مثل ذلك، وقال الحسن والحسين مثل ذلك وذكر الحديث. قال أهل الحديث: جابر الجعفي كذاب.
فصل في الإحسان إلى الغير
قال ابن الخطيب: اعلم أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله، وتارة يكون لغير الله، إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمدٍ وثناء، وتارة يكون لهما، وهذا هو الشرك، والأول هو المقبول عند الله، وأما القسمان الباقيان فمردودان، قال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} [البقرة: 264] .(20/24)
وقال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] ، ولا شك أن التماس الشكر من جنس المنّ والأذى، إذا عرفت ذلك فنقول: القوم لما قالوا: «إنَّما نُطعِمكُمْ لوجْهِ اللهِ» بقي فيه احتمال، أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} .
فصل في الشكر والكفور
الشُّكور والكُفور: مصدران ك «الشكر والكفر» وهو على وزن «الدُّخول والخُروج» هذا قول جمهور أهل اللغة.
وقال الأخفش: إن شئت جعلت الشكور، جماعة الشكر، وجعلت الكفور في قوله تعالى: {فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً} مثل «برد وبرود» وإن شئت جعلته مصدراً واحداً في معنى جمع مثل: قعد قعوداً، وخرج خروجاً.
قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لإرادة مكافأتهم.
والثاني: لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى علَّل المكافأة بخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة.
فإن قيل: إنه - تعالى - لما حكى عنهم الإيفاء بالنذر، علَّل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين: بطلب رضا الله تعالى، وبالخوف، فما الحكمة في ذلك؟ .
فالجواب: أن النذر هو الذي أوجبه على نفسه لأجل الله، فلما كان كذلك، لا جرم علله بخوف القيامة فقط، وإما الإطعام فالله - تعالى - هو الذي شرعه، فلا جرم ضم إليه خوف القيامة.
قوله: {يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} . القَمْطَرِيرُ: الشديد، وأصله كما قال الزجاج: «مشتق من اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطريها وزمت بأنفها» .
قال الزمخشري: اشتقاقه من القطر، وجعلت الميم زائدة؛ قال أسد بن ناعصة: [الخفيف]
5035 - واصْطَليْتَ الحُروبَ فِي كُلِّ يومٍ ... بَاسلَ الشَّرِّ قَمْطَريرَ الصَّباحِ(20/25)
قال أبو حيان: واختلف النحاة في هذا الوزن، والأكثر على أنه لا يثبت «افْمَعَلَّ» في أوزان الأفعال ويقال: اقمطرَّ يقمطرُّ فهو مقمطرّ؛ قال الشاعر: [الرجز]
5036 - قَدْ جَعلَتْ شَبْوَةُ تَزبَئِرُّ ... تَكْسُو استهَا لَحْماً وتقْمَطِرُّ
ويوم قَمْطَرير وقُمَاطر: بمعنى شديد؛ قال الشَّاعرُ: [الطويل]
5037 - فَفِرُّوا إذَا مَا الحَرْبُ ثَار غُبَارُهَا ... ولَجَّ بِها اليَوْمَ العَبُوسُ القُمَاطِرُ
وقال الزجاج: القَمْطَرير: الذي يعبسُ حتى يجتمع ما بين عينيه. انتهى.
فعلى هذا استعماله في اليوم مجاز، وفي بعض كلام الزمخشري، أنه جعله من «القمط» فعلى هذا تكون الرَّاءان فيه مزيدتين.
وقال القرطبي: «القمطرير: الطَّويل» ؛ قال الشاعر:
5038 - شَدِيداً عَبُوساً قَمْطَريراً ... تقول العرب: يوم قمطرير، وقُماطر، وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء: [الطويل]
5039 - بَنِي عَمَِّنَا هل تَذْكُرونَ بَلاءنَا ... عَليْكُمْ إذا مَا كَانَ يومٌ قُماطِرُ
بضم القاف، واقمطرّ: إذا اشتد، وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ وأنشد: [الطويل]
5040 - فَفِرُّوا إذَا ما الحَرْبُ ... البيت المتقدم.
وقال الكسائي: يقال: اقمطرَّ اليوم وازمهرَّ اقمطراراً وازمهراراً، وهو القمطريرُ والزمهريرُ، ويوم مقمطرٌّ، إذا كان صعباً شديداً؛ قال الهذليُّ: [الطويل]
5041 - بَنُو الحَرْبِ ارضْعنَا لَهُم مُقمطرَّةً ... ومَنْ يُلقَ مِنَّا ذلِكَ اليَوْمَ يهْربِ(20/26)
و «العبوس» أيضاً صفة ل «اليوم» ، «يوماً» تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، والمعنى: نخاف يوماً ذا عبوس.
وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرقٌ كالقطران.
وقال مجاهد: إن العبوس بالشَّفتين، والقَمْطرير بالجبهةِ والحاجبينِ فجعلهما من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم.
قوله: {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} . أي: دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه.
وقرأ أبو جعفر: «فوقَّاهم الله» بتشديد القاف على المبالغة.
واعلم أنه - تعالى - لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين: لأجل رضا الله تعالى والخوف من القيامة، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة، وهو قوله جل ثنائه {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} وأما طلبهم رضا الله فاعطاهم الله بسببه «نُضْرةً» في الوجه، أي: حسناً، حين رأوه، «وسروراً» في القلب قال الضحاك: النضرة: البياض والنقاء.
وقال ابن جبير: الحسن والبهاء.
وقال ابن زيد: أثر النعمة.
قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} . «ما» مصدرية، و «جنَّة» مفعول ثانٍ، أي: جزاهم جنة بصبرهم وقدر مكي مضافاً، فقال: تقديره دخول الجنة، ولبس حرير، والمعنى: وجزاهم بصبرهم على الفقر.
وقال القرظي: على الصوم.
وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام، وهي أيام نذر.
وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن معصية الله ومحارمه، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلاً حسناً.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صلى الله عن الصبر، فقال: «الصَّبْرُ عند الصَّدمةِ الأولَى، والصَّبرُ على أداءِ الفَرائضِ، والصَّبرُ على اجتنابِ محارم اللهِ تعالى، والصَّبرُ على المَصائبِ» .(20/27)
قوله تعالى: {جَنَّةً وَحَرِيراً} . أي: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير.
قوله: {مُّتَّكِئِينَ} . حال من مفعول «جزاهم» والعامل فيها «جزى» ولا يعمل فيها «صبروا» ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتِّكاء في الآخرة.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «وجازاهم» .
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون صفة ل «جَنَّةً» .
وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير، فيقال: «مُتَّكِئِينَ هُمْ فِيهَا» لجريان الصفة على غير من هي له.
وقد منع مكي أن يكون «متكئين» صفة ل «جنة» لما ذكرنا من عدم بروز الضمير.
وممن ذهب إلى كون «متكئين» صفة ل «جنة» ، الزمخشري، فإنه قال: «ويجوز أن يكون مُتَّكينَ، ولا يَروْنَ، ودَانيةً، كلها صفات الجنة» . وهو مردود بما تقدم.
ولا يجوز أن يكون «متكئين» حالاً من فاعل «صبروا» ؛ لأن الصبر كان في الدنيا، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة. قال معناه مكي.
ولقائل أن يقول: إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالاً مقدرة، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة، وله نظائر.
قال ابن الخطيب: وقال الأخفش: وقد ينصب على المدح والضمير في «فيها» أي في الجنة وقال الفراء: وإن شئت جعلت «متكئين» تابعاً، كأنه قال: جزاؤهم جنة متكئين فيها.
والأرائك: السُّرُر في الحجال، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: إحداها الأريكة لا تكون إلاَّ حجلة على سرير. وثانيها: السَّجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلاً، وكذلك الذنُوب لا تسمى ذَنوباً حتى تملأ، قاله القرطبي.
وهذا فيه نظر، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي؛ قال: [الكامل]
5042 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَغْشَى المُهَجْهِجْ كالذَّنُوبِ المُرسَلِ
يعني الدَّلو إذا ألقي في البئر، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغاً.(20/28)
قال: والكأس لا تسمى كأساً حتى تُترعَ من الخمر، قال: وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مِهْدًى، فإذا كان فارغاً يُسمَّى طبقاً أو خواناً.
قال ابن الأعرابي: مِهْدى - بكسر الميم -، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى، والمهداء - بالمد - الذي من عادته أن يهدى.
وقيل: الأرائك: الفرش على السرر؛ قال ذو الرمة: [الطويل]
5043 - خُدودٌ جَفتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا ... يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مسَّ الأرَائِكِ
أي: الفرش على السرر.
قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} . فيها أوجه:
أحدها: أنها حال ثانية من مفعول «جزاءهم» .
الثاني: أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في «متَّكئينَ» فتكون حالاً متداخلة.
الثالث: أن تكون صفة ل «جنة» ك «متكئين» عند من يرى ذلك - كما تقدم - عن الزمخشري.
والزمهرير: أشد البرد، وهذا هو المعروف؛ وقيل: هو القمرُ بلغة طيّيء، وأنشد: [الرجز]
5044 - فِي لَيْلةٍ ظلامُهَا قد اعْتكَرْ ... قطَّعتُهَا والزَّمهرِيرُ مَا نَهَرْ
ويروى: ما ظهر، أي: لم يطلع القمر، والمعنى: لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا، ولا قمراً كقمر الدنيا، أي: أنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر، والمعنى: أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر، ووزنه «فعلليل» ، وقيل: المعنى: لا يرون في الجنَّة شدة حر كحرِّ الشمس، ولا زمهريراً، أي: ولا برداً مفرطاً.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّهَا سُبحانَهُ، قالتْ: يَا ربِّ، أكَلَ بَعْضِي بعْضاً، فجعلَ لَهَا نفسينِ: نفساً في الشِّتاء، ونفساً في الصَّيْف فشِدَّةُ ما تَجِدُونَ من البَرْدِ من زَمْهَرِيرِهَا، وشدَّةِ ما تَجِدُونَ من الحرَِّ في الصَّيْفِ من سَمُومِهَا» .(20/29)
قال مرة الهمداني: الزمهرير: البرد القاطع.
وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هو لونٌ من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار أذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحد.
قوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ} العامة على نصبها، وفيها أوجه:
أحدها: أنها عطف على محل «لا يرون» .
الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكِئينَ» فيكون فيها ما فيها.
قال الزمخشري: «فإن قلت:» ودانية عليها ظلالها «علام عطفت؟ .
قلت: على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في» عليهم «، إلاَّ أنها اسم مفرد، وتلك جماعة في حكم مفرد، تقديره: غير رائين فيها شمساً، ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقمر ودنو الظلال عليهم» .
الثالث: أنها صفة لمحذوف، أي: وجنة دانية.
قال أبو البقاء: كأنه قيل: «وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً» أي: أخرى دانية عليهم ظلالها، لأنهم قد وعدوا جنتين، لأنهم خافوا مقام ربهم بقولهم: «إنَّا نخَافُ مِن ربِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» .
الرابع: أنها صفة ل «جنة» الملفوظ بها. قاله الزجاج.
وقال الفراء: نصب على المدحِ، أي: دانية عليهم، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] .
وقرأ أبو حيوة: «ودانية» بالرفع، وفيها وجهان:
أظهرهما: أن يكون «ظلالها» مبتدأ، و «دانية» خبر مقدم، والجملة في موضع الحال.
قال الزمخشري: «والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية» .
والثاني: أن ترتفع «دانية» بالابتداء، و «ظلالها» فاعل به، وبها استدل الأخفش على جواز إعمال اسم الفاعل، وإن لم يعتمد، نحو «قائم الزيدون» ، فإن «دانية» لم تعتمد على شيء مما ذكره النحويون، ومع ذلك فقد رفعت «ظلالها» .(20/30)
وهذا لا حجة فيه لجواز أن يكون مبتدأ وخبراً مقدماً كما تقدم.
وقال أبو البقاء: وحكي بالجر، أي: في جنة دانية، وهو ضعيف، لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. يعني أنه قرئ شاذاً: «وَدانِيةٍ» بالجر على أنها صفة لمحذوف، ويكون حينئذٍ نسقاً على الضمير المجرور من قوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا} أي: ولا في جنة دانية، وهو رأي الكوفيين حيث يجوزون العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، ولذلك ضعفه، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
وأما رفع «ظلالها» فيجوز أن يكون مبتدأ، و «عليهم» خبر مقدم، ولا يرتفع ب «دانية» ، لأن «دنا» يتعدى ب «إلى» لا ب «على» ، ويجوز أن ير فع ب «دانية» على أن يضمن معنى مشرفة؛ لأن «دنا» و «أشرف» متقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءة من نصب «دانية» .
وقرأ الأعمش: «ودانياً» بالتذكير للفصل بين الوصف وبين مرفوعه ب «عليهم» أو لأن الجمع مذكر.
وقرأ أبيّ: «ودَانٍ عَليْهِمْ» بالتذكير مرفوعاً، وهي شاذة. فمذهب الأخفش حيث يرفع باسم الفاعل وإن لم يعتمد، ولا جائز أن يعربا مبتدأ وخبراً لعدم المطابقة.
وقال مكي: «وقرئ» ودانياً «بالتذكير» ثم قال: «ويجوز:» ودانية «بالرفع، ويجوز» دانٍ «بالرفع والتذكير» ، فلم يصرح بأنهما قرئا، وقد تقدم أنهما مقروء بهما، فكأنه لم يطلع على ذلك.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: معناه: أن ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار فهي مظلة عليهم زيادة على نعيمهم.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، وهناك لا شمس في الجنة، فكيف يحصل الظل؟ .
فالجواب: أن أشجار الجنَّة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت الأشجار مظلة منها وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث. ثم قوله: {وَذُلِّلَتْ} يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال عطفاً على دانية(20/31)
فيمن نصبها، أي: ومذللةا ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «عليهم» سواء نصبت «دانية» أو رفعتها، أو جررتها، ويجوز أن تكون مستأنفة.
وأما على قراءة رفع «ودانية» فتكون جملة فعلية عطفت على اسمية، ويجوز أن تكون حالاً كما تقدم.
فصل في تذليل قطوف الجنة
والمعنى: وسخرت لهم قطوفها، أي: ثمارها «تذليلاً» أي: تسخيراً، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.
قال ابن قتيبة: «ذللت» أدنيت منهم، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصير السمك.
وقيل: «ذُلِّلَتْ» أي: جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
قال البراءُ بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ذلّلت لهم، فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إذا همَّ يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد.
وتذليل القطوف: تسهيل التناول، والقُطُوف: الثمار، الواحد: قِطْف - بكسر القاف - سمي به؛ لأنه يقطف، كما سمي الجَنَى لأنه يُجْنَى.
قوله: {تَذْلِيلاً} تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
قال الماوردي: ويحتمل أن تكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها وقال النحاس: ويقال: المذلل الذي قد ذلله الماء، أي: أرواه.
ويقال: المذلل: الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال: المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذَلَّلْ نخلك، أي: سوِّه.
قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم، وقد وصف الأواني التي يشرب بها، ومعنى «يطاف» أي: يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة.(20/32)
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي: الذي في الجنة أشرف وأعلا، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى: يُسقوْنَ في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب، كما قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي والبرد، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى. قوله: «بآنية» هذا هو القائم مقام الفاعل؛ لأنه هو المفعول به في المعنى، ويجوز أن يكون «عليهم» .
و «آنية» جمع إناء، والأصل: «أأنية» بهمزتين، الأولى مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة، فقلبت الثانية ألفاً وجوباً، وهذا نظير: كساء وأكسية، وغطاه وأغطية ونظيره في صحيح اللام: حمار وأحمرة.
وقوله: {مِّن فِضَّةٍ} نعت ل «آنية» .
قوله: {وَأَكْوابٍ} . الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛ وقال عدي: [السريع]
5045 - مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبْوابهُ ... يَسْعَى عليْه العَبْدُ بالكُوبِ
قوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} . اختلف القراءُ في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه، وفي الوقوف بالألف وعدمها، كما تقدم خلافهم في «سلاسل» .
واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب:
إحداها: تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر.
الثانية: مقابلة هذه، وهي عدم تنوينهما، وعدم الوقف عليهما بالأف، لحمزة وحده.
الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده.
والرابعة: تنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده.
الخامسة: عدم تنوينهما معاً، والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها، لأبي عمرو، وابن ذكوان، وحفص.
فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين «سلاسل» ؛ لأنها صيغة منتهى الجموع، ذاك على «مفاعل» وذا على «مفاعيل» ، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد.(20/33)
وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدًّا.
وأما من نون الأول دون الثاني، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر.
وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل «البصرة» .
وأما من لم ينونهما، ووقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها فلأن الأول رأس آية فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليس برأس آية.
وأما من لم ينونهما، ووقف عليهما بالألف، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي، وناسب بين الثاني وبين الأول.
وحصل مما تقدم في «سَلاسِلا» وفي هذين الحرفين، أن القراء منهم من وافق مصحفه، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر. وتقدم الكلام على «قوارير» في سورة «النمل» ولله الحمد.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول» . يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم؛ كقوله: [الرجز]
5046 - يَا صَاحِ، مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ ... وفي انتصاب «قوارير» وجهان:
أظهرهما: أنه خبر «كان» .
والثاني: أنها حال و «كان» تامة، أي كونت فكانت.
قال أبو البقاء: «وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف» .
وقرأ الأعمش: «قَوَارِيرُ» بالرفع، على إضمار مبتدأ، أي: هي قوارير، و «مَنْ فضَّةٍ» صفة ل «قوارير» ، والمعنى: في صفاء القوارير، وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.(20/34)
فصل في وصف تربة الجنة
رُوي أن أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها، ذكره ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وقال: ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
قال ابن الخطيب: ومعنى «كانت» هو من يكون، من قوله: {فَيَكُونُ} [النحل: 40] أي: فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، ثم قال: فإن قيل: كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين.
وثانيها: ما تقدم من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي: أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها.
وثالثها: أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة، فالمعنى: وأكواب من فضة مستديرة صافية.
قوله: {تَقْدِيراً} صفة ل «قوارير» ، والواو في «قَدَّرُوها» فيها وجهان:
أحدهما: أنها عطف عليهم، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروا.
والثاني: أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى: «ويُطَافُ» ، والمعنى: أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها، ولا يعجز. قاله الزمخشري.
وجوز أبو البقاء: أن تكون الجملة مستأنفة.(20/35)
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان، قال الكلبي: وذلك ألذّ وأشهى، والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل، أو بإفراط صغر.
وقرأ علي، وابن عباس، والسلمي، والشعبي، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية الأصمعي: «قُدِّروها» بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي: جعلت لهم على قدر إرادتهم.
وجعله الفارسي من باب المقلوب، قال: كان اللفظُ قدروها عليها، وفي المعنى قلب؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله تعالى: {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] ، ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء، ألقى العود على الحرباء.
قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قدر منقولاً، تقول: قدرت الشيء وقَدّرَنِيهِ فلان: إذات جعلك قادراً له، ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.
وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمَّ فاعله فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.
وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه.
وقال أبو حيان: والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل: قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الري، وأقيم الضمير بنفسه، فصار قدروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف، واتساع في الفعل.
قال شهاب الدين: وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم.
وقال القرطبي: وقال المهدوي: من قرأها «قدروها» فهو راجع إلى معنى القراءة(20/36)
الأخرى، وكأن الأصل: قدروا عليها، فحذف حرف الجر، والمعنى: قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه البيت [البسيط]
5047 - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ ... والحَبُّ يأكُلهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ
وذهب إلى أن المعنى: على حبّ العراق، وقيل: هذا التقدير: هو أن الأقداح تطير فتغرف بمقدار شهوة الشَّارب، وذلك قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .
أي: لا يفضل عن الري ولا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» .
قوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} . وهي الخمر في الإناء {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ، «كان» صلة، أي: مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلاً، وكانت العرب يستلذُّون من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، ويحدث في المشروب ضرباً من اللّذع، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
والزنجبيل: نبث معروف؛ وسميت الكأس بذلك؛ لوجود طعم الزنجبيل فيها؛ وأنشد الزمخشري للأعشى: [المتقارب]
5048 - كَأنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِي ... لَ بَاتَا بِفيهَا وأريْاً مَشُورا
وأنشد للمسيب بن علس يصف ثغر امرأة: [الكامل]
5049 - أ - وكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجبيلَِ بِهِ ... إذْ ذُقْتُهُ وسُلافَة الخَمْرِ
ويروى: وسلافَةُ الكَرْمِ.
وقال مجاهد: «الزنجبيل» اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار، وكذا قال قتادة: وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل.
والمعنى: كأن فيها، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول، ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله تعالى: {نَعِيماً} والتقدير: إذا صدر منك رؤية؛ ثم صدر منك رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً فرأيت هذا هو الجواب.(20/37)
فصل في بيان الخطاب لمن؟!
هذا الخطاب قيل: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: عامّ، والنعيم: ما يتنعم به.
والملك الكبير: قال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير، تسليم الملائكة عليهم.
وقيل: كون التيجان على رءوسهم كما يكون على رءوس الملوك.
وقال السديُّ ومقاتل: هو استئذان الملائكة عليهم.
وقال الحكيم والترمذي: هو ملك التكوين إذا أراد شيئاً قال له: كن.
وفي الخبر: أن الملك الكبير هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربِّه - تعالى - كل يوم مرتين.
و «عيناً» فيها من الوجوه ما تقدم، قوله «سلسبيلاً» السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق، قال الزجاج: هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، وقال الزمخشري: يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة.
قال أبو حيان: فإن كان عنى أنه زيدت حقيقة فليس بجيد؛ لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو، وإن عنى أنها حرف جاء في سنخ الكلمة، وليس في سلسل ولا سلسال؛ فيصح، ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة.
وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن.
وقال مكي: هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف. ووزن سلسبيل فعلليل مثل دردبيس.
وقيل: فعفليل؛ لأن الفاء مكررة.
وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنها اسم لعين بعينها، وعلى هذا فكيف صرف في قراءة العامة؟ فيجاب أنها سميت بذلك لا على(20/38)
جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد، أو يكون من باب تنوين «سلاسل» و «قوارير» وقد تقدم.
وأغرب ما قيل في هذا الحرف: أنه مركب من كلمتين من فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول، والتقدير سل أنت سبيلاً إليها.
قال الزمخشري: وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن معناه سل سبيلاً إليها، قال: وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً جعلت علماً للعين؛ كما قيل: تأبط شراً، وذرى حبًّا، وسميت بذلك؛ لأنه لا يشرب منها إلاَّ من سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل علي أبدع وفي شعر بعض المحدثين
5049 - ب - سَلْ سَبيلاً فِيهَا إلى رَاحةِ النَّفْ ... سِ كأنَّهَا سَلسبيلُ
قال أبو حيان بعد تعجبه من هذا القول: وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته.
قال شهاب الدين: ولو تأمل ما قاله الزمخشري لم يلمه ولم يتعجب مه؛ لأن الزمخشري هو الذي شنع على هذا القول غاية التشنيع.
وقال أبو البقاء: والسلسبيل كلمة واحدة. وفي قوله كلمة واحدة تلويح وإيماء إلى هذا الوجه المذكور.
قوله: «ثمَّ» هذا ظرف مكان، وهو مختص بالبعد، وفي انتصابه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب على الظرف ومفعول الرؤية غير مذكور؛ لأنّ القَصْد: وإذا صدرت منك رؤية في ذلك المكان رأيت كيت وكيت، ف «رأيت» الثاني جواب ل «إذا» .
وقال الفراء: «ثَمَّ» مفعولة به ل «رأيت» ، والمعنى: وإذا رأيت ما ثم، وصلح إضمار «ما» ، كما قال {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ، يريد: ما بينكم.
قال الزجاج: لا يجوز إضمار «ما» .
وقال الفراء: «وإذَا رَأيْتَ» تقديره: ما ثمَّ، ف «ما» مفعول، وحذفت «ما» ، وقامت «ثمَّ» مقام «ما» .
وقال الزمخشري تابعاً لأبي إسحاق: ومن قال: معناه: ما ثمَّ، فقد أخطأ؛ لأن «ثمَّ» صلة ل «ما» ولا يجوز إسقاط الموصول، وترك الصِّلة.(20/39)
وفي هذا نظر؛ لأن الكوفيين يجوزون مثل هذا، واستدلوا عليه بأبيات وآيات تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية: و «ثم» ظرف والعامل فيه «رأيت» أو معناه، والتقدير: رأيت ما ثم فحذفت ما.
قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأنه من حيث جعله معمولاً ل «رأيت» لا يكون صلة ل «ما» ؛ لأن العامل فبه إذا ذاك محذوف: أي ما استقر ثم.
قال شهاب الدِّين: ويمكن أن يجاب عنه، بأن قوله أو معناه هو القول بأنه صلة لموصول فيكونان وجهين لا وجهاً واحداً حتى يلزمه الفساد، ولولا ذلك لكان قوله أو معناه لا معنى له، ويعني بمعناه أي معنى الفعل من حيث الجملة، وهو الاستقرار المقدر.
والعامة على فتح الثاء من «ثمَّ» كما تقدم.
وقرأ حميد الأعرج بضمها، على أنها العاطفة، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول ويكون فعل الجواب محذوفاً، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله «نعيماً» والتقدير: وإذا صدرت منك رؤية ثم صدرت رؤية أخرى رأيت نعيماً وملكاً؛ فرأيت هذا هو الجواب.
فصل
واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس.
فقال {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الوقعة والأقرب أن المراد به دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة: قوله تعالى {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وفي كيفية التشبيه وجوه:
أحدها: شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم؛ ألا ترى أنه تعالى قال {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
وثانيها: أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء.(20/40)
وثالثها: قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .
فصل
اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة: قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منتقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين الله تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذ أرادوا شيئاً حصل، ومنهم من حمله على التعظيم، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.
فصل
قال بعضهم قوله {وَإِذَا رَأَيْتَ} خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد.
قوله: {عَالِيَهُمْ} . قرأ نافع وحمزة: بسكون الياء وكسر الهاء، والباقون: بفتح الياء وضم الهاء، لما سكنت الياء كسر الهاء، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب.
فأما قراءة نافع وحمزة، ففيها أوجه:(20/41)
أظهرها: أن يكون خبراً مقدماً، و «ثياب» مبتدأ مؤخر.
والثاني: أن «عاليهم» مبتدأ، و «ثياب» مرفوع على جهة الفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، وهذا قول الأخفش.
والثالث: أن «عاليهم» منصوب، وإنما سكن تخفيفاً. قاله أبو البقاء.
وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجه، وهي واردة هنا، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ، وهذه القراءة متواترة، فلا ينبغي أن يقال به فيها، وأما قراءة من نصب، ففيه أوجه:
أحدها: أنه ظرف خبر مقدم، و «ثياب» مبتدأ مؤخر، كأنه قيل: فوقهم ثياب.
قال أبو البقاء: لأن عاليهم بمعنى فوقهم.
قال ابن عطية: يجوز في النصب أن يكون على الظرف؛ لأنه بمعنى فوقهم.
قال أبو حيان: وعالٍ وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب: «عاليك أو عاليتك ثوب» .
قال شهاب الدين: قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفاً، نحو خارج الدار، وداخلها وظاهرها، وباطنها، تقول: جلست خارج الدَّار، وكذلك البواقي، فكذلك هنا.
الثاني: أنه حال من الضمير في «عَلَيْهِم» .
الثالث: أنه حال من مفعول «حَسِبْتَهُمْ» .
الرابع: أنه حال من مضاف مقدر، أي: رأيت أهل نعيم وملكٍ كبير عاليهم، ف «عَاليهم» حال من «أهل» المقدر، ذكر هذه الأوجه الثلاثة: الزمخشري، فإنه قال: «وعاليهم» بالنصب على أنه حال من الضمير في «يطوف عليهم» أو في «حسبتهم» أي: يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب، ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.
قال أبو حيان: أما أن يكون حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهُمْ» ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهو لا يعود إلا على «ولدان» ، وهذا لا يصح؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى {وحلوا} ، {وَسَقَاهُمْ} و {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} وفك الضمائر يجعل كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز، وأما جعله حالاً من محذوف، وتقديره: أهل نعيم، فلا(20/42)
حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف.
قال شهاب الدين: جعل أحد الضمائر لشيء، والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضاً وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر وألاَّ يقدر محذوف، والزمخشري إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز لا على سبيل أنه مساوٍ أو أولى، فيرد عليه ما ذكره.
الخامس: أنه حال من مفعول «لقَّاهم» .
السادس: أنه حال من مفعول «جزاهم» . ذكرهما مكي.
وعلى هذه الأوجه: التي انتصب فيها على الحال يرتفع به «ثياب» على الفاعلية، ولا يضر إضافته إلى معرفة في وقوعه حالاً؛ لأن الإضافة لفظية كقوله تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فأنّث «عارضاً» ولم يؤنث عالياً لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث.
السابع: أن ينتصب «عاليهم» على الظرف، ويرتفع «ثياب» به على جهة الفاعلية، وهذا ماشٍ على قول الأخفش والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله، وإن لم يعتمد كما تقدم ذلك في الصفّ.
وإذا رفع «عاليهم» بالابتداء، و «ثياب» على أنه فاعل به، كان مفرداً على بابه لوقوعه موقع الفعل، وإذا جعل خبراً مقدماً كان مفرداً لا يراد به الجمع، فيكون كقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [الأنعام: 45] أي أدبار. قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيدُ بن علي: «عاليتهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً.
والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلا أنه منصوب.
وقد عرف الرفع والنصب مما تقدم.
وقرأت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «عَليَتْهُم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثياب» فاعل به، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله.
وقرأ ابن سيرين ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة وخلائق: جاراً ومجروراً.
وإعرابه كإعراب «عاليهم» ظرفاً في جواز كونه خبراً مقدماً، أو حالاً مما تقدم وارتفاع «ثياب» به على التفصيل المذكور.(20/43)
فصل في الضمير في عاليهم
قال ابن الخطيب: والضمير في «عاليهم» إما للولدان أو للأبرار.
فكأنهم يلبسُون عدة من الثياب، فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال تعالى «عاليهم» أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثيابُ سندسٍ، والمعنى: أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى: {ثِيَابُ سُندُسٍ} . قرأ العامة: بإضافة الثياب لما بعدها.
وأبو حيوة وابن أبي عبلة: «ثِيَابٌ» منونة، {سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} برفع الجميع ف «سُنْدُسٌ» نعت ل «ثِيَابٌ» ؛ لأن «السندس» نوع، و «خُضْرٌ» نعت ل «سُنْدُسٌ» يكون أخضر وغير أخضر، كما أن الثياب تكون سندساً وغيره، و «إسْتَبْرَقٌ» نسق على ما قبله، أي: وثياب إستبرق.
واعلم أن القراءة السبعة في «خُضْرٌ» ، و «إسْتَبْرَقٌ» على أربع مراتب.
الأولى: رفعهما، لنافع وحفص فقط.
الثانية: خفضهما، الأخوين فقط.
الثالثة: رفع الأول، وخفض الثاني، لأبي عمرو وابن عامر فقط.
الرابعة: عكسه، لابن كثير وأبي بكر فقط.
فأما القراءة الأولى: فإن رفع «خضرٌ» على النعت ل «ثياب» ورفع «إستبرق» نسق على «الثياب» ولكن على حذف مضاف أي: وثيابٌ إستبرق ومثله: على زيد ثوبُ خزٍّ وكتانٍ أي: وثوبُ كتَّانٍ.
وأما القراءة الثانية: فيكون جر «خضر» على النعت ل «سندس» .
ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع.
وقيل: هو جمع «سندسة» ك «تمر وتمرة» ووصف اسم الجنس بالجمع يصح، قال تعالى {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12] ، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ، و {مِّنَ الشجر الأخضر} [يس: 80] وإذا كانوا قد وصفوا المحل لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: «أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِّرهمُ البيضُ» ، وفي التنزيل: {أَوِ(20/44)
الطفل الذين} [النور: 31] فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجر «إستبرق» نسقاً على «سندس» ، لأن المعنى ثياب من سندس، وثياب من إستبرق.
وما القراءة الثالثة: فرفع «خضر» نعتاً ل «ثياب» وجر «إستبرق» نسقاً على سندس أي: ثياب خضر من سندس، ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر.
وأما القراءة الرابعة: فجر «خضر» على أنه نعت ل «سندس» ورفع «إستبرق» على النسق على «ثياب» بحذف مضاف، أي: وثياب استبرق. وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق في سورة الكهف.
وقرأ ابن محيصن: «وإستبرق» بفتح القاف، ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة، فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها، وبعضهم ينقل أنه وصلها.
قال الزمخشري: «وقرئ:» وإستبرق «نصباً في موضع الجر على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول الإستبرق، إلا أنه يزعم ابن محيصن أنه قد جعل علماً لهذا الضرب من الثياب، وقرأ:» واستبرقَ «بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى ب» استفعل «من البريق، وهو ليس بصحيح - أيضاً - لأنه معرب مشهور تعريبه وأصله استبره» .
وقال أبو حيان: ودل قوله: إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله بعد: وقرئ «واستبرق» بوصل الألف والفتح، أنّ قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف والمنقول عنه في كتب القراءات: أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.
قال شهاب الدين: قد سبق الزمخشري إلى هذا مكي، فإنه قال: وقد قرأ ابن محيصن بغير صرف وهو وهم إن جعله اسماً؛ لأنه نكرة منصرفة.
وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً من «برق» فهو جائز في اللفظ بعيد في المعنى.
وقيل: إنه في الأصل فعل ماض على «استفعل» من «برق» ، فهو عربي من البريق، فلما سمِّي به قطعت ألفه؛ لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل، وإنما دخلت معتلة مغيرة عن أصلها، معدودة، لا يقاس عليها؛ انتهى، فدل قوله «قطعت ألفه» إلى آخره، أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف، ودل قوله أولاً: وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً من «برق» ، أنه قرأ بوصل الألف، لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى(20/45)
الأسماء، ويترك ألفه ألف قطعٍ ألبتة، وهذا جهل باللغة، فيكون قد رُوِيَ عنه قراءتا قطع الألف ووصلها، فظهر أن الزمخشري لم ينفرد بالنقل عن ابن محيصن بقطع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن: لا يجوز، والصواب: أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعةِ.
قال أبو حيان: نقول: إن ابن محيصن قارئٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، فيتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل «استفعل» من البريق تقول: برق واستبرق، ك «عجب واسْتعجَبَ» ، ولما كان قوله: «خضر» يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السُّنْدس، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دُهمة وغبش، أخبر أن في ذلك بريقاً وحسناً يزيل غبشيته، ف «استبرق» فعل ماض، والضمير فيه عائد على السُّندس، أو على الأخضر الدالّ عليه خضر، وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف بالعربية، وتوهيم ضابط ثقة. وهذا هو الذي ذكره مكي. وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف.
قوله تعالى: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على «ويَطُوفُ» عطف ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه.
وقال الزمخشري بعد سؤال وجواب من حيث المعنى: وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سِوَار من ذهب وسوار من فضة.
وناقشه أبو حيان في قوله: «بالمِعْصَم» ، فقال: قوله: «بالمعصم» إما أن يكون مفعول «أحسن» وإما أن يكون بدلاً منه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرورن فإن كان الأول فلا يجوز؛ لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول «أفعل» التعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني ففي هذا الفصل خلافٌ، والمنقول عن بعضهم أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه فيما فيه خلافٌ.
قال شهاب الدين: وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل حتى في الشيء اليسير على أن الصحيح جوازه، وهو المسموع من العرب نثراً، قال عمرو بن معديكرب: لله درُّ بني مجاشع ما أكثر في الهيجاء لقاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وأحسن في اللَّزْباتِ عطاءها، والتشاغل بغير هذا أولى.
فصل في المراد بالأساور
قال هنا: «أساور من فضة» وفي سورة «فاطر» : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [(20/46)
فاطر: 33] ، وفي سورة «الحج» : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23] فقيل: حليُّ الرجل الفضة.
وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ، ليجتمع محاسن أهل الجنة. قاله سعيد بن المسيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه.
وقيل: أسورةُ الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء.
وقيل: هذا للنساء والصبيان.
وقيل: هذا بحسب الأوقات.
قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ] ، قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرُّوا بشجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداها، فيجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تشعّث أشعارهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنةُ الجنة، فيقولون لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] .
وقال النخعي وأبو قلابة، هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسكٍ وضمرت بطونهم.
وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة ينبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشٍّ وغلٍّ وحسدٍ، وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون «فعولاً» للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. قاله القرطبي.
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: {طَهُوراً} فيه قولان:
الأول: المبالغة في كونه طاهراً ثم على التفسير احتمالان:
أحدهما: ألاَّ يكون نجساً كخمر الدنيا.(20/47)
وثانيهما: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة، يعني ما مسته الأيدي الوضيعة والأرجل الدنسة.
وثانيهما: أنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسكِ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً؛ لأنه يطهِّرُ باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} هو نوع ما ذكره قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل، أو هذا نوع آخر؟ .
قلنا: بل هذا نوع آخر، لوجوه:
أحدها: التِّكرار.
والثاني «أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه تبارك وتعالى، بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ، وذلك يدل على فضل هذا على غيره.
والثالث: ما روي من أنه يقدِّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتُوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسكِ، وهذا يدل على أن الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سار الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} ، أي: يقال لهم: إن هذا كان حزاؤكم، أي: ثواب أعمالكم، فيزداد بذلك القول فرحهم وسرورهم، كما أن المعاقب يزداد غمّه، إذا قيل له: هذا جزاء عملك الرديء «وكَانَ سَعيُكُمْ» أي: عملكم «مَشْكوراً» أي: من قبل الله وشكره للعبد قبُول طاعته وثناؤه عليه وإثابته.
وقال قتادةُ: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى.
وقيل: هذا إخبار من الله - تعالى - لعباده في الدنيا كأنه - تعالى - شرح لهم ثواب أهل الجنة، أي أنَّ هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبيدي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: وفي الآية سؤالان:(20/48)
الأول: إذا كان فعل العبد خلقاً لله - تعالى - فكيف يعقل أن يكون فعل الله - تعالى - جزاء على فعل الله؟ .
والجواب: أن الجزاء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله.
السؤال الثاني: كون سعي العبد مشكوراً يقتضي كون الله شاكراً له؟ .
والجواب: كون الله - تعالى - شاكراً للعبد محال إلى على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: قال القاضي: إن الثواب مقابل لعملهم كما أن الشكر مقابل للنعم.
والثاني: قال القفال: إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثنى به أنه مشكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده، وهو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطائه إياهم عليهم ثواباً كبيراً.
الثالث: أن منتهى درجة العبد راضياً من ربه مرضيًّا لربه، كما قال تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] ، وكونها راضية من ربه أقلُّ درجة من كونها مرضية لربه، فقوله تعالى: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} إشارة إلى الأمر الذي تصير به النفس راضية مرضية، وقوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} إشارة إلى كونها مرضية لربها لما كانت الحالة أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.(20/49)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} . يجوز أن يكون توكيداً لاسم «إن» وأن يكون فصلاً و «نَزَّلْنَا» على هذين الوجهين هو خبر «إن» ، ويجوز أن يكون «نحن» مبتدأ، و «نَزَّلْنَا» خبره والجملة خبر «إنَّ» .
وقال مكي: «نَحْنُ» في موضع نصب على الصِّفة لاسم «إن» لأن الضمير يوصف بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيد لا بمعنى الغلبةِ، ولا يوصف بالمظهر؛ لأنه بمعنى التَّحلية والمضمر مستغن عن التحلية، لأنه لم يضمرْ إلا بعد أن عرف تحليته وعينه، وهو محتاج إلى التأكيد لتأكيد الخبر عنه.
قال شهاب الدين: وهذه عبارة غريبة جدًّا، كيف يجعل المضمر موصوفاً بمثله،(20/49)
ولا نعلم خلافاً في عدم جواز وصف المضمر إلا ما نقل عن الكسائي أنه جوّز وصف ضمير الغائب بضمير آخر، فلا خرف في عدم جوازه، ثم كلامه يؤول إلى التأكيد فلا حاجة إلى العدول عنه.
فصل في مناسبة اتصال الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجةً إليه، فليس بسحرٍ ولا كهانةٍ ولا شعرٍ وأنه حقٌّ.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنزل القرآن متفرقاً آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة فلذلك قال: «نَزَّلْنَا» .
قال ابن الخطيب: المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر تعالى أن ذلك وحي من الله تعالى ولا جرم بالغ في تكرار الضمير بعد إيقاعه تأكيداً على تأكيد فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق، أقول على سبيل التأكيد: إن ذلك وحيٌ حقٌّ وتنزيلُ صدقٍ من عندي، وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار؛ لأن الله - تعالى - عظّمهُ وصدقه.
والثانية: تقويته على تحمُّل مشاق التكليف، فكأنه - تعالى - يقول: إني ما نزلت عليك القرآن متفرقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
{فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لقضاء ربك.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: اصبر على أذى المشركين، ثم نسخ بآية القتال.
وقيل: اصبرْ لما حكم به عليك من الطَّاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة، {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً} أي: ذا إثمٍ {أَوْ كَفُوراً} أي: لا تطع الكفار.
روى معمر عن قتادة، قال: قال أبو جهل: إن رأيتُ محمداً لأطأنَّ على عنقه، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} .
وقيل: نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت، وعرض عليه عتبة(20/50)
ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى، ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشر آيات من أول «حم» السجدة، إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13] ، فانصرنا عنه وقال أحدهما: ظننت أنَّ الكعبة ستقع عليَّ.
قوله: {أَوْ كَفُوراً} . في «أوْ» هذه أوجه:
أحدها: أنها على بابها، وهو قول سيبويه.
قال أبو البقاء: وتفيد في النهي عن الجميع، لأنك إذا قلت في الإباحة: جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير: جالس أحدهما، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويؤول المعنى إلى تقدير: ولا تطع منهما آثماً ولا كفوراً.
قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: معنى «أو» ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو لتكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟ .
قلت: لو قال: لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل: لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعاً أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه: «أفٍّ» علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى.
الثاني: أنها بمعنى «لا» أي: لا تطع من أثم ولا من كفر.
قال مكي: «وهو قول الفراء، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا» .
الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين.
والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين:
إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة، والكفور الوليد.
وإما لما قاله الزمخشري: «فإن قلت: كانوا كلهم كفرةً، فما معنى القسمة في قوله» آثماً او كفوراً «؟ .
قلت: معنا لا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إمَّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث» .
فصل
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} يدخل فيه ألاَّ تطع فيه آثماً أو كفوراً، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار؟ .(20/51)
والجواب أن الأول أمر بالمأمورات، والثاني: نهي عن المنهيات، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح، فيكون التصريح، فيكون التصريح منه مفيداً.
فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان يطيع أحداً منهم، فما فائدة هذا النهي؟ .
فالجواب: أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله - تعالى - وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدَّ من الرغبة إلى الله - تعالى - والتضرع إليه أن يصونه عن الشُّبهات والشَّهوات.
فإن قيل: ما الفرقُ بين الآثم والكفور؟ .
فالجواب: أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيِّ معصيةٍ كانت، والكفُور: هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، وليس كل آثم كفوراً، لأن الإثم عام في المعاصي كلها، قال الله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] .
فسمى الشرك آثماً، وقال تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقال تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] . قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي.
قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . أي: صلِّ لربِّك أول النَّهار وآخره ففي أوله صلاة الصُّبح والظهر والعصر، وهو الأصيل، {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة، {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التَّطوع فيه. قاله ابن حبيب.
وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.
وقيل: هو الذِّكْر المطلق، سواءٌ كان في الصَّلاة أو في غيرها.
وقال ابن زيد وغيره: إنَّ قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} منسوخ بالصلوات الخمس.
وقيل: هو ندب.
وقيل: هو مخصوص بالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وجمع الأصيل: الأصائل، والأصل، كقولك: سفائن وسفن، والأصائل: جمع الجمع، ودخلت «من» على الظرف للتبغيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] .(20/52)
قوله: {وَسَبِّحْهُ} فيه دليل على عدم صحة قول بعض أهل المعاني والبيان، أن الجمع بين الحاء والهاء - مثلاً - يخرج الكلمَ عن فصاحتها، وجعلوا من ذلك قوله: [الطويل] .
5050 - كريمٌ مَتَى أَمْدحْهُ والوَرَى ... مَعِي وإذَا ما لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
البيت لأبي تمام، ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية بأن التكرار في البيت هو المخرج عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها.(20/53)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} . توبيخ وتقريع والمراد أهل «مكة» ، والعاجلة، الدنيا.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتعظيم والأمر والنهي، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} ، ومعناه: إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية.
قوله: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ} ، أي: بين أيديهم، وقال: «وَرَاءَهُم» ولم يقل: قُدَّامهم لأمور:
أحدها: أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
وثانيها: المراد: يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي عسير، فأسقط المضاف.
وثالثها: أن «وراء» يستعمل بمعنى «قُدّام» ، كقوله تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] .
وقال مكي: سمّي «وراء» لتواريه عنك، فظاهر هذا أنه حقيقة، والصحيح أنه استعير ل «قُدّام» .
قوله: «يَوْماً» . مفعول ب «يَذَرُونَ» لا ظرف، وصفه بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني.(20/53)
وقيل: معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة.
وقيل: نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحة نبوته، وحبُّهم العاجلة: أخذهم الرّشا ما كتموه، وقيل: أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا، والآية تعُمّ، واليوم الثقيل: يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل: للقضاء فيه بين العباد.
قوله تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} أي من طين، {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} أي: خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم، والأسر: الخلق.
قال أبو عبيد: يقال: فرس شديد الأسر، أي: الخلق، ويقال: أسره الله، إذا شدد خلقه؛ قال لبيدٌ [الرمل]
5051 - سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ ... مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ
وقال الأخطل: [الكامل]
5052 - مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ ... سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً
وقال أبو هريرة والحسن والربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: شَددْنَا مفَاصِلهُمْ.
قال أهل اللغة: الأسر: الرَّبْط، ومنه: أسِرَ الرجُل، إذا أوثق بالقيد، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب، والإسار: هو القيد الذي يشد به الأقتاب، تقول: أسرت القتب أسراً، أي: شددته وربطته.
فصل في معنى الأسر
قال ابن زيد: الأسر القوة، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي: سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي.
قال ابن لخطيب: وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به، وهما لا يحصلان إلا بتكوين(20/54)
الله وإيجاده، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد.
وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد، فكأنه قيل: هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه.
قوله تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم.
وقال ابن الخطيب: معناه: إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى: {على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 61] ، والغرض منه: بيان الاستغناء التام عنهم، كأنه قيل: لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير إن ثبتت الحاجة، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] ، {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133] . وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - معناه: لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور.
وقيل: أمثالهم في الكفر.
فصل في نظم الآية
قال الزمخشري في قوله تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا} : وحقه أن يجيء ب «إن» لا ب «إذا» ، كقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] ، {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يعني: أنَّ «إذا» للمحقَّق، و «إن» للمحتمل، وهو تعالى لم يشأ ذلك، وجوابه أن «إذا» قد تقع موقع «إن» كالعكس.
قال ابن الخطيب: فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف، لأن كل واحد من «إن» و «إذا» حرف شرط، إلا أن حرف «إن» لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع، فلا يقال: إن طلعت الشمس أكرمتك.
أما حرف «إذا» فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء: إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف «إذا» .(20/55)
قوله تعالى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} . أي: هذه السورة موعظة، {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي: طريقاً موصِّلاً إلى طاعته.
وقيل: «سبيلاً» أي وسيلة.
وقيل: وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى: أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب، والوعد الوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.
فصل في قول الجبرية
قال ابن الخطيب: متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر، لأن قوله تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة، فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله تعالى بعد ذلك: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى:
{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل، ثم التقدير ما تقدم.
قال القاضي: المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه، وهذا لا يقضي أن يقال: العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.
وفيه نظر: لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى.
والثاني: أنه ظرف.
قال الزمخشري: «فإن قلت: ما محل أن يشاء الله؟ .
قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله تعالى، وكذلك قرأ ابن مسعود: إلا ما يشاء الله، لأن» ما «مع الفعل ك» إن «معه» .
وردّ أبو حيان: بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح، لو قلت: أجيئك أن(20/56)
يصيح الديك، أو ما يصيح، لم يجز. قال شهاب الدين: قد تقدم الكلام في ذلك مراراً.
وقرأ نافع والكوفيون: «تشاءون» خطاباً لسائر الخلق، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} ، والباقون: بالغيبة جرياً على قوله: «خلقناهم» وما بعده.
قوله: {وَمَا تَشَآءُونَ} أي الطاعة والاستقامة، واتخاذ السبيل إلى الله {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فأخبر أن الأمر إليه سبحانه، وليس لهم، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى، قيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
قال القرطبي: والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفراء: «ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ» جواب لقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال: «ومَا تَشَاءُونَ» ذلك السبيل «إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ» لكم، {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بأعمالكم «حَكِيماً» في أمره ونهيه لكم.
قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} . أي: يدخله الجنة راحماً له.
قال ابن الخطيب: إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة، وهما محالان على الله تعالى، والمفضي إلى المحال محال، فتركه محال، فوجوده واجبٌ عقلاً، وعدمه ممتنعٌ عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة.
قوله: {والظالمين} ، أي: ويعذّب الظالمين، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره «أعَدَّ لَهُمْ» من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: وعذب الظالمين، ونحوه: «زيداً مررت به» أي: جاوزت ولابست. وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، وهو قوله «يُدْخِلُ» .
قال الزجاج: نصب «الظَّالمينَ» لأن قبله منصوباً، أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين، ويكون «أعَدَّ لَهُمْ» تفسيراً لهذا المضمر؛ قال الشاعر: [المنسرح]
5053 - أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ... أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا(20/57)
والذِّئْب أخْشَاهُ إنْ مَررْتُ بِهِ ... وحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا
أي: أخشى الذئب أخشاه.
قال الزجاج: والاختيار النصب. وإن جاز الرفع.
وقوله تعالى في «حَم عَسق» : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون} [الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله: {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً} يدل على «ويُعَذِّبُ» فجاز النصب.
وقرأ الزبير، وأبان بن عثمان، وابن أبي عبلة: «والظَّالمُونَ» رفعاً على الابتداء، وما بعده الخبر، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة.
وقرأ ابن مسعود: «ولِلظَّالِمينَ» بلام الجر، وفيه وجهان:
أظهرهما: أن يكون «للظَّالمين» متعلقاً ب «أعَدَّ» بعده، ويكون «لَهُمْ» تأكيداً.
والثاني: وهو ضعيف، أن يكون من باب الاشتغال، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر، ويجر الاسم بحرف الجر، فتقول: «بزيد مررت به» أي: مررت بزيد مررت به، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى، فإن ورد نحو «بزيد مررت به» عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال. والأليم: المؤلم.
روى الثَّعلبيّ عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} كَانَ جَزَاؤهُ عَلى اللهِ تَعَالى جَنَّةً وحَرِيراً» .(20/58)
سورة المرسلات
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر.
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله عنهم -: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48] ، مدنية.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: نزلت {والمرسلات عرفا} على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن ونحن نسير معه، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وقيتم شرها كما وقيت شركم ".
وعن كريب مولى ابن عباس، قال: قرأت سورة {والمرسلات عرفا} فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت، وقالت: والله يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها في صلاة المغرب.(20/59)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
وهي خمسون آية، ومائة وإحدى وثمانون كلمة، وثمانمائة وستة عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {والمرسلات عُرْفاً} في «عرفاً» ثلاثة أوجه:(20/59)
أحدها: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل العرف، وهو ضد النُّكْر، فإن الملائكة إن كانوا بعثُوا للرحمة، فالمعنى فيه ظاهر، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين، والمراد بالمرسلات، إما الملائكة، وإما الأنبياء، وإما الرياح، أي: والملائكة المرسلات، أو والأنبياء المرسلات، أو والرياح المرسلات. و «العرف» المعروف، والإحسان، قال: [البسيط]
5054 - مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ ... لا يَذهبُ العُرْفُ بيْنَ اللهِ والنَّاسِ
وقد يقال: كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء، وحقه أن يجمع بالواو والنون نقول: الأنبياء المرسلون ولا نقول: المرسلات؟ .
والجواب: أن المرسلات جمع مرسلة ومرسلة: صفة لجماعة من الأنبياء، والمرسلات: جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة، لا جمع مرسل مفرد.
والثاني: أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة، من قولهم: جاءوا كعرف الفرس، وهم على فلان كعرف الضبع، إذا تألبُّوا عليه.
قال ابن الخطيب: يكون مصدراً، كأنه قيل: والمرسلات إرسالاً، أي متتابعة.
الثالث: أن ينتصب على إسقاط الخافض، أي: المرسلات بالعرف، وفيه ضعف، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف.
والعامة: على تسكين رائه، وعيسى: بضمها، وهو على تثقيل المخفف، نحو: «بكّر» في «بكَر» ، ويحتمل أن يكون هو الأصل، والمشهور مخففة منه، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين.
فصل في المراد بالمرسلات
جمهور المفسرين على أن «المرسلات» هي الرياح.
وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي.(20/60)
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله.
وقال أبو صالحٍ: الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات.
وعن ابن عباس وابن مسعود: أنها الرياح، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح} [الحجر: 22] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} [الأعراف: 57] ، ومعنى «عُرْفاً» أي: يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات: السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
وقيل: إنها الزَّواجر والمواعظ، و «عُرْفاً» على هذا التأويل: متتابعات كعرف الفرس، قاله ابن عبَّاس.
وقيل: جاريات، قاله الحسن، يعني في القلوب.
وقيل: معروفات في العقول.
قوله تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً} . هذا المصدر مؤكد لاسم الفاعل.
والمراد بالعَاصفاتِ: الرياح. قاله المهدوي.
وقال ابن عباسٍ: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه.
وقال: العاصفات الملائكة شبهت بسرعة جريها في أمر الله - تعالى - بالرياح، وكذلك «نَشْراً، وفَرْقاً» انتصابهما على المصدر.
وقيل: الملائكة تعصف برُوح الكَافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريحٌ في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم، أي: ذهبت بهم.
وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخوف.
قوله تعالى: {والناشرات نَشْراً} . هي الملائكة المُوكَّلُون بالسحاب ينشرونها.
وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته ينشر السحاب للغيث، وهو مروي عن أبي صالح.
وعنه أيضاً: هي الأمطار لأنها تنشر النبات، فالنَّشر بمعنى الإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، بمعنى أحياهُ، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] .
وروي عن السديِّ: أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى، وروى الضحاك عن ابن(20/61)
عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب، وأعمال بني آدم، وروى الضحاك: أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.
وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح.
وقال تعالى: {والناشرات} - بالواو - لأنه استئنافُ قسم آخر.
قوله: {فالفارقات فَرْقاً} : هي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح.
وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال، وروى أنس عن مجاهد قال: «الفارقات» الرياح تفرق بين السحاب وتبدده.
وروى سعيد عن قتادة قال: {فالفارقات فَرْقاً} ، الفرقان فرق الله بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهو قول الحسن وابن كيسان.
وقيل: هم الرسل فرقوا بين ما أمر الله - تعالى - به، ونهى عنه؛ أي بينوا ذلك.
وقيل: السحابات الماطرة تشبيهاً بالنَّاقة الفارقة، وهي الحامل التي تخرج وتندّ في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفُرَّق.
قوله تعالى: {فالملقيات ذِكْراً} . هي الملائكة، أي: تلقي كتب الله إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قاله المهدوي.
وقيل: هو جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وسمي باسم الجمع تعظيماً لأنه كان ينزل بها وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم. قاله قطرب.
وقوله تعالى: {ذِكْراً} مفعول به ناصبه «المُلْقِيَاتِ» .
وقرأ العامة: «فالملقيات» - بسكون اللام وتخفيف القاف - اسم فاعل.
وقرأ ابن عباس: بفتح اللام وتشديد القاف، اسم مفعول من التلقية، وهي إيصال(20/62)
الكلام إلى المخاطب. وروى عنه المهدوي أيضاً: فتح القاف، أي: يلقيه من قِبَل الله تعالى، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن} [النمل: 6] .
قوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} . فيهما أوجه:
أحدها: أنهما بدلان من «ذِكْراً» .
الثاني: أنهما منصوبان به على المفعولية، وإعمال المصدر المنون جائز، ومنه {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] .
الثالث: أنهما مفعولان من أجلهما، والعامل فيهما، إما «المُلقيَات» ، وإما «ذِكراً» ؛ لأن كُلاًّ منهما يصلح أن يكون معلولاً بأحدهما.
وحينئذ يجوز في «عُذْراً» ، ونذراً «وجهان:
أحدهما: أن يكونا مصدرين - بسكون العين - كالشُّكْر والكُفْر.
والثاني: أن يكونا جمع عذير، ونذير، المراد بهما المصدر، بمعنى الإعذار والإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار.
الثالث: أنهما منصوبان على الحال من «الملقيات» أو من الضمير فيها، وحينئذ يجوز أن يكونا مصدرين واقعين موقع الحال، بالتأويل المعروف في أمثاله، وأن يكونا جمع «عذير ونذير» مراداً بهما المصدر، أو مراداً بهما اسم الفاعل بمعنى المعذر والمنذر، أي: معذرين، أو منذرين.
وقرأ العامة: بسكون الذَّال من {عُذْراً أَوْ نُذْراً} .
وقرأ زيد بن ثابت، وابن خارجة، وطلح: بضمها.
والحرميَّان، وابن عامر، وأبو بكر، بسكونها في «عُذْراًَ» وضمها في «نُذْراً» ، والسكون والضم - كما تقدم - في أنه يجوز أن يكون كل منهما أصلاً للآخر، وأن يكونا أصلين، ويجوز في كل من المثقّل والمخفّف أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً سكنت عينه تخفيفاً.
وقرأ إبراهيم التيمي: «عُذْراً ونُذْراً» بواو العطف موضع «أو» ، وهي تدل على أن «أو» بمعنى الواو.(20/63)
فصل في معنى الآية
والمعنى: يلقي الوحي إعذاراً من الله تعالى وإنذاراً إلى خلقه من عذابه. قاله الفراء.
وروي عن أبي صالحٍ قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون.
وروى سعيد عن قتادة: «عُذْراً» قال: عذراً لله - تعالى - إلى خلقه، ونذراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به، وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «عُذْراً» أي: ما يقبله الله - تعالى - من معاذير أوليائه، وهي التوبة «أو نُذْراً» ينذر أعداءه.
فصل في المراد بهذه الكلمات الخمس
قال ابن الخطيب: اعلم أن هذه الكلمات الخمس، إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً، أو أجناساً مختلفة، فالأول فيه وجوه:
أحدها: أن المراد بها الملائكة والمرسلات هي الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - إما لإيصال النِّعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين، وقوله تعالى: «عُرْفاً» إما أن يكون العُرْف هو الذي ضد النُّكر، فإن كانوا الملائكة المبعوثين للرحمة، فالمعنى فيهم ظاهر وإن بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفَّار فإنه معروف للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين، أو يكون العرف التَّتابع، وقوله تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً} فمعناه أن الملائكة عصفوا في طيرانهم كعصف الرياح، أو يعصفون بروح الكافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده، وقوله تعالى: {والناشرات نَشْراً} أي: أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الرحمة والعذاب، أو المراد الملائكة الذي ينشرون الكتب التي فيها أعمال بني آدم يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً، وقوله تعالى: {فالفارقات فَرْقاً} أي: أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله: {فالملقيات ذِكْراً} أي أنهم يلقون الذِّكرَ إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والمراد بالذكر إما العلم والحكمة أو القرآن، لقوله تعالى: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] ، وهذا المُلْقي وإن كان جبريل وحده إلا أنه سمِّي باسم الجمع تعظيماً له.
واعلم أن الملائكة أقسام: قسمٌ يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، وقسمٌ يرسل لكتابة اعمل بني آدم، وقسم يرسل لقبض الأرواح، وقسم يرسل بالوحي من سماءٍ إلى سماءٍ.
الوجه الثاني: أن المراد بهذه الكلمات الخمس: الرياح، أقسم الله - تعالى - بالرياح(20/64)
عند إرسالها عُرْفاً، أي: متتابعة، كشعر العرف، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو، قال الله تعالى: {يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] ، وهو المراد بقوله تعالى: {والناشرات نَشْراً} أي: أنها تنشر السحاب، أو أنها تلقح الأشجار والنبات، فتكون ناشرة، وقوله تعالى: {فالفارقات فَرْقاً} أي: أنها تفرق بين أجزاء السحاب، أو أنها تخرب بعض القرى، وذلك يصير سبباً لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع، ومن منكر جاحد.
وقوله تعالى: {فالملقيات ذِكْراً} أي: أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القِلاَع وتهدم الصخور والجبال، وترفع أمواج البحار تمسَّك بذكر الله - تعالى - والتجأ إلى إعانة الله - تعالى - فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذِّكر والإيمان والعبودية في القلب.
الوجه الثالث: قال ابن الخطيب: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقوله تعالى: {عُرْفاً} أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات، والمراد ب «العاصفات عصفاً» أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفةً في أولها، ثم عظُمت وقهرت سائر الملل والأديان، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدُّول والملل والأديان وقهرتها، وجعلتها باطلة دائرة.
والمراد ب «النَّاشِرات نَشْراً» ، أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.
والمراد ب «الفارقات فرقاً» أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.
والمراد ب «الفارقات فرقاً» أن آيات القرآن فرَّقت بين الحقِّ والباطل، ولذلك سمِّي القرآن فرقاناً، والمراد ب «الملقيات ذكراً» أن القرآن ذكر، قال تعالى: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] .
الوجه الرابع: قاله ابن الخطيب: ويمكن حملها أيضاً على بعثة الرُّسل، فالمراد ب «المرسلات عرفاً» هم المُرسَلُون بالوَحْي المشتمل على كُلِّ خير ومعروف، {فالعاصفات عَصْفاً} أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيراً ضعيفاً، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح {والناشرات نَشْراً} انتشار دينهم، {فالفارقات فَرْقاً} أنهم يفرقون بين الحق والباطل، {فالملقيات ذِكْراً} أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثُّونهم عليه.(20/65)
الاحتمال الثاني: وهو ألاَّ يكون المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً، وفيه وجوه:
أحدها: قال الزجاج، واختاره القاضي: أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد، والعاصفات: ما اشتدّ عنها، والنَّاشرات: ما ينشر السحاب، وقوله تعالى: {فالفارقات فَرْقاً} هم الملائكة الذي يُفرِّقُون بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام بما يتحمَّلونه من القرآن والوحي، وكذا قوله: {فالملقيات ذِكْراً} أنها الملائكة المتحمِّلون للذِّكر الذي يلقونه إلى الرسل.
فإن قيل: ما المجانسة بين الريح وبين الملائكة حتى جمع بينهما في القسمِ؟ .
قلت: الملائكة روحانيّون فهم سبب طاقاتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وثانيها: أن الآيتين الأوليين هما الرياح، والثلاثة الباقية منهم الملائكة؛ لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران:
الأول: حصول الفرق بين المحق والمبطل.
والثاني: ظهر الله في القلوب والألسنة، ويؤكد هذا أنه قال: {والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً} ، ثم عطف الثاني على الأول بحرف الواو، فقال: «والنَّاشِرَاتِ» وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يكون المراد بالأولين الملائمكة، فقوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} ملائكة الرَّحمة، وقوله تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً} ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرّق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة.
فصل في وجه دخول الفاء والواو في جواب القسم
قال القفالُ: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبنيّ على أصل، وهو أن عند أهل اللغة أن الفاء تقتضي الوصل والتعلُّق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى: أنه قام ليذهب، فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به، فإذا قيل: قام وذهب، فهما خبران، وكل واحد منهما قائم بنفسه، لا يتعلق بالآخر. ثم إن القفال رَحِمَهُ اللَّهُ لما مهد هذا الأصل، فرع عليه الكلام في هذه الآية بوجوه.
قال ابن الخطيب: وتلك الوجوه لا يميل القلب إليها، وأنا أنوع على هذا الأصل(20/66)
فأقول: أما من جعل الأولين صفة لشيءٍ، والثلاثة الأخيرة صفاتٍ لشيء واحدٍ، فنقول: إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً، وذلك الطيران هو العصف، فالعصف مرتب على الإرسال، فإن الملائكة أول ما يلقون الوحي إلا الرُّسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً، بل الخلق يردون الأنبياء في أول الأمر فيكذبونهم وينسبونهم إلى السحر والجنون، فلا جرم أن يذكر الفاء التي تفيد التعقيب، بل ذكر الواو، وإذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذلك الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء، فكأنه - والله أعلم - قال: يا محمد، أنا أرسلت إليك الملك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وخير، ولكن لا تطمع في أن ينتشر ذلك الأمر في الحال، ولكن لا بد من الصَّبر وتحمل المشقة، ثم إذا جاء وقت النصرة اجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق، فتصير الأديان باطلة، ضعيفة، ساقطة، ودينك الحق ظاهراً عالياً، وهنالك يظهر ذكر الله على الألسنة، وفي المحاريب وعلى المنابر، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر مناسبة سائر الوجوه.
قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . هذا جوابُ القسم، وقوله: «والمُرسَلاتِ» وما بعده معطوف عليه، وليس قسماً مستقلاً، لما تقدم في أول الكتاب، لوقوع الفاء هنا عاطفة؛ لأنها لا تكون للقسم، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي اسم إن و «تُوعَدُون» صلتها، والعائد محذوف، أي إن الذي توعدونه، و «لواقع» خبرها، وكان من حق «إن» أن تكون منفصلة عن «ما» الموصولة، ولكنهم كتبوها متصلة بها.
فصل في الموعود به
إنما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم ثم لذكره علامات القيامة بعده.
وقال الكلبي: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشَّر لواقع بكم.(20/67)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} اي: ذهب ضوؤها، ومُحِيَ نورها كطَمْسِ الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا درس، وطمس فهو مطموس، والريح(20/67)
تطمس الآثار، فتكون الريح طامسة، والأثر طامس بمعنى مطموس.
قال ابن الخطيب: ويحتمل ان تكون محقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى: {نُشرت} .
و «النُّجومُ» مرتفعة بفعل مضمر يفسره ما بعده عند البصريين غير الأخفش، وبالابتداء عن الكوفيين والأخفش.
وفي جواب «إذا» قولان:
أحدهما: محذوف، تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون، لدلالة قوله إنما توعدون لواقع أو بان الأمر.
والثاني: أنه «لأيَِّ يَومٍ أجِّلتْ» على إضمار القول، أي يقال: لأي يوم أجّلت، فالفعل في الحقيقة هو الجواب.
وقيل: الجواب: «وَيْلٌ يَوْمَئذٍ» . نقله مكي، وهو غلط؛ لأنه لو كان جواباً للزمته الفاء لكونه جملة اسمية.
قوله تعالى: {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} . أي: فتحت وشقّت، ومنه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ: 19] ، والفَرْجُ: الشقُّ، ونظيره: {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] .
وروى الضحاك عن ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قال: فرجت للطي.
قوله تعالى: {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} أي: ذهب بها كلها بسرعة، من أنسفت الشيء إذا اختطفته، وقيل: تنشق كالحب المغلق إذا نسف بالمنسف، ومنه قوله تعالى: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} [طه: 97] ، ونظيره: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5] {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14] {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] .
وقرئ: «طُمّست، وفُرّجت، ونُسّفت» مشددة.
وكان ابن عباس يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف، إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشرٌ: [الوافر]
5055 - نَسُوفٌ لِلحزَامِ بِمرْفقيْهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(20/68)
ونسفت الناقة الكلأ إذا رعتهُ.
قوله: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} . قرأ أبو عمرو: «وقِّتَتْ» بالواو، والباقون: بهمزة بدل الواو. قالوا: والواو هي الأصل؛ لأنه من الوقت، والهمزة بدل منها لأنها مضمومة ضمة لازمة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة تبدل على الاطراد همزة أولاً، تقول: صلى القوم إحداناً، تريد: وِحدَاناً، وهذه أجوه حسان؛ لأن ضمة الواو ثقيلة وبعدها واو فالجمع بينهما يجري مجرى المثلين فيكون ثقيلاً، ولم يجز البدل في قوله تعالى {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ؛ لأن الضمة غير لازمة، قال الفراء. وقد تقدم ذكر ذلك أول الكتاب.
فصل في المراد بالتأقيت
قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي تحضرون فيه للشهادة على أممكم، أي: جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] .
وقيل: المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه، وليس في اللفظ بيان أنه يحصل لوقت أي شيء، ولم يبينه ليذهب الوهم إلى كل جانب، فيكون التهويل فيه أشد، فيحتمل أن يكون المراد تكوين وقت جمعهم للفوز بالثواب، وأن يكون وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به، وسؤال الأمم عما أجابوا هم لقوله تعالى:
{فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] ، وأن يكون وقت مشاهدة الجنة والنار وسائر أحوال القيامة، وقيل: «أقِّتَتْ» أي: أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراده.
فصل في قراءات الآية
قرأ أبو جعفر وشيبة: بالواو وتخفيف القاف وهو «فعلت» من الوقت، ومنه {كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] .
وقرئ - أيضاً -: «وُوقتت» - بواوين -، وهو «فوعلت» من الوقت أيضاً مثل: عُوهِدَت.
قال القرطبي: «ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز، وقد قرأ يحيى(20/69)
وأيوب وخالد بن إلياس وسلام:» أقِتَتْ «بالهمز والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف» .
قوله تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} . الجار متعلق ب «أجلت» وهذه الجملة معمولةٌ لقول مضمر، أي: يقال وهذا القول المضمرُ يجوز أن يكون جواباً ل «إذا» - كما تقدَّم - وأن يكون حالاً من مرفوع «أقتت» أي: مقولاً فيها لأيِّ يوم أجّلت أي: أخّرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم، فهو استفهام على التعظيم، أي ليوم الفصل أجلت، كأنه تعالى قال: يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم، فيقال: لأي يوم أجلت الأمور المتعلقة بهذه الرسل، وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب، ونشر الدواوين ووضع الموازين.
قوله: {لِيَوْمِ الفصل} بدل من «لأيِّ يومٍ» بإعادة العامل.
وقيل: بل يتعلق بفعل مقدر أي أجلت ليوم الفصل، وقيل: اللام بمعنى «إلى» ذكرها مكي.
فصل في المراد بيوم الفصل
اعلم أنه تعالى بين ذلك اليوم فقال: {لِيَوْمِ الفصل} ، قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق، لقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان: 40] .
قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} . أتبع التعظيم تعظيماً، أي: وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته، ثم أتبعه بتهويل ثالث، وهو قوله: «ويْلٌ» مبتدأ، سوغ بالابتداء به كونه دعاء.
قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف وقعت النكرة مبتدأ في قوله تعالى {وَيْلٌ} ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات معنى الهلاك، ودوامه للمدعو عليهم، ونحوه {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] ، ويجوز» قِيلاً «بالنصب، ولكنه لم يقرأ به» .
قال شهاب الدين: «هذا الذي ذكره ليس من المسوّغات التي عدها النحويون وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره» .
و «يَوْمئذٍ» ظرف للويل.
وجوز أبو البقاء: أن يكون صفة للويلِ، وللمكذبين خبره.(20/70)
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: عذاب وخِزْي لمن كذب بالله تعالى وبرسله، وعلى تقدير تكذيبهم؛ فإنَّ لكل مكذب بشيء سوى تكذيبه بشيء آخر، وربّ شيء كذب به وهو أعظم جرماً من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله تعالى، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وهو قوله: {جَزَآءً وِفَاقاً} [النبأ: 26] .
وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد.
وروي عن النعمان بن بشير قال: «ويْلٌ» واد في جهنم فيه ألوان العذاب، قاله ابن عباس وغيره.
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «عُرِضتْ عليَّ جَهنَّمُ فَلمْ أرَ فيهَا وَادِياً أعْظمَ منَ الوَيْلِ» .
وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيحِ أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أن شرّ المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسلات من الجيف وماء الحمَّامات، فذكر أن ذلك الوادي مستنقع صديد أهل النَّار والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذرُ منه قذارةً، ولا أنتنُ منه نتناً.
قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} . العامة: على ضم حرف المضارعة، من «أهْلَكَ» رباعيًّا، وقتادة: بفتحه.
قال الزمخشري: من هلكه بمعنى «أهلكه» ؛ قال العجاج: [الرجز]
5056 - ومَهْمَهٍ هَالكُ مَنْ تَعرَّجَا ... ف «من» معمول الهالك، وهو من «هلك» ، إلاَّ أن بعض النَّاس جعل هذا دليلاً على إعمال الصِّفة المشبهة في الموصول، وجعلها من اللازم؛ لأن شرط الصفة المشبهة أن تكون من فعل لازم، فعلى هذا دليل فيه.
قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} .
العامة: على رفع العين استئنافاً أي: ثم نحن نتبعهم، كذا قدره أبو البقاء.(20/71)
وقال: «وليس بمعطوف، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين، ثمَّ أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك؛ لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد» .
قال شهاب الدين: ولا حاجة في وجه الاستئناف إلى تقدير مبتدأ قبل الفعل، بل يجعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله: «ألَمْ نُهْلكِ» ، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله: «ثم سَنُتْبِعهُم الآخرين» بسين التنفيس، وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو: بتسكينها، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تسكين للمرفوع، فهو مستأنف كالمرفوع لفظاً.
والثاني: أنه معطوف على مجزوم، والمعني بالآخرين حينئذ قوم شعيب ولوط وموسى، وبالأولين قوم نوح وعاد وثمود.
قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {نُتْبِعُهُمُ} مضارع، وهو للحال والاستقبال، ولا يتناول الماضي، وإنما المراد بالأولين: جميع الكفار الذين كانوا في عهد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} على الاستئناف، أي: سنفعل ذلك، ونتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله في نتبعهم تدل على الاشتراك، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل.
قلنا: لو كان المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين، وهو غير جائز، فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم، بل للتخفيف.
قوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ} أي: مثل ذلك الفعل الشَّنيع نفعل بكل من أجرم.
فصل في المراد بالآية
المقصوُد من هذه الآية تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر، أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدُن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - {ثُمَّ نُتْبِعهُمُ الآخرين} أي: نُلحق الآخرين بالأولين، {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي: مثل ما فعلنا بمن تقدم بمشركي قريش إما بالسيف وإما بالهلاك، ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} كأنه تعالى يقول: أما الدنيا: فحاصلهم الهلاك، وأما الآخرة فالعذاب الشديد، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {خَسِرَ الدنيا والأخرة ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] فإن قيل: المراد من قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} وهو مطلق الإماتة،(20/72)
والإماتة بالعذاب فإن كان مطلق الإماتة لم يكن ذلك تخويفاً للكفار؛ لأن ذلك معلوم حاصل للمؤمن والكافر، فلا يكون تخويفاً للكفار، وإن كانت الإماتة بالعذاب فقوله تعالى: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} يقتضي أن يكون فعل بكفَّار قريش مثل هذا، ومعلوم أن ذلك لم يوجد، وأيضاً فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] .
فالجواب: قال ابن الخطيب: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالث، وهو الإماتة للذمِّ واللَّعن، فكأنه قيل: أولئك المتقدمون لحرصهم على الدنيا عادوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا ففاتتهم الدنيا، وبقي اللَّعْن عليهم في الدنيا والعقوبة في الاخرة دائماً سرمداً، فهكذا يكون حال الكفار الموجودين، وهذا من أعظم وجوه الزجر.(20/73)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
قوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} . أي: ضعيف حقير وهو النُّطفة، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، فيكون العقاب أعظم، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
والثاني: أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8] .
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} ، أي: مكان حريز وهو الرَّحم.
{إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، قال مجاهد: إلى أن نصوره، وقيل: إلى وقت الولادة، كقوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] إلى قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} [لقمان: 34] .
قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} ، قرأ نافع والكسائي: بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] .(20/73)
والباقون: بالتخفيف، من القدرة، ويدل عليه {فَنِعْمَ القادرون} .
ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى: فنعم القادرون على تقديره: وإن جعلت «القادرون» بمعنى «المقدرون» كان جمعاً بين اللَّفظين، ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] ؛ وقول الأعشى: [البسيط]
5057 - وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا
وقال الكسائي والفراء: هما لغتان بمعنى.
قال القتيبي: «قَدَرْنَا» بمعنى «قَدَّرْنَا» مشددة، كما تقول: قدرت كذا وقدرته ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الهلال: «إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ» أي: قدروا له المسير والمنازل.
وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء: أنه ذكر تشديدها عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وتخفيفها.
قال: ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً، لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر، قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر، واحتج الذين خففوا فقالوا: لو كانت كذلك لكانت «فنِعْمَ المُقدِّرُونَ» .
قال الفراء: والعرب تجمع بين اللُّغتين، واستدل بقوله: {فَمَهِّلِ الكافرين} الآية، [الطارق: 17] وذكر بيت الأعشى المتقدم.
وقيل: المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً، ونحوه عن ابن عبَّاس: قدرنا ملكنا.
قال المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.(20/74)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} هذا هو النوع الرَّابع من تخويف الكُفَّار؛ لأنه - تعالى - ذكرهم في الآية المتقدمة بالنعم التي في الأنفس لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق، ثم قال في آخرها: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ؛ لأن النعم كلها كانت أكثر كانت الخيانة أقبح وكان استحقاق الذم أشد، وذكر في هذه الآية النعم التي في الأنفس، لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق، قالوا: فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان(20/74)
الانتفاع بشي من المخلوقات ممكناً - والله أعلم -، وإنما قدم الأرض لأنها أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجة.
والكِفَات: اسم للوعاء الذي يكفت فيه أي يجمع. قاله أبو عبيدٍ، يقال: كفته يكفته أي جمعه وضمه.
وفي الحديث: «أكْفِتُوا صبيانكُم» ، قال الصمصمامة بن الطرمَّاح: [الوافر]
5058 - وأنْتَ غَداً اليَوْمَ فَوْقَ الأرْضِ حَيًّا ... وأنْتَ غَداً تَضُمَّكَ فِي كِفاتِ
وقيل: الكِفَات: اسم لما يكفت ك «الضِّمام والجماع» ، يقال: هذا الباب جماع الأبواب، والمعنى: نجعل الأرض ضامَّة تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، والكفت: الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه: [الوافر]
5059 - كِرَامٌ حِينَ تَنْكفِتُ الأفَاعِي ... إلَى أحْجارِهنَّ مِنَ الصَّقيعِ
وروي عن ربيعة في النباش، قال: تقطع يده، فقيل له: لم قلتَ ذلك؟ فقال: إن الله - تعالى - يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} فالأرض حِرز، وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفته، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم، وأيضاً استقرار النَّاس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها.
وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، والأرض منقسمة إلى حيٍّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت.
وفي انتصاب: «كَفَاتاً، أحياء وأمواتاً» وجهان:
أحدهما: أنه مفعول ثانٍ ل «نجعل» ؛ لأنها للتصيير.
والثاني: أنه منصوب على الحال من «الأرض» ، والمفعول الثاني: «أحياءً وأمواتاً» بمعنى: ألم نصيِّرها أحياء بالنبات، وأمواتاً بغير نبات، أي: بعضها كذا، وبعضها كذا.
وقيل: «كِفَاتاً» جمع كافت ك «صيام، وقيام» جمع «صائم، وقائم» .
وقيل: بل هو مصدر كالكتاب والحساب.
وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشَّيء ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات: أنهم يتصرفون على ظهرها، وينقلبون إليها فيدفنون فيها.(20/75)
قوله: {أَحْيَآءً} . فيه أوجه:
أحدها أنه منصوب ب «كفات» قاله مكي، والزمخشري؛ وبدأ به بعد أن جعل «كِفَاتاً» اسم ما يكفت، كقولهم: الضِّمام والجماع.
وهذا يمنع أن يكون «كِفَاتاً» ناصباً ل «أحياءً» ؛ لأنه ليس من الأسماء العاملة، وكذلك إذا جعلناه بمعنى الوعاء على قول أبي عبيدة، فإنه لا يعمل أيضاً، وقد نصّ النحاة على أن أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات وإن كانت مشتقة جارية على الأفعال لا تعمل، نحو: مَرْمَى، ومَنْجَل.
وفي اسم المصدر خلاف مشهور، ولكن إنما يتمشّى نصبهما ب «كفات» على قول أبي البقاء، فإنه يجوز فيه إلا أن يكون جمعاً لاسم فاعل أو مصدراً وكلاهما من الأسماء العاملة.
الوجه الثاني: أن ينتصب بفعل مقدر يدل عليه «كفاتاً» أي: يكفتهم أحياءً عى ظهرها، وأمواتاً في بطنها، وبه ثنى الزمخشري.
الثالث: أن ينتصب على الحالِ من محذوف، أي: يكفتكم أحياءً وأمواتاً، لأنه قد علم أنها كفات للإنس قاله الزمخشري، وإليه نحا مكي، إلا أنه قدر غائباً اي تجمعهم الأرض في هاتين الحالتين.
الرابع: أن ينتصب مفعولاً ثانياً ل «نجعل» و «كفاتاً» حال، كما تقدم تقريره.
وتنكير «أحياء وأمواتاً» إما للتفخيم، أي يجمع أحياء لا يقدرون وأمواتاً لا يحصون، وإما للتبعيض؛ لأن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء ولا الأموات، وكذلك التنكير في «ماءً فراتاً» يحتمل المعنيين أيضاً، أما التفخيم فواضحٌ لعظم المنّة عليهم وأما التبعيض، فلقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فهذا مفهم للتبعيض والقرآن يفسِّر بعضه بعضاً.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} . أي جعلنا في الأرض «رواسي» وهي الثوابت «شامخات» ، وهي الجبال الطُّوال، جمع شامخ، وهي المرتفعة جدًّا، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبّر، جعل كناية عن ذلك كثني العطف، وصعر الخد وإن لم يحصل شيء من ذلك.
قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} ، أي: وجعلنا لكم سُقْياً، والفرات: الماء العذب يُشْرَب ويُسْقَى به الزرع، أي: خلقنا الجبال، وأنزلنا الماء الفرات، وهذه الأمور أعجبُ من البعث.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن.(20/76)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
وفي مسلم: سيحان وجيحان، والنيل، والفرات، كل من أنهار الجنة.
قوله
تعالى
: {انطلقوا
} . أي: يقال لهم ذلك.
والعامة: على «انطلقوا» الثاني كالأول بصيغة الأمر على التأكيد وروى رويس عن يعقوب: «انْطَلَقُو» - بفتح اللام - فعلاً ماضياً على الخبر، أي: لمَّا أمروا امتثلوا ذلك وهذا موضع الفاء، فكان ينبغي أن يكون التركيب فانطلقوا، نحو قولك: قلت له: اذهب فذهب، وعدم الفاء هنا ليس بواضح.
فصل في كيفية عذاب الكفار في الآخرة
هذا هو النَّوع الخامس من تخويف الكُفَّار، وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة والمعنى: يقال لهم: انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب، يعني النار، فقد شاهدتموها عياناً.
{انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} أي: دخان ذي ثلاث شعب، يعني الدخان الذي يرتفع، ثم يتشعب إلى ثلاث شعب، وكذلك بيان دخان جهنم العظيم إذا ارتفع تشعب.
قال أبو مسلم: ويحتمل في ثلاث شعبٍ ما ذكره بعد ذلك، وهو أنه غير ظليل، وأنه لا يغنى من اللهب، وبأنه يرمي بشرر، ثم وصف الظليل، فقال:
{لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} أي: لا يدفع من لهب جهنم شيئاً، أي: ليس كالظلِّ الذي يقي حر الشمس، وهذا تهكّم بهم، وتعريض بأن ظلَّهم غير ظلَّ المؤمنين، وأنه لا يمنع حرَّ الشمس.
واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر، وأصفر، وأخضر.
وقيل: إن الشعب الثلاث من الضَّريع، والزَّقُّوم، والغسلين؛ قاله الضحاك.
وقيل: اللهب ثم الشرر ثُمَّ الدخان، لأنها ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت.
وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب، فأما النور فيقف على رءوس(20/77)
المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رءوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رءوس الكفار.
وقيل: هو السرادق، وهو لسان من النَّار يحيط بهم يتشعب منه ثلاث شعب، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم، لقوله تعالى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] .
وتَسْمِيَةُ النَّار بالظِّل مجاز من حيث إنها محيطةٌ بهم من كل جانب، لقوله تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]
وقيل: هو الظل من يحموم لقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} [الواقعة: 43، 44] .
وفي الحديث: «إنَّ الشَّمسَ تَدنُو مِنْ رُءوسِ الخَلائقِ، وليْسَ عَلَيْهِم ولا لَهُمْ أكْفانٌ، فتَلْحَقُهمُ الشَّمْسُ وتَأخذُ بأنْفَاسِهمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللهُ بِرحْمَتهِ مَنْ يَشَاءُ إلى ظلِّ من ظلِّه، فهُناكَ يقُولُونَ: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} [الطور: 27] ويقال للمذكبين: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه» .
قوله: {لاَّ ظَلِيلٍ} صفة ل «ظلّ» ، و «لا» متوسّطة بين الصفة والموصوف لإفادة النَّفي، وجيء بالصِّفة الأولى اسماً، وبالثانية فعلاً دلالة على نفي ثبوت هذه الصِّفةِ واستقرارها للظل، ونفي التجدد والحدوث للإغناء عن اللَّهب، يقال: أغني عني وجهك، أي أبعد؛ لأن الغنيَّ عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه.
فال الزمخشري: «ولا يغني» في محل الجر، أي وغير مُغْنٍ عنهم من حر اللهب شيئاً.
{إِنَّهَا} أي إن جهنم، لأن السياق كله لأجلها.
وقرأ العامة: «بِشَررٍ» بفتح الشين وألف بين الراءين.
وورش يرقّق الراء الأولى لكسر التي بعدها.
وقرأ ابن عباس وابن مقسم: بكسر الشين وألف بين الراءين.
وعيسى كذلك، إلا أنه يفتح الشين.
فقراءة ابن عباس: يجوز أن تكون جمعاً ل «شَرَرة» ، و «فَعَلة» تجمع على «فِعَال» نحو «رَقَبة ورِقَاب، ورحبة ورِحَاب» .(20/78)
وأن يكون جمعاً ل «شر» لا يراد به «أفعل» التفضيل: يقال: رجل شر، ورجال أشرار ورجل خير ورجال أخيار، ويؤنثان، فيقال: امرأة شرة وامرأة خيرة، فإن أريد بهما التفضيل امتنع ذلك فيهما، واختصّا بأحكام مذكورة في كتب النحو، أي: ترمي بشرار من العذاب، أو بشرار من الخلق.
وأما قراءة عيسى: فهو جمع شرارة بالألف، وهي لغة تميم، والشررة والشرارة: ما تطاير من النار منصرفاً.
قال القرطبي: «الشرر: واحدته شررة، والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجفَّ.
والقَصْر: البناء العالي» .
قوله: {كالقصر} العامة على فتح القاف وسكون الصاد وهو من القصر المعروف شبِّهت به في كبره وعظمه.
وابن عباس وتلميذه ابن جبير والحسن: بفتح القاف والصَّاد، وهي جمع قصرة - بالفتح - والقصرة: أعناق الإبل والنخل وأصول الشجر.
وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً: بكسر القاف وفتح الصَّاد، جمع قصرة بفتح القاف.
قال الزمخشري: «كحاجة وحوج» .
وقال أبو حيان: «كحلقة من الحديد وحلق» .
وقرئ: «كالقَصِر» بفتح القاف وكسر الصاد.
قال شهاب الدين: ولم أر لها توجيهاً، ويظهر أن يكون ذلك من باب الإتباع والأصل: كالقصر - بسكون الصاد - ثم أتبع الصاد حركة الراء فكسرها، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المشغول بحركة نحو «كَتِف، وكَبِد» فلأن يفعلوه في الخالي منها أولى، ويجوز أن يكون ذلك للنقل، بمعنى أنه وقف على الكلمة، فنقل كسرة الراء إلى الساكن قبلها، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وهو باب شائع عند القراء والنحاة.
وقرأ عبد الله: قُصُر وفيها وجهان:(20/79)
أحدهما: أنه جمع قصر، ك «رَهْن ورُهُن» . قاله الزمخشري.
والثاني: أنه مقصور من قصور؛ كقوله: [الرجز]
5060 - فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ ...
يريد: نمور، فقصر، وكقوله: {والنجم} [النجم: 1] يريد: النجوم.
وتخريج الزمخشري أولى، لأن محل الثاني إما الضرورة، وإما الندور.
قوله: «جِمَالات» قرأ الأخوان وحفص: «جِمَالَة» ، والباقون: «جِمَالاَت» .
ف «الجِمَالة» نحو «ذكر، وذِكارة، وحجر، وحِجَارة» .
والثاني: أنه جمع ك «الذِّكَارة، والحِجَارة» . قاله أبو البقاء.
والأول: قول النحاة.
وأما «جمالات» ، فيجوز أن يكون جمعاً ل «جمالة» ، وأن يكون جمعاً ل «جمال» ، فيكون جمع الجمع، ويجوز أن يكون جمعاً ل «جميل» المفرد كقولهم: «رجالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظر؛ لأنهم نصُّوا على أن الأسماء الجامدة، وغير العاقلة لا تجمع بالألف والتاء، إلا إذا لم تكسر، فإن تكسرت لم تجمع، وقالوا: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل]
5061 - إذَا كَانَ بَعْضُ النَّاس سَيْفاً لِدوْلَةٍ ... فَفِي النَِّاس بُوقاتٌ لَهُمْ وطُبُولُ
فجمع «بوقاً» على «بوقات» مع قولهم: «أبواق» ، فكذلك «جمالات» مع قولهم: «جمل، وجمال» على أن بعضهم لا يجيز ذلك، ويجعل نحو «حمامات، وسجلات» شاذًّا، وإن لم يكسر.
وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء، بخلاف عنهم كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم، وهي حبال السفن.
وقيل: قلوص الجسور، الواحد منها جملة، لاشتمالها على طاقات الحبال، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون «جُمالات» - بالضم - جمع جمال، ف «جمال» جمع «جملة» ، كذا قال أبو حيَّان، ويحتاج في إثبات أن «جُمَالات» جمع «جملة» بالضم إلى نقل.(20/80)
والثاني: أن «جمالات» جمع «جمالة» . قاله الزمخشري. وهو ظاهر.
وقرأ ابن عبَّاس والسلمي وأبو حيوة: «جُمَالة» بضم الجيم لما قاله الزمخشري آنفاً.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنها قطع النُّحاس.
قوله: {صُفْرٌ} . صفة ل «جمالات» أو ل «جمالة» لأنه إما جمع أو اسم جمع.
والعامة: على سكون الفاء جمع، والحسن بضمها، كأنه إتباع، ووقع التشبيه بها في غاية الفصاحة.
قال الزمخشري: وقيل: «صُفْر» سود تضرب إلى الصفرة، وفي شعر عمران بن حطَّان الخارجيِّ: [الطويل]
5062 - دَعتْهُمْ بأعْلَى صَوْتهَا ورَمتهُمُ ... بِمِثْلِ الجمالِ الصُّفْرِ نزَّاعةُ الشَّوَى
وقال أبو العلاءِ: [الكامل]
5063 - حَمْرَاءُ سَاطِعَةُ الذَّوائِبِ في الدُّجَى ... تَرْمِي بكُلِّ شَرارةٍ كطِرَافِ
فشبهها بالطِّراف، وهو بيت الأدم في العظمِ والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته قوله: حمراء، توطئة لها ومناداة عليها تنبيهاً للسَّامعين على مكانها، ولقد عمي، جمع الله له عمى الدارين عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر، وهو الحصن تشبيهاً من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطّول في الهواء.
انتهى.
وكان قد قال قبل ذلك بقليل: «شبهت بالقصور، ثم بالجمال لبيان التشبيه؛ ألا ترى أنهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل» .
والأفدان: القصور؛ كأنه يشير إلى قول عنترة: [الكامل]
5064 - فَوقفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وكَأنَّهَا ... فَدنٌ لأقْضِيَ حَاجةَ المُتلومِ
فصل في المراد بالقصر
قال القرطبي: القصر: البناء العالي.(20/81)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
وقيل: القصر: جمع قصرة - ساكنة الصاد - مثل جمرة وجمرة، وتمر وتمرة، والقصر: الواحدة من جزل الحطب الغليظ.
قال سعيد بن جبير، والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع.
وقيل: أعناقه: شبّه الشرر بالجمال الصفر، وهي الإبل السود، والعرب تسمي السود من الإبل صفراً.
قال الشاعر: [الخفيف]
5065 - تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي: هنّ سود، وإنما سميت السود من الإبل صفراً؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة.
قال الترمذي: وهذا القول ضعيف، ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قال هذا، وقد قال تعالى: {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} فلا نعلم شيئاً من هذا في اللغة. والجمالات: الجمال.
وقال الفراء: يجوز أن تكون الجُمَالات - بالضم - من الشيء المجمل، يقال: أجملت الحساب، وجاء القوم جملة، أي مجتمعين.
والمعنى: أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر.
قيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها.
وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً.
قوله
: {هذا
يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} العامة على رفع «يوم» خبراً ل «هذا» ، أي تقول الملائكة: هذا يوم لا ينطقون.
ويجوز أن يكون «انطَلِقُوا» من قول الملائكة ثم يقول الله لأوليائه: هذا يومُ لا ينطق الكافر، ومعنى اليوم السَّاعة والوقت.
وزيد بن علي، والأعرج، والأعمش، وأبو حيوة، وعاصم في بعض طرقه: بالفتحِ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن الفتحة فتحة بناء، وهو خبر ل «هذا» كما تقدم.(20/82)
والثاني: أنه منصوب على الظرف واقعاً خبراً ل «هذا» على أن يشار به لما تقدم من الوعيد، كأنه قال: هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون وقد تقدم آخر المائدة ما يشبه هذا في قوله تعالى: «هذا يَوْم يَنفَع» إلا أن النصب هناك متواتر.
قوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ} العامة: على عدم تسمية الفاعل. وحكى الأهوازي عن زيد بن علي: «ولا يَأذَنُ» سمى الفاعل، وهو الله تعالى.
وقوله: فيعتذرون «. في رفعه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف، أي فهم يعتذرون.
قال أبو البقاء: ويكون المعنى: أنهم لا ينطقون نطقاً ينفعهم، أو ينطقون نطقاً في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها.
والثاني: أنه معطوف على» يؤذن «فيكون منفياً، ولو نصب لكان متسبباً عنه.
وقال ابن عطيَّة:» ولم ينصب في جواب النَّفْي لتشابه رءوس الآي، والوجهان جائزان «.
فظهر من كلامه أنهما بمعنى واحد، وليس كذلك بل المرفوع له معنى غير معنى المنصوب، وإلى هذا ذهب الأعلم إلى أن الفعل قد يرتفع ويكون معناه النصب، ورد عليه ابن عصفور.
قال الفرَّاء في قوله:» وَلاَ يُؤْذَنُ لهُمْ فيَعْتَذِرُونَ «: الفاء نسق، أي عطف على» يؤذن «، وأجيز ذلك، لأن آخر الكلام بالنون، ولو قال: فيعتذروا، لم يوافق الآيات، وقد قال: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36] ، بالنصب، وكل صواب، ومثله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} [البقرة: 245] ، بالرفع والنصب.
فصل في تخويف الكفار
هذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار، لأن الله - تعالى - بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح، ولا لهم قدرة على رفع العذاب عن أنفسهم، واعلم أن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يعتذرون.
روى عكرمة: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} و {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] ، وقد قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الطور: 25] . فقال له: إن الله - تعالى - يقول:
{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ(20/83)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان.
وقال الحسن: فيه إضمار، أي هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد، فكأنه ما نطق، كما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد: ما قلت شيئاً، وقيل: إن هذا وقت جوابهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .
قال الفراء: أراد بقوله: «لا ينطقون» تلك الساعة، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما تقول: آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى: ساعة يقدم، وليس باليوم كله؛ لأن القدوم إنما يكون في وقت يسير ولا يمتد في كل اليوم.
