ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعدما تطعمه، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء: [الوافر]
4702 - إذا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضاً ... سَقَوْا أضْيافَهُمْ شَبَماً زلالا
وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب» . انتهى.
وقد تقدم جواب ابن الخطيب له عن ذلك.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس: «الأجاج» : المالح الشديد الملوحة.
وقال الحسن: مُرًّا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما.
«فلولا» أي: فهلا «تشكرون» الذي صنع ذلك بكم.(18/425)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} .
أي: أخبروني عن النَّارِ التي تظهرونها بالقَدْحِ من الشجر الرطب.
و «تُوُرون» : من أوريت الزند، أي: قدحته فاستخرجت ناره، وورى الزند يري أي: خرجت ناره، وأصل «تُورُون» توريون.
والشَّجرة التي يكون منها الزناد هي المَرْخُ والعفار.
ومنه قولهم: «فِي كُلِّ شجرٍ نارٌ، واستَمْجدَ المَرْخُ والعَفَارُ» .
أي: استكثروا منها، كأنهما أخذا من النَّار ما حسبهما.
وقيل: إنهما يسرعان الوَرْي.
قوله تعالى: {أَمْ نَحْنُ المنشئون} .
أي: المخترعون الخالقون، أي: فإذا عرفتم قُدرتي، فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث.
قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} .(18/425)
يعني: نار الدنيا موعظة للنار الكبرى. قاله قتادة.
وقال مجاهد: تبصرة للناس من الظَّلام.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «» إنَّ نَاركُمْ هذه الَّتي توقدونها يا بني آدَمَ جزءٌ من سَبْعينَ جُزْءاً من نَارِ جهنَّم «، فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال:» فإنَّهَا فُضِّلتْ عليْها بِتسْعَةٍ وسِتينَ جُزْءاً، كُلُّهن مثلُ حرِّها «» .
قوله: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} .
يقال: أقوى الرَّجل إذا حلَّ في الأرض القواء، وهي القفر، ك «أصحر» : دخل في الصحراء، وأقوت الدَّار: خلت من ذلك؛ لأنها تصير قَفْراً.
قال النابغة: [البسيط]
4703 - يَا دَارَ مَيَّةَ بالعَلْيَاءِ فالسَّندِ ... أقْوَتْ، فطال عليْهَا سالفُ الأمَدِ
قال الضحاك: «متاعاً للمقوين» أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى، وهي القفر التي لا شيء فيها، وكذلك القوى والقواء - بالمد والقصر -.
ومنزل قواء: لا أنيس به، يقال: أقوت الدار، وقويت أيضاً، أي خلت من سكانها. قال: [الكامل]
4704 - حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقَادمَ عَهْدُهُ ... أقْوَى وأقْفَرَ بَعْدَ أمِّ الهَيْثَمِ
وقال مجاهد: «للمقوين» أي المنتفعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها.
وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم.(18/426)
يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئاً، وبات فلان القواء وبات القَفْرَ، إذا بات جائعاً على غير طعم.
قال الشاعر: [الطويل]
4705 - وإنِّي لأخْتَارُ القَوَى، طاويَ الحَشَا ... مُحافَظَةً مِنْ أن يُقالَ: لَئِيمُ
وقال قطرب: المقوي من الأضداد، يكون بمعنى الفقير، ويكون بمعنى الغني.
يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زادٌ، ويقال للفقير: مُقْوٍ إذا لم [يكن] معه مالٌ.
وتقول العربُ: أقويت منذ كذا، أي: ما أكلت شيئاً، وأقوى: إذا قويت دوابه، وكثر ماله ليقويه على ما يريد.
وقال المهدوي: والآية تصلح للجميع؛ لأن النَّار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
وقال القشيري: وخصّ المسافر بالانتفاع بها؛ لأنَّ انتفاعه أكثر من انتفاع المقيم؛ لأنَّ أهل البادية لا بُدَّ لهم من النَّار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السِّباع، وفي كثير من حوائجهم.
قوله
: {فَسَبِّحْ
باسم
رَبِّكَ العظيم} .
أي: فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.
قال ابن الخطيب: والمشهور أن الاسم مقحم، والأحسن أنه من باب الأولى، وأنَّ تعظيم المسمى آكد، وقد تقدم أن تعلُّق الفعل إن كان ظاهراً استغنى عن الحرف ك «ضرب» ، وإن كان خفيًّا قوي بالحرف ك «ذهب» ، وإن كان بينهما جاز الوجهان ك «شَكَر ونَصَحَ» .
و «سَبِّحْ» متعد بنفسه إلاَّ أنه لما دخل على الاسم - والمراد الذَّات - خفي التعليق من هذا الوجه، فأتي بالحرف.
وأما قوله {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [من سورة الأعلى: 1] . فيحتمل أن ذلك لأنهم كانوا(18/427)
يعترفون بالله، ويقولون: «نحن لا نشرك» في المعنى، وإنما سمي الأصنام آلهة باللفظ، فقيل لهم: نزّهوا الاسم كما نزهتم الحقيقة، وعلى هذا فالخطاب ليس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل هو كقول الواعظ: يا مسكين، أفنيت عمرك وما أصلحت عملك، ويريد السَّامع.
والمعنى مع الباء: فسبّح مبتدئاً باسم ربك، فلا تكون «الباء» زائدة.
ومعنى العظيم: القريب من الكل، فإن الصَّغير إذا قرب من شيء بعد عن غيره.(18/428)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} .
قرأ العامة: «فَلاَ» لام ألف.
وفيه أوجه:
أحدها: أنها حرف نفي، وأنَّ النفي بها محذوف، وهو كلام الكافر الجاحد، تقديره: فلا حجة لما يقول الكُفَّار، ثم ذكر ابتداء قسماً بما ذكر.
وإليه ذهب كثير من المفسِّرين والنحويين.
قال الفرَّاء: «هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف [القسم] ، كما تقول:» لا والله ما كان كذا «ولا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم، أي: ليس الأمر كما ذكر، بل هو كذا» .
وضعِّف هذا بأن فيه حذف اسم «لا» وخبرها.
قال أبو حيَّان: «ولا يجوز ولا ينبغي، فإنَّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس.
ويبعد أن يقوله إلا بتوقيفٍ» .
الثاني: أنَّها زائدة للتأكيد. والمعنى: فأقسم، بدليل قوله: وإنه لقسم، ومثله في قوله تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] ، والتقدير: ليعلم.(18/428)
وكقوله: [الطويل]
4706 - فَلاَ وأبِي أعْدائِهَا لا أخُونُهَا ... الثالث: أنها لام الابتداء، والأصل: فلأقسم، فأشبعت الفتحة، فتولّد منها ألف.
كقوله: [الرجز]
4707 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ ... قاله أبو حيَّان.
واستشهد بقراءة هشام: «أفئيدة» .
قال شهاب الدين: «وهذا ضعيف جدًّا» .
واستند أيضاً لقراءة الحسن وعيسى: «فلأقسم» بلام واحدة.
وفي هذه القراءة تخريجان:
أحدهما: أن «اللام» لام الابتداء، وبعدها مبتدأ محذوف، والفعل خبره، فلما حذف المبتدأ اتصلت «اللام» بخبره، وتقديره: «فلأنا أقسم» نحو: «لزيد منطلق» .
قاله الزمخشري وابن جني.
والثاني: أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي، ويجوز أن يكون القسم جواباً للقسم، كقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ} [التوبة: 107] ، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين، يجيزون أن يقسم على فعل الحال. والبصريون يأبونه، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ، فيعود القسم على جملة اسمية.
ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم.
قال: لأمرين:
أحدهما: أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيحٌ.
والثاني: أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
يعني أن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال.(18/429)
وأمَّا قوله: «إنَّ حقَّها أن تقرن بها النون» ، هذا مذهب البصريين أيضاً. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التَّعاقب بين اللام والنون، نحو: «والله لأضرب زيداً» كقوله: [الطويل]
4708 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَليْكُم بُيُوتكُمْ ... ليَعْلَمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ
و «الله اضربن زيداً» .
كقوله: [الكامل]
4709 - وقَتِيلِ مُرَّة أثأَرَنَّ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... .
وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] ، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريب منه في «القيامة» في قراءة ابن كثير: {لأُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَةِ} [القيامة: 1] .
قال القرطبي: وقيل: «لا» بمعنى «ألاَ» للتنبيه، كقوله: [الطويل]
4710 - ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي..... ... ... ... ... ... ... ...
ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، فإنه ليس بشعر، ولا سحر، ولا كهانة كما زعموا.
وقرأ العامة: «بمواقع» جمعاً.
والأخوان: «بموقع» مفرداً بمعنى الجمع؛ لأنه مصدر فوحَّد.
ومواقعها: مساقطها ومغاربها. قاله قتادة وغيره.(18/430)
وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
وقيل: المراد نجوم القرآن. قاله ابن عباس والسدي، ويؤيده: «وإنه لقسم» و «إنَّه لقُرآن كريم» .
وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها.
وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية، تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا.
وقال الماوردي: ويكون قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} مستعملاً على الحقيقة من نفي القسم.
وقال القشيري: هو قسم، ولله أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله - تعالى - وصفاته القديمة.
قال القرطبي: «ويدلُّ على هذا قراءة الحسن: فلأقسم» .
قوله: «وإنه قسم - لو تعلمون - عظيم» .
الضمير عائد على القسم الذي تضمنه قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} ؛ لأن «أقسم» يتضمن ذكر المصدر، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال: «ضربته قويًّا» .
فإن قيل: جواب «لو تعْلَمُونَ» ماذا؟ .
قال ابن الخطيب: ربما يقول بعض من لا يعلم بأن جوابه ما تقدم، وهو فاسد في جميع المواضع؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم؛ لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها، فلا يقال: زيداً إن قام.
فالجواب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: الجواب محذوف بالكلية بحيث لا يقصد لذلك جواب، وإنما يراد نفي ما دخلت «لو» فكأنه قال: وإنه لقسمٌ عظيم لو تعلمون.
وتحقيقه: أن «لو» تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره، فلا بُدَّ فيه من انتفاء الأول،(18/431)
فإدخال «لو» على «تعلمون» أفاد أن علمهم منتفٍ، سواء علمنا الجزاء أم لم نعلم.
وهذا كقولهم في الفعل المتعدِّي: فلان يعطي ويمنع، حيث لا يقصد منه مفعولاً، وإنما يراد إثبات القدرة.
الثاني: أنَّ جوابه مقدر، تقديره: لو تعلمون لعظَّمتموه، لكنكم ما عظَّمتموه، فعلم أنكم لا تعلمون، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم، ولا تعظيم فلا تعلمون.
قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} .
هذا هو القسم عليه، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان:
أحدهما: الاعتراض بقوله: «وإنه لقسم» بين القسم والمقسم عليه.
والثاني: الاعتراض بقوله: «لو تعلمون» بين الصفة والموصوف.
ومنع ابن عطية أن يجعل قوله: «وإنه لقسمٌ» اعتراضاً.
فقال: «وإنه لقسم» تأكيد للأمر، وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهكُّم به، وإنما الاعتراض قوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} .
قال شهاب الدين: «وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته» .
«والهاء» في «إنه لقرآن» تعود على القرآن، أي: إن القرآن لقسم عظيم.
قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقيل: أي ما أقسم الله به عظيم {إنه لقرآن كريم} ذكر المقسم عليه، أي: أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى، بل هو قرآن كريم، محمود جعله الله معجزة نبيه، وهو كريم على المؤمنين؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء والأرض؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه.
وقيل: «كريم» أي: غير مخلوق.
وقيل: «كريم» لما فيه من كرم الأخلاق، ومعالي الأمور.
وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قدره.
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب: «كريم» أي: لا يهون بكثرة التلاوة؛ لأن الكلام متى أعيد(18/432)
وكرر استهين به، والقرآن يكون إلى آخر الدهر، ولا يزداد إلاَّ عزاً. والقرآن إما ك «الغُفْرَان» ، والمراد به المفعول، وهو المقروء كقوله: [هَذَا خلقُ اللَّه] وإما اسم لما يقرأ ك «القُرْبَان» لما يتقرب به، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة: يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى، فيقال له: هو كالقرآن بمعنى المقرُوء.
فمعنى «كريم» أي: مقروء، قرىء: ويقرأ بالفتح، فإن معنى «كريم» أي: لا يهون بكثرة التلاوة، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ، والحديث الطَّري.
وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [الساعة] .
فصل
قوله: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} . مصون عند الله.
وقيل: «مَكْنُون» محفوظ عن الباطل، والكتاب هنا: كتاب في السَّماء.
قاله ابن عبَّاس.
وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً: هو اللوح المحفوظ.
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن.
وقال السدي: الزَّبُور.
وقال قتادة ومجاهد: هو المصحف الذي في أيدينا.
فصل في تفسير معنى الآية
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: {فِي كِتَابٍ} يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه القرآن، أي: هو قرآن في كتاب، كقولك: «فلان رجلٌ كريم في(18/433)
نفسه» لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت، فكذلك هاهنا معناه: أنه كريم في كتاب.
فإذا قيل: «فلان رجل كريم في نفسه» يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم، وإنما أراد أن كرمه في نفسه، وكذا قوله: «قرآن كريم، في لوح» أي: أنه لم يكن كريماً عند الكُفَّار.
الثاني: أن المظروف هو مجموع قوله تعالى: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: هو كذا في كتاب كقوله تعالى {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين: 19] ، كتاب أي: في كتاب الله تعالى.
والمعنى: أن في اللوح المحفوظ مكتوب: إنه قرآن كريم.
فصل في معنى الكتاب
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف سمي الكتاب كتاباً، والكتاب «فِعَال» وهو إما مصدر كالحِساب والقِيام ونحوهما، أو لما يكتب كاللِّباس ونحوه، وكيفما كان، فالقرآن لا يكون في القِرْطَاس؛ لأنه بمعنى المصدر، ولا يكون في مكتوب، وإنما يكون مكتوباً في لوح، أو ورق، فالمكتوب لا يكون في الكتاب، وإنما يكون في القرطاس؟ .
وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلاَّ لأن يكتب فيه صح تسميته كتاباً.
وقوله: {فِي كِتَابٍ} إما خبر بعد خبر، وإما صفة ل «كريم» ، وإما معمول ل «كريم» .
والأصح أنَّ الكتاب المكنون هو اللوحُ المحفوظ، لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] .
قوله: {لاَّ يَمَسُّهُ} .
في «لا» هذه وجهان:
أحدهما: أنها نافية، فالضمة في «لا يمسُّه» ضمة إعراب.
وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان:
أحدهما: أن محلها الجر صفة ل «كتاب» ، والمراد به: إما اللوح المحفوظ، و «المُطَهَّرون» حينئذ: الملائكة، أو المراد به المصاحف، والمراد ب «المطهرين» : المكلفون كلهم.
والثاني: أن محلها الرفع صفة ل «قرآن» . والمراد ب «المطهرين» : الملائكة فقط،(18/434)
أي: لا يطلع عليه، أو لا يمسّ لوحه، لا بد من هذين التجوزين؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر.
ويؤيد كون هذه نفياً قراءة عبد الله: «ما يمسّه» ب «ما» النافية.
الوجه الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه، كقوله تعالى: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب.
ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم.
وفي الحديث: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ» .
وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال: «لا يمسّه» بالفتح؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل «الهاء» في هذا النحو، لا سيما على رأي سيبويه، فإنه لا يجيز غيره.
وقد ضعف ابن عطيَّة كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك: «تَنْزِيل» صفة، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره، وفي حرف ابن مسعود: «ما يمسه» . انتهى.
وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول؛ لأنا لا نسلّم أن «تنزيل» صفة، بل هو خبر مبتدأ محذوف، أي: «هو تنزيل» فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض.
ولئن سلّمنا أنه صفة ف «لا يمسّه» صفة أيضاً، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول، أي: نقول فيه: «لا يمسّه» كما قالوا ذلك في قوله: {فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ} [الأنفال: 25] على أن «لا تُصِيبن» نهي.
وهو كقوله: [مشطور الرجز]
4711 - جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط؟ ... وقد تقدم تحقيقه في «الأنفال» .
وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف، وهو مبني على هذا.
وقرأ العامة: «المُطَهَّرُونَ» بتخفيف الطَّاء، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول.(18/435)
وعن سلمان الفارسي كذلك إلا أنه يكسر الهاء، اسم فاعل، أي: المطهرون أنفسهم، فحذف مفعوله.
ونافع وأبو عمرو في رواية عنهما، وعيسى بسكون الطاء، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من «أطْهَر زيد» .
والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً: «المطَّهِّرون» بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة، وأصله: «المُتطهرون» فأدغم.
وقد قرىء بهذا على الأصل أيضاً.
فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية
اختلفوا في المسّ المذكور في الآية، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم؟ .
فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة.
وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة، والرسل من بني آدم.
وقال الكلبي: هم السَّفرة، الكِرَام البررة، وهذا كله قول واحد، وهو اختيار مالك.
وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة «عبس» في قوله تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16] .
وقيل: معنى «لا يمسّه» لا ينزل به إلا المطهرون، يعني: الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون.(18/436)
ولو كان المراد طهر الحدث لقال: المتطهرون أو المطهرون بتشديد «الطاء» .
والصحيح أن المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا؛ لما روى مالك وغيره: أن في كتاب عمرو بن حزم: «لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ» .
وقال ابن عمر: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ» .
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} فقام واغتسل، وأسلم.
وعلى هذا قال قتادة وغيره: معناه: لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس.
وقال الكلبي: من الشِّرْك.
وقال الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقال محمد بن فضيل وعبدة: لا يقرؤه إلا المطهرون، أي: إلاَّ الموحدون.
قال عكرمة: وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته.
وقال الفراء: لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون، أي: المؤمنون بالقرآن، وقال الحسين بن الفضل: معناه: لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق.
وقال أبو بكر الورَّاقُ: لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء.
وروى معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن المعنى: لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون.