وأجاب ابن الخطيب: بأن قوله تعالى {لاَ يَنطِقُونَ} لفظ مطلق، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع، ولا في الأوقات، بدليل أنك تقول: فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير، وتارة تقول: فلان لا ينطق شيئاً ألبتة، فهذا يدل على أن مفهوم «لا ينطق» مشترك بين الدائم والمؤقت، وإذا كان كذلك فمفهوم «لا ينطق» يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء، وفي بعض الأوقات، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر، فيكتفى في صدق قوله: «لا يَنطقُونَ» أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت واحد، وهو وقت السؤال.
فإن قيل: لو حلف لا ينطق في هذا اليوم حنث في قطعه في جزء منه. قلنا: ذلك لعرف الإيمان بحثنا في عرف اللفظ من حيث هو.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قوله: {ولا يُؤذنُ لهُم فيَعتَذِرُونَ} يوهم أن لهم عذراً، وقد منعوا من ذكره، فهم لا يؤذن لهم في ذكر ذلك العذر الفاسد.
قوله
تعالى
: {هذا
يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ} . هذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم، أي: يقال لهم: هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من المبطل.(20/84)
{جَمَعْنَاكُمْ والأولين} .
قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين كذبوا النبيين من قبله.
{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} أي: حيلة في الخلاص من العذاب «فَكِيدُونِ» أي «فاحتالوا لأنفسكم وفاء، ولن تجدوا ذلك.
وقيل: فإن كان لكم كيد أي إن قدرتم على حرب» فَكِيدُونِ «أي: حاربوني رواه الضحاك عن ابن عباس أيضاً، قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمداً وتحاربوني، فاليوم حاربوني.
وقيل: إنكم كنتم في الدنيا تعملون المعاصي، وقد عجزتم الآن عنها، وعن الدفع عن أنفسكم.
وقيل: إنه من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون كقول هود - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55] .(20/85)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} .
قال مقاتل والكلبي: المراد بالمتقين: الذين يتقون الشرك بالله تعالى؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم.
قال ابن الخطيب: فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرضِ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما من جعله بسبب الطاعة فلا يليق بالنظم، وأيضاً فإن المتقي للشرك يصدق عليه أنه متَّقٍ؛ لأن غاية هذا أنه عام مخصوص، فتبقى حُجَّة فيما عدا محل التخصيص، وأيضاً فأن يحمل اللفظ على المعنى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى تقوى الشرك، فالحمل عليه أولى.(20/85)
وقال بعضهم: هذه الآية أيضاً من جملة التهديد، فإن الكفار في الدنيا يكون الموت عليهم أسهل من أن يكون للمؤمنين دولة، فإذا رأوا عاقبة الفريقين في الآخرة تضاعف خسرانهم وندمهم، ولما أوعد الكفار بظل ذي ثلاث شعب، وعد المؤمنين بظلال وعيون وفواكه.
قوله: {فِي ظِلاَلٍ} . هذه قراءة العامة.
والأعمش والزهري وطلحة والأعرج: «ظُلَل» جمع ظلة، يعني في الجنة. وتقدم في «يونس» مثل لها.
قوله: {كُلُواْ} . معمولاً لقول ذلك المنصوب على الحال من الضمير المستكن في الظرف، أي كائنين في ظلال مقولاً لهم: وكذلك كلوا وتمتعوا قليلاً، فإن كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضح، وإن كان مقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالهم، أي حقاً بأن يقال لهم في دنياهم كذا؛ ومثله قوله: [المديد]
5066 - إخوتِي لا تَبعَدُوا أبَداً ... وبَلَى، واللَّهِ قَدْ بَعِدوا
أي هم أهل إن دعا لهم بذلك.
قوله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} . أي: نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعمالهم في الدنيا.
فصل في الكلام على الآية
اختلفوا في قوله {كُلُواْ واشربوا} هل هو أمر أو إذن؟ .
فقال أبو هاشم: هو أمر، وأراد الله تعالى منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك إذا علموا أن الله تعالى أراده منهم جزاء على عملهم، فكما يريد إجلالهم وإعظامهم بذلك، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب منهم. وقال أبو علي: ليس بأمر وإنما يقوله على وجه الإكرام، والأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف لا في الاخرة.
فصل فيمن قال: العمل يوجب الثواب
تمسّك من قال: العمل يوجب الثواب بالباء في قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأن الباء للإلصاق، ولمَّا جعل هذا العمل(20/86)
علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك كالآلة والصلة إلى تحصيل ذلك الثواب، وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} المقصود منه تذكير الكفار بما فاتهم من النعيم العظيم ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات، فلما لم يفعلوا وقعوا فيما وقعوا فيه.
قوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين وهو وعيد وتهديد، وهو حال من المكذبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي كافرون.
وقيل: مكتسبون فعلاً يضركم في الآخرة من الشرك، فكأنه - تعالى - يقول للكافر: إنك في الدنيا عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها لمحبتك الدنيا، ورغبتك في طيباتها، إلا أن طيباتها قليلةٌ بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة، فالمشتغل بتعظيمها يجري مجرى لُقْمةٍ واحدة من الحلوى، وفيها السم المهلك، فإنه يقال لآكلها تذكيراً له ونصحاً: كُلْ هذا، وويلٌ لك منه بعدُ؛ فإنك من الهالكين بسببه، فهذا وإن كان في اللفظ أمر إلا أنه في المعنى نهيٌ بليغ وزجر عظيم.
قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} نزلت في ثقيف، حين امتنعوا من الصلاة فنزلت فيهم.
قال مقاتل: قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أسْلِمُوا وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا نَنْحَنِي، فإنها مَسبَّة علينا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا خَيْرَ فِي دِينٍ ليس فيهِ رُكوعٌ ولا سجُودٌ» .
وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
وقال قتادة: هذا في الدنيا.
فصل في وجوب الركوع
قال ابن العربي: هذه الآية تدلّ على وجوب الركوع، وكونه ركناً في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه.(20/87)
وقال قوم: إن هذا يكون في الآخرة، وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفاً لحال الناس في الدنيا، فمن كان يسجد لله تمكن من السجود، ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقاً واحداً.
وقيل: إذا قيل لهم: اخضعوا للحق لا يخضعون، فهي عامّة في الصلاة وغيرها، وإنما ذكره الصلاة لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد، والأمر بالصلاة أمر الإيمان لا يصح من غير إيمان.
فصل في المراد بالآية
حكى ابن الخطيب عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن المراد بقوله: {وإذا قيلَ لهم اركعُوا لا يَرْكعُونَ} هو الصلوات، قال: وهذا ظاهر، لأن الركوع من أركانها فبين أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقُّون الذم والعقاب بترك الصلاة، لأن الله - تعالى - ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة.
فصل في أن الأمر للوجوب
استدلوا بهذه الآية على أن الأمر للوجوب، لأن الله - تعالى - ذمهم بمحمود ترك المأمور به، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب.
فإن قيل: إنما ذمهم لكفرهم.
فالجواب: أنه - تعالى - ذمهم على كفرهم من وجوه، إلا أنه - تعالى - إنما ذمهم في هذه الآية لترك المأمور به؛ فدل على أن ترك المأمور به غير جائز.
قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} . متعلق بقوله: {يُؤْمِنُونَ} .
والعامة: على الغيبة، وقرأ ابن عامر في رواية ويعقوب: بالخطاب على الالتفات، أو على الانفصال.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها في الوجوه العشرة المذكورة، وحثَّ على التمسُّك بالنظر والاستدلال، والانقياد للدين الحق، ختم السورة بالتعجُّب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه(20/88)
الدلائل العقلية بعد تجليتها ووضوحها، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
قال القاضي: هذه الآية تدلّ على أن القرآن محدث؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه حديث، والحديث ضد القديم، والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب ألاَّ يكون قديماً.
وأجيب: بأن المراد منه هذه الألفاظ، ولا نزاع في أنها محدثة.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ» المُرْسَلاتِ «كُتِبَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُشْرِكينَ» .(20/89)
سورة النبأ(20/90)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
مكية، وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثة وسبعون كلمة، وسبعمائة وسبعون حرفا. قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} قد تقدم أن البزي يدخل هاء السكت عوضاً من ألف «ما» الاستفهامية في الوقف.
ونقل عن ابن كثير أنه يقرأ «عمه» - بالهاء - وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عبد الله، وأبي، وعكرمة وعيسى: «عمّا» بإثبات الألف، وقد تقدم أنه يجوز ضرورة وفي قليل من الكلام؛ ومنه قوله: [الوافر]
5067 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمنِي لَئيمٌ ... كَخِنْزيرٍ تَمرَّغَ في رَمَادِ
وتقدم أن الزمخشري جعل منه {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27] في «يس» ، و «عم» فيه قولان:
أظهرهما: أنه متعلق ب «يَتَساءَلون» .
قال أبو إسحاق: الكلام تام في قوله: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب، فيقول: يتساءلون عن النبأ العظيم فاقتضى إيجاز القرآن، وبلاغته أن يبادر المحتجّ بالجواب الذي يقتضيه الحال والمجاورة اقتضاءً بالحجة، وإسراعاً إلى موضع قطعهم.(20/90)
والثاني: أنه متعلق بفعل مقدر، ويتعلق «عن النبأ العظيم» بهذا الفعل الظاهر.
قال الزمخشري: «وعن ابن كثير: أنه قرأ» عمّه «بهاء السكت، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف، ويبتدئ ب» يتساءلون عن النبأ العظيم «على أن يضمر» يتساءلون «؛ لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسر» .
فصل في لفظ عم
قال ابن الخطيب: «عم» أصله: «عن ما» ؛ لأنه حرف جر دخل على «ما» الاستفهامية.
قال حسان بن ثابت: [الوافر]
5068 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... ... ... ... ... ... ... ..... ... .
والاستعمال الكثير على الحذف، وعلى الأصل قليل، وذكروا في سبب الحذف وجوهاً:
أحدها: قال الزجاج: لأن الميم تشرك النون في الغُنَّة في الأنف فصارا كالحرفين المتماثلين. وثانيها: قال الجرجاني: أنهم إذا وضعوها في استفهام حذفوا ألفها تفرقةً بينها وبين أن يكون اسماً، كقولهم: فيمَ ولِمَ وبِمَ وحتام.
وثالثها: قالوا: حذفت الألف لاتصال «ما» بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه لينبئ عن شدة الاتصال.
ورابعها: حذف للتخفيف في الكلام، فإنه لفظ كثير التَّرداد على اللسان.
فصل في أن السائل والمجيب هو الله تعالى
قال ابن الخطيب: قوله تعالى {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} سؤال، وقوله: «عن النبأ العظيم» جواب، والسائل والمجيب هو الله تعالى، وذلك يدلّ على علمه بالغيب، بل بجميع المعلومات، وفائدة ذكره في معرض السؤال والجواب؛ لأنه أقرب إلى التفهيم والإيضاح، ونظيره قوله تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
فصل في لفظ ما
«ما» لفظة وضعتْ لطلب ماهيَّات الأشياء، وحقائقها، تقول: ما الملك؟ وما(20/91)
الروح؟ وما الجن؟ والمراد طلب ماهياتها، وشرح حقائقها، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً، ثم إنَّ الشيء العظيم الذي يكون لفظه مزيَّة يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، فحصل بين الشيء المطلوب، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه، فلذلك سُئل عنه بما استعاره، وكأنه مجهول، ومنه
{الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين: 8] ، و {مَا العقبة} [البلد: 12] وشبهه.
فصل
قال الفراء: السؤال هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل، وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به، وإن لم يكن بينهم سؤال، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 50، 51] الآية، وهذا يدل على التحدث.
فصل في نزول الآية
والضمير في {يَتَسَآءَلُونَ} ل «قريش» .
روى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كانت قريش تجلس لمَّا نزل القرآن، فتتحدث فيما بينهم، فمنهم المصدقُ، ومنهم المكذبُ به، فنزلت {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} .
وقيل: «عم» قسم، فشدد المشركون أين يختصمون، بدليل قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4، 5] وهذا تهديد، والتهديد لا يليق إلا بالكفار.
فإن قيل: فما تصنع بقوله: {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} مع أنَّ الكفَّار كانوا متفقين في إنكار الحشر؟ فالجواب: لا نسلم اتفاقهم في إنكار الحشر؛ لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني، وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني، فمنهم من كان شاكَّا فيه لقوله: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً} [فصلت: 50] {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] .
ومنهم من ينكرهُ، ويقول: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] .
ومنهم من يُقرُّ بهِ لكنه ينكر نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حصل اختلافهم.
وأيضاً فهبْ أنَّهم كانوا منكرين له، لكن لعل اختلافهم في كيفية إنكاره، فمنهم من أنكر؛ لإنكاره الصانع المختار، ومنهم من ينكره؛ لاعتقاده أنَّ إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها، والقادر المختار إنما يكون قادراً على الممكن في نفسه.
وقيل: الضمير في «يتَساءَلُونَ» هم الكفَّار والمؤمنون كانوا جميعاً يتساءلون عنه،(20/92)
فأما المسلمُ فيزداد يقيناً وبصيرةً في دينه، وأمَّا الكافر فاستهزاءٌ وسخريةً، وعلى سبيل إيراد الشكوك، والشُّبهاتِ.
قال ابن الخطيب: ويحتملُ أنهم يسألون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون: ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة؟
قوله: {عَنِ النبإ} يجوز فيه ما جاء في قوله تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} [المرسلات: 12] في البدليَّة، والتعلُّق بفعلٍ مقدرٍ، ويزيد عليه ها هنا أنَّه يتعلق بالفعل الظاهر، ويتعلق ما قبله بمضمرٍ كما تقدم عن الزمخشري.
وقال ابن عطية: قال أكثر النحاة: «عن النَّبأ العظيم» يتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ» الظاهر كأنه قال: لم يتساءلون عن النبأ، وقوله «عَمَّ» هو استفهام توبيخ وتعظيم.
وقال المهدوي: «هن» ليس تتعلق ب «يَتَسَاءَلُونَ» الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزمُ دخول حرف الاستفهام، فيكون «أعن النبأ العظيم» ؟ كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرنا امتناع تعلقه ب «يتساءلون» الذي في التلاوة، وإنما يتعلق ب «يتساءلون» آخر مضمر، وحسُن ذلك لتقدم «يَتَسَاءَلُونَ» .
قال القرطبي: «وذكر بعضهم أن الاستفهام في قوله:» عن «مكرر إلا أنَّه مضمر كأنه قال:» عمَّ يَتَساءَلُون أعنِ النَّبَأ العَظيمِ «، فعلى هذا يكون متصلاً بالآية الأولى، والنبأ العظيم، أي: الخبر الكبير،» الذي هم فيه مختلفون «أي: يخالف فيه بعضهم بعضاً فيصدقُ واحدٌ ويكذبُ آخر» .
قوله: {مُخْتَلِفُونَ} خبر «هم» والجار متعلق ب «هم» ، والموصول يحتمل الحركات الثلاث إتباعاً وقطعاً رفعاً ونصباً.
فصل في المراد بهذا النبأ
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «النَّبَأُ» هو القرآن، قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم، وكانوا يختلفون فيه، فجعله بعضهم سحراً، وبعضهم شعراً، وبعضهم قال: أساطيرُ الأولين.
وقال قتادة: هو البعث بعد الموت اختلفوا فمصدِّق ومكذِّب، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ: 17] .(20/93)
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه أَمْرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنه لما بعث سأله اليهود عن أشياء كثيرة، فأخبره الله باختلافهم، وأيضاً فجعل الكفار يتساءلون فيما بينهم، ما هذا الذي حدث؟ فأنزل الله - تعالى - «عَمَّ يتسَاءَلُون» وذلك أنَّهُم عجبُوا من إرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال تعالى: {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] ، وعجبوا أن جاءهم بالتوحيد أيضاً كما قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، فحكى الله - تعالى - عن مسألة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله: «عم يتساءلون» .(20/94)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ؛ التكرار للتوكيد.
وزعم ابن مالك: أنَّه من باب التوكيد اللفظي، ولا يضر توسّط حرف العطف، والنحويون يأبون هذا، ولا يسمونه إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد، والعامة: على الغيبة في الفعلين.
والحسن ابن دينار وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما.
والضحاك: قرأ الأول كالحسن، والثاني كالعامة. والغيبة والخطاب واضحان.
فصل في لفظ كلا
قال القفالُ: «كلا» لفظة وضعت للردع، والمعنى: ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم، إنه باطل، وإنه لا يكون.
وقيل: معناه: حقَّا، ثم إنه - تعالى - كرر الردع والتهديد، فقال سبحانه {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، وأما تكرير الردع، فقيل: للتأكيد، ومعنى «ثُمَّ» الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد.
وقيل: ليس بتكرير.(20/94)
قال الضحاك: الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين أي: سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
وقال القاضي: يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه، وبالثاني: سيعلمون العذاب.
وقيل: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ما الله فاعل بهم يوم القيامة {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم.
قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً} لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، وإذا ثبت هذان الأصلان، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا وجه النظم.
قوله: «مِهَاداً» . مفعول ثان؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز ان يكون بمعنى الخلق، فتكون «مِهَاداً» حالاً مقدرة.
وقرأ العامة: «مهاداً» .
ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهداً» ، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة «طه» ، وأن الكوفيين قرأوا «مهداً» في «طه» و «الزخرف» فقط، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة.
قوله تعالى: {والجبال أَوْتَاداً} ، والكلام عليها كالكلام في «مِهَاداً» في المفعوليَّة والحاليَّة، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً، أي مثبتات.
والمهاد: الوطاء، وهو الفراش، لقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] ، ومعنى «مَهْداً» أي: كمهدِ الصَّبي، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه، و «أوتاداً» أي: لتسكن ولا تميل بأهلها.
قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} . أي: أصنافاً، ذكراً وأنثى.
وقيل: ألواناً.(20/95)
وقيل: يدخل كل زوجٍ بهيج، وقبيح، وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار.
قوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ، ومعناه: راحةً لأبدانكم، ومنه السبتُ أي: يوم الراحة، أي: قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا فيه شيئاً.
وأنكر ابن الأنباري هذا، وقال: لا يقال للراحة: سباتاً.
وقيل: أصله التمدُّد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلَّته وأرسلته، فالسُّبات كالمد، ورجل مسبوتُ الخلق، أي ممدود، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتاً.
ةقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتاً، أي: حلقه، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس، وعن الاشتغالِ، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح، ويقال: سيرٌ سبتٌ، أي سهلٌ ليِّن.
قوله: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} . فيه استعارة حسنة؛ وعليه قول المتنبي: [الطويل]
5069 - وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِندكَ من يَدٍ ... تُخَبِّرُ أنَّ المانَويَّة تَكذِبُ
والمعنى: يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ. قاله الطبري قال القفال: أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان، ويتغطّى به، فيكون ذلك مُغَطِّياً، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه.
وقال ابن جبير والسدي: أي: أسْكنَّاكُمْ.
قوله: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} . فيه إضمار، أي: وقت معاش، فيكون مفعولاً، وظرفاً للتبعيض، أي: منصرفاً لطلب المعاش، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف، يقال: عاش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار.
قوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} . أي: سبع سماوات محكمات، أي: محكمة الخلق وثيقة البنيان.(20/96)
وشداداً: جمع شديدة، أي: قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان لا فطور فيها ولا فروج، ونظيره قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] .
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} . أي: وقَّاداً، وهو الشمس، و «جَعَلَ» هنا بمعنى «خلق» ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد، والوهَّاج: المُضيء المتلألئ، من قولهم: وهج الجوهر أي: تلألأ.
وقيل: الوهَّاج: الذي له وهج، يقال: وَهَجَ يَوْهَجُ، ك «وَحَلَ يَوحَلُ» ، «ووهَجَ يَهِجُ» ك «وَعَدَ يَعِدُ» وهجاً.
قال ابن عباس: وهَّاجاً: منيراً أي: مُتلألِئاً.
قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} . يجوز في «من» أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية، وأن تكون للسببية، وتدل على قراءة عبد الله بن زيد وعكرمة وقتادة: «بالمعصرات» بالباء بدل «من» ، وهذا على الخلاف في «المعصرات» ما المراد بها، فعن ابن عباس: أنها السَّحاب، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك، أي: السحاب التي تنعصر بالماء، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ، يقال: أعْصرتِ السَّحابُ، أي: جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا جاز له أن يجز؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم: [الرجز]
5070 - تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا ... قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا
ولولا تأويل «أعْصرَتْ» بذلك لكان ينبغي أن تكون «المُعصَرات» - بفتح الصَّاد - اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها.
وقال الزمخشري: وقرأ عكرمة: «بالمعصرات» .
وفيه وجهان:
أحدهما: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها، فهو بها كما تقول: أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده.
وعن ابن عباس ومجاهد: «المعصرات» الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب.(20/97)
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب، وكأنَّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر، ويمكن منه.
فإن قلت: فما وجه من قرأ «من المعصراتِ» وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطرُ لا ينزل الرياح؟ .
قلت: الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب، وتدرُّ أخلافه، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء: إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ.
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.
فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات» بمعنى المُغيثَات، والعاصر المغيث لا المعصر، يقال: عصره فاعتصر.
قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرت، أي: حان لها أن تعصر، أي: تغيث.
يعني أن «عصر» بمعنى الإغاثة: ثلاثي، فكيف قال هنا: «معصرات» بهذا المعنى وهو من الرباعي؟ .
فأجابه عنه بما تقدم: يعني: أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء.
قال القرطبي: «ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى: وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات {مَآءً ثَجَّاجاً} ، وأصح الأقوال أن المعصرات: السحاب، كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان» بالمعصرات «لكان الريح أولى» .
وفي «الصِّحاح» : والمعصرات: السحائب تعصر بالمطر، وأعصر القوم أي: مطروا، ومنه قراءة بعضهم: {وفيه تُعْصَرُون} [يوسف: 49] ، والمعصر: الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ، والمعصر: السحابة التي حان لها أن تمطر، فقد أعصرت، ومنه «العَصَرُ» - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرُ - بالضم - أيضاً: الملجأ، وأنشد أبو زيد: [الخفيف]
5071 - صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ... ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
قوله: {مَآءً ثَجَّاجاً} : الثَّجُّ: الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ.
وفي الحديث: «أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ» .
فالعَجُّ: رفع الصوت بالتلبية.(20/98)
والثَّجُّ: إراقة دماءِ حجج الهدي، يقال: ثجَّ الماء بنفسه، أي: انصبَّ، وثَجَجْتُه أنا: أي: صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً، فيكون لازماً ومتعدياً؛ وقال الشاعر: [الطويل]
5072 - إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ ... تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ
وقرأ الأعمش: «ثَجَّاحاً» - بالحاء المهملة - أخيراً.
قال الزمخشري: «ومثاجح الماء: مصابُّه، والماء يثجح في الوادي» .
وكان ابن عبَّاس مثجًّا، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته.
قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ} أي: بذلك الماء «حَبَّا» كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك.
«ونَبَاتاً» من الإنبات، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.
«وجَنَّاتٍ» أي: بساتين «ألْفَافاً» أي: مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها.
وفي الألفاف وجوه:
أحدها: أنه لا واحد له.
قال الزمخشري: «ألْفافاً» : مُلتفَّة، ولا واحد له ك «الأوزاع» والأخْيَاف.
والثاني: أنَّه جمعُ «لِفٍّ» - بكسر اللام - فيكون نحو: «سِرّ وأسرار» ؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ: [الرمل]
5073 - جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ... ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ
وهذا قول أكثر أهل اللغة، ذكره الكسائي.
الثالث: أنه جمع «لَفِيفٍ» . قاله الكسائي، وأبو عبيدة ك «شريف» و «أشراف» ، و «شهيد» و «أشهاد» ؛ قال الشاعر: [الطويل]
5074 - أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ ... وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ
الرابع: أنَّه جمعُ الجميع، وذلك أنَّ الأصل: «لُفّ» في المذكر، و «لَفَّاء» في المؤنث ك «أحْمَر وحَمْرَاء» ، ثُمَّ جمع «لُف» على «ألفَاف» إذ صار «لف» زنة «فعل» جمع جمعه قاله ابن قتيبة.
إلا أنَّ الزمخشري قال: وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو: «خضر وأخضار، وحمر وأحمار» .(20/99)
قال شهاب الدين: كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على «أفْعَال» إذ لا يقال: «خضر ولا حمر» ، وإن كانا جمعين ل «أحمر وحمراء، وأخضر وخضراء» ، وهذا غير لازم؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات، كما رأيت من أن «لفَّاء» صار يضارع «فَعْلاء» ، ولهذا امتنعوا من تكسير «مفَاعِل ومفَاعِيْل» لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه.
الخامس: قال الزمخشريُّ: «ولو قيل: هو جمع:» ملتفّة «بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً» .
وهذا تكلُّف لا حاجة إليه.
وأيضاً: فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير، يقولون: تصغير الترخيم بحذف الزوائد، وفي المصادر يقولون: هذا المصدر على حذف الزوائد.
قال القرطبي: ويقال: شجرة لفَّاء، وشجر لفٌّ، وامرأة لفَّاء، أي: غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم.
وقيل: التقدير: ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.(20/100)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} . أي: وقتاً ومجمعاً وميعاداً للأولين والآخرين؛ لما وعد اللهُ الجزاء والثواب، وسمِّي يوم الفصل؛ لأنَّ الله - تعالى - يفصل فيه بين خلقِه.
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} . يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْمِ الفَصْلِ» ، أو عطف بيان له، أو منصوباً بإضمار «أعني» .
و «أفواجاً» حال من فاعل «تَأتُونَ» .
وقرأ أبو عياض: «في الصُّوَرِ» بفتح الواو وتقدم مثله.
فصل في النفخة الآخرة
هذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر، وهذا هو النفخ للأرواح.
وقيل: هو قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه للبعث.(20/100)
«فتأتون» أي: إلى موضع العرض.
«أفواجاً» أي: أمَماً كُل أمَّةٍ مع إمامهم.
روى معاذُ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «قلت: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَا مُعَاذُ، لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ أمْرٍ عَظِيمٍ «، ثم أرسل عينيه باكياً - ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» يُحْشَرُ عَشَرَةُ أصْنَافٍ مِنْ أمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ مَيَّزهمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ جَمَاعَاتِ المُسْلِمِيْنَ وبَدَّلَ صُورَهُمْ، فَمِنْهُمْ على صُورةِ القِرَدَةِ، وبَعْضهُمْ عَلى صُورَةِ الخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسِيْنَ أرْجُلهُمْ أعلاهُمْ وَوُجُوهُم يُسْحَبُونَ عليْهَا، وبَعضُهمْ عُمْياً، وبَعْضهُم صُمًّا، وبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ ألْسنَتَهُمْ فَهِيَ مُدَلاَّة على صُدورِهِمْ، يَسِيلُ القَيْحُ مِنْ أفْواهِهِم، يَتقذَّرهمُ الجَمْعُ، وبَعَْضهُمْ مُقطَّعَةٌ أيْدِيهِمْ وأرْجٌُلهمْ مُصلَّبين على جذُوع مِنْ نَارٍ، وبَعضُهم أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيفِ، وبَعْضُهمْ مُلْبَسِينَ جَلابِيبَ لاصقةً بِجُلوْدهِمْ، فأمَّا الذينَ على صُورةِ القِردَةِ: فالقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ - يَعْنِي: النَّمَّامَ - وأمَّا الَّذينَ عَلى صُورةِ الخَنَازِيرِ فأهْلُ السُّحْتِ والحَرامِ والمَكْسِ، وأمَّا المُنكِسُونَ رُءوسَهُمْ وَوُجوهمْ فأكلَةُ الرِّبَا، وأمَّا العُمْيُ: فالَّذيْنَ يَجُورُونَ في الحُكْمِ، وأمَّا الصُمُّ البُكْمُ: فالمُعْجَبُونَ بأعْمالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ، فالعُلمَاءُ الَّذينَ يُخَالفُ قَوْلهُم فِعلهُمْ، وأمَّا الَّذينَ قُطِعَتْ أيْديهِمْ وأرْجُلهُمْ فالَّذينَ يُؤذُونَ الجِيرانَ، وأمَّا المُصَلَّبُونَ فِي جُذوْعِ النَّارِ، فالسَّعاة بالنَّاسِ إلى السُّلطانِ، وأمَّا الَّذينَ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الجِيَفِ، فالَّذينَ يَتَّبعُنَ الشَّهواتِ واللَّذَّاتِ، ويَمْنعُونَ حَقَّ اللهِ فِي أمْوالِهمْ، وأمَّا الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الجَلابِيْبَ فأهْلُ الكِبْرِ والفَخْرِ والخُيَلاء «.
قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} .
قرأ أبو عامر وحمزة والكسائي:» فُتِحَتْ «خفيفة، والباقون بالتثقيل.
والمعنى: كُسرتْ أبوابها المفتَّحةُ لنزول الملائكة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] .
وقيل: تقطَّعت، فكانت قطعاً كالأبواب، فانتصاب الأبواب على هذا بحذف الكاف.
وقيل: التقدير: كانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبواباً.
وقيل: أبوابها: طرقها.(20/101)
وقيل: إنَّ لكل عبد باباً في السماء لعمله، وباباً لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
قال القاضي: هذا الفتح هو معنى قوله: {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] ، {إِذَا السمآء انفطرت} [الانفطار: 1] إذ الفتح والتشقق تتقارب.
قال ابنُ الخطيب: وهذا ليس بقوي؛ لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التَّشقُّق والتفطُّر، فربما تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر، بل الدلائل الصحيحة دلت على أن حصول فتح هذه الأبواب بحصول التفطُّر والتشقُّق بالكلِّية.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} يفيد أنَّ السَّماء بكليتها تصير أبواباً بفعل ذلك.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ تلك الأبواب لمَّا كثرت جدًّا صارت كأنَّها ليست إلا أبواباً؛ كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] أي: صارت كلها عيوناً تتفجَّر.
وثانيها: قال الواحديُّ: هذا من باب حذف المضاف، أي: فكانت ذات أبواب.
وثالثها: أنَّ الضمير في قوله تعالى: {فَكَانَتْ أَبْوَاباً} يعود إلى السماء، والتقدير: فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة.
قوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} .
أي: لا شيء كما أن السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل: نُسفَتْ من أصُولِهَا.
وقيل: أزيلتْ عن مواضعها.
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - ذكر أحوال الجبال بوجوهٍ مختلفةٍ، ويمكن الجمع بينها بوجوه، بأن تقول:
أول أحوالها: الاندِكَاكُ، وهو قول تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] .
والحالة الثانية: أن تصير كالعهنِ المنفوش، وهو قوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] .
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء، وهو قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 5، 6] .(20/102)
والحالة الرابعة: أن تنسف؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض، فترسل الرياح، فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيِّرها في الهواء كأنها مارة، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجساداً جامدة، وهي في الحقيقة مارة، إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة منتسفة.
والحالة الخامسة: أن تصير سراباً، أي: لأي شيء كما رؤي السراب من بعد.(20/103)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} «مِفْعَالاً» من الرصد، والرصد: كل شيء كان أمامك.
قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري: «أنَّ جَهنَّمَ» بفتح «أن» .
قال الزمخشريُّ: على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين، كأنَّه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء، يعني: أنه علَّة لقوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} إلى آخره.
قال القفال: في المرصاد قولان:
أحدهما: أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمِنْهَاج: اسم للمكان الذي ينهج فيه، أي: جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل، وعلى هذا فيه احتمالان:
الأول: أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار.
والثاني: أن مجاز المؤمنين، وممرهم على جهنم، لقوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني: أنَّ «المِرصَاد» «مِفْعَال» من الرصد، وهو «الترقب» بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه، و «المِفْعَالُ» من أبنية المبالغة ك «المِعطَاء، والمِعْمَار، والمِطْعَان» .
قيل: إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ، وتشتد عليهم لقوله تعالى: تكاد تميَّزُ من الغيظ.(20/103)
وقيل: ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ.
فصل
دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق.
قوله: {لِّلطَّاغِينَ} يجوز أن يكون صفة ل «مِرْصَاداً» ، وأن يكون حالاً من «مآباً» كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس «مِرْصَاداً» ، أو بنفس «مآباً» ؛ لإنه بمعنى مرجع.
قال ابن الخطيب: إن قيل بأن: «مِرصَاداً» للكافرين فقط، كان قوله: «للطَّاغين» من تمام ما قبله، والتقدير: كانت مرصاداً للطَّاغين، ثم قوله: «مآباً» بدل قوله: «مرصاداً» ، وإن قيل: إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} كلاماً تاماً وقوله تعالى: {لِّلطَّاغِينَ مَآباً} كلاماً مبتدأ، كأنه قيل: إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل، و «مآباً» للطَّاغين خاصَّة، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله: «مرصاداً» ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.
قال القرطبيُّ: «للطَّاغِينَ مآباً» بدلٌ من قوله: «مِرصَاداً» ، والمَآبُ «المرجع، أي: مرجعاً يرجعون إليه، يقال: آب يثوب أوْبَة: إذا رجع.
وقال قتادة: مأوى ومنزلاً، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.
قوله: {لاَّبِثِينَ} . منصوب على الحال من الضمير المستتر في» للطاغين «، وفي حال مقدرة.
وقرأ حمزة: «لبثين» دون ألف.
والباقون: «لابثين» بألف.
وضعف مكي قراءة حمزة، قال: ومن قرأ: «لبثين» شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق، وهو بعيد؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان. وليس اللبس بخلقة.
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة، فقال: «قرأ: لابثين» ولبثين «واللبث أقوى؛ لأن(20/104)
اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه» .
وما قاله الزمخشري أصوب.
وأمَّا قولُ مكيٍّ: اللبث ليس بخلقة، فمسلم لكنه بولغ في ذلك، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة.
و «لابثين» اسم فاعل من «لبث» ، ويقويه أنَّ المصدر منه «اللّبث» - بالإسكان - ك «الشرب» . قوله: «أحْقَاباً» منصوب على الظرف، وناصبه «لاَبِثيْنَ» ، هذا هو المشهور، وقيل: منصوب بقوله: «لا يذوقون» ، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد «لا» عليها وهو أحد الأوجه، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال. قال: «وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من: حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقبٌ وجمعه:» أحْقَاب «، فينتصب حالاً عنهم، بمعنى: لابثين فيها بحقبين جحدين» . وتقدم الكلام على الحقب في سورة «الكهف» .
قال القرطبي: و «الحِقْبَةُ» - بالكسر -: السَّنة، والجمع حِقَب؛ قال متممُ بنُ نويرةَ: [الطويل]
5075 - وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ: لَنْ يتصدَّعا
والحُقْبُ - بالضم والسكون -: ثمانون سنة.
وقيل: أكثر من ذلك وأقل، والجمع: «أحْقَاب» .
قال الفراءُ: أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع، يقال: «أحْقَبَ» : إذا أردف، ومنه الحقبة، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب، فعلى هذا معناه: لابثين فيها أحقاباً، أي: دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً.
فصل في تحرير معنى الآية
المعنى: ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ، و «الحُقُبُ» - بضمتين -: الدَّهْرُ: والأحقابُ، الدهور، والمعنى: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها، إذ في الكلام ذكر الآخرة، كما يقال: أيَّامُ الآخرة، أي: أيام بعد أيام إلى غير نهاية، أي: لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبداً من غير انقطاع، فكأنه(20/105)
قال: أبداً، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال: خمسة أحقاب، أو عشرة ونحوه، وذكر الأحقاب؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فذكر ما يفهمونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل: الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} أي: في الأرض لتقدم ذكرها ويكون {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} جهنم.
قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ} . فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني: أنه حال من الضمير في «لابِثيْنَ» غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث: أنه صفة ل «أحْقَاب» .
قال مكي: واحتمل الضمير؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً ل «أحْقَاب» لأجل الضمير العائد على «الأحقاب» في «فيها» ، ولو كان في موضع «يَذُوقُونَ» اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً ل «أحقاب» .
الرابع: أنه تفسير لقوله تعالى: {أَحْقَاباً} إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال: «وقوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} . تفسير له» .
الخامس: أنه حال أخرى من «للطاغين» ك «لابثين» .
فصل في معنى هذا البرد
قال أبو عبيدة: البَرْدُ: النومُ؛ قال الشاعر: [الطويل]
5076 - فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ ... وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا
وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ.
والعرب تقول: منع البَرْدُ البَرْدَ، يعني: أذهب النوم.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: البرد برد الشراب.(20/106)
وعنه - أيضاً - البرد: النَِّوم، والشراب: الماء.
قال الزجاج: لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ نومٍ ولا بَرْدَ ظلٍّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بَرداً: أي روحاً ورائحة.
قوله: {إِلاَّ حَمِيماً} . يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله: «شراباً» ، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري: «يعني لا يَذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار» ولا شراباً «يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً» .
قال شهاب الدين: «ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال: فإن جعلته النوم كان» إلا حميماً «استثناء ليس من الأول» .
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله: «ولا شراباً يسكن من عطشهم» فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل، وأنشد البيت المتقدم.
وقول العرب: منع البرد، قيل: وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، والذوق على هذين القولين مجاز، أعني: كونه روحاً ينفس عنهم الحر، وكونه النوم مجاز، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وأنشد قول حسان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الكامل]
5077 - يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ ... بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قال ابنُ الأثيرِ: البريص: الماء القليل، والبرصُ: الشيء القليل؛ وقال الآخر: [الطويل]
5078 - أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما ... سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا
والذوق حقيقة، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك «ولا شراباً» .(20/107)
الثالث: أنَّه بدلٌ من قوله: «وَلا شَراباً» وهو الأحسنُ؛ لأن الكلام غير موجب.
قال أبو عبيدة: الحَمِيمُ: الماءُ الحارّ.
وقال ابن زيد: دموع أعينهم تجمع في حياض، ثم يسقونه.
وقال النحاس: أصل الحميمِ الماءُ الحار، ومنه اشتقَّ الحمَّام، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم، إنَّما يراد به النهاية في الحر، والغسَّاق: صديد أهل النار وقيحهم.
وقيل: الزَّمهرير، وتقدم خلاف القرَّاء في «غسَّاقاً» والكلام عليه وعلى «حَمِيم» .
قال أبو معاذ: كنت أسمع مشايخنا يقولون: الغسَّاقُ: فارسية معربةٌ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه: خاشاك.
قوله: {جَزَآءً} منصوبٌ على المصدر، وعامله إما قوله: «لا يذوقون» إلى آخره؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك، وإمَّا محذوف، و «وَفَاقاً» نعت له على المبالغةِ، أو على حذف مضاف، أي: ذا مبالغة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: معناه: موافقاً لأعمالهم، فالوفاقُ بمعنى: «الموافقة» كالقتال من المقاتلة.
قال الفراء والأخفش: أي: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.
وقال الفراء أيضاً: هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد.
وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: بتشديد الفاء من «وفقه كذا» .
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} . أي: لا يخافون حساباً، أي: محاسبة على أعمالهم، وقيل: لا يرجون ثواب حساب.
وقال الزجاج: إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين.
قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} قرأ العامة: «كِذَّاباً» بتشديد الذال، وكسر الكاف.
وكان من حق مصدر «فعَّل» أن يأتي على «التَّفعيل» نحو صرَّف تصريفاً.(20/108)
قال الزمخشري: و «فعَّال» في باب «فعَّل» كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال: لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله.
قال غيره: وهي لغة بعض العرب يمانية؛ وأنشد: [الطويل]
5079 - لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي ... وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
يريد: تَقْضِيَتُهَا، والأصل على «التفعيل» ، وإنَّما هو مثل «زكَّى تَزْكِيَةً» .
وسمع بعضهم يستفتي في حجه، فقال: آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار؟ يريد التقصير.
قال الفراء: «هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذبت كذّاباً، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً، وكل فعل وزن» فعَّل «فمصدره» فِعَّال «في لغتهم مشددة» .
وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصري: بالتخفيف.
وهو مصدر أيضاً، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد، وإمَّا لفعل مقدر ك «أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً» .
قال الزمخشري: «وهو مثل قوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذاباً، أو تنصبه ب» كذبوا «؛ لأنه يتضمن معنى» كذّبوا «، لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة، فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده» .
وقال أبو الفضل: وذلك لغة «اليمن» ، وذلك بأن يجعل مصدر «كذب» مخففاً «كِذَباً» بالتخفيف مثل «كَتَبَ كِتَاباً» فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل: «أعطيته عطاءً» .
قال شهابُ الدِّينِ: أمَّا «كذب كذاباً» بالتخفيف، فهو مشهور، ومنه قول الأعشى [مجزوء الكامل]
5080 - فَصدَقْتُهَا وكَذبْتُهَا ... والمَرْءُ يَنْفعهُ كِذَابُهْ(20/109)
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون: «كُذاباً» بضم الكاف وتشديد الذال، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه جمع كاذبِ، نحو: ضراب «في» ضارب وعلى هذا، فانتصابه على الحال المؤكدة، أي: وكذبوا في حال كونهم كاذبين. قاله أبو البقاء.
والثاني: أنَّ «الكُذَّاب» بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا: أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه. قاله الزمخشري.
قال القرطبي: وفي «الصِّحاح» : وقوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} وهو أحد مصار المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على «تَفْعِلَة» مثل «تَوصِيَة» ، وعلى «مُفَعَّل» مثل: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] .
قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ} العامة على النصب على الاشتغال، وهو الراجح، لتقدم جملة فعلية.
وقرأ أبو السمال: برفع «كُل» على الابتداء، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب، لأنَّ الأصل: «وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا» ف «ذوقوا» مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم.
قوله: «أحْصَيْنَاهُ» . فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر من معنى أحصينا، أي: إحصاءً، فالتجوُّز في نفس المصدر.
الثاني: أنه مصدر ل «أحْصَيْنَا» لأنَّه في معنى: «كَتَبْنَا» فالتجوُّز في نفس الفعل.
قال الزمخشري: «لانتفاءِ الإحْصاءِ» ، والكتبة في معنى الضبط، والتحصيل.
قال ابن الخطيب: وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ» فكأنَّهُ تعالى قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد، كالمكتوب، والمراد من قوله: «كِتَاباً» تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال؛ لأنَّه واجبٌ لذاته.(20/110)
الثالث: أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] .
وقيل: أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] .
فصل في المراد بالإحصاء
معنى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} أي: علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى: {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] .
قال ابن الخطيب: وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى: «جَزَاءً وفاقاً» ، كأنه تعالى قال: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً.
قوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}
قال ابن الخطيب: هذه «الفاء» للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه «الفاء» أفادت عين فائدة قوله: «جزاء وفاقاً» .
فإن قيل: أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} [البقرة: 174] .
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم: «فذوقوا» ، فقد كلَّمهُمْ؟ .
فالجواب: قال أكثر المفسرين: ويقال لهم: «فَذُوقُوا» .
ولقائلٍ أن يقول: قوله: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ} لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال: قوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} [آل عمران: 77] معناه: ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} [آل عمران: 77] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب.
فإن قيل: إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب: أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً: فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.(20/111)
فصل في الالتفات في هذه الآية
قال ابنُ الخطيبِ: قوله تعالى: {فَذُوقُواْ} يفيد معنى التعليل، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ، فهو دالٌّ على الغضبِ، وفيه مبالغاتٌ: منها أنَّ «لن» للتأكيد، ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله: «فذوقوا» بعد ذكر العذاب، قال أبو بزرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أشد آية في القرآن، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قوله: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30] أي: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56] ، و {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97] .(20/112)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} . تقدم تفسير المتقين، و «المفازُ» : يحتمل أن يكون مصدراً، بمعنى: فَوْزاً وظفراً بالنعمة، ويحتمل أن يكون المراد فوزاً بالنجاة من العذاب، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلاً بالخلاص منها، وأن يكون مجموع الأمرين.
وقال الضحاك: منتزهاً.
قوله: {حَدَآئِقَ} يجوز أن يكون بدلاً من «مفازاً» بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً.
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ «أعْنِي» ، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيُقدَّر مضاف، أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، ويقال: أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ.
والأعْنَابُ: جمعُ عنب، أي: كروم أعناب، فحذف، والتنكير في قوله تعالى: {وَأَعْنَاباً} يدل على تعظيم تلك الأعناب.
قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} . الكواعب: جمع كاعب، وهي من كعب ثديها وتفلك، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة، وهي النَّاهد، يقال: كَعَبَتِ الجارية تكعب(20/112)
كُعوباً، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً؛ قال: [الطويل]
5081 - وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ... ثلاثُ شُخوصٍ: كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المسعريُّ: [الطويل]
5082 - وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ ... وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ
وقال الضحاك: الكواعب: العَذَارى، والأتراب الأقران في السن، وقد تقدم ذكرهن في «الواقعة» .
قوله تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً} .
الدِّهَاقُ: الملأى المُترعَةُ.
قيل: هو مأخوذ من دهقهُ، أي: ضغطه، وشده بيده، كأنه ملأ اليد فانضغط، قال: [الوافر]
5083 - لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً ... مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي عبيدة، والزجاج، والكسائي.
وقال عكرمة: ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول: اسقنا وادهق لنا، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له: اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهاق.
وقيل: الدِّهاق: المتتابعة؛ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [الوافر]
5084 - أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا ... فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا
وهذا قول أبي هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
قال الواحدي: وأصل هذا القول من قول العرب: أدهقت الحجارة إدهاقاً، وهي شدة ترادفها، ودخول بعضها في بعض. ذكره الليث.
والتَّتابعُ كالتَّداخُل.
وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ: أنَّها الصَّافيةُ، وهو جمع «دهق» ، وهو خشبتان يعصر بهما.
والمراد بالكأسِ: الخَمْرُ.(20/113)
قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر، والتقدير: وخمر ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق، قاله القشيري.
وفي «الصحاح» وأدْهَقْتُ الماءَ، أي: أفرغتُه إفراغاً شديداً، قال أبو عمرو: والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب، وهو بالفارسية: «أشكَنْجَه» .
قال المبرد: والمَدهوقُ: المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه.
وقال ابن الأعرابي: دهقت الشيء: أي: كسرته وقطعته، وكذلك: «دَهْدَقْتُهُ» و «دَهْمَقْتُهُ» بزيادة الميم المثلثة.
وقال الأصمعي: «الدَّهْمَقَة» : لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين، ومنه حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا} [الأحقاف: 20] .
قوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي: في الجنة، وقيل: في الكأس. {لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} .
اللَّغو: الباطلُ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث: «إذا قُلتَ لِصاحبِكَ: أنْصِتْ، فَقَدْ لغَوْتَ» وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا، و «لا كِذَّاباً» أي: لا يتكاذبُون في الجنَّةِ.
وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنَّما خففها؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له، وشدَّد قوله: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ؛ لأنَّ «كذَّبُوا» يفيد المصدر بالكذاب.
قال شهابُ الدين: «وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في» كذَّبوا «، وهذا كما تقدم في قوله: {فَتُفَجِّرَ الأنهار} [الإسراء: 91] ، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول» .
وفقال مكيٌّ: مَنْ شدد جعله مصدر «كَذَّب» ، زيدت فيه الألف، كما زيدت في «إكْرَاماً» وقولهم: تَكْذِيباً، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات، وقالوا: «تَكَلُّماً» ، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف، وذلك لكثرة حروفه، وضمت «اللام» ولم تكسر؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على «تفعَّل» ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي، وقراءة الكسائي: «كِذَّاباً» - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً.(20/114)
وقيل: هو مصدر «كذب» كقولك: كتبتُ كِتَاباً.
قوله: {جَزَآءً} . مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} كأنَّه قيل: جازى المتقين بمفاز.
قوله: {عَطَآءً} بدلٌ من «جَزاءً» وهو اسم مصدر؛ قال: [الوافر]
5085 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا
قال: وجعله الزمخشري: منصوباً ب «جزاءً» نصب المفعول به.
ورده أبو حيان بأنه جعل «جزاء» مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة، التي هي «إنَّ للمُتَّقِينَ» ، قال: «والمصدر المؤكد لا يعمل؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً» .
قوله: «حساباً» . صفة ل «عطاءً» ، والمعنى: كافياً، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه، أو على حذف مضاف، من قولهم: أحْسبَنِي الشيء أي: كفاني.
وقال قتادةٌ: «عَطاءً حِسَاباً» أي: كثيراً، يقال: أحسبتُ فلاناً أي: أكثرت له العطايا حتى قال: حسبي.
وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له، ولا مقدار، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقرأ أبو البرهسم، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي: بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها.
وتخريجها: أنَّه مصدر: مثل: «كذّاب» أقيم مقام الوصف، أي: عطاء محسباً، أي: كافياً.
وابن قطيب: كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ.
قال أبو الفتح: بناء «فعَّال» من «أفْعَل» ك «دَرَّاك» من «أدْرك» بمعنى أنه صفة مبالغة من «حَسَب» بمعنى: كافي كذا.
وابن عباس: «حَسَناً» بالنون من الحسن.
وسريج: «حَسْباً» بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة، أي: عطاء كافياً، من قولك: حَسْبُك كذا، أي: «كافيك» .(20/115)
قوله تعالى: {رَّبِّ السماوات} .
قرأ نافعٌ، وابن كثير، وأبو عمرو: برفع «رب» و «الرحمن» .
وابن عامر، وعاصم: بخفضهما.
والأخوان: يخفض الأول، ورفع الثاني.
فأما رفعهما، فيجوز من أوجه:
أحدها: أن يكون «ربُّ» خبر مبتدأ محذوف مضمر، أي: «هو رب» ، و «الرحمن» كذلك، أو مبتدأ، خبره «لا يَمْلِكُون» .
الثاني: أن يجعل «ربُّ» مبتدأ، و «الرحمن» خبره، و «لا يملكون» خبر ثان، أو مستأنف.
الثالث: أن يكون «ربُّ» مبتدأ، و «الرحمن» مبتدأ ثان، و «لا يملكون» خبره، والجملة خبر الأول، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفشِ، ويجوز أن يكون «لا يَمْلِكُون» حالاً وتكون لازمة.
وأما جرهما: فعلى البدل، أو البيان، أوالنعت، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة.
وتجعل {رَّبِّ السماوات} تابعاً للأول، و «الرَّحْمن» تابعاً للثاني على ما تقدم.
وأمَّا الأول، فعلى التبعية للأول.
وأما رفع الثاني، فعلى الابتداء، والخبر: الجملة الفعلية، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر، و «لا يَمْلِكُونَ» على ما تقدم من الاستئناف، أو الخبر الثاني، أو الحال اللازمة.
قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ} .
نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن الضمير في «لا يملكون» راجع إلى المشركينَ، أي: لا يخاطبهم الله.
وأما المؤمنون فيشفعون، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم.
وقال القاضي: إنَّه راجع للمؤمنين، والمعنى: أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ.(20/116)
فصل في أنَّ الله عدل في عقابه
لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم، فبأيِّ سبب يُخاطبونه.
وقيل: الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته.
قال ابن الخطيب: وهذا هو الصواب.(20/117)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح} . منصوب على الظرف، إمَّا ب «لا يَتكلَّمُونَ» بعده، وإمَّا ب «لا يَمْلِكُونَ» و «صفًّاً» حال: أي: مُصطفِّيْنَ، و «لاَ يَتَكلَّمُونَ» إمَّا حال أو مستأنف.
فصل في المراد بالروح
احتلفوا في الروح.
فقال ابن عباس: هو ملك ما خلق الله بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفًّا، وقام الملائكة كلهم صفًّا، ونحوه عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: الرُّوح ملك أعظم من السموات السبع والأرضين السبع والجبال.
وقيل: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير.
وروى عن ابن عباس عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الرُّوحُ في هَذِهِ الآيةِ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ لَيْسُوا مَلائِكةً لَهُمْ رُءوسٌ وأيْدٍ وأرْجُلٌ يَأكُلونَ الطَّعام، ثُمَّ قَرَأَ: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} » ، وهذا قول أبي صالح، ومجاهد، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وعلى هذا هو خلقٌ(20/117)
على صورة بني آدم كالناس، وليسوا بناس، وما ينزل من السماء ملك إلاَّ ومعه واحد منهم، نقله البغوي.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «هُمْ أرْواحُ النَّاسِ» .
وقال مقاتل بن حيان: هُمْ أشراف الملائكة.
وقال ابن أبي نجيحٍ: هم حفظة على الملائكة.
وقال الحسن وقتادة: هم بنو آدم، والمعنى: ذو الروح.
وقال العوفي، والقرظي: هذا ممَّا كان يكتمه ابن عباس.
وقيل: أرواح بني آدم تقومُ صفًّا، فتقومُ الملائكةُ صفًّا، وذلك بين النَّفختين قبل أن تردُّ إلى الأجسادِ. قاله عطية.
وقال زيد بن أسلم: هو القرآن.
وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ، و {صَفّاً} مصدر؛ أي: يقومون صفوفاً، والمصدر يغني عن الواحد والجمع كالعدل، والصوم، ويقال ليوم العيد: يوم الصف.
وقال في موضع آخر سبحانه: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] ، وهذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب، قيل: هما صفان.
وقيل: يقوم الكلُّ صفًّا واحداً، «لا يتَكلَّمُونَ» أي: لا يشفعون.
قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} يجوز أن يكون بدلاً من «واو» يتكلَّمون، وهو الأرجح، لكونه غير موجب، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء.
والمعنى: لا يشفعون إلاَّ من أذن لهُ الرحمن في الشفاعة.
وقيل: لا يتكلمون إلا في حقِّ من أذنَ له الرحمنُ، وقال صواباً.
والمعنى: لا يشفعون إلاَّ في حقِّ شخصٍ أذن الرحمن في شفاعته، وذاك الشخص كان ممن قال صواباً، والمعنى قال صواباً، يعنى: «حقًّا» . قاله الضحاك ومجاهد.
وروى الضحاكُ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: لا يشفعون إلاَّ لمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصل الصَّواب: السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيبُ.(20/118)
وقيل: «لا يتكلَّمون» يعني: الملائكة، والروح الذين كانوا صفًّا لا يتكلمون هيبة وإجلالاً إلا من أذن له الرب تعالى في الشفاعة، وهم الذين قالوا صواباً، وأنهم يوحدون الله - تعالى - ويسبِّحونه.
قوله تعالى: {ذَلِكَ اليوم الحق} . «ذلك» إشارة إلى ما تقدَّم ذكره {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً} ، أي: موجباً بالعمل الصالح.
وقال قتادة: «مآباً» سبيلاً.
ثم إنه - تعالى - زاد في تخويف الكفَّار فقال تعالى:
{إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} يعني العذاب في الآخرة، وسماه قريباً؛ لأن كل ما هو آت قريب. كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .
وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين.
وقال مقاتل: هي قتل قريش ب «بدر» ، وهذا خطاب لكفَّار قريش، ولمشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نُبْعَثُ، وإنَّما سمَّاهُ إنذاراً؛ لأنَّه - تعالى - قد خوَّف بهذا الوصف نهاية التخويف، وهو معنى الإنذار.
قوله: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء} . يجوز أن يكون بدلاً من «يوم» قبله، وأن يكون منصوباً ب «عذاباً» أي: العذاب واقع في ذلك اليوم.
وجوّز أبو البقاء ان يكون نعتاً ل «قريباً» ولو جعله نعتاً ل «عَذاباً» كان أولى.
والعامَّة: بفتح ميم «المرء» وهي الغالبة، وابن أبي إسحاق: بضمها، وهي لغة يتبعُون اللام الفاء.
وخطَّأ أبو حاتم هذه القراءة، وليس بصواب لثبوتها لغة.
فصل في المراد ب «المرء»
أراد بالمرء: المؤمن في قول الحسن، أي: ليجد لنفسه عملاً، فأمَّا الكافر فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً، قال: {وَيَقُولُ الكافر} فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن، وقيل: المراد هنا أبيُّ بنُ خلفٍ، وعُقبَةُ بنُ أبِي معيط، ويَقول الكافِرُ: أبو جهل.
وقيل: هو عام في كل أحد يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسبَتْ.(20/119)
قوله: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . يجوز في «ما» أن تكون استفهامية معلقة ل «يَنْظُر» على أنَّه من النظر، فتكون الجملة في موضع نصب على إسقاط الخافض، وأن تكون موصولة مفعولة بها، والنَّظر بمعنى الانتظارِ، أي: ينتظر الذي قدمت يداه.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} .
العامة: لا يدغمون تاء «كنت تراباً» قالوا: لأنَّ الفاعل لا يحذف، والإدغامُ يشبه الحذف، وفي قوله تعالى: {وَيَقُولُ الكافر} وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليه بذلك.
فصل في نزول هذه الآية
قال مقاتل: نزل قوله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} في أبِي سلمةَ بْنِ عَبْدِ الأسدِ المخزوميِّ.
ويقول الكافر: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» في أخيه بْنِ عبدِ الأسدِ.
وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر هنا إبليس - لعنة الله عليه - وذلك بأنه عاب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه خلقَ من تُرابٍ، وافتخر بأنه خلقَ من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه من آدم وبنوه من الثواب والراحة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه كان بمكان آدم، فيقول: يا ليتني كنت تراباً، قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر.
روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «يُحْشَرُ الخَلقُ كُلُّهُمْ مِنْ دابَّةٍ، وطَائِرٍ، وإنْسَانٍ، ثُمَّ يُقَالُ للبَهَائِمِ والطَّيْرِ: كُونُوا تُرَاباً، عند ذلكَ يَقُولُ الكَافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً» .
وقيل: معنى «يا ليتني كنت تراباً» أي: لم أبعثْ.
وقال أبو الزناد: إذا قُضِيَ بين الناس، وأمِرَ بأهْلِ الجنَّة إلى الجنَّة، وأهْلِ النَّار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولو من الجن: عودوا تراباً، فيعودون تراباً، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم: يا ليتني كنت تراباً.
وقال ليث بن أبي سليم: مُؤمنو الجِنِّ يعُودُونَ تُرَاباً.
وقال عُمرُ بْنُ عبدِ العزِيْزِ والزُّهْرِيُّ والكلبيُّ ومجاهدٌ: مؤمنو الجِنِّ حول الجنَّةِ في رَبضِ ورحابٍ وليسوا فيها، وهذا أصح، فإنهم مُكَلَّفُونَ: يُثَابُونَ ويُعَاقَبُونَ كبَنِي آدمَ.
روى الثعلبي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} سقاه الله تعالى بَرْدَ الشَّرابِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .(20/120)
سورة النازعات(20/121)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
مكية وهي ست وأربعون آية، ومائة وسبعون كلمة، وسبعمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والنازعات غَرْقاً} يجوز في «غرقاً» أن يكون مصدراً على حذفِ الزوائد، بمعنى «إغْرَاقاً» ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى.
وإمَّا على الحال، أي: ذواتُ إغراقٍ، يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل، وبلغ أقصى غايته، ومنه أغرق النازع في القوس أي: بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب.
فصل في المراد بالنازعات
أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق.
و «النَّازعات» قيل: هي الملائكة التي تنزع أرواح الكُفَّار، قاله علي، وابن مسعود، ومسروق، ومجاهد.
قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير، وأصول القدمينِ نزعاً، كالسَّفُّود ينزع من الصوف الرَّطب، ثم يغرقُها، يرجعها إلى أجسادهم، ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفَّار.
وقال سعيد بن جبر: نُزعَتْ أرْواحُهم، ثم غرقت، ثم حرقت، ثم قذف بها في النار.(20/121)
وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النَّزع كأنها تغرق.
وقال السدي: «والنَّازِعَات» هي النفوس حين تغرقُ في الصُّدور.
وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفوس.
وقال الحسن وقتادة: هي النَّجوم تنزع من أفق إلى أفق، أي: تذهب، من قولهم: نزع إليها أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل، أي: «جرت» ، «غرقاً» أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش.
وقال عطاء وعكرمة: «والنَّازعَاتِ» القسيُّ تنزع بالسهام.
«غرقاً» بمعنى: إغراق، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدِّ حتى ينتهي إلى النَّصلِ، ويقال لقشرة البيضة الدَّاخلة «غِرقئ» .
وقيل: هم الغُزَاةُ الرُّماة، وهو الذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد: النازعون بها تعظيماً لها، كقوله تعالى: {والعاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] .
وقال يحيى بنُ سلام: هي الوحش تنوزع من الكلأ وتنفر.
ومعنى «غرقاً» أي: إبعاداً في النزع.
قوله تعالى: {والناشطات نَشْطاً} .
اعلم أن «نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً» كلها مصادر.
والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإنشاطُ: الحل، يقال: نَشَطَ البعير: رَبطهُ، وأنشطهُ: حله.
ومنه: «كأنَّما أنشط من عقال» ، فالهمزة للسَّلب، ونشط: ذهب بسرعةٍ، ومنه قيل لبقر الوحش: النواشط؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ: [الرجز]
5086 - أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا ... الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا
ونشط الحبل أنشطه أنشوطة: عقدته، وأنْشَطْتُه: مددته، ونشط ك «أنشط» .(20/122)
قال الأصمعي: بئرٌ أنشاط: أي: قريبةُ القعرِ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ، وبئر نشُوط، قال: وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً.
فصل في المراد بالناشطات
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه.
وقيل: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج.
والنَّشْطُ: الجذبُ بسرعة.
ومنه الأُنشوطةُ: عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة.
قال الليث: أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي: أوثقته، وأنشطت العقال، أي: مددت أنشوطته فانحلّت.
ويقال: نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الناشطات الملائكة، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان.
وقال مجاهدٌ: هو الموت ينشط نفس الإنسان.
وقال السدي: هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ.
وقال قتادةُ، والحسنُ والأخفشُ: هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ، أي: تذهب.
قال الجوهريُّ: يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ.
وقيل: «النازعات» للكافرين: و «النَّاشطاتِ» للمؤمنين، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ.
والنَّزْعُ: جذبٌ بشدَّةٍ.
وقيل: هما جميعاً للكفَّار، والاثنان بعدهما للمؤمنين.
قوله: {والسابحات سَبْحاً} . قال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين.(20/123)
قال الكلبيُّ: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً يَنْغَمِسُ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة، ثم يدعُونهَا حتى تستريح.
وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ: هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى، كما يقال للفرس الجواد: سابحٌ إذا أسرع في جريه، وعن مجاهد: السابحات: الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة.
قال عنترةُ: [مجزوء الكامل]
5087 - والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْ ... بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً
وقال قتادة والحسنُ: هي النجوم تسبحُ في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر.
قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] .
وقال عطاءُ: هي السُّفن تسبحُ في الماءِ.
وقال ابن عباسٍ: أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى: {فالسابقات سَبْقاً} .
قال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي الملائكة، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد.
وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق: هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ، فتكتبه.
وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان.
وقال مقاتلٌ: هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ.(20/124)
وقال ابنُ مسعودٍ: هي أنفس المؤمنين، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى.
وقال قتادةُ والحسن ومعمر: هي النجوم تسبق بعضها.
وقال عطاءٌ: هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد.
وقيل: يحتملُ أن تكون «السَّابقات» ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة، أو نار؛ حكاه الماورديُّ.
قال الجرجانيُّ: وذكر «فالسَّابقَاتِ» بالفاء؛ لأنها مشتقة من التي قبلها، أي: واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن، قام فذهب، فهذا يوجبُ أن يكون القام سبباً للذهابِ.
قال الواحديُّ: قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله: «فالمُدبِّراتِ أمْراً» ؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير.
قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ: بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ، فسَبقَتْ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض، كقولك: قام زيد، فذهب، فضرب عمراً، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها، ظهرت أمانَتهُمْ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ.
قوله: {فالمدبرات أَمْراً} .
قيل: «أمْراً» مفعول بالمُدبِّراتِ.
وقيل: حال، تُدبِّرهُ مأمورات، وهو بعيد.
قال القشيريُّ: أجمعوا على أن المراد: الملائكة.
وقال الماورديُّ: فيه قولان:
أحدهما: الملائكةُ، قاله الجمهور.
والقول الثاني: هي الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.
وفي تدبيرها الأمور وجهان:
أحدهما: تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا.(20/125)
والثاني: في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال.
وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ، فأضيف التدبير إليها، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره.
وقال شهاب الدِّين: والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة، وإما النجوم، وإمَّا المنَايَا، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم.
فصل في تدبير الملائكة
«تَدْبِيْرُ المَلائِكَة» : نزولها بالحلالِ، والحرام، وتفصيله قال ابن عباس: وقتادة، وغيرهما إلى الله تعالى، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ} [النحل: 102] يعني: جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ.
وروى عطاء عن ابن عباس: «فالمُدبِّراتِ أمْراً» ، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار، وغير ذلك.
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة:
جِبْرِيلِ، ومِيْكَائِيلِ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ، وإسْرَافِيْل، فأمَّا جِبْرِيْل، فمُوكَّلٌ بالرياح، والجنود، وأمَّا مِيْكَائِيْل، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنِّباتِ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ، وأما إسْرَافِيلُ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ.
وقيل: وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا.
فإن قيل: لِمَ قَالَ: «أمْراً» ، ولم يَقُلْ: أمُوراً، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة؟ .
فالجوابُ: أن المرادَ به الجنسُ، فهو قائم مقام الجمعِ.
واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك.(20/126)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، وهو جوابُ القسمِ: تقديرهُ: لتُبْعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعده عليه.
قال الفرَّاءُ: ويدل عليه قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ألسْتَ ترى أنه كالجواب لقولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} نُبعث؟ فاكتفى بقوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ؟ .
وقال الأخفشُ والزجاجُ: يَنْفُخْنَ في الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ، بدليل ذكر «الرَّادفة» و «الرَّاجفَةِ» ، وهما النَّفختانِ.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جعلت «يَوْمَ تَرْجفُ» ظرفاً للمضمر الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ .
قلت: المعنى: لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى ودلَّ على ذلك أن قوله: {تَتْبَعُهَا الرادفة} جعل حالاً عن «الرَّاجِفَة» .
وقيل: العامل مقدر، أي: اذكر يوم ترجفُ.
وفي الجواب على هذا التقدير وجوهٌ:
أحدها: قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 26] .
واستقبحه أبو بكر بن الأنباري، لطول الفصل.
الثاني: أنه قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [النازعات: 15] ؛ لأن «هَلْ» بمعنى: «قَدْ» .
وهذا غلطٌ؛ لأنه كما تقدَّم في «هَلْ أتَى» أنَّها لا تكون بمعنى «قد» إلاَّ في الاستفهام على ما قال الزمخشري.
الثالث: أن الجواب: «تَتْبعُهَا» وإنَّما حذفتِ «اللامُ» ، والأصل: «اليَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ تَتْبعُهَا» ، فحذفت «اللاَّمُ» ، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين «اللام» المقدَّرة، وبين الفعل المقسمِ عليه بالظرف، ومثله: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] .
وقيل: في الكلام تقديم، وتأخير، أي: يَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ، تَتْبعُهَا الرَّادفةُ والنَّازعات.(20/127)
وقال أبو حاتم: هو على التقديم، والتأخير، كأنه قالأ: فإذا هم بالساهرة والنازعات.
قال ابنُ الأنباريُّ: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.
وقيل: «يَوْمَ» منصوب بما دلَّ عليه «راجِفةٌ» ، أي: يَوْمَ تَرْجفُ رَجَفَتْ.
وقيل: بما دلَّ عليه «خَاشِعَة» أي: يوم ترجف خشعت، وقوله: «تَتْبعُهَا الرَّادفَةُ» يجوز أن يكون حالاً من «الرَّاجِفَةُ» ، وأن يكون مستأنفاً.
فصل في تفسير الآية
قال عبد الرحمن بن زيد: «الرَّاجِفَةُ» أي: المُضطَرِبَةُ، ومعناه: أنَّ الأرض تضطرب، و «الرَّادفة» السَّاعة.
وقال مجاهدٌ: الزلزلةُ تتبعها الرادفة، أي: الصيحة.
وعنه - أيضاً -، وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصَّيحتان، أي: النفختان، أمَّا الأولى فتُمِيْتُ كُلَّ شيء بإذنِ الله تعالى، وأمَّا الثانية فتُحْيِي كُلَّ شيءٍ بإذن الله تعالى.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَيْنَ النَّفْخَتيْنِ أرْبعُونَ سنةً» .
وقال مجاهد: «الرَّاجفَةُ» الرجفة حين تنشقُّ السَّماءُ، وتُحْملُ الأرضُ والجبالُ، فتُدَكُّ دكَّةً واحدةٍ [وذلك بعد الزلزلة وقيل: الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين] .
وأصل «الرَّجفَةِ» الحركةُ، قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض} [المزمل: 14] ، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرَّعدُ يرجف رجفاً ورجيفاً، أي: أظهرت الصوت والحركة، ومنه سُمِّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة النَّاس فيها.
وقيل: الرجفة هذه منكرة في السحاب، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] .
وأما الرادفة: فكل شيء جاء بعد شيء آخر، يقال: ردفهُ: أي: جاء بعده.
قوله: {قُلُوبٌ} مبتدأ، و «يومئذ» منصوب ب «وَاجِفَة» ، و «وَاجِفَة» صفة القلوب،(20/128)
وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، و «أبْصارُهَا» مبتدأ ثانٍ، و «خَاشِعَة» خبره، وهو وخبره خبر الأول، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: أبصار أصحاب القلوب.
قال ابن عطية: وجاز ذلك، أي: الابتداء ب «قُلُوب» ؛ لأنها تخصصت بقوله: «يَوْمَئِذ» .
ورد عليه أبو حيان: بأن ظرف الزَّمان لا يخصص الجثث، يعني: لا يوصف به الجثث.
و «الواجِفة» : الخائفة الوجلة، قاله ابن عباس، يقال: وجَفَ يَجِفُ وجِيفاً، وأصله: اضطراب القلب.
قال قيس بن الخطيم: [المنسرح]
5088 - إنَّ بَنِي جَحْجَبَى وأسرتَهُمْ ... أكْبَادُنَا مِنْ وَرائِهمْ تَجِفُ
وقال السديُّ: زَائلةٌ عن أماكنها، ونظيره: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} [غافر: 18] .
وقال المؤرج، قلقة مستوفزة، مُرتكضةٌ غير ساكنة.
وقال المبرد: مضطربة، والمعنى متقارب، والمراد: قلوب الكفَّار، يقال: وجَفَ القلب يَجِفُ وجِيفاً: إذا خفق، كما يقال: وجَبَ يَجِبُ وَجِيْباً - بالياء الموحدة - بدل الفاء، ومنه وجيف الفرس والنَّاقة في العدوِ.
والإيجاف: حمل الدابة على السير السريع.
قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي: مُنْكَسِرةٌ ذليلة من هول ما ترى، نظيره: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] .
قوله: {يَقُولُونَ} أي: يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم: إنكم تُبْعَثُون، قالوا منكرين متعجبين: أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء، كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] .(20/129)
قوله: {فِي الحافرة} «الحافرة» : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء، يقال: رجع في حافرته، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله؛ قال: [الوافر]
5089 - أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ؟ ... مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ
يقول: أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت؟ .
وأصله: أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً.
وقال الراغبُ، في قوله تعالى: {فِي الحافرة} مثل لمن يرد من حيث جاء، أي: أنَحْيَا بعد أن نموت؟ .
وقيل: «الحَافرة» ، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها، ومعناه: أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة؟ أي: في القبور.
وقوله: «في الحافرة» على هذا في موضع الحال، ويقال: رجع الشيخ إلى حافرته، أي: هرم لقوله تعالى:
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70] .
وقولهم: «النقد عند الحافرة» لما يباع نقداً، وأصله من الفرس إذا بيع، فيقال: لا يزول حافره، أو ينقد ثمنه.
والحفر: تآكل الأسنان، ود حفر فوه حفراً، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع.
والحافرة: «فاعلة» بمعنى: «مفعولة» ، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى: «المحفورة» ، كقوله تعالى: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] ، و {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 7] ، والمعنى: أئِنَّا لمردودون في قبورنا.
وقيل: على النسب، أي: ذاتُ حفر.
وقيل: سُمِّيت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سمِّيت القدم أرضاً؛ لأنها على الأرض، لقولهم: الحافرة جمع حافرة بمعنى: القدم أي: نمشي أحياء على أقدامنا، ونطأ بها الأرض.
وقيل: هي أول الأمر.
ويقول التجار: «النقد في الحافرة» أي في أول السّوم؛ وقال الشاعر: [السريع]
5090 - آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا ... حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ(20/130)
وقال ابن زيدٍ: الحافرة «النَّار» ، وقرأ: «تلك إذا كرَّه خاسرة» .
وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم: هي اسم من أسماء النار.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: الحافرة في كلام العرب: الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه، أي: تآكلت، أي: دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها، ويجوز تعلقه ب «مردودون» ، أو: بمحذوف على أنه حال.
فصل في تفسير الآية
قال ابن الخطيب: هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين.
وقال أبو مسلم: هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة؛ لأنه فسَّر «النَّازعات» بنزعِ القوسِ، و «المُدبِّرات» بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي، والعدو، ثم بنى على ذلك فقال: «الرَّاجفَة» هي خيلُ المشركين، وكذلك «الرَّادفة» ، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة، هي القلقةُ، والأبصار الخاشعة، هي أبصار المنافقين، كقوله تعالى: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] ، كأنَّه قيل: لمَّا جاء خيل العدو ترجف؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا: «أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ» أي: نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها. وقالوا أيضاً: «تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ» ، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المشركين، وأوسطه حكاية لحال المنافقين، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة} .
قال ابن الخطيب: وكلام أبي مسلم محتملٌ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور.
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} .
قرأ الأخوان وأبو بكر: «نَاخِرَةً» بألف.
والباقون: «نَخِرة» بدُونِهَا.(20/131)
وهما ك «حَاذِرٍ، وحَذِر» فاعل لمن صدر عنه الفعل، و «فعل» لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة.
وقيل: ناخِرَة، ونخِرَة بمعنى: بالية.
يقال: نَخِر العظم - بالكسر - أي بلي وتفتَّت.
وقيل: نَاخِرةٌ، أي: صارت الريح تَنْخَر فيها، أيك تصوت، ونَخِرَةٌ أي: ينخر فيها دائماً.
وقيل: ناخرة، أي: بالية، ونخرة: متآكلة.
وعن أبي عمرو: النَّاخرة: التي لم تنخر بعد، والنَّخرةُ: البالية.
وقيل: النَّاخرةُ: المصوت فيها الريح، والنَّاخرة: البالية التي تعفّنت.
قال الزمخشري: «نَخِرَ العَظْمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ، كقولك: طمع، فهو طَمِعٌ وطَامِع، و» فَعِل «أبلغ من فاعل، وقد قُرئ بهما، وهو البالي الأجوف الذي تمرُّ فيه الريح، فيسمع له نخير» .
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
5091 - وأخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فكَأنَّهَا ... قَوارِيرُ في أجْوافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ
وقال الرَّاجز لفرسه: [الرجز]
5092 - أقْدِمْ سَجاجِ إنَّها الأسَاوِرَهْ ... ولا يَهُولنكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ
فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا في الحَافِرَهْ
مِنْ بَعْدِ مَا كُنت عِظَاماً نَاخِرَهْ ... ونُخْرةُ الريح - بضم النون - شدة هبوبها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مقدم أنف الفرس، والحمار، والخنزير، يقال: هشم نخرته، أي: مقدم أنفه.
و «إذَا» منصوبٌ بمُضْمَرٍ، أي: إذَا كُنَّا كذا نُردُّ ونُبعَثُ.
قوله تعالى: {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .
«تلك» مبتدأ بها إلى الرَّجفةِ والردة في الحافرة، و «كَرَّةٌ» خبرها، و «خاسرة»(20/132)
صفة، أي: ذاتُ خسرانٍ، أو أسند إليها الخسار مجازاً والمراد أصحابُها، والمعنى: إن كان رجوعنا إلى القيامة حقاً، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [خائبة] ، وهذا أفادته «إذن» فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور.
وقيل: قد لا تكون جواباً.
وعن الحسن: أن «خاسرة» بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.
وقال الربيع بن أنس: خاسرةٌ على من كذَّب بها.
وقيل: كَرَّةُ خُسران، والمعنى: أهْلُهَا خاسرون، كقولك: تِجَارةٌ رابحةٌ، أي: يَرْبَحُ صاحبها.
وقال قتادة ومحمد بن كعب أي: لئن رجعنا أحياءً بعد الموت لنحشرن بالنَّار، وإنَّما قالوا هذا لأنَّهُم أوعدُوا بالنار، و «الكَرُّ» : «الرجوع» ، يقال: كرَّهُ، وكَرَّ بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى.
والكَرَّةُ: المرَّةُ، الجمع: الكرَّات.
قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} ضمير الكرة، أي: لا تحسبوا تلك الكرَّة صعبة على الله تعالى.
قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلق قوله:» فإنما هي «؟ .
قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني بالتعلُّق من حيث المعنى، وهو العطف.
وقوله:» فإذَا هُمْ «المفاجأة والسبب هنا واضحان.
والزجرة: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: في النَّفخةِ الواحدة» فإذا هُمْ «أي: الخلائق أجمعون،» بالساهرة «أي: على وجه الأرض من الفلاة، وصفت بما يقع فيها، وهو السهر لأجل الخوف.
وقيل: لأن السراب يجري فيها من قولهم: «عين ساهرة» أي: جارية الماء، وفي ضدها نائمة.
[قال الزمخشري: «والساهرةُ: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك؛ لأن(20/133)
السراب يجري فيها] من قولهم: عين ساهرة: أي: جارية الماء، وفي ضدِّها نائمة؛ قال الأشعثُ بن قيسٍ: [الطويل]
5093 - وسَاهِرةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً ... لأقْطَارِهَا قدْ جُبْتُهَا مُتلثِّماً
أي: ساكنها لا ينام خوف الهلكة انتهى؛ وقال أميَّةُ: [الوافر]
5094 - وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرةٍ وبَحْرٍ ... ومَا فَاهُوا به لهُمُ مُقِيمُ
يريد: لحم حيوان أرض ساهرة؛ وقال أبو كبير الهذليُّ: [الكامل]
5095 - يَرْتدْنَ سَاهِرةً كَأنَّ جَمِيمهَا ... وعَمِيمَهَا أسْدافُ ليْلٍ مُظْلِمِ
وقال الراغب: هي وجه الأرض.
وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها، كأنَّها سهرت من ذلك.
والأسهران: عرقان في الأنف.
والساهور: غلافُ القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه؛ قال: [البسيط]
5096 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... أوْ شُقَّةٌ خَرجتْ مِنْ بَطْنِ سَاهُورِ
أي: هذه المرأة بمنزلة قطعة القمرِ. وقال أمية بن أبي الصلت: [الكامل]
5097 - قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسلُّ ويُغْمَدُ ... وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال:» السَّاهرة: أرض من فضَّةٍ لم يُعْصَ اللهُ عليها مُنْذُ خَلقهَا «.
وقيل: أرض يجددها الله يوم القيامة.
وقيل: السَّاهرة: اسم الأرض السابعة يأتي الله بها، فيحاسب عليها الخلائقَ، وذلك حين تبدَّلُ الأرض غير الأرض.(20/134)
وقال الثَّوري: السَّاهرة: أرضُ» الشَّام «.
وقال وهبُ بن منبه: جبلُ بيتِ المقدسِ.
وقال عثمانُ بنُ أبي العاتكةِ: إنَّه اسم مكان من الأرض بعينه، ب» الشام «، وهو الصقع الذي بين جبل» أريحَا «وجبل» حسَّان «يمُدُّه الله كيف يشاء.
وقال قتادةُ: هي جهنَّم، أي: فإذا هؤلاءِ الكُفَّار في جهنَّم، وإنَّما قيل لها: ساهرة؛ لأنَّهُم لا ينامون عليها حينئذ.
وقيل: السَّاهرة بمعنى: الصحراء على شفيرِ جهنَّم، أي: يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ.(20/135)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} أي: قد جاءك وبلغك، وهذه تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: أنَّ فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثُمَّ أخذناه وكذلك هؤلاء.
وقيل: «هَلْ» بمعنى: «ما» أي: ما أتاك، ولكِّي أخبرك به، فإنَّ فيه عِبْرَةً لمن يخشى.
وقال ابنُ الخطيبِ: قوله: «هَلْ أتَاكَ» يحتملُ أن يكون معناه: أليْسَ قَدْ أتَاكَ حديثُ موسى، هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام، أمَّا إن لم يكن قد أتاه، فقد يجوز أن يقال: «هَلْ أتَاكَ» أي: أنا أخبرك وتقدم الكلام على موسى وفرعون فإنَّ فيه عبرة لمن يخشى.
قوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} منصوب ب «حديث» لا ب «أتاك» ؛ لاختلاف وقتيهما، وتقدم الخلاف بين القراء في «طُوَى» في سورة [طه: 12] .
و «الوادي المقدس» : المُبَاركُ المُطَهَّر.
قال الفراء: «طُوى» واد بين «المدينة» و «مصر» ، قال: وهو معدولٌ، من «طاو» ، كما عدل «عُمَرُ» من «عامر» .(20/135)
قال الفراء: مَنْ صرفه قال: هو ذكر، ومن لم يصرفه جعله معدولاً ك «عمر، وزفر» .
قال: «والصَّرفُ أحبُّ إليَّ إذا لم أجد في المعدول نظيراً» أي: لم أجد له اسماً من الواو والياء عدلَ من «فاعل» إلى «فُعَل» غير طُوى.
وقيل: «طوى» معناه: يا رجل، بالعبْرَانيَّةِ، فكأنَّه قيل: اذهب يا رجل إلى فرعون، [قاله ابن عباس.
وقيل: الطوى: أي: ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون] ؛ لأنك تقول: جئتك بعد طويّ، أي بعد ساعة من الليل.
وقيل: معناه «بالوَادِ المُقدَّسِ طُوى» أي بُورِكَ فيهِ مرَّتيْنِ.
قوله: {اذهب} يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، ناداه اذهب، ويجوز أن يكون على إضمار القول.
وقيل: هو على حذف، أي: أن اذهب، ويدل له قراءة عبد الله: أن اذهب.
و «أن» هذه الظَّاهرة أو المقدرة، يحتملُ أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، أي: ناداه ربُّه بكذا.
«اذهب إلى فرعون إنه طغى» أي تجاوز القدر في العصيان.
قال ابنُ الخطيب: ولم يُبيِّنُ أنَّه طغَى في أيِّ شيءٍ.
فقيل: تكبَّر على الله تعالى، وكفر به.
وقيل: تكبَّر على الخلقِ واسْتعبَدهُمْ.
روي عن الحسن قال: كان فرعون علجاً من «همدان» .
وقال مجاهد: كان من أهل «إصطخر» وعن الحسن - أيضاً - كان من أهل «أصبهان» ، يقال له: ذو ظفر، طوله أربعة أشبارٍ.
قوله: {هَل لَّكَ} خبر مبتدأ مضمر.
و {إلى أَن تزكى} متعلِّق بذلك المبتدأ، وهو حذفٌ سائغٌ، والتقدير: هل لك سبيل إلى التزكية، ومثله: هل لك في الخير، تريد: هل لك رغبة في الخير؛ قال: [الطويل](20/136)
5098 - فَهَلْ لَكمُ فِيهَا إليَّ فإنَّنِي ... بَصِيرٌ بِمَا أعْيَا النِّطاسِيَّ حِذْيَمَا
وقال أبو البقاء: لمَّا كان المعنى: أدعوك، جاء ب «إلى» .
وقال غيره: يقال: هل لك في كذا، هل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه؟ .
قال الواحدي: المبتدأ محذوف في اللفظ، مراد في المعنى، والتقدير: هل لك إلى أن تزكَّى حاجة.
وقرأ نافع وابن كثير: بتشديد الزاي من «تزكَّى» والأصل تتزكى، وكذلك «تَصدَّى» في السورة تحتها، فالحرميان: أدغما، والباقون: حذفوا، نحو تنزل، وتقدَّم الخلاف في أيتهما المحذوفة.
فصل في تفسير الآية
معنى «هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى» أي: تُسْلِم فتطهرُ من الذُّنُوبِ.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله.
و «أهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى» أي: تخافُه وتتقيه.
قال ابن الخطيب: سائر الآيات تدل على أنه - تعالى - لمَّا نادى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر له أشياء كثيرة، كقوله تعالى في سورة «طه» : {نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11، 12] إلى قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 23، 24] .
فدلَّ [قوله تعالى - هاهنا -: «اذْهَبْ إلى فِرعَوْنَ إنَّه طَغَى» ] أنه من جملة ما ناداه به [لا كل ما ناداه به] ، وأيضاً فليس الغرض أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور، إلاَّ أنَّه خصَّه دعوته جاريةٌ مجرى دعوةِ كُلِّ القَوْمِ.
فصل في كلام المعتزلة
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في إبطال القول بأن الله - تعالى - يخلق فعل العبد،(20/137)
فإن هذا استفهام على سبيل التقرير، أي: لك سبيل إلى أن تزكَّى، ولو كان ذلك بفعل الله - تعالى - لا نقلب الكلام حجةً على موسى.
والجواب: ما تقدَّم في نظائره.
حكى القرطبيُّ عن صخرِ بنِ جويرية قال: «لمَّا بعث الله تعالى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى فرعون، قال له:» اذْهَبْ إلى فِرْعَونَ «إلى قوله:» وأهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى «، ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه، وقد علمت أنه لا يفعل، فأوحى الله - تعالى - إليه أن امض إلى ما أمرتَ به، فإنَّ في السماء اثني عشر ألفاً ملك، يطلبون علم القدرة، فلم يبلغوه، ولم يدركوه» .
قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} «الفاء» في «فأراه» : معطوف على محذوف، يعني فذهب فأراه، كقوله تعالى: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي: فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى، أي: العلامة العظمى، وهي المعجزة.
فقيل: هي العصا.
وقيل: اليدُ البيضاءُ تبْرقُ كالشَّمْسِ، قاله مقاتل والكلبي.
والأول: قول عطاء وابن عباس؛ لأنَّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا كان حاصلاً في العصا؛ لأنَّها لمَّا انقلبت حيّة، فلا بد وأن يتغيَّر اللون الأول، فإذن كل ما في اليد، فهو حاصل في العصا، وأمور أخر، وهي الحياة في الجرم الجمادي، وتزايد الأجر إليه، وحصول القدرةِ الكبيرة والقُوَّة الشديدة، وابتلاعها أشياء كثيرة، وزوال الحياة، والقدرة عليها، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيَّة، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا.
وقال مجاهد: هي مجموع العصا واليد.
وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته ومعجزاته.
{فَكَذَّبَ} أي: كذَّب بِنَبِيِّ الله موسى و «عصى» ربَّه تبارك وتعالى.
فإن قيل: كل من كذَّب الله فقد عصى، فما فائدة قوله: «فكذب وعصى» ؟ .
فالجواب: كذَّب بالقول، وعصى بالتمرد والتجبر.(20/138)
{ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} أي: يعملُ بالفساد في الأرض.
وقيل: يعمل في نكاية موسى.
وقيل: «أدْبَرَ يَسْعَى» هارباً من الحيَّة.
قال ابن الخطيب: معنى «أدْبَرَ يَسْعَى» أي: أقبل يسعى، كما يقالُ: أقبل يفعل كذا، يعني: إن شاء يفعل، فموضع «أدبر» موضع «أقبل» لئلاَّ يوصف بالإقبَالِ.
قوله: {فَحَشَرَ فنادى} لم يذكر مفعولاهما، إذ المراد: فعل ذلك، أو يكون التقدير: فحشر قومه فناداهم.
وقوله: «فَقَالَ» تفسير للنِّداء.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فنادى فحشر؛ لأنَّ النداء قبل الحشر، ومعنى «حشر» ، أي: جمع السَّحرة، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة.
وقيل: جمع جنوده للقتال، والمحاسبة، و «السَّحَرةُ» : المعارضة.
وقيل: حَشَرَ النَّاس للُضُور «فنادى» أي: قال لهم بصوتٍ عالٍ.
{أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أي: لا ربَّ فوقِي.
وقيل: أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك.
وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
وعن ابن عباس، ومجاهدٍ، والسديِّ، وسعيد بن جبير، ومقاتلٍ: كلمته الأولى {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] والأخرى: {أنَا ربُّكمُ الأعْلَى} .
قال ابنُ عباس: كان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّا بينَّا في سورة «طه» أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل(20/139)
إليه، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلاَّ لي «فأنَا ربُّكم» ، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ، أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً.
قال القاضي: وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة، كيف يليق أن يقول: «أنَا ربُّكم الأعْلَى» فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.
قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} يجوز أن يكون مصدر الأخذِ، والتجوز إما في الفعل، أي: نكل بالأخذِ نكال الآخرة، وإما في المصدر، أي: أخذه أخذ نكالٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي: لأجلِ نكالهِ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه، وتأويله كتأويل جهدك وطافتك، غير مقيس.
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة، أي: نكل الله [به] نكال الآخرة. قاله الزَّمخشريُّ، وجعله كوعد الله، وصبغة الله.
وقال القرطبيُّ: وقيل: نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة، أي: فأخذه الله بنكال الآخرة، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ.
والنكال: اسم لما جعل نكالاً للغير، أي: عقوبة له حتى يعتبر، يقال: نَكَل فلانٌ بفلانِ، إذا ألحقهُ عُقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النُّكُول عن اليمين، والنكل: القيد وقد مضى في سورة «المزمل» ، والنكال: بمنزلة التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم.
والآخرة والأولى: إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان والاخرة قوله: «أنَا ربُّكمُ الأعْلَى» ، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] كما تقدم فحذف الموصول للعلم به.
فصل في تفسير الآخرة والأولى
قيل: الآخرة والأولى: هما الكلمتان كما تقدَّم.
وقال الحسنُ وقتادةُ: «نكال الآخرة والأولى» : هو أن أغرقهُ في الدَّنيَا وعذّبه في الآخرة.
وروي عن قتادة - أيضاً -: الآخرةُ قوله: {أنَا ربُّكمُ الأعْلَى} والأولى تكذيبه بموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.(20/140)
قال القفال: وهذا كأنَّه هو الأظهرُ؛ لأنَّه - تعالى - قال: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} فذكر القصتين، ثم قال: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} .
فظهر أنَّ المراد: أنَّه عاقبه على هذين الأمرين.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} ، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف.(20/141)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
قوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} ، يريد: أهل «مكّة» ، أي: أخلقكم بعد الموت أشدُّ في تقديركم أم السماءُ؟ .
فمن قدر على خلقِ السَّماء على عظمها، وعظم أحوالها، قدر على الإعادة، وهذا كقوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] .
والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] .
ومعنى الكلام: التقريع والتوبيخ.
ثم وصف تعالى السماء، فقال: «أم السَّماءَ بَناهَا» عطف على «أنتم» ، وقوله «» بَنَاهَا «بيان لكيفية خلقه إياها، فالوقف على» السَّماءِ «، والابتداء بما بعدها، ونظيره قوله - تعالى - في» الزخرف «: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] .
وقوله:» رَفَعَ سَمْكهَا «جملة مفسرة لكيفية البناء،» والسَّمْك «:» الارتفاع «.
قال الزمخشريُّ:» جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً «.
وسكمتُ الشيء: رفعته في الهواء، وسمك هو، أي: ارتفع سُمُوكاً، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ، وبناء مسموك، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ، وسماك البيت ما سمكته به، والمسموكاتُ: السماوات ويقال: اسمك في الدّيم، أي: اصعد في الدرجة، والسماك: نجم معروف، وهما اثنان، رامح وأعزل؛ قال الشاعر: [الكامل]
5099 - إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ(20/141)
وقال البغويُّ:» رفَعَ سمْكهَا «أي: سقفها.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال الكسائيُّ والفراء والزجاج: هذا الكلام تم عند قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا} ، قال: لأنَّه من أصله السماء، والتقدير:» أم السماء التي بناها «فحذف» التي «، ومثل هذا الحذف جائز.
قال القفالُ: يقال: الرجل جاءك عاقل، أي: الرجل الذي جاءك عاقل، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة، فنقول: الدَّليل على أن قوله تعالى:» بَنَاهَا «صلةٌ لما قبله، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله:» بَنَاهَا «صفة، ثم قوله:» رَفَعَ سَمْكهَا «صفة، فقد توالت صفتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف بينهما، كما في قوله:» وأغطَشَ ليْلهَا «، ولمَّا لم يكن كذلك، علمنا أنَّ قوله:» بَناهَا «صلةٌ للسَّماءِ، فكان التقدير: أم السَّماء التي بناهَا» ، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ، وذلك باطل.
وقوله: {فَسَوَّاهَا} أي: خَلقهَا خَلْقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا فطور، ولا شقوق.
فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة
قال ابن الخطيب: واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً، قالوا: لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا، والبعض الآخر أبعد، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية، ثُمَّ قالوا: لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة.
قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ} . أي: أظلم بلغة أنمار، يقال: غطشَ الليلُ، وأغطشته أنا؛ قال: [المتقارب]
5100 - عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً ... فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ
وليل أغطش، وليلة غطشاء.
قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه شبه عمش، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها، والتَّغَاطشُ: التَّعامِي انتهى.
ويقال: أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً ك «أظلم» ، ف «أفْعَلَ» فيه متعدٍّ ولازمٍ، فالغَطَشُ والغَتَشُ: الظُّلمة، ورجل أغطش، أي: أعْمَى، أو شبيهٌ به، وقد غطش، والمرأة:(20/142)
غطشاءُ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى: [المتقارب]
5101 - وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلاَ ... ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا
ومعنى قوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي: جعلهُ مُظلماً، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس، والشمس تضاف إلى السماء، ويقال: نجُومُ اللَّيْلِ؛ لأنَّ ظهورها بالليل.
قوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ، فيه حذف، أي: ضحى شمسها، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ.
قوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي: بسطها، و «بَعْدَ» على بابها من التأخير، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض.
وقول أبي عبيدة: إنَّها بمعنى: «قَبْلَ» منكرٌ عند العلماء.
والعرب تقول: دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً: إذا بسطه، ودحَى يَدحِي دَحْياً: إذا بسطه، فهو من ذوات الواو والياء، فيكتب بالألف، والياء.
وقيل لعشّ النَّعامة: أدحو، وأدحى لانبساطه في الأرض.
وقال أمية بن أبي الصلت: [الوافر]
5102 - وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا ... فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي
وقيل: دَحَى بمعنى سوَّى.
قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ: [المتقارب]
5103 - وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ ... لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً
دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا
والعامة: على نصب الأرض، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية.
ورفعهما الحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد، برفعهما علىلابتداء، وعيسى برفع «الأرض» فقط.(20/143)
فصل
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت.
وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم أنَّ «بَعْدَ» هنا في موضع: «مع» ، كأنَّه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] ، ومنه قولهم: «أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
5104 - فَقُلت لَهَا: عَنِّي إليْك فإنَّنِي ... حَرامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أي: مع ذلك.
وقيل: «بعد» بمعنى: «قبل» كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] أي: من قبلِ الفرقان؛ قال أبو كثير: [الطويل]
5105 - حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا ... خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ
وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة.
وقيل: «دَحاهَا» حرثها وشقَّها، قاله ابن زيد.
وقيل: «دَحاهَا» مهَّدها للأقوات، والمعنى متقارب.
قوله: {أَخْرَجَ} . فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون تفسيراً.
والثاني: أن يكون حالاً.
قال الزمخشري: فإن قلت هلاَّ أدخل حرف العطف على «أخرج» ؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «دَحَاهَا» بمعنى: بسطها، ومهَّدها للسُّكْنَى، ثم فسَّر التَّمهيد بما(20/144)
لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها.
والثاني: أن يكون «أخْرَج» حالاً، بإضمار «قد» ، كقوله تعالى: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] .
واعلم أنَّ إضمار «قد» هو قول الجمهور، وخالف الكوفيون والأخفش.
قوله: {مِنْهَا مَآءَهَا} ، أي: من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء.
و «مَرْعَاهَا» أي: النبات الذي يرعى، والمراد بمرعاها، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ، ونظيره قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 25، 26] ، إلى قوله تعالى: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] ، واستعير الرَّعي للإنسان، كما استعير الرَّتعُ في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وقد قُرئ «نرتع» ويرتع من الرَّعي، والرعي في الأصل مكان أو زمان، أو مصدر، وهو هنا مصدر بمعنى: «المفعول» ، وهو في حق الآدميين استعارة.
قال ابن قتيبة: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ، فانظر كيف دلَّ بقوله: «مَاءهَا ومَرْعاهَا» على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً، ومنها متاعاً للأنام من العشب، والشجر، والثمر، والحب والقضب، واللباس، والدواء، حتى النار والملح.
أمَّا النار؛ فلأنها من العيدانِ، قال جلا وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 71، 72] .
وأمَّا الملحُ؛ فلأنَّه من الماءِ.
قوله تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا} .
قراءة العامة: بنصب «الجبال» .
وأرْسَى: ثبَّت فيها الجبال.
وقرأ الحسنُ، وعمرو بنُ عبيدٍ، وعمرو بنُ ميمونٍ، ونصرُ بنُ عاصمٍ: بالرَّفعِ على الابتداءِ.
قوله تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ} .
العامَّة: على النصب مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ، اي: متَّعكُمْ، أو مصدراً من غير اللفظ؛ لأن المعنى: أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
وقيل: نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة، تقديره: لتتمتعوا به متاعاً، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.(20/145)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} في جواب «إذا» أوجه:
أحدها: قوله: {فَأَمَّا مَن طغى} ، نحو: «إذا جاءك بنو تميمٍ، فأما العاصي فأهنه، وأمَّا الطائع فأكرمه» .
وقيل: محذوف.
فقدَّرهُ الزمخشريُّ: فإن الأمر كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مأواهُ.
وقدَّره غيرهُ: انقسم الرَّاءون قسمين.
وقيل: عاينُوا أو علموا.
وقيل: جوابها أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة.
وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها، وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان} .
والطَّامةُ الكبرى: الدَّاهيَة العُظمَى التي تطمّ على غيرها من الدَّواهي لعظمها، و «الطَّمُّ» : «الدفن» ، ومنه: طمَّ السَّيلُ الرَّكية، وفي المثل: جَرَى الوادِي فطمَّ على القُرَى.
وقيل: مأخوذٌ من قولهم: طمَّ الفرس طميماً، إذا استفرغ جهده في الجري، والمراد بها في القرآن: النَّفخة الثانية؛ لأن بها يحصل ذلك.
قال ابن عباس: هي النَّفخةُ الثانية التي يكون معها البعث.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً، والضحاك: أنَّها القيامة، سميت بذلك؛ لأنَّها تطمُّ على كل شيء فتغمره.
وقال القاسمُ بنُ الوليد الهمداني: الطامةُ الكبرى حين يساق أهل الجنَّة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.(20/146)
قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} بدل من «إذا» ، أو: منصوباًَ بإضمار فعلٍ، أي: أعني: يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت.
قوله: {مَا سعى} أي: ما عمل من خير أو شر يراه مكتوباً في كتابه فيتذكرهُ، وكان قد نسيه، لقوله تعالى: {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] .
قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الجحيم} العامة على بنائه للمفعول مشدداً، و {لِمَن يرى} بياء الغيبة.
وزيدُ بن علي وعائشة وعكرمة: مبنيًّا للفاعل مخففاً، و «ترى» بتاء من فوق، فجوزوا في تاء «ترى» أن تكون للتأنيث، وفي «ترى» ضمير الجحيم، كقوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ، وأن تكون للخطاب، أي: ترى أنت يا محمد، والمراد: ترى الناس. وقرأ عبد الله: «لمن رأى» فعلاً ماضياً.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «بُرِّزَتْ» كشفت عنها تتلظّى، فيراه كل ذي بصرٍ، فالمؤمنون يمرُّون عليها، {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، وأمَّا الكفار فهي مأواهُم.
وقيل: الرؤية هنا: استعارة، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين.
وقيل: المراد: الكافر؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.
وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النَّعمةِ.
قوله: {فَأَمَّا مَن طغى} أي: تجاوز الحدَّ في العصيان.
قيل: نزلت في النَّضْرِ وأبيه الحارث، وهي عامة في كل كافرٍ آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
قوله: {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} إمَّا هي المأوى له، أو هي مأواه، وقامت «أل» مقام الضمير، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله، خلافاً للبصريين؛ قال الشاعر: [الطويل]
5106 - رَحيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ
إذ لو كانت «أل» عوضاً من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت، ولا بُدَّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ، والذي(20/147)
حسَّن عدم ذكر العائد كون الكلمة وقعت رأس فاصلة.
وقال الزمخشري «فإن الجحيم مأواهُ، كما تقول للرجل: غُضَّ الطَّرف، تريد طرفك، وليس الألف و» اللام «بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أنَّ الطَّاغي هو صاحب المأوى، وأنَّه لا يغُضُّ طرف غيره تركت الإضافة، ودخول الألف واللام في» المأوى «والطرف، للتعريف؛ لأنهما معروفان» .
قال أبو حيان: «وهو كلام لا يتحصَّل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدّر ضميراً محذوفاً ضميراً كما قدَّره البصريون، فرام حصول الرابط بلا رابط» .
قال شهابُ الدِّين: «ولكن لما علم إلى آخره، هو عين قول البصريين، ولا أدري كيف خفي عليه هذا» .
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} اي: حَذِرَ مقامه بين يدي ربه.
وقال الربيعُ: مقامه يوم الحساب.
وقال مجاهدٌ: خوفه في الدنيا من الله عند مواقعه الذَّنب فقلع عنه، نظيره: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] .
{ونَهَى النَّفْس عن الهَوى} أي: زجرها عن المعاصي والمحارم.
قال ابن الخطيب: هذان الوصفان مضادَّان للوصفين المتقدمين، فقوله تعالى: {مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} ضدُّ قوله: «فأمَّا من طغى» ، «ونَهَى النفس» ضدُّ قوله: «وآثر الحياةَ الدُّنيا» فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الهوى، وسيأتي زمان يقوى الهوى الحقَّ، فنعوذُ بالله من ذلك الزمنِ.
قوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} أي: المنزل، نزلت لآيتان في مصعبِ بن عميرٍ، وأخيه عامرِ بنِ عميرٍ.(20/148)
روى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أمَّا من طغى فهو أخٌ لمصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت. قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلمَّا أصبحُوا حدَّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدُّوا أسيركم، فإنَّ أمَّه أكثر أهل البطحاءِ حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه.
«» وأمَّا من خَاف مَقامَ ربِّهِ «فمصعب بن عمير، وَقَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنفسه يوم» أحُدٍ «حين تفرَّق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السِّهام، فلما رأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشطحاً في دمهِ، قال:» عِندَ اللهِ أحْتسبهُ «. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه:» لَقِدْ رأيْتهُ وعَليْهِ بُرْدَانِ ما تُعرفُ قيمتُهما وإنَّ شِراكَ نَعْليهِ مِنْ ذَهَبٍ «» .
وعن ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «نزلت هذه الآية في رجلين: أبو جهل بن هشام، ومصعب بن عمير» .
وقال السديُّ: نزل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} في أبي بكرٍ الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال الكلبيُّ: هما عامَّتان.(20/149)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} . لما سمع المشركون أخبار القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل: «الطَّامة الكبرى» ، و «الصَّاخَّة» ، و «القاَرِعَة» ، سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استهزاءً، متى تكون الساعة؟ .
وقيل: يحتمل أن يكون ذلك إيهاماً لأيقاعهم أنَّه لا أصْلَ لذلكَ، ويحتملُ أنَّهم كانوا يسألونه عن وقت القيامة استعجالاً كقوله: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] .
وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، أي: إقامتها، والمعنى: أيُّ شيء يقيمُها ويوجدُها، ويكون المعنى: أيان منتهاها ومستقرها، كما أنَّ مرسى السفينة: مستقرّها الذي تنتهي إليه فأجابهم الله - تعالى - بقوله: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} .
قوله «فِيْمَ» خبر مقدم و «أنْتَ» مبتدأ مؤخرٌ، و «مِنْ ذِكْراهَا» متعلقٌ بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنْتَ من ذكراهَا لهم وتبين وقتها في شيء.(20/149)
وقال الزمخشري: «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لم يزل رسول الله عليه وسلم يذكر الساعة، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت، قال:» فَهوَ عَلى هَذَا تَعجَّبَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرهِ لَهَا كأنَّهُ قِيلَ: فِي أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنْتَ من ذِكرِهَا والسُّؤال عَنْهَا «.
وقيل: الوقف على قوله:» فيم «، وهو خبر مبتدأ مضمر، أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدئ بقوله:» أنْت مِنْ ذِكراهَا «أي: إرسالك، وأنت خاتم الأنبياء، وآخر الرسل، والمبعوث في تسمية ذكر من ذكراها، وعلامة من علاماتها، فكفاهُم بذلك دليلاً على دُنوِّها، ومشارفتها، والاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
قاله الزمخشري: وهو كلام حسنٌ، لولا أنَّه يخالف الظاهر، وتفكيك لنظم الكلام.
ومعنى» إلى ربِّك مُنتَهاهَا «منتهى علمها، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} [الأعراف: 187] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .
قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه، وروي معناه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} .
العامة: على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفاً.
وقرأ عمر بن عبد العزيزِ وأبو جعفرٍ، وطلحةُ، وابن محيصنٍ: بالتنوين، ويكون في موضع نصب، والمعنى: إنَّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.
قال الزمخشري: وهو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذرٌ زيدٍ أمس.(20/150)
قال أبو حيان: قوله:» هُو الأصل «يعني:» التنوين «، هو قول قاله غيره.
ثم اختار أبو حيَّان: أن الأصل الإضافة، قال: لأنَّ العمل إنما هو بالشبه، والإضافة أصل في الأسماء، ثم قال: وقوله:» ليس إلا الإضافة «فيه تفصيل وخلاف مذكورفي كتب النحو.
قال شهاب الدين: لا يلزمه أن يذكر إلاَّ محل الوفاق، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس.
فصل في معنى الآية
المعنى: إنَّما أنت مُخوِّف، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذراً لكلِّ مكلَّف، كقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11] .
قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعني: الكُفَّار، يرون الساعة.
{لَمْ يلبثوا} في دنياهم، {إِلاَّ عَشِيَّةً} أي: قدر عشيَّةٍ، {أَوْ ضُحَاهَا} أي: أو قدْرَ الضُّحى الذي يلي تلك العَشيَّة، والمراد: تقليل مدة الدنيا، كقوله تعالى: {لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35] . وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً. وذكرهما؛ لأنَّهما طرفا النهار، وحسَّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
قإن قيل: قوله تعالى: {أَوْ ضُحَاهَا} معناه: ضُحَى العشيَّة، وهذا غيرر معقولٍ؛ لأنَّه ليس للعشيَّة ضُحى؟ .
فالجواب: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الهاء والألف صلة للكلام، يريد: لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى.
وقال الفرَّاء والزجاجُ: المرادُ بإضافة الضُّحى إلى العشية على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيها، وآتيك العشية أوغداتها، فتكون العشية في معنى: آخر النهار، والغداة في معنى: أول النهار؛ وأنشد بعض بني عقيل: [الرجز]
5107 - أ - نَحْنُ صَبَحْنَا عَامراً في دَارِهَا ... جُرْداً تَعَادَى طَرفَيْ نَهارِهَا
عَشِيَّةَ الهِلالِ أو سِرَارِهَا ... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(20/151)
سورة عبس(20/152)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
وتسمى سورة السفرة مكية، وهي اثنان وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة، وخمسمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى} أي: كَلحَ بوجههِ، يقال: عبَسَ وبَسَر وتولى، أي: أعرضَ بوجهه.
قوله: {أَن جَآءَهُ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعولٌ من أجله، وناصبه: إمَّا «تولَّى» وهو قول البصريين، وإمَّا «عَبَسَ» وهو قول الكوفيين، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير: لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ.
قال القرطبيُّ: إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام، ف «أنْ» متعلقة بمحذوف دلَّ عليه {عَبَسَ وتولى} والتقدير: أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على «تولَّى» ، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابن أم مكتومٍ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ، وكان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صناديدُ قريش: عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ، وأبُو(20/152)
جَهْلٍ بْنُ هشام، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ، وأميَّةُ بن خلفٍ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: عَلِّمني مما علمك الله، وكرَّر ذلك عليه، فكره قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي: أمَّا قول المفسرين: إنه الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف والعباس، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ؛ لأن أمية والوليد كانا ب «مكة» وابن أم مكتوم كان ب «المدينة» ما حضر معهما، ولا حضرا معه، وماتا كافرين، أحدهما: قبل الهجرة، والآخر في «بدر» ، ولم يقصد أمية «المدينة» قط، ولا حضر معه مفرداً، ولا مع أحدٍ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام، وقد طمع في إِسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد، فعبس وأعرضَ عنه، فنزلت الآية.
قال الثوري: «فكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ، ويقول:» مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي «، ويقول:» هَلْ مِنْ حَاجَةٍ «؟ واستخلفهُ على» المدينة «مرتين في غزوتين غزاهما» .
قال أنسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فرأيته يوم «القادسيَّة» راكباً وعليه دِرْع، ومعه رايةٌ سوداءُ.
فصل في معاتبة الله تعالى رسوله
قال ابن الخطيب: ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر، فكيف عاتب الله - تعالى - رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم؟ .
وإنما قلنا: إنه كان يستحق التأديب؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم، لكنه سمع(20/153)
مخاطبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصية عظيمة.
وأيضاً: فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ، وكان قد أسلم، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه، أما أولئك الكفَّار، فلم يكونوا أسلموا بعد، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم.
وأيضاً: فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [قبول] الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية.
وأيضاً: فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم، فكيف لقب بالأعمى؟ .
وأيضاً: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل، ومع الإذن فيه، كيف يعاتب عليه؟ .
والجواب عن الأول: أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشغولٌ بغيره، وأنَّه يرجو إسلامهم، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} [الأنفال: 67] الآية.
وقيل: إنَّما قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لأعْطِي الرَّجُل وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ» .
وقال ابن زيدِ: إنَّما عبس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لابن أم مكتوم، وأعرض عنه؛ لأنَّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يعلمه فكان في هذا نوع جفاءٍ منه، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه: {عَبَسَ وتولى} ، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له، ولم يقل: عَبْسَتَ وتولَّيت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له، فقال: «ومَا يُدْرِيكَ» أي: يعلمك «لَعلَّهُ» ابنُ أم مكتوم «يَزَّكَّى» بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير، بل كأنه قيل: إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد، أن(20/154)
تخصَّه بالغلظةِ، وأمَّا كونه مأذوناً لهُ في تأديب أصحابه، لكن هنا لمَّا أوهم تقديمَ الأغنياء على الفقراءِ، وكان ذلك مما يوهمُ ترجيح الدنيا على الدِّين، فلهذا السبب عوتب.
فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء
قال ابن الخطيب: تمسَّك القائلون بصدورِ الذنب عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه الآية.
وقالوا: لمَّا عُوتبَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك الفعل دلَّ على أنَّه كان معصية.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول، وأيضاً: فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل.
قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} ؛ الظاهر أنه أجرى التَّرجي مجرى الاستفهام، لما بينهما من معنى الطَّلب في التَّعليق، لأن المعنى منصب على تسليط الدراية على التَّرجي، إذ التقدير: لا يدري ما هو مترجّى منه التركيب، أو التذكر.
وقيل: الوقف على «يَدْرِي» ، والابتداء بما بعده على معنى: وما يطلعك على أمره، وعاقبة حاله، ثم ابتدأ، فقال: «لعلَّه يزكَّى» .
فصل في تحرير الضمير في قوله: «لعله»
قيل: الضمير في «لعلَّهُ» للكافر، يعني: لعل إذا طمعت في أن يتزكَّى بالإسلام.
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} أي: قبول الحق، «وما يدريك» أنَّ ما طمعت فيه كائن، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] .
وقوله: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} [الكهف: 28] .
قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} .
قرأ عاصم: «فتنفعه» بالنصب.
والباقون: بالرفع.
فمن رفع، فهو نسق على قوله: «أو يذَّكرُ» .
ومن نصب، فعلى جواب التَّرجي كقوله في «المؤمن» : {فَأَطَّلِعَ} [غافر: 37] ، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه.(20/155)
وقال ابن عطية: في جواب التمني؛ لأنَّ قوله تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ} في حكم قوله: {لَعَلَّهُ يزكى} .
قال أبو حيان: «وهذا ليس تمنياً إنما هو ترجٍّ» .
قال شهاب الدين: إنما يريد التًّمني المفهوم من الكلام، ويدلُّ له ما قاله أبو البقاء: «وبالنصب على جواب التمني في المعنى» ، وإلاَّ فالفرق بين التمنِّي والترجِّي لا يجهله ابن عطية.
وقال مكي: «من نصبه جعله جواب» لَعلَّ «بالفاء؛ لأنَّه غير موجب، فأشبه التَّمني والاستفهام، وهو غير معروف عند البصريين» وقرأ عاصمٌ في رواية الأعرج: «أو يذْكُر» - بسكون الذال، وتخفيف الكاف مضمومة - مضارع «ذكر» ، والمعنى: أو يتَّعظ بما يقوله: «فتنفعه الذكرى» أي: العِظَةُ.
قوله: {أَمَّا مَنِ استغنى} قال عطاء: يريد عن الإيمان، وقال الكلبي: استغنى عن الله، وقال بعضهم: استغنى أثرى؛ وهو فاسد ههنا؛ لأن إقبال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى، فأنت تقبل عليه، ولأنه قال: {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى وَهُوَ يخشى} ولم يقل وهو فقير معدم، ومن قال: أما من استغنى بماله فهو صحيح، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بما لَهُ من المال.
وقوله تعالى: {فَأَنتَ لَهُ تصدى} تقدمت فيه قراءتا التثقيل والتخفيف.
قال الزجاج: أي: أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه، يقال تصدى فلان لفلان، يتصدّد إذا تعرض له، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل: تظنيت وقصيت، وتقضى البازي قال الشاعر:
5107 - ب - تَصدَّى لِوضَّاح كأنَّ جَبينَه ... سِرَاجُ الدُّجَى يُجْبَى إليه الأساور
وقيل: هو من الصدى، وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة.
وقيل: من الصدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش.
وقرأ أبو جعفر «تُصْدي» بضم التاء وتخفيف الصاد. أي يصديك حرصك على إسلامه.(20/156)
يقال: صدى الرجل وصديته، وقال الزمخشري: وقرئ «تُصدي» بضم التاء أي تعرض، ومعناه يدعوك إلى داع إلى التصدي له؛ من الحرص والتهالك على إسلامه.
قوله: {أَلاَّ يزكى} مبتدأ خبره «عليك» أي ليس عليك عدم تزكيته.
والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.
قوله: {يسعى} حال من فاعل «جاءك» والمعنى أن يسرع في طلب الخير، كقوله: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] .
وقوله: {وَهُوَ يخشى} جملة حالية من فاعل «يسعى» فهو حال من حال وجعلها حالاً ثانية معطوفة على الأولى ليس بالقوي وفيها ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في ألاَّ يهتم بأداء تكاليفه، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى، وما كان له قائد.
قوله {تلهى} أصله تتلهى من لهي يلهى بكذا أي اشتغل وليس هو من اللهو في شيء.
وقال أبو حيان: ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها. نحو شقي يشقى. فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو.
قال شهاب الدين: الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه التفعل من اللهو.
بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه «عنهو تلهى» بواو وهي صلة لهاء الكناية، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام، وليس لهذه الآية نظير. وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف، وقرأ أبو جعفر «تُلَهَّى» بضم التاء مبنياً للمفعول. أي يلهيك شأن الصناديد، وقرأ طلحة «تتلهى» بتاءين وهي الأصل، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.
فصل
فإن قيل قوله: {فَأَنتَ لَهُ تصدى} فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصاً.(20/157)
قلنا نعم، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه، أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني، ويتلهى عن الفقير.(20/158)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله: {كَلاَّ} وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال الحسن: لما تلا جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله جبريل على النبي صلى الله هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه يتنظر ماذا يحكم الله عليه , فلما قال: {كَلاَّ} سري عنه , أي لا تفعل مثل ذلك قال ابن الخطيب: وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى.
وقوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فيه سؤالان:
الأول: قوله: {إِنَّهَا} ضمير المؤنث، وقوله: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} ضمير المذكر، والضميران عائدان إلى شيء واحد، فكيف القول فيه؟ .
الجواب: وفيه وجهان:
الأول: أن قوله: {إِنَّهَا} ضمير المؤنث، قال مقاتل: يعني آيات القرآن، وقال الكلبي: يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} عائد إلى التذكرة أيضاً، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
الثاني: قال صاحب النظم: إنها تذكرة يعني بها القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز كما قال في موضع آخر {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} والدليل على أن قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} المراد به القرآن قوله {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} .
فصل
كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ الجواب: من وجهين:
الأول: كأنه قيل: هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.
الثاني: كأنه قيل: هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم، وإياك أن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلوب أرباب الدنيا.(20/158)
قوله: {ذَكَرَهُ} يجوز أن يكون الضمير لله تعالى، لأن منزل التذكرة، وأن يكون للتذكرة، وذكر ضميرها؛ لأنها بمعنى الذكر والوعظ.
وقوله: {فَي صُحُفٍ} صفة لتذكرة. فقوله: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} جملة معترضة بين الصفة وموصوفها، ونحوها {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل: 19] ويجوز أن يكون «في صحف» خبراً ثانياً ل «إنها» والجملة معترضة بين الخبرين.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين:
الأول: قوله: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه.
والثاني: قوله: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف.
والمراد من «الصحف» قولان:
الأول: أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أيدي الشياطين، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
قوله: {سَفَرَة} جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة، وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم قال:
5107 - ج - فَمَا أدَعُ السِّفارةَ بَيْنَ قَومي ... ولا أمْشِي بغِشٍّ إن مَشَيْتُ
وسفرت المرأة: كشفت نقابها.
وقوله: {كِرَامٍ} هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، وروى الضحاك عن ابن عباس في «كِرامٍ» قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته أو تَبَرَّزَ لغائطهِ.
وقيل: يُؤثِرُون منافعَ غيرهم على منافع أنفسهم.
وقوله تعالى: {بَرَرَةٍ} جمع بارّ، مثل: كافرٍ وكفرةٍ، وساحرٍ وسحرةٍ وفاجرٍ وفجرةٍ، يقال: برٌّ وبارٌّ، إذا كان أهلاً للصِّدقِ، برَّ فلان في يمينه أي: صدق،(20/159)
وفلان يَبِرُّ خالقهُ ويتبرَّرهُ: أي: يُطِيعهُ، فمعنى «بررة» أي: مطيعين لله صادقين الله في أعمالهم.
فصل في المراد بالسفرة
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السَّفرة، فقال القفالُ في تقريره: لمَّا كان لا يمسُّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسُّها.
وقال القرطبي: إن المراد بقوله - تعالى - في سورة «الواقعة» : {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.(20/160)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} . أي: لُعِنَ.
وقيل: عُذِّبَ، والإنسان: الكافرُ.
روى الأعمشُ عن مجاهدٍ قال: ما كان في القرآن من قتل الإنسان، فإن ما عني به الكافر.
قال النحويون: وهذا إما تعجبٌ، أو استفهام تعجبٍ.
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّه - تعالى - لما ذكر ترفُّع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب [عباده] المؤمنين من ذلك، فكأنَّه قيل: وأيُّ سببٍ في هذا الترفُّع مع أنَّه أوله نطفة مَذِرَة، وآخره جِيفةٌ قذرةٌ، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة، فلا جرم أن يذكر - تعالى - ما يصلُح أن يكون علاجاً لعجبهم، وعلاجاً لكفرهم فإنَّ خلقة الإنسان تصلُح لأن يستدلّ بها على وجود الصانع، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر.
قيل: نزلت في عتبةَ بنِ أبي لهبٍ، والظاهر العموم.
وقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان} دعاء عليه بأشدِّ الأشياءِ؛ لأنَّ القتل غاية شدائدِ الدُّنيا، و {مَآ أَكْفَرَهُ} ، تعجُّبٌ من إفراطهِ في كفرانِ نعمةِ اللهِ.
فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز، والقادر على الكُلِّ كيف يليق به(20/160)
ذلك؟ والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشَّيء، فالعالمُ به كيف يليق ذلك بِهِ؟ .
فالجواب: أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب، لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب، حيث أتوا بأعظم القبائحِ كقولهم إذا تعجَّبُوا من شيءٍ قاتلهُ اللهُ ما أخَسّه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: ما أكفرهُ بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، والاستفهام بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} قيل: استفهامُ توبيخٍ، أي: أيُّ شيءٍ دعاهُ إلى الكفر.
وقيل: استفهام تحقير، له، فذكر أوَّل مراتبه، وهو قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} ، ولا شك أن النطفة شيءٌ حقيرٌ مهينٌ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر، وقوله: «فقدَّره» اي: أطواراً.
وقيل: سوَّاه لقوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37] ، وقدَّر كُلَّ عُضوٍ في الكيفيَّة والكميَّة بالقدر اللائق لمصلحته، لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] ، ثُمَّ لما ذكر المرتبة الوسطى قال تعالى: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} .
قيل: المراد: تيسير خروجه من بطنِ أمِّه، ولا شكَّ أن خروجه حيًّا من أضيقِ المسالك من أعجب العجائبِ، يقالُ: إنه كان رأسه في بطن أمه من فوقٍ، ورجلاهُ من تحتٍ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام، المراد منه قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] ، أي: التمييز بين الخير والشرِّ.
وقيل: مخصوصٌ بالدين.
قوله تعالى: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} . يجوز أن يكون الضمير للإنسان، والسبيل ظرف، أي: يسر للإنسان الطريق، أي: طريق الخير، والشر، كقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] .
وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصب بأنَّه مفعولٌ ثانٍ ل «يسره» ، والهاء للإنسان، أي: يسره السبيل، أي: هداه له.
قال شهاب الدين: فلا بد من تضمينه معنى «أعْطَى» حتى ينصب اثنين، أو حُذف حرف الجر أي: يسَّره للسَّبيل، ولذلك قدره بقوله: «هَداه له» ، ويجوز أن يكون «السَّبيل» منصوباً على الاشتغالِ بفعلٍِ مقدرٍ، والضمير له، تقديره: ثم يسِّر السبيل يسَّره، أي: سهلهُ للناس، كقوله تعالى: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وتقدَّم مثله في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] .(20/161)
فصل في تفسير الآية
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٍ قالا: سبيل الشقاء والسعادة.
وقال ابن زيد: سبيل الإسلام، وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كلّ أحد ما خلقهُ لهُ وقدره عليه، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ» .
قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} هذه المرتبة الثالثة، أي: جعل له قبراً يوارى فيه يقال: قبرهُ إذا دفنه، وأقبرهُ، أي: جعلهُ بحيث يقبر، وجعل له قبراً إكراماً له، ولم يجعله ممَّن يُلْقَى على وجه الأرض تأكله الطير. قاله الفراء.
قال أبو عبيدة: «أقْبَرَهُ» جعل له قبراً، وأمرَ أن يقبر، والقَابِرُ: هو الدَّافن بيده؛ قال: الأعشى: [السريع]
5108 - لَوْ أسْندَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا ... عَاشَ ولَمْ يُنْقَلْ إلى قَابرِ
يقال: قبرت الميت «أي» دفنته، وأقبره الله أي: صيَّرهُ بحيثُ جعل لهُ قبراً.
وتقول العرب: بترت ذنب البعير وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله وطردت فلاناً، والله أطرده، أي: صَيَّره طريداً.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} . أي: أحياه بعد موته، ومفعول شاء محذوف، أي: شاء إنشارهُ، و «أنشره» جواب «إذا» .
وقرأ العامة: «أنْشَرَ» ، بالألف.
وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة: «نَشَرهُ» ثلاثياً بغير ألف.
ونقلها أبو الفضل أيضاً، وقال: هما لغتان بمعنى الإحياء.
قال ابن الخطيب: وإنَّما قال: «إذا شَاءَ أنشرهُ» إشعاراً بأنَّ وقته غير معلوم، فتقديمه وتأخيره موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى.(20/162)
قوله تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} «كلاَّ» : ردعٌ للإنسان عن تكبُّره، وترفعه، وعن كفره، وإصراره عن إنكار التوحيد، وعلى إنكار البعث، والحشر والنشر وقوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} قال مجاهد وقتادة: لا يقضي أحدٌ جميع ما أمر به، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفكُّ عن تقصير ألبتَّة.
قال ابن الخطيب: وعندي في هذا التفسير نظر؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السَّابق وهو الإنسان في قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} وليس المراد من الإنسان هنا: جميع الإنسان، بل الإنسان الكافر، فقوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} ، كيف يمكن حمله على جميع الناس؟ .
وقال ابن فورك: كلاَّ لما يقض الله ما أمره، [كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول لما يقض ما أمره] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التَّأمُّلِ في دلائل الله تعالى، والتَّدبُّر في عجائب خلقه.
قوله: «ما أمره» ، «ما» : موصولة.
قال أبو البقاء: بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي: ما أمره به.
قال شهابُ الدين: وفيه نظر، من حيثُ إنَّه قدر العائد مجروراً بحرف لم يجر الموصول، ولا أمره به، فإن قلت: «أمر» يتعدى إليه بحذف الحرف، فاقدره غير مجرور.
قلت: إذا قدرته غير مجرور فإمَّا أن تُقدِّره متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مشكل، لما تقدم في أول «البقرة» عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .
وقال الحسن: «كلاَّ» معناه: «حقًّا» ، «لما يقض» : أي: لم يعمل بما أمره به.
قال القرطبي: و «ما» في قوله: «لما» عماد للكلام، كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159] ، وقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] .(20/163)
وقال ابن الأنباريِّ: الوقف على «كلاَّ» قبيح، والوقف على «أمره» و «نشره» جيد، ف «كلا» على هذا بمعنى حقًّا.(20/164)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} .
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ عادة الله - تعالى - جارية في القرآن الكريم، كلما ذكر دلائل الأنفس يذكر عقبها دلائل الآفاق، فبدأ - هاهنا - بما يحتاج الإنسان إليه.
واعلم أنَّ النَّبْتَ إنَّما يحصل من القَطْرِ النازل من السماء الواقع في الأرض، فالسماء كالذَّكر، والأرض كالأنثى، فبيَّن نزول السماء إلى الأرض بقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء} .
وقال القرطبي: لمَّا ذكر تعالى ابتداء خلقِ الإنسان، ذكر ما يسَّر من رزقه، أي: فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاشِ ليستعد بها للمعاد، وهذا النظر نظر القلب بالفكر، والتدبر.
قال الحسنُ ومجاهدٌ: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} أي: إلى مدخله ومخرجه.
روى الضحاكُ بنُ سفيان الكلابي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» يَا ضحَّاكُ، ما طَعامُكَ «؟ قلت: يا رسول الله، اللَحْمُ واللَّبنُ، قال:» ثُمَّ يصيرُ إلى مَاذَا «؟ قلت: إلى ما قد علمتهُ، قال:» فإنَّ الله - تعالى - ضَرَبَ مَا يَخْرجُ مِنْ ابْنِ آدمَ مثلاً للدُّنْيَا «» .
وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن الرجل يدخل الخلاء، فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول: انظر ما بخلت به إلى ما صار.
واعلم أنَّ الطعام الذي يتناوله الإنسان له حالتان:
إحداهما متقدمة، وهي التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود.(20/164)
والحالة الثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان، حتى يحصل الانتفاع بذلك الطعام، فلما كانت الحالة الأولى أظهر للحسِّ، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكرها.
قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً} .
قرأ الكوفيون: «أنَّا» بفتح الهمزة غير ممالة.
والباقون: بالكسر.
والحسين بن علي: بالفتح والإمالة.
فأمَّا الفراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «طَعامه» ، فيكون في محل جر، واستشكل بعضهم هذا الوجه، ورد بأنه ليس بواضح.
والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ، بمعنى أنَّ صبَّ الماء سبب في إخراج الطَّعام، فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، وقد نحا مكيٌّ إلى هذا فقال: لأن هذه الأشياء مشتملة على الطعام ومنها يتكون، لأنَّ معنى «إلى طعامهِ» إلى حدوث طعامه كيف يتأتى، فالاشتمال في هذا إنما هو من الثاني على الأول؛ لأن الاعتبار إنَّما هو في الأشياء التي يتكون منها الطعام لا في الطعام نفسه.
والوجه الثاني: أنها على تقدير لام العلَّة، أي فلينظر لأنا، ثم حذف الخافض فجرى الخلاف المشهور في محلها.
قال القرطبيُّ: ف «أنّا» في موضع خفضٍ على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنًّه قال: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} إلى «أنَّا صببنا» ، فلا يحسن الوقف على «طعامه» في هذه القراءة.
والوجه الثالث: أنَّها في محل رفعٍ خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو أنَّا صَببنَا، وفيه ذلك النظر المتقدم؛ لأنَّ الضمير إن عاد على الطعام، فالطعام ليس هو نفس الصب، وإن عاد على غيره، فهو غير معلوم، وجوابه ما تقدم.
وأما القراءة الثانية: فعلى الاستئناف تقديراً لنعمه عليه.
وأما القراءة الثالثة: «أنَّى» التي بمعنى: «كَيْفَ» ، وفيها معنى التَّعجُّب، فهي على هذه القراءة كلمة واحدة، وعلى غيرها كلمتان.(20/165)
قال القرطبي: فمن أخذ بهذه القراءة، قال: الوقف على «طعامه» تام، ويقال: معنى «أنَّى» : أين، إلاَّ أنَّ فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها: من أي وجهٍ صببنا؛ قال: الكميت: [المنسرح]
5109 - أنَّى، ومِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّربُ ... مِنْ حَيْثُ لا صبْوةُ ولا رَيبُ
فصل في المراد بصبّ الماء
قوله: {صَبَبْنَا المآء صَبّاً} ، يعني: الغيث والأمطار، {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} أي: بالنبات {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} أي: قَمْحاً وشعيراً وسلقاً، وسائر ما يحصد ويدخر، وإنما قدم ذلك لأنها كالأصل في الأغذية، «وعِنَباً» وإنما ذكره بعد الحب؛ لأنه غذاء من وجه، وفاكهة من وجه.
قوله: {وَقَضْباً} : القَضْبُ هنا، قال ابن عباس: هو الرطبُ، لأنه يقضب النخل، أي: يقطع، ورجَّحه بعضهم بذكره بعد العنب، وكثيراً ما يقترنان.
وقيل: القت.
قال القتيبي: كذا يسميه أهلُ «مكة» .
وقيل: كُل ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدمَ.
وقيل: هو الرَّطبةُ، والمقاضب: الأرض التي تنبتها.
قال الراغب: والقَضْبُ: كالقضيب، لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر، والقضبُ يستعمل في البقل، والقَضَبُ: أي بالفتح قطع القَضْب والقضيب، وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تصليباً قضبه، وسيفٌ قاضبٌ وقضيبٌ، أي: قاطعٌ، فالقضيب - هاهنا - بمعنى: الفاعل، وفي الأول: بمعنى المفعول، وكذا قولهم: ناقة قضيب، لما تركب من بين الإبل ولما ترض , وفي الأول: بمعنى المفعول , وكذا قولهم: ناقة قضيب , لما تركب من بين الإبل ولما ترض , ويقال لكل ما لم يهذب: مقتضب، ومنه اقتضاب الحديث، لما لم يترو فيه.
وقال الخليل: القَضْبُ: أغصان الشجرة التي يتّخذ منها سهامٌ أو قسيٌّ.
وقال ابن عباس: إنه الفصفصة، وهوالقتّ الرطب.(20/166)
وقال الخليل: القَضْبُ: الفصفصة الرطبة.
وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قتّ.
قوله: {وَزَيْتُوناً} . وهي: شجرة الزيتون، {وَنَخْلاً} يعني: النخيل.
قوله: {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} . جمع «أغلبَ وغلبَاء» ك «حُمْر» في «أحْمرَ، وحَمْراءَ» ، يقال: حديقة غلباء، أي: غليظة الشجر ملتفة، واغلولب العشب أي: غلظ، وأصله في وصف الرقاب يقال: رجل أغلب، وامرأة غلباء، أي: غليظة الرقبة.
قال عمرو بن معديكرب: [الكامل]
5110 - يَسْعَى بِهَا غلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ ... بُزلٌ كُسينَ مِنَ الكُحَيْلِ جِلالا
ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعاً؛ قال العجاج: [الرجز]
5111 - مَا زِلْتُ يَوْمَ البَيْنِ ألْوِي صُلْبِي ... والرَّأسَ حتَّى صِرْتُ مِثْلَ الأغلبِ
والغلبة: القهر؛ أن يُنال وتصيب عليه رقبته، هذا أصله، وحديقة غلباء: ملتفة، وحدائق غلب، وقال ابن عباس: الغلب جمع أغلب، وغلباء، وهي الغِلاظ، وعنه أيضاً: الطوال.
وقال قتادةُ: وابنُ زيدٍ: الغلبُ: النَّخْلُ الكرامُ.
وعن ابن زيدٍ أيضاً وعكرمةَ: عظام الأوساط، والجذوع.
وقال مجاهد: ملتفة. وتقدم الكلام على الحدائق في سورة «النمل» .
قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} . الفاكهةُ: ما يأكله الناس من ثمار الأشجار، كالتين، والخوخ، وغيرهما.
قال ابن الخطيب: وقد استدلَّ بعضهم بأنَّ الله - تعالى - لمَّا ذكره الفاكهة بعد ذكر العنبِ، والزيتونِ، والنخل، وجب ألا يدخل هذه الأشياء في الفاكهة، وهذا أقربُ من جهة الظاهر؛ لان المعطوف مغاير للمعطوف عليه.(20/167)
وأمَّا الأبُّ: فقيل: الأبُّ للبهائم بمنزلة الفاكهة للنَّاس.
وقيل: هو مطلق المرعى.
قال الشاعر يمدحُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [الطويل]
5112 - لَهُ دَعْوةٌ مَيْمُونةٌ رِيحُهَا الصَّبا ... بِهَا يُنْبِتُ اللهُ الحَصِيدةَ والأبَّا
وقيل: سمي المرعى أبًّا؛ لأنه يؤبُّ، أي: يؤم وينتجع، والأبُّ والأمُّ بمعنى؛ قال الشاعر: [الرمل]
5113 - جِذمُنَا قَيْسٌ ونَجْدٌ دَارُنَا ... ولنَا الأبُّ بِهِ والمُكْرَعُ
وأبُّ لكذَا يَؤبُّ ابًّا، وأبَّ إلى وطنه، إذا نَزعَ الشيء نزوعاً: تهيَّأ لقصدهِ، وهكذا أب بسيفه: أي: تهيَّأ لسله، وقولهم: «إبان ذلك» هو فعلان منه، وهو الشيء المتهيِّئ لفعله ومجيئه، وقيل: الأبّ: يابس الفاكهة لأنها تؤب للشتاء، أي تعد.
وقيل: الأبُّ ما تأكله البهائمُ من العُشْبِ.
قال ابنُ عباسٍ والحسن: الأبُّ، كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس، وما يأكله الآدميون، هو: «الحصيد» .
وعن ابن عباس وابن أبي طلحة: الأبُّ، الثِّمارُ الرَّطبةُ.
وقال الضحاك: هو التِّينُ خاصَّةً. وهو محكي عن ابن عباس أيضاً. وقيل: الأب الفاكهة رطب الثمار ويابسها.
وقال إبراهيم التيمي: سُئل أبُو بكر الصديقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن تفسير الفاكهة والأبِّ، فقال: أيُّ سماءٍ تظلني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقرأ هذه الآية، ثم قال: كل هذا عرفناه فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده، ثم قال: هذا لعمر الله التكليف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبُّ؟ .
ثم قال: اتَّبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب، وما لا فدعوه.(20/168)
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ، ورُزقتُمْ مِنْ سَبعٍ فاسجُدُوا للهِ على سَبْعٍ» .
وإنما أراد بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خُلِقْتُمْ مِنَ سَبْعٍ» يعني: {مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ}
[الحج: 5] الآية.
والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً} إلى قوله «وفاكهة» ثم قال: «وأبًّا» وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنَّه مما تختص به البهائم، والله أعلم.
قوله: {مَّتَاعاً لَّكُمْ} : نصب على المصدر المؤكد؛ لأن إنبات هذه الأشياء متاعٌ لجميع الحيوانات، واعلم أنه - تعالى - لما ذكر ما يغتذي به الناس والحيوان، قال جل من قائل: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} .
قال الفراء: جعلناه منفعة لكم ومتعة لكم ولأنعامكم، وهذا مثلٌ ضربه الله لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دُثُوره كما تقدم بيانه في غير موضع.(20/169)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} : وهي الصَّيحةُ التي تصخُّ الآذان، أي: تصمها لشدة وقعتها.
وقيل: هي مأخوذة من صَخّهُ بالحجر أي: صَكَّهُ به.
وقال الزمخشري: «صخَّ لحديثه مثل أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخَّة مجازاً؛ لأن النَّاس يصخُّون لها» .
وقال ابن العربي: الصاخَّة: التي تورث الصَّممَ، وإنَّها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة؛ كقول الشاعر: [البسيط]
5114 - أصمَّنِي سِرُّهُمْ أيَّام فُرقتِهِمْ ... فَهل سَمِعتُمْ بِسرِّ يُورِثُ الصَّمَمَا
وقال آخر: [الطويل](20/169)
5115 - أصَمَّ بِكَ النَّاعِي وإنْ كَانَ أسْمَعَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وجواب «إذا» محذوف، يدل عليه قوله: «لكُلِّ امرئٍ مِنهُمْ يومئذٍ شأنٌ يُغنِيهِ» . والتقدير: فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه.
فصل في تعلق الآية
لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، والإنفاق مما امتن به عليهم.
وقال ابنُ الخطيب: لمَّا ذكر تعالى هذه الأشياء، وكان المقصود منها أمور ثلاثة:
أولها: الدلائل الدالة على التوحيد.
وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة والمعاد.
وثالثها: أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان، لا يليق بالعاقل أن يتمرَّد عن طاعته، وأن يتكبَّر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكِّد لهذه الأغراض، وهو شرح [أهوالِ الآخرةِ] ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف، فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل، والإيمان بها، والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبُّر على الناس، وإلى إظهار التواضع فقال تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} يعني: صيحة القيامةِ، وهي النفخة الأخيرةُ، تصخُّ الأسماع أي: تصمُّها، فلا تسمع إلا ما يدعى به الأحياء.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا وهِيَ مُصِيخَةٌ يوْمَ الجُمعَةِ شفقاً مِنَ السَّاعَةِ إلاَّ الجنِّ والإنسَ» .
قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء} بدل من «إذا» ، ولا يجوز أن يكون «يغنيه» عاملاً، في «إذا» ، ولا في «يوم» ؛ لأنه صفة ل «شأن» ولا يتقدم معمول الصِّفة على موصوفها.
والعامة على «يغنيه» من الإغناءِ.(20/170)
وابن محيصن والزهري، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ، وابن السميفع: «يعنيه» بفتح الياء والعين المهملة من قولهم: عناني في الأمر، أي: قصدني.
فصل في معنى الآية
قوله: «يَفِرُّ» ، أي: يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ، «مَنْ أخِيْهِ» أي: من مُوالاةِ أخيهِ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه، لقوله بعده: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، أي: يشغلهُ عن غيره.
وقيل: إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات، يقول الأخُ: ما واسيتنِي بمالك، والأبوان يقولان: قصرت في برنَا، والصاحبة تقول: أطمعتني الحرامَ، والبنون يقولون: ما علمتنا.
وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} [الدخان: 41] .
وقال عبد الله بن طاهر: يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال: يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ.
قال ابنُ الخطيب: المراد: أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل: {يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ} ، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين. ثم لمَّا ذكر الفِرارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
قال ابن قتيبة: «يغنيه» أي: يصرفه عن قرابته، ومنه يقال: أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ، أي: اصرفه.
وقال أهل المعاني: إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} . لما ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيَّن أن المكلفين فيه على قسمين: سعداء، وأشقياء، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي: مضيئة مشرقة، وقد علمت ما لها من الفوز، والنعيم، من أسفر الصبح: إذا أضاء، وهي وجوه المؤمنين «ضاحكةٌ» أي: مسرورة فرحة.(20/171)
قال الكلبي: يعني بالفراغ من الحساب {مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي: بما آتاها الله تعالى من الكرامة.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ: «مسْفِرةٌ» من طول ما اغبرت في سبيل الله.
وقال الضحاكُ: من آثار الوضوء.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من قيامِ اللَّيل، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ» .
قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} .
قال المبرد: «الغَبَرةُ» الغبارُ، والقترةُ: سوادٌ كالدُّخان.
وقال أبو عبيدة: القترُ في كلام العرب: الغبارُ، جمع القترة؛ قال الفرزدقُ: [البسيط]
5116 - مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ ... مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
وفي عطفه على الغبرة ما يرد هذا إلا أن يقال: اختلف اللفظ فحسن العطف، كقوله: [الوافر]
5117 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... كَذِبًا ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
5118 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... . . النَّأيُ والبُعْدُ
وهو خلاف الأصل، وفي الحديث: «إنَّ البَهَائِمَ إذَا صَارتْ تُراباً يَوْمَ القِيَامَةِ حُولَ ذلِكَ التُّرابُ في وُجوهِ الكُفَّارِ» .
وقال زيدُ بن أسلمَ: القترةُ: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرةُ: ما انحطت إلى الأرض، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ.(20/172)
قال ابن عباس: «تَرْهَقُهَا» أي: تغشاها، «قَتَرةٌ» أي: كسوفٌ وسواد.
وعنه - أيضاً -: ذلَّةٌ وشدَّةٌ.
وقيل: تَرهقُهَا، أي: تدركها عن قُرب، كقولك: رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة، والرَّهْقُ: عجلة الهلاك، القترةُ: سواد كالدُّخان، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد، والغبرة، كما جمعوا بين الكفر، والفجور، والله أعلم.
والعامة: على فتح التاء في «قَتَرة» ، وأسكنها ابن أبي عبلة.
قوله: {أولئك هُمُ الكفرة} : جمع كافِر، «الفَجرَةُ» : جمع فَاجِر، وهو الكاذبُ المُفتَرِي على الله تعالى.
وقيل: الفَاسقُ: يقال: فَجَرَ فُجُوراً، أي: فسَقَ، وفَجرَ: أي: كذبَ. وأصله الميل، والفاجر المائل.
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: «مَنْ قَرَأ سُورَة {عَبَسَ وتولى} جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ ووجْههُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ» .(20/173)
سورة التكوير(20/174)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
مكية، وهي تسع وعشرون آية، ومائة وأربع كلمات، وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} : في ارتفاع الشمس وجهان:
أصحهما: أنها مرفوعة بفعل مقدر مبني للمفعول، حذف وفسَّره ما بعده على الاشتغال، والرفع على هذا الوجه، أعني: إضمار الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون أن يليها غيره، ويتَأوَّلُون ما أوهمَ خلافَ ذلكَ.
والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، وهو قول الكوفيين، والأخفش، لظواهر جاءت في الشعر، وانتصر له ابن مالك.
قال الزمخشري: ارتفاع «الشمس» على الابتداء، أو الفاعليَّة؟ .
قلت: بل على الفاعلية ثم ذكر نحو ما تقدم، ويعني بالفاعلية: ارتفاعها بفعل الجملة، وقد مرَّ أنَّهُ يسمي مفعول ما لم يسم فاعله فاعلاً، وارتفاع «النجوم» وما بعدها، كما تقدَّم في «الشمس» .
فصل في تفسير معنى التكوير
قد تقدَّم تفسير التَّكوير في أول «تنزيل» .(20/174)
قيل: التَّلفيف على جهةِ الاستدارة، كتكوير العمامة.
وفي الحديث: «نعُوذُ باللهِ مِنَ الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ» ، أي: من التشتت بعد الألفة.
وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها.
والحَوْرُ: بالحاء المهملة والراء؛ الطيُّ واللَّف، والكورُ والتَّكويرُ واحدٌ.
وسميت كارَّة القصار: كارة؛ لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد.
ثم إن الشيء الذي يلفّ يصير مختفياً عن الأعين، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس، وغيبوبتها عن الأعين ب «التكوير» .
فلهذا قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: تكويرها: إدخالها في العرش.
وقال الحسنُ: ذهاب ضوئها، وهو قول مجاهدٍ وقتادة.
وروي عن ابن عباس أيضاً وسعيد بن جبير: غورت.
وقال الرًّبيعُ بنُ خيثمٍ: «كُوِّرتْ» : رمي بها.
ومنه كورته فتكور: أي: سقط.
قال الأصمعي: يقال: طعنه فكوَّره وحوره أي: صرعه.
فمعنى «كورت» : أي: ألقيت ورميت عن الفلك.
وعن أبي صالح: «كورت» نكست.
وقال ابن الخطيب: وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن لفظة «كُوِّرتْ» مأخوذةٌ من الفارسية، فإنه يقال للأعمى: كور.
قوله: {وَإِذَا النجوم انكدرت} أي: تناثرت وتساقطت.
قال تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2]
والأصل في الانكدار: الانصباب.
قال الخليل: انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالاً، وانصبوا عليهم.
وقال أبو عبيدة: انصبّ كما ينصب العقاب إذا كسرت؛ قال العجاجُ يصفُ صقراً: [الرجز](20/175)
5119 - أبْصَرَ خِرْبَانَ فضَاءٍ فانْكَدرْ ... تَقضِّيَ البَازِيَ إذَا البَازِي كَسَرْ
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يَبْقَى في السَّمَاءِ يَوْمَئذٍ نَجمٌ إلاَّ سَقطَ في الأرْضِ» .
وروي ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أن النجوم قناديلُ معلقةٌ بين السماء والأرض بسلاسلَ من نور بأيدي الملائكة، فإذا مات من في السموات، ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها.
قال القرطبي: «ويحتمل أن يكون» انكدارها «: طمسَ آثارها، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها.
وعن ابن عباس - أيضاً -:» انْكَدرَتْ «: تغيَّرت، فلم يبق لها ضوءٌ لزوالها عن أماكنها، والمعنى متقارب.
قوله: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} ، يعني: قطعت عن وجه الأرض وسيرت في الهواء، لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] ، وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20] في الهواء، لقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] .
وقيل: سيرها أن تحوَّل عن صفة الجبال للحجارة، فتكون كثيباً مهيلاً، أي: رملاً سائلاً، وتكون كالعِهْن، وتكون هباءً منبثاً، وتكون مثل السَّراب الذي ليس بشيءٍ، وعادت الأرض قاعاً صفصفاً، {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 107] .
قوله تعالى: {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} . العشار: جمع عشراء، وهي: الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السَّنة وكذلك يقال في جمع نفساء.
قال القرطبي: وهو اسمها بعد ما تضع أيضاً، ومن عادة العرب أن يسمُّوا الشيء باسمه المتقدم، وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قرح: قربوا مهري يسميه بمتقدم اسمه، وإنَّما خصَّ العشار بالذكر؛ لأنَّها أعزُّ ما يكون عند العرب، وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، أو المعنى: أنَّ يوم القيامة بحالٍ لو كان للرجل ناقة عشراء لعطَّلها، واشتغل بنفسه، يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوتانِ، ونوقٌ عشارٌ وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واواً.(20/176)
وقد عشرت الناقة تعشيراً: أي: صارت عشراء.
وقيل:» العِشَارُ «: السَّحاب، و» عطلت «: أي: لا تمطر.
والعرب تشبه السحاب بالحامل، قال تعالى: {فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 2] .
وقيل: الأرض تعطل زرعها.
والتعطيل: الإهمال، ومنه قيل للمرأة: عاطل إذا لم يكن عليها حُليّ. وتقدم في» بئر معطلة «.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
5120 - وجيدِ كَجيدِ الرِّئمِ لَيْسَ بفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطِّلِ
وقرأ ابنُ كثير في رواية:» عُطِلت «بتخفيف الطاء.
قال الرازي: هو غلطٌ، إنما هو بفتحتين، بمعنى:» تعطَّلتْ «؛ لأن التشديد فيه للتعدي، يقال: عطلت الشيء، وأعطله فعطل.
قوله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} ، الوحوش: ما لم يتأنس به من حيوان البرّ، والوحشُ أيضاً: المكان الذي لا أنس فيه، ومنه: لقيته بوحش أي: ببلد قفر، والوحشُ: الذي يبيت وجوفه خالياً من طعامٍ، وجمعه: أوحاشٌ، وسمِّي به المنسوب إلى المكان الوحشيّ: وحشي، وعبر بالوحشيّ عن الجانب الذي يضاد الإنسي، والإنسي: ما يقبل من الإنسان وعلى هذا وحشي الفرس وإنسيه.
وقوله تعالى: {حُشِرَتْ} . أي: جمعت، والحشرُ: الجمع قاله الحسنُ وقتادةُ وغيرهما.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: حشرها موتها، رواه عكرمة، وحشر كلِّ شيءٍ: الموت لغير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: يحشَرُ كلُّ شيءٍ حتى الذباب.
وعن ابن عباس - أيضاً -: يحشر الوحوش غداً، أي: تُجمع، حتى يقتصّ لبعضها من بعض، فيقتص للجمَّاء من القرناء ثم يقال لها: كوني تراباً فتموت.(20/177)
وقرأ الحسن وابن ميمون: «حُشِّرت» بتشديد الشين.
ومعنى الآية: أي: أنَّ الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم؟ .
وقيل: أي: أنَّها مع نفرتها اليوم من النَّاس، وتبددها في الصحاري، تنضمّ غداً إلى الناس من أهوال ذلك اليوم؛ قاله أبي بن كعب.
قوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} .
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ: «سُجِرتْ» بتخفيف الجيم.
والباقون: بتثقيلها على المبالغة والتنكير.
والمعنى: مُلئتْ من الماء، والعرب تقول: سجرتُ الحوضَ أسجره سجراً إذا ملأتهُ، وهو مسجورٌ، والمسجورُ والسَّاجرُ في اللغة: المَلآن.
وروى الربيع بن خيثمٍ: «سُجِّرَت» : فاضت وملئت، قال تعالى: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] .
وقال الحسن: اختلطت وصارت شيئاً واحداً.
وقيل: أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت.
وقال القشيريُّ: يرفع الله الحاجز الذي ذكره - تعالى - في قوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] ، فإذا رفع ذلك البرزج تفجَّرت مياه البحار، فعمَّت الأرض كلَّها، وصارت بحراً واحداً.
وعن الحسن وقتادة وابن حيان: تيبس، فلا يبقى من مائها قطرةٌ.
قال القشيريُّ: وهو من سجرتُ التنور أسجره سجراً: إذا أحميته، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرُّطوبة، وتقدم اشتقاق هذه المادة.
قال القفالُ: وهذا التأويل يحتمل وجوهاً:
الأول: أن تكون جهنم في قعر البحار، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير ذلك النِّيران إلى البِحَار، فصارت مسجورة(20/178)
بالكلية، وهذا قولُ ابن زيد، وعطية، وسفيان، ووهب، وأبيّ، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس في رواية، والضحاك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أوقدت فصارت ناراً.
الثاني: قال ابن عباس: يُكوِّر الله تعالى الشمس، والقمر، والنجوم في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله - تعالى -[لها] ريحاً دبوراً، فتنفخه حتى تصير ناراً، كذا جاء في الحديث.
الثالث: أن يخلق الله - تعالى - تحت البحار نيراناً عظيمة حتى تسجر تلك المياه.
قال ابن الخطيب: وهذه وجوه متكلِّفة، ولا حاجة إلى شيء منها؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها، ومن قلب مياهها ناراً من غير حاجةٍ إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر، أو يكون تحتها نار جهنم.
قال القرطبيُّ: وروي عن ابنِ عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم.
وقال أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ستّ آيات قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم إذا ذهب ضوءُ الشمس، فتحيَّروا ودهشُوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذا تناثرت النجوم، وتساقطت، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت، واحترقت فصارت هباءً منبثاً، ففزعتِ الجنُّ إلى الإنسِ، وفزعتِ الإنسُ إلى الجنِّ، واختلط الدواب، والوحش، والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} ، ثم قالت الجنُّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّجُ، فبينما هم كذلك إذا تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح، فأماتتهم.
وقال ابن الخطيب: وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا، وأن تكون بعد القيامة.
وقيل: معنى «سُجِّرتْ» يحمر ماؤها حتى يصير كالدَّم، من قولهم: «عَيْنٌ سَجراءُ» . أي: حمراء.(20/179)
قوله تعالى: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} .
العامة: على تشديد «الواو» من «زوَّجت» من التزويج.
وروي عن عاصم: «زُوْوجَتْ» على وزن «فُوعِلتْ» .
قال أبو حيان: «والمُفاعَلةُ» تكون من اثنين.
قال شهابُ الدِّين: وهي قراءةٌ مشكلةٌ؛ لأنَّه لا ينبغي أن يلفظ بواو ساكنة، ثم أخرى مكسورة، وقد تقدم أنه متى اجتمع مثلان، وسكن أولهما وجب الإدغام حتى في كلمتين، ففي كلمة واحدة أولى.
فصل في المراد بالآية
قال النُّعمانُ بنُ بشيرٍ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « {وإذَا النُّفوسُ زُوِّجَتْ} قال:» يُقْرَنُ كُل رجُلٍ مَعَ كُلِّ قومٍ كَانُوا يَعْملُونَ كعَملهِ «» .
قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يقرن الفاجرُ مع الفاجر، ويقرن الصالحُ مع الصالحِ.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة: السَّابقون زوج صِنْفاُ، وأصحاب اليمين زوجٌ، وأصحاب الشِّمال زوجٌ.
وعنه أيضاً قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحُورِ العينِ، وقُرِنَ الكفَّار والمنافقون بالشَّياطينِ.
وقال الزجاجُ: قُرنَت النفوسُ بأعمالها.
وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد أي: وقت ردت إليها قاله عكرمة.(20/180)
وقيل غير ذلك.
قوله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} .
الموءودة: هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل.
يقال: وأد يَئِدُ، ك «وعد» «يعِد» .
وقال الزمخشري: «وأدَ يئد» ، مقلوب من «آد يئود» إذا أثقل، قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] ؛ لأنه إثقال بالتراب.
قال أبو حيان: ولا يدعى ذلك؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي، والأمر، والمضارع والمصدر واسم الفاعل، واسم المفعول، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ، والآخر ليس كذلك، أو أكثر استعمالاً من الآخر، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف.
فالأول: ك «يَئِسَ وأيِسَ» .
والثاني: ك «طَأمَن واطمَأنَّ» .
والثالث: ك «شوائع وشواعي» .
والرابع: ك «لعمري، ورعملي» .
قرأ العامة: «الموءودة» بهمزة بين واوين ساكنتين كالموعودة.
وقرأ البزي في رواية بهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة. وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون كقراءة الجماعة، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو» قبلها، وحذفت الهمزة فصار اللفظ: «الموودة» بواو مضمومة، ثم أخرى ساكنة، فقلبت «الواو» المضمومة همزة، نحو «أجُوهٍ» في «وُجُوه» فصار اللفظ كما ترى، ووزنها الآن «مَفْعُولة» ؛ لأن المحذوف «عين» .
والثاني: أن تكون الجملة اسم مفعول من «آدَهُ يئوده» مثل «قَادَه يَقُودُه» ، والأصل: «مأوودة» ، مثل: «مقوودة» ، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو: «مَقُول، ومَصُون» ، فوزنها الآن إما «مَفعلة» ، إن قلنا: إنَّ المحذوف الواو الزائدة، وإمَّا «مَفولة» إن قلنا: إن المحذوف عين الكلمة، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف. وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها، ولم يقلب الواو همزة.(20/181)
وقرأ الأعمش: «المودة» ، [بسكون الواو] ، وتوجيهه: أنه حذف الهمزة اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحذف ثانيهما، ووزنها «المُفْلَة» : لأن الهمزة عين الكلمة، وقد حذفت.
وقال مكي: بل هو تخفيف قياسي، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة» إلى «الواو» لم يهمزها، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها، فالتقى ساكنان، فحذف الثاني.
وهذا كله خروج عن الظاهر.
وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة.
قالوا: لأجل الخط لأنها رسمت كذلك، والرسم سُنة متبعة.
والعامة على: «سُئِلَت» مبنياً للمفعول، مضموم السين.
والحسن: يكسرها من سال يسال.
وقرأ أبو جعفر: «قُتِّلتْ» - بتشديد التاء - على التكثير؛ لأن المراد اسم الجنس، فناسبه التكثير.
وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «سألَت» مبنياً للفاعل، «قُتِلتُ» بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم، حكاية لكلامها.
وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر: «سألتْ» مبنياً للفاعل، «قُتِلتْ» بتاء التأنيث الساكنة، كقراءة العامة.
فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم
كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين:
إحداهما: كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فألحقٌوا البنات به؛ تبارك وتعالى عن ذلك.
والثانية: مخافة الحاجة والإملاق، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ.
قال ابن عبَّاسٍ: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردَّت التراب عليها، وإن ولدتْ غلاماً حبسته، ومنه قول الراجز: [الرجز](20/182)
5121 - سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ ... والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ
وقيل: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جُبَّة من صوفٍ، أو شعرٍ، ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتُها ستة أشبار فيقول لأمّها: طيِّبيها، وزيَّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [وقد حفر لها بئراً الصحراء] ، فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد؛ فافتخر الفرزدق به في قوله: [المتقارب]
5122 - ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ ... وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ
فصل
رُوَيَ «أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: يا رسول الله: إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ «، قال: يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ «» .
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لِمَ ضُربتَ، وما ذنْبُكَ؟ .
قال الحسنُ: أراد الله توبيخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ.
وقال أبنُ أسلمُ: بأي ذنب ضربتْ، وكانوا يضربونها.
وقيل في قوله تعالى: {سُئِلَتْ} معناه: طُلبتْ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل، وهو كقوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} [الأحزاب: 15] أي: مطلوباً، فكأنها طلبت منهم، فقيل: أين أولادكم؟ .
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا، مُلطَّخاً بدمَائِهِ، فيقُولُ: يا ربِّ، هذهِ أمِّي، [وهذه] قَتلتْنِي» .(20/183)
والأول قول الجمهور، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين} [المائدة: 116] ، على جهة التوبيخ، والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة: توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب، أي: فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ.
قوله تعالى: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} .
قرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمرو: بالتثقيل، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع.
وقيل: لتكرير ذلك من الإنسان.
والباقون: بالتخفيف. ونافع وحفص وابن ذكوان «سُعِّرت» بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.
قوله: {نُشِرَتْ} ، أي: فتحت بعد أن كانت مطويَّة، والمراد: صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير أو شر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] .
قوله تعالى: {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} ، أي قُشرت، من قولهم: كشط جلد الشَّاة، أي: سلخها. وقرأ الله «قشطت» - بالقاف - وقد تقدم أنهما متعاقبان كثيراً، وأنه قرئ: وقافوراً [وكافوراً] في {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] . [يقال: لبكت الثريد ولبقته] .
قال القرطبي: «يقال: كشَطْتُ البعير كشْطاً، نزعت جلده، ولا يقال: سلخته، لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته» ، والمعنى: أزيلت عما فوقها.
قال الفراء: طويت.
قوله تعالى: {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ} ، أي: أوقدت، فأضرمت للكفَّار، وزيد في إحمائها يقال: سعرتُ النَّار وأسْعرتُهَا.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أوقِدَ على النَّارِ ألْفَ سنةٍ حَتَّى اسْودَّتْ فهيَ مُظْلمةٌ» .(20/184)
احتج بهذه الآية من قال: إن النار مخلوقة الآن؛ لأنه يدل على أنَّ سعيرها معلَّق بيوم القيامة.
قوله تعالى: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} ، أي: أدنيت وقرِّبتْ من المتَّقِينَ.
قال الحسنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها.
وقال عبد الله بن زيد] : زُيِّنت، والزُّلْفَى في كلام العرب: القُربَة.
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} ، هذا جواب «إذا» أوَّل السُّورة وما عطف عليها، والمعنى: ما عملتْ من خيرٍ وشرٍّ. وروي عن ابن عباس وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهما قرآها، فلما بلغا «علمت نفس ما أحضرت» قالا: لهذا أجريتِ القصَّةُ.
قال ابن الخطيب: ومعلوم أنَّ العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد: إذا ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، أو المراد: ما أحضرت من استحقاق الجنَّة والنَّار، فإنَّ كلَّ نفس تعلم ما أحضرت، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] .
والتنكير في قوله: «نَفْسٌ» من عكس كلامهم الذي يقصدون به المبالغة، وإن كان اللفظ موضوعاً للتقليل، لقوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} [الحجر: 2] ، أو يكون المراد: أنَّ الكفار كانوا يتعبُون أنفسهم بما يظنونه طاعة، ثم يظهر لهم في القيامة خلاف ذلك.(20/185)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} ، أي: «أقسم» ، و «لا» زائدة كما تقدم.
«والخُنَّسُ» : جمع خانسٍ، والخُنوسُ: الانقباضُ، يقال: خنس بين القوم، وانْخنسَ.
وفي الحديث: «فانْخَنَسْتُ» ، أي: استخفيت. يقال: خَنَسَ عنه يَخْنسُ - بالضم - خُنُوساً.(20/185)
والخنسُ: تأخر الأنف عن الشَّفة مع ارتفاع الأرنبة قليلاً.
ويقال: رجلٌ أخنسُ، وامرأةٌ خنساءُ، ومنه: الخنساءُ الشاعرةُ.
والخُنَّسُ في القرآن، قيل: الكواكب السبعة السَّيارة القمران، وزحل، والمشتري والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تختفي نهاراً.
وعن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي زُحَل، والمشتري، والمريخ، والزهرة وعطارد.
وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان:
أحدهما: لأنَّها تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني.
الثاني: تقطع المجرة، قاله ابن عباس.
وقيل: خُنُوسُهَا: رجوعها، وكُنُوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.
قال ابن الخطيب: الأظهرُ أنَّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها.
وقال الحسن وقتادة: هي النجوم كلها؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها، أي: تتأخر عن البصر لخفائها، وتكنس أي: تستتر، تكنس في وقت غروبها , أي: تتأخر عن البصر لخفائها , وتكنس أي: تستتر , كما تكنس الظِّباء في المغارة , وهي الكناس، والكنس: الداخلة في الكناس، وهي بيت الوحش، والجواري: جمع جارية.
وعن ابن مسعود: هي بقر الوحش؛ لأن هذه صفتها.
وروي عن عكرمة قال: الخُنَّسُ: البقر، والكُنسُ: هي الظباء، فهي خنسٌ إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ.(20/186)
قال القرطبيُّ: «والخُنَّسُ» على هذا: من الخنس في الأنف، وهو تأخير الأرنبة، وقصر القصبة، وأنوف البقر والظِّباء خنس، والقول الأول أظهر لذكر الليل والصبح بعده.
وحكي الماورديُّ: أنها الملائكة، والكُنَّسُ: الغيبُ، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه، والكُنَّسُ: جمع كانس وكانسة.
قوله تعالى: {والليل إِذَا عَسْعَسَ} . يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَع، أي: أقبل.
قال العجاج: [الرجز]
5123 - حَتَّى إذَا الصُّبْحُ لهَا تَنفَّسَا ... وانْجَابَ عَنْهَا ليْلُهَا وعِسْعَسَا
أي: أدبر.
قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى «عسعس» : أدبر حكاه الجوهري.
وقيل: دَنَا من أوله وأظلم، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض.
وقيل: «أدْبَر» من لغة قريش خاصَّة.
وقيل: أقبل ظلامُه، ورجحه مقابلته بقوله تعالى {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} ، وهذا قريبٌ من إدباره.
وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك.
قال الخليل وغيره: عسعس الليل: إذا أقبل، أو أدبر.
قال المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحدٍ، وهو ابتداء الظلام في وله، وإدباره في آخره.
قال الماورديُّ: وأصل العسِّ: الامتلاء.
ومنه قيل للقدح الكبير: عُسٌّ، لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره، وهو قوله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} لا يكون فيه تكرار.
وعَسْعَس: اسم موضع البادية، وأيضاً: هو اسم رجل.
ويقال للذئب: العَسْعَسُ والعَسْعَاس؛ لأنه يعسُّ في الليل ويطلب.(20/187)
ويقال للقنافذ: العَساعِس، لكثرة ترددها بالليل، والتَّعَسْعُس: الشم والتَّعَسْعُس - أيضاً -: طلب الصيد.
قوله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} ، أي امتد حتى يصير نهاراً واضحاً.
يقال للنهار إذا زاد: تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف.
وفي كيفية المجاز قولان:
الأول: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح.
الثاني: أنه شبَّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحة، فهاهنا لما طلع الصبح، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.
وقيل: {إِذَا تَنَفَّسَ} أي إذا انشق وانفلق، ومنه تنَفَّسَتِ القوسُ: أي: تصدعت. [وهذا آخر القسم] .
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} . قال الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ: الرسول الكريم: جبريل.
والمعنى: إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ من الله كريمٍ على الله، وأضاف الكلام إلى جبريل، ثم عزاه عنه فقال: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الواقعة: 80] ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى.
وقيل: هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمن جعله جبريل، فقوته ظاهرة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادمِ جناحه.
وقوله تعالى: {عِندَ ذِي العرش} أي: عند الله سبحانه وتعالى.
«مكين» أي: ذي منزلةٍ ومكانةٍ.
وروى أبو صالح قال: يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.
وقيل: المراد: القوة في أداء طاعة الله تعالى، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.
وقوله تعالى: {عِندَ ذِي العرش} هذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الإشراف، والتكريم، والتعظيم.(20/188)
وقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» ، وقوله سبحانه: {مَكِينٍ} : قال الكسائي: يقال: مكنَ فلانٌ عند فلانٍ - بضم الكاف - تمكُّناً ومكانة، فعلى هذا هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
قوله تعالى: {مُّطَاعٍ ثَمَّ} ؛ أي: في السموات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: من طاعة الملائكة جبريل - عليه السلام - أنَّه لمَّا أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال جبريلُ لرضوان خازن الجنانِ: افتحْ له ففتحَ، فدخلها، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار: افتح له ففتح، فدخلها، ورأى ما فيها.
وقوله تعالى: {أَمِينٍ} ، أي: مؤتمن على الوحي الذي يجيء به.
ومن قال: إن المراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «ذِ قوةٍ» على تبليغ الوحي «مطاع» أي: يطيعه من أطاع الله عَزَّ وَجَلَّ.
{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} حتى يتَّهم في قوله، وهو من جواب القسم والضمير في قوله: «إنَّهُ» يعود إلى القرآن الذي نزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يعود إلى الذي أخبركم به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظنَّ، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من الله تعالى.
فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد
قال ابنُ الخطيب: احتج بهذه الآية من فضل جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إذا وازنت بين قوله سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، وبين قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ظهر التفاوت العظيم.
قوله: «عند ذي» : يجوز أن يكون نعتاً ل «رسولٍ» ، وأن يكون حالاً من «مكينٍ» ، وأصله الوصف، فلما قدم نصب حالاً.
قوله: {ثَمَّ أَمِينٍ} . العامة: على فتح الثَّاء؛ لأنه ظرف مكان للبعد، والعامل فيه «مطاعٍ» .
وأبو البرهسم، وأبو جعفر وأبو حيوة: بضمها، جعلوها عاطفة، والتراخي هنا في الرتبة؛ لأن الثانية أعظم من الأولى.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} ، أي: لقد رأى جبريل في صورته في ستمائة(20/189)
جناح {بالأفق المبين} أي: حيث تطلع الشمس من قبل المشرق.
وقيل: «بالأفق المبين» ؛ أقطار السماء ونواحيها.
قال الماورديُّ: فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه رآه في الأفق الشرقيِّ. قاله سفيان.
الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة.
الثالث: أنه رآه نحو «أجياد» ، وهو مشرق «مكة» ، قاله مجاهد.
وقيل: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ربه - عَزَّ وَجَلَّ - بالأفق المبينِ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة «والنجم» .
وفي «المُبينِ» قولان:
أحدهما: أنه صفة للأفق، قاله الربيع.
الثاني: أنَّه صفة لمن رآه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} .
قرأ ابن كثير، وأبو عمر، والكسائي: بالظاء، بمعنى متهم من ظن بمعنى: اتهم، فيتعدى لواحدٍ.
وقيل: معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم: «بئر ظنُون» أي: قليلة الماء، والظِّنَّة التهمة، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله كذلك.
والباقون: بالضاد، بمعنى: بخيل بما يأتيه من قبل ربِّه، من ضننت بالشيء أضنُّ ضنًّا، يعني: لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً، إلا أنَّ الطبري قال: بالضاد خطوط المصاحف كلها.
وليس كذلك لما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ بها، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافاً لمن يقول: إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته، وقد شنَّع الزمخشريُّ على من يقول ذلك، وذكر بعض المخارج، وبعض الصفات بما يطول ذكره.(20/190)
و {عَلَى الغيب} متعلق ب «ظنين» ، أو «ضَنِيْنٍ» .
و «الغيب» : القرآن، وخبر السماء هذا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: صفة جبريل عليه السلام.
قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} ، أي: مَرْجُومٍ، والضمير في «هو» للقرآن، قالت قريش: إنَّ هذا القرآن يجيء به شيطان، فيلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك، يريدون بالشيطان: الأبيض الذي كان يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورة جبريل يريد أن يفتنه.
فصل في الكلام على الآية
قال ابنُ الخطيب: إن قيل: إنَّه حلف على أن القرآن قول جبريل - عليه السلام - فوجب علينا أن نصدقه، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر، فلا أقلَّ من الاحتمال، وإن كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتملُ أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزاً، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم؛ لأنَّ عصمته متفرعة على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كون القرآن معجزاً، وكون القرآن معجزاً متفرع على عصمة جبريل، فيلزم دور.
فالجواب: أنَّ الإعجاز ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلاَّ الله تعالى، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
ثم قال في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} : فإن قيل: القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي؟ .
قلنا: قد بينَّا أنَّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.(20/191)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
قوله تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} «أيْنَ» : منصوب ب «تذهبون» ؛ لأنه ظرف مبهم.
وقال أبو البقاء: أي: إلى أين؟ فحذف حرف الجرِّ، كقولك: ذهبت «الشام» ، ويجوز أن يحمل على المعنى، كأنه قال: أين تؤمنون، يعني: أنه على الحذف، أو على التضمين، وإليه نحا مكيٌّ أيضاً.(20/191)
ولا حاجة إلى ذلك ألبتَّة لأنه ظرف مبهم لا مختص.
فصل في تفسير الآية
قال قتادةُ: فإلى أين تعدلون عن هذا القول، وعن طاعته.
وقال الزجاج: فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنت لكم.
ويقال: أين تذهب وإلى أين تذهب.
وحكى الفراء عن العرب: ذهبت «الشام» ، وخرجت «العراق» ، وانطلقت السوق، أي: إليها؛ وأنشد لبعض بني عقيل: [الوافر]
5124 - تَصِيحُ بِنَا حنيفةُ إذْ رَأتْنَا ... وأيُّ الأرضِ تَذْهَبُ لِلصِّياحِ
يريد: إلى أيِّ أرض تذهب، فحذف «إلى» .
قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} ، يعني: القرآن ذكر للعالمين، أي: موعظة، وزجر. و «إن» بمعنى: «ما» .
وقيل: ما محمد إلا ذكر.
قوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ} بدل من «للعالمين» بإعادة العامل، وعلى هذا فقوله: {أَن يَسْتَقِيمَ} : مفعول «شاء» أي: لمن شاء الاستقامة، ويجوز أن يكون «لمن شاء» خبراً مقدماً، ومفعول شاء محذوف، وأن يستقيم مبتدأ، وتقدم نظيره والمعنى: لمن شاء منكم أن يستقيم.
قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية، فنزلت: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شرًّا إلا بخذلانه.
قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} ، أي: إلا وقت مشيئة الله تعالى.
وقال مكيٌّ: «أن» في موضع خفض بإضمار «الباء» ، أو في موضع نصب بحذف الخافض.
يعني: أن الأصل «إلا بأن» ، وحينئذ تكون للمصاحبة.
فصل في تفسير الآية
قال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله تعالى لها.(20/192)
وقال وهب بن منبه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قرأت في تسعة وثمانين كتاباً مما أنزل الله - تعالى - على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئاً فقد كفر، وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] .
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [يونس: 100] .
وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] ، والآيُ في هذا كثيرة وكذلك الأخبار وأن الله - تعالى - هدى بالإسلام، وأضلَّ بالكفر.
قال ابنُ الخطيب: وهذا عين مذهبنا؛ لأن الأفعال موقوفة على مشيئتنا، ومشيئتنا موقوفة على مشيئة الله، والموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتاً ونفياً موقوفة على مشيئة الله تعالى، وحمل المعتزلة ذلك على أنها مخصوصة بمشيئة الإلجاء والقهر، وذلك ضعيف؛ لأن المشيئة الاختيارية حادثة، فلا بد من محذوف، فيعود الكلام. والله تعالى أعلم.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} ، أعاذهُ الله أنْ يَفضحَهُ حِينَ تُنشرُ صَحِيفَتُهُ» والله أعلم بالصواب.(20/193)
سورة الانفطار(20/194)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
مكية، وهي تسع عشرة آية، وكلماتها ثمانون كلمة، وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} ، معناه: إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة يحصل الحشر والنشر، ومعنى «انْفطَرتْ» : انشقت لنزول الملائكة، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] ، {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} [الرحمن: 37] {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ: 19] ، {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] .
قال الخليل: ولم يأت هذا على الفعل بل هو كقولهم: مُرضِع، وحَائض، ولو كان على الفعل لكان «منفطر» .
وقال القرطبيُّ: «تفطرت لهيبة الله تعالى: والفطرُ: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير إذا طلع، فهو بعير فاطر، وتفطَّر الشيء. تشقَّق، وسيف فطار، أي فيه شقوق» . وقد تقدم.
قوله تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت} تساقطت؛ لأن عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض، يقال: نثرتُ الشيء أنثرهُ نثراً فانتثر. والنُّثار - بالضم - ما تناثر من الشيء.
قوله تعالى: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} .
العامة على بنائه للمفعول مثقلاً.
وقرأ مجاهد: مبنياً للفاعل مخففاً من الفجور، نظراً إلى قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] ، فلما زال البرزخ بغياً.(20/194)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
وقرأ مجاهد - أيضاً - والربيع بن خيثم، والزعفراني، والثوري: مبنياً مخففاً.
ومعنى «فُجِّرت» أي: دخل بعضها في بعض، واختلط العذبُ بالملحِ، فصار واحداً بارتفاع الحاجز الذي جعله الله تعالى برزخاً بينهما.
وقيل: إنَّ مياه البحار الآن راكدة مجتمعة، فإذا انفجرت تفرقت، وذهب ماؤها.
وقال الحسن: فجرت: يبست.
قوله تعالى: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} . أي: قلبت: يقال: بَعْثَره وبَحْثَره - بالعين والحاء - قال الزمخشري: وهما مركبان من العبث والبحث، مضموم إليهما راء، يعني أنهما مما اتفق معناهما؛ لأن الراء مزيدة فيهما، إذ ليست من حروف الزيادة وهذا ك «دَمَثَ» و «دَمْثَرَ» و «بَسَطَ» و «بَسْطَرَ» .
فصل في المراد ببعثرة القبور
والمعنى: قلب أعلاها وأسفلها، وقلب ظاهرها وباطنها وخرج ما فيها من الموتى أحياء.
وقيل: التبعثر: إخراج ما في باطنها من الذهب والفضة ثم يخرج الموتى بعد ذلك.
وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} : جواب «إذا» ، والمعنى: ما قدمت من عمل صالح، أو شيء، أو أخرت من سيئة أو حسنة. وقيل: ما قدمت من الصدقات وأخرت من التركات على ما تقدم في قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] .
والمقصود منه الزجر عن المعصية، والترغيب في الطاعة.
فإن قيل: أيُّ وقت من القيامة يحصل هذا العلم؟ .
قال ابنُ الخطيب: أمَّا العلم الإجمالي، فيحصل في أول زمان الحشر؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة في أول الأمر والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر، وأمَّا العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند قراءة الكتب، والمحاسبة.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} أي: المتجاوز.
والعامة: على «غرَّك» ثلاثياً، و «ما» الاستفهامية: في محل رفع على الابتداء.(20/195)
وقرأ ابن جبير، والأعمش: «ما أغَرَّكَ» ، فاحتمل أن تكون استفهامية، وأن تكون تعجبية، ومعنى «أغرّه» : أدخله في الغرَّة، أو جعله غارًّا.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه، أو على وقوعه، وذلك من وجهين
الأول: أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم؟ .
الثاني: أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية، ثم سوَّاها، وعدلها، إمَّا أن يقال: إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ، وذلك عبث، وهو على الله تعالى محال؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث، أو خلقها لحكمةٍ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى، وذلك باطل؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا، فذلك باطل؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق، والتسوية، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم.
فصل في نزول الآية
هذا [خطاب] لمنكري البعث.
روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في الأشرم بن شريقٍ، وذلك أنَّه ضرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يعاقبه الله تعالى، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل: يتناول جميع العصاة؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى «ما غرَّك» : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات، وأثنيت بالمحرمات.
والمعنى: ما الذي أمَّنك من عقابه، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر، فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر، وإنكار الحشر والنشر.(20/196)
فإن قيل: كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه؛ لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع، وعصيان المذنب، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه دعا غلامه مرات، فلم يجبه، فنظر فإذ هو بالباب، فقال له: لم لا تجبني؟ فقال: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب، ولا دار إلا هذه الدار، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر، والنشر، فإنَّ ربك كريم، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة، وتأخيراً للجزاء، وذلك لا يقتضي الاغترار.
الثاني: أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار، وترك الجزاء والاغترار.
الثالث: أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة، والاستحياء من الاغترار.
الرابع: قال بعضهم: إنما قال: «بربِّكَ الكَريمِ» ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول: غوني كرمُك، فلولا كرمك لما فعلت؛ لأنك لو رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت.
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} ليس هو «الكافر» .
فصل في غرور ابن آدم
قال قتادةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل: غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة.
وقال السديُّ: غرَّه عفو الله.
وقال ابن مسعودٍ: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول تعالى: ما(20/197)
غرَّك يا ابن آدم، ماذا غرَّك يا ابن آدم، ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ .
قوله: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} ، يحتمل الإتباع على البدل والبيان، والنعت، والقطع إلى الرفع والنصب.
واعلم أنه - تعالى - لما وصف نفسه بالكرم، ذكر هذه الأمور الثلاثة، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم، فقوله تعالى: {الذي خَلَقَكَ} لا شكَّ أنَّه كرمٌ؛ لأنه وجود، والوجود، خير من العدم، والحياة خير من الموت، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] ، وقوله تعالى: «فسوّاك» أي: جعلك سوياً سالم الأعضاءِ، ونظيره قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37] ، أي: معتدل الخلق والأعضاء.
قال ذو النون: أي: سخَّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر، وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً.
قوله: «فعدَلَكَ» . قرأ الكوفيون: «عَدلَكَ» مخففاً، والباقون: مثقَّلاً.
فالتثقيل بمعنى: جعلك مناسب الأطراف، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع، فهو من التعديل، وهو كقوله تعالى: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] .
قال علماء التشريح: إنَّه - تعالى - ركَّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه، لا في العظام، ولا في أشكالها، ولا في الأوردة والشرايين، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: جعلك قائماً معتدلاً، حسن الصُّورةِ، ولا كالبهيمة المنحنية.
وقال أبو عليٍّ الفارسي: «عَدلَكَ» خلقك، فأخرجك في أحسن تقويم، مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم.
وأمَّا قراءة التخفيف فيحتمل هذا، أي: عدل بعض أعضائك ببعض، ويحتمل أن يكون من المعدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال والأشباه، وهذا قول الفراء.(20/198)
ثم قال: والتشديد أحسن الوجهين؛ لأنك تقول: عدلتك إلى كذا، أي: صرفتك إلى كذا وكذا، ولا يحسن: عدلتك فيه، ولا صرفتك فيه.
وفي القراءة الأولى: جعل «في» من قوله: «فِي أيِّ صُورةٍ» للتركيب، وهو حسنٌ.
وفي قراءة الثانية جعل «في» صلة لقوله: «فعدلك» ، وهو ضعيف.
ونقل القفَّال عن بعضهم: أنَّهما لغتان بمعنى واحد.
قوله: «في أيِّ صُورةٍ» ، يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «ركبك» ، و «ما» : مزيدة على هذا، و «شاء» صفة ل «صورة» ، ولم يعطف «ركَّبَك» على ما قبله بالفاء، كما عطف ما قبله بها، لأنه بيان لقوله: «فَعَدَلَكَ» ، والتقدير: فعدلك ركبك في أيِّ صورةٍ من الصور العجيبة الحسنة التي شاءها - سبحانه وتعالى - والمعنى: وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح وطول، وقصر، وذكورة، وأنوثة.
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور.
الثالث: أنه يتعلق بعد ذلك ب «عَدلَكَ» نقله أبو حيان عن بعض المتأولين، ولم يعترض عليه، وهو معترض بأن في «أيِّ» معنى الاستفهام، فلها صدر الكلام، فكيف يعمل فيها ما تقدمها؟ .
وكأن الزمخشري استشعر هذا فقال: ويكون في «أيِّ» معنى التعجب، أي: فعَدلَكَ في أي صورة عجيبة، وهذا لا يحسن أن يكون مجوِّزاً لتقدُّم العامل على اسم الاستفهام، وإن دخله معنى التعجب، ألا ترى أن «كيف، وأي» ، وإن دخلهما معنى التعجب، لا يتقدم عاملهما عليهما.
وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قصد به الاستئناف، هل يجوز تقديم عامله أم لا؟ .
والصحيح أنَّه لا يجوز، ولذلك لا يجوز أن يتقدَّم عامل «كم» الخبرية عليها لشبهها في اللفظ بالاستفهامية، فهذا أولى، وعلى تعلقها ب «عدلك» ، تكون «ما» منصوبة على المصدر.
قال أبو البقاء: يجوز أن تكون «ما» زائدة، وأن تكون شرطية، وعلى الأمرين الجملة نعت ل «صورة» ، والعائد محذوف، أي: ركبك عليها، و «في» : تتعلق ب «ركَّبك» .(20/199)
وقيل: لا موضع للجملة؛ لأن «في» تتعلقُ بأحد الفعلين والجميع كلام واحد، وإنما يتقدم الاستفهام على ما هو حقه. قوله: بأحد الفعلين، يعني: «شاء وركبك» ، فيحصل في «ما» ثلاثة أوجه، الزيادة، وكونها شرطية، وحينئذ جوابها محذوف، والنصب على المصدرية، أي: واقعة موقع مصدر.(20/200)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} .
العامة: على «تكذبون» خطاباً، والحسنُ وأبو جعفر وشيبة: بياء الغيبة.
قال ابن الخطيب: لما بين بالدلائل العقلية صحة القول بالبعث، والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك، وهي أنواع:
الأول: أنه - تعالى - زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله «كلا» ، و «بل» : حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدَّم تحقيق غيره، فلا جرم ذكروا في تفسير «كلاًّ» وجوهاً:
الأول: قال القاضي: معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم، وإرشادي لكم، بل تكذبون بيوم الدين.
الثاني: «كَلاَّ» ردعٌ، أي: ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله تعالى، كأنه قال: وإنهم لا يرتعدون عن ذلك، بل يكذِّبون بالدين.
الثالث: قال القفال: أي: ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث، ولا نشور؛ لأن ذلك يوجب أن الله - تعالى - خلق الخلق عبثاً وحاشاه من ذلك، ثم كأنه قال: إنهم لا ينتفعون بهذا البيان، بل يكذبون بالدين.
وقل الفراء: ليس كما غررت به، والمراد بالدين: الجزاء على الدين والإسلام.
وقيل: المراد من الدين: الحساب، أي: تكذِّبون بيوم الحساب.
النوع الثاني: قوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} : يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «تكذِّبون» ، والحالة هذه، ويجوز أن تكون مستأنفة أخبرهم بذلك لينزجروا والمراد بالحافظين: الرُّقباءُ من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم.
«كراماً» على الله «كاتبين» يكتبون أقوالكم وأعمالكم.
قال ابنُ الخطيب: والمعنى: التعجب من حالهم، كأنَّه - تعالى - قال: إنكم(20/200)
تكذِّبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء، وملائكة الله - تعالى - موكَّلون بكم، يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة، ونظيره: قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18] وقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] .
فصل في الرد على من طعن في حضور الكرام الكاتبين
قال ابن الخطيب: من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه:
الأول: لو كان الحفظة، وصحفهم وأقلامهم معنا، ونحن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال، وأشخاص لا نراهم، وذلك دخول في الجهالات.
والثاني: هذه الكتابة، والضبط إن كان لا لفائدةٍ فهو عبثٌ، وهو غير جائزٍ على الله تعالى، وإن كان لفائدةٍ، فلا بد وأن تكون للعبد؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - متعالٍ عن النفع والضر، وعن تطرق النسيان إليه، وغاية ذلك أنَّه حُجَّة على الناس وتشديد عليهم لإقامة الحُجَّة، ولكن هذا ضعيف؛ لأنَّ من علم أنَّ الله تعالى لا يجور، ولا يظلم، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة، والذي لا يعلم لا ينتفع بهذه الحجة، لاحتمال أنَّه تعالى أمرهم بذلك ظلماً.
الثالث: أنَّ أفعال القلوب غير مرئية، فهي من باب المغيبات، والله - تعالى - مختص بعلم الغيب، فلا تكتبوها، والآية تقتضي ذلك.
والجواب عن الأول: أنَّ البنية عندنا ليست شرطاً في قبول الحياة؛ ولأن عند سلامة الأعضاء، وحصول جميع الشرائط لا يجب الإدراك، فيجوز على الأوَّل: أن يكونوا أجراماً لطيفة، تتمزق، وتبقى حياتها ذلك، وعلى الثاني: يجوز أن يكونوا أجراماً كثيفة، ونحن لا نراهم.
وعن الثاني: أن الله - تعالى - أجرى أموره على عباده على ما يتعارفونه في الدنيا فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم في إخراج كتاب، وشهود في إلزام الحجة، كما يشهد العدول عند الحاكم على القضاة.
وعن الثالث: أن ذلك مخصوص بأفعال الجوارح، فهو عام مخصوص، وفي مدح الحفظة، ووصفهم بهذه الصفات تعظيم لأمر الجزاء، وأنَّه من جلائل الأمور.
فصل في عموم الخطاب
هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلاَّ أنَّ الأمَّة أجمعت على عموم هذا الحكم في حقِّ المكلَّفين.
وقوله تعالى: {لَحَافِظِينَ} : جمع يحتملُ أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم، من غير أن(20/201)
يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكَّل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة، كما قيل: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، أو كما قيل: إنهم خمسة.
فصل في أن الكفَّار، هل عليهم حفظة؟ .
اختلفوا في الكفَّار هل عليهم حفظة؟ .
فقيل: لا؛ لأن أمرهم ظاهر وعلمهم واحد، قال تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] .
وقيل: بل عليهم حفظة لقوله تعالى: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} ، وأمَّا من أوتي كتابه بشماله، ومن أوتي كتابه وراء ظهره، فأخبر أنَّ لهم كتاباً وعليهم حفظة.
فإن قيل: أي شيء يكتب الذي عن يمينه، ولا حسنة له؟ .
فالجواب: أنَّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه، ويكون صاحبه شاهداً على ذلك، وإن لم يكتب.
فصل في معرفة الملائكة هَمَّ الإنسان
سُئِلَ سفيان: كيف تعرف الملائكة أنَّ العبد همَّ بمعصية، أو بحسنة؟ قال: إذا همَّ العبد بحسنة وجد منه ريح المسك، وإن همَّ بسيئة وجد منه ريح منتن.
فصل في أن الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم
دلت هذه الآية على أنَّ الشاهد لا يشهد إلاَّ بعد العلم، لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون، فدلَّ على أنهم يكونون عالمين بها حتى أنَّهم يكتبونها، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة.
قال الحسن: لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم.
وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم.(20/202)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} .
الأبرار: الذين بروا، وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى، واجتناب معاصيه.(20/202)
فصل في ذكر أحوال العالمين
لما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد، ذكر أحوال العالمين، وقسمهم قسمين، فقال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} وهو نعيم الجنَّة، {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} وهو النَّار، وهذا تهديد عظيم للعُصاةِ، وهذا التقسيم كقوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] .
قوله: {يَصْلَوْنَهَا} : يجوز فيه أن يكون حالاً من الضمير في الجار، لوقوعه خبراً، وأن يكون مستأنفاً.
وقرأ العامة: «يَصْلونهَا» مخففاً مبنياً للفاعل وتقدم مثله.
ومعنى {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين} يدخلونها يوم القيامة.
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أي: ليسُوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم، ثم عظَّم ذلك اليوم فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} ثم كرره تعجيباً لشأنه، فقال: {ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} .
وقال ابن عباس: كلُّ ما في القرآن من قوله: «وما أدراك» فقد أدراه، وكل شيء من قوله: «وما يدريك» فقد طوي عنه.
قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: برفع «يومُ» على أنَّه خبر مبتدأ مضمر أي: هو يوم.
وجوز الزمخشريُّ: أن يكون بدلاً مما قبله يعني قوله: «يوم الدَِّين» .
وقرأ أبو عمرو في رواية: «يومٌ» : مرفوعاً منوناً على قطعه عن الإضافة، وجعل الجملة نعتاً له، والعائد محذوف، أي: لا تملك فيه.
وقرأ الباقون: «يوم» بالفتح.
فقيل: هي فتحة إعراب، ونصبه بإضمار أعني، أو يتجاوزون، أو بإضمار اذكر، فيكون مفعولاً به، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر، وإنَّما بني لإضافته للفعل وإن كان معرباً، كقوله تعالى: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] .
قال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح؛ لإضافته إلى قوله تعالى: {لاَ تَمْلِكُ} ، وما أضيف إلى غير المتمكن، فقد يبنى على الفتح، وإن كان في موضع رفع، أو جرٍّ كما قال: [المنسرح](20/203)
5125 - لَمْ يَمْنَعِ الشُّربَ غير أن نَطقتْ ... حَمامَةٌ ... ..... ... . ... ... .....
قال الواحدي: والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح، إنَّما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي؛ نحو قوله: [الطويل]
5126 - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ ... ....... ... ... ... ... ... ... ... ... .
البيت: أمَّا مع الفعل المستقبل، فلا يجوز البناء عندهم، ويجوز البناء في قول الكوفيين.
قال ابن الخطيب: وذكر أبو عليٍّ أنَّه منصوبٌ على الظرفية؛ لأن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفاً، فنزل على حالة الأكثرية، والدليلُ عليه إجماع القراء في قوله تعالى: {مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} [الأعراف: 168] ، ولا يدفع ذلك أحد، ومما يقوِّي النصب قوله تعالى:
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة يَوْمَ يَكُونُ الناس} [القارعة: 3، 4] ، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 12، 13] ، فالنصب في «يَوْمَ لا تَمْلِكُ» مثل هذا.
فصل فيمن استدل بالآية على نفي الشفاعة عن العصاة.
تمسَّكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة للعصاة، وهو قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] وقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.
قال مقاتلٌ: يعني النفس الكافرة شيئاً من المنفعة.
{والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي: لم يملِّك الله - تعالى - في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا.
ورى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {إِذَا السمآء انفطرت} أعْطَاهُ الله مِنَ الأجْرِ بعدَدِ كُلِّ قَبْرٍ حَسَنةً، وبِعددِ كُلِّ قَطْرة مَاءٍ حَسنةً، وأصْلحَ اللهُ تعالى لَهُ شَأنهُ» ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.(20/204)
سورة المطففين
مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.
قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت ب " المدينة ".
وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات، وهي من قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} [المطففين: 29] إلى آخرها مكي.
وقال الكلبي: وجابر بن زيد: نزلت بين " مكة " و" المدينة "(20/205)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
وقال ابن مسعود والضحاك: مكية. وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسعة وستون كلمة، وسبعمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .
«ويلٌ» : ابتداء، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز.
وقال مكيٌّ: والمختار في «وَيْل» وشبهه إذا كان غير مضاف الرَّفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً، أو معرفاً كان الاختيار فيه النَّصب نحو: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ} [طه: 61] ، و «للمُطففِينَ» خبره.
والمُطفِّف: المُنْقِص، وحقيقته: الأخذُ في كيل أو وزنٍ شيئاً طفيفاً، أي: نزراً حقيراً، ومنه قولهم: دُون التَّطفيف، أي: الشيء التافه لقلته.(20/205)
قال الزجاجُ: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفِّف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلاَّ الشيء اليسير الطفيف.
فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها
قال ابن الخطيب: اتصال أوَّل هذه السورة بالمتقدمة أنَّه تعالى بيَّن في آخر تلك السورة أنَّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذٍ لله، وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} والمراد منه الزجر على التطفيف، وهو البَخْس في المكيال والميزان على سبيل الخفية.
واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال: ويل لك، وويل عليك، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان:
الأول: قول الزجاج المتقدم.
والثاني: أنَّ طف الشيء، هو جانبه وحرفه يقال: طفَّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه، ولم يمتلئ، فهو طفافه وطففه، يقال: هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه، لكنه بعدُ لم يمتلئ، ولهذا قيل للذي «ينقص» الكيل ولا يوفيه مطفف. لأنه إنما يبلغ الطفاف.
فصل في نزول الآية
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» المدينة «، كانوا من أبْخَس النَّاس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ، فاجتنبوا الكيل، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقرأها عليهم، وقال:» خَمْسٌ بِخمْسٍ، ما نقص قومٌ العَهْدَ إلاَّ سلَّط اللهُ عليهم عدُوَّهُم، ولا حكمُوا بغيرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيِهمُ الفقرُ، ولا ظَهَرَ فِيهمُ الفَاحِشَةُ إلاَّ ظَهَرَ فِيهمُ المَوْتُ، ولا طَفَّفُوا المِكْيَالَ إلاَّ مُنِعُوا النَّباتَ وأخذُوا بالسِّنينَ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلاَّ حُبِسَ عَنْهُم المَطرُ «» .
وقال السديُّ: قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «المدينة» ، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية.(20/206)
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه.
قوله: {عَلَى الناس} . فيه أوجه:
أحدها: أنَّه متعلق ب «اكتالوا» ، و «على» و «من» «يتعاقبان» هنا.
قال الفراء: يقال: اكتلتُ على النَّاسِ: اسْتوفَيْتُ مِنهُمْ، واكْتلتُ مِنهُمْ: أخذتُ مَا عَليْهِمْ.
وقيل: «على» بمعنى اكتل على ومنه بمعنى، والأول أوضح.
وقيل: «على» يتعلق ب «يستوفون» .
قال الزمخشري «لما كان اكتيالهم لا يضرهم، ويتحامل فيه عليهم أبدل» على «مكان» من «للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق ب» يستوفون «وقدَّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصَّة، فأمَّا أنفسهم فيستوفون لها. وهو حسن.
قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} . رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين، فمن ثم اختلف الناس في» هم «على وجهين.
أحدهما: هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به، ويعود على الناس، أي: وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين: لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه.
وهل كل منهما أصل بنفسه، أو أحدهما أصل للآخر؟ فيه خلاف، والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً، أو وزنوه لهم، فحذف الحرف والمفعول؛ وأنشد: [الطويل]
5127 - ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً ... ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ
أي: جنيت لك.
والثاني: أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو، والضمير عائد على» المطففين «، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له، والموزون والموزون له.
إلا أن الزمخشري رد هذا فقال:» ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً «(20/207)
للمطففين» ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس،، استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير «للمطففين» انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإن تولوا الكيل، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر «.
قال أبو حيان: ولا تنافر فيه بوجه، ولا رق بين أن يؤكد الضمير، وألاَّ يؤكد، والحديث واقع في الفعل، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء، وهو» على الناس «مذكور، وهو في» كالوهم أو وزنوهم «محذوف للعلم به؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم.
قال شهابُ الدين: الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين: إذا أخذوا من غيرهم، وإذا أعطوا غيرهم، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس، لا على كونه رفع عائداً على» المطففين «، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو؛ لأنه دال على اتصال الضمير.
إلاَّ أن الزمخشري استدرك فقال: «والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك:» هم لم يدعوا، وهو يدعو «، فمن لم يثبتها قال: المعنى كافٍ في التفرقة بينهما، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرين» للمطففين «، ويقفان عند الواوين وقيفة، يبينان بها ما أرادوا» . ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً، بل اقتصر على الكيل، فقال: «إذا اكتالوا» ، ولم يقل: إذا اتزنوا، كما قال ثانياً: «أوْ وزَنُوهُمْ» .
قال ابن الخطيب: لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء، فأحدهما يدل على الآخر.
وقال الزمخشري: «كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً» .
قوله: «يُخْسِرُونَ» جوابُ «إذا» ، وهو يتعدَّى بالهمزة، يقال: خسر الرجل وأخسرته(20/208)
أنا، فمفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. قال المؤرج: يخسرون أي ينقصون بلغة «قريش» .
فصل في تفسير الآية
قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن.
أي: إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، «وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ» أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، أي: للناس، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم، وتحاملٌ عليهم أقيمَ «على» مقام «من» للدلالة على ذلك.
وقال الكسائيُّ والفراءُ: حذف الجار وأوصل الفعل، وهذا من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم، يقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك أي: وزنت لك، وكلتُ لك، كما يقال: نصحتك، ونصحت لك، وكسيتك، وكسيت لك.
وقال الفراء: المراد اكتالوا من الناس، و «على» و «من» يتعاقبان؛ لأنه حق عليه فإذا فلت: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قلت: اكتلت منك فهو كقولك: استوفيت منك.
وقيل: على حذف مضاف، أي: إذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا لهم موزونهم.
قوله: {أَلا يَظُنُّ} : الظَّاهر أنَّها «ألا» التحضيضية، حضهم على ذلك، ويكون الظنُّ بمعنى: اليقين.
وقيل: هي «لا» النافية دخلت عليها همزة الاستفهام.
ومعنى الآية: ألا يستيقن أولئك الذي يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم، وهو يوم القيامة، وفي الظن هنا قولان:
أحدهما: أنَّ المراد به: العلمُ، وعلى هذا التقدير يحتملُ أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدِّقين بالبعث، ويحتمل ألاَّ يكونوا كذلك لتمكُّنهم من الاستدلال عليه بالفعل.
الثاني: أنَّ المراد بالظن هنا: هو الظن نفسه، لا العلم، ويكون المعنى: هؤلاء المطففون هَبْ أنهم لا يجزمون بالبعث، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلَّته، فإنَّ الأليق بحكمة الله - تعالى - ورحمته، ورعايته مصالح خلقه ألاَّ يهمل أمرهم بعد الموت، وأن يكون لهم نشر وحشر، وأن هذا الظَّن كافٍ في حصول الخوف.
قوله: {يَوْمَ} : يجوز نصبه ب «مبعوثون» .
قال الزمخشريُّ: أو ب «يبعثون» مقدراً، أو على البدل من محل اليوم، أو(20/209)
بإضمار «أعني» ، أو هو مرفوع المحل لإضافته لفعل وإن كان مضارعاً، كما هو رأيُ الكوفيين، ويدل على صحة هذين الوجهين، قراءة زيد بن عليٍّ: «يَوْمَ يقُومُ» بالرفع، وما حكاه أبو معاذ القارئ: «يومِ» بالجر على ما تقدَّم.
فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين
قيام الناس لرب العالمين إمَّا للحساب، وإمَّا قيامهم من القبور.
وقال أبُو مسلم: قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم، كقوله تعالى: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ، وفي الحديث: «إنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِقدارَ ثَلاثِمائةِ سَنَة لا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ» .
وعن ابن عباس: وهو في حقِّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة. وفي هذه الآيات مبالغات، منها أنَّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء، ومنها الإنكار بقوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} ، ومنها استعظامه - تعالى - لليومِ، ومنها تأكيده بما بعده، وما يوهم ذلك، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم، وفي هذا نكتة، وهي كأن قائلاً يقول: هذا التشديد العظيم، والوعيد البليغ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته، وزهادته، وكرم المولى وإحسانه؟ .
فأشار بقوله: {لِرَبِّ العالمين} إلى أنَّه مُربيهم ومسئول عن أمورهم، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئاً.
فصل في الكلام على لفظ «المطفف»
قال القشيري: لفظ المطفِّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وإخفائه؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والمباشرة والصحبة من هذه المادة، والذي يرى عيب الناس، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حقَّ نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يتطلبه.(20/210)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار} .(20/210)
«كَلاَّ» حرف ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فَليَرتَدِعُوا، وها هنا تم الكلام.
وقال الحسنُ: «كَلاَّ» : ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقًّا» إنَّ كتابَ الفجَّار الذي كتب فيه أعمالهم لفي سجين.
اختلفوا في نون «سِجِّين» .
فقيل: هي أصليَّة، واشتقاقه من السَّجن، وهو الحبسُ، وهو بناء مبالغة «فعيلاً» من السجن، ك «سِكِّير» و «فسِّيق» من السكر والفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج.
قال الواحدي: وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً.
وقيل: «النون» بدل من «اللام» ، والأصل: «سجيل» مشتقاً من السِّجل، وهو الكتاب.
واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسم موضع، أو اسم كتاب مخصوص؟ .
وقيل: هو صفة، أو علمٌ منقول من وصفٍ ك «خاتم» ، وهو مصروف إذ ليس فيه إلا سبب واحدٌ، وهو العلمية.
وإذا كان اسم مكان، فقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} إمَّا بدل منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، وهو ضمير يعود عليه.
وعلى التقديرين فهو مشكل؛ لأن الكتاب ليس هو المكان.
فقيل: التقدير، هو محل كتاب، ثم حذف المضاف.
وقيل: التقدير: وما أدراك ما كتاب سجين، والحذف إما من الأول وإمّا من الثاني.
وأما إذا قلنا: إنه اسم لكتاب فلا إشكال.
وقال ابن عطية: من قال: إن سجيناً موضع، فكتاب مرفوع على أنه خبر «إنَّ» ، والظرف الذي هو «لفي سجين» ملغى، ومن جعله عبارة عن الخسار، ف «كتاب» خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو انتهى.
وهذا لا يصح - ألبتة - إذ دخول اللام يعيّن كونه خبراً، فلا يكون ملغياً لا يقال: «اللام» تدخل على معمول الخبر، فهذا منه، فيكون ملغىً؛ لأنَّه لو فرض الخبر، وهو «كتاب» عاملاً أو صفته عاملة، وهو «مَرقُوم» لامتنع ذلك، أمّا منع عمل «كتاب» ، فلأنه موصوف، والمصدر الموصوف لا يعمل، وأمَّا امتناع عمل «مرقوم» ؛ فلأنه صفة، ومعمول الصفة لا يتقدم على موصوفها، وأيضاً: فاللام إنما تدخل على معمول الخبر بشرطه، وهذا ليس معمولاً للخبر، فتعيَّن أن يكون الجار هو الخبر، وليس بملغى.(20/211)
وأمَّا قوله ثانياً: ويكون هذا الكلام تفسيراً ل «سجين» ما هو فهو مشكل، لأن الكتاب ليس هو الخسار الذي جعل الضمير عائداً عليه مخبراً عنه ب «كتاب» .
وقال الزمخشري: فإن قلت: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجَّار بأنه في سجِّين، وفسَّر سجيناً ب «كتاب مرقوم» ، فكأنه قيل: إنَّ كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ .
قلت: سجين: كتاب جامع هو: ديوان الشر دون الله فيه أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة والفسقة من الجنِّ والإنسِ، وهو كتاب مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي «سجِّيْناً» «فعيلاً» من السجن؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم انتهى.
فصل في تفسير معنى سجين
قال عبدُ اللهِ بن عُمرَ وقتادةُ ومجاهدٌ والضحاكُ: «سِجِّين» هي الأرض السابعة السفلى، فيها أرواح الكفَّار.
وروى البراء، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» سِجِّين «أسفلُ سبْعِ أرضين، و» عِلِّيُّون «في السماءِ السَّابعة تحت العرشِ» .
وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة.
وقال عكرمةُ: «لفي سجِّين» لفي خسارةٍ وضلالٍ.
قال القشيريُّ: «سجين» : موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون.
قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ، أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك.
قال القرطبي: وليس في قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ما يدل على أن لفظ «سجين» ليس عربياً، كما لا يدل قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 3] ، بل هو تعظيم لأمْرِ سجين.(20/212)
قوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} قال المفسرون: ليس هذا تفسيراً ل «سجين» ، بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله: «إنَّ كِتابَ الفُجَّار» أي: هو كتاب مرقوم، أي: مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم، كالرقم لا ينسى ولا يمحى حتى يجازى به، والرقم: الخط؛ قال: [الطويل]
5128 - سَأرْقمُ فِي المَاءِ القَراحِ إليْكمُ ... عَلَى بُعدكُمْ، إنْ كَانَ في الماءِ رَاقمُ
وقيل: الرَّقْمُ: الختم بلغة حمير. [وتقدمت هذه المادة في سورة «الكهف» ] .
وقال قتادةُ ومقاتل: رقم: نشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنَّه كافر.(20/213)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
قيل: إنَّه متصل بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} لمن كذَّب بأخبار الله تعالى.
وقيل: إنَّ قوله: «مرقوم» معناه: مرقم أي: يدل على الشَّقاوة يوم القيامة، ثم قال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في ذلك اليوم من ذلك الكتاب.
ثم إنه - تعالى - أخبر عن صفة من يكذِّب بيوم الدين، فقال تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} ، فقوله تعالى: {الذين يُكَذِّبُونَ} يجوز فيه الإتباع نعتاً وبدلاً وبياناً، والقطع رفعاً ونصباً.
واعلم أنه - تعالى - وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفاتٍ:
أولها: كونه معتدياً، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقِّ.
وثانيها: الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي.
وثالثها: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} والمراد: الذين ينكرون النبوة، والمراد بالأساطير: قيل: أكاذيب الأولين. وقيل: أخبار الأولين.
قوله: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ} . العامة على الخبر.(20/213)
والحسن: «أئِذَا؟» على الاستفهام الإنكاري.
والعامَّة: «تتلى» بتاءين من فوق.
وأبو حيوة وابن مقسم: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي.
فصل في المراد بالمكذب في الآية
قال الكلبيُّ: المراد بالمكذِّب هنا: هو الوليدُ بن المغيرةِ - لعنه الله - لقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] إلى قوله: {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] وقوله: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 15] .
فقيل: هو الوليد بن المغيرة.
وقيل: هو النَّضر بنُ الحارث.
وقيل: عام في كل موصوف بهذه الصفة.
قوله: {كَلاَّ} . ردعٌ وزجرٌ، أي: ليس هو أساطير الأولين.
وقال الحسن: معناها «حقًّا» ران على قلوبهم.
وقال مقاتلٌ: معناه: لا يؤمنون، ثم استأنف: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} قد تقدم وقف حفص على لام «بل» في سورة «الكهف» .
والرَّان: الغشاوة على القلب كالصَّدأ على الشيء الصقيل من سيف، ومرآة، ونحوهما.
قال الشاعر: [الطويل]
5129 - وكَمْ رَانَ من ذَنْبٍ على قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ منَ الذَّنْبِ الذي رَانَ وانْجَلَى
وأصل الرَّيْنِ: الغلبة، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها.
وقال الزمخشري: «يقال ران عليه الذنب، وغان عليه، رَيْناً، وغَيْناً، والغَيْنُ: الغَيْمُ» .
والغين أيضاً: شجر متلف، الواحدة غَيْنَاء، أي: خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان.
ويقال: رَانَ رَيْناً ورَيَناً، فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل: «رَانَ» بالإمالة؛ لأن فاء الفعل(20/214)
راء، وعينه ألف منقلبة عن ياء، فحسنت الإمالة، ومن فتح فعلى الأصل مثل: كَالَ وبَاعَ.
فصل في المراد بالرَّين والإقفال والطبع
قال أبُو معاذ النحويُّ: الرَّيْنُ، والإقفال: [أن يسود القلب من الذنوب وهو] أشدّ من الطبع، وهو أن يقفلُ على القلب، قال تعالى:
{أَمْ
على
قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] .
قال الزجاجُ: «رَانَ على فُلوبِهمْ» بمعنى غَطَّى على قُلوبِهم.
وقال الحسن ومجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب، ويغشى، فيموت القلب.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إيَّاكُمْ والمُحقراتِ مِنَ الذنُوبِ، فإنَّ الذنْبَ على الذَّنْبِ يُوقِدُ على صَاحبهِ [جحيماً] ضخمة» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ كَانتْ نُكْتةٌ سَودَاء في قَلْبهِ، فإنْ تَابَ ونَزعَ واسْتَغفرَ صُقِلَ قَلْبهُ مِنْهَا، فإذَا زَادَ زَادتْ حتَّى تَعلُو قَلْبهُ، فَذلِكُمُ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ - تعَالَى - في كِتَابِهِ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} » .
قوله: {مَّا كَانُواْ} هو الفاعل، و «ما» : يحتمل أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى: «الذي» والعائد محذوف، وأميلت ألف «رَانَ» ، وفخمت، فأمالها الأخوان وأبو بكرٍ وفخَّمها الباقُون، وأدغمت لام «بل» في الراء، وأظهرتْ.
قوله تعالى « {كَلاَّ إِنَّهُمْ} .
قال الزمخشريُّ:» كلاَّ «ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم.
وقال القفالُ: إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم، أنه كان يقول: إن كانت الآخرة حقًّا، فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً، ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 78] .(20/215)
وقال أيضاً: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] ، فلمَّا تكرَّر ذكره في القرآن، ترك الله ذكره - هاهنا - وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي: ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. وقال ابن عباس أيضاً:» كلاَّ «يريد لا يصدقون ثم أستأنف فقال: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وقيل: قوله تعالى:» كلاَّ «تكرير، وتكون» كلاَّ «هذه المذكورة في قوله:» كلا، بل ران على قلوبهم «.
قوله: {عَن رَّبِّهِمْ} . متعلق بالخبر، وكذلك» يومئذ «، والتنوين عوض عن جملة، تقديرها:» يوم إذْ يقوم الناس «؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها.
فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم
قال أكثر المفسرين: محجوبون عن رؤيته، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم - سبحانه وتعالى - ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة.
وأيضاً فإنه - تعالى - ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد، والتهديد للكفار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفَّار لا يجوز حصوله للمؤمنين، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه:
أحدها: قال الجبائي: المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي: ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثُّلث إلى السُّدس، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول: حاجب.
وثانيها: قال أبو مسلم: «لمحجوبون» غير مقربِّين، والحجاب: الرَّدُ، وهو ضد القبول، فالمعنى: أنهم غير مقبولين عند الرؤية، فإنه يقال: حُجِبَ عن الأمير، وإن كان قد رآه عن بعدٍ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته.
وثالثها: قال الزمخشريُّ: كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرَّمين لديهم، ولا يُحجب عنهم إلا المبانون عنهم.
والجواب: أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع، فيكون حقيقة فيه، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى، إمَّا عن العلم، وإمَّا عن الرؤية، والأول: باطل؛ لأن الكفَّار يعلمون الله تعالى، فوجب حمله على الرؤية.
وأمَّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل، ويؤيد ما قلنا: أقوال السَّلف من المفسرين:(20/216)
قال مقاتلٌ: بل لا يرون ربَّهم بعد الحساب، والمؤمنون يرون ربهم.
وقال الكلبيُّ: محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجبُ، وسُئلَ مالكُ بنُ أنسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن هذه الآية، فقال: كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروهُ، ولا بد أن يتجلَّى لأوليائه حتى يروه.
وعن الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما حجب قومٌ بالسُّخطِ دلَّ على أنهم يرونهُ بالرضا.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم} . أي: إنّ الكفَّار مع كونهم محجوبين من الله يدخلون النار.
{ثُمَّ يُقَالُ} أي: تقول لهم الخزنةُ: «هذا» أي: هذا العذاب {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وقوله: يقال يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل ما دلَّت عليه جملة قوله: «هَذا الَّذي كُنتُمْ» ، ويجوز أن تكون الجملة نفسها، ويجوز أن تكون المصدرية. [وقد تقدم تحريره في أول «البقرة» ] .(20/217)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار} : لمَّا ذكر تعالى حال الكفار والمطففين أتبعه بذكر الأبرار الذين لا يطففون، فقال: «كلاَّ» أي: ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجَّار من إنكار البعث، ومن أنَّ كتاب الله أساطير الأولين، بل كتابهم في سجِّين، وكتابُ الأبرارِ في علِّيِّين.
وقال مقاتلٌ: «كلاَّ» أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.
قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ} . هو خبر «إنَّ» .(20/217)
وقال ابن عطيَّة هنا كما قال هناك، ويرد عليه بما تقدم، و «علِّيُّون» : جمع «عِلِّيِّ» ، أو هو اسم مكان في أعْلَى الجنة، وجرى مجرى جمع العقلاء، فرفع الواو، ونصب وجر بالياء، مع فوات شرط العقل.
وقال أبو البقاء: واحدها «عليّ» وهو الملك.
وقيل: هو صيغة للجمع مثل عشرين، ثم ذكر نحواً مما ذكره في «سِجِّين» من الحذف المتقدم.
وقال الزمخشري: «عِلِّيُّون» علم لديوان الخير الذي دوِّن فيه كلُّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» «فعيل» من العلو ك «سجين» من السجن، سمي بذلك؛ إمَّا لأنَّه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات في الجنة، وإما لأنَّه مرفوع في السماء السابعة.
وتلك الأقوال الماضية في «سجِّين» كلُّها عائدة هنا.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّها السماء السابعة.
وقال مقاتلٌ وقتادةُ: هي سدرةُ المنتهى.
وقال الفراء: يعني: ارتفاعها بعد ارتفاع لا غاية له.
وقال الزجاجُ: أعْلَى الأمْكِنَةِ.
وقال آخرون: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة.
وقال آخرون: عند كتاب أعمال الملائكة، لقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} وذلك تنبيه على أنَّه معلوم، وأنه سيعرفه، ثم قال تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} فبين أن كتابهم في هذا الكتاب بالمرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكأنَّه - تعالى - كما وكلَّهم باللوح المحفوظ، فكذلك وكلَّهُم بحفظ كُتبِ الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له، ولا يمنع أن الحفظة إذا صعدت تكتب الأبرار بأنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم، أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وُكِّلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار، فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً.
وقيل: المعنى: ارتفاع بعد ارتفاع.(20/218)
وقال أبو مسلم: هذا كناية عن العلو والرفعة، والأول كناية عن الذُّلِّ والإهانةِ.
وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «عِلِّيُّون» : لوحٌ من زبرجدة خضراء معلَّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه.
قال كعب وقتادة: هي قائمة العرش اليمنى.
وقال ابن عباس: هو الجنة.
وقال الضحاكُ: سدرةُ المنتهى.
وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} : ليس فيه تفسير عليِّين، أي: مكتوب أعمالهم كما تقدم في كتاب الفجار.
وقيل: كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة.
قوله: {يَشْهَدُهُ} : جملة يجوز أن تكون صفة ثانية، وأن تكون مستأنفة، والمعنى: أنَّ الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، ويحضرون ذلك المكتوب وذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين.
قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} . لمَّا عظم كتابهم عظم منزلتهم بأنَّهم في النعيم ثم بين ذلك النعيم بأمورٍ، ثلاثة: أولها: بقوله تعالى: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} .
قال القفَّال: «الأرائك» : الأسِرَّة في الحجال، ولا تُسَمَّى أريكة فيما زعموا إلا إذا كان كذلك.
وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كُنَّا لا ندري ما الأريكةُ، حتى لقينا رجلٌ من أهل «اليمن» ، أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك. وقوله: «يَنْظُرون» قيل: إلى أنواع نعيمهم من الحُور والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها.
وقال مقاتلٌ: ينظرون إلى عدوِّهم حين يعذبون.
وقيل: إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه، فيحضرهم ذلك الشيء في الحال قيل: يحمل على الكل.(20/219)
قال ابن الخطيب: إنهم ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} .
قوله تعالى: {تَعْرِفُ} . العامة: على إسناد الفعل إلى المخاطب، أي: تعرف أنت يا محمد، أو كل من صح منه المعرفة.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبة وطلحة ويعقوب والزعفراني: «تُعْرَفُ» مبنياً للمفعول، و «نضرةُ» : بالرفع على قيامها مقام الفاعل.
وعلي بن زيد: كذلك إلا أنه بالياء أسفل؛ لأن التأنيث مجازي.
والمعنى: إذا رأيتهم عرفت أنَّهم من أهل النَّعيم مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض.
وقال الحسن: النضرةُ في الوجه والسُّرور في القلب.
قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} .
قال الليث: الرَّحيقُ: الخمر.
وقيل: الخمر الصافية الطيبة.
وقال مقاتل: الخمر البيضاء.
وقال ابنُ الخطيب: لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] .
قوله: «مختوم» ، أي: ختم ومنع أن تمسَّهُ يد إلى أن يفكّ ختم الأبرار.
قال القفال: يحتملُ أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وهناك خمر أخرى تجري أنهاراً، لقوله: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] ، إلاَّ أنَّ هذا المختوم أشرف من الجاري.
وقال أبو عبيدة والمبرد والزجاج: «المختوم» : الذي له ختام أي: عاقبة.
وروى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المختوم أشرف من الجاري الممزوج ختامه، أي: طعمه وعاقبته مسكٌ، وختم كلِّ شيء: الفراغ منه، ومنه يقال: ختمتُ(20/220)
القرآن، والأعمال بخواتيمها، ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - واختاره الكسائي، فإنه قرأ: «خاتمةُ مِسْك» أي: آخره، كما يقال: خاتمُ النبيين، ومعناه واحد.
قال الفراء: وهما متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم: الاسم، والخِتَام: المصدر، كقولهم: هو كريم الطِّباع والطَّابع، والخِتَام والخَاتم.
وقال قتادة: يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك.
وقال مجاهد: مختوم، أي: مطين.
قوله: {خِتَامُهُ} أي: طينة مسك.
قال ابن زيد: ختامه عند الله مسك، وختام الدنيا طين.
وقرأ الكسائي: «خَاتَمهُ» بفتح التاء بعد الألف.
والباقون: بتقديمها على الألف.
فوجه قراءة الكسائي: أنه جعله اسماً لما يختم به الكأس، بدليل قوله: «مَخْتُوم» . ثم بين الخاتم ما هو، فروي عن الكسائي أيضاً: كسر التاء، فيكون كقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40] ، والمعنى: خاتم رائحته مسك ووجه قراءة الجماعة: أن الختام هو الطين الذي يختم به الشيء، فجعل بدله المسك.
قال الشاعر: [الوافر]
... كَأَنَّ مُشعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرَى
نَمَتْهُ البَحْتُ مَشْدُودَ الخِتَامِ ... وقيل: خلطه ومزاجه.
وقيل: خاتمته أي: مقطع شربه يجد الإنسان فيه ريح المسك.
قيل: سُمِّي المسك مسْكاً؛ لأن الغزال يُمسكه في سُرَّته، والمساكةُ: البُخْلُ وحبس(20/221)
المال، يقال: رجل مَسِيكٌ لبخله، والمَسْكُ: الجلد لإمساكه ما فيه، والمَاسِكَة: التي أخطأت خافضتُها فأصابت من مسكها غير موضع الختان، والمَسَكة: سوار من قرن أو عاجٍ لتماسكه والمسكة - بضم الميم -: الشَّيء القليل، يقال: ما له مُسْكَة، أي: عقل.
قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} . التَّنافسُ: المُغالبة في الشيء النفيس، يقال: نفستُه به نفاسة، أي: بخلت به، وأصله من النَّفْسِ لعزتها.
قال الواحديّ: نفستُ الشيء أنفسُه نفاسةً: بَخِلْتُ به.
وقال البغوي: وأصله من الشيء النَّفِيس أي: تحرص عليه نفوس النَّاس، ويريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره أي: يضنّ، والمعنى: وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى.
وقال مجاهد: فليعمل العاملون، كقوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] .
وقال عطاء: فليستبق المستبقون.
وقال مقاتلُ بن سليمان: فليتنازع المتنازعون.
قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، التسنيم: علمٌ لعينٍ في الجنَّة.
فصل في المراد بالتسنيم
قال الزمخشريُّ: «التسنيم» علمٌ لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنَّمه، إذا رفعه.
قال شهاب الدِّين: وفيه نظر؛ لأنه كان من حقه أن يمنع الصَّرف للعلمية والتأنيث، وإن كان مجازياً، ولا يقدح في ذلك كونه مذكر الأصل؛ لأن العبرة بحال العلمية، ألا ترى أنهم نصّوا على أنَّه لو سمي ب «زيد» امرأة وجب المنع، وإن كان في «هِنْد» وجهان، اللهم إلا أن يقول: ذهب بها مذهب النهر، ونحوه، فيكون ك «واسط، ودانق» .
فصل في معنى التسنيم
التسنيم: شرابٌ ينصبُّ عليهم من علوٍّ في غرفهم ومنازلهم.
وقيل: يجري في الهواء منسماً فينصبُّ في أوانيهم فيملأها.(20/222)
قال قتادة: وأصل الكلمة من العلو، ويقال للشيء المرتفع سنامٌ، ومنه سنامُ البعيرِ، وتسمنتُ الحائط: إذا علوته.
وقال الضحاك: هو شراب اسمه: تسنيمٌ، وهو من أشرف الشراب.
قال ابنُ مسعودٍ وابن عباسٍ: هو خالص للمقربين يشربونها، ويمزج لسائر أهل الجنَّة، وهو قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} .
وعن ابن عباس: أنَّه سُئِلَ عن قوله تعالى: {مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا ما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
قوله: {عَيْناً} . فيه أوجه:
أحدها: أنَّه حالٌ.
قال الزجاج: يعني من تسنيم، لأنه علم لشيء بعينه، إلا أنه يشكل بكونه جامداً.
الثاني: أنه منصوب على المدح. قاله الزمخشري.
الثالث: أنَّها منصوبة ب «يُسْقونَ» مقدراً. قاله الأخفش.
وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها، والباء زائدة، أو ضمير «يشرب» بمعنى يروى، وتقدم هذا مشبعاً في «هل أتى» .
قال البغوي: التقدير: يشربها المقربون صرفاً.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} ، أي: أشركوا، يعني: كفَّار قريش أبا جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل من مترفي «مكة» .
{كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ} عمَّار، وخبَّاب، وصهيب، وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين «يَضْحَكُون» استهزاء بهم.
وقوله: {مِنَ الذين} متعلِّق ب «يضحكون» أي: من أجلهم، وقدم لأجل الفواصل.
قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ} يعني: المؤمنين بالكفار «يَتَغَامَزُونَ» ، والغَمْز: الإشارة بالجفنِ والحاجبِ، أي: يشيرون إليهم بالأعين استهزاء.(20/223)
وقيل: الغمزُ بمعنى: العيب يقال: غمزهُ، أي: عابه، وما في فلان غميزٌ، أي: ما يعابُ به.
قوله تعالى: {وَإِذَا انقلبوا} يعني: الكفار {إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ} معجبين بما هم فيه، يتفكَّهُونَ تذكرهم بالسُّوءِ.
وقرأ حفص: «فكهين» دون ألف.
والباقون: بها.
فقيل: هما بمعنى، وقيل: «فكهين» أشرين، و «فاكهين» من التفكه.
وقيل: «فكهين» فرحين و «فاكهين» ناعمين.
وقيل: «فاكهين» أصحاب فاكهة ومزاح.
قوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} . يجوز أن يكون المرفوع للكفَّار، والمنصوب للمؤمنين، أي: أن الكفار إذا رأوا أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: {إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} أي: يأتون محمداً المختار، يرون أنهم على شيء، أي: هم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شراب لا يدري هل له وجود أم لا؟ ويجوز العكس، وكذلك الضميران في {أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} يعني: المشركين عليهم، والمعنى: {وَمَآ أُرْسِلُواْ} يعني المشركين «عليهم» يعني المؤمنين «حافظين» أعمالهم، لم يوكلوا بحفظ أعمالهم.
قوله تعالى: {فاليوم الذين آمَنُواْ} . «فاليوم» : منصوب ب «يَضْحَكُون» ، ولا يضرّ تقديمه على المبتدأ، لأنه لو تقدم هان العامل لجاز، إذ لا لبس بخلاف «زيد قائم في الدار» لا يجوز «في الدار زيد قائم» .
ومعنى، «فاليوم» أي: في الآخرة يضحك المؤمنون من الكافرين، وفي سبب هذا الضحك وجوه:
منها: أنَّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا، بسبب ما هم فيه من التضرر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين، بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.
ومنها: أنَّهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.
ومنها: أنَّهم دخلوا الجنة، أجلسُوا على الأرائكِ ينظرون إلى الكفَّار كيف يعذبون(20/224)
في النار، ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور، ويلعن بعضهم بعضاً.
ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار - وهم فيها - اخرجوا، ويفتحُ، لهم أبوابها، فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك سبب الضحاك.
قوله: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} : الجار متعلقٌ ب «ينظرون» ، و «ينظرون» : حال من «يضحكون» ، أي: يضحكون ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الهوان.
قوله: {هَلْ ثُوِّبَ} . يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية معلقة للنظر قبلها، فتكون في محل نصب بعد إسقاط الخافض ب «ينظرون» .
وقيل: استئناف لا موضع له، ويجوز أن يكون على إضمار القول: أي: يقولون: هل ثوب، ومعنى «ثُوِّب» أي: جُوزيَ، يقال: ثوَّبهُ وأثابهُ.
قال: [الطويل]
5131 - سَأجزِيكَ أو يَجْزيكَ عنِّي مُثوِّبٌ ... وحَسْبُكَ أنْ يُثْنَى عَليْكَ وتُحْمَدَا
ويدغم أبو عمرو والكسائي وحمزة: لام «هل» في الثناء.
قوله: «ما كانوا» فيه حذف، أي: ثواب ما كانوا، أو موصول اسمي أو حرفي.
قال المبرد: «ثوب» فعل من الثواب، وهو ما ثوب، يرجع على فاعله جزاء ما علمه من خير، أو شر، والثَّوابُ: يستعمل في المكافأة بالشَّر.
وأنشد أبو عبيدة: [الوافر]
5132 - ألاَ أَبْلِغْ أبَا حَسنٍ رَسُولاً ... فمَا لَكَ لا يَجِيءُ إلَى الثَّوابِ
وثوَّب وأثاب بمعنى واحد، والأولى أن يحمل على سبيل التَّهكُّم، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، كأنه - تعالى - يقول للمؤمنين: هل جازينا هؤلاء الكفار على استهزائهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة، فيكون هذا القول زائداً في سرورهم والله أعلم.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» المُطَفِّفِين «سقاهُ اللهُ من الرَّحيقِ المختُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .(20/225)
سورة الانشقاق(20/226)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
مكية، وهي ثلاث وعشرون آية، ومائة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا السمآء انشقت} كقوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] في إضمار الفعل وعدمه، وفي «إذا» هذه احتمالات:
أحدها: أن تكون شرطية.
والثاني: أن تكون غير شرطية.
فعلى الأول في جوابها خمسة أوجه:
أحدها: أنها {َأَذِنَتْ} [الانشقاق: 2، 5] والواو مزيدة.
قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقتحم الواو إلا مع «حتى إذا» كقوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] ، أو مع «لمَّا» كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103، 104] ، أي: ناديناه، والواو لا تقحم مع غير هذين.
الثاني: أنه «فمُلاقيهِ» أي فأنت ملاقيه وإليه ذهب الأخفش.
والثالث: أنّه «يا أيُّها الإنسانُ» أيضاً، ولكن على إضمار القول: أي: يقال: «يا أيُّهَا الإنسَانُ» .
والخامس: أنَّه مقدَّرٌ، تقديره: بعثتم.
وقيل: تقديره: لاقى كل إنسان كدحه وهو قوله: «فمُلاقِيهِ» ويكون قوله: «يا أيُّهَا الإنسَانُ» معترض، كقولك: إذا كان كذا وكذا - يا أيها الإنسان - ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر.(20/226)
ونقل القرطبي عن المبردِ، إنَّه قال: فيه تقديمٌ وتأخير، أي: يا أيُّها الإنسان إنَّك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت.
وقيل: هو ما صرَّح به في سورتي «التَّكوير» و «الانفطار» ، وهو قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] ، قاله الزمخشري، وهو حسنٌ.
ونقل ابن الخطيب عن الكسائيِّ، أنه قال: إنَّ الجواب هو قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الانشقاق: 7] ، واعترض في الكلام على قوله: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً} [الانشقاق: 6] .
والمعنى: إذا انشقت السماء وكان كذا وكذا فمن أوتي كتابه بيمنه فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ونظيره قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] .
قال النحاسُ: وهذا أصحُّ ما قيل فيه وأحسنه.
وعلى الاحتمال الثاني: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها منصوبة مفعولاً بها بإضمار «واذْكُرْ» .
والثاني: أنها مبتدأ، وخبرها «إذَا» الثانية، و «الواو» مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش أيضاً.
والعامل فيها إذا كانت ظرفاً - عند الجمهور - جوابها، إمَّا الملفوظ به، وإمَّا المقدَّر.
وقال مكيٌّ: وقيل: العامل «انشقت» .
وقال ابن عطية: قال بعض النحاة: العامل «انشقت» وأبي ذلك كثير من أئمتهم؛ لأن «إذا» مضافة إلى «انشقت» ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة، ويقوى معنى الجزاء.
وقرأ العامة: «انشقتْ» بتاء التأنيث ساكنة، وكذلك ما بعده.
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد بن عقيل: بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل خاصة بالسكون المحض.
قال أبو الفضلِ: وهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي، وفي هذا(20/227)
الإشمام بيان أن هذه «التاء» من علامة تأنيث الفعل للإناث، وليست مما ينقلب في الأسماء، فصار ذلك فارقاً بين الاسم والفعل، فيمن وقف على باقي الأسماء بالتاء، وذلك لغة طيّئ، وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك.
وقال ابن عطية: قال بعض النحاة: وقرأ أبو عمرو «انشقت» يقف على القاف، كأنه يشمها شيئاً من الجر، وكذلك في أخواتها.
قال أبو حاتم: سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات.
وقال ابن خالويه: «انشقَّت» - بكسر التاء - عبيد عن أبي عمرو.
قال شهاب الدين: كأنه يريد إشمام الكسر، وأنَّه في الوقف دون الوصل؛ لأنه مطلق، وغيره مقيد، والمقيد يقضي على المطلق.
وقال أبو حيَّان: وذلك أن الفواصل تَجْرِي مَجْرَى القوافي، فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي؛ قول كثير عزّة: [الطويل]
5133 - ومَا أنَا بالدَّاعِي لعَزَّةَ بالرَّدَى ... وَلا شَامتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ
وكذلك في باقي القصيدة؛ وإجراء الفواصل في الوقف مَجْرَى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى: {الظنونا} والرسولا، في سورة «الأحزاب» [10و 66] ، وحمل الوصل على حالة الوقف موجود في الفواصل أيضاً.
فصل في المراد بانشقاق السماء
انشقاق السماء من علامات القيامة، وقد تقدَّم شرحه.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّها تنشق من المجرَّة، وقال: المجرَّة: باب السماء.
قوله: {وَأَذِنَتْ} . عطف على «انشقت» ، وقد تقدَّم أنَّه جواب على زيادة الواو.
ومعنى «وأذنت» : أي: استمعت أمره، يقال: أذنت لك: استمعت لك، وفي الحديث: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كأذنِهِ لِنَبيِّ يَتغنَّى بالقُرْآنِ» .(20/228)
وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزَّجاج قول قعنب: [البسيط]
5134 - صُمٌّ إذَا سَمِعُوا خَيْرَاً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عندهُمْ أذِنُوا
وقال آخر: [البسيط]
5135 - إن يأذنُوا ريبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحَاً ... ومَا هُمُ إذِنُوا من صالحٍ دَفنُوا
وقال الجحاف بن حكيم: [الطويل]
5136 - إذِنْتُ لَكُمْ لمَّا سَمِعْتُ هَرِيركُمْ ... ... ... ..... ... ... ... ....... ... ... .
ومعنى الاستعارة - هاهنا - أنَّه لم يوجد في جِرْمِ السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها، وتفريق أجزائها، فكأنَّها في قبول ذلك التأثير كالعبدِ الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت، وأذعن، ولم يمتنع كقوله تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] ، وذلك يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً. قاله ابن الخطيب.
قوله: «وحُقَّتْ» . الفاعل في الأصل هو الله تعالى، أي: حقَّ الله عليها ذلك، أي: بسمعهِ وطاعته، يقال: هو حقيقٌ بكذا ومحقوق، والمعنى: وحقَّ لها أن تفعل.
قال الضحاكُ: «حَقَّتْ» أطاعت وحقَّ لها أن تُطِيعَ.
وقال ابن الخطيب: وهو من قولك: محقوقٌ بكذا وحقيقٌ به، وهي حقيقة بأن تنقاد، ولا تمتنع.
قوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} مد الأديم.
وقيل: «مُدَّتْ» بمعنى: أمدت وزيد في سعتها وقال مقاتلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سُويت كمدّ الأديمِ، فلا يبقى فيها بناء ولا جبل، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] الآية.(20/229)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} . أي: أخرجت ما فيها من الموتى والكنوز، لقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] ، «وتَخَلَّت» أي: خليتْ منها، ولم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذنُ بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنَّ الله تبارك وتعالى هو المخرج لتلك الأشياءِ من بطن الأرض.
قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . تقدَّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار؛ لأن الأوَّل في السماء وهذا في الأرض.
قوله
: {يا
أيها
الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} .
قيل: المراد جنس الإنسان، كقولك: يا أيها الرجل، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس.
قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين، بخلاف اللفظ العام.
وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والمعنى: أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده، وتحمل الضرر من الكفَّار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هو أبيّ بن خلفٍ، وكدحه: هو جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والإصرار على الكفر.
فصل في المراد بالكدح
الكَدْحُ: قال الزمخشريُّ: جَهْدُ النفس، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه، ومعنى «كادح» أي: جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيلِ: [الطويل]
5137 - ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ(20/230)
وقال آخر: [الكامل]
5138 - ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ ... وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ
وقال الراغب: وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان.
وقال الخليل: الكدحُ دون الكدم.
فصل في معنى الآية
معنى «كادحُ إلى ربِّك» أي: ساع إليه في عملك.
والكدحُ: عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.
قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ: عامل لربك عملاً، وقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ} أي: إلى لقاء ربك، وهو الموت، أي: هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.
وقال القفال: تقديره: أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك.
قوله: «فمُلاقِيهِ» : يجوز أن يكون عطفاً على [ «إنك] كادح» ، والسبب فيه ظاهر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت ملاقيه، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
وقال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه. يعني بقوله: «على هذا» أي: على عود الضَّمير على كدحكَ.
قال أبو حيَّان: «ولا يتعين ما قاله، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات» .
والضميرُ في «فملاقيه» : إمَّا للربِّ، أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.
وإمَّا ل «الكدح» إلا أن الكدحَ عمل، وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد: جزاءُ كدحكَ.
وقال ابنُ الخطيب: المراد: ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا بقوله بعده: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} .(20/231)
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ، أي: ديوان أعماله بيمينه.
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ، «سوف» من الله واجب، كقول القائل: اتبعني فسوف تجد خيراً، فإنه لا يريد الشك، وإنما يريد تحقيق الكلام، والحساب اليسير: هو عرض أعماله، فيثاب على الطاعة، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ، ولا يقال: لم فعلت هذا، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ «، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} فقال:» إنَّما ذَلِكَ العرضُ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب «» .
قوله تعالى: {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ} في الجنة من الحُورِ العينِ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين [ «مَسْرُوراً» أي: مُغْتَبِطَاً قرير العين] .
قال ابنُ الخطيب: فإن قيل: إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه؟ .
فالجواب: إن العبد يقول: إلهي، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول: فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين، فتلك المكالمة محاسبة.
قوله: «مَسْرُوراً» : حال من فاعل «يَنْقَلِبُ» .
وقرأ زيد بن علي: «يُقْلَبُ» مبنياً للمفعول من «قلبه» ثلاثياً.
قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} .
قيل: نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ. قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: عامة.
وقال الكلبيُّ: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره.
وقيل: يحوَّلُ وجهه إلى قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.
وقيل: يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك، وأوتي كتابه بشماله.(20/232)
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] ، فكيف قال هنا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} ؟ .
فالجواب: أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.
قوله: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} ، أي: ينادي بالويل، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول: يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ، كقوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] .
قوله: {ويصلى سَعِيراً} ، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم: بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.
والباقون: بضم الياء وفتح اللام والتثقيل، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] .
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم: «يُصْلَى» بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} .
قال القفال: مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد، مقدماً على المعاصي، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إن قوله: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، كقوله تعالى:
{وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] ، أي: متنعمين في الدنيا، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله، والتكذيب بالبعث، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ» .
قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} . معنى «يَحُور» أي: يرجع، يقال: حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً؛ قال لبيدٌ: [الطويل] .
5139 - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويستعمل بمعنى: «صار» ، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلاً بهذا البيت، وموضع نصب «رماداً» على الحال.(20/233)
وقال الراغب: «الحَوْرُ: التردد في الأمر، ومنه:» نعوذ بالله من الحور بعد الكور «، أي: من التردد في الأمر بعد المضي فيه، ومحاورة الكلام: مراجعته، والمحور: العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، والمحار: المرجع والمصير» .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ما كنت أدري ما معنى: «حَوْر» حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته: «حُورِي» أي: ارجعي.
وقال عكرمة وداود بن أبي هند: «يَحُور» : كلمة بالحبشية، ومعناها: يرجع.
قال القرطبي: «ويجوز أن تتفق الكلمتان، فإنَّهما كلمة اشتقاق، ومنه: الخبز الحُوارى، لأنه يرجع إلى البياض» .
والحُور أيضاً: الهلاك.
قال الراجز: [الرجز] .
5140 - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى ولا شَعَرْ ... وقوله تعالى: {أَن لَّن يَحُورَ} : «أن لن» هذه «أن» المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة، وهي سادَّة مسد المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقوله: «بَلَى» جواب للنفي في «لن» ، و «أن» : جواب قسم مقدر، والمعنى: إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث، ثم قال: «بَلَى» أي: ليس كما ظن بلى يحور إلينا، أي: يبعث.
{إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [قال الكلبي: بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه.
وقال عطاء: بصيراً] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة.(20/234)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
قوله: {فلا أقسم بالشفق} «لا» : صلة: «بالشَّفَقِ» أي: بالحمرة التي تكون عند غروب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة.(20/234)
قال الراغب: الشَّفَقُ: هو اختلاط ضوء النَّهار بسواد الليل عند غروب الشمس، والإشفاقُ: عناية مختلطة بخوف؛ لأن المُشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عُدّي ب «من» فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي ب «على» فمعنى العناية فيه أظهر.
وقال الزمخشري: «الشفق» الحُمْرة التي ترى في الغروب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء، إلا ما روي عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين: أنه البياض. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه، سمي شفقاً لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان، رقة القلب عليه انتهى.
والشَّفَقُ: شفقان، الشَّفَقُ الأحمر، والآخر: الأبيض، والشفقُ والشفقةُ: اسمان للإشفاق؛ وقال الشاعر: [البسيط]
5141 - تَهْوَى حَياتِي وأهْوَى مَوْتَهَا شَفقاً ... والمَوْتُ أكْرَمُ نَزَّالٍ على الحُرمِ
تقدم اختلاف العلماء في القسم بهذه الأشياء، هل هو قسم بها أو بخالقها؟ وأن المتقدمين ذهبوا إلى أن القسم واقع برب الشفق، وإن كان محذوفاً؛ لأن ذلك معلوم من ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى.
واعلم أن الصحيح في الشفق: أنَّه الحمرة؛ لأن أكثر الصحابة، والتابعين، والفقهاء عليه، وشواهد [كلام العرب] ، والاشتقاق، والسنة تشهد له.
وقال الفراء: «وسمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق» .
وقال الشاعر: [الرجز]
5142 - وأحْمَرُ اللَّوْنِ كحُمَرِّ الشَّفقْ ... وقال آخر: [البسيط]
5143 - قُمْ يا غُلامُ أعنِّي غَيْرَ مُرتَبِكٍ ... على الزَّمانِ بكأسٍ حَشوُهَا شَفَقُ
ويقال للمغرة: الشَّفقة.
وفي «الصِّحاح» : الشَّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة.
وقال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل: غاب الشفق.(20/235)
وأصل الكلمة من رقّة الشيء، يقال: شيء شفق، أي: لا تماسك له لرقته، وأشفق عليه أي: رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس.
وزعم بعض الحكماء: أن البياض لا يغيب أصلاً.
وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية، فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق، ولم أره يغيب.
وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره.
وروى النعمانُ بن بشيرٍ، قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصليها لسقوط القمر لثالثة. وهذا تحديد.
وقال مجاهد: الشفق النهار كله؛ لأنه عطف عليه {والليل وَمَا وَسَقَ} ، فوجب أن يكون الأول هو النهار، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والثاني: سكن، والشفقُ أيضاً: الرديء من الأشياء، يقال: عطاء مشفق، أي: مقلل؛ قال الكميتُ: [الكامل]
5144 - مَلِكٌ أغَرُّ مِن المُلُوكِ تَحلَّبَتْ ... للسَّائلينَ يَداهُ غَيْرُ مُشفِّقِ
قوله: {والليل وَمَا وَسَقَ} ، أي: جمع وضم ولف، ومنه: الوسْقُ، وهو الطعام المجتمع الذي يكال أو يوزن، وهو ستُّون صاعاً، ثم صار اسماً، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، والراعي وسقها، أي: جمعها؛ قال الشاعر: [الرجز]
5145 - إنَّ لَنَا قَلائصاً حقَائِقَا ... مُستوسِقَاتٍ لوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
والوِسْقُ - بالكسر -: الاسم: وبالفتح: المصدر، وطعام موسق: أي: مجموع،(20/236)
ويقال: وسقهُ فاتَّسقَ، واسْتوسَقَ، ونظير وقوع «افتعل، واستفعل» مطاوعين: اتسع واستوسع، ومنه قولهم: وقيل: وسق، أي: عمل فيه؛ قال: [الطويل]
5146 - ويَوْماً تَرَانَا صَالحينَ وتَارَةً ... تَقُومُ بِنَا كالواسِقِ المُتلبِّبِ
فصل في معنى الآية
قال عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ومَا وسقَ» ، أي: وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فالوسقُ، بمعنى الطرد، ومنه قيل للطَّريد من الإبل والغنم: وسيقه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «وما وسق» أي: وما جنَّ وستر.
وعنه أيضاً: وما حمل، ووسَقَتِ الناقة تَسِقُ وسْقاً: أي: حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق، ونوق وساق، مثل: نائم ونيام، وصاحب وصحاب، ومواسيق أيضاً، وأوسقتُ البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها.
وقال يمانٌ والضحاك ومقاتلُ بن سليمان: حمل من الظلمة.
وقال مقاتلٌ: حمل من الكواكب.
وقال ابنُ جبيرٍ: «وما وسق» أي: وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار.
قوله: {والقمر إِذَا اتسق} . أي: امتلأ. قال الفراء: وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر. وهو «افتعل» من «الوسق» وهو الضم والجمع كما تقدم، وأمر فلان متسقٌّ: أي: مجتمع على الصلاح منتظم، ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إذا اتَّسَقَ» أي: استوى واجتمع وتكامل وتمَّ واستدار.
قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} هذا جواب القسم.
وقرأ الأخوان، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومسروق، وأبو وائل، ومجاهدٌ والنخعيُّ، والشعبيُّ، وابن جبيرٍ: بفتح الباء على الخطاب للواحد.(20/237)
والباقون: بضمها على خطاب الجمع.
فالقراءة الأولى: رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى: {يا أيها الإنسان} [الانشقاق: 6] ، وإما خطاب غيره.
فقيل: خطابٌ للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين، من قولهم: النَّاس طبقات ولتركبن سماء [بعد سماء] ، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
وقيل: التاء للتأنيث، والفعل مسندٌ لضمير السماء.
قال ابن مسعود: لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان، وتنفطر وتنشق.
والقراءة الثانية: رُوي فيها معنى الإنسان؛ إذ المراد به: الجنس، أي: لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة، ثم مضغة، ثم حياً، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره، وقوله بعد ذلك «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي: لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب، والاختلاف على الأنبياء.
وقال مقاتلٌ: يعني الموت ثم الحياة.
وعن ابن عباسٍ: يعني: الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض.
وقال عكرمة: رضيع، ثم فطيم [ثم غلام،] ثم شابٌّ، ثم شيخ.
قال ابن الخطيب: ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم(20/238)
بنصرهم، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186] .
وقرأ عمرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ليركبُنَّ» بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار.
وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بالغيبة، وفتح الباء، أي: ليركبنَّ الإنسان.
وقيل: ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ.
وقرأ عبد الله وابنُ عباسٍ: «لتركبُنَّ» بكسر حرف المضارعة، وقد تقدم في «الفاتحة» .
وقرأ بعضهم: بفتح المضارعة وكسر الباء، على إسناد الفعل للنفس، أي: لتركبن يا نفس.
قوله: «طبقاً» : مفعول به أو حال.
والطبق قال الزمخشريُّ: الطَّبق: ما طابق غيره، يقال: ما هذا بطبق كذا: أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء: الطَّبقُ، وأطباقُ الثَّرى ما تطابق منه، ثم قيل للحال المُطابقَة لغيرها طبق، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {طَبَقاً عَن طَبَقٍ} أي: حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة، وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقاتٍ، ومنه طبقات الظهر لفقاره، الواحدة: طبقة على معنى: لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض وهي الموت، وما بعده من مواطن القيامة انتهى.
وقيل: المعنى: لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة؛ ومنه قول العباس فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [المنسرح]
5147 - تُنقَلُ مِنْ صالبٍ إلى رحِمٍ ... وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ
فعلى هذا التفسير، يكون «طبقاً» حالاً، كأنه قيل: أمة بعد أمة.
وأما قول الأقرع: [البسيط]
5148 - إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ ... وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبقٍ(20/239)
فيحتمل الأمرين، أي: ساقني من حالة إلى أخرى، أو ساقني من أمَّة ناس إلى أمَّة ناسٍ آخرين، ويكون نصب «طبقاً» على المعنيين على التشبيه بالظرف أو الحال، أي: متنقلاً، والطبقُ أيضاً: ما طابق الشيء أي: ساواه: [ومنه دلالة المطابقة.
قال امرؤ القيس:
5149 - ديمة هطلاً ... والطبق من الجراد أي الجماعة] .
قوله: «عَنْ طَبقٍ» : في «عن» هذه وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل «تركبن» .
والثاني: أنَّها صفة ل «طبقاً» .
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل «عن طبق» ؟ قلت: النصب على أنه صفة ل «طبقاً» ، أي: طبقاً مجاوزاً لطبقٍ، [أو حال من الضمير في «لتركبن» ، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ، أو مجاوراً] ، أو مجاورة على حسب القراءة.
وقال أبو البقاء: و «عن» بمعنى: «بعد» ؛ قال: [الكامل]
5150 - مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ ... حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحدِ
لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء، يكون الثاني بعد الأول فصلحت «بعد» و «عن» للمجاوزة، والصحيح أنها على بابها، وهي صفة، أي: طبقاً حاصلاً عن طبق، أي: حالاً عن حالٍ. وقيل: جيلاً عن جيل. انتهى.
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به، هل هو الحال، أو الجيل، أو الأمة كما تقدم نقله؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به، بل حالاً، كما تقدم، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به، وفيه نظر، لما تقدم من استحالته، يعني إذ يصير التقدير: لتركبن طبقة أمَّةٍ عن أمَّةٍ، فتكون الأمة مركوبة لهم، وإن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف، أي: لتركبن سنن، أو طريقة طبق بعد طبق.
فصل في حدوث العالم
هذا أدلُّ على «حدوث العالم» وإثبات الصانع.(20/240)
قالت: الحكماء: من كان اليوم على حاله، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.
وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانعاً؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوَّة، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة.
قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . يعني: أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضَّحت لهم الآيات والدِّلالات، وهذا استفهام إنكارٍ.
وقيل: تعجب أي: اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} حال.
قال ابنُ الخطيب: فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهو استفهام إنكارٍ، وإنَّما يحسن عند ظهور الحُجَّة، وذلك أنه - تعالى - أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: {والليل وَمَا وَسَقَ} فإنه يدل على حدوث ظلمةٍ بعد نورٍ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النَّومِ، وكذا قوله تعالى: {والقمر إِذَا اتسق} فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد نقصانه ثم إنه أقسم - تعالى - بهذه الأحوال المتغيرة على تغيير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح، لا بد وان يكون قادراً، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} .
فصل في الكلام على الآية
قال القاضي: «لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزاً عن الإيمان: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} ، وهذا يدل على كونهم قادرين، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة» . وجوابه تقدم.
قوله: {وَإِذَا قُرِىءَ} شرط، جوابه {لاَ يَسْجُدُونَ} ، وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال نسفاً على ما قبلها، أي: فما لهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، أي: لا يصلون قاله ابن عباس: وعطاء، والكلبي، ومقاتل [وقال أبو مسلم: المراد الخضوع والاستكانة.
وقيل: المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سجد فيها.(20/241)
وقال مالك: إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن المعنى لا يدعون ولا يطيعون] .
قوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} . العامّة: على ضمِّ الياء من «يكذبون» وفتح الكاف وتشديد الذَّال.
والضحاكُ وابنُ أبي عبلة: بالفتح والإسكان والتخفيف [وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة] .
والمعنى: يُكذِّبُون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به.
قال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير، وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم.
وقيل: هو في جميع الكفار.
قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} . هذه هي قراءة العامة، من أوعى يُوعِي، أي: بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب، رواه الضحاك عن ابن عباسٍ.
وقال مجاهدٌ: يكتمون من أفعالهم.
وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، يقال: وعيت الزَّاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر: [البسيط]
5151 - ألخَيْرُ أبْقَى وإنْ طَال الزَّمانُ بِهِ ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوعَيْتَ مِنْ زَادِ
وقرأ أبو رجاءٍ: «يَعُونَ» من «وَعَى يَعِي» ، يقال: وعاهُ إذا حفظهُ، يقال: وعيتُ الحديثَ، أعيهُ، وعياً، وأذنٌ واعيةٌ، وقد تقدم.
قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، أي: مُؤلمٍ في جهنَّم على تكذيبهم وكفرهم، أي: جعل ذلك بمنزلة البشارة.
قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} : يجوز أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً، هذا إذا كانت الجملة من قوله: «لَهُمْ أجْرٌ» : مستأنفة أو حالية، أمَّا إذا كان الموصول مبتدأ والجملة خبره، فالاستثناء ليس من قبيل استثناء المفردات، ويكون من قسم المنقطعِ، أي: لكن الذين آمنوا لهم كيت وكيت.(20/242)
وتقدم معنى الممنُون في: «حم» السجدة، وأنَّ معناه: غير منقوص لا مقطوع، يقال: مننت الحبل: إذا قطعته.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن قوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فقال: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم، قد عرفه أخو يشكر؛ حيث يقول: [الخفيف]
5152 - فَتَرَى خَلفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ ... عِ مَنِيناً كأنَّهُ أهْبَاءُ
قال المبرد: المنين: الغبار؛ لأنه يقطعه وراءها، وكل ضعيف مَنِين ومَمْنُون.
وقال بعضهم: ليس هنا استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا.
وقد مضى القول فيه في سورة البقرة، والله تعالى أعلم.
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة {إِذَا السمآء انشقت} أعاذهُ اللهُ - تَعَالَى - أن يُعْطيهُ كِتابهُ وَراءَ ظَهْرهِ» وحسبنا الله ونعم الوكيل.(20/243)
سورة البروج(20/244)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
مكية، وهي اثنان وعشرون آية، ومائة وتسع كلمات، وأربعمائة وثمانية وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والسمآء ذَاتِ البروج} . هذا قسم أقسم الله تعالى به، وفي البروج أقوال:
قيل: والسَّماء ذات النجوم. قاله الحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والضحاكُ. وقال ابنُ عباسٍ وعكرمةُ ومجاهدٌ: هي قصور في السماء.
وقال مجاهد أيضاً: هي البروج الاثنا عشر، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن سلام.
وقيل: هي منازل القمر.
قوله: {واليوم الموعود} : وهو يوم القيامة، وهذا قسم آخر، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.(20/244)
قال القفال: يحتمل أن يكون المراد: اليوم الموعود لانشقاق السماء وبنائها، وبطلان بروجها، وقوله تعالى: «الموعود» أي: الموعود به.
وقال مكيٌّ: «الموعود» : نعت لليوم، وثمَّ ضمير محذوف به تتم الصفة، تقديره: الموعود به، ولولا ذلك ما صحَّت الصفة؛ إذ لا ضمير يعود على الموصوف من صفته. انتهى.
وكأنه يعني أن اليوم موعود به غيره من الناس، فلا بُدَّ من ضمير يرجع إليه؛ لأنه موعود به، وهذا لا يحتاج إليه، إذ يجوز أن يكون قد تجوز بأن اليوم قد وعد بكذا، فيصح ذلك، ويكون فيه ضمير عائدٌ عليه.
قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} . قال علي، وابنُ عباسٍ، وابن عمر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، وهو قول الحسن، ورواه أبو هريرة مرفوعاً - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المَوعُودُ: يومُ القيامة، واليَوْمُ المشهودُ: يَوْمَ عَرفةَ، والشَّاهِدُ: يَوْمَ الجُمعةِ» خرَّجه الترمذي في «جامعه» .
قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما يعمل فيه.
قال القرطبيُّ: وكذلك سائر الأيام والليالي، لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية ابن قرة، عن معقل بن يسارٍ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَيْسَ مِنْ يوْمٍ يَأتِي عَلى العَبْدِ إلا يُنَادي فيه: يا ابْنَ آدمَ أنا خَلقٌ جدِيدٌ، وأنَا فيمَا تَعْمَلُ علَيْكَ شَهِيدٌ، فاعْمَلْ فيَّ خيراً أشْهَد لَكَ فيهِ غداً، فإنِّي لوْ قَدْ مَضيْتُ لَمْ تَرَنِي أبَداً، ويقُول اللَّيْلُ مِثْلَ ذلِكَ» حديث غريب.(20/245)
وحكى القشيريُّ عن ابن عمر وابن الزُّبيرِ: أن الشاهد يوم الأضحى.
وقال سعيد بن المسيب الشاهد يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة.
[وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر] وعن ابن عباس والحسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: المشهود: يوم القيامة، لقوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] وعلى هذا فقيل: الشاهد هو الله تعالى، وهو مروي عن ابن عباسٍ، والحسن، وسعيد بن جبير لقوله تعالى: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 79] وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ}
[الأنعام: 19] .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشاهد: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45] ، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] .
وقيل: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يشهدون على أممهم؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] .
وقيل: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] والمشهود أمته.
وعن ابن عباس ومحمد بن كعب: الشاهد: الإنسان، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] .
وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] ، والمشهود بنو آدم.(20/246)
قوله تعالى: {قُتِلَ} . هذا جواب القسم على المختار، وإنما حذفت اللام، والأصل: «لقتل» ؛ كقوله: [الطويل]
5153 - حَلفْتُ لَهَا باللهِ حَلفَة فَاجرٍ ... لنَامُوا فمَا إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صَالِي
وإنما حسُن حذفها للطول كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] .
وقيل: تقديره، لقد قتل، فحذف «اللام وقد» ، وعلى هذا فقوله «قُتِلَ» خبر، لا دعاء.
وقيل: هي دعاءٌ، فلا يكون جواباً.
وفي الجواب حينئذ أوجه:
أحدها: أنه قوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ} [البروج: 10] .
الثاني: قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] قاله المبرد.
الثالث: أنه مقدر، فقال الزمخشري ولم يذكر غيره: هو محذوف يدل عليه قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} كأنَّه قيل: أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون، كما لعن أصحاب الأخدود ثم قال: «قُتِلَ» دعاءٌ عليهم كقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] .
وقيل: التقدير: لتبعثن.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، قتل أصحاب الأخدود والسَّماء ذات البروج، قاله أبو حاتم.
قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد، على معنى: قام زيد والله.
وقرأ الحسن وابن مقسم: «قُتِّل» بتشديد التاء مبالغة أو تكثيراً.
قوله: {أَصْحَابُ الأخدود} ، أي: لعن أصحاب الأخدود.
قال ابن عباس: كل شيء في القرآن «قُتِلَ» فهو: لُعِنَ، والأخدود الشقُّ العظيم المستطيل الغائص في الأرض.
قال الزمخشريُّ: والأخدود: الخدُّ في الأرض وهو: الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق، ومنه: «فَسَاخَتْ قوائمه في أخاقيق جرذان» انتهى.
فالخَدُّ: في الأصل مصدر، وقد يقع على المفعول، وهو الشق نفسه، وأمَّا الأخدود فاسم له فقط.(20/247)
وقال الراغب: الخد والأخدود: شق في الأرض مستطيل غائص، وأصل ذلك من خَدَّي الإنسان، وهما ما اكتنفا الأنف عن اليمين والشمال، فالخَدُّ: يستعار للأرض ونحوها كاستعارة الوجه، وتخدد اللحم بزواله عن وجه الجسم، ثم يعبر بالمخدود عن المهزول والخداد: وسم في الخد.
وقال غيره: سمي الخدُّ خدَّا؛ لأن الدموع تخُد فيه أخاديدَ، أي: مجاري، وجمع الأخدود: أخاديد، والمخدَّة؛ لأن الخد يوضع عليها، ويقال: تخدَّد وجه [الرجل] إذا صارت فيه أخاديد من جراحٍ.
فصل في نزول السورة
هذه السورة نزلت في تثبيت المؤمنين، وتصبيرهم على أذى المشركين، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم، فيعلموا أنَّ كفارهم عند الله - تعالى - بمنزلة الأمم السابقة.
وكان من حديث أصحاب الأخدود: أنه كان لبعض الملوك ساحرٌ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب، ثم رأى في طريقه ذات يوم حيَّة قد حبست الناس، فقال: اللَّهم إن كان هذا الراهب أحبَّ إليك من الساحر فقوّني على قتل هذه الحيَّة، وأخذ حجراً فرماها به فقتلها، فأعرض الغلام عن تعلم السحر، واشتغل بطريقة الراهب، ثم صار إلى حيث يبرئُ الأكمه والأبرص، ويشفي من الأذى، فاتفق أن عميَ جليس الملك، وأتاه بهدايا كثيرة، وقال له: إن أنت شفيتني، فهي لك أجمع، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله - تعالى - دعوته شفاك، فآمن بالله، فشفاه الله، فأبرأه فلما رآه الملك، قال: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربَّي، فغضب الملك وقال: هل لك ربٌّ غيري؟ قال: ربِّي وربُّك الله، فعذبه حتى دلَّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: يا بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنَّما يشفي الله تعالى، فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب، فجئ بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقَّه حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبلِ كذا وكذا، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه من ذُروتهِ، فذهبوا به، وصعدوا به الجبل، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فزَحَفَ بهم الجبلُ، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، وقال: احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر،(20/248)
فإن رجع عن دينه وإلاَّ فأغرقوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، ونجا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه , وقال: احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر , فإن رجع عن دينه وإلاَّ فأغرقوه , فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت , فانكفأت بهم السفينة , فغرقوا , ونجا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله , وقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ، وتصلبني على جذعِ نخلةٍ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبدِ القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم به واضرب، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، فوضعه في القوسِ، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ورماه به فوقع السهم على صدغه، فمات، فقال الناس: آمنَّا برب الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السكك أوقدتْ فيها النيران، وقال: من لم يرجع منهم طرحته فيها، حتى جاءت امرأة ومعها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الصبي: يا أمَّاه، اصبري، فإنَّك على الحق، فصبرت على ذلك.
وفي رواية: أنَّ الدابة التي حبست الناس كانت أسداً، وأن الغلام دفن، قيل: إنه خرج في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أن النار ارتفعت من الأخدود، فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعاً فأحرقتهم.
وقال الضحاكُ: هم قوم من النصارى باليمن قبل مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأربعين سنة، أخذهم يوسفُ بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيِّفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً، وأحرقهم فيه. حكاه الماورديُّ. وروي غير ذلك.
قال مقاتلٌ: أصحاب الأخدود ثلاثة: واحدٌ بنجران، والآخر: بالشَّام، والآخر: بفارس، أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصّر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس، فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران.
قال الكلبي: هم نصارى نجران، أخذوا بها قوماً مؤمنين، فخذوا لهم سبعة(20/249)
أخاديد، كل أخدود أربعون ذراعاً، وعرضه اثنا عشر ذراعاً، ثم طرحوا فيه النفط، والحطب، ثم عرضوهم عليها فمن أبى قذفوه فيها.
فصل في المراد بأصحاب الأخدود
قال ابن الخطيب: يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود: القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم: المقتولين، والمشهور أنَّ المقتولين هم: المؤمنون.
وروي أن المقتولين هم الجبابرة، روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفَّار فأحرقتهم، ونجَّى الله - تعالى - المؤمنين منها سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنسٍ، والواحدي، وتأولوا قوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] أي: في الآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} [البروج: 10] في الدنيا، فإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالقاتلين، فيكون قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} دعاءٌ عليهم أي: لعن أصحاب الأخدود كقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] ، {قُتِلَ الخراصون} [الذاريات: 10] .
أو يكون المعنى: قتلوا بالنار كما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم.
وإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار، فيكون ذلك خبراً لا دعاء.
فصل في المقصود من هذه الآية
المقصود من هذ الآية: تثبيت قلوب المؤمنين بإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد، وذكر لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار، ليتأسَّوا بهذا الغلام في صده على الأذى والصلب وبذله نفسه في إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسُّك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.
قوله: {النار} . العامة: على جرها، وفيها أوجه:
أحدها: أنه بدل من «الأخدود» بدل اشتمال؛ لأن «الأخدود» مشتمل عليها، وحينئذ فلا بد من الضمير.
فقال البصريون: مقدرٌ، تقديره: النار.
وقال الكوفيون: «أل» قائمةٌ مقام الضمير، تقديره: ناره، ثم حذف الضمير، وعوِّض عنه «أل» [وتقدم البحث معه في ذلك] .(20/250)
الثاني: أنَّه بدل من كل، ولا بد حينئذ من حذف مضاف، تقديره: أخدود النار.
الثالث: أن التقدير: ذي النَّار؛ لأنَّ الأخدود هو الشق في الأرض، حكاه أبو البقاء.
وهذا يفهم أنَّ النَّار خفض بالإضافة لتلك الصفة المحذوفة، فما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه في الإعراب، واتفق أن المحذوف كان مجروراً، وقوله: إن الأخدود هو الشق، تعليل بصحة كونه صاحب نار.
الرابع: أن النار خفض على الجوار، نقله مكيٌّ عن الكوفيين.
وهذا يقتضي أن النار كانت مستحقة لغير الجر، فعدل عنه إلى الجر للجوار، والذي يقتضي الحال أنه عدل عن الرفع، ويدل على ذلك أنه قد قرئ في الشاذ: «النَّارُ» رفعاً، والرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، تقديره: هي النار وقيل: بل هي مرفوعة على الفاعلية تقديره قتلهم: أي: أحرقتهم، والمراد حينئذ بأصحاب الأخدود: المؤمنون.
وقرأ العامة: «الوَقُودِ» بفتح الواو، والحسنُ، وأبو رجاء، وأبو حيوة، وعيسى: بضمها، وتقدمت القراءتان في أول «البقرة» .
قوله تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} . العامل في «إذ» إما: «قُتِلَ أصحاب» ، أي: قتلوا في هذا الوقت.
وقيل: اذكر، مقدراً، فيكون مفعولاً به، ومعنى قعودهم عليها أي: على ما يقرب منها كحافتها؛ ومنه قول الأعشى: [الطويل]
5154 - تُشَبُّ لِمقْرُورَيْنِ يَصْطلِيانِهَا ... وبَاتَ على النَّارِ النَّدَى والمُحلقُ
وقال القرطبيُّ: ومعنى «عليها» أي: «عندها» و «على» بمعنى: «عند» ، والضمير في «هم» يجوز أن يكون للمؤمنين، وأن يكون للكافرين.
قوله: {وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ} . أي: حضور، يعني: الكفَّار كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبي ألقوهُ في النار.
وقيل: «على» بمعنى: «مع» أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.(20/251)
قال ابن الخطيب: و «على» بمعنى: «عند» كقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} [الشعراء: 14] أي: عندي.
[وقوله: «شهودٌ» إما حضور قاسية قلوبهم لا يرقون على المؤمنين، أو هم مجدون في ذلك لا يخطر لهم أنه حق.
أو يكون المراد وصف المؤمنين بالتصلُّب في دينهم، والثبات عليه، وإن لم يؤثر فيهم حضور هؤلاء، ولا استحيوا من مخالطتهم.
وإما أن يكون المراد بشهودهم شهادة الدعوة؛ أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بما فعلوا بالمؤمنين.
وإما أنهم متثبّتون في فعلهم متبصرون فيه كما يفعل الشهود، ثم لا يرحمونهم مع ذلك] .
قوله: {وَمَا نَقَمُواْ} ، العامة، على فتح القاف.
وزيدُ بن عليٍّ، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: بكسرها، والفصيح: الفتح. وقد تقدم ذلك في سورة «المائدة» و «براءة» .
والمعنى: ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرَّقوهم {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} إلاَّ أن صدقوا بالله؛ كقوله: [الطويل]
5155 - ولا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكلةِ عَيْنهَا ... كَذاكَ عِتاقُ الطَّيْرِ شُكلٌ عُيونُهَا
وكقول ابن الرقيَّات: [المنسرح]
5156 - ما نَقَمُوا من بَنِي أميَّة إلْ ... لا أنَّهُم يَحْلمُونَ إنْ غَضِبُوا
يعني أنهم جعلوا أحسن الأشياء قبيحاً وتقدم الكلام على محل «أن» أيضاً في سورة «المائدة» .
وقوله تعالى: {أَن يُؤْمِنُواْ} أتى بالفعل المستقبل تنبيهاً على أنَّ التعذيب إنما كان لأجل إيمانهم في المستقبل، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى من الإيمان، فكأنه قيل: أن يدوموا على إيمانهم، و «العَزِيز» هو الغالب المنيع، «الحميد» : المحمود في كل حال.(20/252)
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} : لا شريك له فيهما.
{والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: عالم بأعمال خلقه لا يخفى عليه خافية، وهذا وعد عظيم للمطيعين، ووعيد للمجرمين.(20/253)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
قوله: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} : لما ذكر قصة أصحاب الأخدود، أتبعها بما يتفرع من أحكام الثواب والعقاب، فقال تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} أي: حرقوهم بالنار، والعرب يقولون: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته، ودينار مفتون، ويسمى الصائغ: فتّان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي: فضة محرقة، ويقال للحرة: فتين وهي الأرض التي تركبها حجارة سوداء، كأنما أحرقت حجارتها بالنار لسوادها.
وقال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد بالذين فتنوا: كل من فعل ذلك؛ لأن اللفظ والحكم عام.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} أي: من قبيح صنيعهم، وهذا يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وذلك يدلّ على القطع بأن الله يقبل التوبة، فدلَّ على أن توبة القاتل عمداً مقبولة.
قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} . هو خبر «إنَّ الذينَ» دخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط، ولا يضر نسخه ب «إن» خرفاً للأخفش.
وارتفاع «عذاب» يجوز على الفاعلية بالجار قبله لوقوعه خبراً، وهو الأحسن، وأن يرتفع بالابتداء، والمعنى: لهم عذاب جهنَّم لكفرهم.
وقيل: ولهم عذاب الحريق أي: ولهم في الآخرة عذابُ الحريق، والحريق: اسم من أسماء جهنم كالسعير، والنَّار دركات وأنواع، ولها أسماء، وكانوا يعذبون بالزَّمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق.
والأول: عذاب ببردها.
والثاني: عذاب بحرِّها.(20/253)
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} . أي: هؤلاء الذين آمنوا بالله، أي: صدقوا به وبرسوله {وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ} أي: بساتين.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما ذكر تعالى وعيد المجرمين، ذكر وعد المؤمنين، {ذَلِكَ الفوز الكبير} أي: العظيم الذي لا فوز يشبهه، وقال: «ذلِكَ الفوزُ» ولم يقل: تلك؛ لأن ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحضور الجنات، وتلك إشارة إلى الجنَّة الواحدة، وإخبار الله - تعالى - يدل على كونه راضياً. والفوز الكبير: هو رضا الله تعالى، لا دخول الجنة.
قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ؛ أي: أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
وقال المبرد: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} جواب القسم وقد تقدم ذلك.
والبطش: هو الأخذ بعنف، فإذا وصف بالشدة، فقد تضاعف.
قوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} ، يعني: الخلق عند أكثر العلماء يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، وروى عكرمةُ، قال: عجب الكفَّار من إحيائه تعالى الأموات.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا، ثم يعيده عليهم في الآخرة، وهذا اختيار الطبري.
قوله: {وَهُوَ الغفور الودود} : «الغَفُور» : أي: الستور لعباده المؤمنين، والودود: مبالغة في الوداد.
قال ابن عباسٍ: هو المتودّد لعباده المؤمنين بالمغفرة.
وعن المبرد، هو الذي لا ولد له، وأنشد: [المتقارب]
5157 - وأركَبُ في الرَّوعِ عُريانَةً ... ذَلُولَ الجَناحِ لَقَاحاً ودُودَا
أي: لا ولد لها تحنّ إليه.
وقيل: هو «فعول» بمعنى: «مفعول» ، كالرَّكُوب والحلُوب أي: يوده عباده الصالحون.
قوله: {ذُو العرش المجيد} قرأ الكوفيون إلاَّ عاصماً: «المجيد» بالجر.
فقيل: نعت للعرش.(20/254)
وقيل: ل «ربك» في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، قاله مكيٌّ. وقيل: لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش؛ لأنه من صفات الله تعالى.
وقرأ الباقون: بالرفع، على أنه خبر بعد خبر.
وقيل: هو نعت ل «ذو» ، واستدلَّ بعضهم على تعدد الخبر بهذه الآية، ومن منع قال: لأنها في معنى واحد، أي: جامع بين هذه الأوصاف الشريفة، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر.
والمجيد: هو النهاية في الكرم والفضل، والله - تبارك وتعالى - هو المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر المؤمنين.
ومعنى «ذو العرش» أي: ذو الملك والسلطان، كما يقال: فلان على سرير ملكه وإن لم يكن على سرير، ويقال: بلي عرشه، أي: ذهب سلطانه.
قوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أي: لا يمتنع عليه شيء يريده.
قال الزمخشريُّ: «فعالٌ» خبر مبتدأ محذوف، وإنما قيل: «فعال» ؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف؛ لأنه نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.
وعن أبي السفر قال: دخل ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعودونه، فقالوا: ألا نأتيك بطبيبٍ؟ قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قد رآنِي، قالوا: فَمَا قَال لَك؟ قال: قال: إنِّي فعَّالٌ لما أريدُ.
فصل في أن الآية دلت على خلق الأفعال
دلَّت هذه الآية على خلق الأفعال؛ لأنه تعالى يريد الإيمان، فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان، وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق.
فصل في تفسير الآية
قال القفال: «فعَّالٌ لما يُرِيدُ» أي: يفعل ما يريد على ما يراه، لا يعترض عليه ولا يغلبه غالب، فيدخل أولياءه الجنة، لا يمنعه مانع، ويدخل أعداءه النار، لا ينصرهم(20/255)
منه ناصر، ويمهمل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، فهو يفعل ما يريد.(20/256)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قوله: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود} ، أي: قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم [تَسْلِيَةً له بذلك] .
قوله تعالى: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} . يجوز أن يكون بدلاً من الجنود، وحينئذ فكان ينبغي أن يأتي البدل مطابقاً للمبدل منه في الجمعية.
فقيل: هو على حذف مضاف، أي: جنود فرعون.
وقيل: المراد فرعون وقومه، واستغني بذكره عن ذكرهم؛ لأنهم أتباعه.
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار: أعني؛ لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.
والمعنى: أنك قد عرفت ما فعل بهم حين كذبوا بأنبيائهم ورسلهم.
قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ} ، أي: هؤلاء الذين لا يؤمنون بك في تكذيب لك كدأب من قبلهم، وإنما خُصَّ فرعون وثمود؛ لأن ثموداً في بلاد العرب، وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدِّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدلَّ بهما على أمثالهما، والله أعلم.
قوله: {والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} ، أي: يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون، والمحاط به المحصور.
وقيل: والله أعلم بهم فيجازيهم.
قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} العامة: على تبعية مجيد ل «قرآن» ، وقرأ ابن السميفع بإضافة «قرآن» ل «مجيد» .
فقيل: هو على حذف مضاف، أي: قرآن رب مجيد.
كقوله: [الوافر]
5158 - ولَكِنَّ الغِنَى ربّ غَفُور ...(20/256)
أي: غنى رب غفور.
وقيل: بل هو من إضافة الموصوف إلى صفته، فتتحد القراءتان، ولكن البصريين لا يجيزون هذا لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه، ويتأولون ما ورد.
ومعنى «مَجِيدٌ» أي: متناهٍ في الشرف والكرم والبركة.
وقيل: «مَجِيدٌ» أي: غير مخلوق.
قوله: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، قرأ نافع: برفع «محفوظ» : نعتاً ل «قرآن» .
والباقون: بالجر؛ نعتاً للوح.
والعامة: على فتح اللام، وقرأ ابن السميفع وابن يعمر: بضمها.
قال الزمخشري: يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح، «محفوظ» من وصول الشياطين إليه.
وقال أبو الفضل: «اللّوح» : الهواء، وتفسير الزمخشري بالمعنى، وهو الذي أراده ابن خالويه.
قال القرطبي: «فِي لوحٍ محفُوظٍ» أي: مكتوب في لوح، وهو محفوظ عند الله - تعالى - من وصول الشياطين إليه.
وقيل: هو أم الكتاب، ومنه انتسخ القرآن والكتب.
وقال بعض المفسرين: «اللوح» شيء يلوح للملائكة فيقرءونه.
وفي «الصِّحاح» : لاح الشيء يلوح لوحاً ولواحاً: عطش، وكل عظم عريض، واللوح: الذي يكتب فيه، واللُّوح: بالضم، الهواء بين السماء والأرض. وأنشد دريد: [الرجز]
5159 - عقابُ لُوحِ الجَوِّ أعْلَى مَتْنَا ... قال ابن الخطيب: قال - هاهنا -: «فِي لَوْحٍ مَحفُوظٍ» ، وقال في آية أخرى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78] فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون، هو اللوح المحفوظ، ثم كونه محفوظاً يحتمل أن يكون محفوظاً عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة(20/257)
المقربين، ويحتمل أن يكون المراد: ألاَّ يتغيَّر ولا يتبدل. والله أعلم.
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ {والسمآء ذَاتِ البروج} أعْطَاهُ اللهُ تعَالَى بعددِ كُلِّ يوم جُمعةٍ، وكُلُّ يَوْم عَرفة، يكُونُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حسَناتٍ» .(20/258)
سورة الطارق(20/259)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
مكية، وهي سبع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وإحدى وسبعون حرفا. قوله تعالى: {والسمآء والطارق} ، «السَّماءِ» : قسم، و «الطَّارقِ» : قسم، والطَّارقُ: هو النَّجم الثاقب، كما بينهُ الله تعالى بقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق النجم الثاقب} .
والطارق في الأصل: اسم فاعل من: طرق يطرق طروقاً: أي: جاء ليلاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
5160 - فَمِثْلكِ حُبْلَى قَدْ طَرقتُ ومُرضعٍ ... فألْهَيْتُهَا عَنِ ذِي تَمائِمَ مُحْولِ
وأصله من الضرب، والطَّارقُ بالحصى: الضارب به؛ قال: [الطويل]
5161 - لعَمْرُكَ، ما تَدْرِي الطَّوارِقُ بالحَصَى ... ولا زَاجِراتُ الطَّيْرِ ما اللهُ صَانِعُ
ثم اتُّسعَ فقيل لكل من أتى ليلاً: طارق، سواء كان كوكباً، أو غيره، ولا يكون الطارقُ نهاراً.
وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نهى أن يأتي الرجل أهله طروقاً» .(20/259)
وقوله: {النجم الثاقب} ، قال محمد بن الحسين: هو زُحَل.
وقال ابن زيد: هو الثُّريَّا - أيضاً -: أنه زُحَل.
وعن ابن عباس: هو الجديُ، وعن عليٍّ بن أبي طالب والفرَّاء، «النَّجْمُ الثَّاقبُ» : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط، فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وحين يهبط.
وفي «الصحاح» : «الطَّارقُ: النجم الذي يقال له: كوكب الصبح» .
ومنه قول هند: [الرجز]
5162 - نَحْنُ بَناتُ طَارق ... نَمْشِي عَلى النَمارِق
وقيل: هو اسم جنس، فيدخل فيه سائر الكواكب، وسمي ثاقباً؛ لأنه يثقب الظَّلام بضوئه، أي: ينفذ فيه. أي يرمي الشيطان فيحرقه.
قال الماورديُّ: وأصل الطرقِ، الدَّق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل: طارقاً، لاحتياجه في الوصول إلى الدق.
ورُوِيَ «أنَّ أبا طالبٍ أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطَّ نجم فامتلأت الأرض نوراً، ففزع أبو طالب، وقال: أيُّ شيءٍ هذا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَذَا نجمٌ رُمِي بِهِ، وإنَّهُ مِنْ آياتِ اللهِ «فعجب أبو طالب، ونزلت السورة» .
وقال مجاهد: «الثاقب» : المتوهِّج.
قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ} تفخيم لشأن هذا المقسم به.
قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} . قد تقدم في سورة «هود» : التخفيف والتشديد في «لما» ، فمن خففها - هنا - كانت «إنْ» : مخففة من الثقيلة، و «كل» : مبتدأ، و «عليها» :(20/260)
خبر مقدم، و «حافظ» : مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «كل» ، و «ما» : مزيدة بعد اللام الفارقة، ويجوز أن يكون «عليها» : هو الخبر وحده، و «حافظ» : فاعل به، وهو أحسن، ويجوز أن يكون «كل» : مبتدأ، و «حافظ» : خبره، و «عليها» متعلق به، و «ما» : مزيدة أيضاً، هذا كله تفريع على قول البصريين.
وقال الكوفيون: «إنْ» هنا: نافية، واللام بمعنى «إلاّ» إيجاباً بعد النفي، و «ما» : مزيدة وتقدم الكلام في هذا مستوفى.
قال الفارسي: ويستعمل «لما» بمعنى: «إلاَّ» في موضعين:
أحدهما: هذا، والآخر: في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت.
ورُوِيَ عن الكسائيِّ والخفش وأبو عبيدة أنهم قالوا: لم نجد «لما» بمعنى: «إلا» في كلام العرب.
وأما قراءة التشديد: ف «إن» نافية، و «لمَّا» بمعنى: «إلا» وتقدمت شواهد ذلك في سورة «هود» .
وحكى هارون: أنه قرئ «إنَّ» بالتشديد، «كُلَّ» بالنصب على أنه اسمها، واللام: هي الدالخة في الخبر، و «ما» : مزيدة، و «حافظ» : خبرها.
وعلى كل تقدير ف «إن» وما في خبرها: جواب القسم سواء جعلها مخففة أو نافية.
وقيل: الجواب: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ} [الطارق: 8] وما بينهما اعتراض؛ وفيه بعد.
فصل في المراد بالحافظ
قال قتادةُ: «حافظ» أي: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك، قال تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] ، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] .
وقيل: الحافظ: هو الله تعالى.
وقيل: الحافظ: هو العقل يرشد الإنسان إلى مصالحه، ويكفّه عن مضارِّه.
قال القرطبي: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله تعالى، قال الله(20/261)
تعالى: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} [يوسف: 64] ، وقال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن} [الأنبياء: 42] وما كان مثله.
قال ابن الخطيب: المعنى: لما كانت كل نفس عليها حافظ، وجب أن يجتهد كل واحد، ويشتغل بالمهم، وأهم الأشياء معرفة المبدأ والمعاد والمبدأ يقدم.(20/262)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
قوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان} ، أي: ابن آدم، «مَمَّ خُلِقَ» ، وجه الاتصال بما قبله وصية الإنسان بالنظر في أول أمره حتى يعلم أنَّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فليعمل ليوم الإعادة والحشر والجزاء، ولا يملي على الحافظ إلا ما يسرُّه في عاقبه أمره.
وقوله تعالى: {مِمَّ خُلِقَ} ، استفهام، أي: من أيِّ شيء خلق، وهو جواب الاستفهام.
قوله: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} . فاعل بمعنى مفعول [كعكسه في قولهم: سيل مفعم] ، كقوله تعالى: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] على وجه.
وقيل: «دافِق» على النسب، أي: ذو دفق أو اندفاقٍ.
وقال ابنُ عطية: يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأن بعضه يدفق بعضاً، أي: يدفقه، فمنه دافق، ومنه مدفوق انتهى.
والدَّفقُ: الصَّبُّ، ففعله متعدٍّ.
وقرأ زيد بن علي: «مَدْفُوقٍ» وكأنَّه فسر المعنى.
قال القرطبيُّ: الصبُّ: دفقُ الماء، دفقت الماء، أدفقُه دفقاً، أي: صببته فهو ماء دافق، أي: مدفوق، كما قالوا: سرٌّ كاتم، أي: مكتوم؛ لأنه من قولك: دُفق الماء على ما لم يسم فاعله، ولا يقال: دَفق الماء، ويقال: دفق الله روحه: إذا دعى عليه بالموت.
قال الفرَّاء والأخفش: «ماءٍ دافقٍ» : أي مصبوب في الرَّحمِ.
وقال الزجاج: «مِن ماءٍ ذي انْدفاقٍ» ، يقال: دَارع، وفَارِس، ونَابِل، أي ذو فَرسٍ ودِرعٍ ونَبلٍ، وهذا مذهب سيبويه.
والدَّافق: هو المندفق بشدة قوته، وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما.(20/262)
وقال ابن عباس: «دافق» لزج.
قوله: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} ، أي: هذا الماء من بين الصلب، أي: الظَّهر وقرأ العامة: «يَخْرجُ» مبنياً للفاعل، وابنُ أبي عبلة وابن مقسم: مبنياً للمفعول. وقرأ - أيضاً -: وأهل «مكة» : «الصُّلُبِ» بضم الصاد واللام.
وقرأ اليماني: بفتحها؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
5163 - فِي صَلبٍ مِثلِ العِنانِ المُؤدَمِ ... [وفيه أربع لغات: «صُلْب، وصُلُبٌ، وصَلَبٌ، وصَالب، ومنه قوله] : [المنسرح]
5164 - تُنْقَلُ من صَالَبٍ إلى رحِمٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
والترائب: جميع تريبة، وهي موضع القلادة من عظام الصَّدر؛ لأن الولدَ مخلوق من مائهما؛ فماء الرجل في صلبه، وماء المرأة في ترائبها، وهو معنى قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل]
5165 - مُهْفَهَفةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ ... تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال آخر: [الكامل]
5166 - والزَّعْفرَانُ على تَرائِبهَا ... شَرِقٌ بِهِ اللّبَّاتُ والنَّحرُ(20/263)
وقال المثقب العبديُّ: [الوافر]
5167 - ومنْ ذَهَبٍ يَلوحُ عَلى تَريبٍ ... كَلوْنِ العَاجِ لَيْسَ لَهُ غُضُونُ
وقال الشاعر: [الرجز]
5168 - أشْرَفَ ثَدْيَاهَا على التَّريبِ ... وعن ابن عباسٍ وعكرمة: الترائب: ما بين ثدييها.
وقيل: التَّرائب: التراقي.
وقيل: أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.
وحكى الزجاجُ: أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر.
وعن ابن عبَّاسٍ: أطراف المرء، يداه ورجلاه وعيناه، وهو قول الضحاك.
وقيل: عصارة القلب، وهو قول معمر بن أبي حبيبة.
قال ابنُ عطية: وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: هو الجيد.
وقال مجاهد: ما بين المنكبين والصدر.
وقال القرطبيُّ: والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصَّدْر والنَّحْر.
جاء في الحديث: أن الولد يخلقُ من ماء الرجل، يخرج من صلبه العظم والعصب، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم.
حكى القرطبيُّ: أنَّ ماء الرجل يخرج من الدِّماغ، ثم يجتمع في الأنثيين، وهذا لا يعارض: «مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ» ؛ لأنه إن نزل من الدِّماغ، فإنما يمرُّ بين الصلب والترائب.
قال قتادةُ: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة.(20/264)
وحكى الفراء: أنَّ مثل هذا يأتي عن العرب، فيكون معنى ما بين الصلب: من الصلب.
والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة، ثم إنَّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيراً، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني، وأيضاً فالمكثر من الجماع يجد وجعاً في صلبه وظهره، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء.
قال المهدويُّ: من جعل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في «يخرج» للماء، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان.
قوله: {إِنَّهُ} . الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى: {خُلِقَ} ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه.
قوله: {على رَجْعِهِ} ، في الهاء وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة، وهو اختيار الطبري، لقوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر} .
والثاني: أنه ضمير الماء، أي: يرجع المنيّ في الإحْليل أو الصلب.
قاله الضحاكُ ومجاهدٌ، والأول قول الضحاك أيضاً وعكرمة.
[وعن الضحاك أيضاً أن المعنى أنه رد الإنسان من الكِبَرِ إلى الشباب، ومن الشباب إإلى الكبر. حكاه المهدوي.
وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصِّبا ومن الصِّبا إلى النُّطفة.
وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر.
وقال الماوردي: يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة، والرجع مصدر رجعت الشيء أي: رددته] .(20/265)
قوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} . فيه أوجه، وقد رتبها أبو البقاءِ على الخلاف في الضمير، فقال: على القول بكون الضمير للإنسان، فيه أوجه:
أحدها: أنه معمول ل «قادر» .
إلاَّ أنَّ ابن عطية قال - بعد أن حكى أوجهاً عن النحاة -: «وكل هذه الفرق فرَّت من أن يكون العامل» لقادر «، لئلاَّ يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحدهُ» .
ثم قال: «وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل» لقادر «، وذلك أنه قال:» إنَّه على رجعهِ لقادرٌ «؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى.
الثاني: أن يكون العامل مضمر على التبيين، أي: يرجعه يوم تبلى.
الثالث: تقديره: اذكر، فيكون مفعولاً به، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه: اذكر» انتهى ملخصاً.
وجوَّز بعضهم أن يكون العامل فيه «نَاصِرٍ» ، وهو فاسد؛ لأن ما بعد «ما» النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما.
وقيل: العامل «رَجْعِهِ» وهو فاسدٌ؛ لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو خبر «إنَّ» . وبعضهم يقتصره في الظرف.
قوله: «تُبلَى» تختبر وتعرف؛ قال الراجز: [الرجز]
5169 - قَدْ كُنْتَ قَبْلَ اليَوْم تَزْدَرينِي ... فاليَومَ أبْلُوكَ وتَبْتَلِينِي
أي: أعرفك وتعرفني.
وقيل: {تبلى السرآئر} تخرج من مخبآتها وتظهر، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير، أو شر، وأضمره من إيمان، أو كفر.
قال ابن الخطيب: والسرائرُ: ما أسر في القلوب، والمراد هنا: عرض الأعمال، ونشر الصحف، أو المعنى: اختبارها، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ائْتَمَنَ اللهُ - تعَالَى - خَلقهُ على أرْبَع: الصَّلاةِ، والزَّكاةِ والصِّيام، والغُسْلِ، وهُنَّ السَّرائِرُ الَّتي يَختبِرُهَا اللهُ - عزَّ وجلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ» ذكره المهدوي.
وروى الماورديُّ عن زيدٍ بن أسلم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الأمَانَةُ ثلاثٌ:(20/266)
الصَّلاةُ، والصَّومُ، والجنَابةُ، اسْتأمَنَ اللهُ - تعالى - ابْنَ آدمَ على الصَّلاةِ، فإن شاء قال: صلَّيْتُ، ولمْ يُصَلِّ، واسْتأمنَ اللهُ تعالى ابْنَ آدَم على الصَّوم، فإنْ شَاءَ قَالَ: [صُمْتُ ولَمْ يَصُمْ واسْتَأمنَ اللهُ تعالى ابْن آدمَ على الجَنابةِ فإنْ شَاءَ قَال:] اغْتسَلت ولمْ يَغْتسِلْ، اقْرَأوا إن شِئْتُم: {يَوْمَ تبلى السرآئر} » .
[وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الوضوء من السرائر، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد] .