فصل في مس المصحف لغير المتوضىء
اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء.
فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعطاء، والزهري، والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي.
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة.
فروي عنه أنه يمسّه المحدث، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه، وما ليس بمكتوب.(18/437)
وأمَّا [الكتاب] فلا يمسّه إلاَّ طاهر.
قال ابن العربي: وهذا يقوي الحجة عليه؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه.
وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلامة، ولا على وسادة.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك.
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي: أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً، إلاَّ أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «قيصر» ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة.
والمراد بالقرآن: المصحف، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. أراد به المصحف.
قوله: {تَنزِيلٌ} .
قرأ العامة: بالرفع.
وقرأ بعضهم: «تنزيلاً» بالنصب، على أنه حال من النكرة، وجاز ذلك لتخصصها بالصفة.
وأن يكون مصدراً لعامل مقدر، أي: نزل تنزيلاً.
وغلب التنزيل على القرآن.
وقوله: «من ربّ» يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكد لا يعمل، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة له.
وأما على قراءة «تَنزِيلٌ» بالرفع، فيجوز الوجهان.
قال القرطبي: «تنزيل» أي: منزل، كقولهم: «ضَرْب الأمير، ونَسْج اليمن» .
وقيل: «تنزيل» صفة لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} .
وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: هو «تنزيل» .
قال ابن الخطيب: قوله «تنزيل» مصدر، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل، إنما هو منزل لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] ، فنقول: ذكر المصدر،(18/438)
وإرادة المفعول كثير، كقوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] وأوثر المصدر؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر.
قوله: {أفبهذا الحديث} متعلق بالخبر، وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك، والأصل: أفأنتم مدهنون بهذا الحديث، وهو القرآن.
ومعنى «مُدْهِنُون» أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه، ولا يتصلب فيه تهاوناً به، يقال: أدهن فلان، أي: لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن.
قال أبو قيس بن الأسلت: [السريع]
4712 - الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ من الْ ... إدْهَانِ والفَهَّةِ والهَاعِ
وقال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ، كما جعل التَّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك.
قال القرطبي: «وأدهن وداهن واحد، وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت» .
قال ابن عبَّاس: «مُدْهِنُون» أي: مكذبون. وهو قول عطاء وغيره.
والمدهن: الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره.
وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: «مدهنون» كافرون، نظيره: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] .
وقال المؤرِّج: المدهن: المنافق الذي يلين جانبه ليُخفي كفره.
والإدْهَان والمُداهنَة: التكذيب والكفر والنِّفاق.
وقال الضحاك: «مُدْهنون» معرضون.
وقال مجاهد: مُمَالِئُون الكُفَّار على الكفر به.(18/439)
وقال ابن كيسان: المدهن: الذي لا يعقل ما حق الله عليه، ويدفعه بالعللِ.
وقال بعض اللغويين: «مُدْهنون» : تاركُون للجزمِ في قبول القرآن.
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} .
فيه أوجه:
أحدها: أنه على التهكم بهم، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه، كقولك: شتمني حيث أحسنت إليه، أي: عكس قضية الإحسان.
ومنه: [الرجز]
4713 - كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ ... كيُّ الصَّحِيحاتِ، وفقْءُ الأعيُنِ
أي: شكر رزقكم تكذيبكم.
الثاني: أن ثمَّ مضافين محذوفين، أي: بدل شكر رزقكم، ليصح المعنى.
قاله ابن مالك.
وقد تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أكثر من هذا.
الثالث: أنَّ الرزق هو الشكر في لغة «أزد شنوءة» يقولون: ما رزق فلان فلاناً، أي: ما شكره، فعلى هذا لا حذف ألبتة.
ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ» مكان رزقكم.
قال القرطبي: «وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى» .
قوله: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .
قرأ العامة: «تُكذِّبُونَ» من التكذيب.
وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعاصم في رواية المفضل عنه: «تكْذبُونَ» مخففاً من الكذب.(18/440)
ومعنى الآية: أنكم مكذبون بالرِّزق، أي؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] ، أي: لم يكونوا يصلون، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة.
قال القرطبي: وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً.
وروى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ: {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} خفيفة.
وعن ابن عباس أيضاً: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مُطِرْنَا بنوءِ كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عبَّاس قال: «مطر النَّاس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ «.
فقال بعضهم: هذه رحمة الله؛ وقال بعضهم: لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} » .
وعنه أيضاً: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج في سفر فعطشوا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون: هذا المطرُ بنَوْءِ كذا «، فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين، ودعا ربه، فهاجتْ ريح، ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له، وهو يقول: سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله، فنزلت: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} » .
أي: شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا.
قال الشَّافعي: لا أحب لأحدٍ أن يقول: مُطِرنَا بنوء كذا، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر، ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحبّ(18/441)
أن يقول: مطرنا وقت كذا، كما تقول: مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوءِ كذا، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر، حلال دمه إن لم يَتُبْ.
وقيل: معنى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد، كما يقال: فلان جعل قطع الطريق معاشه، فعلى هذا التَّكذيب عام، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، كما يقال للمأكول: رِزْق، وللمقدور: قُدْرة وللمخلوق: خَلْق.(18/442)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} .
ترتيب الآية الكريمة: فلولا ترجعونها - أي النَّفس - إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين.
و «لولا» الثانية مكررة للتوكيد قاله الزمخشري.
قال شهاب الدين: فيكون التقدير: فلولا فلولا ترجعونها من باب التوكيد اللفظي، ويكون «إذا بلغت» ظرفاً ل «تَرْجعُونها» مقدماً عليه؛ إذ لا مانع منه، أي فلولا ترجعون النَّفس في وقت بلوغها الحُلْقُوم.
وقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} .
جملة حالية من فاعل «بلغت» .
والتنوين في «حينئذٍ» عوض من الجملة المضاف إليها أي: إذا بلغت الحلقوم، خلافاً للأخفش، حيث زعم أن التنوين للصَّرف، والكسر للإعراب. وقد مضى تحقيقه.
وقرأ العامة: بفتح نون «حينئذ» لأنه منصوب على الظرف، ناصبه «تنظرون» وعيسى: بكسرها.(18/442)
وهي مشكلة لا تبعد عن الغلط عليه، وخرجت على الإتباع لحركة الهمزة.
ولا عرف في ذلك، فليس بأبعد من قرأ: «الحَمْدِ لله» بكسر الدال لتلازم المتضايفين، ولكثرة دروهما على الخصوص.
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون: معنى الآية فهلا إذا بلغت النفس، أو الروح الحلقوم، ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن ذلك معروف.
قال حاتم: [الطويل]
4714 - أمَاويُّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عن الفَتَى ... إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وفي الحديث: «إنَّ مَلَكَ المَوْتِ لهُ أعْوانٌ يَقْطعُونَ العُرُوق، ويَجْمَعُونَ الرُّوح شَيْئاً فَشَيْئاً حتَّى ينتهي بها إلى الحُلْقُومِ، فيتوفَّاها ملكُ الموتِ» .
{وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أمري وسلطاني.
وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء.
قال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميِّت ينتظرون متى تخرج نفسه.
ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] ، فهلاَّ ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحُلْقُوم.
وقيل: المعنى فهلاَّ إذا بلغت نفس أحدكم الحُلْقُوم عند النَّزْع، وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه، وهذا رد لقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] .
قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} .
يجوز أن يكون حالاً، أي: تنظرون في هذه الحال التي تخفى عنكم.
وأن تكون مستأنفة، فيكون اعتراضاً، والاستدراك ظاهر.
والبصر يجوز أن يكون من البَصِيْرَة، والمعنى: ونحنُ أقرب إليه منكم بالقدرة والعلم والرُّؤية.(18/443)
قال عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلاَّ رأيت الله - تعالى - أقرب إليَّ منه.
وأن يكون من البصر، أي لا تنظرون أعوان ملك الموت، والمعنى: أن رسلنا الذين يتولون قبض روحه أقرب إليه منكم لكن لا ترونهم.
قوله: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} .
«إن كنتم» شرط، جوابه محذوف عند البصريين لدلالة «فلولا» عليه، أو مقدم عند من يرى ذلك كما تقدم تقريره.
والمعنى: فهلا كنتم غير محاسبين، ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] ، أي: مجزيّون أو محاسبون. وقد تقدم.
وقيل: غير مملوكين، ولا مقهورين.
قال الفراء وغيره: دِنْتُه، ملكته.
قال الحطيئة: [الوافر]
4715 - لَقَدْ دُيِّنْتِ أمْرَ بَنِيكِ حَتَّى ... تَرَكْتِهِمُ أدَقَّ مِنَ الطَّحِينِ
يعني: مُلِّكْتِ.
ودانه: أي أذله واستعبده، يقال: دنْتُه فدان.
ومنه دانت له البلاد والعباد، وقد تقدم في «الفاتحة» عند قوله «يوم الدِّين» .
قوله: {تَرْجِعُونَهَآ} .
قال أبو البقاء: «تَرْجعُونَها» جواب «لولا» الأولى، وأغنى ذلك عن جواب الثانية.
وقيل: بعكس ذلك.
وقال الزمخشري: «إنّ» لولا «الثانية تكرير» . انتهى.
قال شهاب الدين: وتسمية مثل هذا جواباً ليس بصحيح ألبتة؛ لأن هذه تحضيضية لا جواب لها، إنما الجواب للامتناعية لوجود، نحو: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} [النور: 21] .
وقال ابن عطية: وقوله: «ترجعونها» سدّ مسدّ الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضيات، وإذا في قوله «فَلوْلاَ إذَا» ، وإن المتكررة، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واختصاراً. انتهى.(18/444)
فجعل «إذا» شرطية، وقوله بالأجوبة يعني ل «إذا» ، ول «إن» في قوله: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} ، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
والبيانات: يعني الأفعال التي حضض عليها، وهي عبارة قلقة.
قال أبو حيان: «و» إذا «ليست شرطاً، بل ظرفاً يعمل فيها» ترجعونها «المحذوف بعد» فلولا «لدلالة» ترجعونها «في التحضيض الثاني عليه، فجاء التحضيض الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم، وجاء التَّحضيض الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم، وهم لا يقدرون على رجوعها، إذ مربوبيتهم موجودة فهم مقهُورون، لا قدرة لهم» . انتهى.
فجعل «ترجعونها» المذكور ل «لولا» الثانية، وهو دال على محذوف بعد الأولى، وهو أحد الأقوال التي نقلها أبو البقاء فيما تقدم.
وقوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
شرط آخر، وليس هذا من اعتراض الشرط على الشرط نحو: «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» حتى يجيء فيه ما تقدم في هذه المسألة؛ لأن المراد هنا: إن وجد الشرطان كيف كانا فهل رجعتم بنفس الميت؟ .
[وقال القرطبي: {ترجعونها إن كنتم صادقين} يرجع الروح إلى الجسد إن كنتم صادقين، أي: ولن ترجعونها فبطل] زعمكم أنكم غير مملوكين، ولا محاسبين، و «تَرْجعُونها» جواب لقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} ، ولقوله: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} وأجيبا بجواب واحد. قاله الفرَّاء، وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
[البقرة: 38] ، أجيبا بجواب واحد، وهما شرطان.
والمعنى: إن كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعث، ولا حساب، ولا إله يجازي، فهلاَّ تردون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله عَزَّ وَجَلَّ. قاله البغوي.
وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه.
وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: «فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها تردّون نفس الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم» .(18/445)
ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم، فقال: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} .
قد تقدَّم الكلام في «أمَّا» أول الكتاب.
وهنا أمر زائد، وهو وقوع شرط آخر بعدها.
واختلف النحاة في الجواب المذكور بعدها، هل هو ل «أما» أو ل «أن» وجواب الأخرى محذوف لدلالة المنطوق عليه والجواب لهما معاً؟ ثلاثة أقوال:
الأول: لسيبويه.
والثاني: للفارسي في أحد قوليه، وله قول آخر لسيبويه.
والثالث: للأخفش.
وهذا كما تقدم في الجواب بعد الشرطين المتواردين.
وقال مكي: «ومعنى» أما «عند أبي إسحاق الخروج من شيء إلى شيء، أي: دع ما كُنَّا فيه، وخذ في غيره» .
وعلى هذا فيكون الجواب ل «إن» فقط، لأن «أما» ليست شرطاً، ورجح بعضهم أن الجواب ل «أمَّا» لأن «إن» كثر حذف جوابها منفردة فادعاء ذلك مع شرط آخر أولى.
قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} .
الضمير في «كان» و «كان» و «كان» للمتوفى، لدلالة «فلَوْلاَ ترجعونها» ، والمراد بالمقربين: السابقين لقوله تعالى {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10] .
قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .
قرأ العامة: «فَرَوْحٌ» بفتح الراء.
وقرأ ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ونصر بن عاصم، والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب وجماعة: بضم الراء.
وتروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فمن قرأ بالفتح، فمعناه: فله روح، وهو الرَّاحة. وهو قول مجاهد.
وقال سعيد بن جبير: فرج.
وقال الضحاك: مغفرة ورحمة «وريحان» : استراحة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: رزق.(18/446)
قال مقاتل: [هو الرزق بلغة] «حِمْير» . يقال: خرجنا نطلب ريحان الله، أي: رِزْقَه.
وقيل: هو الريحان الذي يشم.
قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يُؤتى بغُصْنٍ من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه.
وقال أبو بكر الورَّاق: الرَّوح: النَّجاة من النار والرَّيحان: دخول دار القرار.
وقد تقدَّم الكلام على «رَيْحَان» وكيفية تعريفه في السورة قبلها.
وقوله: «فَرَوْحٌ» مبتدأ، خبره مقدر قبله، أي: فله روح، ويجوز أن يقدر بعده لاعتماده على فاء الجزاء.
قوله: {وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} .
«فسلام لك» مبتدأ وخبر.
و «من أصحاب» . قال الزمخشري: «فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلمون عليك» .
وقال ابن جرير: «فسلام لك أنت من أصحاب اليمين» .
وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري، ويكون «أنت» تأكيداً للكاف في لك، ويحتمل أن يكون أراد أن «أنت» مبتدأ، و «من أصحاب» خبره، ويؤيد هذا ما حكاه قوم من أن المعنى فيقال لهم: سلام عليكم لك إنك من أصحاب اليمين.
وأول هذه الأقوال هو الواضح البين؛ ولذلك لم يعرج أبو القاسم على غيره.
فصل في المقصود بهذا السلام
قال القرطبي: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي: لست ترى منهم إلاَّ ما تحب من السلامة فلا تهتمّ، فإنهم يسلمون من عذاب الله.
وقيل: المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاهتمام لهم، والمعنى واحد.
وقيل: إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم.(18/447)
وقيل: معناه: سلمت أيها العبدُ ممَّا تكره، فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك.
وقيل: إنه يُحَيَّا بالسلام إكراماً.
فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل:
أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت. قاله الضحاك.
قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن، قال: ربك يقرئك السلام.
الثاني: عند مساءلته في القبر يسلّم عليه منكر ونكير.
الثالث: عند بعثه في القيامة يسلم عليه الملك قبل وصوله إليها.
قال القرطبي: «ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة، ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام» .
قوله: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين} بالبعث «الضَّالين» عن الهدى، وطريق الحق {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لآكِلُونَ} [الواقعة: 51 - 52] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67] .
قوله: {وَتَصْلِيَةُ} .
قرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه، وأحمد بن موسى، والمنقري: بجر التاء عطفاً على «حميم» ، أي: ونزل من تصلية جحيم.
والمعنى: إدخال في النَّار.
وقيل: إقامة في الجحيم، ومقاساة لأنواع عذابها.
يقال: أصلاه النَّار وصلاه، أي: جعله يصلاها.
والمصدر هنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال، أي: يعطي المال.
قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} .
أي: هذا الذي قصصناه محضُ اليقين وخالصه.
وجاز إضافة الحق إلى اليقين، وهما واحد لاختلاف لفظهما، وذلك من باب إضافة المترادفين على سبيل المبالغةِ.
قال المبرد: هو كقولك: عين اليقين وحق اليقين.(18/448)
فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين، وإن كانوا فعلوا ذلك في اللفظ الواحد، فقالوا: صواب الصواب، ونفس النفس مبالغة، فلأن يفعلوا عند اختلاف اللفظ أولى.
وعند البصريين بمعنى: حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين.
وقيل: هو توكيد، كقولك: حق الحق، وصواب الصواب. قاله ابن عطية.
وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتاً للحق فأضيف المنعوت إلى النَّعت على الاتِّساع والمجاز، كقوله تعالى: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [النحل: 30] .
قال ابن الخطيب: «هذه الإضافة كقولك: ثوب كتان، وباب ساجٍ بمعنى ثوب من كتان، وباب من ساجٍ، أي: لهو الحق من اليقين» .
ويحتمل أن يكون المعنى: أنه الحق الذي يستحقه اليقين، كقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أمِرْتُ أن أقَاتِلَ النَّاس حتَّى يقُولُوا: لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، فإذا قالُوهَا عَصَمُوا منِّي دمَاءَهُمْ وأمْوالهُمْ إلاَّ بحقِّهَا» .
فالضمير يرجع إلى الكلمة، أي: إلا بحق الكلمة، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة، فكذلك حق اليقين، بالاعتراف، أي: بحق اليقين.
والمعنى: أنه يعترف بما قال الله - تعالى - في سورة «الواقعة» ، وفي حق الأزواج الثلاثة، وعلى هذا المعنى إن اليقين لا يحق إلاَّ إذا صدق بما قاله، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه.
قوله: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
أي: نزّه الله - تعالى - عن السُّوء.
و «الباء» يجوز أن تكون للحال، أي: فسبِّح ملتبساً باسم ربِّك على سبيل التبرك كقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] ، وأن تكون للتعدية على أن «سبح» يتعدى بنفسه تارةً، كقوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [من سورة الأعلى: 1] وبحرف الجر تارة كهذه الآية.
وقال القرطبي: «والباء زائدة، أي: سبح اسم ربك» .