وقال ابن العربيِّ: قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يغفر للشهيد إلاَّ الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، وإذا أراد ان يخرج بها زلت، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، فهو كذلك دهر الداهرين.
وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرآة على فرجها.
وقال سفيان: الحيضة والحمل من الأمانة، إن قالت: لم أحضْ وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة.
قوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} ، أي: فما الإنسان من قوَّة، أي: منعةٍ تمنعه، ولا ناصرٍ ينصره عن ما نزل به.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة، لقوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] الآية.
والجواب ما تقدم.(20/267)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
قوله: {والسمآء ذَاتِ الرجع} .
قيل: الرَّجْعُ: مصدر، بمعنى رجوع الشمس والقمر إليها، والنجوم تطلع من ناحيته، وتغيب في أخرى.(20/267)
وقيل: الرَّجْعُ: المطر؛ قال: المتنخِّل، يصف سيفاً يشبههُ بالماء: [السريع]
5170 - أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذَا ... ما ثَاخَ في مُحْتفلٍ يَخْتَلِي
وقال: [البسيط]
5171 - رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأوِي لقُلَّتِهَا ... إلاَّ السَّحَابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ
وقال الخليل: المطر نفسه، وهذا قول الزجاج.
قال ابن الخطيب: واعلم أن كلام الزجاج، وسائر علماء اللغة «صريح» في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر، بل سمي رجعاً مجازاً، وحسن هذا المجاز وجوه:
أحدها: قال القفال: كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته، ووصل الحروف به، وكذا المطر، لكونه يعود مرة بعد أخرى سمِّي رجعاً.
وثانيها: أن العرب كانوا يزعمون أنَّ السَّحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض.
والرجع - أيضاً - نبات الربيع.
وقيل: «ذَاتِ الرَّجْعِ» أي: ذات النفع.
وقيل: ذات الملائكة، لرجوعهم فيها بأعمال العباد، وهذا قسم.
{والأرض ذَاتِ الصدع} قسمٌ آخر، أي: تتصدع عن النبات، والشجر، والثمار، والأنهار، نظيره: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 26] .
والصَّدعُ: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتصدع به، وكأنَّه قال: والأرض ذات النبات الصادع للأرض.
وقال مجاهد: الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة.
وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها.
وقيل: ذات الأموات لانصداعها للنشور.
وقيل: هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} [الأنبياء: 31] .(20/268)
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّه تعالى، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات.
فقال تعالى: {والسمآء ذَاتِ الرجع} أي: كالأب، «والأرض ذات الصدع» كالأم، وكلاهما من النعم العظام؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك، ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه، وهو قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} . وهذا جواب القسم، والضمير في «إنَّه» للقرآن، أي: إن القرآن يفصل بين الحق والباطل.
وقال القفالُ: يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى: ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل، وحق، والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل، ومنه فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجزم، [ويقال: هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع.
وقيل: معناه جد] لقوله: {وَمَا هوَ بالهزل} . أي: باللعب، والهزل: ضد الجد والتشمير في الأمر، يقال: هزل يهزل.
قال الكميتُ: [الطويل]
5172 - تَجُدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَومٍ وتهْزِلُ ... قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ، أي: أنَّ أعداء الله يكيدون كيداً، أي: يمكرون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه مكراً.
قيل: الكَيْدُ: إلقاء الشبهات، كقولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا}
[المؤمنون: 37] {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} [ص: 5] {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] .
وقيل: الطعن فيه بكونه ساحراً، أو شاعراً، او مجنوناً، حاشاه من ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: قصدهم قتله، لقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30] الآية.
وأما قوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} . أي: أجازيهم جزاء كيدهم.(20/269)
وقيل: هو ما أوقع الله - تعالى - بهم يوم «بدر» من القتل، والأسر.
وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون.
وقيل: كيد الله تعالى، بنصره وإعلاء درجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسمية لأحد المقتابلين باسم الآخر، كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ؛ وقول الشاعر: [الوافر]
5173 - ألاَ لاَ يجْهلَنْ أحَدٌ عليْنَا ... فَنجهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينَا
وقوله تعالى: {نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] . قوله: {فَمَهِّلِ الكافرين} . أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل، وارض بما تريده في أمورهم، ثم نسخت بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
قوله: {أَمْهِلْهُمْ} . هذه قراءة العامة، لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين.
وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «مَهِّلهُمْ» كالأول، ومهَّل وأمْهَل بمعنى مثل: نزل وأنزل، والإمهال والتَّمهيل: الانتظار، يقال: أمهلتك كذا، أي: انتظرتك لتفعله، والاسم: المهلة والاستمهال: الانتظار، والمَهْل: الرِّفقُ والتُّؤدةُ، وتمهل في أمره: أي: أتاه، وتمهَّلَ تمهيلاً: اعتدل وانتصب، والامتهال: سكون وفتور، ويقال: مهلاً يا فلان، اي رفقاً وسكوناً.
قوله: {رُوَيْداً} . مصدر مؤكد لمعنى العامل، وهو تصغير إرواد على الترخيم، وقيل: بل هو تصغير «رود» كذا قال أبو عبيد.
وأنشد: [البسيط]
5174 - كَأنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوَدِ ... أي: على مهل. واعلم أن «رويداً» : يستعمل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعله، فيضاف تارة، كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] ، ولا يضاف أخرى، نحو: رويداً زيداً ويقع حالاً، نجو: ساروا رويداً، أي: متمهلين، ونعت المصدر، نحو: «ساروا رويداً» ، أي: سيراً رويداً، وتفسير «رويداً» مهلاً، وتفسير «رويدك» أمهل؛ لأن الكاف إنمت تدخله إذا كان بمعنى: «افعل» دون غيره، وإنَّما حُرِّكت الدال لالتقاء الساكنين، ونصب نصب(20/270)
المصادر، وهو مصغَّر مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من «إرواد» : وهو مصدر: «أرود، يرود» وله أربعة أوجه: اسماً للفعل، وصفة، وحالاً، ومصدراً، وقد تقدم ذكرها.
قال ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «رويداً» أي: قريباً.
وقال قتادةُ: قليلاً.
وقيل: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} إلى يوم القيامة، وإنما صغِّر ذلك من حيث إن كل آت قريب.
وقيل: «أمهلهم رويداً» إلى يوم يرد.
روى الثعلبي عن أبي بن كعبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {والسمآء والطارق} اعطاهُ اللهُ تعَالى مِنَ الأجْرِ بعَددِ كُلِّ نجمٍ في السَّماءِ عَشْرَ حَسَناتٍ» والله تعالى أعلم.(20/271)
سورة الأعلى
مكية في قول الجمهور.(20/272)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
وقال الضحاك: مدنية، وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} . يستحب للقارئ إذا قرأ: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أن يقول عقيبه: «سبحان ربي الأعلى» كذا جاء في الحديث، وقال جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابنُ عباسٍ والسديُّ: معنى «سبح اسم ربك الأعلى» أي: عظِّم ربك الأعلى، والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى.
كقول لبيد: [الطويل]
5175 - إلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
[وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقوله الملحدون، وذكره الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى على أن تسمي به أحداً سواه.
وقيل: المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم لذكره، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية] .(20/272)
قال ابن الخطيب: معنى {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أي: نزهه عن كل ما لا يليق به في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي أسمائه، وفي أحكامه.
أمَّا في ذاته، فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض.
وأما في صفاته، فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة.
وأمَّا في أفعاله، فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور.
وقالت المعتزلة: هو أن تعتقد أن كل ما فعله صواب حسن، وأنه سبحانه لا يفعل القبيح، ولا يرضى به، وأما في أسمائه: فأن لا تذكره - سبحانه وتعالى - إلاَّ بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه، سواء ورد الإذن فيها أو لم يرد.
وأمَّا في أحكامه: فهو أن تعلم أن ما كلفنا به ليس لنفعٍ يعود إليه، بل لمحض المالكية على قولنا، او لرعاية مصالح العباد على قول المعتزلة.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الاسم نفس المسمى
قال ابن الخطيب: تُمسِّك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى.
وأقول: الخوض في هذه المسألة لا يمكن إلا بعد الكشف عن محل النزاع، فنقول: إن كان الاسم عبارة عن اللفظ؛ والمسمى عبارة عن الذات، فليس الاسم المسمى بالضرورة، فكيف يمكن الاستدلال على ما علم بالضرورة؟ نعم هنا نكتة، وهي أن الاسم هو اللفظ الدَّال على معنى في نفسه من غير زمن، والاسم كذلك، فيكون اسماً لنفسه، فالاسم هنا نفس المسمى، فعلى هذا يَرِدُ من أطلق ذلك؛ لأن الحكم بالتعميم خطأ، والمراد: الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى هو أن أحداً لا يقول: سبحان الله وسبحان اسم ربنا، فمعنى «سبح اسم ربك» سبح ربك، والربُّ أيضاً اسم، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه.
وهذا الاستدلال ضعيف، لما بيَّنا أنه يمكن أن يكون وارداً بتسبيح الاسم، ويمكن أن يكون المراد: سبح المسمى، وذكر الاسم صلة فيه، ويكون المراد: سبح باسم ربك، كما قال تعالى:
{فَسَبِّحْ
باسم
رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74] ، ويكون المعنى: سبح بذكر أسمائه.
فصل في تفسير الآية
روى أبو صالحٍ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: صلِّ بأمر ربك الأعلى قال: وهو أن يقول: «سُبحانَ ربيّ الأعْلَى» وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عباسٍ، وابن(20/273)
عمر وابن الزبيرِ، وأبي موسى، وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة، قالوا: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى» وامتثالاً لأمره في ابتدائها، فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم، لا أن سبحان ربيّ الأعلى من القرآن، كما قاله بعض أهل الزَّيْغ.
وقيل: إنَّها في قراءة أبيّ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى» .
وروى ابن الأنباري بإسناده إلى عيسى بن عمر عن أبيهِ، قال: قرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في الصلاة: «سَبِّح اسْمَ رَبِّك الأعْلَى» ، ثم قال: سبحان ربي الأعلى، فلما انقضت الصلاة، قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى، قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته.
وعن عقبى بن عامرٍ الجهنيِّ، قال: «لما نزلت {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اجْعَلُوهَا في سُجودِكُمْ «.
قال القرطبيُّ:» هذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربي الأعلى «.
وقيل: معناه: ارفع صوتك بذكر ربك؛ قال جرير: [الكامل]
5276 - قَبَحَ الإلهُ وجُوهَ تَغْلبَ كُلَّمَا ... سَبحَ الحَجيجُ وكبَّرُوا تَكْبِيرَا
قوله:» الأعلى «: يجوز جره:» صفة «ل» ربك «، ونصبه صفة ل» اسم «، إلا أن هذا يمنع أن يكون» الذي «صفة ل» ربك «، بل يتعين جعله نعتاً ل» اسم «، أو مقطوعاً لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره؛ إذ يصير التركيب، مثل قولك: جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنة، فيفصل ب» العاقل «بين» هند «وبين صفتها. وتقدم الكلام في إضافة الاسم إلى المسمى.
قوله: {الذي خَلَقَ فسوى} .
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يريد النَّاس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان،(20/274)
ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه الله تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً:
أحدها: اعتدال قامته، وحسن خلقته على ما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] .
وثانيها: أن كل حيوان مستعد لنوعٍ واحدٍ من الأعمال فقط، وأما الإنسان، فإنه خلقه بحيثُ يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات.
وثالثها: أنه - تعالى - هيأه للتكليف، والقيام بأداء العبادات.
قال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء، وسوَّى في أرحام الأمهات، ومن حمله على جميع الحيوانات، فمعناه: أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ، وأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات، علم بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام والإتقان، مبرأ عن النقص والاضطراب.
قوله: {والذي قَدَّرَ فهدى} ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلميُّ: «قدر» بتخفيف الدال، والباقون: بالتشديد.
والمعنى: قدر كل شيء بمقدار معلوم.
ومن خفف، قال القفَّال: معناه: ملك فهدى، وتأويله: انه تعالى خلق كل شيء، فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك، فهداه لمنافعه ومصالحه.
ومنهم من قال: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ، وعليه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] بالتشديد والتخفيف، وقد تقدم.
فصل في معنى الآية
قال مجاهدٌ: قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، وعنه: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها.
وقيل: قدَّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.(20/275)
وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى: «فَهدَى» : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى، كما قال تعالى في سورة «طه» : {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، أي: الذكر للأنثى.
وقال عطاء: جعل لكل دابَّة ما يصلحها، وهداها له.
وقيل: «قدَّر فَهَدى» أي: قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه، فهداهُ إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، يقال: إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض، يرد إليها بصرها، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوى تلك المسافة على طولها، وعماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج، لا تخطئها، فتحك بها عينها، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
[وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور، وهوام الأرض باب ثابت واسع، فسبحان ربي الأعلى] .
وقال السديُّ: قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه إلى الخروج من الرحم.
وقال الفراء: «قدَّى فهَدى» أي: وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، ويحتمل أن يكون بمعنى «دَعَا» إلى الإيمان كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان] .
وقيل: «فَهَدَى» أي: دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً.
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى، هي معتمد الأنبياء.
قال إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}
[الشعراء: 78] .
وقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لفرعون: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وقال هنا ذلك، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها.
قوله: {والذي أَخْرَجَ المرعى} ، أي: النبات، لما ذكر سبحانه ما يختص بالناس، أتبعه بما يختص بسائر الحيوان من النعم، أي: هو القادر على إنبات العشب، لا كلأصنام التي عبدتها الكفرةُ، والمرعى: ما تخرجه الأرض من النبات، والثمار، والزروع، والحشيش.(20/276)
قال ابنُ عبَّاسٍ: «المرعى» : الكلأ الأخضر.
قوله: {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى} . «غثاء» : إما مفعول ثانٍ: وإما حال.
«والغُثَّاء» : - بتشديد الثاء وتخفيفها - وهو الصحيح، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
5177 - كَأنَّ طَميَّاتِ المُجيمِرِ غُدوَةً ... مِن السَّيْلِ والأغْثَاءِ فلكةُ مِغْزَلِ
ورواه الفراء: «والأغثاء» على الجمع، وفيه غرابة من حيث جمع «فعالاً» على «أفعال» .
قوله تعالى: {أحوى} . فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نعت ل «غثاء» .
والثاني: أنه حال من المرعى.
قال أبو البقاء: «فقدَّم بعض الصلة» ، يعني: ان الأصل أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء.
قال شهابُ الدِّين: ولا يسمى هذا تقديماً لبعض الصلة.
والأحْوَى: «أفعل» من الحُوَّة، وهي سوادٌ يضرب إلى الخُضْرَة؛ قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]
5178 - لمْيَاءُ فِي شَفتيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفِي اللِّثاتِ وفي أنْيَابِهَا شَنَبُ
وقد استدلَّ بعض النحاة على وجود بدل الغلط بهذا البيت.
وقيل: خضرة عليها سواد، والأحْوَى «الظبي؛ لأن في ظهره خطَّين؛ قال: [الطويل]
5179 - وفِي الحيِّ أحْوَى يَنفضُ المَرْدَ شَادِنٌ ... مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ
ويقال: رجل أحْوَى، وامرأة حوَّاءُ، وجمعهما» حُوٌّ «نحو: أحْمَر وحَمْراء وحُمْر، قال القرطبيُّ:» وفي الصِّحاح «:» والحُوَّةُ: حمرة الشفة، يقال: رجل أحْوَى وامرأة(20/277)
حوَّاء وقد حويتُ، وبعير أحْوَى: إذا خالط خضرته سواد وصُفْرَة، قال: وتصغير أحْوَى: أحَيْوٍ في لغة من قال: أسَيْود «.
قال عبد الرحمن بن زيدٍ: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للكُفَّار لذهاب الدنيا بعد نضارتها، والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته.
وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه، والرطب إذا يبس اسود.(20/278)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
قوله « {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} ، قال الواحدي:» سَنُقْرِئُكَ «: أي: سنجعلك قارئاً، أي: نؤهلك للقراءة فلا تنسى ما تقرأه، أي: نجعلك قارئاً للقرآن فتحفظه، فهو نفي، أخبر الله - تعالى - أن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا ينسى.
وقيل: نهي والألف للإشباع [وقد تقدم نحو من هذا في سورة يوسف وطه] .
ومنع مكيٌّ أن يكون نهياً؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره، وهذا غير لازم، إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان، وهو الشائع: وقيل: هذا بشري من الله تعالى، بشره تعالى بأن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يفرغ من آخر الوحي، حين يتكلم هو بأوله لمخافة النسيان، فنزلت هذه الآية؛ فلا تنسى بعد ذلك شيئاً.
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} فيه أوجه:
أحدها: أنه مفرَّغ، أي: إلا ما شاء الله أن ينسيكه، فإنك تنساه، والمراد رفع تلاوته، وفي الحديث:» أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ «، لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106] .
وقيل: إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة.
قال ابن الخطيب: يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن، فإنَّه لو نسي من الواجبات، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع، وهو غير جائز، كما ورد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسقط آية في صلاته، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ، فسأله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نَسِيتُها.
وقال الزمخشريُّ: والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت(20/278)
سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله، ولم يقصد أستثني شيئاً، وهواستعمال القلة في معنى النفي» انتهى.
وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي.
قال الفراء، وجماعة معه: هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى، وليس شيى أبيح استثناؤه.
قال أبو حيان: «وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، ولا في كلام فصيح، وكذلك القول بأن» لا «للنفي، والألف فاصلة» انتهى.
وهذا الذي قاله أبو حيان: لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً، بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغة في نفي النسيان، أو النهي عنه.
وقال مكيٌّ: «وقيل: معنى ذلك إلا ما شاء الله، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً، فهو بمنزلة قوله تعالى، في سورة» هود «في الموضعين: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 107، 108] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود، لتقدم مشيئته لهم بالخلود» .
وروي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى} [الأعلى: 5] . نقله مكي.
والمعنى: ما شاء الله أن يناله بنو آدم، والبهائم، فإنه لا يضير ذلك.
قال شهابُ الدين: وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة.
قال القرطبيُّ: «قيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذا قد ينسى، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً» .
[وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه، والاستثناء نوع من النسخ.
وقيل: النسيان بمعنى الترك أي: يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي، والمعنى: لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة، والأوَّل هوالمختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً.
وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات.
وقيل: معناه: إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله] .(20/279)
فصل في كيفية تعليم القرآن
ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً:
الأول: أن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه.
وثانيها: أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه.
وثالثها: أنه تعالى لما أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول السورة بالتسبيح، فكأنه تعالى قال: واظب على ذلك، ودُمْ عليه، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين، والآخرين، ويكون فيه ذكرك، وذكر قومك، وتجمعه في قلبك.
{وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} وهوالعمل به.
فصل في الدلالة على المعجزة
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين:
الأول: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان رَجُلاً أميًّا، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة، ولا تكرار، ولا كتابة، خارقة للعادة.
والثاني: أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
فصل في المراد بالآية
قال بعضهم: المراد بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أمور:
أولها: التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] ، فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، ثم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ينس ذلك شيئاً، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما.
وثانيها: قال الفراء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه، كقوله تعالى:
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك، ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 6] مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى، بعرفه قدرته، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله، وإحسانه، لا من قوته.(20/280)
وثالثها: أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما ينزل عليه من الوحي، أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت، والتحفُّظ في جميع المواضع، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عى التيقُّظ في جميع الأحوال.
قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} الجَهْرُ: هو الإعلان من القول والعمل، «وَمَا يَخْفَى» من السرّ.
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ما في قلبك ونفسك.
وقال محمد بن حاتمٍ: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، «ومَا يَخْفَى» هو ما نسخ في صدرك.
فصل في الكلام على «ما»
«ما» اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.
قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} : عطف على «سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى» ، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض.
واليسرى: هي الطَّريقة اليسرى، وهي أعمال الخير، والتقدير: سنقرئك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن.
[قال ابن مسعود: اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة، قال الضحاك:] فإن قيل: المعهود في الكلام أن يقال: يسر الأمر لفلان، ولا يقال: يسر فلان للأمر.
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة «والليل» ، فكذا هي اختيار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ» ، وفيه لطيفة: وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك، ولا عكسه، وإلاَّ لمرجح، وعند ذلك المرجح يجب الفعل، فالفاعل إذن ميسر للفعل، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل، فذلك الرجحان هو المسمى ب «التيسير» .(20/281)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
قوله: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى} . أي: فعظ قومك يا محمد بالقرآن {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي: الموعظة، و «إن» شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم؛ ومنه قوله: [الوافر]
5180 - لَقدْ أسْمعْتَ لوْ نَاديْتَ حَيًّا ... ولكِنْ لا حَياةَ لِمَنْ تُنَادِي
وقيل: «إن» بمعنى: «إذا» كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذا كنتم مؤمنين.
وقيل: هي بمعنى: «قد» ذكره ابن خالويه وهو بعيد.
وقيل: بعده شيء محذوف، تقديره: إن نفعت الذكرى، وإن لم تنفع، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي.
وقيل: إنه مخصوصٌ في قوم بأعيانهم.
وقيل: «إن» بمعنى: «ما» أي: فذكر ما نفعت الذِّكرى، فتكون «إن» بمعنى: «ما» لا بمعنى: الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال. قاله ابن شجرة.
فصل في فائدة هذا الشرط
قال ابنُ الخطيب: إنه صلى الله كان مبعوثاً إلى الكل، فيجب عليه تذكيرهم سواء إن نفعت الذكرى، أو لم تنفعهم، فما فائدة هذا الشرط، وهو قوله: {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} والجواب من وجوه: إمَّا أن يكون المراد: التنبيه على أشرف الحالين، وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى، قال: والمعلق ب «إن» على الشيء لا يلزمُ أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] ، ومنها قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ، فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه، ومنها قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله} [البقرة: 230] ، والمراجعة جائزة بدون هذا الظنِّ، وإن كان كذلك، فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم، ومنها: تعقل، وهو تنبيه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنهم لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير الدعوة، فأما الدعاء الأول فعام.(20/282)
فإن قيل: الله - تعالى - عالم بعواقب الأمور بمن يؤمن، ومن لا يؤمن، والتعليق بالشرط، إنما يحسن في حق من ليس بعالم.
فالجواب: أن أمر البعثة والدعوة شيء، وعلمه تعالى بالمغيبات، وعواقب الأمور غيره، ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر، كقوله تعالى لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] ، وهو تعالى عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى.
فإن قيل: التذكير المأمور به، هل هو مضبوط بعدد أو لا؟ وكيف يكون الخروج عن عهدة التذكير؟ .
والجواب أن المعتبر في التذكير والتكرير هو العرف.
قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} ، أي: يتّقي الله ويخافه. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في ابن أم مكتوم.
وقيل: في عثمان بن عفان قال الماوردي: وقد يذكره من يرجوه إلا أنَّ تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية والرجاء قيل المعنى: عَمِّمْ أنْتَ التذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. حكاه القشيري، ولذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلَّقت بالخشية والرجاء.
فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين؟ .
فالجواب: أن ذلك لظهوره وقوة دليله، كأنه معلوم، لكنه يزول بسبب التقليد والعناد، فلذلك سمي بالتذكير، والسين في قوله: «سيذكر» يحتمل أن تكون بمعنى: «سوف» ، و «سوف» من الله تعالى واجب، كقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] ، ويحتمل أن يكون المعنى: أن من خشي، فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التذكير والنَّظر.
قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا} أي: الذِّكرى، يبعد عنها الأشقى، أي: الشقي في علم الله تعالى، لمَّّا بيَّن من ينتفع بالذكرى بيَّن بعده من لا ينتفع بها وهو الكافر الأشقى.
قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.
{الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي: العظمى، وهي السفلى من طباق النَّار، قاله الفراء.
وعن الحسن: «الكُبْرَى» : نَارُ جهنَّم، والصُّغرى: نارُ الدُّنْيَا.(20/283)
وقيل: في الاخرة نيران ودركات متفاضلة، كما في الدنيا ذُنُوبٌ ومعاصي متفاضلة، فكما أنَّ الكافر أشقى العصاة، فكذلك يصلى أعظم النيران.
فإن قيل: لفظ الأشقى لا يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم؟ .
فالجواب ان لفظ «الأشقى» لا يستدعي وجود الشقي إذ قد يرد هذا اللفظ من غير مشاركة، كقوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ، «ويتَجنَّبُهَا الأشْقَى» ، كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
وقال ابن الخطيب: الفرق ثلاث: العارف، والمتوقف، والمعاند، فالسعيد: هوالعارف، والمتوقف له بعض الشقاء، والأشقى: هو المعاند.
قوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} ؛ لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه، كقوله تعالى: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] .
فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن ثمَّة حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول؟ .
فالجواب: قال بعضهم: هذا كقول العرب للمبتلى بالبلاء الشديد: لا هو حي، ولا هو ميت.
وقيل: إن نفس أحدهم في النار تمرُّ في حلقه، فلا تخرج للموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم، فيحيى.
وقيل: حياتهم كحياة المذبوح وحركته قبل مفارقة الروح، فلا هو حي؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، ولا هو ميت؛ لأن الميت هو الذي تفارق روحه جسده. و «ثمّ» للتراخي بين الرتب في الشدة.
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي: صادف البقاء في الجنة، أي: من تطهَّر من الشِّركِ بالإيمان قاله ابن عباسٍ وعطاءٌ وعكرمةُ.
وقال الربيعُ والحسنُ: من كان عمله زاكياً نامياً وهو قول الزجاج.
وقال قتادةُ: «تزكَّى» ، أي: عمل صالحاً.
وعن عطاءٍ، وأبي العالية: نزلت في صدقة الفطر.(20/284)
قال ابن سيرين: {قد أفلح من تزكَّى، وذكر اسم ربه فصلَّى} قال: خرج فصلَّى بعد ما أدى.
والأول أظهر؛ لأن اللفظ المعتاد أن «يقال» في المال: زكَّى، ولا يقال: تزكَّى، قال تعالى: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] .
وقال أبو الأحوصِ وعطاءٌ: المراد بالآية؛ زكاة الأموال كلها.
قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؛ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن ب «مكة» عيد، ولا زكاة فطر.
قال البغويُّ: يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم، كقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} [البلد: 2] ، والسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أحِلَّتْ لِي ساعةً مِنْ نَهارٍ» .
وقيل: هذا في زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء [والتقصير] وروى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَدْ افْلحَ مَنْ تَزَكَّى؛ أي: شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أنِّي رسُول اللهِ» وهذا مروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وروى عطاءٌ عن ابن عباسٍ، قال: نزلت في عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كان ب «المدينة» منافق كانت له نخلة ب «المدينة» ، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البُسْر والرطب في دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إلى المنافق، وهو لا يعلم بنفاقه، فقال: إنَّ أخاك الأنصاريَّ ذكر أنَّ بُسركَ ورُطبَكَ يقعُ إلى منزله، فيَأكلُ هُوَ وعِيالهُ، فهل لَكَ أنْ أعْطيكَ نَخْلَةً في الجنَّة بدلها؟ فقال: أبيع عاجلاً بآجلٍ؟ لا أفعلُ، فذكروا أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} ، ونزلت في المنافق: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} .
وقال الضحاكُ: نزلت في أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قوله: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} .
قال ابن عباس والضحاكُ: وذكر اسم ربه في طريق المصلى، فصلى صلاة العيد.(20/285)
قال القرطبيُّ: «والسورة مكية في قول الجمهور، ولم يكن ب» مكة «عيد» .
قل القشيريُّ: ولا يبعد أن يكون أنثى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر، وصلاة العيد فيما يأمر به في المستقبل.
قوله: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} ، أي: وذكر ربه.
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه ذكر معاده وموقفه بين يدي الله تعالى، فعبده وصلى له.
وقيل: ذكر اسم ربه: التكبير في أوَّل الصلاة؛ لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله: «اللهُ أكبر» ، وبه يحتجُّ على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى أنَّها ليست من الصلاة؛ لأنَّ الصلاة معطوفة عليها، وفيه حُجَّةٌ لمن قال: الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله تعالى.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «هذا في الصلوات المفروضة» .
روى عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له» .(20/286)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} ، قرأ أبو عمرو: بالغيبة.
والباقون: بالخطاب ويؤيده قراءة أبيٍّ: «أنْتُمْ تُؤْثِرُون» .
وعلى الأول معناه: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قال: لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها ولذاتها وبهجتها، والأخرى: غيبت عنا فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل.
قوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} ، أي: والدَّار الآخرة خير، أي: أفضل وأبقى أي: أدوم.
قوله: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى} .(20/286)
قرأ أبو عمر، في رواية الأعمش وهارون: بسكون الحاء في الحرفين، واختلفوا في المشار إليه بهذا.
فقيل: جميع السورة، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس.
وقال الضحاكُ: إن هذا القرآن «لفي الصحف الأولى» أي: الكتب الأولى.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} يعني: الكتب المنزلة عليهما، ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه: أن معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
وقال قتادة وابن زيد: المشار إليه هو قوله تعالى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} وقال: تتابعت كتب الله تعالى - كما تسمعون - أن الآخرة خير وأبقى وقال الحسن: إن هذا لفي الصحف الأولى يعني من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} إلى آخر السورة؛ لماروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قلت: يا رسول الله هل في أيدينا شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نعم «» ، ثم قرأ أبو ذر: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} إلى آخر السورة.
وروى أبو ذرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أنَّه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كم أنزل من كتاب؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مائة وأربعُ كتبٍ: على آدم عشرةُ صحفٍ، وعلى شيثٍ خمسُونَ صحيفةً، وعَلى إدْريسَ ثلاثُونَ صَحيفَةً، وعلى إبْراهِيمَ عشرةُ صَحائفَ، والتَّوراة والإنجيلُ والزَّبورُ والفُرقانُ «» .
قوله: «إبراهيم» قرأ العامة بالألف بعد الراء، وبالياء بعد الهاء.
وأبو رجاء: بحذفهما والهاء مفتوحة، أو مكسورة، فعنه قراءتان.
وأبو موسى وابن الزبير: «إبراهام» - بألفين - وكذا في كل القرآن.
ومالك بن دينار: بألف بعد الراء فقط، والهاء مفتوحة.
وعبد الرحمن بن أبي بكرة: «إبْرَهِمَ» بحذف الألف وكسر الهاء وقد تقدم الكلام على هذا الاسم ولغاته مستوفى في سورة «البقرة» ولله الحمد على كل حال.
وقال ابن خالويه: وقد جاء «إبْراهُم» يعني بألف وضم الهاء.(20/287)
وروى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الأعْلَى أعطاهُ اللهُ تعالَى من الأجْرِ عَشْرَ حسناتٍ، عدد كُلِّ حرفٍ أنزله اللهُ على إبْراهيمَ ومُوسَى ومحمدٍ، صلواتُ الله عليْهِم أجْمعِينَ» .(20/288)
سورة الغاشية(20/289)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
مكية [بالإجماع] ، وهي ست وعشرون آية، وثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} . «هل» بمعنى: «قد» ، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] قاله قطرب، أي: قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.
وقيل: هو استفهام على بابه، ويسميه أهل البيان: التسويف، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبيِّ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، ومحمد بن كعبٍ: الغاشية: النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] .
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلق.
وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها، ويقحمون فيها.
وقيل: معنى «هَل أتاكَ» أي: هذا لم يكن في علمك، ولا في علم قومك، قاله ابن عباس أي: لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} . قد تقدَّم نظيره في سورة «القيامةِ» ، وفي «النازعات» ، والتنوين(20/289)
في «يومئذ» ؛ عوض من جملة، مدلول عليها باسم الفاعل من «الغاشية» ، تقديره: يومئذ غشيت الناس؛ إذ لا تتقدم جملة مصرح بها، و «خاشعة» وما بعدها صفة.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة، {خَاشِعَةٌ} .
قال سفيان: أي: ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع.
يقال: خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت: إذا خفي، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108] .
[والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد: خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام. وقال ابن عباس: أراد وجوه اليهود والنصارى] .
قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} هذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.
قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه: قد عمل يعمل عملاً.
وقوله: «ناصبةٌ» أي: تعبةٌ، يقال: نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً: إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة»
الحديث.(20/290)
وروى سعيد عن قتادة: «عاملةٌ ناصبةٌ» قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ -، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثِّقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ.
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقرأ ابن كثير في رواية، وابن محيصن وعيسى وحميد: «نَاصِبةٌ» بالنصب على الحال.
وقيل: على الذَّم.
والباقون: بالرفع، على الصفة، أو إضمار مبتدأ فيوقف على «خاشعة» .
ومن جعل المعنى: في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن «وجوه» ، فلا يوقف على «خاشعة» [وقيل: عاملة ناصبة أي: عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة] .
وروى الحسن، قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «الشام» ، أتاه راهب، شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بكى فقيل: يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه ورجا رجاءً فأخطأه وقرأ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} .
قوله: {تصلى نَاراً حَامِيَةً} : هذا هو الخبر.
قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بضم التاء على ما يسم فاعله.
والباقون: بالفتح، على تسمية الفاعل، [والضمير على] كلتا القراءتين للوجوه.
وقرأ أبو رجاء: بضم التاء، وفتح الصَّاد، وتشديد اللام، وقد تقدم معنى ذلك كله في سورتي: «الانشقاق والنساء» .(20/291)
فصل في معنى الآية
والمعنى: يصيبها صلاؤها وحرُّها «حامية» أي شديدة الحرِّ، أي قد أوقدت وأُحميت مدةً طويلة، ومنه: حَمِيَ النهار - بالكسر - وحَمِيَ التنور حمياً فيهما، أي: اشتد حره، وحكى الكسائي: اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ أوْقدهَا الفَ سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثُمَّ أوْقدَ عليْهَا ألفَ سنةٍ حتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أوقدَ عَليْهَا حتَّى اسْودَّتْ، فهي سَوداءُ مُظْلِمَةٌ» .
قال الماوردي: فإن قيل: فما معنى وصفها بالحَمْي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ .
قيل: قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.
قيل: المراد: أنها دائمة [الحمي] ، وليست كنارِ الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني: أن المراد بالحامية أنَّها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ لكُلِّ مَلكٍ حِمىً، وإنَّ حِمَى اللهِ في أرْضهِ محارمهُ، ومن يرتع حولَ الحِمَى يُوشِك أن يقعَ فِيهِ» .
الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، وترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه؛ كقول الشاعر: [البسيط]
5181 - تَعْدُو الذِّئَابُ على مَنْ لا كِلاب لَهُ ... وتتَّقِي صَوْلةَ المُستأسدِ الحَامِي
الرابع: وقيل: المراد أنَّها حامية حمي غيظ وغضب مبالغة في شد الانتقام، كقوله تعالى {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8] .
قوله: {تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} . أي: حارة التي انتهى حرُّها، كقوله تعالى: {بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] ، و «آنِيَة» : صفة ل «عين» ، وأمالها هشام، لأن الألف غير منقلبة من غيرها، بل هي أصل بنفسها، وهذا بخلاف «آنِيَة» في سورة «الإنسان» ، فإن الألف هناك بدل من همزة، إذ هو جمع: «إناء» فوزنها: «فَاعِلة» ، وهناك «أفعلة» ، فاتحد اللفظ واختلف التصريف، وهذا من محاسن علم التصريف.(20/292)
قال القرطبيُّ: «الآني: الذي قد انتهى حرُّه، من الإيناء بمعنى:» التأخير «، يقال: أنَّاه يؤنيه إيناءً، أي: أخره وحبسه وأبطأه، نظيره قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] ، رُوِيَ أنه لو وقعت [نقطة] منها على جبال الدنيا لذابت» .
قوله: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} . لمَّا ذكر شرابهم ذكر طعامهم.
والضَّريعُ: شجر في النار، ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش: الشِّبرق إذا كان رطباً، وإذا يبسَ فهو الضريع، لا تقربه دابة، ولا بهيمة، ولا ترعاه، وهو سم قاتل. قاله عكرمة، ومجاهد وأكثر المفسرين.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قال: شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً.
والصحيح الأول؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الطويل]
5182 - رَعَى الشِّبرقَ الرَّيانَ حتَّى إذا ذَوَى ... رَعَا ضَرِيعاً بَانَ مِنْهُ النَّحَائِصُ
وقال الهذلي يذكر إبلاً وسوء مرعاها: [الكامل]
5183 - وَحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكُلُّهَا ... حَدْباءُ دَاميةُ اليديْنِ حرُودُ
وقال الخليل: الضريع: نبات منتن الريح، يرمي به البحر.
وقال أيضاً: ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم، هي الضريع، فكأنه تعالى وصف بالقلة، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقيل: هو الزقوم.
وقيل: يابس العرفج إذا تحطم.
وقيل: نبت يشبه العوسج.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو شجر من نارٍ، ولو كانت الدنيا لأحرقت الأرض، وما عليها.(20/293)
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وعكرمةُ: هي حجارة من نار.
وقال القرطبيُّ: والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا.
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الضريع شيء يكون في النَّار: يشبهُ الشّوْك، أشدُّ مرارة من الصَّبْرِ، وأنْتَنُ من الجِيفةِ، وأحرُّ منَ النَّارِ سماهُ اللهُ ضَريْعاً» .
قال القتيبيُّ: ويجوز أن يكون الضريع، وشجرة الزقوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النَّار، وكذلك سلاسل النار، وأغلالها وحياتها وعقاربها ولو كانت على ما نعلم لما بقيت على النار وإنما دلَّنا الله على الغائب عند الحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة، وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.
وزعم بعضهم: أنَّ الضريع: ليس بنبت في النار، ولا أنهم يأكلونه؛ لأن الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس، وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكوا هزلاً، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلاً.
والمعنى أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وقال الحكيمُ الترمذي: وهذا نظر سقيم من أهله، يدل على أنهم تحيَّروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، كما جعل - سبحانه وتعالى - في الدنيا من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تُطفئُ النار، قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} [يس: 80] ، وكما قيل: حين نزلت: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] ، قالوا: «يا رسُولَ اللهِ، كيف يمْشُونَ على وُجوهِهمْ؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» الَّذي أمشَاهُمْ عَلَى أرْجُلهِمْ قادرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوهِهِمْ «، فلا يتحيَّر في مثل هذا إلا ضعيف العقل، أو ليس قد أخبرنا أنه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56] ، وقال تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] .
وعن الحسن: لا أدري ما الضريع، ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً.
قال ابنُ كيسان: وهو طعام يضرعونه عنده، ويذلون، ويتضرعونه منه إلى الله تعالى، طلباً للخلاص منه، فسمي بذلك؛ لأن آكله يتضرع في أن يعفى منه للكراهة وخشونته.
قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع، وهو الذليل، أي: ذو ضراعة، أي: من شربه ذليل تلحقه ضراعة.(20/294)
فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35، 36] . وقال تعالى - هاهنا -: {إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} وهو غير الغسلين، فما وجه الجمع؟ .
والجواب: أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد.
قال الكلبيُّ: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى.
قوله: {لاَّ يُسْمِنُ} .
قال الزمخشريُّ: مرفوع المحل، أو مجرور على وصف طعام، أو ضريع» .
قال أبو حيان: «أما وصفه ب» ضريع «فيصح؛ لأنه نبت نفي عنه السمن، والإغناء من الجوع وأمَّا رفعه على وصفه الطعام، فلا يصح؛ لأن الطعام منفي، والسمن منفي، فلا يصح تركيبه؛ لأنه يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن، ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع، كما تقول: ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه: أن له مالاً لا ينتفع به من غير مال عمرو» .
قال شهاب الدين: وهذا لا يرد؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم، وقد منع منه مانع، كالسياق في الآية الكريمة.
ثم قال أبو حيَّان: ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في: «إلاَّ من ضريع» ، كان صحيحاً؛ لأنه في موضع رفع، على أنه بدل من اسم ليس، أي: ليس لهم طعام إلاَّ كائن من ضريع؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمنٍ، ولا مغنٍ من جوع، وهذا تركيب صحيح، ومعنى واضح.
وقال الزمخشريُّ أيضاً: «أو أريد لا طعام لهم أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع، أو أسمن، وهو عنهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان إلا ظلّ إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد» .
قال أبو حيَّان: فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام، إذ ليس بطعام، والظاهر: الاتصال فيه، وفي قوله تعالى: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] .(20/295)
قال شهابُ الدين: وعلى قول الزمخشري المتقدم لا يلزم أن يكون منقطعاً، إذ المراد نفي الشيء بدليله أي: إن كان لهم طعام، فليس إلا هذا الذي لا يعده أحد طعاماً، ومثله: ليس له ظل إلا الشمس وقد مضى تحقيق هذا عند قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وقوله: [الطويل]
5184 - ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
ومثله كثير.
فصل في المراد بالآية
المعنى: أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس؛ لأنه نوع من أنواع الشوك، والشوك مما ترعاه الإبلُ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه، وهما: إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى: ليس لهم طعام أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنسان، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} وكذا فإن الإبل ترعاه رطباً، فإذا يبس لم تأكله.
وقيل: اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النَّبتِ النافع؛ لأن المضارعة المشابهة، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع، فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريعٍ لا يسمن من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.(20/296)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} . أي: ذات نعمة، وهي وجوه المؤمنين، نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها.
وقيل: ذات بهجة وحسن، لقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24] ، أي: متنعمة «لِسَعْيهَا» ، أي: لعملها الذي عملته في الدنيا «راضيةٌ» في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها، وفيها واو مضمرة، والتقدير: ووجوه يومئذ، ليفصل بينها، وبين الوجوه المتقدمة، والوجوه عبارة عن الأنفس.(20/296)
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي: مرتفعة؛ لأنها فوق السماوات.
وقيل: عالية القدر، لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين.
قوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} .
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: بالياء من تحت مضمومة؛ على ما لم يسم فاعله، «لاغية» رفعاً لقيامه الفاعل.
وقرأ نافع كذلك إلا أنه بالتاء من فوق، والتذكير والتأنيث واضحان؛ لأن التأنيث مجازي.
وقرأ الباقون: بفتح التاء من فوق، ونصب: «لاغية» ، فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت، وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه.
وقرأ الفضلُ والجحدري: «لا يَسْمَعُ» بياء الغيبة مفتوحة «لاغيةً» نصباً، أي: لا يسمع فيها أحد.
و «لاغية» يجوز أن تكون صفة لكلمة على معنى: النسب، أي: ذات لغو، أو على إسناد اللغو إليها مجازاً، وأن تكون صفة لجماعة: أي: جماعة لاغية، وأن تكون مصدراً، كالعافية والعاقبة، كقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] ، واللَّغْوُ: اللَّغَا واللاغية بمعنى واحد؛ قال الشاعر: [الرجز]
5185 - عَنِ اللَّغَا ورفَثِ التَّكلُّمِ ... قال الفراء والأخفش: أي: لا تسمع فيها كلمة لغوٍ.
والمراد باللغو: ستة أوجه:
أحدها: كذباً وبهتاناً وكفراً بالله عَزَّ وَجَلَّ، قاله ابن عباس.
الثاني: لا باطل ولا إثم، قاله قتادة.
الثالث: أنه الشتم، قاله مجاهد.(20/297)
الرابع: المعصية، قاله الحسن.
الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب، قاله الفراء.
وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برّة ولا فاجرة.
السادس: لا يسمع في كرمهم كلمة لغوٍ؛ لأن أهل الجنَّة لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. قاله الفراء، وهو أحسن الأقوال، قاله القفال والزجاج.
قوله: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} . أي: بماء مندفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود.
قال الزمخشريُّ: يريد عيوناً في غاية الكثرة، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] .
قوله: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} ، أي: عالية في الهواء.
{وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} والأكواب: الكيزان التي لا عُرى لها، والإبريق: هو ما له عروةٌ وخرطوم، والكوب: ما ليس له عروةٌ وخرطوم.
وقوله: {مَّوْضُوعَةٌ} أي: معدة لأهلها.
وقيل: موضوعة على حافات العين الجارية.
وقيل: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها، لكونها من ذهب، وفضة، وجوهر، وتلذذهم بالشرب منها.
وقيل: موضوعة عن حد الكبر، أي هي أوساط بين الصغر والكبر، كقوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} [الإنسان: 16] .
قوله: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} ، النمارق جمع «نمرق» وهي الوسادة قالت:
5186 - أ - نَحْنُ بَناتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ
وقال الشاعر:(20/298)
5186 - ب - كُهُولٌ وشُبَّانٌ حِسانٌ وجُوههُمْ ... عَلى سُررٍ مَصْفوفَةٍ ونَمارِقِ
والنمرق والنمرقة: وسادةٌ صغيرة.
والنمرق: بضم النون والراء وكسرهما لغتان؛ أشهرهما الأولى.
قوله: {وَزَرَابِيُّ} : جمع «زَرْبيَّة» [بفتح الزاي وكسرها] لغتان مشهورتان، وهي البسط العراض.
وقيل: ما له منها خملة. قال أبو عبيدة: «الزَّرَابِيُّ» : الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها: زَرْبيّة.
قال الكلبيُّ والفراءُ «» المَبْثُوثَة «: المبسوطة.
وقال عكرمةُ: بعضها فوق بعض.
وقال الفراء: كثيرة.
وقال القتبي: متفرقة في المجالس.
قال القرطبي: وهذا أصح، فهي كثيرة متفرقة، ومنه قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} [البقرة: 164] .
وقال أبو بكر بنُ الأنباريِّ: وحدَّثنا أحمدُ بنُ الحُسينِ، قال: حدثنا حُسَيْنُ بنُ عرفةَ قال: حدثنا عمَّار بنُ محمدٍ، قال: صليت خلف منصور بنِ المعتمرِ، فقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} وقرأ: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} : متكئين فيها ناعمين.(20/299)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
قوله: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} ، لما ذكر الله - تعالى - أمر الدارين تعجب الكفَِّار من ذلك، فكذبوا وأنكروا، فذكرهم الله صنعته، وقدرته، وأنه - تعالى - قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض، وذكر الإبل أولاً؛ لأنها كثيرة في بلاد العرب، ولم يروا الفيلة، فنبّههم تعالى على عظيم من خلقه، قد ذلله للصغير من خلقه يقوده وينيخه وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الأحمال، وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء وينيخه وينهضه، ويجمل عليه الثقيل من الأحمال، وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره، فأراهم عظيماً من خلقه، يدلهم بذلك على توحيده، وعظيم قدرته تعالى.(20/299)
وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير، وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها، ففكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق.
قال ابنُ الخطيب: الإبل لها خواص، منها أنه - تعالى - جعل الحيوان الذي يقتني أنواعاً، فتارة يقتنى ليؤكل لحمه، وتارة ليشرب لبنه، وتارة ليحمل الناس في الأسفار، وتارة لنقل المتاع من بلد إلى بلد، وتارة للزِّينة والجمال، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل، ثم إنها فاقت في كل خصلة من هذه الخصال غيرها من الحيوان المختص ببعضها، مع صبرها على العطش، وقطع المفاوز بالأحمال الثقيلة، وقناعتها في العلف بنبات البر، ولقد ضللنا الطريق في مفازة، فقدموا جملاً واتبعوه، فهداهم للطريق بعد زمان طويل، مع كثرة المعاطف والتلول، فانظر كيف ثبت واهتدى على ما عجزت عنه ذوو العقول.
ومنها: أنه في غاية القوة والصبر على العمل.
ومنها: أنها مع كونها كذلك منقادة للصَّب الصغير.
ومنها: أنها تحمل وهي باركة، ثم تقوم بحملها، وهذه الصفات توجب على العاقل أن ينظر في خلقها وتركيبها، ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم جلت قدرته.
فصل
قال قتادةُ ومقاتلٌ وغيرهما: لما ذكر الله - تعالى - السرر المرفوعة، قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية، وبيَّن أنَّ الإبل «تبرك» حتى يحمل عليها، ثم تقوم، فكذلك تلك السرر تتطامَنُ، ثم يرتفع.
وقال المبرد: الإبل هنا: القطعُ العظيمة من السَّحاب.
وقال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
قال القرطبي: قد ذكره الأصمعي أبو سعيد بن عبد الملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} بالتخفيف، عنى بها: البعير؛ لأنها من ذوات الأربع، يبرك، فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع، لا يحمل عليه إلا وهو قائم، ومن قرأها بالتثقيل فقال: «الإبل» عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر.
وقال الماورديُّ: وفي الإبل وجهان:
أظهرهما: أنها «الإبل» .(20/300)
والثاني: أنها «السحاب» فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه.
وإن كان المراد بها الإبل من النعم؛ فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة، والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة بها أتم.
وقيل للحسن: الفيل أعظم في الأعجوبة فقال: العرب بعيدة العهدِ بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره، ولا يحلب درّه.
فصل في الكلام على الإبل
الإبل: اسم جمع، واحده: بعير، وناقة، وجمل، ولا واحد لها من لفظها، وهو مؤنث، ولذلك تدخل عليه تاء التأنيث تصغيره، فيقال: أبيلة.
قال القرطبيُّ: لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وربما قالوا للإبل: إبْل - بسكون الباء - للتخفيف، والجمع: آبال واشتقوا من لفظه، فقالوا: تأبل زيد، أي كثرت إبله. وتعجبوا من هذا، فقالوا: ما آبله {أي: ما أكثر إبله} وتقدم في سورة «الأنعام» .
قوله: «كَيْفَ» : منصوب ب «خُلِقتْ» على حد نصبها في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} ، والجملة بدل من «الإبل» بدل اشتمال، فتكون في محل جر، وهي في الحقيقة معلقة بالنظر، وقد دخلت «إلى» على «كيف» في قولهم: «انظر إلى كيف يصنع» ، وقد تبدل الجملة المشتملة على استفهام من اسم ليس فيه استفهام، كقولهم: «عرفت زيداً أبو من هو» على خلاف بين النحويين.
وقرأ العامة: «خُلِقَتْ، ورُفِعَتْ، ونُصِبَتْ، وسُطِحَتْ» مبنياً للمفعول، والتاء ساكنة للتأنيث.
وقرأ أمير المؤمنين، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، قال القرطبي: وابن السميفع وأبو العالية: «خلقتُ» وما بعده بتاء المتكلم، مبنياً للفاعل.
والعامة على: «سُطِحَتْ» مخففاً.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وأبو رجاء: «سُطِّحَتْ» بتشديد الطاء وإسكان التاء.(20/301)
قال القرطبيُّ: وقدم الإبل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز.
قال القشيريُّ: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة.
قوله: {وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ} ، أي: رفعت عن الأرض بغير عمدٍ بعيدة المدى.
وقيل: رفعت فلا ينالها شيء.
قوله: {وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ} نصباً ثابتاً راسخاً لا يميل ولا يزول، وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] .
قوله: {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} ممهدة، أي: بسطتْ ومدتْ، واستدل بعضهم بهذا على أن الأرض ليست بكرةٍ.
قال ابنُ الخطيب: وهو ضعيف؛ لأن الكرة إذا كانت في غاية العطمة تكون كل قطعة منها كالسطح.
فإن قيل: ما المناسبة بين هذه الأشياء؟ .
فالجواب: قال الزمخشريُّ: من فسَّر الإبل بالسحاب، فالمناسبة ظاهرة، وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل، فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
الأول: أن القرآن نزل على العرب، وكانوا يسافرون كثيراً، وكانوا يسيرون عليها في المهامه والقفار، مستوحشين، منفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكُّر في الأشياء؛ لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك من يشغل به سمعه وبصره، فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر، فإذا فكر في تلك الحال، فأوَّل ما يقع بصره فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر , فإذا فكر في تلك الحال , فأوَّل ما يقع بصره على الجمل الذي هو راكبه , فيرى منظراً عجيباً , وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء , وغذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال , وإذا نظر إلى تحت لم ير غير الأرض , فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلودِ والانفراد , حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النَّظر.
الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع - جلت قدرته - إلا انها قسمان: منها ما للشهوة فيه حظّ كالوجه الحسن، والبساتين للنُّزهة، والذهب والفضة، ونحوها، فهذه مع دلالتها على الصَّانع، قد يمنع استحسانها عن إكمال النظر فيها.
ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة كهذه الأشياء، فأمر بالنظر فيها، إذ لا مانع من إكمال النظر.(20/302)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
قوله: {فَذَكِّرْ} أي: عظهم يا محمد وخوفهم.
{إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} : واعظ.
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} أي بمسلّط فتقتلهم، ثم نسختها آية السيف.
وقرأ العامة: «بمصيطر» بالصَّاد.
وهشام: بالسِّين.
وخلف: بإشمام الصاد زاياً بلا خلاف.
وعن خلاَّد: وجهان.
وقرأ هارون الأعور: «بمصيطر» - بفتح الطاء - اسم مفعول، لأن «سيطر» عندهم متعدٍّ.
[ويدل على ذلك فعل المطاوعة، وهو تسيطر، ولم يجيء اسم على مفعل إلا مسيطر، ومبيقر، ومهيمن، ومبيطر؛ من سيطر، وهيمن، وبيطر، وقد جاء مجيمر اسم وادٍ، ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما مجمر ومدبر، فصغراً.
قال شهاب الدين: قد تقدم أن بعضهم جعل مهيمناً مصغراً، وتقدم أنه خطأ عظيم، وذلك في سورة المائدة] .
قال القرطبيُّ: «وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر: المسلط على الشيء، ليشرف عليه ويتعهَّد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن معنى السطر ألاَّ يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} ، وسطره أي: صرعه» .
قوله {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} استثناء منقطع، أي: لكن من تولّى عن الوعظ والتذكر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، وهو جهنم الدائم عذابها، وإنما قال: «الأكبر» ؛ لأنهم عذّبوا في الدنيا بالجوع، والقَحْط، والأسْر، والقَتْل، ويؤيد هذا التأويل: قراءة ابن مسعود: «إلا مَنْ تَوَلَّى وكَفَر فإنَّه يُعَذِّبُهُ الله» .(20/303)
وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: لست مسلَّطاً إلى على من تولى وكفر، فأنت مسلَّط عيله بالجهاد، والله - تعالى - يعذبه ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وزيد بن عليٍّ، وزَيْدُ بنُ أسلمَ، وقتادةُ: «ألا» حرف استفتاح وتنبيه؛ كقول امرئ القيس: [الطويل]
5187 - الاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
و «مَنْ» على هذا شرط، فالجملة مقدرة شرطية، والجواب: «فيعذبه الله» ، والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه الله؛ لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: «إلا من تولى وكفر يعذبه الله» .
[قال شهال الدين: أو موصول مضمن معناه] .(20/304)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
قوله: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} ، أي: رجوعهم بعد الموت: والعامة: على تخفيف الياء، مصدر: آب، يئوب، إياباً، أي: رجع، كقام يقوم قياماً؛ قال عبيدٌ: [مخلع البسيط]
5188 - وكُلُّ ذِي غِيْبَةٍ يَئُوبُ ... وغَائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ
وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديدها.
قال أبو حاتمٍ: لا يجوز التشديد، ولو جاز جاز مثله في الصيام والقيام.
وقيل: لغتان بمعنى.
قال شهابُ الدين: وقد اضطربت فيها أقوال التصريفيّين.
فقيل: هو مصدر ل «أيَّبَ» على وزن «فَيْعَل» ك «بَيْطَر» يقال منه: «أيَّبَ يُؤيبُ(20/304)
إيَّاباً» والأصل: أيْوبَ يُؤيوبٌ إيواباً ك «بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ» ، فاجتمعت الواو والياء في جميع ذلك، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء المزيدة فيها، ف «إيَّابَ» على هذا «فِيعَال» .
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ» بزنة «فَوْعَلَ» ك «حَوْقَلَ» ، والأصل: «إوْوَاب» بواوين، الأولى: زائدة، والثانية: عين الكلمة، فسكنت الأولى بعد كسرة، فقلبت ياء، فصارت: «إيواباً» ، فاجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء بعدها، فوزنه «فِيعَال» ك «حِيقَال» ، والأصل: «حِوقَال» .
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ» ، على وزن «فَعْوَل» ، ك «جَهْور» ، والأصل: «إوْوَاب» على ومن «فِعْوَال» ، ك «جِهْوَار» ، والأولى عين الكلمة، والثانية زائدة، وفعل به ما فعل بما قبله من القلب والإدغام، للعلل المتقدمة، وهي مفهومة مما مرَّ.
فإن قيل: الإدغام مانعٌ من قلب الواو ياء.
قيل: إنما يمنع إذا كانت الواو والياء عينان، وقد عرفت أن الياء في «فَيْعَل» ، والواو في «فَوْعَل، وفَعْوَل» زائدتان.
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ» بزنة: «فعَّل» نحو: «كذَّبَ كِذَّاباً» ، والأصل: «إوَّاب» قلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، فقيل: «إيواباً» .
قال الزمخشريُّ: كديوان في «دِوَّان» ، ثم فعل به ما فعل ب «سيِّد وميِّت» ، يعني أصله: سَيْود، فقلبت وأدغم، وإلى هذا نحا أبو الفضل أيضاً.
إلاَّ انَّ أبا حيَّان ردَّ ما قالاه: بأنهم نصُّوا على أن الواو الموضوعة على الإدغام وجاء ما قبها مكسوراً، فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة، قال: ومثلوا بنفس «إوَّاب» مصدر: «أوَّبَ» مشدداً، وب «اخرواط» ، مصدر «اخروَّطَ» قال: وأما تشبيه الزمخشري ب «ديوان» ، فليس بجيد؛ لأنهم لم ينطقوا بها الوضع مدغمة، ولم يقولوا: «دوان» ، ولولا الجمع على: «دواوين» لم يعلم أن أصل هذه الياء واو، وقد نصوا على شذوذ: «ديوان» ، فلا يقاس عليه غيره.
قال شهاب الدين: أما كونهم لم ينطقوا ب «دوان» ، فلم يلزم منه رد ما قاله الزمخشري، ونص النحاة على أن أصل «ديوان» : «دِوَّان» ، و «قيراط» : «قِرَّاط» بدليل الجمع على «دواوين وقراريط» وكونه شاذًّا لا يقدح؛ لأنه لم يذكره مقيساً عليه، بل منظراً به.(20/305)
وذهب مكي إلى نحو من هذا، فقال: وأصل الياء: واو، ولكن انقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وكان يلزم من شدد أن يقول: إوَّابهم؛ لأنه من الواو، أو يقول: إيوابهم، فيبدل من الأول المشدد ياء، كما قالوا «ديوان» وأصله: «دوان» . انتهى.
وقيل: هو مصدر ل «أوَّب» بزنة: «أكْرمَ» من الأوب، والأصل «إواب» ، ك «إكرام» ، فأبدلت الهمزة الثانية ياء لسكونها بعد همزة مكسورة، فصار اللفظ «إيواباً» ، اجتمعت الواو والياء على ما تقدم فقلب وأدغم ووزنه: «إفْعَال» وهذا واضح.
وقال ابن عطية في هذا الوجه: سهلت الهمزة وكان الإدغام يردها «إواباً» لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس. انتهى.
وهذا ليس بجيد، لما عرفت من أنه لما قلبت الهمزة ياء، فالقياس أن تفعل ما تقدم منقلب الواو إلى الياء من دون عكس.
قال شعاب الدين: «وإنَّما ذكرت هذه الأوجه مشروحة، لصعوبتها، وعدم من يمعن النظر في مثل هذه المواضع القلقةِ، وقدم الخبر في قوله:» إلَيْنَا، وعَلَيْنَا «مبالغة في التشديد في الوعيد» . والله أعلم.
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الغَاشِيَةِ حَاسبهُ اللهُ حِسَاباً يَسِيْراً» .(20/306)
سورة الفجر(20/307)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
مكية، وهي ثلاثون آية، ومائة وتسع وثلاثون كلمة، وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والفجر} ، قيل: جواب القسم مذكور، وهو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] ، قاله ابن الأنباري.
وقيل: محذوف، لدلالة المعنى عليه، أي: ليجازي كل واحد بما عمل، بدليل ما فعل بالقرون الخالية.
وقدَّره الزمخشريُّ: ليُعذبنَّ، قال: يدل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله «فصبَّ» .
وقدره أبو حيَّان: بما دلت عليه خاتمة السورة قبله، أي: لإيابهم إلينا وحسابهم علينا.
وقال مقاتل: «هل» هنا: في موضع «إنَّ» تقديره: «إنَّ في ذلك قسماً لذي حجر، ف» هل «هذا في موضع جواب القسم. انتهى.
وهذا قول باطل؛ لأنه لا يصلح أن يكون مقسماً عليه تقدير تسليم أنَّ التركيب هكذا، وإنما ذكرناه للتنبيه على سقوطه.
وقيل: ثم مضاف محذوف، أي: صلاة الفجر، أو ربِّ الفجر.
والعامة: على عدم التنوين في:» الفَجْرِ، والوَتْرِ، ويَسْرِ «.
وأبو الدينار الأعرابي: بتنوين الثلاثة.(20/307)
قال ابن خالويه: هذا ما روي عن بعض العرب أنه يقف على آخر القوافي: بالتنوين، وإن كان فعلاً، وإن كان فيه الألف واللام؛ قال الشاعر: [الوافر]
5189 - أقِلِّي اللَّوْمَ عَاذلَ والعِتابَنْ ... وقُولِي إنْ أصَبْتُ لَقدْ أصَابَنْ
يعني: هذا تنوين الترنُّم، وهو أن العربي إذا أراد ترك الترنُّم - وهو: مدّ الصوت - نوَّن الكلمة، وإنما يكن في الروي المطلق.
وقد عاب بعضهم النحويين تنوين الترنم، وقال: بل ينبغي أن يسموه بتنوين تركه، ولهذا التنوين قسيم آخر، يسمى: التنوين الغالي وهو ما يلحقُ الرويَّ المقيد؛ كقوله: [الرجز]
5190 - خَاوِي المُختَرَقْنْ ... على أن بعض العروضيين أنكروا وجوده، ولهذين التنوينين أحكام مخالفة لحكم التنوين مذكورة في علم النحو.
والحاصل: أن هذا القارئ أجرى الفواصل مجرى القوافي، وله نظائر منها:» الرَّسُولا، والسَّبِيلا، والظُّنُونَا «» في الأحزاب 10 و66 و67 «و» المتعال «في الرعد و» عَشْرٍ «هنا.
قال الزمخشري: فإن قيل: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من نفس جنس الليالي العشر بعض منها، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد؛ لأنها ليال معلومة معهودة؟ .
قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون الكلمات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الإلغاز والتَّعميَة.(20/308)
يعني بتجانس اللامات، أن تكون كلها إمَّا للجنس، وإما للعهد والغرض الظاهر أن اللامات في:» الفجر «وما معه، للجنس، فلو جيء بالليالي معرفة بلام العهد لفات التجانس.
أقسم سبحانه: بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر: أقسام خمسة.
واختلف في» الفجرِ «، فقال عليٌّ وابنُ الزُّبيرِ وابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -:» الفَجْر «هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم.
قال ابنُ الخطيب: أقسم تعالى بما يحصل فيه، من حصول النور، وانتشار الناس، وسائر الحيوان في طلب الأرزاق، وذلك مشاكل لنشور الموتى، وفيه عبرة لمن تأمل، كقوله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] ، ومدح بكونه خالقاً، فقال سبحانه: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] .
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه: النهار كله، وعبر عنه بالفجر؛ لأنه أوله.
وروى ابن محيصن عن عطيَّة عن ابن عبَّاسٍ: يعني: فجر المحرم.
قال قتادةُ: هو فجر أول يوم من المحرم منه تنفجر السنة، وعنه أيضاً: صلاة الصبح.
وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن الله تعالى جعل لكل يوم ليلة قبله إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف الليلة التي بعد عرفة فقد أدرك الحج إلى طلوع فجر يوم النحر، وهذا قول مجاهد.
وقال عكرمة: «والفجر» قال: انشقاق الفجر من يوم الجمعة.
وعن محمد بن كعب القرظي: «والفجر» قال: آخر أيام العشر إذا رفعت أو دفعت من جمع.
وقال الضحاك: فجر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى قرن به الأيام، فقال تعالى: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} أي ليال عشر من ذي الحجة.(20/309)
وقيل: هي العيون التي تنفجر منها المياه.
قوله: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} .
العامة: على «ليالٍ» بالتنوين، «عشر» صفة لها.
وقرأ ابنُ عباسٍ: «وليالِ عشرٍ» بالإضافة.
فبعضهم قال: «ليال» في هذه القراءة دون ياء، وبعضهم قال: «وليالي عشر» بالياء، وهو القياس.
وقيل: المراد: ليالي أيام عشر، وكان من حقه على هذا أن يقال: عشرة؛ لأن المعدود مذكر.
ويجاب عنه: بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان، ومنه: «وأتْبعَهُ بِستٍّ مِنْ شوَّالٍ» .
وسمع الكسائي: صمنا من الشهر خمساً.
فصل في المراد بالعشر
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ والسديُّ والكلبيُّ: هو عشر ذي الحجة.
وقال مسروقٌ: هي العشرة المذكورة في قوله - تعالى - في قصة موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] ، وهي أفضل أيام السنةِ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ أيَّام العَملِ الصَّالحُ فِيهِنَّ أحَبُّ إلى الله - تعَالَى - مِنْ عَشْرِ ذِي الحجَّةِ» ؛ ولأن ليلة يوم النَّحرِ داخلة فيه رخّصه الله تعالى موفقاً لمن يدرك الموقف يوم عرفة.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً: هي العشرُ الأواخر من رمضان.
وقال الضحاكُ: أقسم الله - تعالى - بها لشرفها بليلة القدرِ، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دخل(20/310)
العشر الأواخر من رمضان، شد المئزرَ، وأيقظ أهله للتهجد.
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ويمان والطبريُّ: هو العشر الأول من المحرم؛ لأن آخرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم.
قوله: {والشفع والوتر} .
قرأ الأخوان: بكسر الواو من: «الوِتْرِ» .
والباقون: بفتحها، وهما لغتان، كالحَبْرِ والحِبْر، والفتح: لغة قريش ومن والاها، والكسر: لغة تميم.
وهاتان اللغتان في: «الوتر» ، مقابل «الشفع» ، فأما في «الوتر» بمعنى: التِّرة، فبالكسر وحده.
قال الزمخشريُّ: ونقل الأصمعي فيه اللغتين أيضاً.
وقرأ أبو عمرو في رواية يونس عنه: بفتح الواو وكسر التاء، فيحتملُ أن تكون لغة ثالثة، وأن يكون نقل كسرة الراء إلى التاء، إجراءً للوصل مجرى الوقف.
فصل في الشفع والوتر
قال ابنُ الخطيب: «الشَّفْعُ والوتْرُ» : هو الذي تسميه العرب، الخساء والركاء، وتسميه العامة: الزَّوجُ والفَرْدُ.
قال يونس: أهل العالية يقولون: «الوَتْرُ» بالفتح في العدد، و «الوِتْر» بالكسر في الذحل، وتميم يقولون: بكسر الواو فيهما، تقول: «أوترت أوتر إيتاراً» أي: جعلته وتراً، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من اسْتَجْمرَ فليُوتِرْ» .
واختلف في الشفع والوتر، فروى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الشَّفعُ والوتر: الصَّلاة مِنْها شَفعٌ، ومِنهَا وتْرٌ» .
قال جابر بن عبد الله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « {والفَجْرِ وليَالٍ عَشْرٍ} قال:» هُو الصُّبْحُ وعَشْرُ النَِّحْرِ، والوترُ: يومُ عرفَة، والشَّفعُ: يومُ النَّحْرِ «» .(20/311)
وهو قول ابن عباس وعكرمة، واختاره النحاس وقال: حديث ابن الزبير عن جابر، وهو الذي صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو أصح إسناداً من حديث عمران بن حصين، فيوم عرفة: وتر؛ لأنه تاسعها، ويوم النحر: شفع؛ لأنه عاشرها.
وعن أبي أيوب، قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: {والشفع والوتر} ، قال:» الشَّفْعُ: يَومُ عَرفَةَ ويوْمُ النَِّحْرِ، والوترُ: ليْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ «.
وقال مجاهدٌ وابنُ السميفع وابنُ عباسٍ: الشفع: خلقه، قال الله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} [النبأ: 8] ، والوتْرُ: هو الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن رسول الله عليه وسلم.
ونحوه قال محمدُ بن سيرين، ومسروق، وأبُو صالحٍ وقتادةُ، قالوا: الشَّفع: الخلقُ، قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] : الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والإنس والجن، والوَتْر: هو الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2] .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ للهِ تِسْعَة وتسْعِينَ اسْماً، واللهُ وترٌ يُحِبُّ الوِتْرِ «.
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشَّفعُ: صلاة الصبح، والوَتْرُ: صلاة المغرب.
وقال الربيعُ بنُ أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب فالشفع منها: الركعتان الأوليان، والوتر: الثالثة.
وقال ابنُ الزبير: الشفع: الحادي عشر، والثاني عشر من أيَّام منى، والوتر: اليوم الثالي، قال تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] .(20/312)
وقال عطاءٌ والضحاكُ: الشفعُ: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة.
وقيل: الشفع والوتر: آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان وتراً، فشفع بزوجته حواء، رواه ابن أبي نجيحٍ، وحكاه القشيريُّ عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وفي رواية: الشفع آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى.
وقيل: الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر هي دركات النار، وهي سبع، كأنه أقسم بالجنة والنار. قاله الحسين بن الفضل.
وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة.
وقال مقاتل بن حيان: الشفع الأيام والليالي، والوتر الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة.
وقيل غير ذلك] .
قال ابنُ الخطيبِ: كل هذه الوجوه محتملة، والظاهر لا شعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين، فإن ثبت في شيء منها خبرٌ عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أو إجماع من أهل التأويل، حكم بأنه المراد، وإن لم يثبت، وجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز؛ لا على القطع، ولقائل أن يقول: إني أحمل الكلام على الكل؛ لأن الألف واللام في: «الشفع والوتر» يفيد العموم.
قوله: {والليل إِذَا يَسْرِ} ، هذا قسم خامس، بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل علىلعموم، ومعنى «يَسْر» أي: يسرى فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم؛ قال: [الطويل]
5191 - لَقدْ لُمْتِنَا يا أم غِيلانَ في السُّرَى ... ونِمْتِ، ومَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنائمِ
ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ} [سبأ: 33] ، وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتيبي والأخفش.
وقال أكثر المفسرين: معنى «يَسْر» : سار فذهب.
وقال قتادةُ وأبو العاليةِ: جاء وأقبل.(20/313)
وقيل: المراد: ينقص، كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] ، {إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] .
و «يَسْرِ» : منصوب بمحذوف، هو فعل القسم، أي: أقسم به وقت سراه، وحذف ياء «يَسْري» وقفاً، وأثبتها وصلاً، نافع وأبو عمرو، وأثبتها في الحالين ابن كثير، وحذفها في الحالين الباقون لسقوطها في خط المصحف الكريم.
وإثباتها هو الأصل؛ لأنها لام فعل مضارع مرفوع، وحذفها لموافقة المصحف، وموافقة رءوس الآي، وجرياً للفواصل مجرى القوافي.
ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل؛ فلأن الوقف محل استراحة.
قال الزمخشري: «وياء» يسري «تحذف في الدَّرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة» .
وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، [تقديره:] ليعذبن، بدليل قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] ، إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} .
قيل: «هل» على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت.
وقيل: المراد بذلك: التوحيد، لما أقسم به وأقسم عليه، والمعنى: بل في ذلك مقنع لذي حجر، ومعنى «لذي حجر» : لذي لبٍّ وعقلٍ؛ فقال الشاعر: [الطويل]
5192 - وكَيْفَ يُرَجَّى أنْ تَتُوبَ وإنَّمَا ... يُرَجَّى مِنَ الفِتْيَانِ من كَانَ ذَا حِجْرِ
وقال أبو مالك: «لذِي حِجْرٍ» : أي: لذي ستر من الناس.
وقال الحسن: لذِي حِلْم.
قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حِجْر، ولذي عَقْل ولذي حِلْم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل.
وأصل الحِجْر: المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها إنه لذو حجر.
[ومنه سمي الحجر: المنع، لامتناعه بصلابته، ومنه: حجر الحاكم على فلان أي: منعه من التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها] .(20/314)
وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها، كأنه أخذ من قولك: حجرت على الرجل.
والمعنى: أن كلَّ ذلك دال على أن كل ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه دلائل وعجائب على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه.
قال القاضي: وهذه الآية تدل على أن القسم واقع برب هذه الأمور؛ لأن الآية دالة على أن هذه مبالغة في القسم، والمبالغة لا تحصل إلا في القسم بالله تعالى؛ ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بغير الله تعالى.(20/315)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ} .
قرا العامة: «بعاد» : مصروفاً، «إرم» بكسر الهمزة، وفتح الراء، والميم.
ف «عاد» اسم لرجل في الأصل، ثم أطلق على القبيلة أو الحي، وقد تقدم في الكلام عليه، وأما: «إرَمَ» فقيل: اسم قبيلة. وقيل: اسم مدينة [اختلفوا في تعيينها، فقيل: «إسكندرية» ، وقيل: «دمشق» ، وهذان القولان ضعيفان؛ لأنها منازل كانت من «عمان» إلى «حضرموت» ، وهي بلاد الرمال والأحقاف، وأما «الإسكندرية» و «دمشق» ، فليستا من بلاد الرمال] .
فإن كانت اسم قبيلة كانت بدلاً، أو عطف بيان، أو منصوبة بإضمار: «أعني» ، وإن كانت اسم مدينة، فتعلق الإعراب من: «عاد» وتخريجه على حذف مضاف، كأنه قيل: بعاد أهل إرم. قاله الزمخشري.
وهو حسن، ويبعد أن يكون بدلاً من: «عاد» ، بدل اشتمال، إذ لا ضمير، وتقديره قلق وقد يقال: إنه لما كان المراد ب «عاد» : مدينتهم؛ لأن «إرم» قائمة مقام ذلك، صح البدل.
وإرَمَ: اسم جد عاد، وهو عادُ بنُ عوصِ بنِ إرمَ بْنِ نوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ قال زهيرٌ: [البسيط](20/315)
5193 - وآخَرينَ تَرَى المَاذيَّ عُدَّتهُمْ ... مِنْ نسْجٍ دَاوُد أوْ مَا أوْرثَتْ إرَمْ
وقال ابن قيس الرقيات: [المنسرح]
5194 - مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ ... أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا
وقرأ الحسن: «عاد» غير مصروف.
قال أبُو حيَّان: مضافاً إلى «إرَمَ» ، فجاز أن يكون «إرَمَ» أباً، أو جداً، أو مدينة.
قال شهاب الدين: يتعين أن يكون في قراءة الحسن، غير مضاف، بل يكون كما كان منوناً، ويكون «إرَمَ» بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ: أعني، ولو كان مضافاً لوجب صرفه وإنما منع «عاد» اعتباراً بمعنى: القبيلة، أو جاء على أحد الجائزين في: «هند» وبابه.
وقرأ الضحاكُ في رواية: «بِعادَ أرَمَ» ممنوع الصرف، وفتح الهمزة من: «أرم» .
قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام التي هي الأعلام.
وعنه أيضاً: فتح الهمزة، وسكون الراء، وهو تخفيف «أرِم» بكسر الراء، وهي لغة في اسم المدينة، كما قرئ: {بِوَرِقْكُمْ} [الكهف: 19] ، وهي قراءة ابن الزبير، وعنه في: «عاد» مع هذه القراءة: الصرف وتركه.
وعنه - أيضاً - وعن ابن عباسٍ: «أرَمَّ» بفتح الهمزة والراء والميم المشددة جعلاه فعلاً ماضياً، [يقال: أرم العظم أي بَلِيَ، وأرم وأرمه غيره، فأفعل يكون لازماً ومتعدياً في هذا] .
و «ذات» على هذه القراءة مجرورة صفة ل: «عاد» ويكون قد راعى لفظها تارة في قوله: «إرَمَ» ، فلم تلحق علامة التأنيث، ويكون: «أرم» معترضاً بن الصفة والموصوف، أي: أرمت هي، بمعنى: رمَتْ وبَليتْ، وهو دعاء عليهم، ويجوز أن يكون فاعل: «أرم» ضمير الباري تعالى، والمفعول محذوف، أي: أرمها الله تعالى، والجملة الدعائية معترضة - أيضاً - وراعى معناها أخرى في: «ذات» فأنث.
وروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «ذاتَ» بالنَّصْب، على أنها مفعول ب «(20/316)
أرم» وفاعل «أرم» ضمير يعود على الله - تعالى -، أي: أرمها الله، ويكون: «أرم» بدلاً من: «فعَل ربُّك» وتبييناً له.
وقرأ ابنُ الزُّبيرِ: «بعادِ أرمَ» بإضافة: «عاد» إلى: «أرمِ» مفتوح الهمزة مكسور الراء، وقد تقدم أنه اسم مدينة.
وقرأ: «إرمَ ذَات» ، بإضافة: «إرم» إلى: «ذات» .
وروي عن مجاهدٍ: «أرَم» يعني: بفتحتين، مصدر «أرَمَ، يَأرم» ، أي: هلك، فعلى هذا يكون منصوباً ب: «فَعَلَ ربُّك» نصب المصدر التشبيهي، والتقدير: كيف أهلك ربك عاداً إهلاك ذات العماد؟ وهذا أغرب الأقوال.
و «ذَاتِ العمادِ» : إن كان صفة لقبيلة، فمعناه: أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أبدانهم [كقولهم: رفيع العماد طويل النجاد قاله ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] ، وإن كان صفة للمدينة، فمعناه: أنها ذات عُمُد من الحجارة.
قوله: {التي لَمْ يُخْلَقْ} : يجوز أن يكون: تابعاً، وأن يكون: مقطوعاً، رفعاً ونصباً.
والعامة على: «يُخْلَق» مبنياً للمفعول، «مِثْلُهَا» مرفوع على ما لم يسم فاعله.
وعن ابن الزُّبيرِ: «يَخْلقُ» مبنياً للفاعل، «مِثْلها» منصوب به، وعنه أيضاً: «نَخْلقُ» بنون العظمة.
فصل في الكلام على إرم وعاد
قال القرطبيُّ: من لم يضف جعل «إرم» : اسم «عاد» ، ولم يصرفه؛ لأنه جعل «عاداً» اسم أبيهم، و «إرم» : اسم القبيلة، وجعله بدلاً منه، أو عطف بيان.
ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم، وتقديره: بعادٍ أهل إرمَ، كقوله: {وَسْأَلِ القرية} [يوسف: 82] ، ولم تنصرف - قبيلة كانت، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث.
والإرم: العلم، أي: بعاد أهل ذات العلم، والخطاب للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد عام، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً، إذا كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب.(20/317)
قوله: «بعَادٍ» ، أي: بقوم عاد.
قال أبو هريرة: كان الرجل من قوم عادٍ، يتخذ المصراع من حجارة، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة، لم يستطيعوا أن يقلوه.
[وإرم قال ابن إسحاق: هو سام بن نوح عليه السلام.
وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال: عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام.
قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة] .
وإرم: قال مجاهد: «إرم» هي أمة من الأمم، وعنه أيضاً: ان معنى «إرم» : القديمة، وعنه أيضاً: القوية.
وقال قتادةُ: هي قبيلة من عاد.
وقيل: هما عادان، فالأولى: هي «إرم» ، قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] ، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم يقال للأولين منهم: عاداً الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة؛ قال ابن الرقيَّات: [المنسرح]
5195 - مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ ... أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا
وقال معمر: «إرم» : إليه مجمع عاد وثمود، وكان يقال: عاد وإرم، وعاد وثمود، وكانت القبائل تنسب إلى إرم، «ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد» .
قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء: كان الرَّجل منهم، طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً: أن طول الرجل منهم، كان سبعين ذراعاً.
قال ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح: «أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ» .(20/318)
وزعم قتادةُ: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً.
قال أبو عبيدة: «ذَاتِ العمادِ» : أي: ذات الطول، يقال: رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس، ومجاهد.
وعن قتادة: كانوا عماداً لقومهم، يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي: سيدهم، وعنه أيضاً: كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم.
وقيل: المعنى: ذات الأبنية المرفوعة على العمد، وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور.
وقال ابن زيد: ذَاتِ العِمادَ «يعني: إحكام البنيان بالعمد.
قال الجوهري:» والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث، والواحدة: عمادة «.
وقال الضحاك:» ذات العماد «أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] .
فصل في الضمير في» مثلها «
والضمير في:» مِثلُهَا «يرجع إلى القبيلة، أي: لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة، وعظم أجساد.
وعن الحسن وغيره: وفي حرف عبد الله: «التي لم يخلق مثلهم في البلاد» .
وقيل: يرجع إلى المدينة، والأول أظهر وعليه الأكثر.
فصل
قال القرطبيُّ: «رُويَ عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن كتاباً وجد ب» الاسكندرية «فلم يدر ما فيه، فإذا فيه» أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ، الذي رفَعَ العِمَادَ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ «قال مالك: إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة» .
وروي: أنه كان لعاد ابنان: شدَّاد، وشديد، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في(20/319)
بعض صحارى عدن، في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب، والفضة، وأساطينها من الزَّبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل مما قدر عليه مما هنا، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا والله ذلك الرجل.
فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا
ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين، وهم: عاد، وثمود، وقوم فرعون، على سبيل الإجمال حيث قالوا: «فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ» ، ولم يبين كيفية ذلك العذاب، وبين في سورة: «الحاقَّة» ، ما أبهم في هذه السورة، فقال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 5، 6] إلى قوله: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9] .
قوله: {وَثَمُودَ} .
قرأ العامة بمنع الصرف.
وابنُ وثابٍ: يصرفه، والذي يجوز فيه ما تقدم في: «التي لم يخلق» .
و «جَابُوا» أي: قطعوا، ومنه: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها سيراً؛ قال: [البسيط]
5196 - مَا إنْ رَأيْتُ قَلُوصاً قَبْلَهَا حَملتْ ... سِتِّينَ وسْقاً ولا جَابتْ بِهِ بَلدَا
وجَابَ الشيء يجوبه: أي: قطعه، ومنه سمي جيب القميص؛ لأنه جيب، أي: قطع.
وقوله: «بالوَادِ» : متعلق إما ب «جابوا» أي: فيه، وإما بمحذوف على أنه حال من «الصَّخْر» ، أو من الفاعلين.
وأثبت في الحالين: ابنُ كثيرٍ وورشٌ بخلاف عن قنبل، فروي عنه إثباتها في(20/320)
الحالين، وروي عنه: إثباتها في الوصل خاصة، وحذفها الباقون في الحالين، موافقة لخط المصحف، ومراعاة للفواصل كما تقدم في «يسر» .
فصل في تفسير الآية
قال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا يجوبون البلادن ويجعلون من الجبال بيوتاً، لقوله - تعالى -: {يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} [الحجر: 82] .
وقيل: أول من نحت من الجبال، والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة، كلها من الحجارة.
وقوله تعالى: {بالواد} أي: بوادي القرى. قاله محمد بن إسحاق.
[وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة، قال: «أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزاة» تبوك «على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال:» أسرعوا السير؛ فإنكم في واد ملعون «» .
وقيل: الوادي بين جبال، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل، ومنفذاً، فهو واد] .
قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} ، أي: الجنود والعساكر والجموع. قاله ابن عباس.
وسمي «ذي الأوتاد» لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
وقيل: ذي الأتاد، أي: ذي الملك الثابت.
كقوله: [الرجز]
5197 - في ظِلِّ مَلكٍ رَاسخِ الأوْتَادِ ... وقيل: كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا، تجبّراً منه وعتواً، كما فعل بامرأته آسية، وماشطتها.
قال عبدُ الرحمنِ بن زيدٍ: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ له الإنسان، فيوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه.
وروى قتادةُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ: أن تلك الأوتاد، كانت ملاعب يلعبون تحتها.
قوله: {الذين طَغَوْاْ} : يجوز فيه ما جاز في: «الذين» قبله، من الإتباع والقطع على الذم.(20/321)
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يرجع الضَّمير إلى فرعون خاصة؛ لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهو الأقرب. وأحسن الوجوه في إعرابه: أن يكون في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على: «هم الذين طغوا» مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يعني: عاداً، وفرعون، وثموداً طغوا، أي: تمردوا وعتوا، وتجاوزا القدر في الظلم والعدوان، ثم فسر تعالى طغيانهم بقوله: {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} .
قال الكلبيُّ: القتل، والمعصية لله تعالى.
قال القفال: والجملة أن الفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} . أي: أفرغ عليهم، وألقى، يقال: صبَّ على فلان خلعة، أي: ألقاها عليه؛ قال النابغة: [الطويل]
5198 - فَصبَّ عَليْهِ اللَّهُ أحْسنَ صُنْعهِ ... وكَانَ لَهُ بَيْنَ البَريَّةِ نَاصِراً
وقوله تعالى: {سَوْطَ عَذَابٍ} أي: نصيب عذاب؛ وقيل: شدته؛ لأن السوط عندهم ما يعذب به.
قال الشاعر: [الطويل]
5199 - ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أظهرَ دينهُ ... وصَبَّ على الكُفَّارِ سوْطَ عذابِ
والسوط: هو الآلة المعروفة.
قيل: سمي سوطاً؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي: يختلط؛ قال كعب بن زهير: [البسيط]
5200 - لَكنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ منْ دَمِهَا ... فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْديلُ
وقال آخر: [الطويل]
5201 - أحَارِثُ إنَّا لو تُسَاطُ دِماؤُنَا ... تَزايلنَ حتَّى لا يَمَسُّ دَمٌ دَمَا
[وقيل: هو في الأصل مصدر: ساطه يسوطه سوطاً، ثم سميت به الآلة] .(20/322)
وقال أبو زيد: أموالهم بينهم سويطة، أي: مختلطة.
فالسَّوطُ: خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه سمي: المسواط، وساطه: أي خلطه، فهو سائط، وأكثر من ذلك، يقال: سوط فلان أموره؛ قال: [الطويل]
5202 - فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأي غَيْرَ مُوفَّقٍ ... فَلست عَلى تَسْويطهَا بمُعَانِ
قال الفرَّاء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أن السَّوطَ: هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه غاية العذاب.
وقال الزجاج: أي: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
[ويقال: ساط دابته يسوطها أي: ضربها بسوطه.
وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها] .
قال قتادة: كل شيء عذب الله به، فهو سوط عذاب.
[واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم.
قال القاضي: وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه] .
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} ، أي: يرصد عمل كل إنسان، حتى يجازيه به.
قال الحسن وعكرمة: والمِرْصادَ: كالمرصد، وهو: المكان الذي يترقب فيه الرَّصد، جمع راصد كحرس، فالمرصاد «مفعال» من: «رصده» ، كميقات من وقته، قاله الزمخشري.
وجوَّز ابنُ عطيَّة في المرصاد: أن يكون اسم فاعل، قال: كأنه قيل: «لبالراصد» ، فعبر ببناء المبالغة.
ورده أبو حيَّان: بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء، إذ ليس هوفي موضع دخولها، لا زائدة، ولا غير زائدة.(20/323)
قال شهابُ الدِّين: قد وردت زيادتها في خبر: «إنَّ» كهذه الآية؛ وفي قول امرئ القيس: [الطويل]
5203 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فإنَّكَ ممَّا أحْدثَتْ بالمُجرِّبِ
إلاَّ أنَّ هذه ضرورة، لا يقاس عليه الكلام، فضلاً عن أفصحه.
فصل
تقدم الكلام في: «المرصاد» ، عند قوله: {كَانَتْ مِرْصَاداً} [النبأ: 21] ، وهذا مثلٌ لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه، كما قيل لبعض العرب: أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
وقال الفراء: معناه: إليه المصير.
وقال الزجاج: يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب.
وقال الضحاك: يرصد أهل الظلم، والمعصية.(20/324)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
قوله: {فَأَمَّا الإنسان} : مبتدأ، وفي خبرها وجهان:
أصحهما: أنه الجملة من قوله: «فيقول» ، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 26] كما تقدم، والظرف حينئذٍ منصوب بالخبر؛ لأنه في نية التأخير، ولا يمنع الفاء من ذلك. قاله الزمخشري.
الثاني: «إذَا» : شرطية، وجوابها: «فيقول» ، وقوله: «فأكْرمهُ» : معطوف على «ابتلاه» ، والجملة الشرطية خبر: «الإنسان» . قاله أبو البقاء.
وفيه نظر؛ لأن «أما» تلزم الفاء في الجملة الواقعة خبراً عما بعدها، ولا تحذف إلا مع قول مضمر، كقوله: {فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] كما تقدم، إلا في ضرورة.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: بم اتَّصل قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان} ؟ .
قلت: بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} ، فكأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطَّاعة، فأما الإنسان، فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا العاجلة» انتهى.(20/324)
يعني: بالتعليق من حيث المعنى، وكيف عطفت هذه الجملة التفصيلية على ما قبلها مترتبة عليه، «لا يريد إلا الطَّاعة» على مذهبه، ومذهبُ أهل السنة: أن الله يريد الطاعة وغيرها، ولولا ذلك لم يقع ثم من لا يدخل في ملكه ما لا يريد، وإصلاح العبارة أن نقول: إن الله يريد من العبد والإنسان من غير حصر.
ثم قال: فإن قلت: كيف توازن قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} ، وقوله: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه} ، وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد «أما» و «أما» تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور، أمَّا الإنسان أحسنت إلى زيد، فهو محسن إليك، وأمَّا إذا أسأت إليه، فهو مسيء إليك.
قلت: هما متوازنان من حيث إنَّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه، وذلك أن قوله «فيقُولُ: ربِّي أكرمنِ» : خبر المبتدأ، الذي هو «الإنسان» ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في نية التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل: ربي أكرمني وقت الابتلاء، فوجب أن يكون «فيقول» الثاني: خبراً لمبتدأ واجب تقديره.
فصل في المراد بالإنسان
قال ابن عبَّاسٍ: المراد بالإنسان: عتبةُ بنُ ربيعة، وأبو حذيفة بنُ المغيرةَ.
وقيل: أمية بن خلف.
وقيل: أبي بن خلف.
{إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} أي: امتحنه، واختبره بالنعمة، و «ما» زائدة صلة، «فأكْرمهُ» بالمال، و «نَعَّمَهُ» بما أوسع عليه، «فَيقُولُ: ربِّي أكرمنِ» ، فيفرح بذلك، ولا يحمده.
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه} أي: امتحنه بالفقر واختبره، «فقَدَر» أي: ضيق، «عَليهِ رِزقهُ» على مقدار البُلغة، «فيقول» ربي أهاننِ «أي: أولاني هواناً، وهذه صفة الكافر، الذي لا يؤمن بالبعث، وإنما الكرامة عنده، والهوان بكثرة المال والحظ في الدنيا، وقلته، فأمَّا المؤمن، فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.
قال القرطبيُّ: الآيتان صفة كُلِّ كافرٍ، وكثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته، وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا، لم يعطينيه الله،(20/325)
وكذا إن قتر عليه، يظن أن ذلك لهوانه على الله.
قوله: «فقَدرَ عليهِ» .
قرأ ابنُ عامرٍ: بتشديد الدَّال.
والباقون: بتخفيفها، وهما لغتان بمعنى واحد، ومعناهما: التَّضييق.
قال القرطبيُّ: والاختيار: التخفيف، لقوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] وقوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] .
وقال أبو عمرو: و «قَدَرَ» أي: قتر. و «قَدَّرَ» مشدداً: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال: «ربِّي أهانن» .
فصل في الكلام على أكرمن وأهانن
قوله: «أكْرمَنِي، أهانني» .
قرأ نافع: بإثبات يائهما وصلاً، وحذفهما وفقاً من غير خلاف عنه.
والمروي عن ابن كثير، وابن محيصن، ويعقوب: إثباتهما في الحالين؛ لأنهما اسم فلا تحذف.
واختلف عن أبي عمرو في الوصل: فروي عنه الإثبات والحذف، والباقون يحذفونها في الحالتين.
وعلى الحذف قوله: [المتقارب]
5204 - ومِنْ كَاشحٍ ظاهرٍ عُمرهُ ... إذَا مَا انْتسَبْتُ لهُ أنْكَرن
يريد: أنكرني؛ ولأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة لا تخالف خط المصحف؛ لأنه إجماع الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال: «فأكرمه ونعمه» ؟ قلت: لأن البسط: إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير، فليس بإهانة له؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية، قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول: أهانني، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.(20/326)
وأجاب ابنُ الخطيب عن هذا السؤال: بأنه في قوله: «أكرمني» صادق، وفي قوله: «أهانني» غير صادق فهو ظهن أنَّ قلة الدنيا، وتعسرها إهانة، وهذا جهل، واعتقاد فاسد، فكيف يحكي الله - تعالى - ذلك عنه؟ .
قيل: لما قال: «فَأكْرَمهُ» ، فقد صحَّ أنه أكرمه، ثم إنه حكى عنه أنه قال: «أكرمن» ذمه عليه فكيف الجمع بينهما؟ .
فالجواب: أن كلمة الإنكار: «كلاَّ» ، فلم لا يجوز أن يقال: إنَّها مختصة بقوله تعالى: «ربي أهانن» ؟ .
سمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً، لكن يمكن أن يكون الذَّم؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا، مع سبق النعم عليه من الصحة، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر، بل محبة الدنيا والتكثير بالأموال والأولاد، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث، كما حكى الله تعالى بقوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35] إلى قوله: {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} [الكهف: 37] .(20/327)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
قوله تعالى: {كَلاَّ} : ردعٌ للإنسان عن تلك المقالة.
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - المعنى: لم أبتله بالغنى، لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقرِ، لهوانه عليّ، بل ذلك لمحضِ القضاء والقدر، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل، وهذا مذهب أهل السنة، وأما على مذهب المعتزلة: فلمصالح خفيَّة، لا يطلع عليها إلا هو - سبحانه - فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع: يعني: لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله - تعالى - على الغنى والفقر.
قوله: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} . قرأ أبو عمرو: «يكرمون» ، وما بعده بياء الغيبة، حملاً على معنى الإنسان المتقدم، إذا المراد به الجنس، والجنس في معنى: الجمع.
والباقون: بالتاء في الجميع، خطاباً للإنسان المراد به الجنس، على طريقة الالتفات.(20/327)
فصل فيمن نزلت فيه الآية
لما حكى قولهم، فكأنه قال: لهم فعل أشر من هذا القول، وهو أن الله - تعالى - يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم، فقرعهم بذلك، ووبخهم. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله.
وقال مقاتلٌ: نزلت في قدامة بن مظعونٍ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه.
قوله: {وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين} .
قرأ الكوفيون: «ولا تحاضون» ، والأصل: تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي: لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي: «تُحاضُّون» بضم التاء، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة، أي: تحاضون أنفسكم.
والباقون: «تَحُضُّون» من حضَّه على كذا، أي: أغراه به، ومفعوله محذوف، أي: لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي: لا يوقعون الحضّ.
قوله: «عَلى طعامِ» : متعلق ب «تحضون» ، و «طَعَام» : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي: على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى: الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.
فصل في ترك إكرام اليتيم
اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه:
أحدها: ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين} .
والثاني: دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} .
قوله: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} التاء في «التُّراثَ» : بدل من الواو؛ لأنه من الوراثة ومثله: تولج، وتوراة، وتخمة وقد تقدم كما قالوا: تجاه، وتخمة، وتكأة، وتؤدة، ونحو ذلك.
والتراث: ميراث اليتامى، وقوله تعالى: {أَكْلاً لَّمّاً} ، اللَّمم: الجمع الشديد، يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً.(20/328)
قال الحطيئة: [الطويل]
5205 - إذَا كَانَ لمَّا يُتْبعُ الذَّمُّ ربَّهُ ... فَلا قدَّسَ الرَّحمنُ تِلْكَ الطَّواحِنَا
ولمَمْتُ شعثه من ذلك؛ قال النابغة: [الطويل]
5206 - ولسْتُ بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تَلمُّهُ ... عَلى شَعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذب؟
والجَمُّ: الكثير، ومنه: جمَّة الماء.
قال زهير: [الطويل]
5207 - فَلمَّا وَرَدْنَا الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ومنه: الجُمَّةُ، للشعر، وقولهم: جاءوا الجمَّاء الغفير من ذلك.
وكتيبة ملمومة وحجر ملموم، وقولهم: إن دارك لمومة، اي تلم الناس وتجمعهم، والآكل يلم الثريد، فيجمعه لقماً، ثم يأكله.
قال الحسنُ: يأكلون نصيبهم، ونصيب غيرهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم.
وقيل: إنَّ المال الذي يتركه الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة، وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل، أي: يجمع البعض إلى البعض، ويأخذ الكل ويأكله.
قال الزمخشريُّ: يجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال، سهلاً مهلاً من غير أن يعرق في جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلاً لمًّا جامعاً بين ألوان المشتهيات [من الأطعمة والأشربة والفواكه] .
[وقال ابن زيد: كان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم وتراثهم مع تراثهم] .
قوله: {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي: كثيراً حلاله وحرامه.
والجَمُّ: الكثير، يقال: جمَّ الشيء يجم جُمُوماً، فهو جم وجام، ومنه: جمَّ الماء(20/329)
في الحوض، إذا اجتمع وكثر، والجمة: المكان الذي يجتمع فيه الماء، والجُمُوم - بالضم - المصدر يقال: جم الماء يجم جموماً: إذا كثر في البئر واجتمع، والمعنى: يحبون المال حباً شديداً.(20/330)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
قوله: {كَلاَّ} : ردعٌ لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم، أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، فهو ردع لانكبابهم على الدنيا وجمعهم لها.
قوله: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} . في «دكّاً» وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مؤكد، و «دَكًّا» الثاني: تأكيد للأول، تأكيداً لفظياً. كذا قاله ابن عصفورٍ وليس المعنى على ذلك.
والثاني: أنه نُصِبَ على الحال، والمعنى: مكرراً عليها الدَّكُّ، ك «علمته الحساب باباً باباً» ، وهذا ظاهر قول الزمخشري.
وكذلك: «صفًّا صفًّا» حال أيضاً، أي: مصطفين، أو ذوي صفوف كثيرة.
قال الخليل: الدَّكُّ: كسر الحائط والجبل والدكداك: رمل متلبّد. ورجل مدك: أي شديد الوطء على الأرض. [فمعنى الدك على قول الخليل: كسر شيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت فلم يبق على شيء] .
وقال المبرد: الدَّكُّ: حطُّ المرتفع من الأرض بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء كذلك، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش، فمعنى الدك على قول الخليل: كسر الشيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت، فلم يبق على ظهرها شيء، وعلى قول المبرد، معناه: أنها استوت في الانفراش، فذهب دورها، وقصورها، حتى صارت كالصخرة الملساء، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا التَّدكُّكُ لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة [فإذا زلزلت الأرض زلزلة] بعد زلزلة، فتكسر الجبال، وتنهدم، وتمتلئ الأغوار، وتصير ملساء، وذلك عند انقضاء الدنيا.(20/330)
قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} . أي: جاء أمره وقضاؤه. قاله الحسن، وهو من باب حذف المضاف.
وقيل: جاءهم الربُّ بالآيات، كقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210] أي بظلل.
وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئاً له، تفخيماً لشأن تلك الآيات، كقوله تعالى في الحديث: «يَا ابْنَ آدم مَرضتُ فلمْ تعُدِنِي، واسْتسْقَيتُكَ فَلمْ تَسقِنِي واسْتطعَمْتُكَ فَلمْ تُطْعمْنِي» .
وقيل: زالت الشبه، وارتفعت الشكوك، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشكوك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه [وقيل وجاء قهر ربك، كما تقول جاءتنا بنو أمية، أي: قهرهم.
قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستوت، والله - سبحانه وتعالى - لم يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوات الأوقات، ومن فاته الشيء، فهو عاجز.
وأما قوله تعالى: {والملك صَفّاً صَفّاً} أي: والملائكة صفاً بعد صفٍّ متحلِّقين بالجن والإنس] .
قوله: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} .
«يومئذ» : منصوب ب «جيء» ، والقائم مقام الفاعل: «بجهنم» وحوز مكيٍّ: أن يكون «يومئذ» : قائم مقام الفاعل.
وأمَّا «يومئذ» الثاني فقيل: بدل من «إذا دُكَّتِ» ، والعامل فيها: «يتذكر» ، قاله الزمخشري وهذا مذهب سيبويه.
وقيل: إن العامل في «إذا دكت» : يقول، والعامل في «يومئذ» : يتذكر، قاله أبو البقاء.
فصل
قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ: «تقادُ جهنَّمُ بِسبْعِينَ ألف زمام، كُل زِمَامٍ بيدِ سبْعينَ ألْف ملكٍ يجرونها، لهَا تَغَيُّظٌ وزفيرٌ، حتَّى تنصبَّ عن يسارِ العرْشِ» .(20/331)
رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً.
وقال أبُو سعيدٍ الخدريُّ: «لما نزلت: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} تغير لون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: أقْرأنِي جِبْريلُ: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} ، - الآية - {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قلت: يا رسول الله، كيف يجاءُ بها؟ قال:» يُؤْتَى بِهَا تُقَادُ بِسبعِينَ ألْف زمامٍ، يَقُودُ بكُلِّ زمَامٍ سَبعُونَ ألْف ملكٍ، فتشْردُ شَرْدَةً لو تُرِكَتْ لأحْرقَتْ أهْلَ الجَمْعِ، ثُمَّ تعْرضُ لِي جهنَّمُ، فتقول: مَا لِي ولَكَ يا مُحَمَّدُ، إنَّ الله قَدْ حَرَّمَ لحْمَكَ عليَّ، فلا يَبْقَى أحَدٌ إلاَّ قال: نَفْسِي نَفْسِي، إلاَّ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنَّه يقُولُ: ربِّ أمَّتِي، ربِّ أمَّتِي «.
قال ابن الخطيب: قال الأصوليون: معلوم أنَّ جهنَّم لا تنقل من مكانها، ومعنى مجيئها: برزت وظهرت حتى يراها الخلق، ويعلم الكافر أنَّ مصيره إليها.
قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} . تقدم الكلام في إعراب:» يومئذ «، والمعنى: يتَّعظُ الكافرُ، ويتوب من همته بالدُّنيا وقيل: يتذكر أن ذلك كان ضلالاً.
{وأنى لَهُ الذكرى} أي: ومن أين له الاتِّعاظٌُ والتوبة، وقد فرط فيها الدنيا.
وقيل: ومن أين له منفعة الذِّكرى، فلا بُدُّ من تقدير حذفِ المضاف، وإلاَّ فبين» يومئذٍ يَتذكَّر «وبين:» وأنَّى لهُ الذِّكْرى «تناف. قاله الزمخشري.
قوله:» وأنَّى «خبر مقدم، و» الذكرى «: مبتدأ مؤخر، و» له «متعلق بما تعلق به الظرف.
قوله: {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، أي: في حياتي، فاللام بمعنى» في «.
وقيل: أي: قدمت عملاً صالحاً أي لحياة لا موت فيها.
وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون ممن له حياة هنيئة.
فصل في شبهة للمعتزلة والرد عليها
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم وقصدهم، وأنَّهم ما كانوا محجوزين عن الطَّاعات، مجبرين على المعاصي.
والجواب: أن فعلهم كان معلقاً بقصد الله - تعالى - فبطل قولهم.
قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} .(20/332)
قرأ الكسائي: «لا يعذَّب ولا يُوثَقُ» مبنيين للمفعول، ورواه أبو قلابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفتح الثاء والذال، والباقون: قرأوهما مبنيين للفاعل.
فأمَّا قراءة الكسائي: فأسند الفعل فيها إلى: «أحد» ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى، وأما عذابه ووثاقه، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل، والضمير لله تعالى، أو مضافين للمفعول، والضمير للإنسان، ويكون «عذابَ» واقعاً موقع تعذيب، والمعنى: لا يُعذِّبُ أحدٌ مثل تعذيب الله - تعالى - هذا الكافر، ولا يوثق أحد توثيقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره، وعناده.
والوثاق: بمعنى: الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء، إلا أن في إعمال اسم المصدر عمل مسمَّاه خلافاً مضطرباً، فنقل عن البصريين المنع، وعن الكوفيين الجواز، ونقل العكس عن الفريقين؛ ومن الإعمال قوله: [الوافر]
5208 - أكُفْراً بعْدَ ردِّ المَوْتِ عنِّي ... وبَعْدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتَاعَا
ومن منع: نصب المائة بفعل مضمرٍ؛ وأصرح من هذا القول الشاعر: [الطويل]
5209 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تُكَلِّمُنِي فِيهَا شفاءٌ لمَا بِيَا
وقيل: المعنى: ولا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] . قاله الزمخشري.
وأما قراءة الباقين: فإنَّه أسند الفعل لفاعله، والضمير في: «عذابه» ، و «وثاقه» يحتمل عوده على الباري - تعالى -، بمعنى: أنه لا يعذب في الدنيا، مثل عذاب الله تعالى يوم أحد، أي: أن عذاب من يعذب في الدنيا، ليس كعذاب الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قاله أبو عبد الله.
وفيه نظر، من حيث إنه يلزم أن يكون: «يومئذ» معمولاً للمصدر التشبيهي، وهو ممتنع لتقدمه عليه، إلاَّ أن يقال: إنه توسع فيه.(20/333)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وقيل: المعنى: لا يكل عذابه، ولا وثاقه لأحد؛ لأن الأمر لله - تعالى - وحده في ذلك.
وقيل: المعنى: أنه في الشدة، والفظاعة، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله.
ورد هذا، بأن «لا» ، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابق هذا المعنى، ولا يطلق على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيد، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة، لا دار الدُّنيا.
وقيل: المعنى: أنه لا يعذب أحد في الدنيا، مثل عذاب الله الكافر فيها، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله.
ويحتمل عوده على الإنسان، بمعنى: لا يعذب أحد من زبانية العذاب، مثل ما يعذبون هذا الكافر، ويكون المعنى: لا يحمل أحد عذاب الإنسان، لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب.
وقرأ نافع في رواية، وأبو جعفر وشيبة، بخلاف عنهما: «وثاقه» بكسر الواو.
والمراد بهذا الكافر المعذب، قيل: إبليس - لعنه الله -؛ لأنه أشد الناس عذاباً.
وقال الفراء: هو أمية بن خلف.
قوله
: {ياأيتها
النفس المطمئنة} .
قرأ العامة: «يا أيَّتُها النَّفسُ» بتاء التأنيث.
وقرأ زيد بن علي: «يا أيُّهَا» ، كنداء المذكر، ولم يجوز ذلك أحد، إلا صاحب البديع، وهذه شاهدة له، وله وجه: وهو أنها كما لم تطابق صفتها تثنية وجمعاً، جاز ألاَّ يطابقها تأنيثاً، تقول: يا أيها الرجلان، يا أيها الرجل.
فصل في الكلام على الآية
لما وصف حال من اطمأن إلى الدُّنيا، وصف حال من اطمأنَّ إلى معرفته وعبوديته، وسلم أمره إلى الله - تعالى -.
وقيل: هذا كلام الباري تعالى، إكراماً له كما كلَّم موسى عليه السلام.(20/334)
وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله تعالى.
قال مجاهد وغيره: «المُطْمئنَّة» : الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله تعالى ربها، فأجيبت لذلك.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: المطمئنة بثواب الله، وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المؤمنة الموقنة.
وعن مجاهدٍ أيضاً: الراضية بقضاءِ الله.
وقال مقاتلٌ: الآمنة من عذاب الله تعالى.
وفي حرف أبي كعب: «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» .
وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله تعالى، في كتابه.
وقال ابن كيسان: المطمئنة - هنا -: المخلصة وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى؛ لقوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب.
وقال ابن زيدٍ: المطمئنة، التي بشرت بالجنة، عند الموت، أو عند البعث، ويوم الجمع.
قوله: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} ، أي: ارجعي إلى صاحبك، وجسدك.
قاله ابنُ عبَّاسٍ وعكرمةُ وعطاءٌ، واختاره الكلبيُّ، يدل عليه قراءة ابن عباس: «فادخُلِي في عَبْدِي» ، على التوحيد.
وقال الحسنُ: ارجعي إلى ثواب ربك.
وقال أبو صالح: ارجعي إلى الله، وهذا عند الموت.
وقوله تعالى: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} حالان، أي: جامعة بين الوصفين؛ لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، والمعنى: راضية بالثواب، مرضية عنك في الأعمال، التي عملتها في الدنيا.
فصل في مجيء الأمر بمعنى الخبر
قال القفَّال: هذا وإن كان أمراً في الظَّاهر، فهو خبر في المعنى، والتقدير: أن(20/335)
النفس إن كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى، وقال الله تعالى لها: {فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي} ، قال: ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم، كقوله: «إذا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَل مَا شِئْت» .
فصل في فضل هذه الآية
قال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا أيَّتُها النَّفسُ «، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: مَا أحْسنَ هَذَا يَا رسُولَ اللهِ، فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّم:» إنَّ المَلكَ سيقُولُهَا لَكَ يَا أبَا بَكرٍ «» .
وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس ب «الطائف» ، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا ندري من تلاها: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [روى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حين وقف بئر رومة] .
وقيل: نزلت في خُبيبِ بن عديٍّ، الذي صلبه أهل «مكة» ، وجعلوا وجهه إلى «المدينة» ، فحوّل الله وجهه للقبلة.
قوله: {فادخلي فِي عِبَادِي} ، يجوز أن يكون في جسدِ عبادي، ويجوز أن يكون المعنى في زُمرةِ عبادي. وقرأ ابنُ عبًّاسٍ وعكرمةُ وجماعةٌ: «في عَبْدِي» ، والمراد: الجِنْس، وتعدَّى الفعل الأول ب «في» ؛ لأنَّ الظرف ليس بحقيقي نحو: دخلت في غمارِ الناس’ وتعدَّى الثاني بنفسه؛ لأن الظرفية متحققة، كذا قيل، وهذا إنما يتأتّى على أحد الوجهين، وهو أن المراد بالنَّفس: بعض المؤمنين، وأنه أمر بالدخول في زُمْرَة عباده، وأما إذا كان المراد بالنفس: الرُّوح، وأنها مأمورة بدخولها في الأجساد، فالظرفية متحققة فيه أيضاً.
فصل في المراد بالجنة هاهنا
قال ابنُ عبَّاسٍ: هذا يوم القيامة، وهو قول الضحاك.
والجمهور على أنَّ المراد بالجنة: دار الخلود، التي هي سكنُ الأبرار، ودار الصالحين والأخيار.
ومعنى «فِي عبَادِي» أي: في الصالحين، كقوله تعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} [العنكبوت: 9] .(20/336)
قال ابن الخطيب: ولمَّا كانت الجنَّة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء، لا جرم قال تعالى: {فادخلي فِي عِبَادِي} ، بفاء التعقيب، ولما كانت الجنة الجسمانية، لا يحصل الكون فيها إلا بعد قيام القيامة الكبرى، لا جرم قال تعالى: {وادخلي جَنَّتِي} بالواو والله تعالى أعلم.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} غُفِرَ لهُ، ومَنْ قَرَأهَا فِي سَائِرِ الأيَّامِ كانَتْ لَهُ نُوراً يوم القيامة» .(20/337)
سورة البلد(20/338)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
مكية، وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} : يجوز أن تكون «لا» : زائدة، كما تقدم في: «لا أقسم بيوم القيامة» ، قاله الأخفش: أي: أقسم؛ لأنه قال: «بهذا البلد» ، وقد أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3] ، فكيف يجوز القسمُ به، وقد أقسم به سبحانه؛ قال الشاعر: [الطويل]
5210 - تَذَكَّرتُ لَيْلَى فاعْتَرَتْنِي صَبابَةٌ ... وكَادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتَقطَّعُ
أي: يتقطع، ودخل حرف «لا» : صلة، ومنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وقد قال تعالى في سورة «ص» : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] .
وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير: «لأُقْسِمُ» من غير ألفٍ بعد اللام إثباتاً.
وأجاز الأخفش أيضاً، أن تكون بمعنى: «ألا» .
وقيل: ليست بنفي القسم،، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، لا والله لأفعلن كذا.
وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد، إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه. حكاه مكيٌّ، ورواه ابنُ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قال: «لا» : رد عليهم،(20/338)
وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال: «وأما من قال: إنها رد، فهو قول ليس له رد؛ لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد» .
فهو رد لكلام من أنكر البعث، ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيريُّ: قوله: «لا» رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور في الدنيا، أي: ليس الأمر كما تحسبه من أنه لم يقسم عليه أحد، ثم ابتدأ القسم، وأجمعوا على أنَّ المراد بالبلد: مكَّة المشرفة، أي: أقسم بالبلد الحرام، الذي أنت فيه، لكرامتك عليَّ وحبي لك.
قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} . فيه وجهان:
أحدهما: أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين، إما على معنى: أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد، وما بعده، على أن الإنسان في كبد، واعترض بينهما بهذه الجملة، يعني: ومن المكابدة، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد، كما يستحل الصيد في غير المحرم.
وإما على معنى: أنه أقسم ببلدة، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح «مكة» ، تتميماً للتَّسلية، فقال تعالى: وأنت حلٌّ به فيما يستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل، والأسر، ف «حِلٌّ» بمعنى: حلال، قال معناه الزّمخشري. ثم قال: فإن قلت: أين نظير قوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ} في معنى الاستقبال؟ .
قلت: قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، ومثله واسع في كلام العبادِ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء: أنت مكرم محبوٌّ، وهو في كلام الله أوسع؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده، كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأنَّ تفسيره بالحال محال؛ لأن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح؟ .
الثاني من الوجهين الأولين: أن الجملة حالية، أي: لا أقسم بهذا البلد، وأنت حالٌّ بها، لعظم قدرك، أي: لا نقسم بشيء، وأنت أحق بالإقسام بك منه.
وقيل: المعنى: لا أقسم به، وأنت مستحلّ فيه، أي: مستحل إذ ذاك.
فصل في المراد بهذا البلد
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة» ، وفضلها معروف، فإنه تعالى، جعله حرماً آمناً قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] ، وجعل مسجده قبلة لأهل(20/339)
المشرق والمغرب، وقال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ، فقال: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] ، وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] ، وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الحج: 27] ، وشرف مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، وحرم صيده، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل، وأكثر منها، لما اجتمعت في «مكة» لا جرم أقسم الله تعالى بها.
فصل في تفسير وأنت حلّ
روى منصورٌ عن مجاهدٍ: «وأنْتَ حِلٌّ» ، قال: ما صنعت فيه من شيء، فأنت في حل.
وكذا قال ابن عبَّاسٍ: أحل له يوم دخل «مكة» ، أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما، ولم يحل لأحد من الناس، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال السدي: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، قال: أحلت له ساعة من نهارٍ، ثم أطبقت، وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح «مكة» .
[قال ابن زيد: ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: معناه: وأنت مقيم فيه، وهو محلك أي: من أهل «مكة» نشأت بينهم، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] .
وقيل: أنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راضٍ] .
وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل، ورجل حرم وحرام ومحرم.
وقال قتادة: «وأنت حل به» أي لست بآثم، قيل: معناه أنك غير مرتكب في هذا(20/340)
البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.
وقال شرحبيل بن سعد: {وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ} أي: حلال، أي هم يحرمون «مكة» أن يقتلوا بها صيداً، أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عدواتهم له.
قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} .
قيل «ما» بمعنى: «من» ، أو بمعنى: «الذي» .
وقيل: مصدرية أقسم بالشخص وفعله.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: ومَنْ ولد؟
قلت: فيه ما في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] ، أي: بأي شيء وضعت، يعني: موضوعاً عجيب الشأن.
وقيل: «ما» : فيحتاج إلى إضمار موصول به يصح الكلام، تقديره: والذي ما ولد، إذ المراد بالوالد، الذي يولد له، «ومَا وَلَد» يعني: العَاقِر الذي لا يُولدُ له، قال معناه ابنُ عبَّاسٍ، وتلميذه ابنُ جبيرٍ وعكرمةُ.
فصل في الكلام على الآية
هذا معطوف على قوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} ، وقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادةُ والضحاكُ والحسنُ وأبو صالحٍ والطبريُّ: المراد بالوالد: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «ومَا وَلَد» أي: وما نسل من ولده، أقسم بهم؛ لأنهم أعجب ما خلق تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من البنيان، والنُّطق، والتدبير، وإخراج العلوم، وفيهم الأنبياء، والدُّعاة إلى الله تعالى، والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسُّجود لآدم - عليه السلام - وعلمه الأسماء كلَّها، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] .
وقيل: هو إقسام بآدم، والصالحين من ذريته، وأما الطالحون، فكأنهم بهائم، كما(20/341)
قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} [الفرقان: 44] ، وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] .
وقيل: الوالد: إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {وَمَا وَلَدَ} [ذريته.
وقيل: الوالد إبراهيم وإسماعيل، وما ولد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أقسم بمكة وإبراهيم] .
قال الفراء: وصلح «ما» للناس، كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] ، وهو خالق الذكر والأنثى.
قال الماورديُّ: ويحتمل أن الوالد: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتقدم ذكره، «ومَا وَلَد» : أمته: لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «إنَّما أنَا بِمنزْلَةِ الوَالِدِ أعَلِّمكُمْ» ، فأقسم به وبأمته، بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} : هذا هو المقسم عليه، والكبد: المشقة.
قال الزمخشريُّ: والكَبدُ: أصله من قولك: كبدَ الرجل كبداً، فهو أكْبَد، إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه، حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المُكابَدةُ، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله: كبده إذا أصاب كبده.
قال لبيد: [المنسرح]
5211 - يَا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أربَدَ إذْ ... قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبدِ
أي: في شدة الأمر، وصعوبة الخطب؛ وقال أبو الإصبع: [البسيط]
5212 - لِيَ ابنُ عَمٍّ لو انَّ النَّاس في كَبدٍ ... لظَلَّ مُحْتَجِزاً بالنَّبْلِ يَرْمينِي
فصل في المراد ب " الإنسان "
الإنسان هنا ابن آدم.
قال القرطبيُّ: ومنه تكبَّد اللبن: غلظ واشتد ومنه الكبدُ؛ لأنه دمٌ تغلظ واشتد ويقال: كابدتُ هذا الأمر قاسيت شدته.
فصل في المراد ب «الإنسان»
الإنسان هنا ابن آدم.(20/342)
قال ابنُ عباسٍ والحسنُ: «في كبدٍ» أي: في شدة ونصبٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً: في شدّة من حمله، وولادته، ورضاعه ونبت أسنانه، وسائر أحواله.
وروى عكرمةُ عنه قال: منتصباً في بطن أمه، والكبدُ: الاستواء، والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلاَّ منكبةً على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصاباً. وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما.
وقال يمان: لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
[وقال ابن كيسان: منتصباً في بطن أمه، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه.
وقال الحسن: كابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة] .
قال بعضُ العلماء: أول ما يكابدُ قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً، وشد رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الخِتَان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، ثم يكابد شغل الأولاد، والأجناد، ثم يكابد شغل الدُّور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّينِ، ووجع السن، وألم الأذُنِ، ويكابد مِحَناً في المال، والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعد ذلك مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث، والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة أو في النار، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} فلو كان الأمر إليه، ما اختار هذه الشَّدائد، ودل هذا على أن له خالقاً دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليتمثل أمره. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.(20/343)
وقوله تعالى: {فِي كَبَدٍ} أي: في وسط السماء.
وقال الكلبيُّ: إنَّ هذا نزل في رجل من بني جمح، يقال له: أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جُمَح، وكان قوياً، وكان يأخذ الأديم العكاظي، فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم، ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه نزل: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ، يعني: لقوته.
قوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ، أي: أيظنّ ابن آدم أن لن يحاسبه الله عزَّ وجل قال ابنُ الخطيب: إن فسرنا الكبد بالشدة والقوة، فالمعنى: أيحسب الإنسان الشديد أن لشدته لا يقدر عليه أحد؟ وإن فسرنا بالمحنة، والبلاء، كان المعنى: أنَّ الإنسان كان في النعمة، والشدة، أي: أفيظنّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه شيء، فهو استفهام على سبيل الإنكار.
قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} : يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً.
وقرأ العامة: «لُبَداً» بضم اللام وفتح الباء.
وشدَّد أبُو جعفرٍ الباء جمع لابِدٍ، مثل: راكع وركع، وساجد وسُجَّد، وعنه أيضاً: سكونها.
ومجاهدٌ وابنُ أبِي الزِّناد: بضمتين، وتقدم الكلام على هذه اللفظة في سورة: «الجن» .
قال أبو عبيدة: «لُبَداً» : فعل من التلبيد، وهذا المال الكثير، بعضه على بعض.
قال الزَّجَّاجُ: و «فعل» للكثرة، يقال: رجل حطم، إذا كان كثير الحطم.
قال الفراءُ: واحدته: «لُبْدَة» و «لُبَدٌ» : جمع.
وجعل بعضهم: واحد، ك «حطم» ، وهو في الوجهين للكثرة، والمعنى: أنفقت مالاً كثيراً مجتمعاً؛ لأن أهل الجاهلية يدعونه مكارم ومفاخر.
قوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ، أي: أيظن أن لم يعاينه أحد، بل علم الله ذلك منه، فكان كاذباً، في قوله: أهلكت، ولم يكن أنفقه. وقال: أيظن أن لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب.(20/344)
وقال مقاتلٌ: نزلت في الحارثِ بنِ عامرٍ بنِ نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفَّارات، والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه، يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً منه، فيكون ندماً منه.
قال القرطبيُّ: «وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنه كان يقرأ:» أيَحْسُبُ «، بضم السين، في الموضعين» .
وقال الحسنُ: يقول: أتلفت مالاً كثيراً فمن يحاسبني به، دعني أحسبه، ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله - عزَّ وجلَّ - يرى صنيعه، ثم عدد عليه نعمه، فقال:
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} : يبصر بهما، {وَلِسَاناً} ينطق بهما، {وَشَفَتَيْنِ} : يستر بهما ثغرهُ، والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه، ونحصي عليه ما عمله.
قوله: {وَشَفَتَيْنِ} ، الشِّفةُ: محذوفة اللام، والأصل: شفهةٌ، بدليل تصغيرها على «شُفَيْهَة» ، وجمعها على «ِفاه» ونظيره: سنة في إحدى اللغتين، وشافهته أي كلمته من غير واسطة، ولا يجمع بالألف والتاء، استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.
قال القرطبي: «يقال: شفهاتٌ وشفواتٌ، والهاء: أقيس، والواو أعم تشبيهاً بالسنوات» .
قال
الأزهريُّ
: «يقال: هذه شفة، في الوصل، وشفة، بالتاء والهاء» .
قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} ، يعني: الطريقتين: طريق الخير وطريق الشِّر.
روى قتادةُ قال: ذكر لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان يقول: «يا أيُّها النَّاس، إنَّما هُمَا النَّجدانِ: نَجْدُ الخيرِ، ونجدُ الشَّرِّ، فلم تَجْعَلُ نَجْدَ الشر أحبَّ إليْكَ من نَجْدِ الخَيْرِ» .
فكأنه لما وهمت الدلائل، جعلت كالطريق المرتفعة العالية، لكونها واضحة للعقول، كوضوح الطريق العالي للأبصار، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] ، بعد قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] .
ورُوِيَ عن عكرمة، قال: النجدانِ: الثَّديانِ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك.(20/345)
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لأنهما كالطريقين لحياة الولد، ورزقه.
فقوله: «النجدين» إما ظرف، وإما على حذف الجار إن أريد بهما الثديان.
والنَّجدُ في الأصل: العنقُ، لارتفاعه.
وقيل: الطريق العالي.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
5213 - فَريقَانِ: مِنْهُمْ جَازعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وأخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه سميت نجد، لعلوها عن انخفاض تهامة.(20/346)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} .
قال الفراءُ والزجاجُ: ذكر «لا» مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد: «لا» مع الفعل الماضي، حتى تعيد «لا» ، كقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] وإنَّما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} قائماً مقام التكرير، فكأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقال الزمخشريُّ: هي متكررة في المعنى؛ لأن معنى: «فلا اقتحم العقبة: فلا فكَّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً» . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ .
قال أبو حيَّان: ولا يتم له هذا إلا على قراءة: «فكّ» فعلاً ماضياً.
وقال الزجاج والمبردُ وأبو عليٍّ، وذكره البخاري عن مجاهد: أن قوله تعالى: {ثُمَّ(20/346)
كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} يدل على أن «لا» بمعنى: «لم» ، ولا يلزم التكرير مع «لم» ، فإن كررت «لا» كقوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] ، فهو كقوله تعالى: {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] .
فصل في معنى الآية
المعنى: فهلاَّ أنفق ماله في اقتحام العقبة، الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هلا أنفقه في اقتحام العقبة، فيأمن، والاقتحامُ: الرمي بالنفس في شيء من غير روية، يقال منه: قحم في الأمر قُحُوماً، أي: رمى بنفسه فيه من غير روية، وقَحَّم الفرس فارسه تقحيماً على وجهه: إذا رماه وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية، والقُحْمَةُ - بالضم - المهلكة والسَّنة الشديدة، يقال: أصاب العرب القُحْمَةُ: إذا أصابهم قحط [فدخلوا الريف] والقُحَمُ: صعاب الطريق.
وقال عطاء: يريد عقبة جهنم.
وقال مجاهدٌ والضحاك: هي الصراطُ.
قال الواحدي: وهذا فيه نظر؛ لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره، لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها.
وقال ابن العربي: قال مجاهد: اقتحام العقبة في الدنيا؛ لأنه فسره بعد ذلك، بقوله: «فكُّ رقَبةٍ» أو أطعم في يومٍ يتيماً، أو مسكيناً، وهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.
وقال الحسنُ ومقاتلٌ: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى، لمجاهدة النفس، والشيطان في أعمال البر.
قال القفال: قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} ، معناه: فلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة.
وقيل: معنى قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم} دعاء، أي: فلا نجا ولا سلم، من لم ينفق ماله في كذا وكذا.
وقيل: شبه عظيم الذنوب، وثقلها بعقبةٍ، فإذا أعتق رقبة، أو عمل صالحاً، كان مثله مثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب تضره، وتؤذيه وتثقله.
ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة} .(20/347)
قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: «وَمَا أدْرَاكَ» ، فقد أخبر به، وكل شيء قال فيه: «ومَا يُدرِيكَ» ، فإنه لم يخبره به، وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لإلزام أمر الدين، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعلمه اقتحام العقبة، ثم إنه تعالى فسر العقبة بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} .
قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} .
قرأ أبو عمرو وابن كثيرٍ والكسائي: «فكَّ» : فعلاً ماضياً، و «رَقَبةٌ» : نصباً، «أو أطْعَمَ» : فعلاً ماضياً.
والباقون: «فكُّ» : يرفع الكاف اسماً، «رقَبَةٍ» : خفض بالإضافة، «أوْ إطْعَامٌ» : اسم مرفوع أيضاً.
فالقراءة الأولى: الفعل فيها، بدل من قوله: «اقتحم» ، فهو بيان له، فكأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم.
والثانية: مرتفع فيها: «فكُّ» ، على إضمار مبتدأ، أي: هو فك رقبة، «أو إطعام» على معنى الإباحة، وفي الكلام حذف مضاف، دل عليه «فلا اقتحم» ، تقديره: وما أدراك ما اقتحام العقبة، فالتقدير: اقتحام العقبة فك رقبة، أو إطعام، وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليطابق المفسر والمفسر؛ ألا ترى أن المفسِّر - بكسر السين - مصدر، والمفسَّر - بفتح السين - وهو العقبة غير مصدر، فلو لم يقدر مضافاً، لكان المصدر، وهو «فك» مفسراً للعين، وهي العقبة.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء: «فكَّ، أو أطعمَ» فعلين - كما تقدم - إلا أنهما نصبا: «ذا» الألف.
وقرأ الحسنُ: «إطعام» ، و «ذا» بالألف أيضاً، وهو على هاتين القراءتين: مفعول: «أطعم» ، أو «إطعام» ، و «يتيماً» حينئذ بدل منه أو نعت له، وهو في قراءة العامة: «ذي» بالياء: نعت ل «يوم» ، على سبيل المجاز، وصف اليوم بالجوع مبالغة، كقولهم: ليلك قائم، ونهارك صائم، والفاعل ل «إطعام» : محذوف، وهذا أحد المواضع التي يطرد فيها حذف الفاعل وحده عند البصريين.
فصل في الاستفهام في الآية
قال ابنُ زيدٍ، وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام على معنى الإنكار،(20/348)
تقديره: هلاَّ أقتحم العقبة، تقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان، فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فصل في الفرق بين الفك والرق
الفكّ: التفريق، ومنه فكُّ القيد وفكُّ الرقبة، فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاد الحرفة، وإبطال العبودية، ومنه فكُّ الرهن، وهو إزالته عن المرتهن، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أيُّمَا امرئٍ مُسْلمٍ أعتقَ امْرءاً مُسْلِمَاً كَانَ فِكاكَه مِنَ النَّارِ يَجرِي على كُلِّ عَضوٍ مِنهُ عُضواً مِنهُ»
الحديث.
وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، وسمي عتقها فكَّا كفك الأسير من الأسْر؛ قال: [البسيط]
5214 - كَمْ مِنْ أسِيرٍ فَكَكنَاهُ بِلاَ ثَمَنٍ ... وجَرِّ نَاصِيةٍ كُنَّا مَواليهَا
قال الماورديُّ: ويحتمل ثانياً: إنه أراد فك رقبته، وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.
فص في أن العتق أفضل من الصدقة
قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: العِتْقُ أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدلّ على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة.
قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، أي: مجاعة، والسَّغبُ: الجوع، والسَّاغبُ: الجائع.
قال شهابُ الدِّين: والمسغبةُ: الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب.
قال الراغب: يقال سغَبَ الرجل يسغبُ سغباً وسغوباً فهو ساغبٌ، وسغبان، والمسغبةُ: مفعل منه.
وأنشد أبو عبيدة: [الطويل]
5215 - فَلَوْ كُنْت جاراً يَا بْنَ قَيْسٍ بن عاصمٍ ... لمَا بتَّ شَبْعَاناً وجاركَ سَاغِبا(20/349)
فصل
إطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل.
وقال النخعي في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، قال: في يوم عزيز فيه الطَّعام.
قوله: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} ، أي: قرابة.
قال الزمخشريُّ: «والمَسْغبَةُ، والمَقربةُ، والمَتربةُ: مفعلات، من سغبَ إذا جاع، وقرب في النسب، قال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وترب إذا افتقر» .
وهذه الآية تدل على أن الصدقة على الأقارب، أفضل منها على الأجانب.
واليتيم: قال بعض العلماء: اليتيمُ في الناس من قبل الأب، وفي البهائمِ من قبلِ الأمَّهاتِ.
وقال بعضهم: اليتيمُ: «الذي يموت أبواه» .
قال قيس بن الملوح: [الطويل]
5216 - إلى اللهِ أشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَما شَكَا ... إلى الله فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
ويقال: يتم الرجل يتماً: إذا ضعف.
قوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} ، أي: لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر يقال: ترب أي افتقر حتى لصق جلده بالتراب، فأما أترب بالألف فمعناه استغنى نحو: أثرى أي صار مالكه كالتراب وكالثرى.
قال المفسرون: هو الذي ليس له مأوى إلا التراب.
وقال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.
وقال مجاهد: الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره.
وقال قتادة: إنه ذو العيال.
وقال عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة هو البعيد عن وطنه، ليس له مأوى إلاَّ التراب.
فصل في أن المسكين قد يملك شيئاً
احتجوا بهذه الآية على أن المسكين قد يملك شيئاً؛ لأنه لو كان المسكين هو الذي لا يملك شيئاً - ألبتة - لكان تقييده بقوله: «ذا مَتْربة» تكرير.(20/350)
قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} . التراخي في الإيمان، وتباعده في المرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت؛ لأن الإيمان هو السابق، ولا يثبت عمل إلاَّ به.
قاله الزمخشري وقيل: المعنى: ثُمَّ كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان؛ لأنَّ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطَّاعات.
وقيل: التراخي في الذكر.
قال المفسرون: معناه أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبته، أو أطعم في يوم ذي مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي: صدقوا، فإنّ شرط قبول الطاعات الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بعد الإنفاق لا ينفع، قال تعالى في المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله} [التوبة: 54] .
وقيل: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} أي: فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة [فيكون المعنى: ثم كان مع تلك الطاعات من الذين آمنوا] ، نظيره قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] .
وقيل: المعنى: ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.
وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله - تعالى - ثم آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن «ثُمَّ» بمعنى: الواو، أي: وكان هذا المعتق للرقبة، والمطعم في المسغبةِ، من الذين آمنوا.
قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} ، أي: أوصى بعضهم بعضاً على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب، {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} ، أي: بالرحمة على الخلق فإنَّهم إذا فعلوا ذلك، رحموا اليتيم والمسكين، ثم إنه تعالى بينهم، فقال تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الميمنة} ، أي: الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، قاله محمد بن كعب القرظي.
[وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم.
وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن.
وقال ميمون بن مهران لأن منزلتهم عن اليمين] .
قوله: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} ، أي: القرآن، {هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} أي: يأخذون كتبهم(20/351)
بشمائلهم قاله محمد بن كعب، وقال يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم.
وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر.
وقال ميمون: لأن منزلتهم على اليسار.
قال القرطبي: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشئمة أصحاب النار.
قوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وحفصٌ: بالهمزة.
والباقون: بلا همز.
فالقراءة الأولى: من «آصَدتُ الباب» أي: أغلقته، أوصده، فهو مؤصد، قيل: ويحتمل أن يكون من «أوْصدْتُ» ، ولكنه همز الواو السَّاكنة لضمة ما قبلها، كما همز {بالسوق والأعناق} [ص: 33] .
والقراءة الثانية - أيضاً - تحتمل المادتين، ويكون قد خفف الهمزة، لسكونها بعد ضمة.
وقد نقل الفرَّاء عن السوسي الذي قاعدته إبدال مثل هذه الهمزة، أنه لا يبدل هذه، وعللوا ذلك بالإلباس وأيقن أنه قرأ: «مؤصدة» بالواو من قاعدته تخفيف الهمزة.
والظاهر أن القراءتين من مادتين: الأولى من «آصَدَ يُوصِدُ» ك «أكرم يكرم» ، والثانية من «أوْصَدَ، يُوصِدُ» مثل «أوصل يوصل» .
وقال الشاعر: [الطويل]
5217 - تَحِنُّ إلى أجْبَالِ مكَّةَ نَاقتِي ... ومِنْ دُونهَا أبْوابُ صَنعاءُ مُؤصَدَهْ
أي: مغلقة؛ وقال آخر: [الكامل]
5218 - قَوْمٌ يُعَالِجُ قُمَّلاً أبْناؤُهُمْ ... وسَلاسِلاً حِلقاً وبَاباً مُؤصدا
وكان أبو بكر راوي عاصم يكره الهمز في هذا الحرف، وقال: لنا إمام يهمز: «مؤصدة» ، فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.
قال شهابُ الدِّين: وكأنه لم يحفظ عن شيخه إلا ترك الهمزة مع حفظ حفص(20/352)
إياه عنه، وهو أضبط لحرفه من أبي بكر، على ما نقله الفراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن، وأوثق عند أهل الحديث.
وقال القرطبيُّ: وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وآصدته، أي: أغلقته، فمن قال: أوصدت، فالاسم: الوصاد. ومن قال: آصدته، فالاسم: الإصاد.
قال الفراء: ويقال من هذا «الأصيد» ، وهو الباب المطبق، ومعنى «مؤصدة» أي: مغلقة.
قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ} ، يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون خبراً ثانياً، وأن يكون الخبر وحده: «عَلَيْهِمْ» ، و «نارٌ» : فاصل به، وهو الأحسن.
وقيل: معنى «عليهم نار» ، أي: أحاطت النَّار بهم، كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] . والله أعلم.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} أعْطَاهُ اللهُ الأمْنَ مِنْ غَضبهِ يَوْمَ القِيامَةِ» .(20/353)
سورة الشمس(20/354)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
مكية، وهي خمس عشرة آية، وأربع وخمسون كلمة، ومائتان وسبعون حرفا. قوله تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} ، وقد تقدَّم أنَّ جماعة من أهل الأصول؛ قالوا: التقدير: ورب الشمس، ورب سائر ما ذكر إلى تمام القسم.
واحتج قوم على بطلان هذا القول، بأن في جملة هذا القسم: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} ، وذلك هو الله تعالى، لا يجوز أن يكون المراد منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه، فإذن لا بد من تأويل، وهو أن «ما» مع ما بعده في حكم المصدر، فيكون التقدير: والسَّماءِ وبنائها.
واعترض الزمخشريُّ عليه، فقال: لو كان الأمر على هذا الوجه، لزم من عطف قوله: «فألهمها» عليه فساد النظم.
قوله: {وَضُحَاهَا} .
قال المبرِّدُ: إن الضُّحى، والضَّحوة، مشتقان من الضحّ، وهو النور فأبدلت الألف، والواو من الحاء، تقول: ضَحْوة، وضَحَوات، وضُحى فالواو من «ضَحْوة» مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في «ضُحَى» مقلوبة عن الواو.
وقال أبو الهيثم: الضحُّ نقيض الظل، وهو نور الشمس على ظهر وجه الأرض وأصله: الضحى، فاستثقلوا الياء مع سكون الواو فقلبوها ألفاً.
والضُّحَى: مؤنثة، يقال: ارتفعت الضُّحى فوق الصخور، وقد تذكر، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر ذهب إلى أنَّه اسم على «فُعَل» نحو «صُرَد،(20/354)
ونُغَر» وهو ظرف غير متمكن مثل: سحر، تقول: لقيته ضحًى، وضُحَى إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه.
وقال الفراء: الضُّحَى، هو النهار، كقول قتادة، والمعروف عند العرب أنَّ الضحى إذا طلعت الشمس، وبُعَيْدَ ذلك قليلاً، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد.
ومن قال: الضحى، النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشَّمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلاَّ مع حرِّ الشمس، وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى: {وَلاَ تضحى} [طه: 119] أي: لا يؤذيك الحر.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد: «وضُحَاهَا» أي: ضوؤها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس.
وقال قتادةُ: بهاؤها.
وقال السدي: حرها.
وقال اليزيدي: انبساطها.
وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق، فيكون القسم بها، وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي.
قال ابن الخطيب: إنَّما أقسم بالشمس، وضحاها، لكثرة ما يتعلق به من المصالح، فإنَّ أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبحُ في المشرق، صار ذلك الضوء، كالروح الذي تنفخ فيه الحياة، فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوة، والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحى، وذلك شبيه استقرار أهل الجنة.
قوله: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} ، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال.
[قال الليث: تلوت فلاناً إذا تبعته.
وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر، يتلوها بالغروب] .(20/355)
قال الفراء: «تَلاَهَا» : أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.
وقال الزجاجُ: «إذا تَلاهَا» أي: حين استوى، واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور.
وقال قتادةُ والكلبيُّ: معناه: أن الشمس، إذا قربت، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب.
وقيل: يتلوها في كبر الجرم، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته.
قوله: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} ، الفاعل: ضمير النهار.
وقيل: عائد على الله تعالى، والضمير المنصوب، إمَّا للشمس، وإما للظُّلمة، وإما للأرض.
ومعنى «جلاها» أي: كشفها، فمن قال: هي «الشمس» ، فالمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها، ومن قال: هي «الظلمة» ، فهي ون لم يجر لها ذكر، كقولك: أضحتْ باردةً، تريد: أضحت غداتنا باردة، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما.
ومن قال: هي الدنيا والأرض، وإن لم يجر لهما ذكر، كقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] .
قوله: «إذَا تَلاهَا» ، وما بعده فيه إشكال؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جواب لفظاً، وتقديره غير صالح، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال؛ لأنه إنشاء، و «إذا» ظرف مستقبل، والحال لا يعمل في المستقبل.
ويخص «إذا» وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري، قال: فإن قلت: الأمر في نصب «إذَا» معضل، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة، فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: «مررت أمس بزيد واليوم عمرو» ، وإمَّا أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت: الجواب فيه: أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل، والجار جميعاً، كما تقول: «ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً» ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام «ضرب» الذي هو عاملهما انتهى.
وقال أبُو حيَّان: أما قوله في واوات العطف: «فتنصب وتجر» ، فليس هذا(20/356)
بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك.
وقوله: «فتقع في العطف على عاملين» ، ليس ما في الآية من العطف عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب، على اسمين مجرور ومنصوب، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك: مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً؛ وأنشد سيبويه في كتابه: [الطويل]
5219 - فَلَيْسَ بِمعروفٍ لَنا أنْ نَرُدَّهَا ... صِحَاحاً ولا مُسْتنكَرٌ أن تُعَقَّرَا
فهذا من عطف مجرور ومرفوع؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب، ونسب الجواز إلى سيبويه.
وقوله في نحو قولك: «مررت أمس بزيد واليوم عمرو» ، هذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية: «مررت بزيد أمس وعمرو اليوم» ونحن نجيز هذا.
وأمَّا قوله: «على استكراه» ، فليس كما ذكر، بل كلام الخليل على المنع.
قال الخليل في قوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 1 - 3] : «الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء» .
وأما قوله: «إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً» فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول: «أقسم، أو أحلف والله لزيد قائم» .
وأما قوله: «والواوات العواطف نوائب عن هذا» إلى آخره، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.
قال: والذي يقول: إن المُعضلَ هو تقدير العامل في «إذا» بعد الإقسام، كقوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] ، {والليل إِذْ أَدْبَرَ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} [المدثر: 33، 34] ، {والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 2 - 4] ، وما أشبهها ف «إذا» ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف؛ لأنه فعل إنشائي، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه فعل إنشائي , فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول , ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم , ومجيء الليل , لأنه(20/357)
معمول لذلك الفعل [فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً] ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال، وتقديره: والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً، وأيضاً، فقد يكون المقسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً. انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في «إذا» .
قال شهاب الدين: المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر، وقوله «ليس ما في الآية من العطف على عاملين» ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض، وبيان أنه من العطف على عاملين، أن قوله: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} - ها هنا - معمولان، أحدهما مجرور وهو «النهار» والآخر منصوب وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين والعاملان هنا في فعل المقسم به، الناصب ل «إذا» الأولى، وواو القسم الجارة، فقد تحقق معك عاملان، لهما معمولان، فإذا عطفت مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولين لعاملين، لزم ما قاله أبو القاسم، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق؟! .
وأما قوله: «وأنشد سيبويه» إلى آخره، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه، وأما قوله: أجاز ابن كيسان، فلا يلزم مذهبه، وأما قوله: فالمثال ليس كالآية بل وزانها، إلى آخره، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر، وهو كالتكرير للمسألة، وأما قوله: بل كلام الخليل يدل على المنع، إلى آخره، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع، ولم يفهم المنع، وقوله: ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف، إلى آخره، فأقول: بل يجوز تقديره، وهو العامل، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين، لأنه يجوز أن يقسم [الآن بطلوع النجم في المستقبل، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، ويجوز أن يقسم] بالشيء الذي سيوجد وقوله «ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه» إلى آخره، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً(20/358)
مقدرة، وقوله «ويلزم ألاَّ يكون له عامل» ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم، ولا يضر كونه إنشائياً، لأن الحال مقدرة كما تقدم، وقوله «وقد يكون المقسم به جثة» جوايه: يقدر حينئذ حدث، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم، ولا يخلو الكلام فيها من بحث.
قوله: {والليل إِذَا يَغْشَاهَا} . المفعول «الشمس» : أي: يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها، قاله مجاهد.
وقيل: للأرض أي: يغشى الدنيا بالظلمة، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور. وجيء ب «يَغْشَاهَا» مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب «إذ غشيها» فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} . في «ما» هذه وجهان:
أحدهما: أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء، ولأن المراد به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره ابن جرير.
والثاني: مصدر، أي وبنائها، وإليه ذهب الزجاج والمبرد، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء.
واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر: بناء السماء وطحو الأرض، وتسوية النفس، وليس المقصود إلاَّ القسم بفاعل هذه الأشياء، وهو الرب تعالى، وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي: ورب بناء السماء ونحوه.
والثاني: أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: «جعلت» ما «مصدرية في قوله» وما بناها «،» وما طحاها «،» وما سواها «، وليس بالوجه، لقوله» فألهمها «، وما يؤدي إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على» من «لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان من سخركن لنا» انتهى.
[يعني أن الفاعل في «فألهمها» عائد على الله تعالى، فليكن في بنائها كذلك] .(20/359)
وحينئذ يلزم عوده على شيء، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير «ما» فتعين أن تكون موصولة.
قال أبو حيان: «أما قوله» وليس بالوجه «، لقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} يعني من عود الضمير في {فَأَلْهَمَهَا} على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو» ما «المراد به» الذي «، قال: ولا يلزم ذلك، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام، في» بَنَاهَا «ضمير عائد على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً، فتقول: عجبت مما ضرب عمرو، تقديره: من ضرب عمرو هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهمُ من سياق الكلام كثير.
وقوله» وما يؤدي إليه من فساد النظم «ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر.
وقوله» وإنما أوثرت «إلى آخره، لا يراد ب» ما «ولا» من «الموصولتين، معنى الوصلية، لأنهما لا يوصف بهما» ما «دون» من «.
وقوله» في كلامهم «إلى آخره، تأوله أصحابنا على أن» سبحان «علم، و» ما «مصدرية ظرفية» .
قال شهاب الدين: أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق، فليس يصلح رداً؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به، فعوده على الملفوظ به أولى؛ لأنه الأصل وأما قوله: فلا ينفرد به «ما» دون «من» ، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفاً صريحاً، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى:
{فانكحوا
مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] .
وقالوا: تقديره: فانكِحُوا الطَّيِّب من النِّساءِ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به «ما» دون «من» .
قوله: {والأرض وَمَا طَحَاهَا} . أي: وطحوها، وقيل: من طحاها: أي بسطها، قال عامة المفسرين: أي دحاها.
قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي: بسطها من كل جانب.
والطَّحْوُ: البسطُ، طحا، يطحو، طحواً، وطحى يطحى طحياً، وطحيت:(20/360)
اضطجعت، عن أبي عمرو، وعن ابن عباس: طحاها: أي قسمها، وقيل: خلقها؛ قال الشاعر: [الوافر]
5220 - ومَا تَدْرِي جَذيمةُ مَنْ طَحاهَا ... ولا مَنْ سَاكِنُ العَرْشِ الرَّفيعِ
قال الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها.
ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي: المشرق المرتفع.
قال أبو عمرو: طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال: ما أدري أين طحا؟ .
ويقال: طحا به قلبه، إذا ذهب به كلِّ شيء؛ قال علقمة: [الطويل]
5221 - طَحَا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَرُوب ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قال ابن الخطيب: وإنما أخر هذا عن قوله تعالى: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} لقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] .
قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} . قيل: المعنى، وتسويتها، ف «ما» مصدرية.
وقيل: المعنى، ومن سواها، وهو الله تعالى، قيل: المراد بالنفس: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: كلُّ نفس منفوسةٍ، فما التنكير إلا لتعظيمها، أي نفس عظيمة، آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإما للتكثير، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] ، و «سوَّى» بمعنى هيأ.
وقال مجاهد: سوَّى خلقها وعدَّل، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى -.
قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا} أي: عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى، قاله ابن عباس ومجاهد.(20/361)
وعن مجاهد أيضاً: عرفها الطاعة والمعصية.
[وعن محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره، وعن قتادة: بين لها فجورها وتقواها، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول] .
قال الواحدي: الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه، من قولهم: لهم الشيء وألهمه: إذا بلغه، وألهمته ذلك الشيء، أي أبلغته، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه جواب القسم، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام، والثاني: أنه ليس بجواب، وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، فالجواب محذوف، تقديره [ليدمرن] الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال معناه الزمخشري. وقدر غيره: لتبعثن.
وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها.
وفاعل «زكّاها» و «دسّاها» ، الظاهر أنه ضمير «مَنْ» .
وقيل: ضمير الباري تعالى، أي: أفلح وفاز من زكاها بالطاعة، وقد خاب من دساها أي: خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه.
قال شهاب الدين: والحق أنه خلاف الظاهر، لا لما قال الزمخشري، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير «من» .(20/362)
وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها الله وأغواها.
وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، «وخاب» خسر من دس نفسه في المعاصي. قاله قتادة.
وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه، ومنه تزكية القاضي الشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل.
وقيل: دساها: أغواها، قال: [الطويل]
5222 - وأَنْتَ الَّذِي دسَّيْتَ عَمْراً فأصْبَحتَ ... حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلَ ضُيَّعَا
قال أهل اللغة: والأصل، دسها، من التدسيس فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا: قصيت أظفاري، وأصله قصصت، وتقضي البازي، والتدسية: الإخفاء يعني أخفاه بالفجور، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم. وقال آخر: [الكامل]
5223 - ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصْبَحَتْ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
[وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياءً. وقال ابن الأعرابي: «وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا» أي: دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم] .
قال الواحدي: فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق، فقوله: «قَدْ أفلَحَ» : هو جواب القسم.(20/363)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} . في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للاستعانة مجازاً، كقولك: «كتبت بالقلم» ، وبه بدأ الزمخشري، يعني فعلت التكذيب بطغيانها، كقولك: ظلمني بجرأته على الله تعالى.
والثاني: أنها للتعدية، أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغيان، كقوله تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وكان اسم(20/363)
العذاب الذي جاءها الطغوى، لأنه طغى عليهم. قال ابن الخطيب: وهذا لا يبعد لأن الطغيان مجاوزة [الحد فسمي عذابهم طغوا لأنه كالصيحة مجاوزة] للقدر المعتاد.
والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طغيانها، وهو خروجها عن الحدّ في العصيان قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقال محمد بن كعب: بأجمعها.
وقيل: مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برءوس الآي.
وقيل: إن الأصل «بطُغيانِهَا» إلا أن «فُعلَى» إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واو ليفصل بين الاسم والوصف.
وقرأ العامة: «بطغواها» بفتح الطاء، وهو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قلبت الياء واواً لما تقدم، من الفرق بين الاسم والصفة، يعني أنهم يقرون ياء «فَعْلى» - بالفتح - صفة، نحو جريا، وصديا، ويقلبونها في الاسم، نحو «تَقْوى، وشَرْوى» ، وكان الإقرار في الوصف، لأنه أثقل من الاسم والياء أخف من الواو، فلذلك جعلت في الأثقل.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب والجحدري، وحماد: بضم الطاء، وهو أيضاً مصدر، كالرُّجعى والحسنى، إلا أن هذا شاذ، إذ كان من حقه بقاء الياء على حالها، كالسُّقيا، وبابها، وهذا كله عند من يقول: «طغيت طغياناً» بالياء، فأما من يقول: «طغوت» بالواو فالواو أصل عنده. قاله أبو البقاء، وقد تقدم الكلام على اللغتين في البقرة.
قوله: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} . يجوز في «إذ» وجهان:
أحدهما: أن تكون ظرفاً ل «كذبت» .
والثاني: أن تكون ظرفاً للطغوى.
و «انبعثت» مطاوع بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له، و «أشْقَاهَا» فاعل «انبعَثَ» أي: نهض، والانبعاث: الإسراع، وفيه وجهان:
أحدهما: ان يراد به شخص معين، روي أن اسمه: قدار بن سالف.(20/364)
والثاني: أن يراد به جماعة قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة للتسوية في «أفعل» التفضيل، إذا أضيف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقول: «أشْقَوها» . وكان ينبغي أن يقيد، فيقول: إذا أضيف إلى معرفة، لأن المضاف إلى النكرة حكمه الإفراد والتذكير مطلقاً كالمقترن ب «من» .
فصل
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذ انبَعَثَ أشْقَاهَا: انبعث لهَا رجلٌ عزيزٌ عارمٌ، منيعٌ في أهلِه، مثلُ أبي زمعة»
الحديث.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال له: «» أتَدْرِي من أشْقَى الأوَّلينَ «؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» عَاقرُ النَّاقَةِ «، ثم قال:» أتَدْرِي من أشْقَى الآخرينَ «؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:» قَاتِلُكَ «» .
قوله: {فَقَالَ لَهُمْ} . إن كان المراد ب «أشْقَاهَا» جماعة، فعود الضمير من «لهم» عليهم واضح وإن كان المراد به علماً بعينه، فالضمير من «لهم» يعود على «ثمود» ، والمراد برسول الله يعني: صالحاً.
وقوله تعالى: {نَاقَةَ الله} منصوب على التحذير، أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها، وأضمار الناصب هنا واجب لمكان العطف، فإن إضمار الناصب يجب في ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يكون المحذر نفس «إياك» وبابه.
الثاني: أنه يجب فيه عطف.
الثالث: أنه يوجد فيه تكرار، نحو «الأسد الأسد والصبيََّ الصبيَّ، والحذرَ الحذرَ» .
وقيل: ذروا ناقة الله، كقوله تعالى: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} [هود: 64] . وقرأ زيد بن علي: «ناقَةُ اللهِ» رفعاً، على إضمار مبتدأ مضمر، أي: هذه ناقة الله فلا تتعرضوا لها.(20/365)
قوله: {وَسُقْيَاهَا} . أي ذروها وشربها، فإنهم لما اقترحوا الناقة، أخرجها لهم من الصخرة وجعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق عليهم، فكذبوه يعني صالحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في وعيدهم بالعذاب.
{فَعَقَرُوهَا} أي: عقرها الأشقى، وأضاف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله.
قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقر حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم.
وقال الفراء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذا خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل: أشقياها.
قوله: {فَدَمْدمَ} . الدمدمة: قيل: الإطباق، يقال: دمدمت عليه القبر، أي: أطبقته عليه، أي: أهلكهم وأطبق عليهم العذاب {بِذَنبِهِمْ} الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.
وقال المؤرج: الدمدمة: الإهلاك باستئصال.
وروى الضحاك عن ابن عباس: «دمدم عليهم، دمر عليهم ربهم» بذَنبِهم «أي: بجرمهم.
وقال الفراء:» فدَمْدَمَ «أي: أرجف. وحقيقة الدمدمة: تضعيف العذاب وترديده، ويقال: دممت على الشيء: أي: أطبقت عليه، فإذا كرر الإطباق قلت: دمدمت. وفي» الصحاح «: ودمدمت الشيء: إذا ألصقته بالأرض وطحطحته.
[قال القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب أي سويته عليه، والمعنى على هذا فجعلهم تحت التراب فسواها أي فسوى عليهم الأرض، وعلى الأول: فسواها: أي فسوى الدمامة، وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة، وذلك أن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم] .
وقال ابن الأنباري: دمدم: أي: غضب، والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل ودمدمت الثوب طليته بالصيغ والباء في بذنبهم للسببية.
وقرأ ابن الزبير: «فدهدم» بهاء بين الدالين بدل الميم، وهي بمعنى القراءة المشهورة.
قال القرطبي: «وهما لغتان، كما يقال: امتقع لونه، وانتقع» .(20/366)
قوله: {فَسَوَّاهَا} . الضمير المنصوب يجوز عوده على «ثمود» باعتبار القبيلة كما أعاده في قوله تعالى {بِطَغْوَاهَآ} ويجوز عوده على «الدمدمة» والعقوبة أي: سواها بينهم، فلم يفلت منهم أحد.
قوله: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} . قرأ نافع وابن عامر: «فَلاَ» بالفاء، والباقون: بالواو، ورسمت في مصاحف المدينة والشام بالفاء، وفي غيرها بالواو، فقد قرأ كل بما يوافق رسم مصحفه.
وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقرأ: ولم يخف، وهي مؤيدة لقراءة الواو. ذكره الزمخشري.
فالفاء تقتضي التعقيب، وهو ظاهر، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون لاستئناف الإخبار.
قال القرطبي: روي أن ابن وهب وابن القاسم قالا: أخرج إلينا مالك مصحفاً لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين كتب المصاحف، وفيه: «ولاَ يَخافُ» بالواو وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراق: بالواو، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم.
وضمير الفاعل في «يَخَافُ» الأظهر عوده على الرب تبارك وتعالى، لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، والهاء في «عُقْبَاهَا» ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحق، وكل من فعل فعلاً بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك.
وقيل: المعنى أنه بالغ في الإعذار إليهم مبالغة من لا يخاف عاقبة عذابهم.
وقيل: يرجع إلى رسول الله، أي: لا يخاف صالح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم، ونجاه الله حين أهلكهم.
وقال السديُّ والضحاك والكلبي: إن الضمير يرجع إلى «أشْقَاهَا» ، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً.
في الكلام تقديم وتأخير: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها، وعقبى الشيء: خاتمته.
وروى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {والشمس وَضُحَاهَا} فكَأَنَّمَا تصدَّق بِكُلِّ شيءٍ طَلعتْ عليْهِ الشَّمْسُ والقَمرُ» .(20/367)
سورة الليل(20/368)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
مكية، وقيل: مدنية، وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة، وثلاثمائة وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى} . أي: يغطي، ولم يذكر مفعولاً، للعلم به.
وقيل: يغشى النهار.
وقيل: الأرض.
قال قتادة: أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً والنهار مضيئاً مبصراً.
قال ابن الخطيب: أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويجيئهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ثم أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى، لأن النهار إذا كشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، جاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم والطير والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما، كما قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [إبراهيم: 33] فقوله {والنهار إِذَا تجلى} أي: انكشف وظهر وبان بضوئه عن ظلمة الليل. وقرأ العامة: «تَجَلّي» فعلاً ماضياً، وفاعله ضمير عائد على النهار.(20/368)
وقرأ عبد الله بن عمير: «تتجلى» بتاءين، أي: الشمس، وقرأ «تُجْلِي» بضم التاء وسكون الجيم أي: الشمس أيضاً، ولا بد من عائد على النهار محذوف أي: تتجلى أو تجلى فيه. قوله: {وَمَا خَلَقَ} . يجوز في «ما» أن تكون بمعنى «من» على ما تقدم في سورة «والشمس» .
قال الحسن: معناه، والذي خلق فيكون قد أقسم بنفسه تعالى.
وقيل: مصدرية.
قال الزمخشري: «والقادر: العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد» ، وقد تقدم هذا القول، والاعتراض عليه، والجواب عنه في السورة قبلها. وقرأ أبو الدرداء: «والذكر والأنثى» ، وقرأ عبد الله: «والذي خلق» وقرأ الكسائي، ونقلها ثعلبة عن بعض السلف: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرِ} بجر الذكر.
قال الزمخشري: «على أنه بدل من محل ما خلق بمعنى وما خلقه الله، أي: ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم بالخلق، إذ لا خالق سواه» .
وقيل: المعنى، وما خلق من الذكر والأنثى، فتكون «من» مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه ويكون قسمه بهم تكريماً لهم وتشريفاً.
قال أبو حيان: وقد يخرج على توهم المصدر، أي: وخلق الذكر؛ كقوله: [المتقارب]
5224 - تَطُوفُ العُفَاةُ بأبْوابِهِ ... كمَا طَافَ بالبَيْعَةِ الرَّاهبِ
بجر «الراهب» على توهم النطق بالمصدر، أي: كطوف الراهب انتهى.(20/369)
والذي يظهر في تخريج البيت أن أصله: الراهبي - بياء النسب - ثم خفف، وهو قليل، كقولهم: أحمري، وداودي، وهذا التخريج بعينه في قول امرئ القيس: [الطويل]
5225 - ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَقِلْ في مَقِيلٍ نَحسهُ مُتغيِّبِ
لما استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعل.
وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كان يقرأ: {والنهار إِذَا تجلى والذكر والأنثى} ويسقط {وَمَا خَلَقَ} .
وفي صحيح مسلم عن علقمة، قال: قدمنا «الشام» ، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم، أنا، قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية: {والليل إِذَا يغشى} ؟ قال: سمعته يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى» قال. وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ومَا خَلَقَ» فلا أتابعهم.
وقال ابن الأنباري: حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله، قال: أقرأني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي أنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينُ» .
قال ابن الأنباري: كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له، وإن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود فيما عليه جماعة من المسلمين، وموافقة الإجماع أولى من الأخذ بقول واحد يخالفه الإجماع.
فصل في المراد بالذكر والأنثى
قيل المراد بالذكر والأنثى، آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قاله ابن عباس والحسن والكلبي.
وقيل: جميع الذكور والإناث من جميع الحيوانات.(20/370)
وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
فصل في معنى الآية
وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} . هذا جواب القسم، والمعنى: إن أعمالكم لتختلف، [ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدمة، وشتى واحدهُ شتيت مثل مريض ومرضى، وإنما قيل للمختلف: شتَّى، لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي إن أعمالكم المتباعدة بعضه عن بعض لشتى، لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى، أي: فمنكم مؤمن، وبر، وكافر، وفاجر، ومطيع، وعاص.
وقيل: لشتَّى أي: لمختلف الجزاء فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار وقيل لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم وقاسي وحليم وطائش وجواد وبخيل]
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبي سفيان.(20/371)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أعطى} . قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني أبا بكر، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى} أي: بذل واتقى محارم الله التي نهي عنها {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بالخلف من الله تعالى على عطائه {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ يَومٍ غَربت شَمْسهُ إلا بُعِثَ بجَنْبتها مَلكانِ يُنَاديانِ يَسْمَعُهمَا خلقُ اللهِ كُلُّهم إلاَّ الثَّقليْنِ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلفاً، وأعْطِ مُمْسِكاً تَلفاً» .
وأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} ... الآيات.
فصل
حذف مفعول «أعطى» ومفعول «اتقى» ، ومفعول «صدّق» المجرور ب «على» ، لأن الغرض ذكرُ هذه الأحداث دون متعلقاتها، وكذلك متعلقات البخل والاستغناء، وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} إما من باب المقابلة لقوله {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} وإما نيسرهُ: بمعنى نهيئه، والتهيئة تكون في العسر واليسر.(20/371)
فصل في المراد بالإعطاء
قال المفسرون: «فأمَّا مَنْ أعْطَى» المعسرين.
وقال قتادة: أعطى حق الله الواجب.
وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى، أي بلا إله إلا الله، وهو قول ابن عباس والضحاك والسلمي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقال مجاهد: بالجنة؛ لقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
وقال زيد بن أسلم: في الصلاة والزكاة والصوم.
وقوله: «فسنيسره لليسرى» أي نرشده لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها.
وقال زيد بن أسلم: لليسرى؛ للجنة.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» مَا مِن نَفسٍ إلاَّ كتَبَ اللهُ - تَعَالَى - مَدخَلهَا «فقال القَوْمُ: يَا رسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتَابِنَا؟ فقَال - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -:» بَل اعملُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ، فمن كانَ من أهْلِ السَّعَادةِ فإنَّهُ مُيَسَّرٌ لعملِ أهْلِ السَّعادةِ، ومن كَانِ مِنْ أهْلِ الشَّقَاوةِ فإنَّهُ ميسَّرٌ لعملِ أهْلِ الشَّقاوةِ «ثُمَّ قَرَأ: {فأما من أعْطَى واتَّقَى، وصَدقَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} » .
قوله: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} . أي: ضنَّ بما عنده فلم يبذل خيراً، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} ، قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال نزلت في أمية بن خلف. وعن ابن عباس: {وأمَّا من بَخِلَ واسْتَغَنَى} ، أي: بخل بماله واستغنى عن ربه {وَكَذَّبَ بالحسنى} أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] .(20/372)
[وقال مجاهد: وكذب بالحسنى أي بالجنة، وعنه: بلا إله إلا الله. فنيسره للعسرى أي نسهل عليه طريقة العسرى للشر، وعن ابن مسعود: أي للنار] .
قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} يدل على أن التوفيق والخذلان من الله تعالى لأن التيسير يدل على الرجحان ولزم الوجوب، لأنه لا واسطة بين الفعل والترك، ومع الاستواء لا ترجيح فحال المرجوحية أولى بالامتناع، ومتى امتنع أحد الطرفين وجب الآخر إذ لا خروج عن النقيضين. أجاب القفال: أنه من باب تسمية أحد الضدين باسم الآخر، كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] فسمى الله الألفاظ الداعية إلى الطَّاعة تيسيراً لليسرى، وسمى ترك هذه الألفاظ تيسيراً للعسرى، أو هو من باب إضافة الفعل إلى السبب دون الفاعل، كقوله تعالى: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً} [إبراهيم: 36] ، أو يكون على سبيل الحكم، والإخبار عنه.
وأجيب بأن هذا كلهُ عدول عن الظاهر، والظاهر من جهتنا وهو المقصود من الحديث المتقدم: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنفوسةٍ» .
قال القفال: معنى الحديث: أن النَّاس خلقوا للعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن هذا جواب عن قولهم: «ألا نتكل» ؟ فقال: اعملوا فكلٌّ ميسر، لما وافق معلوم الله تعالى.
فصل في اليسرى والعسرى
التأنيثُ في «اليُسرَى» و «العُسرَى» إن أريد جماعة الأعمال فظاهر، وإن أريد عمل من الأعمال باعتبار الخصلة، أو الفعلة، أو الطريقة، فمن فسر اليسرى بالجنة، فتيسيرها بإكرام، وسهولة، ومن فسرها بالخير، فتيسيره حضّه عليه ونشاطه، بخلاف المنافق والمرائي، ودخلت السين في «فَسنُيسِّرهُ» بمعنى الترجي، وهذا يفيد القطع من الله تعالى، أو لأن الأعمال بالخواتيم، فقد يعصي المطيع، وبالعكس، أو لأن أكثر الثواب يكون بالآخرة، وهي متأخرة.
قوله: {وَمَا يُغْنِي} ، يجوز أن تكون «ما» نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً، وأن تكون استفهاماً إنكارياً، أي: أيُّ شيء يغني عنه ماله إذا هلك، ووقع في جهنم وتردى، ويروى إما من الهلاك يقال: ردي الرجل يردي، إذا هلك؛ قال: [الطويل]
5226 - صَرَفْتُ الهَوَى عَنهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ...(20/373)
وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: تردى، أي سقط في جهنم، ومنه «المتردية» ، ويقال: ردي من في البئر وتردى: إذا سقط في بئر أو نهر أو من جبل، ويقال: ما أدري أين ردى أي أين ذهب.
ويحتمل أن يكون من تردى، وهو كناية عن الموت؛ كقوله: [الكامل]
5227 - وخُطَّا بأطْرافِ الأسنَّةِ مَضْجعِي ... ورُدَّا عَلى عيْنيَّ فضْلَ رِدائِيَا
وقول الآخر: [الطويل]
5228 - نَصِيبُكَ ممّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِداءانِ تُلْوَى فِيهِمَا وحَنُوطُ(20/374)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} ، أن نبين طريق الهدى، من طريق الضلال، فالهدى بمعنى بيان الأحكام قاله الزجاجُ: أي: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته ومعصيته، وهو قول قتادة.
وقال الفراءُ: من سلك الهدى، فعلى الله سبيله، كقوله تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9] ، وقيل: معناه إنَّ علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كقوله تعالى: {بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26] ، وقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وهي تقي الحرَّ وهي تقي البرد، قاله الفراء أيضاً. وهو يروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فصل
لما عرفهم سبحانه أن سعيهم شتى، وبين ما للمحسنين من اليسرى، وللمسيئين من العسرى أخبرهم أنه قد مضى ما عليه من البيان، والدلالة، والترغيب، والترهيب، أي: أن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد، ونبين المتعبد به.
قالت المعتزلة: إباحة الأعذار تقتضي أنه تعالى كلفهم بما في وسعهم وطاقتهم.
وأيضاً فكلمة «على» للوجوب، وأيضاً: فلو لم يستقل العبد بالإيجاد، لم يكن في نصب الأدلة فائدة، وجوابهم قد تقدم.
وزاد الواحديُّ: أن الفراء، قال: إن معنى: إن علينا للهدى والإضلال، فحذف المعطوف كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، وهو معنى قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، يريد: أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن(20/374)
يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال، ورد المعتزلة هذا التأويل بقوله تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9] ، وتقدم جوابهم.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} ، أي: لنا كل ما في الدنيا، والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد، ونكون نحن نملك الدارين، فليطلب منا سعادة الدارين؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} . قد تقدم في «البقرة» : أن البزي يشدد مثل هذه التاء، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما، وهو نظير قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] وقد تقدم.
وقال أبو البقاء: يقرأ بكسر التنوين، وتشديد التاء، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] انتهى. وهذه قراءة غريبة، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه، أي الذي قاله في «البقرة» ، ولا يفيد هنا شيئاً ألبتة فإنه قال هناك: «ويقرأ بتشديد التاء، وقبله ألف، وهو جمع بين ساكنين، وإنام سوغ ذلك المد الذي في الألف.
وقال ابنُ الزبير، وسفيان، وزيد بن علي، وطلحة، «تَتَلظَّى» بتاءين وهو الأصل.
قال القرطبي: «وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر» .
فصل في معنى الآية
المعنى: خوفتكم، وحذرتكم ناراً تلظى، أي: تلهّب، وتوقّد، وتوهّج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم: لظى.
قوله تعالى: {لاَ يَصْلاَهَآ} ، أي: لا يجد صلاها، وهو حرها {إِلاَّ الأشقى} ، أي: الشقي.(20/375)
قيل: الأشقى، والأتقى، بمعنى الشقي والتقي، ولا تفضيل فيهما، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء، وتجنبها ليس مختصاً بالأكثر تقوى.
وقيل: بل هما على بابهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ، فإنه قال: فإن قلت: كيف قال: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} ، وقد علم أن كلَّ شقي يصلاها، وكل تقي يجنبها، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكَّر النار، فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة.
قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين؛ فقيل: الأشقى، وجعل: مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصاً بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: هما أبو جهل وأمية وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال: جوابه المراد بهما شخصان معينان. انتهى.
فصل
قال المفسرون: المراد بالأشقى، والشقي: الذي «كذَّب» نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وتولَّى» أعرض عن الإيمان.
وقال الفرَّاء: معناه إلاَّ مَنْ كان شقياً في علمِ الله تعالى.
قال بعضهم: «الأشقَى» بمعنى الشقي؛ كقوله: [الطويل]
5229 - ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . ..... . . لَسْتُ فِيهَا بأوْحَدِ
«بأوحد» ، أي: بواحد، ووحيد، ويوضع «أفعل» موضع «فعيل» نحو قولهم: «اللهُ أكْبَرُ» بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين، قالت المرجئة: الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر.
والجواب: المعارضة بآيات الوعيد.
وأيضاً: فهذا إغراء بالمعاصي، وأيضاً، فقوله تعالى بعده: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يدل على ترك هذه الظاهرة؛ لأن الفاسق ليس «بأتقى» فالمراد بقوله تعالى: {نَاراً تلظى} أنها مخصوصة من بين النيران؛ لأن النار دركات، ولا يلزم من هذا أنَّ الفاسق لا يدخل النَّار أصلاً، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق.(20/376)
وأجاب الواحديُّ: بأن معنى «لا يَصْلاَهَا» : لا يلزمها، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر.
قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} ، أي: يبعد عنها الأتقى، أي: التقي الخائف.
قال ابن عباس: وهو أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ثم وصف الأتقى، فقال سبحانه: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، ولا يطلب بذلك رياء، ولا سمعةً بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله.
قوله: «يَتَوكَّى» . قرأ العامة: «يتزكّى» مضارع «تَزَكَّى» .
والحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: «يزكَّى» بإدغام الياء في الزاي، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الحال من فاعل «يُؤتِي» ، أي: يؤتيه متزكياً به.
والثاني: أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة «الَّذي» ، ذكرهما الزمخشري.
قوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} ، أي: ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى، أي: المتعالي، و «تجزى» صفة ل «نِعْمَة» ، أي: يجزى الإنسان، وإنَّما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعول، لأجل الفواصل؛ إذ الأصل: يجزيها إياه أو يجزيه إياها.
قوله: {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ} . في نصب «إلاَّ ابتِغَاءَ» وجهان:
أحدهما: أنه مفعول له قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى؛ لأن المعنى: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة» . وهذا أخذه من قول الفراء، فإنه قال: ونصب على تأويل: ما أعطيتك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله تعالى.
والثاني: أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندرج تحت جنس «مِنْ نِعْمَةٍ» وهذه قراءة العامة، أعني: النصب، والمد.
وقرأ يحيى: برفعه ممدوداً على البدل من محل «نِعْمَةٍ» ؛ لأن محلها الرفع، إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و «من» مزيدة في الوجهين، والبدل لغة تميم؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل، وأنشد الزمخشري بالوجهين: النصب؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم: [البسيط](20/377)
5230 - أضْحَتْ خَلاَءً قِفَاراً لا أنِيَ بِهَا ... إلاَّ الجَآذِرَ والظُّلْمَانَ تَخَتَلِفُ
وقول القائل في الرفع: [الرجز]
5231 - وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيسُ ... إلاَّ اليَعافِيرُ وإلاَّ العيسُ
وفي التنزيل: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] .
وقال مكي: «وأجاز الفَرَّاءُ الرفع في» ابتغاء «على البدل في موضع» نعمة «، وهو بعيد» .
قال شهاب الدين: «كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد، فإنها لغة فاشية» .
وقرأ ابن أبي عبلة: «ابتغا» بالقصر.
فصل في سبب نزول الآية
روى عطاء، والضحاك عن ابن عباس، قال: «عذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول: أحدٌ أحدٌ فمرَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» أحَدٌ، يعني اللهُ يُنْجِيْكَ بِهَا «، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» يا أبا بكرٍ إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في اللهِ «، فعرفَ أبو بكرٍ الذي يُرِيدُهُ رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانصرفَ إلى مَنْزلهِ، فأخذَ رَطْلاً مِنْ ذهبٍ ومضى به إلى أمية بن خلفٍ، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه، فأعتقه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا ليدٍ كانت له عنده»
، فنزلت {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ} ، أي: عند أبي بكر «مِنْ نَعْمَةٍ» أي: مزية ومنّةٍ «تُجْزَى» بل ابتغى بما فعل وجه ربِّه الأعلى.
قال بعضهم: المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذا الإضمار، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله، والمراد من هذه المحبة ذاته، وكرامته. ذكره ابن الخطيب.(20/378)
والأعلى من نعت الربِّ الذي استحق صفات العلو، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة] .
قوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} . هذا جواب قسم مضمر، والعامة: على «يَرضَى» مبنياً للفاعل وقرئ: ببنائه للمفعول، من أرضاه الله تعالى.
[وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه {لَعَلَّكَ ترضى} [طه: 130] .
ومعنى الآية: سوف يعطيه الله تعالى في الجنَّة ما يرضى، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى، وليس يرضى الله عنه، قال: وهذا أعظم من الأول؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربِّه، والله أعلم.
روى الثعلبيُّ عن أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {والليل} أعْطَاهُ اللهُ حتَّى يَرْضَى، وعافاهُ اللهُ تعالى من العُسْرِ، ويسَّر لهُ اليُسْرَ» .
قال الثعلبي: وإذا ثبت نزولها ب «مكة» ضعف تأويلها بقصة أبي الدحداح، وقوي تأويلها بنزولها في حق أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأنه كان ب «مكة» ، وإنفاقه ب «مكة» وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رحم اللهُ أبا بَكْرٍ، زوَّجنِي ابنَتُه، وحَملنِي إلى دَارِ الهِجْرَةِ، وأعْتَقَ بلالاً مِنْ مَالهِ» والله أعلم.(20/379)
سورة الضحى(20/380)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
مكية، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى} ، تقدم الكلام في «الضُّحَى» والمراد به هنا: النهارُ، لمقابلته بقوله تعالى: {والليل إِذَا سجى} ، ولقوله تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98] ، أي: نهاراً.
وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق، أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبليلة المعراج.
وقيل: «الضُّحَى» هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سُجَّداً لقوله تعالى: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] .
وقال القرطبي: «يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم» .
وقيل: الضحى نور الجنة، والليل ظلمة النار.
وقيل: الضحى نور قلوب العارفين كهيئة النهار، والليل سواد قلوب الكافرين كهيئة الليل، أقسم تعالى بهذه الأشياء.
وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار مجازه ورب الضحى وسيجيء معناه. و «سَجَى» ، أي: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة.
يقال: ليلة ساجية، أي: ساكنة.
ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية، ويقال: سَجَا الشَّيءُ سَجْواً إذا سكن، وسَجَا(20/380)
البحر سُجُوًّا، أي: سكنت أمواجُه وطرف ساج، أي: فاتر، ومنه استعير تسجية الميت، أي: تغطيته بالثواب؛ قاله الراغب.
وقال الأعشى: [الطويل]
5232 - فَمَا ذَنْبُنَا أنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عمِّكُم ... وبَحْرُكَ سَاجٍ ما يُوَارِي الدَّعَامِصَا
وقال الفراء: أظلم.
وقال ابن الأعرابي: اشتد ظلامه.
وقال الشاعر: [الرجز]
5233 - يا حَبَّذَا القَمراءُ واللَّيلُ السَّاجْ ... وطُرقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ
[قال الضحاك: سجا غطى كل شيء.
قال الأصمعي: سجو الليل؛ تغطيته النهار، ومثل ما يسجَّى الرجل الثوب.
وعن ابن عباس: سجا أدبر، وعنه: أظلم.
وقال سعيد بن جبير: أقبل.
وعن مجاهد: سَجَا: استوى.
والقول الأول أشهر في اللغة، أي: سكن الناس فيه كما قال: نهار صائم وليل قائم.
وقيل: سكونه استقرار ظلامه، وهو من ذوات الواو، وإنما أميل لموافقة رءوس الآي، كالضحى، فإنه من ذوات الواو أيضاً] .
فصل
قال ابن الخطيب: وقدم هنا الضحى، وفي السورة التي قبلها قدم الليل إما لأن لكلَّ منهما أثر عظيمٌ في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات(20/381)
والنور} [الأنعام: 1] ، وللنهار فضيلة النور، فقدم سبحانه هذا تارة وقدم هذا تارة، كالركوع والسجود في قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] وقوله تعالى: {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] .
وقيل: قدم الليل في سورة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأن أبا بكر سبقه كفر، وقدم الضحى في سورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب.
وقيل: لما كانت سورة «الليل» سورة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسورة «الضحى» سورة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجعل بينهما واسطة، ليعلم أنه لا واسطة بين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فصل في ذكر الضحى والليل
قال ابن الخطيب: وذكر الضحى، وهو ساعة، وذكر الليل بجملته، إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل، كما أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوازن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأيضاً: فالضحى وقت السرورٍ، والليل وقتُ الوحشةِ، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا، أقل من شرورها، وأن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات، يروى أن الله - سبحانه وتعالى - لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء، ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة عامٍ، ثم انكشفت، فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظَّلت عن يمين العرش غمامة بيضاء، ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم، والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً، وقدم ذكر الضحى لأنه يشبه الحياة، وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.
قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} ، هذا جواب القسم، والعامة: على تشديد الدال من التوديع.
وقرأ عروة بن الزبير وابنه هاشم، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة بتخفيفها، من قولهم: «ودَعَهُ» ، أي: تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع، ووذرَ» واسم فاعلهما، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك» وما تصرف منه، وقد جاء «ودع ووذَرَ» ؛ قال الشاعر: [الرمل]
5234 - سَلْ أمِيرِي: ما الَّذي غَيَّرهُ ... عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ(20/382)
وقال آخر: [الطويل]
5235 - وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ ... فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ
قيل: والتوديع مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك.
قال القرطبيُّ: واستعماله قليل يقال: هو يدع كذا، أي: يتركه.
قال المبرد: لا يكادون يقولون: ودع، ولا ذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنهما ب «ترك» .
قوله: {وَمَا قلى} ، أي: ما أبغضك، يقال: قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول: قلاه يقلاه، بالفتح؛ قال: [الهزج]
5236 - أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ ... وَلاَ واللَّهِ أقْلاهُ
لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا ... لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ
وحذف مفعول «قَلاَ» مراعاة للفواصل مع العلم به، وكذا بعد «فآوَى» وما بعده.
فصل في «القِلَى»
القلى: البغض، أي: ما أبغضك ربك منذ أحبك، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قى وقلاء، كما تقول: قريت الضيف أقرية قرى وقراء، ويقلاه: لغة طيىء. وأنشد:
5237 - أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلاَهَا ... أي: لا نبغضها، ونقلي: أي: نبغض؛ وقال: [الطويل]
5238 - أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ ... لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
5239 - ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ...(20/383)
ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ
ومعنى الآية: ما ودعك ربك وما قلاك، فترك الكاف، لأنه رأس آية، كقوله تعالى: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35] أي: والذاكرات الله.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: انحبس الوحي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اثني عشر يوماً.
وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً [وقيل خمسة وعشرين يوماً.
وقال مقاتل: أربعين يوماً] .
فقال المشركون: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلاه ربه وودعه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، فنزلت هذه الآية.
وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقم ليلتين، أو ثلاثاً، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت: يا محمدُ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين، أو ثلاث، فأنزل الله تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .
وروي عن أبي عمران الجوني: قال: أبطأ جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: «إن جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال:» يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي «؟ قالت خولة: فقلت: لو هيأت البيت، وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته، فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: يا خولة دثِّرِيِنْي، فأنزل(20/384)
الله هذه السورة، ولما نزل جبريل سأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن التّأخر، فقال:» أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ، ولا صُورةٌ «.
وقيل: لما سألته اليهود عن الروح، وذي القرنين وأهل الكهف، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» سَأخْبركُمْ غداً «ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] ، فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .
قوله: {وَلَلآخِرَةُ} الظاهر في هذه اللام أنها جواب القسم، وكذلك وفي» ولسَوْفَ «أقسم الله تعالى على أربعة أشياءٍ: اثنان منفيان، وهما توديعه وقلاه، واثنان مثبتان مؤكدان، وهما كون الآخرة خيراً له من الأولى، وأنه سوف يعطيه ما يرضيه. وقال الزمخشري:» فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على «سَوْفَ» ؟ .
قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف، تقديره: وأنت سوف - كما ذكرنا في «لأقسمُ» أن المعنى: لأنا أقسم - وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم، أو ابتداء، فلام القسم لا تدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ، والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ، وخبره، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك «.
ونقل أبو حيَّان عنه، أنه قال:» وخلع من اللام دلالتها على الحال «انتهى.
وهذا الذي رده على الزمخشري، يختار منه: أنها لام القسم، وقوله:» لا يدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد «، استثنى النحاة منه صورتين:
إحداهما: أن لا يفصل بينها وبين الفعل حرف التنفيس كهذه الآية، وكقولك:» والله لسأعطيك «.
والثاني: ألاَّ يفصل بينهما بمعمول الفعل، كقوله: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] .
ويدل لما قلت ما قال الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك:» إن زيداً لقائم «، بل هي التي في قولك:» لأقُومنَّ «ونابت» سَوْفَ «عن إحدى نوني التأكيد، فكأنه قال: ولنعطينك.(20/385)
وقوله:» خلع منها دلالتها على الحال «يعني أن لام الابتداء الداخلة على المضارع مخلصة للحال وهنا لا يمكن ذلك؛ لأجل حرف التنفيس، فلذلك خلعت الحالية منها.
وقال أبو حيَّان: واللام في» وللآخِرةُ «لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، ثم حكى بعض ما تقدم عن الزمخشري وأبي علي، ثم قال:» ويجوز عندي أن تكون اللام في «وللآخِرَةُ خَيْرٌ» وفي «ولسَوْفَ يُعْطِيكَ» اللام التي يُتَلَقَّى بها القسم، عطفهما على جواب القسم، وهي قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} ، فيكون هذا قسماً على هذه الثلاثة «انتهى.
فظاهره أن هذه اللام في» وللآخِرةُ «لام ابتداء غير متلقى بها القسم بدليل قوله ثانياً:» ويجوز عندي «، ولا يظهر انقطاع هذه الجملة عن جواب القسم ألبتة، وكذلك في» وَلَسَوْفَ «، وتقدير الزمخشريِّ: مبتدأ بعدها لا ينافي كونها جواباً للقسمِ، إنَّما منع أن يكون جواباً لكونها داخلة على المضارع لفظاً، وتقديراً.
وقال ابن الخطيب: فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ .
قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
فصل
قال إبن إسحاق: معنى قوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} ، أي: ما عندي من مرجعك إليَّ يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا.
روى علقمة عن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إنَّا أهْل بيتٍ اخْتَارَ اللهُ لنَا الآخِرَةِ على الدُّنْيَا» .
وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى، وهو قول علي والحسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله تعالى في إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وهو قول عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] ، الآية، فرفع يديه وقال:» اللَّهُمَّ أمَّتِي أمَّتِي «وبكى، فقال الله تعالى لجبريل» اذهب إلى محمد، وربُّك أعلم، فسلهُ ما يُبْكِيكَ «فأتى جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل:» اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنَّا سَنُرضِيْكَ فِي أمَّتكَ،(20/386)
ولا نَسُوءَكَ «وقال حرب بن شريح: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: إنَّ أرْجَى آية في كتاب الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] قالوا: إنا نقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} .
وقيل: يعطيك ربك من الثواب، وقيل: من النصر، فترضى، وقيل: الحوض والشفاعة.
فصل في الكلام على انقطاع الوحي
وجه النظم، كأنه قيل: انقطاع الوحي لا يكون عزلاً عن النبوّة، بل غايته أنه أمارة الموت للاستغناء عن الرسالة، فإن فهمت منه قرب الموت، فالموت خير لك من الأولى، وفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الخطاب بقوله: ما ودعك ربك وما قلى تشريفاً عظيماً، فقيل له: {وللآخِرةُ خيرٌ لك من الأوْلَى} ، أي: أنَّ الأحوال الآتية خير لك من الماضية، فهو وعد بأنه سيزيده عزَّا إلى عزِّه، وبيان أن الآخرة خيرٌ، كأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفعل فيها ما يريد، ولأنه آثرها فهي ملكه، وملكه خير مما لا يكون ملكه، أو لأن الكفار يؤذونك وأمتك في الدنيا، وأما في الآخرة فهم شهداء على الناس، أو لأن خيرات الدنيا قليلة مقطوعة، ولم يقل: خير لك، لأن فيهم من الآخرة شر له، فلو ميزهم لافتضحوا.(20/387)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي وذكره نعمه فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} ، العامة على: «فآوى» بألف بعد الهمزة رباعياً.
وأبو الأشهب: «فأوى» ثلاثياً.
قال الزمخشري: «وهو على معنيين: إما من» أواه «بمعنى» آواه «سمع بعض الرعاة يقول: أين آوي هذه الموقسة؟ وإما من أوى له، إذا رحمه» . انتهى.
وعلى الثاني قوله: [الطويل]
5240 - أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّهِ أيَّةَ ... لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ(20/387)
أي: رحمة لنفسي، ووجه الدلالة من قوله «أين آوي هذه» ، أنه لو كان من الرباعي [لقال: أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم، وهذه الهمزة] المضمومة هي حرف المضارعة، والثانية هي فاء الكلمة، وأما همزة «أفْعَل» فمحذوفة على القاعدة، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في «أومن» لئلا يستثقل بالإدغام، ولذلك نص الفراء على أن «تُؤويهِ» من قوله تعالى {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] لا يجوز إبدالها للثقل.
فصل
قال ابن الخطيب: «يَجدْكَ» من الوجود الذي بمعنى العلم، والمفعولان منصوبان ب «وجد» ، والوجود من الله العلم، والمعنى: ألم يعلمك الله يتيماً فآوى.
قال القرطبي: «يَتِيْماً» لا أب لك، قد مات أبوك، «فآوى» ، أي: جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك.
وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أبويه؟ .
فقال: لئلاَّ يكون لمخلوق عليه حق.
وعن مجاهدٍ: هو من قول العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك، لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك، ويحوطونك.
فصل في جواب سؤال
أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً: وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة، فيقول: {ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} ، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون، كيف يحسن من الله تعالى؟ قال: والجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه، ووعده بدوام النعمة، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان، وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون معناه: فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله تعالى: زيادة نعمه، كأنه يقول: ما لك تقطع عني رجاءك، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته، بل لا بد وأ أتمّ النعمة كما قال تعالى: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] .
فإن قيل: إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة؟ .(20/388)
فالجوابُ: وجه المناسبة أن تقول: قضاء الدين واجب، والدين نوعان: مالي وإنعامي، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء، والإنعامي يتأكد بالإبراء، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم، هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك، فكان العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم، إلى الوجود بشراً مستوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها، فيقول تبارك وتعالى: الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [عبيدي ذلك، وكنت عائلاً فأغنيتك، فافعل في حق] الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي، ولطفي، وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم.
قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ، أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي: أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، لقوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وقيل: معنى قوله: «ضالاًّ» لم تكن تدري القرآن، والشرائع، فهداك اللهُ إلى القرآن، وشرائع الإسلام، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. قال تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] على ما تقدم في سورة الشورى.
وقال السديُّ والكلبي والفراء: وجدك ضالاًّ، أي: في قوم ضلال، فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم.
وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة، فهداك وقيل: «ضالاً» ، أي: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ، وذي القرنين، والروح، فأذكرك، لقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] .
وقيل: ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، لقوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} [البقرة: 144] ، ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب.
وقيل: وجدك ضائعاً في قومك، فهداك إليهم، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
وقيل: ووجدك محباً للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى: {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [يوسف: 95] ، أي: في محبتك.
قال الشاعر: [الكامل]
5241 - هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا ... والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا(20/389)
عَجَباً لعزَّة في اخْتِيَارِ قَطيعَتِي ... بَعْدَ الضَّلالِ فحِبْلُهَا قَدْ أخْلقَا
وقيل: ضالاً في شعاب «مكة» ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب.
وقال كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتردهُ على عبد المطلب، فسمعت عند باب «مكة» : هنيئاً لك يا بطحاء «مكة» ، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ، قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحتُ: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصَّنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ، فرده إن شئت، فانكبّ هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام؛ وقالت: إليك عنا أيها الشيخ فهلاكُنَا على يدي محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع «مكة» ، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله أن يرده؛ وقال: [الرجز]
5242 - يا ربِّ، رُدَّ ولَدِي مُحَمَّداً ... أرْدُدْهُ ربِّي واصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله، وإن محمداً بوادي «تهامة» ، عند شجرة السَّمُرِ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق.
وفي رواية: فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟ .
فقال عبد المطلب: ولم؟ قال: إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: رده إلى جده وبيد عدوه، كما فعل بموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين حفظه عند فرعون.
وقال سعيد بن جبيرٍ: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض «الهند» ، ورده إلى القافلة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(20/390)
وقيل: ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدى بها إلى الطريق، فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ووجَدَكَ ضالاًّ» أي لا أحد على دينك، بل وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي.
وقيل: ووجدك مغموراً في أهل الشرك، فميزك عنهم، يقال: ضل الماءُ في اللبن، ومنه {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] ، أي: لحقنا بالتراب عند الدَّفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل: ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً، كقوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}
[النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد، قيل: قد يخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد قومه فقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.
وقيل: إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة.
وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى.
قوله: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، العائل: الفقير، وهذه قراءة العامة يقال: عال زيد، أي: افتقر.
قال الشاعر: [الوافر]
5243 - ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ ... ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ
وقال جرير: [الكامل]
5244 - اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً ... لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ
وقرأ اليماني: «عيِّلاً» بكسر الياء المشددة ك «سيد» .
وقال ابن الخطيب: العائل ذو العيلة، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال،(20/391)
والمشهور أن المراد به الفقير، ويؤيده ما روي في مصحف عبد الله: «وَوَجَدَكَ عديماً» .
وقوله تعالى: {فأغنى} ، أي: فأغناك خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، ثم أمره بالجهاد، وأغناه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالغنائم.
[وقال مقاتل: أغناك بما أعطاك من الرزق.
وقال عطاء: وجدك فقير النفس، فأغنى قلبك، وقيل: فقيراً من الحجج والبراهين، فأغناك بها] .
قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} . اليتيم منصوب ب «تَقْهَرْ» ، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم الجازم، لو قدمت المجزوم على جازمه، لامتنع، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يقدم على جاره.
وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] .
وقرأ العامة: «تَقْهَر» بالقاف من الغلبة، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي، «تكهر» بالكاف. كهر في وجهه: أي عبس، وفلان ذو كهرة، أي: عابس الوجه.
ومنه الحديث: «فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني» .
قال أبو حيان: «وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور» انتهى.
والكهر في الأصل: ارتفاع النهار مع شدة الحر.
وقيل: الكهر: الغلبة، والكهر: الزجر. والمعنى: لا تسلط عليه بالظلم، بل ادفع إليه حقه، واذكر يتمكَ. قاله الأخفش.