وادعاء زيادتها خلاف الأصل.(18/449)
و «العظيم» يجوز أن يكون صفة للاسم، وأن يكون صفة ل «ربك» ؛ لأن كلاًّ منهما مجرور، وقد وصف كل منهما في قوله: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} [الرحمن: 78] و «ذي الجَلالِ» .
ولتقارب المتضايفين ظهر الفرق في الوصف.
فصل في تحرير معنى الآية
قيل: معنى «فسبح» أي فصل بذكر ربك وبأمره.
وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه.
«وعن عقبة بن عامر قال: لمَّا نزلت: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} قال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اجْعَلُوها في رُكُوعِكُمْ «. ولما نزلت: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اجْعَلُوها في سُجُودِكُمْ «» .
أخرجه أبو داود.
وروى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [يقول] : «مَنْ قَرَأ سُورَة الواقِعَة في كل ليلة لم تُصِبْهُ فاقةٌ أبَداً» وكان أبو هريرةٍ لا يدعُها أبداً.(18/450)
وعن مسروق قال: «منْ أرَاد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ الدنيا، ونبأ الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة» .
والله تعالى أعلم.(18/451)
سورة الحديد
[مدنية] ، وهي تسع وعشرون آية.
عن العرباض بن سارية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ ب " المسبحات " قبل أن يرقد، ويقول: " إن فيهن آية أفضل من ألف آية ".(18/452)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
يعني ب " المسبحات ": الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} .(18/452)
أي: مجّد الله ونزّهه عن السوء.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: صلى لله ما في السموات من خلق من الملائكة والأرض من شيء فيه روح، أو لا روح فيه.
وقيل: هو تسبيح الدلالة.
وأنكر الزجَّاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
وإنما التسبيح مقال، واستدل بقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] ، ولو كان هذا التسبيح تسبيح دلالة، فأي تخصيص لداود؟ .
وقال القرطبي: هذا هو الصحيح.
فصل في الكلام على الفعل سبح
هذا الفعل عدي باللام تارة كهذه السورة، وأخرى بنفسه كقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب: 42] ، وأصله التعدي بنفسه، لأن معنى «سبحته» : بعدته عن السوء، فاللام إما أن تكون مزيدة كهي في نصحت لزيد، ونصحته، وشكرته، وشكرت له؛ إذ يقال: سبحت الله تعالى، قال: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] . وإما أن تكون للتعليل، أي: أحدث التسبيح لأجل الله تعالى.
وجاء في بعض الفواتح «سبَّح» بلفظ الماضي، وفي [بعضها] بلفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات، لا يختص بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل.
قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} .
«العزيز» : الغالب القادر الذي لا ينازعه شيء، وذلك إشارة إلى كمال القدرة.
«الحكيم» : الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب.
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .
جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.(18/453)
وحقيقة «المُلْك» عبارة عن نفوذ الأمر، فهو سبحانه وتعالى المالك القادر القاهر.
وقيل: أراد خزائن المطر والنبات والرِّزق.
قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لا محل [لها] كالتي قبلها.
والثاني: أنها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو له ملك.
الثالث: أنه الحال من الضمير في «له» فالعامل فيها الاستقرار.
ولم يذكر مفعول الإحياء والإماتة؛ إذ الغرض ذكر الفعلين [فقط، والمعنى ليميت] الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث.
وقيل: هو يحيي النُّطف، وهي أموات، ويميت الأحياء.
قال ابن الخطيب: «وعندي فيه وجه ثالث، وهو أنه ليس المراد منه تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين، وبأشخاص معينين، بل معناه: أنَّه القادر على خلق الحياة والموت، كقوله تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] ، [والمقصود منه] كونه - تعالى - هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق لا يمنعه عنهما مانع.
قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر} الآية.
قال الزمخشري: فإن قلت: [فما معنى» الواو «؟] .
قلت: «الواو» الأولى معناها الدلالة على [أنه الجامع بين الصفتين الأولية] ، والآخرية.
والثالثة على الجامع بين الظُّهور والخفاء.
وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: اختلف في معاني هذه الأسماء وقد شرحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرحاً يغني عن قول كل قائل.(18/454)
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللَّهُمَّ أنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبلكَ شيءٌ، وأنْتَ الآخرُ فليْسَ بعدكَ شيءٌ، وأنْتَ الظَّاهرُ فليس فوقكَ شيءٌ، وأنْتَ الباطنُ فليْسَ دُونَك شيءٌ، اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغْنِنَا من الفَقْرِ» ، عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم.
قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
مما كان أو يكون لا يخفى عليه شيء، وهذا معنى قول ابن عباس.
قال ابن الخطيب: الظَّاهر بحسب الدلائل، والباطن بحسب الحواس.
والقول بأن الباطن هو العالم ضعيف؛ لأنه يلزم منه التكرار في قوله: «وهو بكل شيء عليم بما كان أو يكون» .
فصل في إثبات وحدانية الله
قال ابن الخطيب: احتج كثير من العلماء في إثبات أنَّ الإله واحد بقوله: «هو الأول» ، قالوا: الأول هو الفرد السَّابق، ولهذا لو قال: أول مملوك اشتريته فهو حر، ثم اشترى عبدين لم يعتقا؛ لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية، وهنا لم تحصل، فلو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق؛ لأن شرط الأولية كونه سابقاً، وهاهنا لم يحصل، فثبت أن الشَّرط في كونه أولاً أن يكون فرداً، فكانت الآية دالة على أنَّ صانع العالم فرد.
قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} .
تقدم [في «الأعراف» ] ، والمقصود منه دلائل القدرة.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي: يدخل فيها من مطر وغيره.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نباتٍ وغيره.
{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} من رزق ومطر وملك.
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد فيها من الملائكة، وأعمال العباد {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني: بقدرته وسلطانه وعلمه.
{أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ينظر أعمالكم ويراها، ولا يخفى عليه شيء منها.(18/455)
فصل في الكلام على الآية
قال القرطبي: وقد جمع في هذه الآية بين {استوى على العرش} وبين «وهُوَ معكُم» ، والأخذ بالظَّاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض.
وقد قال أبو المعالي: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - من يونس بن متَّى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.
فصل في تفسير المعية
ذكر ابن الخطيب عن المتكلمين أنهم قالوا: هذه المعية إما بالعلم، وإما بالحفظ والحراسة، وعلى التقديرين فالإجماع منعقد على أنَّه - سبحانه وتعالى - ليس معنا بالمكانِ والحيز والجهةِ، فإذن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} لا بد فيه من التأويل، فإذا جوَّزنا التأويل في موضع وجب تأويله في سَائر المواضع.
قوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .
هذا التكرير للتأكيد، أي: هو المعبود على الحقيقة.
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: أمور الخلائق في الآخرة.
وقد تقدم في البقرة «: أن الأخوين وابن عامر يقرءون:» تَرْجِعُ «بفتح التاء وكسر الجيم مبنيًّا للفاعل، والباقون: مبنيًّا للمفعول في جميع القرآن.
وقال أبو حيان هنا: وقرأ الجمهور:» تُرْجَعُ «مبنيًّا للمفعول، والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنيًّا للفاعل.
وهذا عجيب منه وقد وقع له مثل ذلك كما تقدم.
قوله: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} .
أي: ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل، وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار.
{وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . أي: لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة، فلا يجوز أن يعبد سواه.
قوله تعالى: {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} .(18/456)
أي: صدقوا أن الله واحد، وأن محمداً عبده ورسوله.
» وأنفِقُوا «: تصدقوا وقيل: أنفقوا في سبيل الله.
وقيل: المراد: الزكاة المفروضة.
وقيل: غيرها من وجوه الطاعات، وما يتقرب به.
وقوله تعالى: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} دليل على أن أصل الملك لله سبحانه وتعالى، وأن العبد ليس له فيه إلاَّ التصرف الذي يرضي الله تعالى، فيثيبه على ذلك بالجنة، فمن أنفق منها في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره، إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل.
وقال الحسن:» مُستخْلفِين فيه «بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم، وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النُّواب والوكلاء، فاغتنموا الفوز، فإنها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم.
{فالذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير} وهو الجنة.
فصل في الكلام على الآية
قال القاضي: هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالمال وحده حتى يضاف إليه هذا الإنفاق، فمن أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له.
قال ابن الخطيب: وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه لا يلزم من نفي الأجر الكبير نفي أصل الأجر، فلم قلتم: إنها [تدل على أنه] لا أجر له أصلاً؟ .
فإن قيل: قوله» آمنوا بالله «خطاب مع من عرف الله أو مع من لم يعرف الله، فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرف من عرفه، وذلك أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال.
وإن كان الثاني كذلك كان ذلك الخطاب متوجِّهاً على من لم يكن عارفاً به، ومن لم يكن عارفاً يستحيل أن يكون عارفاً بأمره، فيكون الأمر متوجِّهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر، وهو تكليف ما لا يُطاق.
قال ابن الخطيب: والجواب من النَّاس من قال: معرفة وجود الصَّانع حاصلة للكل، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.(18/457)
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} .
مبتدأ وخبر وحال: أي: أي شيء استقر لكم غير مؤمنين.
قال القرطبي: «هذا استفهام يراد به التوبيخ، أي: أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل» . {والرسول يَدْعُوكُمْ} .
فقوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ} جملة حالية من ضمير «تؤمنون» .
قال الزمخشري: «فهما حالان متداخلان» .
و «لتؤمنوا» متعلق ب «يدعو» أي: يدعوكم للإيمان، كقولك: «دعوته لكذا» .
ويجوز أن تكون «اللام» للعلة، أي: يدعوكم إلى الجنة وغفران الله لأجل الإيمان.
وفيه بعد.
وهذه الآية تدل على أنه لا حكم قبل ورود الشرع.
قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} . حال أيضاً.
وقرأ العامة: «أخَذ» مبنيًّا للفاعل، وهو الله - تعالى - لتقدّم ذكره.
وقرأ أبو عمرو «أُخِذَ» مبنيًّا للمفعول، حذف الفاعل للعلم به.
و «ميثاقكم» منصوب في قراءة العامة، ومرفوع في قراءة أبي عمرو.
و «إن كنتم» جوابه محذوف، تقديره: فما يمنعكم من الإيمان.
وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين لموجب ما رتبه، فهذا هو الموجب.
وقدره ابن عطية: إن كنتم مؤمنين فأنتم في رتبة شريفة.
فصل في المراد بهذا الميثاق
قال مجاهد: المراد بالميثاق هو المأخوذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] .
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون(18/458)
ذلك سبباً في أنه لم يبق لهم عُذْر في ترك الإيمان بعد ذلك، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلاَّ بقول الرسول.
فقبل معرفة تصديق الرسول لا يكون ذلك سبباً في وجوب تصديق الرسول بل المراد بأخذ الميثاق نصب الدلائل والبينات، بأن ركب فيهم العقول، وأقام عليهم الحُجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرَّسُول، وهذا معلوم لكل أحد، فيكون سبباً لوجوب الإيمان بالرسول.
فصل في حصول الإيمان بالعبد.
قال القاضي: قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} يدل على قدرتهم على الإيمان، إذ لا يجوز أن يقال ذلك لمن لا يتمكن من الفعل كما لا يقال: ما لك لا تطول ولا تبيض، فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل، وعلى أن القدرة صالحة للضدين، وعلى أن الإيمان حصل بالعبد لا بخلق الله.
قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: إذْ كنتم مؤمنين.
وقيل: إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل.
وقيل: إن كنتم مؤمنين بحق يوماً من الأيام، فالآن فقد صحت براهينه.
وقيل: إن كنتم مؤمنين بأن الله خلقكم كانوا يعترفون بهذا.
وقيل: هذا خطاب لقوم آمنوا، وأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ميثاقهم فارتدوا.
وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: كنتم تقرُّون بشرائط الإيمان.(18/459)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قوله تعالى: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ} .
تقدمت قراءتا «يُنْزِلُ» تخفيفاً وتشديداً في «البقرة» .
وزيد بن علي: «أنْزَلَ» ماضياً.(18/459)
وقوله: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن.
وقيل: المعجزات، أي: لزمكم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما معه من المعجزات والقرآن أكبرها وأعظمها.
{لِّيُخْرِجَكُم} أي: بالقرآن.
وقيل: بالرسول.
وقيل: بالدعوة، {مِّنَ الظلمات} ، وهو الشرك والكفر.
{إِلَى النور} وهو الإيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
فصل في إرادة الله للإيمان
قال القاضي: هذه الآية تدل على إرادته للإيمان، أكد ذلك بقوله: {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
فإن قيل: أليس يدل ظاهرها على أنه يخرج من الظلمات إلى النور، فيجب أن يكون الإيمان من فعله؟ .
قلنا: إذا كان الإيمان بخلقه لا يبقى لقوله: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم} [الحديد: 9] معنى؛ لأن ما يخلقه لا يتغير، بل المراد أنه يلطف بهم.
قال ابن الخطيب: وهذا على حسنه معارض بالعلم؛ لأنه علم أن إيمانهم لا يوجد فقد كلفهم بما لا يوجد، فكيف يعقل مع هذا أنه أراد منهم الخير والإحسان، وحمل بعضهم قوله: {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} على بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا وجه لهذا التخصيص.
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} .
الكلام فيه كالكلام في قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246] ، فالأصل: «في ألا تنفقُوا» .
فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور، وأبو الحسن يرى زيادتها كما تقدم تقريره في البقرة.
قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ} جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله، أي: وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أن ميراث السموات والأرض له، فهذه حال منافية.(18/460)
فصل في الكلام على الإنفاق
لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكَّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق، والمعنى: أنكم ستموتون فتورثون، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله؟ .
وتحقيقه: أن المال لا بد وأن يخرج من اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله، فإن خرج بالموت كان أثره اللَّعنُ والمقتُ والطرد والعقاب، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيَّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة، فقال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} .
قوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} .
في فاعل «يستوي» وجهان:
أظهرهما: أنه «مَنْ أنفق» وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام، فقدره الزمخشري: لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح «مكة» وقوة الإسلام، ومن أنفق من بعد الفتح، [فحذف لوضوح الدلالة] .
[وقدره أبو البقاء: «ومن لم ينفق» .
قال: ودلّ على المحذوف قوله: {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} ] .
والأول أحسن؛ لأن السِّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النَّفقتين في زمانين.
والثاني: أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق، أي: لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح، ومنه ما وقع بعده.
فهذان النَّوعان متفاوتان، وعلى هذا فيكون «من» مبتدأ، و «أولئك» مبتدأ ثاني، و «أعظم» خبره، والجملة خبر «من» . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتة.
وكأن هذا المعرب غفل عن قوله: «منكم» ، فلو أعرب هذا القائل «منكم» خبراً مقدماً، و «من» مبتدأ مؤخراً، والتقدير: منكم من أنفق من قبل الفتح، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديداً، ولكنه سَهَا عن لفظة «منكم» .(18/461)
فصل في المراد بالفتح
أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح «مكة» .
وقال الشعبي والزهري: فتح «الحديبية» .
قال قتادة: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح «مكة» أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النَّصب.
قال مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} .
قال الكلبي: نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه؛ لأنه أوَّل من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله.
وقال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر.
وعن ابن عمر قال: «كنت عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنده أبو بكر، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ، فنزل جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: يا نبي الله، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ قال:» أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ «، قال: فإن الله تعالى يقول لك: اقرأ على أبي بكر السلام، وقل له: أنت راضٍ في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر: إني عن ربي لَراضٍ، قال: فإن الله - تعالى - يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ، فبكى أبو بكر، فقال جبريل: والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة» .
ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق.
وقال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سبق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وثنى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [المفتري] ثمانين جلدة وطرح الشهادة.(18/462)
فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين
فإن قلت: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ننزل النَّاس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مرضه: «مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ» .
وقال: «يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه» .
وقال: «وليؤمكما أكبركما» .
وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الوَلاَء للْكِبَرِ» ولم يَعْنِ كبر السن.
وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقًّا، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة.
وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.
وفي الحديث: «ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ» .
وفي الحديث أيضاً: «مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ» .
قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} .
قراءة العامة: بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم، وهي مرسومة في مصاحفهم «وكلاًّ» بألف.
وابن عامر: برفعه.(18/463)
وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه ارتفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي: وعده الله.
ومثله: [الرجز]
4716 - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
برفع «كلُّه» أي: لم أصنعه.
والبصريون [رحمة الله عليهم] لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر، كقوله: [السريع]
4717 - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا ... بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ
ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ «كُلاًّ» وما أشبهها في الافتقار والعموم.
قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة «المائدة» ، عند قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ولم يرو قوله: «كله لم أصنع» إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه، فتقول: «كله لم أصنع» مفعولاً مقدماً.
قال أهل البيان: لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم، فإن الأول أبلغ، وجعلوا من ذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ» .
ولو قال: لم يكن كل ذلك، لكان سلباً للعموم، والمقصود عموم السَّلب.
قال الشيخ عبد القاهر: المعنى يتفاوت بالرفع والنصب، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض.
والثاني: أن يكون «كلّ» خبر مبتدأ محذوف، و {وعد الله الحسنى} صفة لما قبله، والعائد محذوف، أي: «وأولئك كل وعد الله الحسنى» .
فإن قيل: الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه؟ .
فالجواب: أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر.
ومن حذفه من الصفة قوله: [الوافر](18/464)
4718 - ومَا أدْرِي أغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا
أي: أصابوه، ومثله كثير، وهي في مصاحف «الشام» مرسومة: «وكلّ» دون ألف فقد وافق كل مصحفه، و «الحسنى» مفعول ثان، والأول محذوف على قراءة الرفع.
وأمَّا النصب فالأول مقدّم على عامله.
ومعنى الآية: أن المتقدمين السَّابقين والمتأخرين اللاَّحقين وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: أنه لما وعد السَّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالخيرات، وبجميع المعلُومات حتى يمكنه إيصال الثَّواب إلى المستحقين، إذ لو لم يكن عالماً بهم، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتَّمام، فلهذا السَّبب أتبع هذا الوعد بقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .(18/465)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وقد تقدم في «البقرة» .