وقال مجاهدٌ: لا تحتقر. وخص اليتيم، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه، والمعنى: عامله كما عاملناك به، ونظيره:
{وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله» .(20/392)
فصل
دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى» .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ» .
فصل
الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم، أنه عرف حرارة اليتم، فيرفق باليتيم، وأيضاً ليشاركه في الاسم، فيكرمه لأجل ذلك، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ» وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى، فيشبه إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قوله: «حَسْبي مِنْ سُؤالِي، علمهُ بِحَالِي» .
وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً، لم يجدوا فيه مطعناً.
وأيضاً جعله يتيماً، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى، لا من التعليم، لأن من له أب فإن أباه يعلمه، ويؤدبه.
وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة، فكونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة، فكان معجزة ظاهرة.
قوله تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} ، أي: فلا تزجره، يقال: نهره، وانتهره إذا زجره، وأغلظ له في القول، ولكن يرده ردَّا جميلاً.
[قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء.
وقيل: المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين] .
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا، قُلْتُ: يَا ربِّ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ،(20/393)
وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عَزَّ وَجَلَّ: ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً؟ قلت: بلى يا ربِّ» .
قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . الجار متعلق ب «حدِّثْ» والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ: تلك النعمة هي القرآن والحديث.
وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل: تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى، ورعيت حق اليتيم والسائل، فحدث بها؛ ليقتدي بك غيرك.
وعن الحسين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك.
إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به.
وروى مالك بن نضلة الجشمي، قال: «كنت جالساً عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فرآني رثَّ الثياب فقال:» أَلَكَ مَالٌ «؟ .
قلت: نعم، يا رسول الله، من كل المال، قال:» إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ «.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ «.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل؟ .
فالجواب: كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنا غني، وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم، واختار قوله:» فحدث «على قوله» فخبِّرْ «ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه، ويعيده مرة أخرى.
فصل
يكبر القارىء في رواية البزي عن ابن كثير وقد رواه مجاهد عن ابن عباس وروي عن أبيّ بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا بلغ آخر» الضُّحَى «كبَّر بين كلِّ سورةٍ(20/394)
تكبيرة إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيرة، بل يفصل بينهما بسكتة، وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخّر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أياماً، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه، فنزلت هذه السورة فقال:» اللهُ أكْبَرُ «.
قال مجاهد: قرأت على ابن عبّاس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيٍّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولا يكبر في [رواية] الباقين، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
قال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سُوَره، وآياته، وحروفه بغير زيادةٍ، ولا نقصان، وعلى هذا فالتكبير ليس بقرآن.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {والضحى} كان فيمن يرضاه الله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشفع له، وكتب الله تعالى له من الحسنات بعدد كل يتيم وسائل «والله أعلم.(20/395)
سورة " ألم نشرح "(20/396)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
مكية، وهي ثماني آيات، وتسع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، الاستفهام إذا دخل على النفي قرره، فصار المعنى: قد شرحنا، ولذلك عطف عليه الماضي، ومثله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} [الشعراء: 18] ، والعامة: على جزم الحاء ب «لَمْ» .
وقرأ أبو جعفر المنصور: بفتحها.
فقال الزمخشري: وقالوا: لعلَّهُ بين الحاء، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها.
وقال ابن عطية: إن الأصل: «ألَمْ نَشْرحَنْ» بالنون الخفية، ثم أبدلها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً كما أنشد أبو زيد: [الرجز]
5245 - مِنْ أيِّ يَوميَّ مِنَ المَوْتِ أَفِرْ ... أيَوْمَ لَمْ يقْدرَ أمْ يَوْمَ قُدِرْ
بفتح راء: «يقدر» وكقوله: [المنسرح]
5246 - إضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارقهَا ... ضَرْبكَ بالسَّيْفِ قَوْنسَ الفَرسِ(20/396)
بفتح باء «اضرب» انتهى. وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب «لم» ، وهو قليل جداً، كقوله: [الرجز]
5247 - يَحْسبهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا ... شَيْخاً عَلى كُرْسيِّهِ مُعَمَّمَا
فتتركب هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة، لأن توكيد المجزوم ب «لَمْ» ضعيف، وإبدالها ألفاً إنما هو في الوقف، فاجراء الوصل مجرى الوقف خلاف الأصل، وحذف الألف ضعيف؛ لأنه خلاف الأصل.
وخرجه أبو حيان على لغة خرجها اللحياني في «نوادره» عن بعض العرب، وهو أن الجزم ب «لَنْ» والنصب ب «لَمْ» عمس المعروف عند الناس، وجعله أحسن مما تقدم.
وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار تطلب ثأر الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعن بقية الصحابة أجمعين: [البسيط]
5248 - قَدْ كَان سُمْكُ الهُدَى يَنْهَدُّ ... قَائمهُ حتَّى أبِيحَ لهُ المُختارُ فانْغَمَدَا
فِي كُلِّ ما هَمَّ أمْضَى رأيهُ قُدُماً ... ولَمْ يُشاوِرَ في إقْدامهِ أحَدَا
[بنصب راء «يشاور» ، وجعله محتمل للتخريجين. وشرح الصدر: فتحه؛ أي ألم تفتح صدرك للإسلام.
وقال ابن عباس: ألم تلين قلبك وعن الحسن في قوله: ألم نشرح، وقال مكي: حلماً وعلماً] .
وشرح الصدر: فتحه: روي أن جبريل - عليه السلام - أتاه وشق صدره، وأخرج قلبه، وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علماً، وإيماناً، ووضعه في صدره، وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه:(20/397)
أحدها: أن هذه الواقعة إنما وقعت حال صغرهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك من المعجزات فلا يجوز أن يتقدم بثبوته.
وثانيها: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام، والمعاصي ليست بإجرام فلم يؤثر الغسل فيها.
وثالثها: أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً، بل الله تبارك وتعالى يخلق فيه العلوم.
وأجيب عن الأول: بأن تقديم المعجزات على زمان البعثة جائز، وهو المسمى بالإرهاص، ومثله في حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثير.
وعن الثاني، والثالث: لا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ميل القلب إلى المعاصي وإحجامه عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لمواظبة صاحبه على الطاعات، واحترازه عن السيئات، فكان ذلك، كالعلامة للملائكة على عصمة صاحبه.
وأيضاً فإن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهم قالوا: «يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ .
قال:» نعم وينفسح «، قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة؟ .
قال:» نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت قبل نزول الموت «» .
قال القرطبيُّ: معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} قد شرحنا، و «لَمْ» جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] ، ومعناه: الله أحكم الحاكمين، وكذا {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان: [الوافر]
5249 - ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا ... وأنْدَى العَالمِينَ بُطُونَ رَاحِ
المعنى: أنتم كذا.
فإن قيل: لم قال عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} فذكر الصدر ولم يذكر القلب؟ .
فالجوابُ: لأن محلَّ الوسوسة هو الصَّدر على ما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} [الناس: 5] فإبدال تلك الوسوسة بدواعي الخير هو الشرح، فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب.
وقيل: الصدر حضن القلب، فيقصده الشبطان، فإن وجد مسلكاً أغار فيه، وبث جنده فيه وبث فيه الغموم، والهموم والحرص، فيقسو القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة(20/398)
لذة، ولا للإسلام حلاوةً، فإذا طرد في الابتداء حصل الأمن، وانشرح الصدر.
فإن قيل: لِمَ قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ولم يقل: «ألَمْ نَشْرَحْ صَدْرَك» ؟ .
فالجوابُ: كأنه تعالى يقول: لام بلام، فأنت إنما تفعل الطاعات لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.
فصل فيمن اعتبر «والضحى» ، و «ألم نشرح» سورة واحدة
روي عن طاوس، وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقرآن: «والضُّحَى» ، و {أَلَمْ نَشْرَحْ} سورة واحدة، وكانا يقرآنها في ركعة واحدة، ولا يفصلان بينهما ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ» ، وذلك لأنهما رأيا أن أولهما يشبه قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} . وليس كذلك، لأن حالة اغتمامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإيذاء الكفار، فهي حالة محنةٍ وضيق، وهذه حالة انشراح الصدر، وطيب القلبِ فكيف يجتمعان؟ .
قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} ، أي: حططنا عنك ذنبك.
وقرأ أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وحللنا وحططنا.
وقرأ ابن مسعود: «وَحَلَلْنَا عَنْكَ وقْرَكَ» . وهذه الآية مثل قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] .
قيل: الجميع كانوا قبل النبوة، أي: وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في يسر من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنماً، ولا وثناً.
قوله
: {الذي
أَنقَضَ
ظَهْرَكَ} ، أي: حمله على النقض، وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله، مثل لما كان يثقله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل، وسمعت نقيض الرجل أي صريره؛ قال العبَّاس بن مرداسٍ: [الطويل]
5250 - وأنْقضَ ظَهْرِي ما تطَوَّيْتُ مِنهُم ... وكُنْتُ عَليْهِمْ مُشْفِقاً مُتَحَنِّنَا
وقال جميلٌ: [الطويل]
5251 - وحتَّى تَداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالهُ ... وهَمَّتْ بَوانِي زَوْرهِ أنْ تُحطَّمَا
والمعنى: أثقل ظهرك حين سمع نقيضه، أي: صوته.(20/399)
والوِزْرُ: الحمل الثقيل.
قال المحاسبيُّ: يعني: ثقل الوزر لو لم يعفُ الله عنه.
قال: وإنما وُصفتْ ذنوبُ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا الثقل مع كونها مغفورة لشدة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها [وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو.
وقيل: ذنوب أمتك اضافها إليه لاشتغال قلبه بها] .
وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة، والقيام بها، حتى لا تثقل عليك.
وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاء جبريل - عليه السلام - وأزال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه ما كان يخاف من تغير العقل.
وقيل: عصمناك عن احتمال الوِزْر، وحفظناك قيل النبوة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليه الوحي، وأنت مطهَّر من الأدناس.
قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، قال مجاهد: يعني بالتأذين.
وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يقول عَزَّ وَجَلَّ له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق ويوم عرفة، وعند الجمار وعلى الصفا والمروة وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلاً عبد الله تعالى، وصدق بالجنة والنار وكل شيءٍ ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم ينتفع شيء وكان كافراً.
وقيل: أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات. وقيل: عام في كل ذكر.
قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} العامة، على سكون السين في الكلم الأربع.(20/400)
وابن وثَّاب وأبو جعفر وعيسى: بضمها، وفيه خلاف، هل هو أصل، أو منقول من المسكن؟ والألف واللام في العسر الأول لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهد، وكذلك روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لن يغلب عسرٌ يسرين وروي أيضاً مرفوعاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج يضحك يقول:
«لن يغلب عسر يسرين» والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم، ثم أعادته مع الألف واللام، كان هو الأول، نحو: جاء رجل فأكرمتُ الرجل، وقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] ، ولو أعادته بغير ألف ولام كان غير الأول، فقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لما أعاد العسر الثاني أعاده ب «أل» ، ولما كان اليُسْر الثاني غير الأول لم يعده بأل.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى قول ابن عبَّاس؟ وذكر ما تقدم.
قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوة الرجاء، وأن موعد الله تعالى لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ، وأبلغه، والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} لتقرير معناها في النفوس، وتمكنها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قوله: «جاء زيد زيد» ، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيُسْرٍ [لا محالة والثانية: عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر] فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنَّما كان العسر واحداً لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأن حكمه حكم زيد في قولك: «إن مع زيد مالاً، إن مع زيد مالاً» ، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد، فهو هو أيضاً، وأما اليسر، فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر، فقد تناول بعضاً غير البعض الأول بغير إشكال.
قال أبو البقاء: العسر في الموضعين واحد؛ لأن الألف واللام توجب تكرير الأول، وأما يُسْراً في الموضعين، فاثنان، لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء(20/401)
بضميرها، أو بالألف واللام ومن هنا قيل: «لَنْ يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرَيْنِ» .
وقال الزمخشريُّ أيضاً فإن قلت: «إن» مَعَ «للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت: أراد أن الله - تعالى - يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية، وتقوية للقلوب.
وقال أيضاً فإن قلت: فما معنى هذا التنكير؟ .
قلت: التفخيم كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً، وأي يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة.
فإن قلت: فإذا أثبت في قراءته غير مكرر فلم قال: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر، حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟ .
قلت: كأنه قصد اليسرين، وأما في قوله:» يُسْراً «من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدَّارين، وذلك يسران في الحقيقة.
فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها
تعلق هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى بعث نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً، فاغتنم لذلك، وظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيراً عندهم، فعدد الله - تعالى - عليه منته بقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} ، أي: ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل في قلبه ما حصل فيه من التأذي، بكونهم عيَّروه بالفقر، فقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} فعطفه بالفاء أي: لا يحزنك ما عيروك به في الفقر، فإن ذلك يسراً عاجلاً في الدنيا فأنجز له ما وعده، فلم يمت، حتى فتح عليه» الحجاز «، و» اليمن «ووسع عليه ذات يده، حتَّى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، وترك لأهله قوت سنته، وهذا وإن كان خاصاً بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقد يدخل فيه بعض أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن شاء الله تعالى، ثم ابتدأ فصلاً آخر من أمر الآخرة، فقال:
{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} فهذا شيء آخر، والدليل على ابتدائه، تعديه من فاء، وواو، وغيرهما من حروف النسق التي تدخل على العطف، فهذا عام لجميع للمؤمنين، {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} للمؤمنين يسراً في الآخرة لا محالة، وربما اجتمع يسرُ الدنيا، ويسرُ الآخرة.(20/402)
قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ} .
العامة: على فتح الراء: من «فَرغْتَ» ، وهي الشهيرة.
وقرأها أبو السمال: مكسورة، وهي لغة فيه.
قال الزمخشري: «وليست بالفصيحة» .
وقال الزمخشري أيضاً: «فإن قلت: كيف تعلق قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} بما قبله؟ .
قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة، ووعوده الآنفة، بعثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها» .
وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك، فانصب في الدعاء.
العامة: على فتح الصَّاد وسكون الباء أمراً من النصب وقرىء: بتشديد الباء مفتوحة أمراً من الإنصاب.
وكذا قرىء بكسر الصاد ساكنة الباء، أمراً من النَّصْب بسكون الصاد.
قال شهاب الدين: ولا أظن الأولى إلا تصحيفاً، ولا الثانية إلا تحريفاً، فإنها تروى عن الإمامية وتفسيرها: فإذا فرغت من النبوة فانصب الخليفة.
وقال ابن عطية: وهي قراءة شاذةٌ، لم تثبت عن عالم.
قال الزمخشريُّ: ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة، أنه قرأ: «فانْصِبْ» - بكسر الصاد - أي: فانصب علياً للإمامة، ولو صح هذا للرافضيِّ، لصحَّ للناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض علي، وعداوته.
قال ابن مسعود: «إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل» .
وقال الكلبيُّ: «إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب، أي: استغفِرْ لذَنْبِكَ وللمُؤمنينَ والمُؤْمِنَات» .(20/403)
وقال الحسنُ وقتادة: «فإذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربِّك» .
قوله: {وإلى رَبِّكَ فارغب} .
قرأ الجمهور: «فارْغَبْ» أمر من «رغبَ» ثلاثياً.
وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: «فَرغِّبْ» بتشديد الغين، أمر من «رَغَّبَ» بتشديد الغين أي: فرغب الناس إلى طلب ما عنده.
عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَنْ قَرَأ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني» والله تعالى أعلم.(20/404)
سورة التين(20/405)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
مكية، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية، وهي ثمان آيات، وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والتين والزيتون} .
قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبيُّ: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: 20] ومن خواص التين: أنه غذاء وفاكهة، وهو سريع الهضم لا يمكث في المعدة، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحالِ.
وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «أهدي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سلٌّ من تينٍ، فقال:» كُلُوا «وأكَلَ مِنهُ، ثُمَّ قال لأصْحَابهِ:» كُلُوا؛ لَوْ قُلتُ: إنَّ فَاكهَةً نَزلَتْ مِنَ الجنَّةِ، لقُلْتُ: هَذهِ، لأنَّ فَاكِهَة الجنَّةِ بِلاَ عجمٍ، فكُلُوهَا، فإنَّهَا تَقْطَعُ البَواسيرَ، وتَنْفَعُ مِنَ النقرسِ «» .(20/405)
وعن علي بن موسى الرضى: «التين» يزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج، وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة.
وعن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه استاك بقضيب زيتون، وقال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نِعْمَ السواكُ الزَّيتُون، مِنَ الشَّجرةِ المُبارَكَةِ، يُطيِّبُ الفَمَ، ويُذْهِبُ الحَفَرَ، وهِيَ سِوَاكِي وسِواكُ الأنْبِيَاء من قَبْلِي» .
وعن ابن عباس: «التين» مسجد نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الذي بني على الجودي والزيتون: «بيت المقدس» .
وقال الضحاك: التين: «المسجد الحرام» ، والزيتون: «المسجد الأقصى» .
وقال عكرمة وابن زيد: التين: «مسجد دمشق» ، والزيتون: «مسجد بيت المقدس» [وقال قتادة: «التين: الجبل الذي عليه» دمشق «، والزيتون الذي عليه» بيت المقدس «.
وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: التين: مسجد أصحاب الكهف والزيتون» إيليا «.
وقال عكرمة وابن زيد: التين:» دمشق «، والزيتون:» بيت المقدس «] وهذا اختيار الطبري.
وقيل: هما جبلان بالشام يقال لهما: طور زيتا وطور تينا بالسريانية، سميا بذلك لأنهما ينبتان التين والزيتون.
قال القرطبيُّ:» والصَّحيحُ الأولُ، لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل «.
قوله: {وَطُورِ سِينِينَ} . الطُّور جبل، و» سنين «اسم مكان، فأضيف الجبل للمكان الذي هو به.(20/406)
قال الزمخشريُّ:» ونحو «سينون يبرون» في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب «.
وقال أبو البقاء: هو لغة في» سيناء «. انتهى.
وقرأ العامة: بكسر السين، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن ميمون، وأبو رجاء: بفتحها وهي لغة بكر وتميم.
وقرأ عمر بن الخطَّاب، وعبيد الله، والحسن، وطلحة: سيناء بالكسر والمد.
وعمر - أيضاً - وزيد بن علي: بفتحها والمد
قال عمر بن ميمون: صليتُ مع عُمرَ بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - العشاء ب «مكة» ، فقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينَاءَ وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ} قال: وهكذا في قراءة عبد الله، ورفع صوته تعظيماً للبيت، وقرأ في الثانية ب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} ، و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} . جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. [وقد تقدم في «المؤمنين» ، وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني علىعادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية] .
وقال الأخفش: «سِيْنين» شجر، الواحدة «السينينة» ، وهو غريب جداً غير معروف عند أهل التفسير [وقال مجاهد: وطور جبل سينين، أي: مبارك بالسريانية، وهو قول قتادة والحسن.
وعن ابن عباس: سينين أي: حسن بلغة الحبشة] .
وعن عكرمة قال: هو الجبل الذي نادى الله تعالى منه موسى عليه السلام.
وقال مقاتل والكلبي: «سِيْنين» كل جبل فيه شجرٌ وثمرٌ، فهو سينين وسيناء، بلغة النبط.(20/407)
وقال أبو علي: «سينين» : «فعليل» ، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في «زحليل» للمكان الزلق، و «كرديدة» : للقطعة من التمر، وخنديدة: للطويل.
ولم ينصرف «سينين» كما لم ينصرف «سيناء» لأنه جعل اسماً لبقعة، أو أرض، ولو جعل اسماً للمكان، أو المنزل، أو اسم مذكر لانصرف، لأنك سميت مذكراً بمذكر.
وإنما أقسم بهذا الجبل، لأنه بالسَّنام والأرض المقدسة، وقد بارك الله فيهما، كما قال: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] .
ولا يجوز أن يكون «سينين» نعتاً للطور، لإضافته إليه.
قوله: {وهذا البلد الأمين} . يعني «مكة» ، والأمين على هذا «فعيل» للمبالغة، أي: أمن من فيه ومن [دخله من إنس، وطير، وحيوان، ويجوز أن يكون من أمن للرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، وأمانته حفظه من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله تعالى] {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] يعني ذا أمن.
قال القرطبيُّ: «أقسم الله تعالى بجبل» دمشق «، لأنه مأوى عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء - عليهم السلام، وب» مكة «لأنها أثر إبراهيم، ودار محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .
قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} ، هذا جواب القسم [وأراد بالإنسان الكافر.
قيل: هو الوليد بن المغيرة.
وقيل: كلدة بن أسيد فعلى هذا نزلت في منكري البعث.
وقيل: المراد بالإنسان] : آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذريته.
وقوله: {في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم.
وقال أبو البقاء: «فِي أحسن تَقْويمٍ» في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم: القوام؛ لأن التقويم فعل، وذاك وصف للخالق لا المخلوق، ويجوز أن يكون التقدير: في أحسن قوام التقويم، فحذف المضاف، ويجوز أن تكون «فِي» زائدة، أي: قوَّمنَا أحسن تقويمٍ انتهى.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: أحسن تقويم، واعتداله، واستواء أسنانه، لأنه خلق كلَّ شيء منكباً(20/408)
على وجهه، وخلق هو مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها.
قال ابن العربي: ليس لله - تعالى - خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً، عالماً، قادراً، مريداً، متكلماً، سميعاً، بصيراً، مدبراً، حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: إن الله خلق آدم عليه السلام على صورته يعني: على صفاته التي قدمنا ذكرها، وفي رواية «عَلَى صُورةِ الرَّحْمَن» ومن أين تكون للرحمن صورة مشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني.
روي أن عيسى بن موسى الهاشمي، كان يحبُّ زوجته حبًّا شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالقٌ ثلاثاً إنْ لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني، وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعاً عظيماً، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلقت إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ .
فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم: {والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسنُ الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
فهذا يدلك على أنَّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى باطناً وظاهراً، جمال هيئة، وبديع تركيب، الرأس بما فيه، والبطن بما حواه، والفَرْج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات أجمع فيه.
قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . يجوز في «أسْفلَ سافِلينَ» وجهان:
أحدهما: أنه حال من المفعول.
والثاني: أنه صفة لمكان محذوف، أي: مكاناً أسفل سافلين.
وقرأ عبد الله: «السَّافلين» معرفاً.
فصل
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد إلى أرذل العمر، وهوالهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة. [وقال ابن قتيبة السافلون هم الضعفاء الزمناء، ومن لم يستطع(20/409)
حيلة يقال: سفل يسفل فهو سافل، وهم سافلون كما تقول: علا يعلو فهو عال وهم عالون] .
وعن مجاهد وأبي العالية: «أسفل سافلين» إلى النار، يعني الكافر.
قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أبواب جهنَّم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل السافلين. وعلى هذا التقدير: ثم رددناه إلى أسفل، وفي أسفل السافلين.
قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} فيه وجهان:
أحدهما: متصل على أن المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني أقبح من قبح خلقه، وأشوههم صورة، وهم أهل النار، فالاتصال على هذا واضح.
والثاني: أنه منقطع على أن المعنى: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في الحسن والصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوس ظهره، وضعف بصره وسمعه والمعنى: ولكن والذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم، وصبرهم على الابتداء بالشيخوخة، ومشاق العبادة، قاله الزمخشري ملخصاً، وقال: أسفل سافلين على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع.
قال الفرَّاء: ولو قال: أسفل سافل جاز، لأن لفظ الإنسان واحد كما تقول: هذا أفضل، ولا تقول: أفضل قائمين، لأنك تضمر الواحد، فإن كان الواحد غير مضمور له، رجع اسمه بالتوحيد، والجمع، كقوله تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون} [الزمر: 33] ، وقوله تعالى: {إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} [الشورى: 48] .
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
قال الضحاكُ: أجر بغير عمل.
وقيل: غير مقطوع أي: لا يمن به عليهم.
قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} . «مَا» استفهامية في محل فع بالابتداء والخبر الفعل بعدها والمخاطب: الإنسان على طريق الالتفات، توبيخاً، وإلزاماً للحُجَّة، والمعنى:(20/410)
فما يجعلك كاذباً بسبب الدين، وإنكاره، وقد خلقك في أحسن تقويمٍ، وأنه يردك إلى أرذلِ العمر، وينقلك من حال إلى حال فما الذي يحملك بعد هذا الدليل إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ [لأن كل مكذب بالحق، فهو كاذب فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذباً يعني: أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء؛ لأن كل مكذّب كاذب بسبب الجزاء] ، والباء مثلها في قوله: {على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] .
وقيل: المخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين، بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت، قاله الفرَّاء والأخفش.
قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي: أتقن الحاكمين صنعاً في كل ما خلق، وإذا ثبتت القدرة، والحكمة بهذه الدلالة صح القولُ بإمكان الحشرِ، ووقوعه، أمّا الإمكان فبالنظر إلى القدرة، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] .
وقيل: أحكم الحاكمين: قضاء بالحق، وعدلاً بين الخلق، وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي في الكلام صار إيجاباً، كقوله: [الوافر]
5252 - ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكبَ المَطَايَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
[قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل: هي ثابتة لأنه لا تنافي بينهما] .
وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إذا قرءا: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} ، قالا: بلى، وإنَّا على ذلك من الشاهدين.
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم، لأنه تعالى أحكم الحاكمين، فلا يفعل فعل السفهاء.
وأجيب: بالمعارضة بالعلم، والداعي، ثم نقول: السَّفيهُ من قامت السفاهة به، لا من خلق السفاهة، كما أن المتحرك من قامت الحركة به بدلاً لا من خلقها. والله أعلم.(20/411)
سورة العلق(20/412)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
مكية، وهي أول ما نزل من القرآن في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنها. وقيل: أول ما نزل الفاتحة، ثم سورة العلق، وهي عشرون آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {اقرأ} ، العامة، على سكون الهمزة، أمر من القراءة، وقرأ عاصم في رواية الأعشى: براء مفتوحة، وكأنه قلب تلك الهمزة ألفاً، كقولهم: قرأ، يقرأ، نحو: سعى، يسعى، فلما أمر منه، قيل: «اقر» بحذف الألف قياساً على حذفها من «اسع» .
وهذا على حد قول زهير: [الطويل]
5253 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
وقد تقدم تحرير هذا.
قوله: {باسم رَبِّكَ} ، يجوز فيه أوجه:
أحدها: ان تكون الباء للحال، أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربِّك قل: بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ، قاله الزمخشريُّ.(20/412)
الثاني: أن الباء مزيدة، والتقدير: اقرأ باسم ربك، كقوله: [البسيط]
5254 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... سُودُ المَحاجرِ لا يَقْرأنَ بالسُّورِ
قيل: الاسم فضلة أي اذكر ربك، قالهما أبو عبيدة.
الثالث: أن الباء للاستعانة، والمفعول محذوف، تقديره: اقرأ ما يوحى إليك مستعيناً باسم ربِّك.
الرابع: أنها بمعنى «عَلَى» ، أي: اقرأ على اسم ربِّك، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله} [هود: 41] ، قاله الأخفش.
[وقد تقدم في أول الكتاب كيف هذا الفعل على الجار والمجرور، وقدر متأخراً في «بسم الله الرحمن الرحيم» وتخريج الناس له، فأغنى عن الإعادة] .
فصل
قال أكثرُ المفسرين: هذه السورة أول ما نزل من القرآنِ، نزل بها جبريل عليه السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قائم على «حِرَاء» ، فعلمه خمس آياتٍ من هذه السورة.
وقال جابر بن عبد الله: أول ما نزل: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] .
وقال أبو ميسرة الهمذاني: أول ما نزل فاتحة الكتاب.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أول ما نزل من القرآن: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] .
قال القرطبيُّ: «الصحيح الأول» .
قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أول ما بدئ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرؤيا الصادقة، فجاءه الملك، فقال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} ، خرجه البخاري.
وروت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنها أول سورة نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم بعدها «ن، والقلم» ثم بعدها {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] ، ثم بعدها «والضُّحَى» ، ذكره الماوردي.
ومعنى قوله: «اقْرَأ» أي: ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كلِّ سورةٍ، أو اقرأ على اسم ربِّك، على ما تقدم من الإعراب.(20/413)
قوله: {الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان} ، يجوز أن يكون «خَلَقَ» الثاني تفسيراً ل «خَلَقَ» الأول، يعني أبهمه أولاً، ثم فسره ثانياً ب «خَلَقَ الإنْسَانَ» تفخيماً لخلق الإنسانِ، ويجوز أن يكون حذف المفعول من الأول، تقديره: خلق كلَّ شيء؛ لأنه مطلق، فيتناول كُلَّ مخلوقٍ، وقوله: {خَلَقَ الإنسان} تخصيص له بالذكر من بين ما يتناوله الخلق، لأنه المنزَّل إليه، ويجوز أن يكون تأكيداً لفظياً، فيكون قد أكد الصفة وحدها، كقولك: الذي قام قام زيد.
والمرادُ بالإنسانِ: الجنس، ولذلك قال تعالى: {مِنْ عَلَقٍ} جمع علقةٍ، لأن كل واحدٍ مخلوق من علقة، كما في الآية الأخرى، والعلقة: الدَّمُ الجامدُ، وإذا جرى فهو المسفوح، وذكر «العَلَق» بلفظ الجمعِ، لأنه أراد بالإنسانِ الجمع، وكلهم خلقُوا مِنْ علقٍ بعد النُّطفَةِ. والعلقة: قطعة من دم رطبٍ، سميت بذلك؛ لأنها تعلق بما تمر عليه لرطوبتها، فإذا جفت لم تكن علقة.
فصل
قال ابن الخطيب: فإن قيل: فما وجه التسمية في المباح كالأكل؟ .
فالجوابُ: أنه يضيف ذاك إلى الله تعالى ليدفع ببركة اسمه الأذى، والضرر، أو ليدفع شركة الشيطان، ولأنه ربما استعان بذلك المباح على الطاعة، فيصير طاعة، وقال هنا: باسم ربِّك، وفي التسمية المعروفة: بسم الله الرحمن الرحيم، لأن الربَّ من صفات الفعل، وهي تستوجب العبادة بخلاف صفة الذات فأفاد الربُّ هنا معنيين:
أحدهما: أني ربيتك فلزمك الفعل، فلا تتكاسل.
والثاني: أن الشروع ملزم للإتمام، وقد ربيتك منذ كنت علقة إلى الآن، فلم أضيعك، وقال هنا: «ربك» ، وقال في موضع آخر: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] كأنه يقول سبحانه: هو لي وأنا له، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عليٌّ منِّي وأنَّا مِنْهُ» ، لأن النعم واصلة منّي إليك، ولم يصل إليَّ منك خدمة فأقول: أنا لك، ثم لما أتى بالعبادات وفعل الطاعات، قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] .
فقوله: {الذي خَلَقَ} كالدليل على الربوبية، كأنه تعالى يقول: الدليل على أني ربُّك، أنك ما كنت معه بذاتك وصفاتك، فخلقتك وربيتك، ويحتمل أن يكون المعنى أنه حصل منه الخلق.
قوله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} ، فقوله تعالى: {اقرأ} تأكيد، وتم الكلام، ثم استأنف فقال: {وَرَبُّكَ الأكرم} ، أي: الكريم.(20/414)
وقال الكلبيُّ: يعني الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم، [وقيل: اقرأ أولاً لنفسك، والثاني للتبليغ، والأول للتعميم من جبريل عليه السلام، والثاني للتعليم واقرأ في صلاتك.
وقيل: اقرأ وربك، أي: اقرأ يا محمد وربك يغنيك ويفهمك، وإن كنت غير قارئ] . [والأول أشبه بالمعنى، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمة، دلَّ على كرمه] .
قوله: {الذى عَلَّمَ بالقلم} ، يعني: الخط والكتابة، أي: علم الإنسانَ الخط بالقلم.
قال قتادة: العلم نعمة من الله عظيمة، ولولا ذلك لم يقُم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه تعالى، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة.
وسمي القلم، لأنه يقلم ومنه تقليم الظفر، ولولا هي ما استقامت أمور الدينِ والدنيا.
وروى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال:» نَعَمْ، فاكتُبْ، فإنَّ الله علَّمَ بالقَلمِ «» .
ويروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريح لا يبقى. قال: فما قيده؟ قال: الكتابة.
وروى مجاهد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
من علمه بالقلم؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: قال كعب الأحبار: أول من كتب بالقلم آدم عليه السلام.
وثانيها: قول الضحاك: أول ما كتب إدريس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والثالث: أنه جميع من كتب بالقلم، لأنه ما علم إلاَّ بتعليم الله تعالى.(20/415)
قال القرطبي: الأقلام ثلاثة في الأصل.
الأول: الذي خلقه الله تعالى بيده، وأمره أن يكتب.
والقلم الثاني: قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير، والكوائن والأعمال.
والقلم الثالث: أقلامُ النَّاسِ، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مآربهم.
وروى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُسْكنُوا نِسَاءُكُم الغُرَفَ ولا تُعَلمُوهُنَّ الكِتابَة» .
قال بعض العلماء: وإنَّما حذَّرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن في إسكانهم الغرف تطلُّعاً على الرجال، وليس في ذلك تحصُّن لهن ولا تستُّر، وذلك لأنهن لا يملكن أنفسهن، حتى يشرفن على الرجال، فتحدث الفتنة والبلاء، فحذرهم ان يجعلوا لهن غرفاً ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ للنِّساءِ خَيْرٌ لَهُنَّ من ألاّ يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ، ولا يَرَوْنَ الرِّجالَ» .
وذلك أنها خلقت من الرجل فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشَّهوة، وجعلت سكناً له، فكل واحد منهما غير مأمونٍ على صاحبه، وكذلك تعليم الكتابة، ربما كانت سبباً في الفتنة، لأنها إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى؛ فالكتابة عين من العيون بهما يبصر الشاهد الغائب، والخط آثار يده، وفيه تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسانُ، فهي أبلغ من اللسان، فأحبَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقطع عنهن أسباب الفتنة تحصيناً لهنَّ، وطهارة لقلوبهن.
قوله تعالى: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
قيل: الإنسان هنا آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علمه أسماء كل شيءٍ، وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] .
وقيل: الإنسان - هنا - محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] .
وقيل: عام، لقوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] ،(20/416)
لأنه تعالى بين أنه خلقه من نطفة، وأنعم عليه بالنعم المذكورة، ثم ذكر أنه إذا زاد عليه في النعمة فإنه يطغى، ويتجاوز الحد في المعاصي، واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة.(20/417)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
قوله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} . إلى آخر السورة.
قيل: إنه نزل في أبي جهل، نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الصلاة، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي في المسجدِ، ويقرأ باسم الربِّ - تبارك وتعالى - وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل، ويجوز أن يكون خمس آياتٍ من أولها أولى ما نزل، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بضم ذلك إلى أول السورة؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى، ألا ترى أنَّ قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] آخر ما نزل ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.
و «كلاَّ» بمعنى حقاً.
قال الجرجانيُّ: لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون «كلاَّ» ردًّا له، كما قالوا في {كَلاَّ والقمر} [المدثر: 32] فإنهم قالوا: معناه: أي والقمر؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
وقال مقاتل: كلاَّ ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة، وعلمه بعد الجهل؛ لأنه عند صيرورته غنياً يطغى، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حُبِّ الدنيا، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.
قوله: {أَن رَّآهُ استغنى} ، مفعول له، أي: رؤيته نفسه مُسْتغنياً، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب.
قال الزمخشريُّ: «ومعنى الرؤية، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين، و» اسْتَغْنَى «هو المفعول الثاني» .
قال شهاب الدين: والمسألة فيها خلاف، ذهب جماعةٌ إلى أن «رأى» البصرية تعطى حكم العلمية، وجعل من ذلك قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: لقد رأيتنا مع رسول(20/417)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما لنا طعام إلا الأسودان؛ وأنشد: [الكامل]
5255 - ولقَد أرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً ... مِنْ عَنْ يَمينِي تَارَةً وأمَامِي
وتقدم تحقيقه. وقرأ قنبل بخلاف عنه: «رأه» دون ألف بعد الهمزة، وهو مقصور من «رآه» في قراءة العامة.
ولا شك أن الحذف جاء قليلاً، كقولهم: «أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة» بحذف لام «ترى» ؛ وقول الآخر: [الرجز]
5256 - وصَّانِيَ العَجَّاجُ فِيمَا وصَّنِي ... يريد: فيما وصاني، ولما روي عن مجاهد هذه القراءة عن قنبل، وقال: «قرأت بها عليه» نسبه فيها إلى الغلط، ولا ينبغي ذلك، لأنه إذا ثبت ذلك قراءة، فإن لها وجهاً وإن كان غيره أشهر منه، فلا ينبغي أن يقدم على تغليطه.
فصل في نزول الآية
قال ابن عبَّاسٍ في رواية «أبي صالح» : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد، أتزعم أنه من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال «مكة» ذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى، فندعُ ديننا، ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد خيِّرهم في ذلك، فإن شاءوا فعلنا لهم ما أرادوه، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدةِ فعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنهم لا يقبلون ذلك، فكفّ عنهم أسفاً عليهم.
[وقيل: أن رآه استغنى بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله: «أن رآه» كما يقال: إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم] .
قوله: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} . هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان، والمعنى: أن مرجع من هذا وصفه إلى الله تعالى، فيجازيه.(20/418)
والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، يقال: رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورُجْعَى، على وزن «فُعْلى» .
قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} تقدم الكلام على {أَرَأَيْتَ الذي ينهى} .
وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: ما متعلق «أرأيت» ؟ .
قلت: «الَّذي يَنْهَى» مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين، فإن قلت: فأين جواب الشرط؟ .
قلتُ: هو محذوف تقديره: «إنْ كَانَ عَلَى الهُدى، أو أمَرَ بالتَّقْوَى، ألَمْ يَعْلمْ بأنَّ اللهَ يَرَى» ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت: كيف يصح أن يكون «أَلَمْ يَعْلَمْ» جواباً للشرط؟ .
قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني، وإن أحسن إليك زيد هل تحسنُ إليه؟ .
فإن قلت: فما أرأيت الثانية، وتوسطها بين مفعول «أرأيت» ؟ قلت: هي زائدة مكررة للتأكيد.
قال شهاب الدين: اعلم أن «أرَأيْتَ» لا يكون مفعولها الثاني إلا جملة استفهامية كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 47] ، ومثله كثير، وهنا «أرَأيْتَ» ثلاث مرات، وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية، فيكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على {الَّذي يَنْهَى عَبْداً} الواقع مفعولاً ل «أرَأيْتَ» الأولى، ومفعول «أرأيت» الأولى الذي هو الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة، وأما «أرأيت» الثانية، فلم يذكر لها مفعول، لا أول، ولا ثان، حذف الأول لدلالة المفعول من «أرأيت» الثالث عليه، فقد حذف الثاني من الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من «أرأيت» للجملة الاسمية على سبيل التنازع؛ لأنه يستدعي إضماراً. والجملة لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وأما الكلام على الشرط مع «أرأيت» هذه، فقد تقدم في «الأنعام» ، ويجوز الزمخشريُّ وقوع جواب الشرط استفهاماً بنفسه، وهذا لا يجوزُ، بل نصوا على وجوب ذكر الفاءِ في مثله، وإن ورد شيء من ذلك فهو ضرورة.
قال القرطبيُّ: وقيل: كل واحد من «أرَأيْتَ» بدل من الأول، و {ألَمْ يَعْلَمْ بأنَّ اللهَ يَرَى} الخبر.(20/419)
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: «الذي يَنْهَى» أبو جهل، وقوله تعالى «عَبْداً» يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً لأطأنَّ على عنقه. ثم إنه لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصلاة نكص على عقبيه، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً.
قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فأنزل الله هذه الآيات تعجُّباً منه.
وعن الحسن: أنه أمية بن خلف، كان ينهى سلمان عن الصلاة.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: من هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.
قوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أي: أرأيت يا أبا جهلٍ إن كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الصفة، أليس ناهية عن الصَّلاة والتَّقوى هالكاً؟ .
قوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} يعني أبا جهل كذب بكتاب الله، وأعرض عن الإيمان.
وقال الفراءُ: {أرَأيتَ الذي يَنْهَى عبداً إذا صلَّى} ، والناهي مكذب متولٍّ عن الذكر، أي: فما أعجب هذا بما يقول، ثم قال: ويله {ألَمْ يَعْلمْ} أبو جهل {بأنَّ الله يَرَى} ، أي: يراه ويعلم فعله، فهو تقريع وتوبيخ.
قال ابن الخطيب: هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل التعجب، وفي وجه هذا التعجب وجوه:
أحدها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلامَ بأبِي جَهلٍ أو بِعُمَرَ» ، فقيل: أبمثل هذا يعزّ الإسلام وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني: أنه كان يلقب بأبي الحكمِ. فقيل: كيف يلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة.
الثالث: أنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته، ثم إنه ينهى عن طاعة الربِّ تعالى، وهذا عين الحماقة والتكبُّر، ف «عبداً» يدل على التعظيم، كأنه قيل: [ينهى أشد الخلق عبودية عن العبادة، وهذا عين الجهل، ولهذا لم يقل:] ينهاك، وأيضاً فإن هذا(20/420)
يدل على أن هذه عادته، ودأبه، فهو أبلغ في الذم أيضاً فهذا عام في كل من نهى عن الصلاة، وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنه رأى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم فقال: أخشى أن أدخل في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9، 10] ، فلم يصرح أيضاً بالنهي عن الصلاة.
وأيضاً فيه: إجلال لمنصب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينهاه رجل لا سيما مثل هذا.
قوله: {كَلاَّ} ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله تعالى، أو كلا لن يصل أبو جهلٍ إلى أن يقتل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويطأ عنقه.
وقال مقاتل: كلا لا يعلم أن الله يرى، وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بناصيته يوم القيامة، وليسحبنه بها في النَّار، كقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] ، فالآية وإن كانت في أبي جهلٍ، فهي عظةٌ للنَّاس، وتهديد لمن يمنع غيره عن الطاعة.
قوله: {لَنَسْفَعاً} ، الوقف على هذه النون بالألف، تشبيهاً لها بالتنوين، ولذلك يحذف بعد الضمة والكسرة وقفاً، وتكتب هنا ألفاً إتباعاً للوقف.
وروي عن أبي عمرو: «لَنَسْفَعَنَّ» بالنون الثقيلة.
والسَّفع: الأخذ والقبض على الشيء بشدة، يقال: سفع بناصية فرسه، قال عمرو بن معديكرب: [الكامل]
5257 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأيْتهُم ... ما بَيْنَ مُلْجمِ مُهْرهِ أوْ سَافعِ
وقيل: هو الأخذ، بلغة قريش.
وقال الرَّاغب: السَّفع: الأخذ بسعفة الفرس، أي: بسواد ناصيته، وباعتبار السواد قيل للأثافي: سفع، وبه سُفْعَةُ غضب اعتباراً بما يعلم من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب.
وقيل للصقر: أسفع، لما فيه من لمع السواد، وامرأة سفعاء اللون انتهى.
وفي الحديث: «فَقَامَت أمْرَأةٌ سَفْعاءُ الخدَّيْنِ» .(20/421)
وقيل: هو مأخوذ من سفعت النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد.
قال: [الكامل]
5258 - أثَافِيَّ سُفْعاً في مُعرَّسِ مِرْجَلٍ ... ونُؤيٌ كجذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خَاشِعُ
قال القرطبيُّ: السفع الضرب، أي: ليلطمن وجهه، وكله متقارب المعنى، أي: يجمع عليه الضرب عند الأخذ، ثم يجر إلى جهنم.
وقرأ ابن مسعود: «لأسفعن» ، أي: يقول الله تعالى: يا محمد أنا الذي أتولّى إهانته، لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} [الفتح: 4] ، والناصية: شعر مقدم الرأس، وقد يعبر بها عن جملة الإنسان، وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته.
قوله: {نَاصِيَةٍ} بدل من «النَّاصية» ، بدل نكرة من معرفة.
قال الزمخشريُّ: «وجاز بدلها عن المعرفة، وهي نكرة، لأنها وصفت، فاستقلت بفائدة» .
قال شهاب الدِّين: وهذا مذهب الكوفيين، لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها، وكونها بلفظ الأول، ومذهب البصريين: لا يشترط بشيءٍ؛ وأنشدوا: [الوافر]
5259 - فَلاَ وأبِيكَ خَيْرٌ مِنْكَ إنِّي ... ليُؤذِينِي التَّحَمحُمُ والصَّهِيلُ
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بنصب «ناصِيةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئةٌ» على الشتم.
وقرأ الكسائي في رواية: بالرفع، على إضمار: هي ناصية، ونسب الكذب والخطأ إليها مجازاً. والألف واللام في «الناصية» قيل: عوض من الإضافة، أي: بناصيته.
وقيل: الضمير محذوف، أي: الناصية منه.
فصل في معنى الآية
والمعنى: لنأخذنّ بناصية أبي جهل «كاذبة» في قولها، «خاطئة» في فعلها،(20/422)
والخاطئ معاقب مأخوذ، والمخطئ غير مأخوذ، ووصفت الناصية بأنها خاطئة كوصف الوجوه بالنظر في قوله «إلى ربها ناظرة» ، وقيل: إن صاحبها كاذب خاطئ كما يقال: ليل قائم ونهار صائم، أي صائم في النهار وقائم في الليل، وإنما وصف الناصية بالكاذبة، لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكاذباً على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه ساحر، وكاذب أنه ليس بنبي؛ لأن صاحبها يتمرد على الله تعالى، كما قال تعالى: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} [الحاقة: 37] .
قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، إما أن يكون على حذف مضاف، أي: أهل ناديه، أو على التجوُّز في نداء النادي لاشتماله على الناس، كقوله تعالى: {وَسْأَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] ، والنادي والندي: المجلس المتجدّد للحديث.
قال زهير: [الطويل]
5260 - وفِيهِمْ مَقامَاتٌ حِسَانٌ وُجوهُهُمْ ... وأنْدِيةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ والفِعْلُ
[وقالت أعرابية: هو سيد ناديه وثمال عافيه]
وقال تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29] .
وقال أبو عبيدة: «ونَادِيَه» أهل مجلسه، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى: فليدع عشيرته، فليستنصر بهم.
قوله: {سَنَدْعُ الزبانية} .
قال الزمخشري: «والزبانية في كلام العرب: الشرط، الواحد: زبنية، كعفرية من الزَّبن، وهو الدَّفع.
وقيل: زبني، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم: أمسيّ، وأصله: زباني، فقيل:» زبانية «على التعويض» .
وقال عيسى بن عمر والأخفش: واحدهم زابن.
وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كعباديد، وشماطيط، وأبابيل، والحاصل: أن المادة تدل على الدفع.
قال: [الطويل]
5261 - مَطَاعِيمُ في القُصْوَى مَطَاعِينُ في الوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلبٌ عِظامٌ حُلومُهَا(20/423)
وقال آخر: [الطويل]
5262 - ومُسْتعْجِبٍ ممَّا يَرَى مِنْ أنَاتِنَا ... ولوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ
[قال عتبة: زبَنَتْنا الحرب، وزبنَّاها، ومنه الزبون لأنه يدفع من بائع إلى آخر.
وقال أبو الليث السمرقندي رَحِمَهُ اللَّهُ: ومنه المزابنة في البيع؛ لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم] .
وقرأ العامة: «سَندْعُ» بنون العظمة، ولم ترسم بالواو، وتقدم نظيره، نحو {يَدْعُ الداع} [القمر: 6] .
وقرأ ابن أبي عبلة: «سيُدْعَى الزبانيةُ» مبنياً للمفعول ورفع «الزبانية» لقيامها مقام الفاعل.
فصل في المراد بالزبانية
قال ابن عباس: الملائكة الغلاظ الشداد، وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بالناصية} قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك، قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية} فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل له: أخشيت منه؟ .
قال: لا، ولكن رأيت عنده فارساً، فهددني بالزبانية فما أدري ما الزبانية؛ ومال إليَّ الفارس، فخشيت منه أن يأكلني.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. خرجه الترمذي بمعناه.
قوله: {كَلاَّ} أي: ليس الأمر كما يظنه أبو جهل «لا تُطِعْهُ» فيما دعاك إليه من ترك الصلاة «واسْجُدْ» ، أي: صل الله «واقْتَرِبْ» أي: اقترب إلى الله بالطَّاعة والعبادة.
وقيل: المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمَّا الرُّكوعُ فعَظَّمُوا فِيْهِ الربَّ تعالى، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدُوا في الدُّعَاءِ، فقمن أنْ يُسْتجابَ لَكُمْ» .(20/424)
وقال صلى الله عله وسلم: «أقْرَبُ ما يَكُونُ العبدُ مِنْ ربِّه وهُوَ سَاجِدٌ» .
فالسجود في قوله تعالى: {واسجد واقترب} يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة.
وقال ابن العربي: والظاهر أنه سجود الصلاة؛ لقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} إلى قوله: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم، وغيره من الأئمة عن أبي هريرة، أنه قال: سجدتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في «إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» وفي {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} سجدتين، فكان هذا نصًّا على أن المراد سجود التلاوةِ.
روى الثعلبي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ: {اقرأ باسم رَبِّكَ} ، فكأنَّمَا قَرَأ المفصل كُلَّهُ» والله تعالى أعلم.(20/425)
سورة القدر
مكية في قول أكثر المفسرين ذكره الثعلبي.
وحكى الماوردي عكسه.(20/426)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
وذكره الواقدي: أنها أول سورة نزلت ب " المدينة "، وهي خمس آيات، وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} ، أي: القرآن، أضمر للعلم به {فِي لَيْلَةِ القدر} يجوز أن يكون ظرفاً للإنزال، والقرآن كله كالسورة الواحدة، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] ، وقال: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يريد: ليلة القدر.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزل به جبريل - عليه السلام - جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السَّفرةِ، ثم كان جبريل ينزله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منجماً، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
حكى الماورديُّ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: نزل القرآنُ في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح(20/426)
المحفوظ إلى السَّفرة الكرام الكاتبين في سماء الدنيا، فنجمته السَّفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشرين سنة.
قال ابن العربي: وهذا باطل، ليس بين جبريل - عليه السَّلام - وبين الله واسطة، ولا بين جبريل محمد - عليهما السلام - واسطة.
وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها، فليست ظرفاً، وإنما كقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خشيت أن ينزل فيَّ قرآن، وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: لأنا أحقر في نفسي أن ينزل فيّ قرآن.
وسميت ليلة القدر بذلك؛ لأن الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السَّنة القابلة من أمر الموت، والأجل، والرزق، وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل، عليهم السلام.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وأما تضييقها بالملائكة قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] .
وقيل: سميت بذلك لعظمها، وشرفها، وقدرها، من قولهم: لفلان قدر: أي شرف ومنزلة. قاله الزهري: وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر على أمه ذاتِ قدر، والقدر: مصدر، والمراد ما يمضيه الله تعالى من الأمور، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وهو بمعنى القدر، إلا أنه بالتسكين، مصدر، وبالفتح اسم.
قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} بين فضلها، وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف، لا تريد حقيقتها، وإنما تريد المبالغة في الكثرة، كقوله تعالى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] ، يعني جمع الدهر.
[وقيل: إن العابد فيما مضى لا يسمى عابداً، حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله تعالى لهذه الأمة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها] .(20/427)
وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر رجُلاً من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهرٍ، فعجب المسلمون من ذلك فنزلت هذه الآية، يعني خير من ألف شهر التي لبس السلاح فيها في سبيل الله، ونحوه عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال مالك بن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم.
وقال عكرمة وعروة: ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أربعة من بني إسرائيل، يقال: عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوا الله - تعالى - طرفة عين: أيوب، وزكريا، وحزقيل بن العجوز، ويوشع ابن نون، فعجب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك، فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النَّفر ثمانين سنة، لم يعصوا الله تعالى طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثم قرأ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} ، فسر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} ، أي: تهبط من كل سماء إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء النَّاس إلى وقت طلوع الفجر، وقوله تعالى: {والروح فِيهَا} . يجوز أن ترتفع «الرُّوحُ» بالابتداء، والجار بعده الخبر وأن ترتفع بالفاعلية عطفاً على الملائكة، و «فيها» متعلق ب «تنزل» وأن يكون معطوفاً على الفاعل، و «فِيهَا» ظرف أو حال، والمراد بالروح جبريل عليه السلام.
[وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة؛ جعله حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة.
ووقال مقاتل: هم أشرف الملائكة، وأقربهم إلى الله تعالى.
وقيل: هم جند الله - تعالى - غير الملائكة رواه ابن عبَّاس مرفوعاً حكاه الماوردي.(20/428)
وقيل: الروح خلق عظيم يقوم صفاً واحداً، والملائكة صفاً] .
وقيل: «الرُّوحُ» : الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، بدليل قوله تعالى:
{يُنَزِّلُ
الملائكة
بالروح
مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] ، أي: بالرحمة فيها، أي: في ليلة القدر.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِم} . يجوز أن يتعلق ب «تَنَزَّلُ» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المرفوع ب «تَنَزَّل» أي: ملتبساً بإذن ربهم.
قوله: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} . يجوز في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى اللام، وتتعلق ب «تَنزَّلُ» ، أي: تنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل.
الثاني: أنها بمعنى الباء، أي: تنزل بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم.
وقرأ العامة: «أمْرٍ» واحد الأمور.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكلبي: «مِنْ كُلِّ امْرئٍ» ، أي: من أجل كل إنسانٍ.
قال القرطبيُّ: وتأولها الكلبي على أن جبريل - عليه السلام - ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كُلِّ امرئ مسلم، ف «مِنْ» بمعنى «عَلَى» .
وقيل: من أجل كل ملك، وهو بعيد.
وقيل: «مِنْ كُلِّ أمْرٍ» ليس متعلقاً ب «تَنَزَّلُ» إنما هو متعلق بما بعده، أي: هي سلام من كل أمر مخوف، وهذا لا يتم على ظاهره؛ لأن «سلام» مصدر لا يتقدم عليه معموله، وإنما المراد أنه متعلق بمحذوف يدل عليه هذا المصدر.
فصل في معنى الآية
قوله: {سَلاَمٌ هِيَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن «هِيَ» ضمير الملائكة، و «سلامٌ» بمعنى التسليم، أي: الملائكة ذات التَّسليم على المؤمنين من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر وقيل: الملائكة يسلم بعضهم على بعض فيها.
الثاني: أنها ضمير ليلة القدر، و «سلامٌ» بمعنى سلامة، أي: ليلة القدر ذات سلامة من كلّ شيء مخوف.(20/429)
قال الضحاكُ: لا يقدر الله - تعالى - في تلك الليلة إلا السلامة.
وقيل: هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة، قاله مجاهد.
وعلى التقديرين: يجوز أن يرتفع «سلامٌ» على أنه خبر مقدم، و «هِيَ» مبتدأ مؤخر، وهذا هو المشهور، ويجوز أن يرتفع بالابتداء، و «هي» فاعلة عند الأخفش؛ لأنه لا يشترط الاعتماد على الوصف.
وقد تقدم أن بعضهم يجعل الكلام تاماً على قوله: «بِإذْنِ ربِّهِمْ» ، وتعلق «كُلِّ أمْرٍ» بما بعده، وتقدم تأويله.
وقال أبو الفضل: «وقيل: معناه هي سلام من كل أمرٍ أو امرئٍ؛ أي سالمة، أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون» سلامٌ «بهذه اللفظة الظَّاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله، لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر، كما أن الصفة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول» انتهى.
[وقد تقدم أن معنى ذلك عند هذا القائل أن يتعلق بمحذوف مدلول عليه ب «سلام» فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب] .
وما يروى عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن الكلام تمَّ عند قوله تعالى: «سلامٌ» ويبتدئ ب «هِيَ» على أنها خبر مبتدأ، والإشارة بذلك إلى أنها ليلة السابع والعشرين، لأن لفظه: هي سابعة وعشرون، من كلم هذه السورة، فلا ينبغي أن يعتقد صحته لأنه إلغاز وتغيير لنظم أفصح الكلام.
[قوله: {حتى مَطْلَعِ الفجر} متعلق ب «تنزل» أو ب «سلام» وفيه إشكال للفصل بين المصدر والمعمول للمبتدأ، إلا أن يتوسع في الجار] .
وقرأ الكسائي وابن محيصن: «مطلِع» بكسر اللام، والباقون: بالفتح، والفتح هو القياس، والكسر سماع، وله أخوات تحفظ فيها الكسر مما ضم مضارعه، أو فتح، نحو: المَشْرِق، والمَغْرِب، والمنْسِك، والمسْكِن، والمحْشِر، والمسْقِط.
قال القرطبي: «حكي في ذلك كله الفتح والكسر» .
وهل هما مصدران أو المفتوح مصدر، والمكسور مكان؟ خلاف، وعلى كل تقدير، فالقياس في الفعل مطلقاً مما ضمت عين مضارعه أو فتحت فتح العين، وإنما يقع الفرق في المكسور العين الصحيح، نحو: «يضرب» .(20/430)
فصل في تعيين ليلة القدر
اختلفوا في تعيين ليلة القدر، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث أبيٍّ ابن كعب: أنها في العشر الأواخر، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً لليلة القدرِ فَلْيَتَحَرَّهَا في ليلة سبعٍ وعشرين» .
وقال أبيُّ بن كعب: سَمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لَيلَةُ القَدرِ سَبعٍ وعشْرينَ» .
وقال أبو بكر الوراق: كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين.
وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائة، فوجدته عذباً سلسلاً.
وقال أبو هريرة وغيره: هي في ليلة السنة كلها، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعنه أنها رفعت، وأنها إنما كانت مرة واحدة قال الخليل: من قال: إن فضلها لنزول القرآن [يقول] انقطعت، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان، ثم اختلفوا.
فقيل: هي ليلة إحدى وعشرين، وإليه مال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لحديث الماء والطين.
وقيل: ليلة الثالث والعشرين لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني رأيتُ ليلة القدر في سابعة تبقى، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأتْ عَلى ثَلاثٍ وعِشريْنَ، فَمَنْ أرَادَ أن يقُومَ مِنَ الشَّهرِ شَيْئاً فليَقُمْ لَيْلَةَ ثلاثٍ وعِشْريْنَ «» .
وقيل: ليلة خمس وعشرين، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخرِ، في تَاسعةٍ تَبْقَى، في سابِعةٍ تَبْقَى، فِي خَامسةٍ تَبْقَى» .(20/431)
[قال مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وبالسابعة ليلة ثلاث وعشرين، وبالخامسة ليلة خمس وعشرين.
وقيل: سبع وعشرين وقد تقدم] .
وقيل: ليلة تسع وعشرين، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْلةُ القَدرِ التَّاسعةُ والعِشرُونَ، والسَّابِعَةُ والعِشْرُونَ» .
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة» .
[وروي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع، ونظمه محمد ابن الأثير فقال: [الطويل]
5263 - ثَلاثُ شُرُوطٍ هُنَّ فِي ليْلَةِ القَدرِ ... كَذَا قَال شَيخُ العُربِ فِيهَا أبُو بكْرٍ
فأوَّلُهَا وتْرٌ وليْلةُ جُمْعَةٍ ... وثَالثُهَا النِّصفُ الأخيرُ من الشَّهْرِ
وقيل: هي تنتقل في جميع السنة] .
قالوا: والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي، كما أخفى رمضان في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء، ليبالغوا في كل الساعات، وأخفى الاسم الأعظم، ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت، ليخاف الموت المكلف، وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظموا جميع ليالي رمضان.
فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر
نقل القرطبي عن بعض العلماء: أن من علق طلاق امرأته، أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضى سنةٍ من يوم حلف، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضي حولٍ.
وفي هذا نظر؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلاً، لوجود الخلاف في بقائها.
وروى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة القَدرِ، كانَ كَمنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأحْيَا لَيْلَةَ القَدرِ» .(20/432)
سورة البينة(20/433)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة، وثلاثمائة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} ، هذه قراءة العامة، وخط المصحف.
وقرأ عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين» وهذه قراءة على التفسير.
قال ابن العربي: «وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رواية الصحيح» فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ «وهو تفسيرٌ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف» .
وقرئ: «والمُشرِكُون» بالواو نسقاً على «الَّذينَ كَفَرُوا» .
قوله: {مُنفَكِّينَ} اسم فاعل من «انفكَ» ، وهي هنا التامة، فلذلك لم تحتج إلى خبر.
وزعم بعضهم: أنها هنا ناقصة، وأن الخبر مقدر، تقديره: منفكّين عارفين محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال أبو حيان: وحذف خبر «كَانَ» لا يجوز اقتصاراً، ولا اختصاراً.(20/433)
وجعلوا قوله: [الكامل]
5263 - ب -..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ
أي: في الدنيا، ضرورة، ووجه من منع من ذلك أنه قال: صار الخبر مطلوباً من جهتين: من جهة كونه مخبراً به، فهو أحد جزئي الإسناد، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل، وهذا منتقض بمفعولي ظن، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان، أو أحدهما اختصاراً، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.
وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ} متعلق ب «لَمْ يَكُنْ» أو ب «مُنفكِّينَ» .
فصل
قال الواحديُّ: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب: ووجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، فانفكوا عنه لأن «حتَّى» لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فحينئذ يحصل التناقض، والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أحسنها، ما لخصه الزمخشريُّ: أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا.
والثاني: إخبار عن الواقع، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا.
وثالثها: المعنى: لم يكونوا منفكين عن كفرهم، وإن جاءتهم بينة، قاله القاضي. إلا أن جعل «حتى» بمعنى «أن» بعيد في اللغة.
ورابعها: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] ، أي ما تلت أي: ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] .
وخامسها: أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.(20/434)
وسادسها: هي كقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] الآية، أي: كان كل منهم جازماً بمذهبه ودينه، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شكوا في أديانهم، لأن قوله تعالى {مُنفَكِّينَ} مشعر بهذا؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه، فمعناه: أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد، وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس: أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب» ، وهم: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا ب «مكة» وما حولها، و «المدينة» ، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى: {مُنفَكِّينَ} أي: منتهين من كفرهم {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل: منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي: ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه: فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل: «مُنفكِّينَ» ، بارحين، أي: لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: أي: لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] ، ولهذا قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [البينة: 4] ، وعلى هذا فقوله تعالى: {والمشركين} أي: ما كانوا يسيئون القول في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين: «مُنفكِّينَ» ، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم: المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله ومن النصارى من قال: عيسى هو الله.(20/435)
ومنهم من قال: هو ابنه.
ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا مثل ولا ضد له، ولا ند له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له، ولا زوجة له، ولا وزير له، ولا حاجب له، ولا بواب له، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص 1 - 4] .
وقيل: المشركون وصف لأهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد، فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك، وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواماً بعينهم تصفهم بالأمرين، قال تعالى: {الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] ، وهذا وصف للطائفة الواحدة، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين.
ٌ [وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيئاهم، والمشركون ولدوا على الفطرة، ثم كفروا حين بلغوا.
وقيل: الكفر هنا هو الكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، وهم الذين ليس لهم كتاب منفكين.
قال القشيريُّ: وفيه بعد، لأن الظاهر من قوله تعالى: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله} أنّ هذا الرسول هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فيبعد أن يقال لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منفكين، حتى يأتيهم محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أن يقال: أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد كانوا من قبل معظمين له منتهين عن هذا الكفر إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبين لهم الآيات، فحينئذٍ يؤمن قوم] .
وقرأ الأعمش وإبراهيم: «والمُشْرِكُونَ» رفعاً عطفاً على «الَّذِينَ كَفرُوا» .
قال القرطبيُّ: «والقراءة الأولى أبين، لأن الرفع يصير فيه الصنفان، كأنهم من غير أهل الكتاب» .
وفي حرف أبيّ: «فما كان الذين من أهل الكتاب والمشركون منفكين» .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لم قال الذين كفروا، بلفظ الفعل، وذكر المشركين(20/436)
باسم الفاعل؟ فالجوابُ: أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر؛ لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، وبمبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخلاف المشركين، فإنهم ولدوا على عبادةِ الأوثان، وذلك يدل على الثبات على الكفر.
قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} .
قيل: البينة، محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه في نفسه بينة وحُجَّة ولذلك سمَّاه الله - تعالى - سراجاً منيراً.
قوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ الله} ، وهو رفع على البدل من «البَيِّنةُ» ، ولأن اللام في «البَيِّنةُ» للتعريف أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير، وقد جمعهما الله - تعالى - ها هنا - في حق الرسول، أي: هو رسول، وأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه، فقال سبحانه وتعالى: {ذُو العرش المجيد} [البروج: 15] ثم قال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] فنكر بعد التعريف.
وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسل، فقوله تعالى: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي: تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى، تتلو عليهم صحفاً مطهرة، نظيره: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] .
وقال قتادة وابن زيد: «البَيِّنةُ» هي القرآن، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133] .
قوله: «رسُولٌ» ، العامة: على رفعه بدلاً من «البينة» ، إما بدل اشتمال، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفس البينة، أو على حذف مضاف، أي: بينة رسول.
وقال الفرَّاء: رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: هي رسول، أو هو رسول من الله لأن البينة قد تذكَّر، فيقال: بَيَّنتي فلان.
وقرأ عبد الله وأبيّ: «رسولاً» على الحال من «البينة» .
وقال القرطبي: «بالنصب على القطع» .(20/437)
قوله: «من اللهِ» يجوز تعلُّقه بنفس «رسول» أو بمحذوف على أنه صفة ل «رسول» ، وجوز أبو البقاء ثالثاً، وهو أن يكون حالاً من «صحفاً» ، والتقدير: يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله تعالى.
يعني كانت صفة في الأصل للنَّكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالاً.
قوله: «يتلو» يجوز أن يكون صفة ل «رسول» وأن يكون حالاً من الضمير في الجار قبله، إذا جعله صفة ل «رسول» . و «يتلو» : أي: يقرأ، يقال: تلا يتلو تلاوة. و «صُحُفاً» جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب.
«مُطهَّرة» ، قال ابن عبَّاسٍ: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة، وقال قتادة: من الباطل.
وقيل: من الكذب والشبهات، والمعنى واحد [أي: يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو على ظهر قلب لا عن كتاب، ولأنه كان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} [عبس: 13، 14] فالمطهرة: نعت للصحف في الظاهر، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل: مطهرة أي: لا يسمُّها إلا المطهرون كما تقدم في سورة «الواقعة» .
وقيل: الصحف المطهرة هي التي عند الله - تعالى - في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] .
قوله: {فِيهَا كُتُبٌ} . يجوز أن تكون جملة صفة ل «صُحُفاً» ، أو حالاً من ضمير «مُطهَّرة» وأن يكون الوصف أو الحال الجار والمجرور فقط، و «كتب» فاعل به، وهو الأحسن، والمراد بالكتب: الآيات المكتوبة في الصحف، والقيمةُ: المستقيمة المحكمةُ، من قول العرب: قام يقوم إذا استوى وصح.
وقال صاحب «النَّظم» : الكتب بمعنى الحكم؛ لقوله تعالى: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] ، ومنه حديث العسيف: «لأقضينَّ بَينكُمَا بِكتابِ اللهِ» ، ثم قضى بالرَّجْم، وليس ذكر الرجم مسطُوراً في الكتاب.(20/438)
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، سمي كتباً، لأنه يشتمل على أنواع من البيان.(20/439)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} . أي: من اليهود والنصارى، خصَّ أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم، وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم علم، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب لهم أدخل في هذا الوصف.
قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} . أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعني به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي القرآن موافقاً لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر، بغياً وحسداً، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] وقيل: البينة البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل.
قال العلماء: من أول السورة، إلى قوله: «قَيِّمة» حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين، وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ} حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحُججِ.
قوله: {وَمَآ أمروا} . يعني هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} أي: يوحدوه، واللام في {لِيَعْبُدُواْ} بمعنى «أنْ» كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] ، أي: أن يبين، و {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] .
قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} . العامة: على كسر اللام، اسم فاعل، وانتصب به الدين.
والحسن: بفتحها، على أنهم يخلصون هم أنفسهم في شأنهم.
وانتصب «الدِّينَ» على أحد وجهين: إما إسقاط الخافض، أي: «في الدين» ، وإما على المصدر من معنى «ليعبدوا» ، وكأنه قيل: ليدينوا الدين، أو ليعبدوا العبادة. [فالتجوز إما في الفعل، وإما في المصدر، وانتصاب مخلصين على الحال من فاعل «يعبدون» ] .
قوله: «حنفاء» حال ثانية، أو حال من الحال قبلها، أي: من الضمير المستكن فيها.
[قوله: {وَمَآ أمروا} أي: وما أمروا بما أمروا به إلا لكذا، وقرأ عبد الله: وما(20/439)
أمروا إلا أن يعبدوا، أي بأن يعبدوا، وتقديم تحرير مثله عند قوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} في سورة الأنعام: [آية: 71]] .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: المعنى، وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} ، أي: ليوحدوه، واللام بمعنى «أنْ» كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] ، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} [الزمر: 11] أي: العبادة، وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله لا غيره، وقوله تعالى: {حُنَفَآءَ} ، أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السَّلام.
وقيل: الحنيف: من اختتن وحجّ، قاله سعيد بن جبير.
وقال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام، أي: مال إليه.
قوله: {وَيُقِيمُواْ الصلاة} ، أي يصلُّوها في أوقاتها {وَيُؤْتُواْ الزكاة} ، أي: يعطوها عند محلها، وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أي: ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي: الدين المستقيم، وقال الزجاج أي: ذلك دين الملة المستقيمة، و «القَيِّمَةِ» نعت لموصوف محذوف، وقيل: «ذلك» إشارة إلى الدين، أي ذلك الدين الذي أمروا به أي الدين المستقيم أي ذلك دين الأمة القيمة.
وقال محمد بن الأشعث الطالقاني: الكتب القيمة، لأنها قد تقدمت في الذكر، قال تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} فلما أعادها مع «أل» العهدية، كقوله تعالى: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 16] ، وهو حسن.
وقرأ الحسن، وعبد الله: «وذلك الدين القيمة» ، والتأنيث حينئذٍ، إما على تأويل الدين بالملة، كقوله: [البسيط]
5264 - ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... . ... سَائِلْ بَنِي أسدٍ مَا هَذهِ الصَّوتُ
وقال الخليل: القيمة جمع القيم، والقيم والقيمة واحد بتأويل: الصيحة، وإما على أنها تاء المبالغة: ك «علامة» .
وقال الفراء: أضاف الدين إلى «القيمة» وهو نعته، لاختلاف اللفظين، وعنه أيضاً: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح.(20/440)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} كما مرَّ في أول السورة، وقوله تعالى: {فِي نَارِ} هذا هو الخبر، و {خَالِدِينَ} حال من الضمير المستكن في الخبر.
قوله: {أولئك هُمْ شَرُّ البرية} .
وقرأ نافع وابن ذكوان: «البريئة» بالهمز في الحرفين، والباقون: بياء مشددة.
واختلف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصل من برأ الله الخلق، ابتدأه واخترعه، قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22] ، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما خففت والتزم تخفيفها عند عامة العرب.
وقد تقدم أن العرب التزمت غالباً تخفيف ألفاظ منها: النبي، والجاثية، والذرية.
قال القرطبي: «وتشديد الياء عوض من الهمزة» .
وقيل: «البريَّة» دون همز مشتقة من «البرى» وهو التراب، فهي أصل بنفسها، والقراءتان مختلفتا الأصل متّفقتا المعنى. إلا أن عطية ضعف هذا، فقال: «وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مُرْض» انتهى.
يعني أنه إذا قيل: إنها مشتقة من «البرى» وهو التراب، فمن أين تجيء الهمزة في القراءة الأخرى.
قال شهاب الدين: «هذا غير لازم، لأنهما قراءتان مشتقتان، لكل منهما أصل مستقل، فتلك من» برأ «، أي: خلق، وهذه من» البرى «لأنهم خلقوا منه، والمعني بالقراءتين شيء واحد وهو جميع الخلق، ولا يلتفت إلى من ضعف الهمز من النحاة لثبوته متواتراً» .
قال القشيريُّ: «ومن قال: البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة» .
وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته، فتدخل فيه الملائكة، ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب فيه تخطئةُ من همز.(20/441)
وقوله: {هُمْ شَرُّ البرية} ، أي: شر الخليقة، فقيل: يحتمل أن يكون على التعميم.
وقال قوم: أي هم شرُّ البرية الذين كانوا في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] ، أي: على عالمي زمانكم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شرّ منهم، مثل: فرعون، وعاقر ناقة صالح، وكذا قوله: {خَيْرُ البرية} إما على التعميم، أو خير برية عصرهم، وقد استدل بقراءة الهمزة من فضل بني آدم على الملائكة.
وقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المؤمن أكرم على الله - عزَّ وجلَّ - من بعض الملائكة الذين عنده.
وقرأ العامة: {خَيْرُ البرية} مقابلاً ل «شرّ» .
وقرأ عامر بن عبد الواحد: «خِيارُ البريَّةِ» وهو جمع «خير» نحو: جِيَاد، وطِيَاب، في جمع جيد وطيب؛ قاله الزمخشريُّ. قال ابن الخطيب: وقدم الوعيد على الوعد، لأنه كالداء، والوعد: كالغذاء والدَّواء، فإذا بقي البدن استعمل الغذاء، فينتفع به البدن، لأن الإنسان إذا وقع في شدة رجع إلى الله تعالى، فإذا نال الدنيا أعرض.
قوله: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} . أي: ثوابهم عند خالقهم ومالكهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ} .
قال ابن الخطيب: قال بعض الفقهاء: من قال: لا شيء لي على فلان انتفى الدين، وله أن يدعي الوديعة، وإن قال: لا شيء لي عنده انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولإن قال: لا شيء لي قبلهُ انصرف إليهماً معاً، فقوله تعالى: {عِندَ رَبِّهِمْ} يفيد أنها أعيان مودعة عنده، والعين أشرف من الدين، والضمان إنما يرغب فيه خوف الهلاك، وهو محال في حقه تعالى. وتقدم الكلام على نظيره.
قوله: {تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} ، الجنات: البساتين، والعدن: الإقامة، يقال: عدن بالمكان يعدن عدناً وعدوناً، أي: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره، وقيل: «عدن» : بطنان الجنة ووسطها.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَآ} ، حال عامله محذوف، تقديره: ادخلوها خالدين، أو أعطوها، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في «جزَاؤهُم» لئلا يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، على أنَّ بعضهم: أجازه من «هم» واعتذر هنا بأن المصدر غير مقدر بحرف مصدري.(20/442)
قال أبو البقاء: وهو بعيد، وأما «عِند ربِّهِمْ» فيجوز أن يكون حالاً من «جَزاؤهُمْ» ، وأن يكون ظرفاً له، و «أبَداً» ظرف مكان منصُوب ب «خالدِيْنَ» . أي لا يظعنون ولا يموتون.
قوله: {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} ، يجوز أن يكون دعاء مستأنفاً، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانياً بإضمار «قَد» عند من يلزم ذلك.
قال ابن عباس: «رضي اللهُ عنهُمْ ورَضُوا عنه» أي: رضوا بثواب الله تعالى.
قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: ذلك المذكور من استقرار الجنة مع الخلود.
أي: خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبيِّ بن كعب: إن الله تَعالَى أمَرنِي أنْ أقْرَأ عليْكَ: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} ، قال: وسمَّاني لك؟ قال - عليه الصَّلاة والسلام -:» نَعم «فبكى» خرجه البخاري ومسلم.
قال القرطبيُّ: «من الفقه قراءة العالم على المتعلم» .
قال بعضهم: إنما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أبيٍّ، ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعليم والقراءة على من دونه من المنزلة.
وقيل: إن أبياً كان أسرع آخذاً لألفاظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلم غيره، فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن بقية الصحابة أجمعين إذ أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقرأ عليه. والله أعلم.(20/443)
سورة الزلزلة(20/444)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر، وهي ثمان آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومائة وتسع وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} . «إذّا» شرط، وجوابه «تُحدِّثُ» ، وهو النَّاصب لها عند الجمهور.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون العامل فيها مصدراً.
وغيره يجعل العامل فيها ما بعدها، وإن كان معمولاً لها بالإضافة تقديراً، واختاره مكي، وجعل ذلك نظير «من وما» ، يعني أنهما يعملان فيما بعدهما الجزم، وما بعدهما يعمل فيهما النصب، ولو مثل ب «أي» لكان أوضح.
وقيل: العامل فيها مقدر، أي: يحشرون.
وقيل: اذكر، وحينئذ يخرج عن الظرفية والشرط.
فصل في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة
وجه المناسبة بين أول هذه السُّورة وآخر السورة المتقدمة، أنه تعالى لما قال: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك؟ .
فقيل له: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} فالعاملون كلهم يكونون في الخوف، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك، وتكون آمناً، لقوله تعالى: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] .
وقيل: لما ذكر في السُّورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في(20/444)
وعيد الكافر، فقال: أجازيه، حتى يقول الكافر السابق ذكره: ما للأرض تزلزلت، نظيره {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ، فذكر سبحانه الطائفتين، وذكر ما لكل طائفةٍ، ثم جمع بينهما في آخر السورة بذكر الذرة من الخير، فإن قيل: «إذَا» للوقت، فكيف وجه البداية بها في السورة؟ الجواب: أنهم كانوا يسألونه عن الساعة، فقال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} فإنه تعالى يقول: لا سبيل إلى تعيينها بحسب وقتها، ولكن أعينه بحسب علاماته، أو أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تتحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد، فكأنه لما قيل: متى يكون ذلك؟ قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} .
فصل في معنى الزلزلة
روى عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه كان يقول: النفخة الأولى تزلزلها، وهو قول مجاهد، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 6، 7] ، ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها، وهي الأثقال، وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض، كقولك: لأعطينَّكَ عطيتك، أي: عطيتي لك، وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها.
وهو مصدر مضاف لفاعله، والمعنى زلزالها الذي تستحق ويقتضيه عظمها.
قال الزمخشري: «ونحوه قولك: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته» .
قرأ الجمهور: «زِلْزالهَا» بكسر الزاي، والجحدري وعيسى: بفتحها.
قيل: هما مصدران بمعنى.
وقيل: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، قاله الزمخشري. وليس في الأبنية «فعلال» يعني غالباً، وإلا فقد ورد: ناقة جزعال.
قال القرطبيُّ: «والزَّلزال - بالفتح - مصدر، كالوسواس، والقلقال والجرْجَار» .
قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} .
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها.
وقال ابن عباس ومجاهد: «أثْقَالهَا» موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية.(20/445)
ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان، وقيل: «أثْقالهَا» : كنوزها، ومنه الحديث: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الإسطوان من الذهب والفضة» .
قوله: {وَقَالَ الإنسان} ، أي ابن آدم، الكافر.
وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد.
وقيل: أراد كلَّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر، وقوله: {مَا لَهَا} ابتداء وخبر، وهذا يرد قول من قال: إن الحال في نحو قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] لازمة لئلا يصير الكلام غير مفيد، فإنه لا حال هنا، ومعنى: {مَا لَهَا} أي: ما لها زلزلت، وقيل: ما لها أخرجت أثقالها {وهي كلمة تعجب، أي: لأي شيء زلزلت؟} ويجوز أن يُحيي الله الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض، فتخرج الموتى، وقد رأوا الزلزلة، وانشقاق الأرض عن الموتى فيقولون من الهول: ما لها، [كأنهم يخاطبون أنفسهم تعجباً] .
قوله: {يَوْمَئِذٍ} ، أي: يوم إذا زلزلت، والعامل في «يَومَئذٍ» : «تُحدِّثُ» إن جعلت «إذَا» منصوبة بما بعدها، [أو بمحذوف، وإن جعلت العامل فيها «تحدّث» كان «يومئذ» بدلاً منها فالعامل فيه] العامل فيها، أو شيء آخر، لأنه على تكرير العاملِ، وهو خلاف مشهور.
فصل في معنى الآية
معنى «تحدث أخبارها» ، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير، أو شر يومئذ.
ثم قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان «مَا لَهَا» ، «تُحدِّثُ أخْبارهَا» متعجباً.
روى الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «قال قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أتدْرُونَ ما أخْبارُهَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ أخبارها أن تشْهَدَ على كُلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرهَا تقُول: عملَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وكَذَا، قال:» فهَذهِ أخْبارُهَا «» .(20/446)
قال الماورديُّ: قوله تعالى: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواه مرفوعاً، وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني: قال يحيى بن سلام: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بما أخرجت من أثقالها، وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
الثالث: قال ابن مسعود: أنها تحدث بقيام الساعة، إذا قال الإنسان: ما لها؟ فتحبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرةِ قد أتى، فيكونُ ذلك منها جواباً لهم عند سؤالهم، ووعيداً للكافر، وإنذاراً للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثةُ أقاويل:
أحدها: أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً، فتتكلم بذلك.
الثاني: أن الله يحدث فيها الكلام.
الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
قال الطبريُّ: تبين أخبارها بالرَّجَّة، والزلزلة، وإخراج الموتى.
قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ} متعلق ب «تُحدِّثُ» ، أي: تحدث الأرض بما أوحى إليها ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.
وقيل: الباء زائدة و «أنَّ» وما في حيزها بدل من أخبارها.
وقيل: الباء سببية، أي: بسبب إيحاء الله إليها.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أين مفعولاً» تُحدِّثُ «؟ .
قلت: حذف أولهما، والثاني: أخبارها، أي: تحدث الخلق أخبارها، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم.
فإن قلت: بم تعلقت الباء، في قوله» بأنَّ ربَّك «؟ .
قلتُ: ب» تحدث «ومعناه: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها(20/447)
بالتحديث، ويجوز أن يكون المعنى: يومئذٍ تحدثُ بتحديث أن ربَّك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربِّك أوحى لها تحديث بأخبارها، كما تقول: نصحتني كُلَّ نصيحة بأن نصحتني في الدين» .
قال أبو حيان: وهو كلام فيه عفش، ينزه القرآن عنه.
قال شهاب الدين: وأي عفش فيه، فصحته وفصاحته، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشاً وحاشاه.
ثم قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» بأنَّ ربَّك «بدلاً من» أخبارها «كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربَّك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا، وحدثته بكذا» .
قال أبو حيَّان: «وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلاَّ الموافقة في الإعراب، فلا يجوز:» استغفرتُ الذنب العظيم «بنصب» الذنب «وجر» العظيم «لجواز أنك تقول:» من الذنب «، ولا» اخترتُ زيداً الرجال الكرام «بنصب» الرجال «وخفض» الكرام «وكذلك لا يجوز:» استغفرتُ من الذنب العظيم «بجر» الذنب «ونصب» العظيم «وكذلك في» اخترتُ «فلو كان حرف الجر زائداً جاز الإتباع على موضع الاسم، بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن» من «زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ، ولا يجوز نصب» رجل «وجر» عاقل «على مراعاة جواز دخول» من «وإن ورد شيء من ذلك، فبابه الشعر» . انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائلِ التي ذكرها، فإن الزمخشري يقول: إن هذا بدل مما قبله، ثم ذكر مسوغ دخول الباءِ في البدل، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزاً، لأن العامل يتعدى به، وذكر مسوغاً لخلو المبدل منه من الباء، فقال: «لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا» ، وأما كونه يمتنع أن يقول: «استغفرتُ الذنب العظيم» بنصب «الذنب» وجرّ «العظيمِ» إلى آخره، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر» ان تقول: استغفرت الله ذنباً من شتمي زيداً، فقولك «من شتمي» بدل من «الذنب» ، وهذا جائزٌ لا محالة.
قوله
{أوحى
لَهَا
} . في هذه اللام أوجه:(20/448)
أحدها: أنها بمعنى «إلى» ، وإنما أوثرت على «إلى» لمراعاة الفواصل، والمعنى: أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها أي إليها، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى» ، قال العجَّاجُ يصفُ الأرض: [الرجز]
5265 - أوْحَى لهَا القَرار فاسْتقرَّتِ ... وشدَّهَا بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ
قاله أبو عبيدة.
الثاني: على أصلها، «أوحَى» يتعدى باللام تارة، وب «إلى» أخرى، ومنه البيت.
الثالث: اللام على بابها من العلة، والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، تقديره: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض، أي: لأجل ما يفعلون فيها.
قال الثوريُّ: تحدث أخبارها مما كان عليها من الطَّاعات والمعاصي، وما كان على ظهرها من خير وشر.(20/449)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله: {يَوْمَئِذٍ} إما بدل من «يَومئذٍ» قبله، وإما منصوب ب «يَصْدرُ» ، وإما منصوب ب «اذكر» مقدراً. وقوله تعالى: {أَشْتَاتاً} : حال من الناس، وهو جمع «شت» أي: متفرقين في الأمن والخوف والبياض والسواد، والصدر ضد الورود عن موضع الحساب، فريق إلى جهة اليمين إلى الجنة، وفريق إلى جهة الشَّمال إلى النار، لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أشْتَاتاً» متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة.
وقيل: هذا الصدر إنما هو عند النشور، يصدرون أشتاتاً، من القبور إلى موقف الحساب ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم، فإنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ثم صدروا عنها، وقوله تعالى: {أَشْتَاتاً} ، أي: يبعثون من أقطار الأرض، فعلى هذا قوله تعالى: {لِّيُرَوْاْ} متعلق ب «يصدرُ» ، وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير أي: تحدث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها، ليروا أعمالهم، واعترض قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} متفرقين عن موقف الحساب، وعلى هذا تتعلق ب «أوحى» ، وقرأ العامة: ببنائه للمفعول، وهو من رؤية البصر، فتعدى بالهمزة إلى ثان، وهو أعمالهم، والتقدير: ليريهم الله أعمالهم.(20/449)
وقرأ الحسن والأعرج: وقتادة، وحماد بن سلمة، ونصر بن عاصم، وطلحة، ويروى عن نافع: بفتحها.
قال الزمخشري: وهي قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبنياً للفاعل.
قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيراً يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة.
وفي بعض الحديث: «أن الذرة لا زنةَ لهَا» ، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة، ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] وقد تقدم أن الذر لا وزن له.
وذكر بعض أهل اللغةِ: أن الذَّرَّ: أن يضرب الرَّجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذَّر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض، ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة.
وقيل: الذر نملة صغيرة، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
5266 - مِنَ القَاصِراتِ الطَّرفِ لوْ دَبَّ مُحوِلٌ ... مِنَ الذَّرَّ فوْقَ الإتْبِ منْهَا لأثَّرَا
قال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله ووطنه، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر، ودليله ما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وأبو بكر يأكل فأمسك، وقال: يا رسول الله] ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال النبي:» يا أبا بكر، مَا رأيْتَ في الدُّنيا مِمَا(20/450)
تكرَهُ فَهُوَ مَثَاقيلُ ذر الشر، ويدخر لكم مثاقِيلُ ذرِّ الخَيْرِ، حتَّى تُعطوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ «» .
قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
قال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ، كان أحدهم يأتيه السائلُ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النَّار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، وتحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشقِّ تَمرةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلمَةٍ طيِّبةٍ» .
فصل في قراءة «يره»
قوله: {يَرَهُ} ، جواب الشرط في الموضعين.
وقرأ هشام: بسكون هاء «يَرَهُ» وصلاً في الحرفين، وباقي السبعة: بضمها موصولة بواو وصلاً، وساكنة وقفاً، كسائر «ها» الكناية.
ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر: سكونها.
وعن أبي عمرو: بضمها مشبعتين، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى.(20/451)
وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالباً، أما لو وصلوا آخرها بأول «العَادِيَات» كان الحكم الإشباع، وهذا مقتضى أصولهم، وهو المنقول.
وقرأ العامة: «يَرَهُ» مبنياً للفاعل فيهما.
وقرأ ابن عبَّاسٍ والحسن ابنا علي بن أبي طالب، وزيد بن علي وابو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريِّ والسلمي وعيسى بن عمر: بضم الياء، أي: يريه اللهُ إياه.
قال القرطبيُّ: والأولى الاختيار، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] .
وقرأ عكرمة: «يَرَاه» بالألف، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة، وإما على توهم أن «من» موصولة. وتقدم هذا في أواخر «يوسف» . ومعنى «يره» أي: يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم.
وحكى الزمخشري: إن أعرابياً أخر: «خَيْراً يرهُ» ، فقيل له: قدمت وأخرت؛ فقال: [الطويل]
5267 - خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنَّهُ ... كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لهُنَّ طَريقُ
انتهى.
يريد: أن التقديم والتأخير سواء، وهذا لا يجوز - ألبتة - فإنه خطأ، فلا يعتمد به قراءة. وفي نصب «خيراً، وشراً» ، وجهان:
أظهرهما: أنهما تمييز لأنه مقدار.
والثاني: أنهما بدلان من مثقال.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.(20/452)
قال كعبُ الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لقد أنزل الله تعالى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آيتين، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . [وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة] .
روى مالك في «الموطأ» : أن مسكيناً استطعم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة وأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت عائشة: أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة.
روى الترمذي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} عدَلتْ لهُ نِصفَ القُرآنِ، ومَنْ قَرَأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} عدلتْ لهُ ثُلُثَ القُرآنِ» .
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} أربعَ مرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ قَرَأ القُرآنَ كُلَّهُ» والله أعلم.(20/453)
سورة العاديات(20/454)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
مكية، في قول ابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وقتادة، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وثلاثة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والعاديات} ، جمع عادية، وهي الجارية بسرعة من العدو، وهو المشي بسرعةٍ، والياء منقلبة عن واو لكسر ما قبلها، نحو: الغازيات، من الغزو، ويقال: عَدا يَعْدُو عَدْواً، فهو عادٍ، وهي عادية. وقد تقدم هذا في سورة «المؤمنين» .
قال عامة المفسرين: يريد الأفراس تعدو في سبيل الله تعالى.
قوله: {ضَبْحاً} ، فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكد لاسم الفاعل، فإن الضبح نوعٌ من السير والعدو كالضبع، يقال: ضبح وضبع، إذا عدا بشدة، أخذاً من الضبع وهو الذراع، لأنه يمده عند العدو، وكأن الحاء بدل من العين، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والمبردُ.
قال عنترةُ: [مجزوء الكامل]
5268 - والخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَضْ ... بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ ضَبْحَا
الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، أي: ضابحات وذوي ضبح والضبح: صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو، وليس بصهيل.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه حكاه، فقال: أحٍ أحٍ.(20/454)
وقال قتادة: تضبح إذا عدت، أي: تحمحم.
وقال الفراء: والضبح: أصوات أنفاسها إذا عدون. وقيل: كانت تكمكم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة.
ونقل عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنه لم يضبح من الحيوان غير الخيل والكلب والثعلب، وهذا ينبغي أن يصحَّ عنه؛ لأنه روي عنه أنه قال: سُئلتُ عنها، ففسرتها بالخيل؛ وكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - تحت سقاية زمزم، فسأله، فذكر ما قلت؛ فدعاني، فلما وقفت على رأسه، قال: تفتي الناس بغير علمٍ، والله إنها لأولُ غزوةٍ في الإسلامِ، وهي بدر، ولم يكن معنا إلا فرسان: فرسٌ للمقدادِ، وفرس للزبير، فكيف تكون العاديات ضبحاً؟ إنما العاديات الإبل من «عرفة» إلى «المزدلفة» ، ومن «المزدلفة» إلى «منى» يعني إبل الحاج.
قال ابن عباسٍ: فرجعت إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وبه قال ابن مسعود، وعبيد بن عمير، ومحمد بن كعب، والسديُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
ومنه قول صفية بنت عبد المطلب: [الوافر]
5269 - فَلاَ والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ ... بأيْديهَا إذا سَطعَ الغُبَارُ
إلا أن الزمخشري، قال بعد ذلك: «فإن صحت الروايةُ، فقد استعير الضبحُ للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمُهْرِ» .
ونقل غيره: أن الضبح، يكون في الإبل، والأسود من الحيَّات، والبُوم، والصدى، والأرنب، والثعلب، والفرس.
وأنشد أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الرجز]
5270 - حنَّانةٌ من نشَمٍ أو تَألَبِ ... تَضْبَحُ في الكفِّ ضُباحَ الثَّعْلبِ
قال شهاب الدين: وهذا عندي من الاستعارة، ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح في الثعلب فاستعير للخيل، وهو ضبحته النار، إذا غيرت لونه ولم تبالغ وانضبح لونه تغير لسواد قليل، والضبح أيضاً الرماد.(20/455)
الثالث من أوجه النصب: أن يكون منصوباً بفعل مقدر، أي: يضبح ضبحاً، وهذا الفعل حال من «العَاديَاتِ» .
الرابع: أنه منصوب ب «العَادِياتَ» ، وإن كان المراد به الصوت.
قال الزمخشري: «كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو» .
قال أبو حيَّان: «وإذا كان الضَّبح مع العدو، فلا يكونُ معنى والعاديات معنى الضابحات فلا ينبغي أن يفسر به» انتهى.
قال شهاب الدين: لم يقل الزمخشري إنه بمعناه، إنما جعله منصوباً، لأنه لازم لا يفارقه، فكأنه ملفوظ به. وقوله: كأنه قيل؛ تفسير التلازم لا أنه هو هو.
فصل في هذا القسم
قال ابن العربي: أقسم الله تعالى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {يس والقرآن الحكيم} [يس: 1، 2] ، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: {والعاديات ضَبْحاً} .
وقال الشعبيُّ: تمارى عليٌّ وابن عباس في «العَادِياتَ» فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج.
وقال ابن عباس: هي الخيلُ، ألا تراه يقولُ: «فأثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» فهل تثير إلا بحوافرها وهل تضبح الإبل؟ .
فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.
وعلى هذا فالقول: {فالموريات قَدْحاً} أي: الحافر يرمي بالحجر من شدة العدو، فيضرب به حجارة أخرى فتوري النار، أو يكون المعنى: الذين يركبون الإبل، وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم ب «المزدلفة» ، وقوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً} ، والإغارة: سرعة السير، وهم يدفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى «منى» .
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} يعني «مزدلفة» ، لأنها تسمى بجمع، لاجتماع الحاجِّ بها، وعلى هذا التقدير، فوجه القسم بها ما تقدم ذكره من المنافع الكثيرة في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] .(20/456)
وأيضاً: الغرض بذكر إبل الحج: الترغيب في الحج، فإن الكنود: هو الكفور، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك، كما في قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] .
ومن قال: هي الخيل، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك وعطاء وأكثر المحققين، قال: إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث سرية إلى أناس من بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء، فقال المنافقون: إنهم قتلوا فنزلت هذه السورة إخباراً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم، فالمراد: الخيل التي يغزو عليها المؤمنون.
وفي الخبر:
«مَنْ لمْ يَعرفْ حُرمَةَ فرسِ الغَازي، ففيهِ شُعبةٌ مِنَ النِّفاقِ» ، وعلى هذا القول، فالسورة مدنية، لأن الإذن في القتال إنما كان ب «المدينة» .
قوله: {فالموريات قَدْحاً} ، قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيلُ حين توري النار بحوافرها وهي سنابكها.
و «قَدْحاً» يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً؛ لأن الإيراء من القدح، يقال: قدح فأورى، وقدح فأصلد.
ويجوز أن يكون حالاً، فالمعنى: «قادحات» ، أي: ضابحات بحوافرها ما توري النار، ويقال: قدحت الحجر بالحجر، أي: صككته به.
وقال الزمخشريُّ: انتصب «قدحاً» بما انتصب به «ضبحاً» وكأنه جوّز في نصبه ثلاثة أوجه: النصب بإضمار فعله، والنصب باسم الفاعل قبله لأنه ملازمه، والنصب على الحال، وتسمى تلك النار التي تخرج من الحوافر: نار الحباحب.
قال: [الطويل]
5271 - تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجهُ ... وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ
فصل في معنى الموريات
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أورت بحوافرها غباراً، وهذا يخالف سائر(20/457)
ما روي عنه في قدحِ النارِ، وإنما هذا في الإبل [وروى ابن نجيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: {فالموريات قَدْحاً} قال هي في القتال وهو في الحج، قاله ابن مسعود هي الإبل تطأ الحصى فيخرج منه النار] .
وأصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد، واقتدحت بالزّند، واقتدحت المرق: غرفته. ورَكيٌّ قدوح: يغرف باليد.
والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد، والمقدحة: ما تقدح به النار.
والقداحة والقداح: الحجر الذي يُورِي النار.