ندب إلى الإنفاق في سبيل الله.
وقال ابن عطية: هنا بالرَّفع على العطف، أو القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم: «فيُضَاعفه» بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلك قلقٌ.
قال أبو علي: لأن السؤال لم يقع على القرضِ، وإنما وقع عن فاعل القَرْض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ} بمنزلة قوله: «أيقرض الله أحدٌ» . انتهى.(18/465)
وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع، ألا ترى أنه ينصب بعد «الفاء» في جواب الاستفهام بالأسماء، وإن لم يتقدم فعل نحو: أين بيتك فأزورك ومثل ذلك: من يدعوني فأستجيب له، ومتى تسير فأرافقك، وكيف تكون فأصحبك، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدَّاعي، وعن ظرف الزَّمان، وعن الحال لا عن الفعل.
وقد حكى ابن كيسان عن العرب: «أين ذهب زيدٌ فنتبعه، ومن أبوك فنكرمه» .
فصل في المقصود بالقرض
ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً: «قد أقرض» .
كما قال بعضهم رحمة الله عليه: [الرمل]
4719 - وإذَا جُوزيتَ قَرْضاً فاجزه ... إنَّما يَجزي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
وسماه قرضاً؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل، أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة.
قال الكلبي: «قرضاً» أي: صدقة.
«حسناً» أي: محتسباً من قلبه بلا منٍّ ولا أدى.
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} : ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف.
وقيل القَرْض الحسن هو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال زيد بن أسلم: هو النَّفقة على الأهل.
وقال الحسن: التطوُّع بالعبادات.
وقيل: عمل الخير.
وقال القشيري: لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة:
الأول: أن يكون من الحلال، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاةً بِغَيْرِ طهُورٍ، ولا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ» .(18/466)
الثاني: أن يكون من أكرم ما يمكنه؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] .
الثالث: أن يتصدق به وهو يحبّه، ويحتاج إليه لقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} [البقرة: 177] .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أفْضَلُ الصَّدقةِ أنْ تُعْطيَهُ وأنْتَ صَحيحٌ شَحِيحٌ تأمْلُ العَيْشَ ولا تمهلُ حتَّى إذا بلغتِ التَّراقي قُلْتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كَذَا» .
الرابع: أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج، ولذلك خص تعالى أقواماً بأخذها، وهم أهل المبهمات.
الخامس: أن تخفي الصَّدقة لقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271] .
السادس: ألاَّ يتبعها منًّا ولا أذى، لقوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
السابع: أن يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يُرائِي لقوله تعالى: {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] .
الثامن: أن يستحقر ما يعطي وإن كثر؛ لأن الدُّنيا كلها قليلة، قال تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] في أحد التأويلات.
التاسع: أن يكون من أحبّ الأموال إليه، وأن يكون كثيراً لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أفْضَلُ الرِّقابِ أغْلاهَا وأنفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا» .
العاشر: ألا يرى عزَّ نفسه، وذُلّ الفقير، بل يكون الأمر بالعكس.
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنَّة.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين} .
فيه أوجه:
أحدها: أنه معمول للاستقرار العامل في «له أجر» أي: استقر له أجر في ذلك اليوم.(18/467)
الثاني: أنه مضمر، أي: اذكر، فيكون مفعولاً به.
الثالث: أنهم يُؤجَرُون «يوم ترى» فهو ظرف على أصله.
الرابع: أن العامل فيه «يسعى» أي: يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله.
الخامس: أن العامل فيه «فيُضَاعفه» . قالهما أبو البقاء.
قوله: «يَسْعَى» حال؛ لأن الرُّؤية بصرية، وهذا إذا لم تجعله عاملاً في «يوم» ، و «بين أيديهم» ظرف للسعي، ويجوز أن يكون حالاً من «نورهم» .
قوله: «وبأيمانهم» ، أي: وفي جهة أيمانهم.
وهذه قراءة العامة، أعني بفتح الهمزة جمع يمين.
وقيل: الباء بمعنى «عن» أي: عن جميع جهاتهم، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات.
وقرأ أبو حيوة وسهل بن شعيب: بكسرها.
وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله، والباء سببية، أي: يسعى كائناً وثابتاً بسبب أيمانهم.
وقال أبو البقاء: تقديره: وبأيمانهم استحقُّوه، أو بأيمانهم يقال لهم: بُشْرَاكُم.
فصل في المراد بهذا اليوم
المراد من هذا يوم المُحاسبة.
واختلفوا في هذا النور.
فقال الحسن: هو الضياء الذي يمرون فيه «بين أيديهم» أي: قدَّامهم.
«وبأيمانهم» ، قال الفرَّاء: «الباء» بمعنى «في» أي: في أيمانهم، أو بمعنى: «عن أيمانهم» .
وقال الضحاك: النور هُداهم، وبأيمانهم كتبهم، واختاره الطبري.
أي: يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم، ف «الباء» على هذا بمعنى «في» ، ويجوز على هذا أن يوقف على «بين أيديهم» ولا يوقف إذا كانت بمعنى «عن» .(18/468)
وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة: «وبإيمانهم» بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكُفر، وعطف ما ليس بظرف على الظَّرف لأن معنى الظرف الحال، وهو متعلق بمحذوف.
والمعنى: يسعى كائناً بين أيديهم، وكائناً بأيمانهم.
وقيل: أراد بالنور: القرآن.
وعن ابن مسعود: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنَّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله، فيطفأ مرة ويوقد أخرى» .
قال الحسن: ليَسْتَضيئُوا به على الصِّراط.
وقال مقاتل: ليكون لهم دليلاً إلى الجنَّة.
قوله: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ} .
«بُشْرَاكم» مبتدأ، و «اليوم» ظرف، و «جنَّات» خبره على حذف مضاف أي: دخول جنَّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مُقدَّر، وهو العامل في الظرف، يقال لهم: بُشراكم اليوم دخول جنَّات.
قال القرطبي: «ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف؛ لأن البُشْرَى حدث، والجنة عين، فلا تكون هي هي» .
وقال مكي: وأجاز الفراء نصب «جنَّات» على الحال، ويكون «اليوم» خبر «بشراكم» قال: «وكون» جنَّات «حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فعل، وأجاز أن يكون» بُشْرَاكم «في موضع نصب على» يبشرونهم بالبُشْرَى «، وينصب» جنات «بالبشرى وكله بعيد، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم» . انتهى.
وعجيب من الفرَّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل، ولا يجوز صناعة، كيف تكون جنات حالاً، وماذا صاحب الحال؟ .(18/469)
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الدخول المحذوف، التقدير: بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها.
قال القرطبي: «ولا تكون الحال من» بشراكم «لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال: يبشرون خالدين فيها، ويجوز أن يكون الظَّرف الذي هو» اليوم «خبراً عن» بشراكم «، و» جنات «بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم، و» خالدين «حال حسب ما تقدم» .
فصل في العامل في قوله: «خالدين»
قال شهاب الدِّين: «خالدين» نصب على الحال، والعامل فيها المضاف محذوف، إذ التقدير: بُشْرَاكم دخولكم جنات خالدين فيها، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب، [وأضيف المصدر لمفعوله، فصار دخول جنات] ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب، ولا يجوز أن يكون «بشراكم» هو العامل فيها؛ لأنه مصدر، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته، فيلزم الفصل بأجنبي، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال، فإنه قال: «خالدين» نصب على الحال من الكاف والميم، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون «بشراكم» هو العامل، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله.
فصل في كون الفاسق مؤمناً أم لا
قال ابن الخطيب: تقدم في الكلام البشارة عند قوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] . وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
قال الكعبي: هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن؛ لأنه لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنَّة؛ [ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن] .
أجاب ابن الخطيب: [بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة] ، لأنه إما أن يدخل النار، أو أنه ممن دخلها، لكنه سيخرج منها، وسيدخل الجنة، ويبقى فيها أبد الآباد، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة، فسقط الاستدلال.(18/470)
قوله: «ذلك الفوز» هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنَّات المخلدة.
قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات} .
العامل في «يوم» «ذلك الفوز العظيم» .
وقيل: «هو بدل من اليوم الأول» .
وقال ابن الخطيب منصوب ب «اذْكر» مقدًّرا.
واعلم أنه لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين، فقال: يوم يقول.
قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} . «اللام» للتبليغ.
و {انظرونا نقتبس من نوركم} قراءة العامة: «انْظُرونَا أمر من النَّظر» .
وحمزة: «أنْظِرُونا» بقطع الهمزة، وكسر الظَّاء من الإنظار بمعنى الانتظار.
وبها قرأ الأعمش، ويحيى بن وثَّاب، أي: انتظرونا لنلحق بكم، فنستضيء بنوركم.
والقراءة الأولى يجوز أن تكون بمعنى هذه، إذ يقال: نظره بمعنى انتظره، وذلك أنَّه يسرع بالخواص على نُجُب إلى الجنة، فيقول المنافقون: انتظرونا لأنَّا مُشَاة لا نستطيع لحوقكم، ويجوز أن يكون من النظر وهو الإبصار؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيضيء لهم المكان، وهذا أليق بقوله: {نقتبس من نوركم} . قال معناه الزمخشري.
إلاَّ أن أبا حيان قال: إن النَّظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشِّعر، إنما يتعدى ب «إلى» .
قوله: {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي: نستضيء من نوركم.
و «القَبَس» : الشعلة من النار أو السِّراج.
قال ابن عبَّاس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة.(18/471)
قال الماوردي: أظنّها بعد فصل القضاء، ثم يعطون نوراً يمشون فيه.
قال المفسّرون: يعطي الله كل أحد يوم القيامة نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين [نوراً خديعة لهم، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .
وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة] دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه. قاله ابن عباس.
وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.
وقال الكلبي: بل يستضيء المنافق بنور المؤمنين، [فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قول المؤمنين] : {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة، فإنهم لا يبصرون مواضع أقدامهم، قالوا للمؤمنين: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} . قيل: ارجعُوا «وراءكم» ، أي: إلى المواضع التي أخذنا منها النور، فاطلبوا هناك نوراً لأنفسكم، فإنكم لا تقتبسون من نورنا، فلما رجعوا وانعزلوا في طلبِ النور «ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ» .
وقيل: معناه هلاَّ طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا؟ .
قوله: «وراءكم» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب ب «ارجعوا» على معنى ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور، فالتمسوا هناك ممن يقتبس، أو ارجعوا إلى الدُّنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه، وهو الإيمان، أو يكون معناه: فارجعوا خائبين وتنحّوا عنَّا فالتمسوا نوراً آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور.
والثاني: أن «وَرَاءكُم» اسم للفعل فيه ضمير فاعل، أي: ارجعوا «رجوعاً» قاله أبو البقاء.
ومنع أن يكون ظرفاً ل «ارجعوا» .
قال: لقلّة فائدته؛ لأن الرُّجوع لا يكون إلاَّ إلى وراء.
قال شهاب الدين: «وهذا فاسد؛ لأن الفائدة جليلة كما تقدم شرحها» .(18/472)
قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} .
العامة على بنائه للمفعول، والقائم مقام الفاعل يجوز أن يكون «بِسُورٍ» وهو الظاهر، وأن يكون الظرف.
وقال مكي: «الباء» مزيدة، أي: ضرب سور. ثم قال: «والباء متعلقة بالمصدر أي: ضرباً بسور» .
وهذا متناقض، إلاَّ أن يكون قد غلط عليه من النساخ، والأصل: والباء متعلقة بالمصدر، والقائم مقام الفاعل الظرف، وعلى الجملة هو ضعيف، والسور: البناء المحيط وتقدم اشتقاقه في أول البقرة.
قوله: «لَهُ بابٌ» . مبتدأ وخبر في موضع جرّ صفة ل «سُور» .
وقوله: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} هذه الجملة يجوز أن تكون في موضع جر صفة ثانية ل «سور» ، ويجوز أن تكون في موضع رفع صفة ل «باب» ، وهو أولى لقربه، والضمير إنما يعود إلى الأقرب إلا بقرينة.
وقرأ زيد بن علي، وعمرو بن عبيد: «فضرب» مبنيًّا للفاعل، وهو الله أو الملك.
فصل في المراد بالسور
«السور» : حاجز بين الجنة والنار.
قال القرطبي: «روي أن ذلك السُّور ب» بيت المقدس «عند موضع يعرف ب» وادي جهنم «فيه الرَّحْمَة يعني: ما يَلِي منه المؤمنين، وظاهره من قبله العذاب يعني: ما يلي المنافقين» .
قال كعب الأحبار رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هو الباب الذي ب «بيت المقدس» المعروف ب «باب الرحمة» .
وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور ب «بيت المقدس» الشرقي، باطنه فيه المسجد، وظاهره من قبله العذاب، يعني: جهنم ونحوه عن ابن عباس.(18/473)
وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصَّامت على سُور ب «بيت المقدس» الشرقي فبكى، وقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رأى جهنم.
وقال قتادة: هو حائط بين الجنَّة والنار، {باطنه فيه الرحمة} يعني: الجنة، {وظاهره من قبله العذاب} يعني: جهنم.
وقال مجاهد: إنَّه حجاب. كما في «الأعراف» وقد مضى القول فيه.
وقد قيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي هو في ظاهره ظلمة المنافقين.
وقيل: السُّور عبارة عن منع المنافقين عن طلبِ المؤمنين.(18/474)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله: {يُنَادُونَهُمْ} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «بينهم» . قاله أبو البقاء.
وهو ضعيف لمجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.(18/474)
وأن تكون مستأنفة، وهو الظاهر.
وقوله: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، وأن يكون منصوباً بقول مقدّر.
فصل في معنى الآية
والمعنى: ينادي المنافقون المؤمنين {ألم نَكُنْ معكم} يعني: في الدنيا نصلّي مثل ما تصلّون، ونغزو مثل ما تَغْزُون، ونفعل مثل ما تفعلون؟ .
«قالوا: بَلَى» ، أي: يقول المؤمنون: بلى، قد كُنتم معنا في الظَّاهر، {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: استعملتموها في الفتنة.
وقال مجاهد: أهلَكْتمُوهَا بالنِّفاق.
وقيل: بالمعاصي. قاله أبو سنان. وقال أبو نمير الهمداني: بالشهوات واللَّذَّات.
وقوله: «وتربّصتم» أي: بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموت، وبالمؤمنين الدَّوائر.
وقيل: تربَّصتم بالتوبة.
«وارْتَبْتُمْ» أي: شككتم في التوحيد، أو النبوة، أو البعث.
«وغرَّتكم الأماني» أي: الأباطيل.
وقيل: طول الأمل، وهو ما كانوا يتمنّونه من ضعف المؤمنين، ونزول الدَّوائر بهم.
وقال قتادة: الأماني هنا خدعُ الشيطان.
وقيل: الدنيا، قاله عبد الله بن عباس.
وقال أبو سنان: هو قولهم: «سيغفر لنا» .
وقال بلال بن سَعْدٍ: ذكرك حسناتك، [ونسيانك] سيئاتك غِرَّةً {حتَّى جاء أمر الله} يعني: الموت.
وقيل: نُصْرة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال قتادة: إلقاؤهم في النَّار.
قوله: {وَغَرَّكُم بالله الغرور} .(18/475)
قرأ العامة: «الغَرُور» بفتح الغين، وهو صفة على «فعول» ، والمراد به: الشَّيْطان، أي: خدعكم بالله الشيطان.
وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حَرْب: «الغُرُور» بالضم، وهو مصدر، والمراد به الأباطيل.
«عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطَّ لنا خُطُوطاً، وخط منها خطًّا ناحية، فقال:» أتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مِثْلُ ابْنِ آدَمَ ومِثْلُ التمنِّي، وتِلْكَ الخُطُوطُ الآمَالُ، بَيْنَمَا يتمنَّى إذْ جَاءَهُ المَوْتُ «» .
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «خطَّ لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطًّا مربَّعاً وخط في وسطه خطًّا، وجعله خارجاً منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً، فقال:» هَذَا ابْنُ آدَمَ وهَذَا أجَلُهُ يُحيطُ بِهِ، وهذا أمَلُهُ قَدْ جَاوَزَ أجَلَهُ، وهذه الخُطُوطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ فإنْ أخْطَأهُ هذا نَهَشَهُ هذا «» .
قوله: «فَاليَوْمَ» منصوب ب «يؤخذ» ، ولا يبالي ب «لا» النافية، وهو قول الجمهور وقد تقدم آخر «الفاتحة» ثلاثة أقوال. وقرأ ابن عامر: «تؤخذ» بالتأنيث للفظ الفدية.
والباقُون: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي.
فصل في المراد بالفدية
قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، {ولا من الذين كفروا} أي: أيأسهم من النَّجاة. والمراد بالفدية قيل: لا يقبل منكم إيمان، ولا توبة؛ لأن التكليف قد زال وحصل الإلحاد.
وقيل: لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] ، والفدية: ما يفتدى به، فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال.(18/476)
قال ابن الخطيب: وهذا يدلُّ على أن قبُول التَّوبة غير واجب عقلاً على ما يقوله المعتزلة؛ لأنه - تعالى - بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً، والتوبة فدية، فتكون الآية دالة على أنَّ التوبة غير مقبولة أصلاً، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً.
قوله: {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} .
عطف الكافر على المنافق، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيقتضي أن يكون المنافق كافراً؟ .
وأجيب بأن المراد منه الذين أظهروا الكفر، وإلاَّ فالمنافق كافر.
قوله: {مَأْوَاكُمُ النار} أي: هي مصيركم.
وقوله: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} يجوز أن يكون مصدراً أي: ولايتكم، أي: ذات ولايتكم.
قال القرطبي: «تملك أمرهم، بمعنى أن الله - تعالى - يركب فيها الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكُفَّار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .
ويجوز أن يكون مكاناً، أي: مكان ولايتكم، وأن يكون بمعنى أولى بكم، كقوله تعالى: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} قاله الكلبي، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة» .