يقال: وَرَى الزند - بالفتح - يري ورْياً: إذا خرجت ناره، وفيه لغة أخرى، ورِي الزند - بالكسر - يرى فيهما، وقد مضى في سورة «الواقعة» .
وقيل: هذه الآيات في الخيل، ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها، وبين عدوهم. ويقال للحرب إذا التحمت: حَمِيَ الوطيس، ومنه قوله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64] .
قال ابن عباس: المراد ب {فالموريات قَدْحاً} مكر الرجال في الحرب، وقاله مجاهد وزيد ين أسلم: والعربُ يقولون إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك.
وعن ابن عباس أيضاً: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم.
وعنه أيضاً أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهاباً، ليظنها العدو كثيراً.
وقيل: هي أفكار الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ويظهر بها من إقامة الحججِ، وإقامةِ الدَّلائلِ، وإيضاح الحق، وإبطال الباطلِ.
قال القرطبي: هذه الأقوال مجاز , ومنه قولهم: فلان يُوري بها من إقامة الحججِ , وإقامة الدَّلائلِ , وإيضاح الحق , وإبطال الباطلِ. قال القرطبي: هذه الأقوال مجاز , ومنه قولهم: فلان يُوري زناد الضلالة , والأول: الحقيقة , وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النَّار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمى تلك النَّار نار أبي حُبَاحب , وكان أبو حباحب شيخاً من(20/458)
مضر في الجاهلية , من أبخل الناس , وكان لا يُوقد الخبز ولا غيره حتى تنام العيون , فيوقد نُويْرَة تقد مرة , وتخمد أخرى , فإن استيقظ لها أحد أطفأها , كراهية أن ينتفع بها أحدٌ , فشبهت هذه النار بناره؛ لأنه لا ينتفع بها.
وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت ناراً فكذلك يسمونها.
قال النابغة: [الطويل]
5272 - ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتائبِ
تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ ... وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ
قوله: {فالمغيرات صُبْحاً} ظرف؛ أي: التي تغير وقت الصبح، يقال: أغار يغير إغارة وغارةً: إذا باغت عدواً نهباً وقتلاً وأسراً؛ قال: [البسيط]
5273 - فَليْتَ لِي بِهمُ قَوماً إذَا رَكِبُوا ... شَنُّوا الإغَارَة فُرْسَاناً ورُكْبَانَا
وأغار وغار أيضاً: نزل الغور، وهو المنهبط من الأرض.
قوله: {فَأَثَرْنَ} . عطف الفعل على الاسم، لأن الاسم في تأويل الفعل لوقوعه صلى ل «أل» .
قال الزمخشريُّ: «معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، يعني في الأصل؛ إذ الأصل: واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن» .
قوله: {بِهِ} . في الهاء أوجه:
أحدها: أنه ضمير الصبح، أي: فأثرن في وقت الصبح غباراً. وهذا حسن، لأنه مذكور بالتصريح.
الثاني: أنه عائد على المكان، وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الإشارة لا بد لها من مكان، والسياق والعقل لا يدلان عليه، وإذا علم بالمعنى جاز أن يكون عما لم يجري له ذكر بالصريح كقوله تعالى: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] . وفي عبارة الزمخشري: «وقيل: الضمير لمكان الغارةِ» ، وهذا على تلك اللغيَّة وإلا فالفصيح أن تقول: الإغارة.
الثالث: أنه ضمير العدو الذي دل عليه «والعَادِيَاتِ» .
وقرأ العامة: بتخفيف الثاء، أثار كذا إذا نشره وفرقه من ارتفاع.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة: بتشديدها.(20/459)
وخرجه الزمخشري على وجهين:
الأول: بمعنى فأظهرن به غباراً؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار.
الثاني: قلب «ثورن» إلى «وثَرْنَ» ، وقلب الواو همزة انتهى.
يعني: الأصل «ثَوّرنَ» من ثور يثور - بالتشديد - عداه بالتضعيف كما يعدى بالهمزة في قولك: أثاره ثم قلب الكلمة بأن جعل العين وهي الواو موضع الفاء وهي الثاء، ووزنها حينئذ «عفلن» ثم قلب الواو همزة، فصار: «أثَرْنَ» ، وهذا بعيد جداً، وعلى تقدير التسليم، فقلب الواو المفتوحة همزة لا ينقاس، إنما جاءت منه ألفاظ ك «احد وأناة» والنقع: الغبار.
وأنشد: [البسيط]
5274 - يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ دَائمَةً ... كَأنَّ آذَانهَا أطْرافُ أقْلامِ
وقال ابن رواحة: [الوافر]
5275 - عَدِمتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَروْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنفَيْ كَدَاءِ
وقال أبو عبيدة: النقع، رفع الصوت؛ قال لبيدٌ: [الرمل]
5276 - فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِقٌ ... يُحْلبُوهَا ذَاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
يروى: «يجلبوها» أيضاً، يقول: متى سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب، أي: جمعوا لها، وقوله: «ينقع صراخ» يعني رفع الصوت.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالنَّقع: الصياح، من قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ يكُنْ نَقعٌ ولا لَقلَقةٌ» .(20/460)
وقول لبيد: [الرمل]
5277 - فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... أي: فهيجن في المغار عليهم صياحاً وجلبة.
وقال أبو عبيد: وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم، انتهى. فعلى هذا تكون الباء بمعنى «في» ويعود الضمير على المكان الذي فيه الإغارة، كما تقدم.
وقال الكسائيُّ: قوله: «نقْعٌ ولا لقْلقَةٌ» النّقع: صنعة الطعام، يعني في المأتم يقال منه: نقعت أنقع نقعاً. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم.
وقال بعضهم: يريد عمرو بالنقع وضع التراب على الرأس فذهب إلى أن النقع هو التراب.
قال القرطبي: ولا أحسب عمراً ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا، وهو يكره لهن القيام، فقال: وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللَّقلقة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافاً.
[قال محمد بن كعب القرظي: النقع بين «مزدلفة» إلى «منى» .
وقيل: إنه طريق الوادي، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع.
وفي «الصحاح» النقع الغبار، والجمع: النقاع والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه.
وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر.(20/461)
والنقع: الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء، والجمع: نقاع وأنقع، مثل: بحار وبحر وأبحر] .
قوله: {فَوَسَطْنَ} . العامة على تخفيف السين.
وفي الهاء في «به» أوجه:
أحدها: أنها للصبح.
والثاني: أنها للنَّقع، أي: وسطن النقع الجمع، أي: جعلن الغبار وسط الجمع. والباء للتعدية، وعلى الأول هي ظرفية.
الثالث: الباء للحالية، أي فتوسطن ملتبساً بالنقع، أي: بالغبار، جمعاً من جموع الأعداء.
وقيل: الباء مزيدة نقله أبو البقاء.
و «جَمْعاً» على هذه الأوجه: مفعول به.
الرابع: أن المراد ب «جمع» «المزدلفة» وهي تسمى جمعاً، والمراد: أن الإبل تتوسط جمعاً الذي هو «المزدلفة» ، كما مرَّ عن أمير المؤمنين فالمراد بالجمع مكان، لا جماعة الناس، كقول صفية: [الوافر]
5278 - فَلا والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ ... وقول بشر بن أبي خازم: [الكامل]
5279 - فَوَسَطْنَ جَمعهُمُ وأفْلتَ حَاجبٌ ... تَحْتَ العَجاجَةِ في الغُبَارِ الأقْتَمِ
و «جَمْعاً» على هذا منصوب على الظرف، وعلى هذا فيكون الضمير في «به» إما للوقت أي في وقت الصبح، وإما للنقع، وتكون الباء للحال، أي: ملتبسات بالنقع، إلا أنه يشكل نصب الظرف المختص إذ كان حقه أن يتعدى إليه ب «في» .
وقال أبو البقاء: إن «جمعاً» حال، وسبقه إليه مكي. وفيه بعد؛ إذ المعنى على أن الخيل توسطت جمع الناس.
وقرأ علي، وزيد بن علي، وقتادة، وابن أبي ليلى: بتشديد السين، وهما لغتان بمعنى واحد.(20/462)
وقال الزمخشري: التشديد للتعدية، والباء مزيدة للتأكيد، كقوله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: 25] وهي مبالغة في وسطن «انتهى.
وقوله:» وهي مبالغة «تناقض قوله أولاً للتعدية، لأن التشديد للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولاً آخر، تقول:» ذبحت الغنم «مخففاً، ثم تبالغ فتقول:» ذبَّحتها «- مثقلاً - وهذا على رأيه قد جعله متعدياً بنفسه، بدليل جعله الباء مزيدة، فلا تكون للمبالغة.
فصل في معنى الآية
المعنى: فوسطن بركبانهن العدو، أي: الجمع الذين أغاروا عليهم.
وقال ابن مسعود:» فوسَطْنَ بِهِ جَمْعاً «يعني» مزدلفة «، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها.
ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطاً وسطة، أي: صرت وسطهم، وقد أكثر الناس في وصف الخيل وهذا الذي ذكره الله أحسن.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الخَيْلُ معْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ «وقال أيضاً:» ظهرها حرز وبطنها كنز «.
ويروى أن بنت امرئ القيس أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يا رسول الله، هل أنزل عليك ربُّك كلاماً في صفةِ الخَيْل كلاماً أفصح مما قاله جدِّي؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» وما قال جدّكِ «.؟ قالت: [الطويل]
5280 - مِكَرٍّ مُقْبلٍ مُدبِرٍ معاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل
فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {والعاديات ضَبْحاً} الآيات فأسلمت.(20/463)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} . هذا هو المقسم عليه، و «لرَبِّهِ» متعلق بالخبر، وقدم الفواصل، والكنُود: الجحود.(20/463)
وقيل: الكفور لنعمه، وأنشد: [الطويل]
5281 - كَنُودٌ لِنعْمَاءِ الرِّجَالِ ومَنْ يَكُنْ ... كَنُوداً لِنعْماءِ الرِّجَالِ يُبعَّدِ
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو بلسان «كندة» و «حضرموت» : العاصي، وبلسان «ربيعة» و «مضر» : الكفور، وبلسان «كنانة» : البخيل.
وأنشد أبو زيد: [الخفيف]
5282 - إنْ تَفُتْنِي فلمْ أطِبْ عَنْكَ نَفْساً ... غَيْرَ أنِّي أمْسِي بِدهْرٍ كَنُودِ
وقيل: لسان الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها.
وقيل: الكنود: من كند إذا قطع، كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر، ويقال: كند الخيل: إذا قطع؛ قال الأعشى: [المتقارب]
5283 - يُعْطِي عَطاءً بِصُلبِ الفُؤادِ ... وصُولِ حِبَالٍ وكنَّادِهَا
فهذا يدل على القطع، ويقال: كند يكند كنوداً، أي: كفر النعمة وجحدها، فهو كنود، وامرأة كنود أيضاً، وكند مثله؛ قال الأعشى: [الكامل]
5284 - أحْدِثْ لهَا تُحدِثُ لوصْلِكَ إنَّهَا ... كُنُدٌ لوِصْلِ الزَّائرِ المُعْتَادِ
أي: كفور للمواصلة، وروى أبو أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الكنُودُ: هُو الَّذي يَأكلُ وحدهُ، ويمنعُ رفدهُ، ويَضربُ عَبْدَهُ» خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال الحسن: الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصيبات، وينسى النعم(20/464)
والراحات، وهو كقوله تعالى: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] .
واعلم أن الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً، وكيفما كان فلان يمكن حمله على كل الناس، فلا بد من صرفه إلى كافر معين، وإن حملناه على الكل فالمعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه.
قال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر، يقول: إنه لكفور، ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال أبو بكر الواسطي: الكنُود: الذي ينفق نعم اللهِ في معاصي الله.
وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي إذا مسه الشرُّ جزوعٌ، وإذا مسَّه الخيرُ منوع. وقيل: هو الحسود الحقود.
قال القرطبي: «هذه الأقوال كلُّها ترجع إلى معنى الكفران والجحود» .
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، لقوله: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} [العاديات: 19] ولا يليق إلا بالكافر المنكر لذلك.
قوله: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} . أي: وإن الله - تعالى - على ذلك من ابن آدم لشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين.
وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: «وإنَّهُ» أي: وإن الإنسان لشاهدٌ على نفسه بما يصنع كقوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} .
والأول أولى؛ لأنه كالوعيد والزجر له عن المعاصي.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير} . اللام متعلقة ب «شديد» وفيه وجهان:
أحدهما: أنها المعدية، والمعنى: وإنه لقوي مطيق لحب الخير أي: المال، يقال: هو شديد لهذا الأمر، أي: مطيق له، ويقال: لشديد: أي: بخيل، ويقال للبخيل: شديد ومتشدِّد؛ قال طرفة: [الطويل]
5285 - أرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي ... عَقِيلةَ مَالِ الفَاحشِ المُتَشَددِ
يقال: اعتامه واعتماه: أي: اختاره، والفاحش: البخيل أيضاً؛ قال تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة: 268] أي: البخل.(20/465)
قال ابن زيد: سمى الله المال خيراً، وعسى أن يكون شراً وخيراً، ولكن الناس يعدونه خيراً، فسماه الله تعالى خيراً لذلك، قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] وسمى الجهاد سوءاً، فقال: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] على ما يسميه الناس.
الثاني: أن «اللام» للعلة، أي: وإنه لأجل حبِّ المالِ لبخيل.
وقيل: «اللام» بمعنى «على» .
وقال الفراءُ: أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير، فلما قدم الحب قال: «لشديد» وحذف من آخره ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، لرءوس الآي، كقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] والعصوف: للريح لا للأيام، فلما جرى ذكرُ الرِّيحِ قبل اليوم، طرح من آخره ذكر الريح، كأنه قال: في يوم عاصف الريح.(20/466)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
قوله: {أَفَلاَ يَعْلَمُ} . لما عد عليه قبائح أفعاله خوّفه، فقال: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} .
العامل في «إذَا» أوجه:
أحدهما: «بُعْثِرَ» نقله مكيٌّ عن المبرِّد. وتقدم تحريره في السورة قبلها.
قال القرطبيُّ: العامل في «إذا» : «بعثر» ولا يعمل فيه «يعلمُ» إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت؛ إنما يراد في الدنيا، ولا يعمل فيه «خبير» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها، والعامل في «يَوْمئذٍ» : «خَبِيرٌ» وإن فصل اللام بينهما؛ لأن موضع اللام الابتداء، وإنما دخلت في الخبر لدخول «إن» على المبتدأ.
والثاني: ما دل عليه خبر «إن» ، أي: إذا بعثر جوزوا.
والثالث: أنه «يَعْلمُ» ، وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء، وردّه مكي، قال: «لأن الإنسان لا يراد منه العلم والاعتبار ذلك الوقت، وإنما يعتبر في الدنيا ويعلم» .
قال أبو حيان: «وليس بمتضح، لأن المعنى: أفلا يعلم الآن» .
وكان قال قبل ذلك: «ومفعول» يعلم «محذوف، وهو العامل في الظرف؛ أي: أفلا يعلم ما مآله إذا بُعثر» انتهى.(20/466)
فجعلها متعدية في ظاهر قوله إلى واحد، وعلى هذا فقد يقال: إنها عاملة في «إذا» على سبيل أن «إذا» مفعول به لا ظرف؛ إذ التقدير: أفلا يعرف وقت بعثرة القبور، يعني أن يقر بالبعث ووقته، و «إذا» قد تصرفت وخرجت عن الظرفية، ولذلك شواهد تقدم ذكرها.
الرابع: أن العامل فيها محذوف، وهو مفعول «يَعْلَمُ» ، كما تقدم.
وقرأ العامة: «بُعْثِرَ» - بالعين - مبنيًّا للمفعول، والموصول قائم مقام الفاعل.
وابن مسعود: بالحاء.
قال الفرَّاءُ: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ «بحثر» بالحاء وحكاه الماوردي عن ابن مسعودٍ.
وقرأ الأسود بن زيد ومحمد بن معدان: «بحث» من البحث.
وقرأ نصر بن عاصم: «بَعْثَرَ» مبنياً للفاعل، وهو اللهُ أو الملك.
فصل في معنى الآية
المعنى «أفَلا يَعْلمُ» ، أي: ابن آدم «إذَا بُعْثِرَ» أي: أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها.
قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع، جعله أسفله أعلاه.
قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون.
فإن قيل: لم قال: «بُعثِرَ ما في القُبُور» ولم يقل: من في القبور؟ ثم إنه - تعالى - لما قال: «مَا فِي القُبورِ» فلم قال: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} ؟ .
فالجواب عن الأول: أن ما في الأرض غير المكلفين أكثر، فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثرون لا يكونون أحياء عقلاء، بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأول غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
قوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} ، قرأ العامة: «حصّل» مبنيًّا للفاعل وروي عن ابن عمر، وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير ونصر أيضاً «حصل» خفيف الصاد مبنياً للفاعل بمعنى جميع ما في الصحف محصلاً، والتحصيل: جمع الشيء، والحصول: اجتماعه، والاسم: الحصيلة.
قال لبيد: [الطويل]
5289 - وكُلُّ امرِئٍ يَوماً سَيعْلَمُ سَعْيهُ ... إذا حُصِّلتْ عِنْدَ الإلهِ الحَواصِلُ(20/467)
والتحصيل: التمييز، ومنه قيل للمنخل: محصل، وحصل الشيء - مخففاً - ظهر واستبان وعليه القراءة الأخيرة.
وقال المفسرون: «وحُصِّل ما في الصُّدورِ» أي: ميز ما فيها من خير وشر، وقال ابن عباس: أبرز. قال ابن الخطيب: وخص أعمال القلوب بالذكر دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب؛ لأنه لولا البواعث والإرادات، لما حصلت أعمال الجوارح.
قوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ} . العامة: على كسر الهمزة لوجود اللام في خبرها، والظاهر أنها معلقة ل «يَعْلَمُ» فهي في محل نصب، ولكن لا يعمل في «إذا» خبرها، لما تقدم، بل يقدر له عامل من معناه كما تقدم. ويدل على أنها معلقة للعلم، ولا مستأنفة. وقراءة أبي السمال وغيره: «أنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ خبير» ، بالفتح وإسقاط اللام، فإنها في هذه القراءة سادة مسد مفعولها.
ويحكى عن الحجاج - الخبيث الروح - أنه لما فتح همزة «أن» استدرك على نفسه، وتعمد سقوط اللام، وهذا إن صح كفر، ولا يقال: إنها قراءة ثابتة، كما نقل عن أبي السمَّال فلا يكفر، لأنه لو قرأها كذلك ناقلاً لها لم يمنع منه، ولكنه أسقط اللام عمداً إصلاحاً للسانه، واجتمعت الأمة على أن من زاد حرفاً، أو نقص حرفاً في القرآن عمداً فهو كافر.
قال شهاب الدين: وإنما قلت ذلك لأني رأيت أبا حيَّان قال: وقرأ أبو السمال والحجاج، ولا يحفظ عن الحجاج إلا هذا الأثر السوء، والناس ينقلونه عنه كذلك، وهو أقل من أن ينقل عنه.
«ربهم، ويومئذ» متعلقان بالخبر، واللام غير مانعة من ذلك، وقدما لأجل الفاصلة، ومعنى «خَبِيرٌ» أي: عالم لا يخفى عليه منهم خافية، وهو عالم بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى: أنه يجازيهم في ذلك اليوم.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ {والعاديات} أعطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْرَ حسَناتٍ بعددِ مَنْ بَاتَ بالمُزدلفةِ، وشَهِدَ جَمْعاً» ، والله أعلم وهو حزبي.(20/468)
سورة القارعة(20/469)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
مكية، وهي إحدى عشرة آية، وست وثلاثون كلمة، ومائة واثنان وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {القارعة مَا القارعة} كقوله تعالى: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] ، وكقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] ، وقد تقدم ما نقله مكي من أنه يجوز رفع «القَارِعَةُ» بفعل مضمر ناصب ل «يوم» .
وقيل: ستأتيكم القارعة.
وقيل: القارعة: مبتدأ وما بعده الخبر.
وقيل: معنى الكلام على التحذير.
قال الزجاجُ: والعرب تحذر، وتغري بالرفع كالنصب، وأنشد: [الخفيف]
5287 - لجَدِيرُونَ بالوَفَاءِ إذَا قَا ... لَ أخُو النَّجدةِ: السِّلاحُ السِّلاحُ
وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {نَاقَةَ الله} [الشمس: 13] ، فيمن رفعه، ويدل على ذلك قراءة عيسى: «القَارِعَة ما القارعة» بالنصب، بإضمار فعل، أي: احذروا القارعة و «مَا» زائدة، و «القَارِعَة» تأكيد للأولى تأكيداً لفظيًّا.
والقرعُ: الضرب بشدةٍ واعتماد. والمراد بالقارعة: القيامة، لأنها تقرع الخلائق بأهوالها، وأفزاعها.
وأهل اللغة يقولون: تقول العرب: قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة , إذا وقع الخلائق بأهوالها , وأفزاعها. وأهل اللغة يقولون: تقول العرب: قرعتهم القارعة , وفقرتهم الفاقرة , إذا وقع بهم(20/469)
أمر فظيع، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] ، وهي الشديدة من شدائد الدَّهرِ.
قوله تعالى: {مَا القارعة} استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها، كقوله تعالى: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] ، واختلفوا في سبب تسمية القيامة بالقارعة، فقيل: المراد بالقارعة: الصيحة التي يموت منها الخلائقُ؛ لأنها تقرع أسماعهم.
وقيل: إنَّ الأجرام العلوية والسفلية يصطكّان، فيموت العالم بسبب تلك القرعة، فلذلك سميت بالقارعة، [وقيل: تقرع الناس بالأهوال كانشقاق السموات، وأقطارها وتكوير الشمس، وانتثار الكواكب، ودك الجبال ونسفها، وطي الأرض. وقيل: لأنها تقرع أعداء الله بالعذاب] ، وقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ، أي: لا علم لك بكنهها؛ لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد، وعلى هذا يكون آخر السورة مطابقاً لأولها.
فإن قيل: هاهنا قال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ، ثم قال في آخر السورة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ، ولم يقل: وما أدراك ما هاوية؟
فالجواب: الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس، وكونها هاوية ليس كذلك، فظهر الفرق.
قوله: {يَوْمَ يَكُونُ} . في ناصب «يَوْمَ» أوجه:
أحدها: مضمر يدلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم يكون وقيل: تقديره: تأتي القارعة يوم.
الثاني: أنه اذكر مقدراً، فهو مفعول به لا ظرف.
الثالث: أنه «القَارِعَةُ» قاله ابن عطية، وأبو البقاء، ومكيٌّ.
قال أبو حيان: فإن كان عنى ابن عطيَّة اللفظ الأول، فلا يجوز، للفصل بين العاملين وهو في صلة «أل» والمعمول بأجنبي، وهو الخبر، وإن جعل القارعة علماً للقيامة، فلا يعمل أيضاً، وإن عنى الثاني والثالث، فلا يلتئم معنى الظرفية معه.
الرابع: أنه فعل مقدر رافع للقارعة الأولى، كأنه قيل: تأتي القارعة يوم يكون. قاله مكي. وعلى هذا يكون ما بينهما اعتراضاً، وهو بعيد جداً منافر لنظم الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي: «يَوْمُ» بالرفع، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: وقتها يوم.(20/470)
قوله: «كالفَراشِ» . يجوز أن يكون خبراً للناقصة، وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي: يؤخذون ويحشرون شبه الفراش، وهو طائر معروف.
وقال قتادة: الفراش: الطَّير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة: فراشة.
وقال الفراءُ: هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطّيش والهوج، يقال: أطيش من فراشة؛ وأنشد: [البسيط]
5288 - فَراشَةُ الحِلْمِ فِرعَوْنُ العَذابُ وإنْ ... يَطلُبْ نَداهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كُلُبُ
وقال آخر: [الطويل]
5289 - وقَدْ كَانَ أقْوَامٌ رَدَدْتَ قُلوبَهُمْ ... عَليْهِمْ وكَانُوا كالفَراشِ مِنَ الجَهْلِ
وقال آخر: [الرجز]
5290 - طُويِّشٌ من نَفرٍ أطْيَاشِ ... أطْيَشُ من طَائرةِ الفَراشِ
والفراشة: الماءُ القليلُ في الإناء وفراشة القُفل لشبهها بالفراشة، وروى «مسلم» عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَثلِي ومَثلكُمْ كَمَثلِ رجُلٍ أوْقدَ نَاراً فجعَلَ الجنَادِبُ والفراشُ يَقعْنَ فِيهَا وهو يذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وأنَا آخِذٌ بحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، وأنْتُمْ تَفْلتُونَ مِنْ يَدِي» .
في تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتَّى: منها الطيشُ الذي يلحقهم، وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة، والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار؛ قال جريرٌ: [الكامل]
5291 - إنَّ الفَرزْدَقَ ما عَلمْتَ وقوْمَهُ ... مِثْلُ الفَرَاشِ غشيْنَ نَارَ المُصْطَلِي
والمبثوث: المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] .
فأول حالهم كالفراش لا وجه له يتحير في كل وجه، ثم يكون كالجراد، لأن لها وجهاً تقصده والمبثوث: المتفرق المنتشر، وإنما ذكر على اللفظ كقوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] .(20/471)
قال ابن عباس: «كالفَرَاشِ المبثُوثِ» كغوغاء الجراد، يركب بعضها بعضاً، كذلك الناس، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا.
فإن قيل كيف يشبهُ الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً، لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ .
فالجواب: أما التشبيه بالفرش، فبذهاب كل واحد إلى جهة الآخر، وأما التشبيه بالجراد، فبالكثرة والتتابع، ويكون كباراً، ثم يكون صغاراً.
قوله: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} . أي: الصوف الذي ينفش باليد، أي: تصير هباء وتزول، كقوله تعالى: {هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 6] .
قال أهل اللغة: العهنُ: الصوف المصبوغ. وقد تقدم.(20/472)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
قوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} . في الموازين قولان:
أحدهما: أنه جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء، ونظيره قولك: له عندي درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان ووزن دارك، أي: حذاؤها.
والثاني: قال ابن عباس: جمع ميزان لها لسان وكتفان يوزن فيه الأعمال.
[وقد تقدم القول في الميزان في سورة «الأعراف» و «الكهف» و «الأنبياء» ، وأنه له كفة ولسان يوزن فيها الصحف المكتوب فيها الحسنات، والسيئات.
ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل عليه السلام يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع.
وقيل: موازين لكل حادثة ميزان] .
وقيل: الموازين: الحجج والدلائل، قاله عبد العزيز بن يحيى.
واستشهد بقول الشاعر: [الكامل]
5292 - قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي لكُلّ مُخَاصِم مِيزانهُ
ومعنى {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ، أي: عيش مرضي، يرضاه صاحبه.(20/472)
وقيل: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ، أي: فاعله للرضا، وهو اللين والانقياد لأهلها، فالفعل للعيشة؛ لأنها أعطت الرضا من نفسها، وهو اللين والانقياد.
فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضا كالفرس المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع، وكذلك فروع الشجرة تتدلى لارتفاعها للولي، فإذا تناول من ثمرها ترتفع، كقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] وحيثما مشى من مكان إلى مكان جرى معه نهر حيث شاء.
قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} ، أي: رجحت سيئاته على حسناته، قال مقاتل وابن حيان: إنما رجحت الحسناتُ؛ لأن الحق ثقيلٌ، والباطل خفيفٌ.
قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} ، أي: هالكة، وهذا مثل يقولونه لمن هلك، تقول: هوت أمه لأنه إذا هلك سقطت أمه ثكلاً وحزناً، وعليه قوله فهي هاوية، أي: ثاكلة، قال: [الطويل]
5293 - هَوَتْ أمُّهُ ما يَبْعَثُ الصُّبْحَ غَادِياً ... ومَاذَا يُؤدِّي اللَّيلُ حينُ يَثُوبُ
فكأنه قال تعالى: من خفت موازينه فقد هلك.
وقيل: الهاوية من أسماء النار، كأنها النار العميقة يهوي أهل النار فيها والمعنى: فمأواهم النار.
وقيل للمأوى: أم، على سبيل التشبيه بالأم، كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الكامل]
5294 - فالأرْضُ مَعْقِلُنَا وكَانَتْ أمَّنَا ... فِيهَا مَقابِرُنَا وفِيهَا نُولَدُ
ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار.
وقال عكرمة: لأنه يهوي فيها على أم رأسه.
وذكر الأخفش والكلبي وقتادة: المهوى والمهواة ما بين الجبلين، ونحو ذلك، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في أثر بعض.
وقرأ طلحة: «فإمّه» بكسر الهمزة، نقل ابن خالوية عن ابن دريد، أنها لغة(20/473)
النحويين لا يجيزون ذلك إلا إذا تقدمها كسرة أو ياء.
وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «النساء» .
قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ، الأصل: «مَا هِيَ» فدخلت الهاء للسكت.
وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وابن محيصن: «مَا هِيَ» بغير هاء في الوصل ووقفوا بها، وقد تقدم في سورة «الحَاقَّة» . و «مَا هِيَ» مبتدأ وخبر، سادَّان مسد المفعولين ل «أدْرَاكَ» ، وهو من التعليق، وهي ضمير الهاويةِ، إن كانت الهاوية - كما قيل - اسماً لدركه من دركات النَّار، وإلا عادت إلى الداهية المفهومة من الهاوية.
قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} . «نارٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي نار شديدة الحر.
روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتي يُوقِدُ ابنُ آدَمَ جزءٌ من سبعينَ جُزْءاً من حرِّ جَهَنَّم «، قالوا: إنها لكافية يا رسول الله، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» فإنَّها فُضِّلت عَليْهَا بِتِسْعَةٍ وستِّين جُزءاً كُلُّهَا مِثلُ حرِّهَا «» .
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {القارعة} ثقل اللهُ مَوَازِينَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» والله أعلم.(20/474)
سورة التكاثر(20/475)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
مكية في قول الجميع، وروى البخاري أنها مدنية، وهي ثماني آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} ، «ألْهَاكُم» : شغلكم؛ قال امرؤُ القيسِ: [الطويل]
5295 - ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... فألْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْولِ
أي: شغلكم المباهاة، بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتَّى متم ودفنتم في المقابر.
قال ابن عباس والحسن: «ألْهَاكُم» : أنساكم، «التَّكاثرُ» ، أي: من الأموال، والأولاد قاله ابن عباسٍ والحسنُ وقتادةُ أي: التَّفاخر بالقبائل والعشائر، وقال(20/475)
الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة، يقال: لهيت عن كذا - بالكسر - ألهى لهياً، ولهياناً: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه، وألهاه: أي: شغله، ولهاه به تلهيه: أي: تملله والتكاثر: المكاثرة قال قتادةُ ومقاتل وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً.
وقال ابن زيد: نزلت في فخذ من الأنصار.
وقال ابن عباسٍ: ومقاتل، والكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم، تعادوا وتكاثروا بالسادة، والأشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم: نحن أكثر سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، وأكثر عائذاً، فكثر بنو عبد مناف سهماً، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم، فنزلت: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} بأحيائكم فلم ترضوا {حتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ} مفتخرين بالأموات.
وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار.
وعن شيبان عن قتادة، قال: نزلت في أهل الكتاب.
قال القرطبي: «والآية تعمّ جميع ما ذكر وغيره» .
وروى ابن شهاب عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَوْ أنَّ لابْنِ آدَمَ وادِساً مِنْ ذَهَبٍ، لأحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وادِيانِ، ولنْ يَمْلأ فَاهُ إلاَّ التُّرابُ، ويتُوبُ اللهُ على مَنْ تَابَ» ، رواه البخاري.
قال ثابت عن أنس عن أبيّ: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} . رواه البخاري.
قال ابن العربي: وهذا نصٌّ صريح، غاب عن أهل التفسير [فجهلوا وجهَّلوا، والحمد لله على المعرفة] .
وقرأ ابن عباس: «أألهاكم» على استفهام التقرير والإنكار ونقل في هذا المد مع(20/476)
التسهيل، ونقل فيه بتحقيق الهمزتين من غير مد.
قوله تعالى: {حتى زُرْتُمُ المقابر} ، «حتَّى» غاية لقوله: «ألْهَاكُم» ، وهو عطف عليه، والمعنى: أي أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زواراً، ترجعون فيها كرجوع الزائر إلى منزلة من جنة أو نار.
وقيل: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} حتى عددتم الأموات.
وقيل: هذا وعيد، أي: اشتغلتم بمفاخرة الدنيا حتى تزورا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله - عزَّ وجلَّ - و «المَقابِر» جمع مَقْبَرة، ومَقْبَرة بفتح الباء وضمها والقبور: جمع قبر، وسمي سعيد المقبري؛ لأنه كان يسكن المقابر، وقبرت الميت أقبَره وأقبُره قبراً؛ أي: دفنته، وأقبرته، أي: أمرت بأن يقبر.
فصل في معنى ألهاكم
قال المفسرون: معنى الآية: ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت فأنتم على ذلك.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريباً، والأموات ملازمون القبور، فكيف يقال: إنه زار القبر؟ .
وأيضاً: فقوله - جل ذكره -: {حتى زُرْتُمُ المقابر} إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل؟ .
فالجواب عن الأول: أنَّ سكان القبور، لا بد أن ينصرفوا منها.
وعن الثاني: أن المراد من كان مشرفاً على الموت لكبر أو لغيره كما يقال: إنه على شفير قبره وإما أن المراد من تقدمهم، كقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين} [البقرة: 61] .
وقال أبو مسلم: إن الله يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار، وهم في ذلك الوقت تقدمت منهم زيارة القبور.
فصل في ذكر المقابر
قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة.
وفيه نظر؛ لأنه تعالى قال في سورة أخرى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] .
واعلم أن زيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي، لأنها تذكر الموت، والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل، والزُّهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها.(20/477)
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فزُوْرُوهَا، فإنَّها تُزْهِدُ في الدُّنيا، وتذكرُ الآخِرةَ» .
وروى أبو هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعن زوّارات القبور.
قال بعض أهل العلم: كان هذا قبل ترخيصه في زيارة القبور، فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء.
وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنِّساء، لقلّة صبرهن، وكثرة جزعهن.
وقال بعضهم: زيارة القبور للرجال متفق عليه، وأما النِّساء فمختلف فيه: أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج، وأما لقواعد فمباح لهن ذلك، وجاز لجميعهن ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال بغير خلاف لعدم خشية الفتنة.
فصل في آداب زيارة القبور
ينبغي لمن زار القُبُور أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظّه منها إلا التّطواف فقط، فإن هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن، والدعاء، ويتجنب المشي على القبور، والجلوس عليها، ويسلم إذا دخل المقابر، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من تلقاء وجهه؛ لأنه في زيارته كمخاطبته حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه أنه كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أجزاؤهم، وترمَّل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وأنَّ حاله كحالهم، ومآله كمآلهم.
[قوله تعالى: {كَلاَّ} قال الفراء: أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر. والتمام على هذا {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عاقبة هذا.
قوله تعالى: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} جعله ابن مالك من التوكيد مع توسّط حرف العطف] .(20/478)
وقال الزمخشريُّ: والتكرير تأكيد للردع، والرد عليهم، و «ثُمَّ» دالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول، وأشد كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: «لا تَفْعَلْ» انتهى.
ونقل عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: {كَلاَّ سَوْفَ تعلمُون} في الدنيا {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلمُونَ} في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرر لحصول التَّغاير بينهما؛ لأجل تغاير المتعلقين، و «ثُمَّ» على بابها من المهلة وحذف متعلق العلم في الأفعال الثلاثة، لأن الغرض الفعل لا متعلقه.
وقال الزمخشريُّ: والمعنى: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله، انتهى. فقدر له مفعولاً واحداً كأنه جعله بمعنى «عَرَفَ» .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس: {كَلاَّ سَوفَ تَعْلمُونَ} ما ينزل بكم من العذاب في القبور {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلمُونَ} في الآخرة إذا حل بكم العذاب، فالتَّكرار للحالين.
وروى زر بن حبيش عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة فأشار إلى أن قوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني في القبور.
[وقيل: كلا سوف تعلمون إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل ربكم تنزع أرواحكم، ثم كلا سوف تعلمون في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث، وحشر، وعرض، وسؤال، إلى غير ذلك من أهوال يوم القيامة] .
وقال الضحاكُ: {كَلاَّ سَوفَ تَعْلَمُونَ} أيها المؤمنون وكذلك كان يقرؤها الأولى بالتاء والثانية بالياء فالأول وعيد والثاني وعد.
قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ} جواب «لَوْ» محذوف، أي: لفعلتم ما لا يوصف.
وقيل: التقدير: لرجعتم عن كفركم.
قال ابن الخطيب: وجواب «لَوْ» محذوف، وليس «لترونَّ» جوابها، لأن هذا مثبت، وجواب «لو» يكون منفياً، ولأنه عطف عليه قوله: «ثُمَّ لتُسْألُنَّ» وهو مستقبل، لا بد من وقوعه، وحذف جواب «لَوْ» كثير.
قال الأخفش: التقدير: لو تعلمُون علم اليقين ما ألهاكم.(20/479)
وقيل: لو تعلمون لماذا خلقتم لاشتغلتم وحذفُ الجواب أفخر، لأنه يذهب الوهم معه كل مذهب، قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ} [الأنبياء: 39] ، وقال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وأعاد «كلاَّ» وهو زجر وتنبيه؛ لأنه عقب كل واحد بشيء آخر، كأنه قال: لا تفعلُوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب.
و {عِلْمَ اليقين} مصدر.
قيل: وأصله العلم اليقين، فأضيف الموصوف إلى صفته.
وقيل: لا حاجة إلى ذلك؛ لأن العلم يكون يقيناً وغير يقين، فأضيف إليه إضافة العام للخاص، وهذا يدل على أنَّ اليقينَ أخصُّ.
فصل في المراد باليقين
قال المفسِّرون: أضاف العلم إلى اليقين، كقوله تعالى: {لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] ، قال قتادة: اليقين هنا: الموت.
وعنه أيضاً: البعث، لأنه إذا جاء زال الشكُّ، أي: لو تعلمون علم البعث أو الموت، فعبر عن الموت باليقين، كقولك: علم الطب، وعلم الحساب، والعلم من أشد البواعث على الفعل، فإذا كان بحيث يمكن العمل، كان تذكرة، وموعظة، وإن كان بعد فوات العمل كان حسرة، وندامة، وفيها تهديد عظيم للعلماء، الذين لا يعملون بعلمهم.
قوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} . جواب قسم مقدر، أي: لترون الجحيم في الآخرة.
والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار.
وقيل: عام [كقوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] فهي للكفار دار، وللمؤمنين مَمَرّ] .
وقرأ ابن عامر، والكسائي: «لتُروُنَّ» مبنياً للمفعول، وهي مفعولة من «رأى» الثلاثي أي: أريته الشيء، فاكتسب مفعولاً آخر، فقام الأول مقام الفاعل، وبقي الثاني منصوباً.(20/480)
والباقون مبنياً للفاعل، جعلوه غير منقول، فتعدى لواحد فقط، فإن الرؤية بصرية.
وأمير المؤمنين، وعاصم، وابن كثير في رواية عنهم: بالفتح في الأول، والضم في الثاني، يعني: لترونها.
ومجاهد، وابن أبي عبلة، وأشهب: بضمها فيهما.
والعامة على أن الواوين لا يهمزان؛ لأن حركتهما عارضة.
وقد نصّ مكي، وأبو البقاء على عدم جوازه، وعللا بعروض الحركة.
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما: بهمز الواوين استثقالاً لضمة الواو.
قال الزمخشري: «هِيَ مُسْتكرَهة» ، يعني لعروض الحركة عليها، إلا أنهم قد همزوا ما هو أولى لعدم الهمز من هذه الواو، نحو: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] همزوا واو «اشترؤا» مع أنها حركة عارضة، وتزول في الوقف، وحركة هذه الواو، وإن كانت عارضة، إلا أنَّها غير زائلة في الوقف، فهو أولى بهمزها.
قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} هذا مصدر مؤكد، كأنه قيل: رؤية اليقين نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى.
وقال أبو البقاء: لأن «رأى» ، و «عاين» بمعنى.
فصل في معنى الآية
معنى الكلام: «لتَرَوُنَّ الجَحِيمَ» بأبصاركم على البعد «ثُمَّ لتَروُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ» أي: مشاهدة.
وقيل: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلمَ اليَقِينَ} ، معناه: «لَوْ تَعْلَمُونَ» اليوم في الدنيا «عِلمَ اليَقِينِ» بما أمامكم مما وصفت «لَتَروُنَّ الجَحِيم» بعيون قلوبكم، فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك، وهو أن يصور لك نار القيامة {ثُمَّ لتَرونَّها عَيْنَ اليَقِينِ} ، أي: عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقيناً، لا تغيب عن عينك، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} في موقف السؤال والعرض.
قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «لما نزلت هذه الآية، قال: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن(20/481)
التيهان من خبز شعيرٍ، ولحم، وبسر، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي يسأل عنه؟ .
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» إنما ذلِكَ للكُفَّارِ «ثم قرأ: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [سبأ: 17] ؛ ولأن ظاهر الآية يدل على ذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا، والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله، والاشتغال بذكر الله تعالى، يسألهم عنها يوم القيامة، حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم.
وقيل: السؤال عام في حق المؤمن، والكافر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أوَّلُ ما يُسْألُ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ عن النَّعِيمِ، فيقالُ لَهُ: ألَمْ نُصْحِحْ جِسْمكَ؟ ألَمْ نَروِكَ مِنْ المَاءِ البَاردِ «
وقيل: الزائد عما لا بد منه.
وقيل غير ذلك.
قال ابن الخطيب: والأولى على جميع النعيم، لأن الألف واللام تفيد الاستغراق، وليس صرف اللفظ إلى بعض أولى من غيرها إلى الباقي، فيسأل عنها، هل شكرها أم كفرها؟ وإذا قيل: هذا السؤال للكفار.
فقيل: السؤال في موقف الحساب.
وقيل: بعد دخول النار، يقال لهم: إنَّما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة. والله أعلم.(20/482)
سورة العصر(20/483)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
مكية، وروى ابن عباس وقتادة: أنها مدنية، وهي ثلاث آيات [وأربع عشرة كلمة وستون حرفا] . بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والعصر} . قرأ العامة: بسكون الصاد، وسلام: «والعَصِر» بكسرها، و «الصَّبْرِ» بكسر الباء.
قال ابن عطية: «وهذا لا يجوز، إلا في الوقف على نقل الحركة» .
وروي عن أبي عمرو: «بالصبْر» بسكون الباء إشماماً، وهذا أيضاً لا يجوز إلا في الوقف انتهى.
ونقل هذه القراءة جماعة كالهذلي، وأبي الفضل الرازي، وابن خالويه.
قال الهذلي: «والعصر، والصبر، والفجر، والوتر، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها: هارون، وابن موسى عن أبي عمرو، والباقون: بالإسكان، كالجماعة» انتهى.
فهذا إطلاق منه لهذه القراءة في حالتي الوقف والوصل.
قال ابن خالويه: «وتواصوا بالصبر» بنقل الحركة عن أبي عمرو.
قال ابن خالويه [وقال صاحب «اللوامح» : وعيسى البصرة:] «بالصبر» بنقل حركة الراء إلى الباء، لئلا يحتاج، أن يأتي ببعض الحركة في الوقف، ولا إلى أن يسكن،(20/483)
فيجمع بين ساكنين، وذلك لغة شائعة، وليست بشاذة بل مستفيضة، وذلك دلالة على الإعراب، وانفصال عن التقاء الساكنين، وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى، فهذا يؤذن بما ذكر ابن عطية، أنه كان ينبغي ذلك.
وأنشدوا على ذلك: [الرجز]
5296 - واعْتقَالاً بالرِّجِلْ ... يريد: بالرِّجْلِ.
وقال آخر: [الرجز]
5297 - أنَا جَريرٌ كُنيَتِي أبُو عَمِرْ ... أضْرِبُ بالسَّيْفِ وسعْدٌ بالقَصِرْ
والنقل جائز في الضم كقوله شعر:
إذ جد النَّقُرْ ... وله شروط: «والعقد» الليلة واليوم قال: [الطويل]
5298 - ولَنْ يَلْبثِ العقْدانِ: يَومٌ ولَيْلةٌ ... إذَا طَلَبَا أنْ يُدْرِكَا تَيَمَّمَا
قال ابن عباس وغيره: «والعصر» أي: الدهر، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
5299 - سَيْلُ الهَوَى وعْرٌ وبَحْرُ الهَوَى غَمْرٌ ... ويَوْمُ الهَوَى شَهْرٌ وشَهْرُ الهَوَى دَهْرُ
أقسم الله - تعالى - بالعصرِ لما فيه من الاعتبار للناظر بتصرف الأحوال وبتبدلها وما فيها من الأدلة على الصانع، والعصران أيضاً الغداة والعشي قال: [الطويل]
5300 - وأمْطُلُهُ العَصْرَيْن حتَّى يَملَّنِي ... ويَرْضَى بنِصْفِ الدِّيْن والأنْفُ رَاغِمُ
يقول: إذا جاءني أول النهار وعدته آخره.(20/484)
وقيل: إنه العشي، وهو ما بين الزوال والغروب. قاله الحسن وقتادة.
[وقال الشاعر] :
5301 - تَروَّحْ بِنَا يا عَمْرُو قَدْ قَصُرَ العَصرُ ... وفي الرَّوحةِ الأولَى الغَنِيمةُ والأَجْرُ
وعن قتادة: هو آخر ساعة من النهار، فأقسم سبحانه بأحد طرفي النهار كما أقسم بالضحى، وهو أحد طرفي النَّهارِ، قاله أبو مسلم.
وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى؛ لأنها أفضل الصلوات، قاله مقاتل.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصَّلاةُ الوُسْطَى، صلاةُ العَصْرِ» .
وقيل: أقسم بعصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفضله بتجديد النبوة فيه.
وقيل: معناه وربِّ العصر.
فصل
قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من حلف ألاَّ يكلم رجلاً عصراً، لم يكلمه سنة.
قال ابن العربي: [إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرءاً عصراً على السنة، لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ] المعنى في الإيمان.
وقال الشافعي: يبر بساعة إلا أن تكون له نيّة، وبه أقول، إلا أن يكون الحالف عربياً، فيقال له: ما أردت؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه إلا أن يكون الأقل، ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر.
قوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ، هذا جواب القسم، والمراد به العموم بدليل الاستثناء منه، وهو من جملة أدلة العموم.
وقال ابن عباس في رواية ابي صالح: المراد به الكافر.
وقال في رواية الضحاك: يريد جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى والأسود بن عبد يغوث. وقوله تعالى: {لَفِى خُسْرٍ} أي: لفي غبنٍ.
وقال الأخفش: لفي هلكة.
وقال الفراء: لفي عقوبة، ومنه قوله: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق: 9] ، وقال الفراء: لفي شرّ.(20/485)
وقيل: لفي نقص، والمعنى متقارب.
وقرأ العامة: «لفي خُسرٍ» بسكون السين، وزيد بن علي، وابن هرمز، وعاصم في رواية أبي بكر، وزاد القرطبيُّ: الأعرج، وطلحة، وعيسى الثقفي: بضمها. وهي كالعسر واليسر، وقد تقدم في البقرة، والوجه فيها الإتباع، ويقال: خسْر وخسُر مثل عسْر وعسُر.
وقرأ علي بن أبي طالب: «والعصر» : ونوائب الدهر، {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ؛ وإنه فيه إلى آخر الدهر.
قال إبراهيم: إن الإنسان إذا عُمِّرَ في الدنيا وهرم لفي نقص، وضعف، وتراجع إلا المؤمنين، فإنهم يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5] . قال: وقراءتنا: «والعصر إنّ الإنسان لفي خُسْر فإنه في آخر الدهر» . والصحيح ما عليه الأمّة والمصاحف.
[وقيل: المعنى أن الإنسان لا ينفك عن تضييع عمره؛ لأن كل ساعة تمر بالإنسان، فإن كان في المعصية، فالخسر ظاهر، وكذلك إن مرت في مباح، وإن مرت في طاعة فكان يمكن أن يأتي بها على وجه أكمل أي من الخشوع، والإخلاص، وترك الأعلى، والإتيان بالأدنى نوع خسران، والخسر والخسران مصدران، وتنكير الخسران إما للتعظيم، وإما للتحقير بالنسبة إلى خسر الشياطين، والأول أظهر، وأفرد الخسر مع كثرة أنواعه؛ لأن الخسر الحقيقي هو حرمان عن خدمة ربه سبحانه، وما عدا ذلك فالكعدم، وفيه مبالغات، ودخول «إن، واللام» ، وإحاطة الخسر به، أي: هو في طريق خسر وسبب خسر] .
قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} . استثناء من الإنسان؛ إذ المراد به الجنس على الصحيح {وَعَمِلُواْ الصالحات} ، أي: أدوا الفرائض المفترضة عليهم، وهم أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «قال أبي بن كعب: قرأت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» والعَصْرِ «ثم قلتُ: ما تفسيرها يا نبي الله؟ .
قال:» والعَصْرِ: أقسم ربكم بآخر النهار، {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ؛ أبو جهل {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} أبو بكر، {وَعَمِلُواْ الصالحات} عمر، {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} : عثمان، {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} : عليّ «»
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين.(20/486)
وهكذا خطب ابن عباس على المنبر، موقوفاً عليه.
ومعنى تواصوا أي تحاثوا أوصى بعضهم بعضاً وحث بعضهم بعضاً بالحق أي بالتوحيد وكذا روى الضحاك عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وقال قتادة بالحق أي بالقرآن وقال السدي الحق هنا الله تعالى وتواصوا بالصبر على طاعة الله والصبر عن المعاصي.
روى الثعلبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ {والعصر} خَتمَ اللهُ لَهُ بالصَّبْرِ، وكَانَ مَعَ أصْحابِ رسول اللهِ يَوْمَ القِيَامَةٍ» والله أعلم.(20/487)
سورة الهمزة(20/488)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
مكية، وهي تسع آيات، وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة} ، «الوَيْل» لفظ الذم والسّخط، وهي كلمة كل مكروب، وقد تقدم الكلام في الويل، ومعناه: الخزي، والعذاب، والهلكة.
وقيل: وادٍ في جهنم.
{لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} ، أي: كثير الهمز، وكذلك «اللُّمَزَة» ، أي: الكثير اللَّمْز. وتقدم معنى الهمز في سورة «ن» واللمز في سورة «براءة» .
والعامة: على فتح ميمها، على أن المراد الشخص الذي كثر منه ذلك الفعل.
قال زياد الأعجم: [البسيط]
5302 - تُدْلِي بِوُدِّي إذَا لاقَيْتَنِي كَذِباً ... وإنْ أغَيَّبْ فأنْتَ الهَامِزُ اللُّمَزَه
وقرأ أبو جعفر والأعرج: بالسكون، وهو الذي يهمز ويلمز أي يأتي بما يلمز به واللمزة كالضحكة [لمن يكثر ضحكه، والضحكة: بما يأتي لمن يضحك منه وهو مطرد، يعني أن «فُعَلَة» بفتح العين، لمن يكثر من الفعل، وبسكونها لمن الفعل بسببه] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وهم المشَّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شِرارُ عبادِ اللهِ تَعالَى:(20/488)
المشَّاءُونَ بالنَّمِيمَةِ المفسِدُونَ بَيْنَ الأحبَّةِ، الباغُونَ للبُرَآءِ العَيْبَ» .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن الهمزة: القتَّات، واللُّمزة: المغتاب، والقتَّاتُ: هو النمام، يقال: قتّ الحديث يقتّه: إذا زوره وهيّأه وسواه.
[وقيل: النَّمامُ الذي يكون مع القوم يتحدثون لينمّ عليهم، والقتَّات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون، ثم ينم، والقتات الذي يسأل عن الأخبار، ثم ينميها نقله ابن الأثير.
وقال أبو العالية، والحسن، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح: الهمزة: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللُّمزة: الذي يعيب به من خلفه، وهذا اختيار النحاس.
قال: ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] .
وقال مقاتل هنا هذا القول: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة الذي يغتاب في الوجه.
وقال قتادة، ومجاهد: الهمزة: الطَّعَّان في أنسابهم، وقال ابن زيد: الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللامز: الذي يلمزهم بلسانه ويلمز بعينه] .
وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي يؤدي جلساءه بسوء اللفظ، واللُّمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه، ورأسه، وبحاجبيه.
وقرأ عبد الله بن مسعود، وأبو وائل، والنخعي، والأعمش: «ويلٌ للهمزة اللمزة» .
وأصل الهمز: الكسر، والعض على الشيء بعنف، ومنه همز الحرف، ويقال: همزت رأسه، وهمزت الجوز بكفي: كسرته.
وقيل: أصل الهمزِ، واللمز: الدفع والضرب لمزه يلمزه لمزاً، إذا ضربه، ودفعه، وكذلك همزه: أي: دفعه، وضربه؛ قال الراجز: [الرجز]
5303 - ومَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَركَعَا ... عَلى اسْتِهِ زَوْبعَةً أوْ زَوْبَعَا(20/489)
البركعة: القيام على أربع وبركعه فتبركع، صرعه، فوقع على استه، قاله في «الصحاح» .
فصل فيمن نزلت فيه السورة
روى الضحاك عن ابن عبَّاس: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس، ويعيبهم مقبلين، ومدبرين.
وقال ابن جريج: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ورائه، ويقدح فيه في وجهه.
وقيل: إنها نزلت في أبي بن خلف.
وقيل: في جميل بن عامر الثقفي.
وقيل: إنها عامة من غير تخصيص، وهو قول الأكثرين.
قال مجاهد: ليست بخاصة لأحد، بل لكل من كانت هذه صفته.
وقال الفراءُ: يجوز أن يذكر الشيء العام، ويقصد به الخاص، قصد الواحد إذا قال: أزورك أبداً، فتقول: من لم يزرني فلست بزائره، تعني ذلك القائل.
فصل في نظم الآية
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لم قال: «ويلٌ» منكراً، وفي موضع آخر: «ولَكُمُ الويْلُ» ، معرفاً؟ .
فالجواب: لأن ثمة قالوا: {ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14، 46] ، فقال: «ولكُمُ الويْلُ» وهاهنا نكر، حتى لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
قيل: في «ويْلٌ» إنها كلمة تقبيح، و «ويس» استصغار، «ويح» ترحم، فنبه بهذا على قبيح هذا الفعل.
قوله: {الذى جَمَعَ} قرأ ابن عامر والأخوان: بتشديد الميم، على المبالغة، والتكثير.
والباقون: مخففاً، وهي محتملة للتكثير وعدمه.(20/490)
وقوله تعالى: {وَعَدَّدَهُ} ، العامة: على تثقيل الدَّال الأولى، وهي أيضاً للمبالغة.
وقرأ الحسن والكلبي: بتخفيفها، وفيه أوجه:
أحدها: أن المعنى جمع مالاً، وعدد ذلك المال، أي: وجمع عدده: أي: أحصاه.
والثاني: أن المعنى وجمع عدد نفسه من عشيرته، وأقاربه وعدده، وعلى هذين التأويلين اسم معطوف على «مالاً» ، أي: وجمع عدد المال، وعدد نفسه.
والثالث: أن عدده فعل ماض بمعنى عده، إلا أنه شذّ في إظهاره كما شذَّ في قوله: [البسيط]
5293 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... إنِّ أجُودُ لأقوامٍ وإنْ ضَنِنُوا
أي: ضنوا وبخلوا، فأظهر التضعيف.
و «الذي» بدل من كل أو نصب على الذم، وإنما وصفه تعالى بهذا الوصف، لأنه يجري مجرى المسبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فسيتنقص غيره.
فصل في معنى جمع المال
قال المفسرون: {جَمَعَ مالاً وعدَّدهُ} ، أي: أعده لنوائب الدهر، مثل: كرم، وأكرم.
وقيل: أحصى عدده. قاله السدي.
وقال الضحاكُ: أي: أعد ماله لمن يرثه من أولاده.
وقيل: تفاخر بعدده، وكثرته، والمقصود: الذم على إمساك المال على سبيل الطاعة، كقوله: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} [ق: 25] .(20/491)
قوله: {يَحْسَبُ} ، يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من فاعل «جَمَعَ» ، و «أخْلدهُ» بمعنى: «يُخلِدهُ» وأوقع الماضي موقع المضارع.
وقيل: هو على الأصل، أي: أطال عمره.
قال السديُّ: «يظن أن ماله أخلده، أي: يبقيه حياً لا يموت» .
وقال عكرمة: أي: يزيد في عمره وقيل: أحياه فيما مضى.
وهو ماض بمعنى المستقبل، وقالوا: هلك والله فلان، ودخل النار. أي: يدخل النار.(20/492)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قوله: {كَلاَّ} ، رد لما توهمه الكفار، أي: لا يخلد ولا يبقى له مال.
وقيل: حقاً لينبذن.
قوله: {لَيُنبَذَنَّ} ، جواب قسم مقدر، وقرأ علي والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بخلاف عنه، ومحمد بن كعب، ونصر بن عاصم، وحميد، وابن محيصن، وأبو عمرو في رواية: «لَيُنْبذَنَّ» بألف التثنية، لينبذان أي: هو وماله.
وعن الحسن أيضاً: «ليُنبذُنَّ» بضم الذال، وهو مسند لضمير الجماعة، أي: ليطرحن الهمزة، وأنصاره واللمزة، والمال، وجامعه معاً.
وقرأ الحسن أيضاً: «ليُنبذَنَّهُ» على معنى لينبذن ماله.
وعنه أيضاً: بالنون «لَنَنْبُذَنَّهُ» على إخبار الله - تعالى - عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال. {فِي الحطمة} وهي نار الله، سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه، وتهشمه، والحطمة: الكثير الحطم، يقال: رجل حطمة: أي أكول، وحطمته: كسرته، قال: [الرجز]
5304 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(20/492)
قَدْ لفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ
وقال آخر: [الرجز]
5305 - إنَّا حَطَمْنَا بالقَضيبِ مُصْعبَا ... يَوْمَ كَسرْنَا أنفهُ ليَغْضَبَا
حكى الماوردي عن الكلبي: ان الحطمة، هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم، وحكي القشيريُّ عنه: «الحُطمةُ» الدرجة الثانية من درج النار.
وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع.
وقال ابن زيدٍ: اسم من أسماء جهنم.
قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} ، على التعظيم لشأنها، والتفخيم لأمرها: ثم فسرها ما هي فقال: {نَارُ الله الموقدة} ، أي: هي نار الله التي أوقد عليها ألف عام، حتى احمرت، وألف عام حتى اسودّت، وألف عام حتى ابيضّت.
قوله: {التي تَطَّلِعُ} يجوز أن تكون تابعة ل «نارُ اللهِ» ، وأن تكون مقطوعة.
قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقاً جديداً، فرجعت تأكلهم، وكذلك روى خالد بن أبي عمران عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ النار تأكل أهلها، حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت، ثُمَّ إذا صدروا تعود، فلذلك قوله تعالى: {نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} » وخص الأفئدة؛ لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، أي: أنه في حال من يموت، وهم لا يموتون، كما قال تعالى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] فهم إذاً أحياءٌ، في معنى الأموات.
وقيل: معنى {تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} أي: تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وكذلك بما استبقاه الله - تعالى - من الأمارة الدَّالة عليه، ويقال: اطَّلَع فلان على كذا: أي: علمه، [وقد قال تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى} [المعارج: 17] .(20/493)
وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] .
قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} . أي: مطبقة عليهم، قاله الحسن والضحاك وقد تقدم في سورة البلد.
وقيل: مغلقة بلغة قريش، يقولون: أصدتُ الباب: إذا أغلقته. قاله مجاهد.
ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات: [الخفيف]
5306 - إنَِّ في القصْرِ لوْ دخلْنَا غَزالاً ... مُصْفقاً مُوصداً عليْهِ الحِجَابُ
قوله: {عَمَدٍ} . قرأ الأخوان وأبو بكر: بضمتين، جمع عمود، نحو رسول ورسل.
وقيل: جمع عماد، نحو: كتاب وكتب.
وروي عن أبي عمرو: الضم، والسكون، وهوتخفيف لهذه القراءة.
والباقون: «عَمَدٍ» بفتحتين، فقيل: بل هو اسم جمع ل «عمود» .
وقيل: بل هو جمع له.
قال الفراء: ك «أديم وأدم» .
وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد.
و «فِي عَمَدٍ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «عَليهِم» ، أي: موثقين، وأن يكون خبراً لمبتدأ مضمر، أي: هم في عمد، وأن يكون صفة ل «مُؤصَدةٌ» ، قاله أبو البقاء. يعني: فتكون النَّار داخل العمد.
وقال القرطبي: «الفاء بمعنى الباء، أي: موصدة بعمد ممدة» . قاله ابن مسعود، وهي في قراءته: «بعمد ممددة» .
قال الجوهريُّ: العمُود: عمود البيت، وجمع القلّة، أعمدة، وجمع الكثرة: عُمُد وعَمَد، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} .(20/494)
وقال أبو عبيدة: العمُود: كل مستطيل من خشب، أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد أي: أقمته بعماد يعتمد عليه، وأعمدته أي جعلت تحته عماداً.
فصل في معنى الآية
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الله تَبارَكَ وتَعَالَى يَبعَثُ عَليْهِمْ مَلائِكَةً بأطْباقٍ من نَارٍ، ومَسامِيرَ مِنْ نَارٍ، وعُمدٍ منْ نَارٍ، فتطبق عليهم بتِلْكَ الأطْبَاقِ، وتُسَدُّ بتلْكَ المَسَامِيرِ، وتُمَدُّ بتِلْكَ العُمدِ، فلا يَبْقَى فيْهَا خَلَلٌ يَدخلُ مِنهُ رَوْحٌ ولا يَخرجُ مِنهُ غمٌّ، فيكُونُ فِيهَا زَفيرٌ وشَهِيقٌ، فذلكَ قوله تَعَالَى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} » .
وقال قتادة: عمد يعذبون بها، واختاره الطَّبري.
وقال ابن عبًّاس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم.
وقال أبو صالح: قيود في أرجلهم.
وقال القشيري: العمد: أوتاد الأطباق.
وقيل: المعنى، في دهور ممدودة، لا انقطاع لها.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} أعطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ، وبعدد من اسْتَهْزأ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .(20/495)
سورة الفيل(20/496)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
مكية، وهي خمس آيات، وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} ، هذه قراءة الجمهور، أعني: فتح الراء وحذف الألف للجزم.
وقرأ السلمي: «تَرْ» بسكون الراء، كأنه لم يعتمد بحذف الألف.
وقرأ أيضاً: «ترأ» بسكون الراء وهمزة مفتوحة، وهو الأصل، و «كَيْفَ» معلقة للرؤية، وهي منصوبة بفعل بعدها، لان «ألَمْ تَر كَيفَ» من معنى الاستفهام.
فصل في معنى الآية
المعنى: الم تخبر.
وقيل: ألم تعلم.
وقال ابن عباس: ألم تسمع؟ واللفظ استفهام والمعنى تقرير، والخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنه عام، أي: ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي: قد رايتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟ .
فصل في لفظ «الفيل»
الفيل معروف، والجمع: أفيال، وفيول، وفيلة.
قال ابن السكيت: ولا يقال: «أفيلة» والأنثى فيلة، وصاحبه: فيال.(20/496)
قال سيبويه: يجوز أن يكون أصل «فيل» : «فُعْلاً» فكسر من أجل الياء، كما قالوا: أبيض وبيض.
وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع، ورجل فيلُ الرأي، أي: ضعيف الرأي والجمع: أفيال، ورجل فالٌ: أي: ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة، وقد فال الرأي، يفيلُ، فيُولة، وفيَّل رأيه تفييلاً: أي: ضعفه، فهو فيِّلُ الرأي.
فصل في نزول السورة
روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم - ملك «اليمن» - بنى كنيسة ب «صنعاء» لم ير مثلها، وسمَّاها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من بني كنانة مختفياً، وجعل يبولُ ويتغوطُ في تلك الكنيسة ليلاً، فأغضبه ذلك.
وقيل: أجج ناراً فحملتها ريح فاحرقتها، فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: رجل من أهل البيت الذي يحج العرب إليه، فحلف ليهدمنَّ الكعبة، فخرج بجيشه ومعه فيلٌ اسمه محمود، وكان قويًّا عظيماً وثمانية أخرى. وقيل: اثنا عشر. وقيل: ألف، وبعث رجلاً إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً، فسار ليهدم الكعبة، فلما بلغ قريباً من «مكة» خرج إليه عبد المطلب، وعرض عليه ثلث أموال «تهامة» ، ليرجع فأبى، وقدم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك، وإذا وجهوه إلى «اليمن» ، أو إلى سائر الجهات هرول، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليهم بسببها، فلما رآه أبرهة عظم في عينه، وكان رجلاً جسيماً وقيل له: هذا أسد قريش، وصاحب عير «مكة» ، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك، فلما ذكر حاجته قال له: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينُك، ودين آبائك، لا تكلمني فيه، وألهاك عنه ذود لم أحسبها لك، فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا سيمنعه، ثم رجع وأتى البيت، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفرٌ من قريش يدعون الله تعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب: [مجزوء الكامل]
5307 - لاهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْ ... نَعُ رَحْلهُ فامْنَعْ حَلالَكْ
لا يَغلِبَنَّ صَليبهُمْ ... ومُحَالهُمْ عَدْواً مُحالَكْ
إن يَدخُلُوا البَلدَ الحَرَا ... مَ فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ
وقال آخر: [الرجز]
5308 - يَا ربِّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا ربِّ فامْنَعْ مِنهُمُ حِمَاكَا(20/497)
إنَّ عَدُوَّ البَيْتِ مِنْ عَاداكَا ... إنَّهُمُ لنْ يَقْهَرُوا قُواكَا
فالتفت، وهو يدعو، فإذا هو بطير من ناحية «اليمن» ، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما هي بجندية ولا تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة.
قال الراوي: فأرسل عبد المطلب حلقة الكعبة ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال، فتحرَّزُوا فيها ينظرون ما يفعل أبرهة إذا دخل «مكة» ، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر [أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار فكان الحجر يقع] على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، فهلكوا في كل طريق، ومنهل.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه رأى من تلك الأحجار عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري.
قال الراوي: وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون إلى الطَّريق التي منها جاءوا.
وروي ان أبرهة تساقطت أنامله، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانقلب هو ووزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى قدموا «صنعاء» وهو مثل فرخ الطائر.
وقيل: قدموا على النجاشي، فَقَصّ عليه القصة فلما تممها وقع علي الحجر فخرَّ ميتاً بين يديه.
فصل في ميلاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
حكى الماوردي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وُلدتُ عَامَ الفِيْلِ» .
وقال في كتاب «أعلام النبوةِ» : ولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوماً، ووافق من شهور الروم العشرين من أشباط، في السَّنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان.
قال: وحكى أبو جعفر الطبري: أن مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لاثنين وأربعين سنة من ملك أنوشروان.(20/498)
وقيل: إنه - عليه السلام - حملت به أمه في يوم عاشوراء من المحرم حكاه ابن شاهين أبو حفص في فضائل يوم عاشوراء، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان، فكانت مدة الحمل ثمانية أشهر كملاً ويومين من التاسع.
وقال ابن العربي: قال ابن وهب عن مالكٍ: ولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل [قال] قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل.
وقال عبد الملك بن مروان لعتَّاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكبر مني وأنا أسنّ منه، ولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
فصل في أن قصة الفيل من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
قال بعض العلماء: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كانت قبله، وقبل التحدي، لأنها كانت توكيداً لأمره، وتمهيداً لشأنه، ولما تلا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه السورة كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الواقعة، ولهذا قال: «ألَمْ تَرَ» ولم يكن ب «مكة» أحد إلاَّ وقد رأى قائد الفيل، وسائقه أعميين [يتكففان] الناس.
قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مع حداثة سنّها: «لقَدْ رَأيتُ قَائِدَ لفِيْلِ وسَائقَهُ أعْميَيْنِ يَسْتطعِمَانِ النَّاسَ» .
قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} ، أي: في إبطال، وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل، والسبي، والبيت بالتخريب، والهَدْم.
قالت المعتزلة: إضافة الكيد إليهم دليل على أنه - تعالى - لا يرضى بالقبيح، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته.
قوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} .
قال النحاة: «أبابيل» نعت ل «طير» لأنه اسم جمع.
وأبابيل: قيل: لا واحد له، كأساطير وعناديد.
وقيل: واحده: «إبَّول» ك «عِجَّول» .
وقيل: «إبَّال» ، وقيل: «إبِّيل» مثل سكين.
وحكى الرقاشيّ: «أبابيل» جمع «إبَّالة» بالتشديد.(20/499)
وحكى الفرَّاء: «إبالة» مخففة.
فصل في لفظ «أبابيل»
الأبابيل: الجماعات شيئاً بعد شيء؛ قال: [الطويل]
5309 - طَريقٌ وجبَّارٌ رِوَاءٌ أصُولهُ ... عَليْهِ أبَابيلٌ من الطَّيْرِ تَنعَبُ
وقال آخر: [البسيط]
5310 - كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصواتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ
قال أبو عبيدة: أبابيل: جماعات في تفرقة، يقال: جاءت الطير أبابيل من هاهنا، وهاهنا.
قال سعيد بن جبير: كانت طيراً من السَّماء لم ير مثلها.
«وروى الضحاك عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» إنَّهَا طَيْرٌ بَينَ السَّماءِ والأرضِ تُعَشِّشُ وتُفرِّخُ «.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان لها خراطيم كخراطيم الفيلة، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
وقال عكرمة: كانت طيراً خضراً خرجت من البحر، لها رُءُوس كرءوس السِّباع، ولم تر قبل ذلك، ولا بعده.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: هي أشبه شيء بالخطاطيف.
[وقيل: إنها أشبه بالوطاويط] .
وقيل: إنها العنقاء التي يضرب بها الأمثال.
قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة المعنى، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام، يقال: فلان يؤبل على فلان، أي: يعظم عليه ويكثر، وهو مشتقّ من الإبل.
قال ابن الخطيب: هذه الآية ردّ على الملحدين جدًّا، لأنهم ذكروا في الزَّلازل، والرياح والصواعق، والخسف، وسائر الأشياء التي عذب الله - تعالى - بها الأمم أعذاراً(20/500)
ضعيفة، أما هذه الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، وليس في شيء من الطَّبائع والحيل أن يعهد طير معها حجارة، فيقصد قوماً دون قوم فيقتلهم، ولا يمكن أن يقال: إنه كسائر الأحاديث الضعيفة؛ لأنه لم يكن بين عام الفيل، ومبعث الرسول إلا نيفاً وأربعين سنة، ويوم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية، كان قد بقي جمع شاهدوا تلك الواقعة، فلا يجري فيها تلك الأعذار، ولو كان النقل ضعيفاً لكذبوه، فعلمنا أنه لا سبيل للطَّعن فيها.
قوله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} ، «بِحجَارَةِ» صفة ل «طير» ، وقرأ العامة: «تَرْميهِمْ» بالتأنيث.
وأبو حنيفة، وابن يعمر، وعيسى، وطلحة: بالياء من أسفل، وهما واضحتان، لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث.
ومن الثانية قوله: [البسيط]
5311 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُّؤبُوبِ ذي البَردِ
وقيل: الضمير لربِّك، أي: يرميهم ربك بحجارة، و «مِنْ سِجِّيل» صفة ل «حِجَارة» والسجيل، قال الجوهري: قالوا حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، لقوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33] .
وقال عبد الرحمن بن أبزى: «مِنْ سجِّيْلٍ» من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم، وهي «سِجِّين» ثم أبدلت اللام نُوناً، كما قالوا في أصيلان: أصيلال، قال ابن مقبلٍ: [البسيط]
5312 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ضَرْباً تَواصَتْ بِهِ الأبطالُ سِجِّنَا
إنما هو «سجيلاً» .
وقال الزجاج: «مِنْ سجِّيل» ، أي: مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتق من السجل وقد تقدم القول في السجيل في سورة «هود» .(20/501)
قال عكرمة: [كانت ترميهم بحجارة معها] ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، وكان ذلك أول الجدري.
قال يونس وأبو عبيدة: والسجيل عند العرب: الشديد الصلب.
قال بعض المفسرين: إنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنهما: سجّ وجيل: فالسجُّ: الحجر، والجيل: الطِّين، أي من هذين الجنسين: الحجر والطين.
قال أبو إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة أنه قال: أول ما دامت الحصبة بأرض العرب ذلك وإنه أول ما رأى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشار ذلك العام.
قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} . «كَعصْفٍ» هو المفعول الثاني للجعل، بمعنى التصيير، وفيه مبالغة حسنة، وهو أنه لم يكفهم أم جعلهم أهون شيء من الزَّرع، وهو ما لا يجدي طائلاً، حتى جعلهم رجيعاً.
والمعنى: جعل الله تعالى أصحاب الفيل كورق الزروع إذا أكله الدواب، فرمت به من أسفل قاله ابن زيد وغيره، والعصف جمع واحده عصفة وعصافة، وأدخل الكاف في «كعصف» للتشبيه مع مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومعنى مأكول أن المراد به قشر البُرّ يعني الغلاف الذي يكون كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة شبَّه تقطُّع أوصالهم بتفرُّق أجزائه، روي معناه عن ابن زيد، وغيره.
قال ابن إسحاق: لما رج الله الحبشة عن «مكة» ، عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم، وكفاهم مئونة عدوهم، فكان ذلك نعمةً من الله عليهم.
روى الثَّعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة {الفيل} عَافاهُ اللهُ تعَالى حياته مِنَ المسْخِ، والعَدُوِّ» والله أعلم.(20/502)
سورة قريش(20/503)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
مكية في قول الجمهور، مدنية في قول الضحاك والكلبي، هي أربع آيات، وسبع عشرة كلمة، وثلاث وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} ، في متعلق هذه الآية أوجه:
أحدها: أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} .
قال الزمخشري «هذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل.
وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى:» والتِّينِ «، انتهى.
وإلى هذا ذهب الأخفش، إلا أن الحوفي قال: ورد هذا القول جماعة، بأنه لو كان كذا، لكان» لإيْلافِ «بعض سورة» ألَمْ تَرَ «، وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك.
الثاني: أنه مضمر تقديره: فعلنا ذلك، أي: إهلاك أصحاب الفيل {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} ، أي: لتأليف قريش، أو لتنفق قريش، أو لكي تأمن قريش، فتؤلف رحلتيها.
وقيل: تقديره: اعجبوا.
الثالث: أنه قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ} لإيلافهم؛ فإنها أظهر نعمة عليهم.
قاله الزمخشري؛ وهو قول الخليل من قبله.
وقرأ ابن عامر:» لإلاف «دون ياء قبل اللام الثانية.(20/503)
والباقون:» لإيلاف «بياء قبلها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني، وهو» إيلافهم «. ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين: أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطًّا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها فيه خطًّا، وهذا دليل على أن القراء يتبعون الأثر والرواية، لا مجرد الخط.
فأما قراءة ابن عامر ففيها وجهان:
أحدهما: أنه مصدر ل» ألف «ثلاثياً، يقال: ألف الرجل، إلفاً، وإلافاً؛ نحو: كتبته كتاباً، ويقال: ألفته إلفاً وإلافاً.
وقد جمع الشاعر بينهما في قوله: [الوافر]
5313 - زَعمْتُمْ أنَّ إخْوتَكُمْ قُريْشٌ ... لَهُمْ إلفٌ وليْسَ لَكُمْ إلافُ
والثاني: أنه مصدر ل» آلف «رباعياً نحو قاتل قتالاً. وقال الزمخشري: لمُؤالفةِ قريش. وأما قراءة الباقين فمصدر آلف رباعياً بزنة» أكرم «يقال: آلفته، أولفه إيلافاً.
قال الشاعر: [الطويل]
5314 - مِنَ المُؤلفَاتِ الرَّمْلَ أدمَاءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِهَا يتوضَّحُ
وقرأ عاصم في رواية:» إئلافهم «بهمزتين، الأولى مكسورة، والثانية ساكنة، وهي شاذة؛ لأنه يجب في مثله إبدال حرفاً مجانساً ك» إيمان «.
وروي عنه أيضاً: بهمزتين مكسورتين، بعدهما ياء ساكنة.
وخرجت على أنه أشبع كسر همزة الثانية فتولد منها ياء وهذه أشدُّ من الأولى.
ونقل أبو البقاء أشد منها، فقال:» بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة، بعدها همزة مكسورة «. وهو بعيد، ووجهه: أنه أشبع الكسرة، فنشأت الياء، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين كالألف في» أأنْذَرتَهُمْ «.
وقرأ أبو جعفر: «لإلف قريش» بهمزة مكسورة، بزنة: «قِرْد» ، وقد تقدم أنه مصدر ل «ألف» كقوله: [الوافر]
5315 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... لَهُمْ إلْفٌ وليْسَ لَكُمْ إلافُ(20/504)
وعنه أيضاً، وعن ابن كثير: «إلفهم» ، وهي ساكنة اللام بغير ياء، وهي قراءة مجاهد وحميد.
وروت أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ: «إلفهم» ، وهو مروي أيضاً عن ابن عبَّاس وغيره.
وعنه أيضاً وعن ابن عامر: «إلافهم» مثل «كتابهم» .
وعنه أيضاً: «ليْلافهم» بياء ساكنة بعد اللام، وذلك أنه لما أبدل الثانية حذف الأولى على غير قياس.
وقرأ عكرمة: «ليألف قريش» فعلاً مضارعاً.
وعنه أيضاً: «لتألف قريش» على الأمر واللام مكسورة، وعنه فتحها مع الأمر وهي لغة.
فصل في اتصال السورة بما قبلها
تقدم أن هذه السورة، متصلة بما قبلها في المعنى، أي: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش، أي: لتأليف قريش أو لتنفق قريش، أو لتأمن قريش فتؤلف رحلتيها.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنما كان الإهلاك لكفرهم.
قلنا: جزاء الكفور يكون يوم القيامة، يجزي كل نفس بما كسبت للأمرين معاً، ولكن لا تكون اللام لام العاقبة، أو يكون المعنى: «ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل؛ لإيلاف قريش» ، أي: كل ما تضمنته السورة «لإيلافهم» ، أو تكون اللاَّم بمعنى «إلى» ، أي: وجعلنا هذه النعم مضافاً إلى قريش.
وقال الكسائي والأخفش: اللام في {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} لام التعجب. أي اعجبوا لإيلاف قريش، نقله القرطبي.
قال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل «مكة» عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة، ثم قال - جلا وعلا -: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} . فعلنا بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها، فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون: هم أهل بيت الله تعالى حتَّى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة فأهلكه الله تعالى، فذكرهم نعمته، أي: فجعل الله تعالى ذلك {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أي:(20/505)
ليألفوا الخروج ولا يتجرأ عليهم، قاله مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير.
قال ابن عباس، في قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، قال: كانوا يشتون ب «مكة» ، ويصيفون ب «الطائف» ، وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي، وإن لم يكن الكلام تاماً.
قال ابن الخطيب: والمشهور أنهما سورتان، ولا يلزم من التعلق الاتحاد؛ لأن القرآن كسورة واحدة.
وقال الخليل: ليست متصلة، كأنه قال: ألف الله قريشاً إيلافاً، فليعبدوا ربَّ هذا البيت [واللام متعلقة بقوله تعالى: فليعبد هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتياز، ويحمل ما بعد الألف ألفاً على ما قبلها؛ لأنها زائدة غير عاطفة كقولك: زيد فاضرب، وأما مصحف أبيّ فمعارض بإطباق على الفصل بينهما، وأما قراءة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فالإمام قد يقرأ سورتين] .
قال ابن العربي: وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مروياً، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا [حيث شاءوا، فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك، هذا رأيي فيه] ، ولا دليل على ما قالوه بحالٍ، ولكني أعتمد الوقف على التَّمام، كراهية الخروج عنهم.
قال القرطبي: «وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله:» كَعصفٍ مأكُولٍ «، ليس بقبيح، وكيف يقال بقبحه، وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى، والتي بعدها في الركعة الثانية، ولا يمنع الوقف على إعجاز الآيات، سواء تمَّ الكلام أم لا» .
فصل في الكلام على قريش
قريش: اسم القبيلة.
قي: هم ولد النضر بن كنانة، وكل من ولده النضر فهو قرشي، وهو الصحيح وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي، فوقع الوفاق على أن بني فهر قرشيون، وعلى أن كنانة ليسوا بقرشيين، ووقع الخلاف في النضر ومالك، ثم اختلف في اشتقاقه على أوجه:(20/506)
أحدها: أنه من التقرُّش، وهو التجمُّع، سموا بذلك لاجتماعهم بعد تفرق، قال: [الطويل]
5316 - أبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدعَى مُجمِّعاً ... بِهِ جَمَّعَ اللهُ القَبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني: أنه من القرش: وهو الكسب، كانت قريش تجاراً، يقال: قرش يقرش: أي: اكتسب.
والثالث: أنه من التفتيش، يقال: قَرَشَ يقرش عني أي: فتش، وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلاَّت، فيسدون خلَّتهم.
قال الشاعر: [الخفيف]
5317 - أيُّهَا الشَّامِتُ المُقرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو فَهلْ لهُ إبْقَاءُ
والرابع: أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قُريشاً؟ .
فقال: لدابة في البحر يقال لها: القرش من أقوى دوابه، تأكل ولا تؤكل، وتعلُو ولا تُعْلَى.
وأنشد قول تبع: [الخفيف]
5318 - وقُريشٌ هِيَ الَّتي تَسكنُ البَحْ ... رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُريشٌ قُرَيْشَا
تَأكُلُ الرثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ ... رُكُ فِيهَا لِذِي جَناحَيْنِ رِيشَا
هَكَذا في البِلادِ حَيُّ قُريْشٍ ... يَأكُلونَ البِلادَ أكْلاً كَمِيشَا
ولهُمْ آخِرَ الزَّمانِ نبيٌّ ... يُكْثرُ القَتْلَ فِيهمُ والخُمُوشَا
ثم قريش: إما أن يكون مصغراً تصغير ترخيم، فقيل: الأصل مقرش، وقيل: قارش، وإما أن يكون مصغراً من ثلاثي، نحو: القرش، وأجمعوا على صرفه هنا مراداً به الحي، ولو أريد به القبيلة لامتنع من الصَّرف؛ كقوله: [الكامل]
5319 - غَلَبَ المَسامِيحَ الولِيدُ سَماحَةً ... وكَفَى قُريْشَ المُعضِلاتِ وسَادَهَا
قال سيبويه في معدّ، وقريش، وثقيف، وكينونة، هذه للأحياء أكثر، وإن جعلتها أسماء للقبائل، فهو جائز حسن.(20/507)
قوله: {إِيلاَفِهِمْ} مؤكد للأول تأكيداً لفظيًّا، وأعربه أبو البقاء: بدلاً.
قوله: «رحلة» مفعول به بالمصدر، والمصدر مضاف لفاعله، أي: لأن ألفوا رحلة، والأصل: رحلتي الشتاء والصيف، ولكنه أفرد لأمن اللبس؛ كقوله: [الوافر]
5320 - كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
قاله الزمخشريُّ. وفيه نظر، لأن سيبويه يجعل هذا ضرورة، كقوله: [الطويل]
5321 - حَمَامَةَ بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
قال الليث: الرحلة اسم لارتحال القوم للمسير وقيل: رحلة اسم جنس، وكانت له أربع رحل، وجعله بعضهم غلطاً، وليس كذلك.
قال القرطبي: «رِحْلة» نصب بالمصدر أي: ارتحالهم رحلة، أو بوقوع «إيْلافِهم» عليه، أو على الظرف، ولو جعلتها في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء، والصيف، لجاز.
وقرأ العامة: بكسر الراء، وهي مصدر.
وأبو السمال: بضمها، وهي الجهة التي يرتحل إليها، والشتاء: واد، شذُّوا في النسب إليه، فقالوا: شتوي، والقياس: شِتَائي، وشِتَاوي ك «كسائي، وكِسَاويّ» .
فصل في معنى الآية
قال مجاهد في قوله تعالى: {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} : لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف منة منه على قريش.
وقال الهروي وغيره: كان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل بنو عبد مناف، فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك «الشام» ، أي: أخذ منه حبلاً وعهداً يأمن به في تجارته إلى «الشام» ، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى «الحبشة» ، والمطلب إلى «اليمن» ، ونوفل إلى «فارس» ، ومعنى يؤلف: يجير، فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين، فكان تُجَّارُ قريش يختلفون إلى الأمصار، بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم.(20/508)
قال الأزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة، يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة، والحمائل: جمع حمولة.
قال: والتأويل: أن قريشاً كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء، والصيف آمنين، والناس يتخطَّفُون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى «الشام» ؛ لأنها بلاد باردة.
وعن ابن عباس، قال: يشتون ب «مكة» لدفئها، ويصيفون ب «الطائف» لهوائها، وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. .
فصل في الشتاء والصيف
قال مالك: الشتاء نصف السُّنة، والصيف نصفها.
وقال قوم آخرون: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
وقيل: شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف.
قال القرطبيُّ: والذي قال مالك أصح؛ لأن اللهَّ قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً.
قوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} ، أمرهم تعالى بعبادته، وتوحيده لأجل إيلافهم رحلتين، وتقدم الكلام على الفاء، والبيت هو الكعبة، وفي تعريف نفسه بأنه تعالى رب هذا البيت وجهان:
أحدهما: أنها كانت لهم أوثان، فميز نفسه تعالى عنها.
الثاني: لأنهم شُرِّفوا بالبيت على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته. وقيل: المعنى: أن يعبدوا رب هذا البيت، أي ليألفوا عبادة رب هذا البيت كما كانا يألفون الرحلتين.
{الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} ، أي: من أجل الجوع، و «آمنهم» من أجل الخوف، والتنكير للتعظيم أي: من جوع عظيم وخوف عظيم.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع الحال من مفعول «أطْعَمَهُمْ» .(20/509)
وأخفى نون «من» في الخاء: نافع في رواية، وكذلك مع العين، نحو: «من على» ، وهي لغة حكاها سيبويه.
فصل في مكانة قريش
قال ابنُ عبَّاسٍ: وذلك بدعوة إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] .
وقال ابن زيد: كانت العرب يغيرُ بعضهاعلى بعض ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم.
وقيل: شق عليهم السَّفر في الشتاء والصيف، فألقى الله - تعالى - في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السَّفر، فخافت قريش منهم وظنُّوا أنهم خرجوا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا لهم الطعام، وأعانوهم بالأقوات، فكان أهلُ «مكة» يخرجون إلى «جدة» بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين.
وقيل: إن قريشاً لما كذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم، فقال: «اللَّهُم اجْعلهَا عَليهِمْ سِنيْنَ كَسني يُوسُفَ» فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد، ادعُ الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخصبت «تبالة» ، و «جرش» من بلاد «اليمن» ، فحملوا الطعام إلى «مكة» ، وأخصب أهلها
. وقال الضحاك وربيع وشريك وسفيان: وآمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.
وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وآمنهم من أن تكون الخلافة إلا فيهم.
وقيل: كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أعطِيَ من الأجْرِ حَسناتٍ بعَددِ مَنْ طَافَ بالكَعْبَةِ، واعْتكَفَ بِهَا» والله أعلم.(20/510)
سورة " الدين " وتسمى " الماعون "(20/511)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
مكية في قول عطاء، وجابر، وأحد قولي ابن عباس، ومدنية في قول له آخر، وهو قول قتادة وغيره، وهي سبع آيات، وخمس وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} ، أي: بالجزاء، والحساب، وقرأ الكسائي: «أَرَيْتَ» بسقوط الهمزة. وتقدم تحقيقه في «الأنعام» .
وقال الزمخشري: وليس بالاختيار، لأن حذفها مختصّ بالمضارع، ولم يصح عن العرب: «رَيْتَ» ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام، ونحوه: [الخفيف]
5322 - صَاحِ، هَلْ رَيْتَ أو سَمِعْتَ بِراعٍ ... رَدَّ فِي الضَّرعِ ما قَرَى في الحِلابِ
وفي «أرأيْتَ» وجهان:
أحدهما: أنها بصرية، فتتعدّى لواحد، وهو الموصول كأنه قال: أبصرت المكذب.
والثاني: أنها بمعنى «أخبرني» فتتعدّى لاثنين، فقدره الحوفي: أليس مستحقًّا عذاب الله.
وقدره الزمخشري: من هو، ويدل على ذلك قراءة عبد الله: «أرأيتك» بكاف الخطاب، والكاف لا تلحق البصرية.(20/511)
قال القرطبي: «وفي الكلام حذف والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين، أمصيب هو، أو مخطئ» .
فصل فيمن نزلت فيه السورة
نقل أبو صالحٍ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وهو قول الكلبي ومقاتل.
وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجُل من المنافقين.
وقال السديُّ: نزلت في الوليد بن المغيرة.
[وقيل في أبي جهل.
وقال الضحاك: في عمرو بن عائذ.
وقال ابن جريج: في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزوراً، فطلب منه يتيم شيئاً فقرعه بعصاه، فأنزل الله هذه السورة] .
قال ابن الخطيب: وقيل: إنه عام في كل مكذب بيوم الدين.
قوله: {فَذَلِكَ} ، فيه وجهان:
أحدهما: أن الفاء جواب شرط مقدر، أي: طلبت علمه فذلك.
والثاني: أنها عاطفة «فَذلِكَ» على «الَّذي يُكذِّبُ» إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة ويكون جواب «أرَأيْتَ» محذوفاً لدلالة ما بعده عليه كأنه قيل: أخبرني، وإما تقول فيمن يكذب بالجزاء، وفيمن يؤذي اليتيم، ولا يطعم المسكين أنِعْمَ ما يصنع؟ .
فعلى الأول يكون اسم الإشارة في محل رفع بالابتداء، والخبر الموصول بعده، وإما على أنه خبر لمبتدأ مضمر، أي: فهو ذلك، والموصول نعته.
وعلى الثاني: أن يكون منصوباً بالنسق، على ما هو منصوب، إلا أن أبا حيان رد الثاني فقال: جعل «فَذلِكَ» في موضع نصب على المفعول، وهو تركيب غريب كقولك: «أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا» فالمتبادر إلى الذهن أن «فَذلِكَ»(20/512)
مرفوع بالابتداء، وعلى تقدير النصب يكون التقدير: أكرمت الذي يزورنا، فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا، فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكِّن تمكن ما هو فصيح، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى «الذي يزورنا» ، بل الفصيح: أكرمت الذي يزورنا، فالذي يحسن إلينا، أو «أكرمت الذي يزورنا، فيحسن إلينا» ، وأما قوله: «إما عطف ذات على ذات» ، فلا يصح؛ لأن «فذلك» إشارة إلى «الَّذي يُكذِّبُ» فليسا بذاتين؛ لأن المشار إليه بقوله: «فَذلِكَ» هو واحد، وأما قوله: «ويكون جواب أرأيت محذوفاً» فلا يسمَّى جواباً، بل هو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ، وأما تقديره «أنعمَ ما يصنع» فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على «نِعْمَ» ، ولا «بِئْسَ» ، لأنهما إنشاء، والاستفهام لا يدخل إلا علىلخبر، انتهى.
[والجواب عن قوله: «فاسم الإشارة غير متمكن» إلى آخره، أن الفرق بينهما أن في الآية الكريمة استفهاماً وهو «أرأيتَ» فحسن أن يفسر ذلك المستفهم منه بخلاف المثال الذي مثل به، فمن ثم حسن التركيب المذكور، وعن قوله: «لأن» فذلك إشارة إلى القائم لا إلى زيد، وإن كان يجوز أن يكون إشارة إليه، وعن قوله: «فلا يسمى جواباً» أن النحاة يقولون: جواب الاستفهام، وهذا قد تقدمه استفهام فحسن ذلك] ، وعن قوله: «والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر» بالمعارضة بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فإن «عسى» إنشاء فما كان جواباً له، فهو جوابٌ لنا.
فصل
قال ابن الخطيب: هذا اللفظ، وإن كان في صورة الاستفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك: أرأيت فلاناً ماذا ارتكب.
ثم قيل: إنه خطاب للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: خطاب لكل عاقل.
قوله: {يَدُعُّ اليتيم} قرأ العامة: بضم الدَّال، وتشديد العين من «دعَّه» أي: دفعه، وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء: «يَدعُ» بفتح الدال وتخفيف العين.
فصل
قال الضحاك عن ابن عباس: {فذلِكَ الذي يدعُّ اليَتِيمَ} ، أي: يدفعه عن حقه، قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] .(20/513)
[قال قتادة: يقهره ويظلمه، وقد تقدم في سورة «النساء» أنهم كانوا لا يورثون النساء، ولا الصغار، ويقولون: إنما يجوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام] .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ ضمَّ يَتِيْماً مِنَ المُسْلمينَ، حَتَّى يَسْتَغْنِي فَقدْ وجَبَتْ لهُ الجَنَّة» .
قوله: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ، أي: لا يأمر به من أجل بخله، وتكذيبه الجزاء، والحساب.
وقرأ زيد بن علي: «ولا يحاضّ» من المحاضة. وقد تقدم في الفجر.
قال القرطبي: «وليس الذم عامًّا حتى يتناول من تركه عجزاً، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} [يس: 47] فنزلت هذه الآية فيهم، فيكونُ معنى الآية: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا» .(20/514)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قوله: {فَوَيْلٌ} مبتدأ، ومعناه: عذابٌ لهم، وقوله: {لِّلْمُصَلِّينَ} خبر والفاء للسبب، أي: تسبب عن هذه الصفات الذَّميمة الدعاء عليهم بالويل.
قال الزمخشريُّ بعد قوله: «كأنه قيل: أخبرني» : وما تقول فيمن يكذب بالدين أنعم ما يصنع، ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم؛ لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم.
فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائماً مقام الضمير {الذي يُكذِّبُ بالدينِ} ، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع؛ لأن المراد الجنس. قال أبو حيان: وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن «المُصلِّينَ» جمع، لأن ضمير «الذي يُكذِّبُ» معناه الجمع، فتكلُّف واضح، ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلاَّ ما عليه الظَّاهر، وعادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة.
قال شهاب الدين: وعادة هذا الرجل التَّحامل على الزمخشري، حتى يجعل حسنهُ قبيحاً، وطيف يرد ما له، وفيه ارتباط الكلام بعضه ببعض، وجعله شيئاً واحداً، وما(20/514)
تضمنه من المبالغة في الوعيد في إبراز وصفهم الشنيع، ولا شكَّ أن الظاهر من الكلام أن السورة كلها في وصف قد جمعوا بين هذه الأوصاف كلها من التكذيب بالدين، ودفع اليتيم، وعدم الحضّ على طعام المسكينِ، والسهو في الصلاة، والمراءاة ومنع الخيرِ.
قوله: {الذين هُمْ} ، يجوز أن يكون مرفوع المحل، وأن يكون منصوبه، وأن يكون مجروره، تابعاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصول الثاني، إلاَّ أنه يحتمل ان يكون تابعاً للمصلين، وأن يكون تابعاً للموصول الأول.
وقوله: {يُرَآءُونَ} أصله: يرائيون ك «يقاتلون» ، ومعنى المراءاة: أي: أن المرائي يُري النَّاس عمله، وهم يرون الثَّناء عليه، فالمفاعلة فيها واضحة، وقد تقدم تحقيقه.
فصل في اتصال هذه الآية بما قبلها
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه لما كان إيذاء اليتيم، والمنع من بذل طعام المسكين، دليلاً على النفاق، كانت هاتين الخصلتين معاملة مع المخلوق.
والثاني: أنه تعالى لما ذكر هاتين الخصلتين مع التكذيب بيوم الدين، قال: أليس الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فقال: ويلٌ له من هذه الصلاة، كيف لا تنهاه عن هذه الأفعال المنكرة.
والثالث: كأنه يقول: إقدامه على إيذاء اليتيم، وتركه للحث على طعام المسكين تقصير في الشَّفقة على خلق الله تعالى، وسهوه في الصلاة تقصير في التعظيم لأمر الله تعالى، فلما وقع التقصير في الأمرين كملتْ شقاوته.
فصل في المراد بالمرائي في الصلاة
قال ابنُ عباس: هو المصلي، الذي إذا صلّى لم يرجُ لها ثواباً، وإن تركها لم يخشَ عليها عقاباً.
وعنه أيضاً: الذين يؤخرونها عن أوقاتها.
قال سعد بن أبي وقَّاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} : «الَّذينَ يُؤخِّرُون الصَّلاة عَنْ وقْتِهَا تهَاوُناً بِهَا» .(20/515)