قال ابن الخطيب: وهذا الذي قالوه معنى، وليس تفسيراً للفظ، لأنه لو كان «مولى وأولى» بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، وكان يجب أن يصحّ أن يقال: هذا أولى فلان، كما يقال: مولى فلان، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنًى، وليس بتفسير، وإنما نبَّهنا على هذه الدقيقة؛ لأن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فعليٌّ مَولاهُ» قال: أحد معاني «مولى» أنه أولى. واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية، بأن «مولى» معناه «أولى» إذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه؛ لأن ما(18/477)
عداه إمَّا بَيِّنُ الثبوت ككونه ابن العم والنَّاصر، أو بَيِّنُ الانتفاء كالمعتِق، والمعتَق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى الثاني كذباً.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وأما نحن فقد بيَّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال به.
وفي الآية وجه آخر، وهو أن معنى قوله: «هي مولاكم» أي: لا مولى لكم؛ لأن من كانت النار مولاه، فلا مولى له، كما يقال: ناصره الخذلان ومعينه البكاء، أي: لا ناصر له ولا معين، وهذا متأكد بقوله تعالى:
{وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] ، ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل} [الكهف: 29] .
وقوله: {وَبِئْسَ المصير} أي: هي، ومعناه: ساءت مرجعاً ومصيراً.
قوله: {أَلَمْ يَأْنِ} .
قرأ العامة: «ألم» . وقرأ الحسن وأبو السمال: «ألمَّا» .
وأصلها «ألم» زيدت عليها «ما» ، فهي نفي كقول القائل: قد كان كذا، و «لم» نفي، كقوله: قد كان كذا.
وقوله: {أَن تَخْشَعَ} . فاعل «يأن» ، أي: ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحينُ؛ قال الشاعر: [الطويل]
4720 - ألَمْ يَأنِ لِي يا قَلْبُ أنْ أتْرُكَ الجَهْلاَ ... وأنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُبِيْنُ لنَا عَقْلا
وماضيه «أنى» بالقصر «يأني» .
ويقال: «آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يَئِينُ أيْناً» أي: مثل «أنى لَكَ» وهو مقلوب منه.
وأنشد ابن السِّكِّيت: [الطويل]
4721 - ألَمَّا يَئِنْ لِي أنْ تُجَلَّى عَمايَتِي ... وأقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أنَى لِيَا
فجمع بين اللغتين.
وقرأ العامة: «يأن» مضارع «أنى» أي: حان وقرب، مثل رمى يرمي.(18/478)
والحسن: «يئن» مضارع «آن» بمعنى «حان» أيضاً، مثل: «باع يبيع» .
و «اللام» للتبيين. قاله أبو البقاء، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: أعني للذين.
فصل في نزول هذه الآية
في «صحيح مسلم» ، عن ابن مسعُود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} إلا أربع سنين.
قال الخليل: العِتَاب مخاطبة الإذلال، ومذاكرة الموجدة. تقول: عاتبت معاتبة.
«أن تخْشعَ» ، أي: تذل وتلين {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} .
«وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ترفهوا ب» المدينة «فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إنَّ الله يَسْتَبْطِئكُمُ بالخُشُوعِ «فقالوا عند ذلك: خشعنا» .
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة، فنزلت: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره، وأنفع لهم، فكفُّوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول، فنزلت: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} [الآية، فعلى هذا التأويل يكون {فالذينءَامَنُواْ} في العلانية باللسان] .
وقال السُّدي وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} بالظَّاهر وأسرُّوا الكفر {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} .
وقيل: نزلت في المؤمنين.
قال سعد: قيل: يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا، فنزل قوله: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23](18/479)
فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} الآية.
وقيل: هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد - عليهم الصلاة والسلام - لأنه قال عقيبه: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} [الحديد: 19] أي: ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألاَّ يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم، فقَسَتْ قلوبهم.
قوله: {وَمَا نَزَلَ} .
قرأ نافع وحفص: «نَزَل» مخففاً مبنيًّا للفاعل.
وباقي السبعة كذلك إلاَّ أنها مشددة.
والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية: «ما نزّل» مشدداً مبنيًّا للمفعول.
وعبد الله: «أنْزَل» مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى.
و «ما» في قراءة «ما نزل» مخففاً، يتعين أن تكون اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى «الذي» .
فإن قلت: فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلاَّ يخلو الفعل من مرفوع؟ فالجواب: أن الجار وهو قوله: «من الحقّ» يقوم مقام الفاعل.
فصل في معنى الآية
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد بذكر الله، وما نزل من الحق هو القرآن؛ لأنه جامع للوصفين الذِّكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقاً، و {ما نزل من الحقّ} هو القرآن، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى، فأما حصولها عند سماع القرآن، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله.(18/480)
قوله: {وَلاَ يَكُونُواْ} .
قرأ العامة: بالغيبة جرياً على ما تقدم.
وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ب «التاء» من فوق على سبيل الالتفات.
قال القرطبي: وهي رواية رويس عن يعقوب، وهي قراءة عيسى، وابن إسحاق.
ثم هذا يحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على «يخشع» كما في قراءة الغيبة، وأن يكون نهياً، فتكون «لا» ناهية والفعل مجزوم بها.
ويجوز أن يكون نهياً في قراءة الغيبة أيضاً، ويكون ذلك انتقالاً إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو «لا يَقُمْ زيد» .
قوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} .
قرأ العامة: بتخفيف الدال بمعنى الغاية، كقولك: أمد فلان، أي: غايته.
وقرأ ابن كثير في رواية بتشديدها؛ وهو الزمن الطَّويل.
فصل في معنى الآية
معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل، فطالت الأزمان لهم.
قال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمدُ قست قلوبهم، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتَّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، فإن أبى قتلناه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقةٍ، وجعلها في عنقه، ثم لبس عليه ثياباً وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره وقال: آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ملة] ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن؛ قال عبد الله: ومن يَعِشْ منكم(18/481)
فسيرى منكراً، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كارهٌ.
وقال مقاتل: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمدُ، واستبطئوا بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني: الذين ابتدعوا الرَّهبانية أصحاب الصوامع.
وقيل: من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه، ويخالف من يعلم.
[وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى، وقال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعط الله.
وقيل:] طالت أعمارهم في الغفلة، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب.
[وقيل غير ذلك.
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين،] وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفِسْقِ في آخر الأمر.
قوله تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} .
أي: يحييها بالمطر.
وقال صالح المري: يلين القلوب بعد قسوتها.
وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدلِ بعد الجورِ.
وقيل: المعنى: وكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد الكفر والضلالة.
وقيل: كذلك يحيي الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه، وبين الفاسق قلبه.
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه يحيي الموتى.(18/482)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قوله تعالى: {إِنَّ المصدقين والمصدقات} .
خفف الصاد منهما ابن كثير، وثقلها باقي السَّبعة.
فقراءة ابن كثير من التصديق، أي: صدقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما جاء به، كقوله: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، وقراءة الباقين من الصدقة وهو مناسب لقوله: «وأقرضوا» والأصل: المتصدّقين والمتصدّقات، فأدغم، وبها قرأ أبي.
وقد يرجح الأول بأن الإقْرَاض مُغنٍ عن ذكر الصدقة.
قوله: «وأقْرَضُوا» فيه ثلاثة أوجه:
[أحدها] : أنه معطوف على اسم الفاعل في «المصدّقين» ؛ لأنه لما وقع صلة ل «ال» حل محل الفعل، كأنه قيل: إن الذين صدقوا وأقرضوا، وعليه جمهور المعربين، وإليه ذهب الفارسي، والزمخشري، وأبو البقاء.
وهو فاسد؛ لأنه يلزم الفصل بين أبعاض الصِّلة بأجنبي، ألا ترى أنَّ «المصدقات» عطف على «المصدقين» قبل تمام الصِّلة، ولا يجوز أن يكون عطفاً على «المصدقات» لتغايُر الضمائر تذكيراً وتأنيثاً.
الثاني: أنه معترض بين اسم «إن» وخبرها، وهو «يضاعف» .
قال أبو البقاء: «وإنما قيل ذلك لئلاَّ يعطف الماضي على اسم الفاعل» .
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا المانع؛ لأن اسم الفاعل متى وقع صلة ل» ال «صلح للأزمنة الثلاثة، ولو منع بما ذكرته من الفصل بأجنبي لأصاب، ولكن خفي عليه كما خفي على الفارسي والزمخشري» .(18/483)
الثالث: أنه صلةٌ لموصول محذوف لدلالة الأول عليه، كأنه قيل: «الذين أقرضوا» ؛ كقوله: [الوافر]
4722 - أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّه مِنْكُمْ ... ويَنْصُرهُ ويمْدَحهُ سَوَاءُ؟
أي: ومن ينصره، واختاره أبو حيان.
قال ابن الخطيب: وفي الآية إشكال، وهو أن عطفه الفعل على الاسم قبيحٌ، فما فائدة التزامه هنا؟ .
وأجاب بأن الزمخشري قال: «وأقرضوا» معطوف على معنى الفعل في التصديق؛ لأن «اللام» بمعنى «الذين» ، واسم الفاعل بمعنى «صدقوا وأقرضوا» .
قال: وهذا لا يزيل الإشكال، فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ [إلى هذا اللفظ] .
والذي عندي فيه أن الألف واللام في «المصدّقين والمصدّقات» للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذ الموصف، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة، وهو القرضُ، ثم ذكر الخبر بعد ذلك فقال: «يُضَاعَفُ لَهُمْ» .
فقوله: «وأقرضوا» ؛ كقوله: [السريع]
4723 - إنَّ الثَّمَانينَ وبُلِّغْتَهَا..... ... ... ... ... ... . .
قوله: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} في القائم مقام الفاعل وجهان:
أظهرهما: أنه الجار بعده.
والثاني: أنه ضمير التصديق، ولا بد من حذف مضاف، أي: ثواب التصديق.
وقرأ الأعمش؛ «يُضَاعِفُهُ» بكسر العين، وزيادة هاء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: «يُضَعَّفُ» بتشديد العين وفتحها.
{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني: الجنة.
قوله: {والذين آمَنُواْ} مبتدأ، و «أولئك» مبتدأ ثانٍ، و «هم» يجوز أن يكون مبتدأ ثالثاً، و «الصديقون» خبره، وهو مع خبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» فصلاً، و «أولئك» وخبره خبر الأول.(18/484)
«والصِّديق» : هو الكثير الصِّدق.
وقال مجاهد: من آمن بالله ورسوله فهو صديق، وتلا هذه الآية.
وقال الضحاك: هم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب، ألحقه بهم لما عرف من صدق نيته.
قوله: {والشهدآء} . يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على ما قبله، ويكون الوقف على «الشهداء» تامًّا، أخبر عن «الذين آمنوا» أنهم صديقون شهداء.
فإن قيل: الشهداء مخصوصون بأوصاف أخر زائدة على ذلك كالتسعة المذكورين.
أجيب: بأن تخصيصهم بالذكر لشرفهم على غيرهم لا للحصر.
والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره وجهان:
أحدهما: أنه الظرف بعده.
والثاني: أنه قوله «ولهم أجرهم» ، إما الجملة، وإما الجار وحده، والمرفوع فاعل به، والوقف لا يخفى على ما ذكرناه من الإعراب.
والصِّدِّيق: مثال مبالغة، ولا يجيء إلا من ثلاثي غالباً.
قال بعضهم: وقد جاء «مِسِّيك» من «أمسك» ، وهو غلط؛ لأنه يقال: «مسك» ثلاثياً، ف «مسّيك» منه.
فصل في المراد بالصديقين والشهداء
قال مجاهد وزيد بن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون، وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية.
قال القشيري: قال الله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} .
ف «الصديقون» هم الذين يلون الأنبياء.(18/485)
و «الشهداء» هم الذين يلون الصديقين و «الصالحون» يلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل.
والمعنى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء، ويكون المعني بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، أنهم شهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم، والمراد أنهم عدول في الآخرة الذين تقبل شهاداتهم.
وقال الحسن: كل مؤمن فإنه شهيد كرامة.
وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] .
وقال ابن جرير: «الشهداء» هم الذين استشهدوا في سبيل الله.
«وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» ما تَعُدُّون الشُّهداء فيْكُمْ «؟ قالوا: المقتول، فقال:» إنَّ شُهَداء أمَّتِي إذاً لقَلِيلٌ «» .
وعلى هذا يكون منقطعاً عما قبله، وتكون «الواو» في «والشهداء» واو الاستئناف، وهذا مروي عن ابن عباس ومسروق.
وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} مما عملوا من العمل الصالح. و «نورهم» على الصراط.
ثم لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين، فقال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب الجحيم} . ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدلّ على حقارة الدنيا، وكمال حال الآخرة، فقال:
{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .
«ما» صلة، أي: حياة هذه الدار لعبٌ باطل لا حاصل له، وهو فرح ثم ينقضي، وزينة ومنظر تتزيَّنُون به.
قوله: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} .
العامة على تنوين «تَفَاخُر» موصوف بالظرف، أو عامل فيه.
والسلمي أضافه إليه، أي: يفخر به بعضكم على بعض.(18/486)
قال المفسرون: «اللّعب» : الباطل، «واللَّهْو» : الفرح.
وقال قتادة: «لعب ولهو» : أكل وشرب.
وقال مجاهد: كل لعب لهو.
وقيل: «اللعب» : ما رغب في الدنيا، «واللهو» : ما ألْهى على الآخرة.
قوله: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} .
قال ابن عبَّاس: يجمع المال في سخطِ الله، ويباهي به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، وكان من عادة الجاهلية أن يتكاثروا بالأموال والأولاد.
قال بعض المتأخرين: «لعب» كلعب الصبيان، «ولهو» كلهو الفتيان «وزينة» كزينة النِّسْوان «وتفاخُر» كتفاخُر الأقران «وتَكاثُر» كتكاثُر الدُّهقان.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ل «عمار» : لا تحزن على الدُّنيا، فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكُوح، فأحسن طعامها العسل، وهو بزقةُ ذبابة، وأكثر شرابها الماء، ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الدِّيباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المِسْك وهو دم فأرة، وأفضل مركوبها الفرس، وعليها يقتل الرِّجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مَبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها.
ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً، فقال: «كمثل غيثٍ» أي: مطر {أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} .
قال ابن مسعود: المراد ب «الكُفَّار» هنا: الزُّرَّاع.
وقال الأزهري: والعرب تقول للزَّارع: كافر؛ لأنه يكفرُ البَذْر [المبذور في الأرض] بتراب الأرض، أي: يغطّيه.
والمعنى: أن الحياة الدُّنيا كالزَّرع يعجب النَّاظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن.
وقيل: المراد بالكُفَّار هنا هم الكُفَّار بالله، وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين.(18/487)
وقوله: «نَبَاتُهُ» أي: ما ينبت من ذلك الغَيْث.
قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} .
يجوز أن يكون في موضع نصب حالاً من الضمير في «لعب» ؛ لأنه بمعنى الوصف، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ذلك كمثل.
وجوز ابن عطية: أن يكون في موضع رفع صفة لما تقدم، ولم يبينه، وقد بينه مكي، فقال: نعت ل «تفاخر» . وفيه نظر لتخصيصه له من بين ما تقدم، وجوز أن يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا.
وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجفّ بعد خضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: متغيراً عما كان عليه من النَّضارة.
وقرىء: «مُصْفَارًّا» من «اصْفَارّ» وهو أبلغ من «اصْفَرّ» .
قوله: «وفي الآخِرةِ» خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، أخبر بأن في الآخرة عذاباً شديداً، ومغفرة منه ورضواناً، وهذا معنى حسن، وهو أنه قابل العذاب بشيئين: بالمغفرة والرضوان، فهو من باب لن يغلب عُسْرٌ يُسرينِ.
قال القرطبي: {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، أي: للكافر، والوقف عليه حسن، ويبتدأ {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ} أي: للمؤمنين.
وقال الفراء: {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة} تقديره: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة، فلا يوقف على «شديد» .
قوله: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} .
وهذا تأكيد لما سبق، أي: تغرّ الكافر، فأما المؤمن فإن الدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة.
وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيداً في العمل للدنيا، وترغيباً للعمل في الآخرة.
وقال سعيد بن جبير: الدُّنيا متاع الغرور إذا ألْهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.(18/488)
قوله تعالى: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية.
أي: سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم.
وقيل: سارعوا بالتَّوبةِ؛ لأنها تؤدِّي إلى المغفرة. قاله الكلبي.
وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام.
وقيل: الصف الأول.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الأمر على الفور
احتج القائلون بأن الأمر على الفور بهذه الآية؛ لأنها دلت على وجوب المسارعة، فوجب أن يكون التراخي محظوراً.
قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} .
{عَرْضُهَا كَعَرْضِ} : مبتدأ وخبر، والجملة صفة، وكذلك «أعِدَّتْ» ، ويجوز أن تكون «أعدت» مستأنفة.
فصل في عرض الجنة
قال مقاتل: إنَّ السَّموات السَّبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح، وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنَّات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله؛ قال: [الطويل]
4724 - كَأنَّ بِلادَ اللَّهِ وهْيَ عرِيضةٌ ... على الخَائفِ المطلُوبِ كفَّةُ حَابِلِ
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أنَّ لكل واحد من المطيعين جنَّة بهذه الصِّفة.(18/489)
وقال السُّدي: إنه - تعالى - شبّه عرض الجنة بعرض السَّموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طوله أزيد من عرضه.
وقيل: هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السموات والأرض.
قاله الزجاج، وهو اختيار ابن عبَّاس.
وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل «الحيرة» لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أرأيت قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} فأيْنَ النَّارُ؟ قال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولَّى وجاء النهار، فأين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله.
قوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} شرط الإيمان لا غير، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطَّاعات، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء، فإنه باقٍ على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء، سواء أطاع أم عصى.
فإن قيل: فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العُصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ فالجواب: قلنا: نقطع بحصول الجنَّة، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة، ثم نقلوا إلى الجنة، وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنَّة معدة لهم.
فإن قيل: فالمرتد قد آمن بالله، فوجب إلاّ يدخل تحت هذه الآية.
قلنا: فالجواب خص من العموم، فبقي العموم حجة فيما عداه.
فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا؟
احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة.
قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين:
الأول: أن قوله تعالى {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] .(18/490)
الثاني: أن المخلوقة الآن في السماء السَّابعة، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات والأرض، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بُدَّ من التأويل، وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه - تعالى - لما كان قادراً لا يصحّ المنع عليه، وإذا كان حكيماً لا يصحّ الخلف في وعده، ثم إنه - تعالى - وعد على الطَّاعة بالجنة، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع، كما يقول المرء لصاحبه: أعددت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها.
والثاني: أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم، كقوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] أي: إذا كان يوم القيامة نادى.
والجواب: أن قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] عام.
وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] مع قوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد: 35] خاص، والخاصّ مقدّم على العام.
وأما قولهم: إنَّ الجنَّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في صفة الجنة: «سَقْفُهَا عرْشُ الرَّحْمنِ» فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه، أليس أن العرش أعظم المخلوقات، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.
قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي: أن الجنة لا تنال إلاَّ بفضل الله ورحمته، {والله ذُو الفضل العظيم} .(18/491)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
قوله: {مِن مُّصِيبَةٍ} فاعل «أصاب» ، و «من» مزيدة لوجود الشرطين، وذكر فعلها؛ لأن التأنيث مجازي(18/491)
قوله: {فِي الأرض} يجوز أن يتعلق ب «أصاب» ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة» ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه، وبالرفع نظراً إلى محله، إذ هو فاعل.
والمصيبة غلبت في الشَّر.
وقيل: المراد بها جميع الحوادث من خير وشر، وعلى الأول يقال: لم ذكرت دون الخير؟
وأجيب: بأنه إنما خصها بالذكر؛ لأنها أهمّ على البشر.
قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} حال من «مصيبة» ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل، أو بالصفة، أي: إلا مكتوبة.
قوله: «مِنْ قَبْلِ» نعت ل «كتابٍ» ، ويجوز أن يتعلق به. قاله أبو البقاء. لأنه هنا اسم للمكتوب، وليس بمصدر.
والضمير في «نَبْرأها» الظاهر عوده على المصيبة.
وقيل: على الأنفس.
وقيل: على الأرض، أي على جميع ذلك. قاله المهدوي، وهو حسن.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال الزجاج: إنه - تعالى - لما قال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الحديد: 21] وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره، فقال: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} .
والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر، وقلّة النبات، ونقص الثِّمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوائح.
وأما المصيبة في الأنفس فقيل: هي الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود عليها.
وقيل: ضيق المعاش وقيل: الخير والشَّر أجمع، لقوله بعد ذلك: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} .
وقوله: {إلا في كتابٍ} يعني: مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ.
وقوله: {من قبل أن نَبْرَأها} .(18/492)
قال ابن عباس: من قبل أن نخلق المصيبة.
وقال سعيد بن جبير: من قبل أن نخلق الأرض والنفس.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: خلق ذلك، وحفظه على الله يسير أي: هيّن.
قال الربيع بن صالح: لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بَكَيْتُ، قال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه، قال: فلا تَبْكِ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} الآية.
قال ابن عباس: لما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه، وقالوا: قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} الآية، ويؤيد هذا قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ» .
فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها
قيل: إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال، وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر، ثم أدبهم فقال: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} أي: حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ» ، ثمَّ قرأ: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أي من الدنيا. قاله ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(18/493)
فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ
قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ.
قال المتكلمون: وإنما كتب ذلك لوجوه:
أحدها: ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها.
وثانيها: ليعرفوا حكمة الله، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم.
وثالثها: ليحذروا من أمثال تلك المعاصي.
ورابعها: ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات، وعصمته إياهم عن المعاصي.
فصل في كيفية حدوث الأحداث
قال ابن الخطيب: إن الحكماء قالوا: إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً، والمقسمات أمراً، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات، وهذا هو المراد من قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] .
فصل في مصائب الأنفس
قوله تعالى: {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} يتناول جميع مصائب الأنفس، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا، ولم يقل: جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار؛ لأنها غير متناهية، فإثباتها في الكتاب محال.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل «هشام بن الحكم» .(18/494)
قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ} . هذه «اللام» متعلقة بقوله «ما أصَابَ» ، أي: أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به، و «كي» هنا ناصبة بنفسها، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها.
وقرأ أبو عمرو: «بما أتاكم» مقصوراً من الإتيان، أي: بما جاءكم.
قال أبو علي الفارسي: لأن «أتاكم» معادل لقوله «فَاتَكُم» ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله: «فاتكم» ، فكذلك الفعل الثاني في قوله: «بما أتاكم» .
وقرأ باقي السبعة: «آتاكم» ممدوداً من «الإيتاء» ، أي: بما أعطاكم الله إياه.
والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل، و «الهاء» محذوفة من الصِّلة، أي: بما آتاكموه.
وقرأ عبد الله: «بما أوتيتم» .
فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر
قال ابن عبَّاس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز.
وقال جعفر بن محمد: يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر لا يردّه عليك الفَوْت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
وقيل ل «بزرجمهر» : أيها الحكيم، ما لك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آتٍ؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ.(18/495)
وقوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: متكبر بما أوتي من الدنيا.
«فخور» به على النَّاس، قيل: الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار.
فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر
قال ابن الخطيب: المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة، فهم مسلمون في العلم والجبر، فيلزمهم الجبر باعتبارهما.
والفلاسفة مذهبهم الجَبْر؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية.
والقدرية قالوا: بأن الحوادث اتفاقية، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر، سواء أقروا به أو أنكروه.
فصل في إرادة العبد الحزن والفرح
قالت المعتزلة: قوله: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن، وهو خلاف قول المجبرة؛ لأنه قال: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} والمحبة هي الإرادة.
وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة.
قوله: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} . تقدم نظيره في سورة «النساء» .
قال القرطبي: «الذين» في موضع خفض نعتاً للمختال.
وقال ابن الخطيب: بدل من قوله: «كل مُخْتَال» .
وقيل: رفع بالابتداء، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله.
والمعنى: الذين يبخلون فالله غني عنهم.
قيل: أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتبهم لئلا يؤمن به النَّاس، فتذهب مأكلتهم.
قاله السُّدي والكلبي.
فيكون «الذين» مبتدأ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .(18/496)
وقال سعيد بن جبير: «الذين يَبْخَلُون» يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بألاَّ يعلموا الناس شيئاً.
وقال زيد بن أسلم: إنه البُخْل بأداء حق الله تعالى.
وقال عبد الله بن عامر الأشعري: هو البخل بالصدقة والحقوق.
وقال طاوس: وهو البُخْل بما في يديه.
فصل في قراءات البخل
«بالبخل» . قرأ العامة: «بالبُخْل» بضم الباء وسكون الخاء.
وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي «بالبَخَل» بفتحتين، وهي لغة الأنصار.
وقرأ أبو العالية وابن السَّميفع: «بالبَخْل» بفتح الباء وإسكان الخاء.
وعن نصر بن عاصم: «البُخُل» - بضمتين - وكلها لغات مشهورة.
وقال قوم: الفرق بين البخل والسخاء من وجهين:
أحدهما: أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال، والسَّخي الذي يعطي بغير سؤال.
وتقدم الفرق بين البُخْل والشُّحِّ في آخر آل عمران.
قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ} أي: عن الإيمان {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .
قرأ نافع وابن عامر: {فإن الله الغني الحميد} بإسقاط «هو» ، وهو ساقط في مصاحف «المدينة» و «الشام» ، والباقون: بإثباته، وهو ثابت في مصاحفهم، فقد وافق كل مصحفه.
قال أبو علي الفارسي: من أثبت «هو» يحسن أن يكون فصلاً، ولا يحسن أن يكون ابتداء؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه.(18/497)
يعني أنه رجح فصليّته بحذفه في القراءة الأخرى، إذ لو كان مبتدأ لضعف حذفه لا سيما إذا صلح ما بعده أن يكون خبراً لما قبله.
ألا ترى أنك لو قلت: إن زيداً هو القائم يحسن حذف «هو» لصلاحية «القائم» خبراً، وهذا كما قالوا في الصلة: إنه يحذف العائد المرفوع بالابتداء بشروط:
منها: ألاَّ يكون ما بعده صالحاً للصِّلة نحو: «جاء الذي هو في الدَّار، وهو قائم أبوه» لعدم الدلالة.
إلا أن للمنازع أن ينازع أبا عليٍّ ويقول: لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى، وكم من قراءتين تغاير معناهما، كقراءتي: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}
[آل عمران: 36] إلا أن توافق القراءتين في معنى واحد أولى، هذا مما لا نزاع فيه.
ومن أثبت «هو» فعلى أن يكون فصلاً، ويجوز أن يكون مبتدأ، و «الغَنِيّ» خبره والجملة خبر «إن» .
قال ابن الخطيب: وقوله «الحميد» كأنه جواب من يقول: إذا كان الله عالماً بأنه يبخل، فلم أعطاه المال؟ .
فأجاب: بأنه محمود حيث فتح أبواب الرحمة مع تقصير العبدِ في الطاعة.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} .
يعني المعجزات البينة، والشرائع الظاهرة.
وقيل: الإخلاص لله - تعالى - في العبادة.
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم.
«والمِيزَانَ» ، قال ابن زيد: هو ما يُوزَنُ به، ويتعامل.
روي أن جبريل - عليه السلام - نزل بالميزان فدفعه إلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال: مُرْ قَوْمكَ يَزِنُوا بِهِ ليقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ، أي: بالعدل في معاملاتهم.
وقيل: أراد به العدل.
قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب: [الرجز]
4725 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ...(18/498)
ويدل على هذا قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] .
قوله: «مَعَهُمُ» حال مقدرة، أي: صائراً معهم، وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن الرسل لم ينزلوا، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول.
وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء، فالمعية متحققة.
قوله: {وَأَنزَلْنَا الحديد} .
روى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ اللَّهَ تعَالَى أنْزلَ أرْبَعَ بركاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ: الحَديْدَ والمَاءَ والنَّارَ والثَّلْجَ» .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل ثلاثة أشياء مع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الحَجَر الأسود وكان أشد بياضاً من الثَّلج، وعصا موسى، وكانت من آسِ الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السَّنْدَان، والكَلْبتَان، والميْقَعَة، وهي المِطْرقَة ذكره الماوردي.
وروى الثعلبي عن ابن عبَّاس قال: نزل آدم من الجنَّة، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السَّندان، والكلْبتَان، والمِيْقعَة، والمِطْرقَة والإبْرَة.
وحكاه القشيري قال: والمِيْقعَة: [ما يحدد به، يقال: وقعت الحديدة أقعها، أي حددتها.
وفي «الصحاح» ] : «المِيْقَعَة» الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصَّار التي يدقّ عليها، والمِطْرقَة، والمِسَنّ الطويل.
وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء.
{فيه بأس شديدٌ} أي: لإهراق الدِّماء، ولذلك نهي عن الفَصْد والحِجَامة يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدَّم.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ فِي يَوْمِ الثلاثاءِ ساعةً لا يُرَاقُ فِيْهَا الدَّمُ» .(18/499)
وقيل: «أنزلنا الحديد» أي: أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى:
{وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأنعام} [الزمر: 6] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء.
وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن، وعلمهم صنعته بوحيه.
وقوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} جملة حالة من «الحديد» ، والمراد بالحديد يعني: السلاج والجُنَّة.
وقيل: إن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: يعني جُنَّة.
وقيل: انتفاع النَّاس بالماعون: الحديد كالسِّكين والفأس ونحوه.
قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} . عطف على قوله: {لِيَقُومَ الناس} ، أي: لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس، وليعلم الله.
وقال أبو حيان: علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد.
والأول أظهر؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال.
قوله: «ورُسُلَهُ» عطف على مفعول «ينصره» ، أي: وينصر رسله.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على «من» لئلا يفصل به بين الجار، وهو «بالغيب» ، وبين ما يتعلق به وهو «ينصر» .
قال شهاب الدين: وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لولا هذا المانع، وليس كذلك؛ إذ يصير التقدير: وليعلم الله من ينصره بالغيب، وليعلم رسله، وهذا معنى لا يصح ألبتة، فلا حاجة إلى ذكر ذلك، و «بالغيب» حال وقد تقدم مثله أول «البقرة» .
فصل في معنى الآية
المعنى: وليعلم الله من ينصره، أي: أنزل الحديد ليعلم من ينصره، أو ليقوم الناس بالقسط؛ أي: أرسلنا رسلنا.
{وأنزلنا معهم الكتاب} وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب، أي: وهم لا يرونهم.(18/500)
{إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قوي في أخذه عزيز أي: منيع غالب.
وقيل: بالغيب أي: بالإخلاص.
فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله
احتج من قال بحدوث علم الله بقوله: «وليعلم الله» .
وأجيب: بأنه - تعالى - أراد بالعلم المعلوم، فكأنه - تعالى - قال: ولتقع نُصْرة الرسول ممن ينصره.
فصل في الرد على الجبرية
قال الجبائي: قوله: {لِيَقُومَ الناس بالقسط} يدل على أنه - تعالى - أنزل الميزان والحديد، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط، وأن ينصروا رسله، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك.
وأجيب: بأنه كيف يمكن أن يريد من الكُلِّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود، والجمع بين الضِّدين محال، والمحال غير المراد.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} الآية.
لما أجمل الرسل في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} فصل ها هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحاً وإبراهيم، وجعل النبوة في نسلهما، لقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} ، أي: جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمماً يتلون الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزَّبُور والفُرقَان.
وقال ابن عبَّاس: الخَطّ بالقَلم.
قوله: {فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ} .
والضمير يجوز عودهُ على الذُّرِّية، وهو أولى لتقدم ذكره لفظاً.
وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة رسلنا والمرسلين إليهم.
والمعنى: منهم مهتد ومنهم فاسق، والمراد بالفاسق هاهنا، قيل: الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الاسم، وهو يشمل الكافر وغيره.
وقيل: المراد بالفاسق ها هنا الكافر؛ لأنه جعل الفُسَّاق ضد المهتدين.(18/501)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم} ، أي: أتبعنا على آثارهم، أي: على آثار الذُّرية.
وقيل: على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس، وغيرهم، {وقفّينا بعيسى ابن مريم} ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه.
{وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران.
وقراءة الحسن: بفتح الهمزة.
قال الزمخشري: أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح «الفاء» ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب.
وقال ابن جنّي: قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة، لا نظير له؛ لأنه «أفعيل» وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام.
وقال ابن الخطيب: وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع؛ وله وجهان:
أحدهما: أنه شاذ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل.
والثاني: أنه ظن الإنجيل أعجميًّا، فحرف مثاله؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً.
قوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه} على دينه يعني: الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} .(18/502)
قرأ الحسن: «رَآفة» بزنة «فَعَالة» .
قال مقاتل: المراد من الرَّأفة والرحمة: المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.
والرَّأفة: [اللِّين.
والرحمة:] الشَّفقةُ.
وقيل: الرأفة تخفيف الكُل، والرحمة تحمل الثقل.
وقيل: الرَّأفة: أشد من الرحمة وتم الكلام.
فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى
دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.
قال القاضي: المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب.
والجواب: أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.
قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} . في انتصابها وجهان:
أحدهما: أنها معطوفة على «رأفة ورحمة» .
و «جعل» إما بمعنى «خَلَق» ، وإما بمعنى «صيّر» ، و «ابتدعوها» على هذا صفة ل «رَهْبَانية» ، وإنما خصّت بذكر الابتداع؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسُّب، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه.(18/503)
وجوابه: ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها.
وقال أيضاً: وقيل: هو معطوف عليها، و «ابتدعوها» نعتٌ له، والمعنى: فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها، ولهذا قال: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} .
والوجه الثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر.
وقال أبو علي: «ابتدعوها رهبانية» ، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وإليه نحا الفارسي والزمخشري، وأبو البقاء وجماعة.
إلاَّ أن هذا يقال: إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه.
ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء، و «رَهْبَانية» نكرة لا مسوغ للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.
قال شهاب الدين: وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ: {سُورَةً أَنزَلْنَاهَا} [النور: 1] بالنصب على الاشتغال، كما تقدم تحقيقه، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف، ومن ذلك قول الشَّاعر: [البسيط]
4726 - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي ... فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا؟
وقول الآخر: [الطويل]
4727 - تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ
ذكر ذلك ابن مالك.
و «الرَّهْبَانية» : منسوبة إلى «الرَّهْبَان» ، وهو «فَعْلاَن» من رهب، كقولهم: الخَشْيَان من خشي، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة «المائدة» .
وقرىء بضم الراء.(18/504)
قال الزمخشري: كأنها نسبة إلى «الرُّهْبَان» ، وهو جمع: راهب، ك «راكب، ورُكْبان» .
قال أبو حيان: والأولى أن يكون منسوباً إلى «رَهْبَان» - يعني بالفتح - وغيِّر؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير، ولو كان منسوباً ل «رُهْبَان» الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم، فإنه ينسب إليه ك «الأنصار» .
فصل في المراد بالرهبانية
والمراد من الرهبانية: ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة، واللِّباس الخَشِن، والاعتزال عن النساء، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف.
روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل، فراح نفرٌ، وبقي نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا.
قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعُنَا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع.
وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء، واتخاذ الصَّوامع.
وفي خبر مرفوع: هي لحوقهم بالبرارِي والجبال.
قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} .
صفة ل «رهبانية» ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك.
قال ابن زيد: معناه ما فرضناها عليهم، ولا أمرناهم بها.(18/505)
وقوله: {إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} . فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله، والمعنى: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله، فيكون «كتب» بمعنى «قضى» ، فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أنه منقطع.
قال الزمخشري ولم يذكر غيره: «أي: ولكنهم ابتدعوها» .
وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة، قالوا: معناه لم يفرضها عليهم، ولكنهم ابتدعوها.
الثالث: أنه بدل من الضمير المنصوب في «كَتَبْنَاها» قاله مكي.
وهو مشكل، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه، ولا مشتملاً عليه.
وقد يقال: إنه بدل اشتمال؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله، ويصير نظير قولك: الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في «أحببتها» بدل اشتمال، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول.
والضمير المرفوع في «رَعَوْهَا» عائد على من تقدم.
والمعنى: أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم.
وقيل: يعود على الملوك الذين حاربوهم.
وقيل على أخلافهم و «حقَّ» نصبه على المصدر.
قال القرطبي فيها: وقيل: «إلاَّ ابتغاء» استثناء منقطع، والتقدير: «ما كتبناها عليهم، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله» .
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} .
أي: ما قاموا بها حقَّ القيام، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حتى أدركوا نبينا محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فآمنوا به، فهو قوله تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون} .
وقيل: إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة.
وقيل: معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب.(18/506)
وقيل: إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يؤمنوا به.
فصل فيمن أحدث بدعة
دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية.
وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا» ، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} الآية.
فصل
دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال والإخوان.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} .
أي: آمنوا بموسى وعيسى {اتقوا الله وَآمِنُواْ} بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} ، أي: مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وهذا نظير قوله تعالى: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] .
و «الكِفْلُ» : الحظّ والنصيب.
وقد تقدم، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط. قاله ابن جرير.
وقال الأزهري: اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، والمعنى: يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب.
وقال أبو موسى الأشعري: «كِفْلَيْن» ضِعْفَيْن، بلسان «الحبشة» .(18/507)
وقال ابن زيد: «كِفْلين» أجر الدنيا والآخرة.
وقيل: لما نزلت: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية.
فإن قيل: إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم.
فالجواب: أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين.
روى أبو موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ» .
قوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً} .
قال مجاهد: أي: بياناً وهدى.
وقال ابن عباس: هو القرآن.
وقيل: ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة، وهو النور المذكور في قوله تعالى {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12] .
وقيل: تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، أي: ما أسلفتم من المعاصي، {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
قوله تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} .(18/508)
هذه «اللام» متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا الله، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم.
وفي الآية هذه وجهان:
أشهرهما عند النحاة والمفسرين: أنها مزيدة كهي في {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31] . على خلاف في هاتين الآيتين.
والتقدير: أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله، وثبوت أن الفضل بيد الله، وهذا واضح بيِّن، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً.
والثاني: أنها غير مزيدة، والمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب [عجز المؤمنين. نقل ذلك أبو البقاء، وهذا لفظه.
وكان قال قبل ذلك: «لا» زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب] عجزهم.
وهذا غير مستقيم؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله، وكيف يعمل هذا القائل بقوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي، فيصير التقدير: لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة، فلا جرم كان قولاً مطرحاً.
وقرأ العامة: «لئلاَّ» بكسر لام كي، وبعدها همزة مفتوحة مخففة.
وورش يبدلها ياء محضة. وهو تخفيف قياسي نحو: «مِيَة وفِيَة» في «مِئَة وفِئَة» ويدل على زيادتها قراءة عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، والجحدري، وعبد الله بن سلمة: «ليعلم» بإسقاطها.
وقراءة حطَّان بن عبد الله: «لأن يعلم» بإظهار «أن» .
والجحدري أيضاً والحسن: «ليعلم» .
وأصلها كالتي قبلها «لأن يعلم» فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش «ليلاّ» ثم أدغم النون في الياء.(18/509)
قال أبو حيان: «بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف» أن يضرب «بغير غُنَّةٍ» . انتهى.
فصار اللفظ «ليعلم» . وقوله «بغير غنة» ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد: «ليلا يعلم» بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة، ورفع الفعل بعدها.
وتخريجها: على أن أصلها «لأن لا» على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة؛ وأنشدوا:
4728 - أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا ... . ..... ... ... ... ... ... . .
بفتح «اللام» ، وحذف الهمزة اعتباطاً، وأدغمت النون في «اللام» فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً، فصار اللفظ «ليلا» كما ترى، ورفع الفعل؛ لأن «أنْ» هي المخففة لا النَّاصبة، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب: «ليلا» بلام مكسورة، وياء ساكنة، ورفع الفعل بعدها، وهي كالَّتي قبلها في التخريج، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة.
وروي عن ابن عباس: «لكي يعلم» و «كي يعلم» .
وعن عبد الله: «لكيلا» .
وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم، ولسواد المصحف.
وقراءة العامة: {أن لا يقدرون} بثبوت النون، على أن «أنْ» هي المخففة.
وعبد الله: بحذفها على أن «أن» هي الناصبة.
وهذا شاذّ جداً؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة.
وقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} الظاهر أنه مستأنف.(18/510)
وقيل: هو خبر ثانٍ عن الفضل.
وقيل: هو الخبر وحده، والجار قبله حال، وهي حال لازمة؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة.
فصل في اتصال الآية بما قبلها
نقل ابن الخطيب عن الواحدي أنه قال: هذه الآية مشكلة، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها.
واعلم أن أكثر المفسرين على أن «لا» هاهنا صلة زائدة، والتقدير: ليعلم أهل الكتاب.
وقال أبو مسلم وجماعة: على أن «لا» ليست زائدة، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه.
أما على القول بزيادتها، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون: إن الوحْيَ والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم، فقال: إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً.
وأما القول بأن «لا» غير زائدة، فاعلم أن الضمير في قوله: «لا يَقْدرون» عائد إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والتقدير: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} فيصير التقدير: إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله.
واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة، فقلنا في قوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} تقديره: وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً.(18/511)
وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل، فعلمنا أن هذا القول أولى.
فصل في نزول هذه الآية
قال قتادةُ: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله.
وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: «لئلا يعلم» ، أي: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني: أنهم لا يقدرون، كقوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} [طه: 89] والمراد من فضل الله.
قيل: الإسلام وقيل: الثواب.
وقال الكلبي: من رزق الله.
وقيل: نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى.
{وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} ليس بأيديهم، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى من يُحِبُّون.
وقيل: إن الفضل بيد الله، أي: بقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .
روى البخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قائم على المنبر يقول: «إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ: رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً، قال: هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً؟ قَالُوا: لا، قال: فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ» .
وفي رواية: «فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا: رَبَّنَا» الحديث.(18/512)
سورة المجادلة
[مدنية] في قول الجميع إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي.
وقال الكلبي: نزلت جميعها ب " المدينة " غير قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] نزلت ب " مكة ".(18/513)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
وهي ثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية.
«قَدْ» هنا للتوقع.
قال الزمخشري: «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع اللَّه مجادلتهما وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما» .
وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة إلا أبا عمرو والأخوين.
ونقل عن الكسائي أنه قال: من بيَّن الدال عند السين فلسانه أعجمي، وليس بعربي. وهذا غير معرج عليه.(18/513)
و «في زوجها» في شأنه من ظهاره إياها.
فصل فيمن جادلت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة.
وقيل: بنت حكيمٍ.
وقيل: بنت خُويلد.
قال الماوردي: وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما: أبوها، والآخر: جدها، فنسبت إلى كل منهما.
قيل: كانت أمة.
وقيل: هي ابنة صامت.
وقيل: أمة لعبد الله بن أبي. وهي التي أنزل الله فيها: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] أي لا يكرهها على الزنا.
وقيل: هي ابنة حكيم.
قال النحاس: وهذا ليس بمُتناقض، يجوز مرَّة أن تنسب إلى أبيها، ومرَّة إلى أمها، ومرَّة إلى جدِّها، ويجوز أن تكون أمةً كانت لعبد الله بن أبي، فقيل لها: أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين. نقله القرطبي.
وقيل: اسمها جميلة، وخولة أصح، وزوجها أوسُ بن الصَّامت أخو عبادة بن الصَّامت.
وروي أن عمر بن الخطاب مرَّ بها في خلافته، وهو على حمارٍ والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمرُ، قد كنت تدعى عُمَيراً ثم قيل لك: عمر، ثم قيل: أمير المؤمنين، فاتَّقِ الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقفُ لهذه العجوز هذا الوقوف.
فقال: والله لو حَبَسَتْنِي من أول النهار إلى آخره لا زلت إلاَّ للصَّلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! .(18/514)
وقالت عائشة: تبارك الذي وسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي تقول: يا رسول الله أكَلَ شَبَابي، ونَثرْتُ له بطني حتَّى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي ظاهر منِّي، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية.
«روي أنها كانت حسنة الجِسْمِ، فرآها زوجها ساجدةً فنظر عجيزتها، فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبَتْ فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لممٌ فأصابه بعض لممهِ، فقال لها: أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي وكان الإيْلاء والظِّهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لها:» حَرُمْتِ عليْهِ «، فقالت: والله ما ذكر طلاقاً، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليَّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» حَرُمْتِ عَليْهِ «، فقالت: أشكو إلى الله فَاقتِي ووحْدتِي، فقد طالت له صُحْبتي ونفَضَتْ له بَطْني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا أرَاك إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عليْهِ ولَمْ أومر فِي شأنِك بِشيءٍ «، فجعلت تراجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإذا قال لها رسول الله:» حَرُمْتِ عليْهِ «هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتِي وشدة حالي، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضَممتُهُمْ إليَّ جاعُوا، وإن ضَممتُهُمْ إليه ضاعُوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهُم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك، وكان هذا أول ظهارٍ في الإسلام فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية. فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى زوجها، وقال:» مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ «؟ فقال: الشيطان، فهل من رُخْصَة؟ فقال:» نَعَمْ «، وقرأ عليه الأربع آيات، فقال:» هَلْ تَسْتطِيْعُ الصَّوْمَ «؟ فقال: لا والله، فقال:» هَلْ تَسْتطيعُ العِتْقَ «؟ فقال: لا والله، إني أن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري وظننت أني أموت، قال:» فأطْعِمْ ستِّيْنَ مِسْكيناً «، فقال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعونٍ وصلةٍ، فأعانه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخمسةَ عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله، فتصدق به على ستين مسكيناً» .
فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت
قال أبو سليمان الخطَّابي: ليس المراد من قوله في هذا الخبر: وكان بن لَمَم الخبل والجنون، إذ لو كان به ثُمَّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء، بل معنى(18/515)
اللَّمَم هاهنا: الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن.
فصل في الظهار
اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يفد نسخاً؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لها: «حَرُمْتِ» أوْ «مَا أَرَاكَ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ» كالدلالة على أنه كان شرعاً.
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ.
فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة
اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين:
أحدهما: المجادلة وهو قوله تعالى: {تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي: في شأن زوجها، وتلك المجادلة هي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كلما قال لها: «حَرُمَتْ عَليْهِ» ، قالت: والله ما ذكر طلاقاً.
والثاني: شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا، وقولها: إن لي صبية صغاراً.
فصل في سمع الله تعالى
قال القرطبي: الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن، وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسمُوع.
وقال الحاكم أبو عبد الله: «السميع» هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما.
وقرىء: «تُحَاوِرُكَ» أي: تراجعك الكلام.(18/516)
قوله: {وتشتكي إِلَى الله} يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «تجادلك» فهي صلة أيضاً.
والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، أي: تجادلك شاكيةً حالها إلى الله.
وكذا الجملة من قوله: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} والحالية فيها أبعد.
و «شكا» و «اشتكى» بمعنى واحد.
و «المُحَاورة» : المراجعة في الكلام، حار الشيء يحُور حَوْراً، أي: رجع يرجع رجوعاً.
ومنه: «نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ» ، وكلمته فما أحار بكلمة، أي: فما أجاب.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . أي: يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
قوله: {الذين يُظَاهِرُونَ} تقدم الخلاف في «تُظَاهرون» في سورة «الأحزاب» ، وكذا في {اللائي} [الأحزاب: 4] .
وقرأ أبيّ هنا: «يَتَظَاهرون» .
وعنه أيضاً: «يتظهرون» .
وفي «الذين» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره: قوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} .
الثاني: أنه منصوب ب «بصير» على مذهب سيبويه في جواز إعمال «فعيل» قاله مكي.
يعني: أن سيبويه يعمل «فعيلاً» من أمثلة المبالغةِ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر: [البسيط]
4729 - حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ(18/517)
ورد عليه بأن «موهناً» ظرف زمان، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال، والمعنى: يأتي «ما» قاله مكي.
وقرأ العامة: «أمَّهاتِهِمْ» بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى، كقوله
{مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] .
وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف، وقرأ عبد الله: «بأمَّهاتهم» بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين.
وقال الزمخشري: «وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ» .
قال شهاب الدين: هذا هو مذهب أبي عليّ، يرى أن «الباء» لا تزاد إلا إذا كانت عاملة، فلا تزاد في التميمية، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع، نحو: «ما إن زيد بقَائمٍ» ، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي: [الطويل]
4730 - لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر: [المتقارب]
4731 - لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ ... بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه
فزادها مع «ما» الواقع بعدها «إن» .
فصل في التعبير بلفظ الظهار
ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر على الركوب، ويقال: نزل عن امرأته أي: طلقها كأنه نزل عن مركُوبه، ومعنى: أنت عليَّ كظهرِ أمي،(18/518)
أي: أنت عليَّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي.
ونقل ابن الخطيب عن صاحب «النظم» : أنه ليس مأخوذاً من الظَّهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظَّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعةِ والتلذُّذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العُلوّ، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظَّهر، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له.
ويدلُّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها، وفي قولهم: أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تقديره: ظهرك عليّ، أي ملكي إياك، وعلوي عليك حرام كما عُلوي على أمي وملكها عليّ.
فصل في حقيقة الظهار
حقيقة الظهار: تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظَهْر محلّل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أنَّ من قال لزوجته: أنت عليَّ كظهرِ أمي، أنه مظاهر.
وقال أكثرهم، إذا قال لها: أنت عليّ كظهرِ ابنتي، أو أختي، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر.
فصل في ألفاظ الظهار
وألفاظ الظِّهار: صريح وكناية:
فالصريح: أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي، وأنت منّي، وأنت معي كظهر أمي، وكذلك أنت عليَّ كبطن أمي، أو كرأسها أو فرجها ونحوه، وكذلك فرجك، أو رأسك، أو ظهرك، أو بطنك، أو رجلك عليَّ كظهر أمي، فهو مظاهر مثل قوله: يدك، أو رجلك، أو رأسك، أو فرجك طالق تطلق عليه، ومتى شبهها بأمّه، أو بإحدى جداته من قبل أبيه، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت، والأخت، والعمة، والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء.
والكناية: أن يقول: أنت عليَّ كأمي، أو مثل أمي، فإنه يعتبر فيه النية، فإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهراً على خلاف في ذلك، فإن شبه امرأته بأجنبيّة، فإن ذكر الظهر كان ظهاراً، وإن لم يذكر الظهر، فقيل: يكون ظهاراً.(18/519)
وقيل: طلاقاً.
وقال: أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئاً.
وقيل: وهذا فاسد؛ لأنه شبّه محللاً من المرأة بمحرم، فأشبه الظهر. نقله القرطبي.
فإن قال: أنت عليَّ حرام كظهر أمي، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن قوله: أنت عليَّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق، فيكون طلقة، ويحتمل التحريم بالظِّهار، فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين، فقضي به فيه.
فصل
والظِّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها، أو غير مدخُول بها من كل زوج يجوز طلاقه.
وقال مالك: يجوز الظِّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائِهِ إذا ظاهر منهن لزمه الظِّهارُ فيهن، وقال غيره: لا يلزم.
قال ابن العربي: وهي مسألة عسيرةٌ جدًّا؛ لأن مالكاً يقول: إذا قال لأمته: أنت عليَّ حرام لا يلزم، فكيف يبطل فيها صريح التحريم، وتصح كنايته.
قوله: {مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} نعتان لمصدر محذوف أي قولاً منكراً وزوراً أي: كذباً وبهتاناً.
قاله مكي. وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير: ليقولون قولاً منكراً من القولِ، فيصير قوله: «مِنَ القَوْلِ» لا فائدة فيه، والأولى أن يقال: نعتان لمفعول محذوف، لفهم المعنى، أي: ليقولن شيئاً منكراً من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف.
والمنكر من القول: ما لا يعرف في الشَّرْع، والزور: الكذب.
{وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إذ جعل الكفارة عليهم مُخلصةً لهُمْ من هذا القَوْل المنكر.
وقيل: «لعفو غفور» إما من قبل التوبة لمن يشاء، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] .
أو بعد التوبة.
فإن قيل: المظاهر إنما قال: أنْتِ عليَّ كظهرِ أمِّي، فشبه بأمه، ولم يقل: إنها أمه،(18/520)
فما معنى أنه جعله منكراً من القوْلِ وزوراً. والزُّور: الكذب، وهذا ليس بكذب؟ .
فالجواب: أنَّ قوله إنْ كان خبراً فهو كذب، وإنْ كَانَ إنشاء فكذلك؛ لأنه جعله سبباً للتَّحريم، والشَّرْع لم يجعله سبباً لذلك.
وأيضاً فإنما وصف بذلك، لأن الأم مؤبدة التحريم، والزَّوْجة لا يتأبّد تحريمها بالظِّهار، وهذا ضعيف؛ لأنَّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كُلِّ وجهٍ.
فإن قيل: قوله: {إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} يقتضي أن لا أم إلا الوالدة، وهذا مشكل لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] .
وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] .
والحمل على حرمة النكاح لا يفيد؛ إذْ لا يلزمُ مِنْ عدم كوْنِ الزَّوجة أمًّا عدمُ الحُرمةِ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة؟ .
فالجواب: أنا نقول: هذه الزَّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سبباً للحرمةِ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً.(18/521)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ} مبتدأ.
وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ ثان وخبره مقدم، أي: فعليهم، أو فاعل بفعل مقدر، أي: فيلزمهم تحرير، أو خبر مبتدأ مضمر، أي: فالواجب عليهم تحرير.
فصل
ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك، ولا يلزم عند غيره لقوله تعالى: {مِن نِّسَآئِهِم} .(18/521)
وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه. وقال مالك: لا يلزم ظهاره؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام، وهذا منقوض بظهار العبد، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام.
فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها
لا يصح ظهار المرأة من زوجها، وعليها كفَّارة يمين، إنما الظهار على الرجال؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء.
وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة.
وقال الزهري: أرى أن تكفر كفَّارة الظهار.
وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها.
فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر
وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار، للحديث، ويصح ظهار السكران وطلاقه، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار، وإذا قال لأربع نسوة: إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن.
وقيل: لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته: أنت عليَّ كظهرِ أمي، وأنت طالق ألبتة، لزمه الطلاق والظِّهار معاً، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق ألبتَّة، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق، ولم يلزمه الظِّهار؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال: أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم.
وقال مالك: يتأبّد.
قوله: «منكم» توبيخ للعرب، وتهجين لعادتهم في الظِّهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم.
وقوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] أي: ما نساؤهم بأمهاتهم، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] أي إلا الوالدات.
وعلى التقادير الثلاثة، فالجملة خبر المبتدأ، ودخلت «الفاء» لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} . في هذه «اللام» أوجه:
أحدها: أنها متعلقة ب «يعودون» .(18/522)
وفيه معان:
أحدها: والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام.
الثاني: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه، ومنه: «عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ» أي تداركه بالإصلاح، والمعنى: أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار.
الثالث: أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] ، والمعنى: ثم يريد العود للتَّماسِّ. قاله الزمخشري.
وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك، والحسن، والزهري: ثم يعودون للوطءِ، أي: يعودون لما قالوا: إنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهر ثُمَّ وطىء لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء.
الرابع: «لما قالوا» ، أي: يقولونه ثانياً، فلو قال: أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ، وأبي حنيفة، وأبي العالية، والفراء في آخرين، وهو مذهب أهل الظَّاهر.
قال ابن العربي: وهذا القول باطل قطعاً؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، والمعنى أيضاً بنقضه؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور، فكيف يقال: إذا أعدت القول المحرّم، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم؟ .
الخامس: أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه، فهذا هو العودُ لما قال، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة أيضاً.
وقال: العود هنا ليس بتكرير القول، بل بمعنى العزم على الوطء.
قال القرطبي: وهذا ينتقض بثلاثة أمور:
أحدها: أنه قال: «ثُمَّ» وهي للتراخي.
الثاني: قوله: «ثم يعُودُون» يقتضي وجود فعل من جهته، ومرور الزمان ليس بفعل منه.(18/523)
الثالث: أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء.
وقال مكي: «واللام متعلقة ب» يَعُودُون «أي: يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار، وهن الأزواج ف» ما «والفعل مصدر، أي: لقولهم، والمصدر في موضع المفعول به، نحو:» هذا دِرْهم ضرب الأمير «أي: مضروبه، فيصير المعنى، كقولهم للمقول فيه الظِّهار، أي: لوطئه» .
وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن، والزهري، ومالك إلاَّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون «ما» مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول، وفيه نظر؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت «ما» غير مصدرية لكونها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة، بل جعلها غير مصدرية أولى؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح، إذ الصريح أصل للمؤول به، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين: بالمصدر المؤول، ثم وقوعه موقع اسم المفعول، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه.
لا يقال: إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى، أي: يعودون لوطء الذي ظاهر منها، أو امرأة ظاهر منها، أو يعودون لإمساكها.
والأصل: عدم الحذف؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم، فإنكم تقولون أيضاً: لا بد من تقدير مضاف، أي: يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار، ويدل على جواز كون «ما» في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء، فإنه قال: يتعلق ب «يعودون» بمعنى يعودون للقول فيه، هذا إن جعلت «ما» مصدرية، ويجوز أن تجعلها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة.
الثاني: أن «اللام» تتعلق ب «تحرير» ، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار، ثم يعودون للوطء بعد ذلك. وهذ ما نقله مكي وغيره عن الأخفش.
قال أبو حيَّان: «وليس بشيء؛ لأنه يفسد نظم الآية» .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير، ولكن(18/524)
نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه؛ لأنه خلاف الأصل.
الثالث: أن «اللام» بمعنى «إلى» ، و «اللام» و «إلى» يتعاقبان، قال تعالى: {هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] ، وقال: {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 23] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] وقال: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ} [هود: 36] قاله الأخفش.
الرابع: أنها بمعنى «في» ، نقلها أبو البقاء، ومع ذلك فهي متعلقة ب «يعودون» .
الخامس: أنها متعلقة ب «يقولون» .
[قال مكي: وقال قتادة: ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه، فاللام على هذا تتعلق ب «يقولون» ] .
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي، وكيف فهم تعلقها ب» يقولون «على تفسير قتادة، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب» يعودون «، وليس لتعلقها ب» يقولون «وجه» .
ونقل القرطبي عن الفرَّاء قال: اللام بمعنى «عن» والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا، ويريدون الوطء.
وقال أبو مسلم: العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول: هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين.
وهذا ضعيف؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ، وفي رمضان، وفي قتل الخطأ، ولا يمين هناك.
قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: فعلية إعتاق رقبةٍ، يقال: حرَّرته، أي: جعلته حرًّا، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه.
وقال الشافعي: يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام، ودليل الأول قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس رقبة؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق(18/525)
عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين، كذا ها هنا.
وروي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ، وإلاَّ فلا؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ» .
وقال أبو حنيفة: إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق، ولم يُجْزه عن الكفارة.
قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} ، أي: من قبل أن يجامعها، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى، ولا يسقط عنه التكفير.
وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه، ولا يلزمه شيء أصلاً؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة، وأمر بها قبل المسيسِ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها، والصحيح ثبوت الكفَّارة؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ، أو الصوم، أو الإطعام.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء.
فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً
إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول، فعليه للثاني كفَّارة.
قال: وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع.
قال الفقهاء: ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقّها.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي: تؤمرون به.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التَّكفير وغيره.(18/526)
قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .
وقوله تعالى: {فَإِطْعَامُ} كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم، أي: فيلزم تحرير، أو صيام، أو فعليه كذا من قبل تماسهما. والضمير في «يتماسَّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها.
فصل إذا لم يجد الرقبة
من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، وكان مالكاً لها إلاَّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكاً لثمنها إلاَّ أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكين ليس له غيره، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا يصوم وعليه العتق، ولو كان محتاجاً إلى ذلك.
والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي: يبني على ما مضى، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
فإن ابتدأ الصيام، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه؛ لأنه أمر به حين دخل فيه.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع، وإن وطىء ليلاً لم يبطل؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم.
وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومالك: يبطل بكل حال، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين.
ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام.
فإن كان يرجى بُرْؤه، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام، فإذا كفَّر بالإطعام، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.
فإن ظاهر وهو موسرٌ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر، ولو جامعها في عدمه وعسره، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق.
ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر، قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم، وعاد إلى(18/527)
العتق، وليس ذلك بواجب عليه.
ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى.
قال القرطبي: «ولو ظاهر من أربع نسوة، فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين لم يجزه العِتْق ولا الصيام؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوماً، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتين مسكين، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق» .
[قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} الآية كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} في الأوجه الثلاثة المتقدمة، و «مِنْ قَبْل» متعلق بالفعل، أو الاستقرار المتقدم، أي: فيلزمه تحرير، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما، والضمير في «يتماسّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم] .
فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار
اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عبد البرّ: والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يجزىء عند مالك، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن يطعم أقل من ستين مسكيناً.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه.
وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا لم يجد إلاَّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام.
فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه
حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.
قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ} .(18/528)
قال الزَّجَّاج: «ذلك» فيه وجهان:
الأول: أنه في محل رفع، أي: الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة، «لتُؤمِنُوا» أي: لتصدقوا أن الله أمر به.
الثاني: فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والعمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق.
فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى
استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها، قال جل ذكره: {لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، أي: ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها، فسمى التكفير إيماناً؛ لأنه طاعة، ومراعاة للحد، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان.
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور.
قيل له: قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً، فيكون المعنى: ذلك لئلا تعودوا، فتقولوا المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله - سبحانه وتعالى - إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسِيْسهَا وتكفروا إذا كان الله - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بالكفَّارة، وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها، والطَّاعة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمان بالله ورسوله.
فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان
قال ابن الخطيب: استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية، فقال: إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدل على أن العمل من الإيمان، ومن أنكر ذلك قال: إنه - تعالى - لم يقل: ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء، ونحن نقول: المعنى «ذلك لتؤمنوا بالله» والإقرار بهذه الأحكام.
فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض
استدلت المعتزلة في قوله تعالى «لتؤمنوا» على أن فعل الله معلل بالغرض، وعلى(18/529)
أن غرضه أن تؤمنوا، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.
قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي بيّن معصيته وطاعته، فمعصيته الظِّهار، وطاعته الكفارة.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: لمن جحد هذا وكذاب به، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
قال المبرد: أصل «المحادّة» الممانعة، ومنه يقال للبواب: حداد، وللممنوع الرزق: محدود.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: «المحادّة» : مفاعلة من لفظ الحديدِ، والمراد المقاتلة بالحديد، سواء كان ذلك في الحقيقة، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها، قال المفسرون: المُحادة: المُعَاداة والمخالفة في الحدود، وهو كقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] .
وقيل: يحادون الله، أي: أولياء الله كما جاء في الخبر، «مَنْ أهَانَ لِي وليًّا فقدْ بَارَزَني بالمُحاربةِ» .
قال الزجاج: المحادّة: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك.
والضمير في قوله «يحادّون» يمكن أن يرجع إلى المُنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين، ويظاهرونهم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأذلهم الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يرجع(18/530)
لجميع الكُفَّار، فأعلم الله تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنهم كبتوا، أي خذلوا.
قال المبرد رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: كبت الله فلاناً، أي: أذلّه، والمردود بالذل يقال له مكبوت.
وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا.
وقال قتادة: خزوا كما خزي الذين من قبلهم.
وقال ابن زيد: عذبوا.
وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق.
وقيل: يوم «بدر» .
وقيل معنى كبتوا: أي سيكبتون، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريباً للمخبر عنه.
وقيل: لغة مذحج.
ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم {وَلِلْكَافِرِينَ} بهذه الآيات {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزّهم وكبرهم، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذُّل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} .
فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب ب «عذاب مهين» .
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، فقدره أبو البقاء: يهانون أو يعذبون، أو استقر ذلك يوم يبعثهم، وقدره الزمخشري ب «اذكر» قال: تعظيماً لليوم.
الثالث: أنه منصوب ب «لهم» . قاله الزمخشري، أي: بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً.(18/531)
الرابع: أنه منصوب ب «أحصاه» ، قاله أبو البقاء، وفيه قلق؛ لأن الضمير في «أحصاه» يعود على «ما عملوا» . قوله: «جَمِيعاً» أي: الرجال والنساء، أي: كلهم لا يترك منهم واحداً.
وقيل: مجتمعين في حال واحدة {فَيُنَبِّئُهُم} أي: يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلاً لهم وتوبيخاً.
{أَحْصَاهُ الله} عليهم في صحائف أعمالهم «ونَسُوهُ» حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.(18/532)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات، فقال جل ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية.
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى} .
«يكون» تامة، و «من نجوى» فاعلها، و «من» مزيدة فيه، و «نجوى» في الأصل مصدر، فيجوز أن يكون باقياً على أصله، ويكون مضافاً لفاعله، أي: ما يوجد من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يكون على حذف، أي: من ذي نَجْوَى، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة.
فعلى هذين الوجهين ينخفض «ثلاثة» على أحد وجهين:
إما البدل من «ذوي» المحذوفة، وإما الوصف لها على التقدير الثاني، وإما البدل، أو الصفة ل «نجوى» على التقدير الثالث.(18/532)
وقرأ ابن أبي عبلة: «ثلاثة» ، و «خمسة» نصباً على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه محذوف مع رافعه تقديره: يتناجون ثلاثة، وحذف لدلالة «نجوى» .
والثاني: أنه الضمير المستكن في «نجوى» إذا جعلناها بمعنى المتناجين [قاله الزمخشري، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قال مكي: «ويجوز في الكلام رفع» ثلاثة «على البدل من موضع» نجوى «؛ لأن موضعها رفع و» من «زائدة، ولو نصبت» ثلاثة «على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت» نجوى «بمعنى المتناجين جاز في الكلام» ] .
قال شهاب الدين: «ولا يقرأ به فيما علمت، وهو جائز في غير القرآن كما قال، وأما النصب فقد قرىء به، وكأنه لم يطلع عليه» .
قوله: {إلا هو رابعهم} ، {إلا هو خامسهم} ، {إلا هو معهم} كل هذه الجمل بعد «إلا» في موضع نصب على الحال أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة.
وقرأ أبو جعفر: «ما تكون» بتاء التأنيث لتأنيث النجوى.
قال أبو الفضل: إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى «من نجوى» وهو اسم جنس مذكر.
قال ابن جني: التذكير الذي عليه العامة هو الوجه؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل، وهو كلمة «من» ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي.
قوله: «ولا أكْثرَ» .
العامة على الجر عطفاً على لفظ «نجوى» .
وقرأ الحسن، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة ويعقوب: «ولا أكثر» بالرفع، وفيه وجهان:(18/533)
أحدهما: أنه معطوف على موضع «نجوى» لأنه مرفوع، و «من» مزيدة، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم، أي: من ذوي نجوى، وإن كان بمعنى متناجين، فلا حاجة إلى ذلك.
الثاني: «أدنى» مبتدأ، و {إلاَّ هو معهم} خبره، فيكون «ولا أكثر» عطفاً على المبتدأ، وحينئذ يكون «ولا أدنى» من باب عطف الجمل لا المفردات.
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل: «ولا أكبر» بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم.
وزيد بن علي: «ينبيهم» - بسكون النون - من أنبأ إلاَّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء.
وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات الهمزة وضم الهاء، والعامة بالتشديد من «نبأ» .
فصل في النجوى
«النَّجْوَى» : التناجي، وهو السرار وهو مصدر يوصف به، يقال: قوم نجوى، وذوو نجوى.
قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] .
قال الزجاج: «النجوى» مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى، فالكلام المذكور سرًّا، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير، والسرار ما كان بين اثنين.
قوله: {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أي: يعلم، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم.
فإن قلت: ما الحكمة في ذكره - سبحانه وتعالى - الثلاثة والخمسة، وأهمل الأربعة؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا، فإذا تناجى اثنان(18/534)
منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً، فيضيق عليه، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ» .
فكأنه - تعالى - يقول: أنا جليسك وأنيسك، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً.
الثاني: أن العدد الفرد أشرف من الزوج؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور.
الثالث: أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات، والثالث كالحاكم بينهما، فحينئذ تكمل المشورة، ويتم ذلك الغرض، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي.
الرابع: أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي، وكانوا على هذين العددين.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت هذه الآية في ربيعة، وحبيب بن أبي عمرو، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون، فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثالث: يعلم البعض.
الخامس: أنه في مصحف عبد الله بن مسعود: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي} .
قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} أي: يحاسب على ذلك، ويجازي عليه.
{إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهذا تحذير من المعاصي، وترغيب في الطاعات.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} الآية.
قيل: هم اليهود.
وقيل: هم المنافقون.
وقيل: فريق من الكفار.
وقيل: فريق من المسلمين، لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» مَا هَذِهِ النَّجْوَى «؟ فقلنا: تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنا كُنَّا في ذكر المسيخ، يعني: الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»(18/535)
ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ؟ «قلنا: بلى، يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال:» الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل «ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فقال المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل، أو مصيبة، أو هزيمة؛ ويسوؤهم ذلك، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا، فنزلت الآية.
وقال مقاتل: كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين اليهود موادعة، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيسأله الحاجة ويناجيه، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: والأولى أن تكون نزلت في اليهود؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - حكى عنهم، فقال: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} وهذا إنما وقع من اليهود، كانوا إذا سلموا على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: السَّامُ عليكم، يعنون الموت.
قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي: يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها.
قوله:» ويَتَنَاجَوْنَ «. قرأ حمزة:» وينْتَجُون «بغير ألف من» الانتجاء «من» النجوى «على وزن» يَفْتَعلُون «.
والباقون:» ويتناجون «من» التَّناجي «من» النجوى «أيضاً.(18/536)
قال أبو علي: والافتعال، والتفاعل يجريان مجرى واحداً، ومن ثمَّ صححوا» ازْدَوجُوا واعتورُوا «لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا، وجاء
{حتى
إِذَا
اداركوا} [الأعراف: 28] وادَّرَكُوا.
قال شهاب الدين: ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم، و «فلا تتناجوا» و «تناجوا» ، فهذا من «التفاعل» لا غير، إلاَّ ما روي عن عبد الله، أنه قرأ {إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا} .
ونقل أبو حيان عن الكوفيين والأعمش: «فلا تنتجوا» كقراءة عبد الله.
وأصل: «تَنْتَجُونَ» «تَنْتَجِيونَ» و «تَنَاجَوْن» فاستثقلت الضَّمَّة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما، أو تقول: تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف.
قوله: {بالإثم والعدوان} .
قرأ أبو حيوة: «بالعِدْوان» بكسر العين.
والمراد «بالإثم والعدوان» : الكذب والظلم، {وَمَعْصِيَتِ الرسول} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخالفته.
وقرأ الضَّحاك: «ومعصيات الرَّسُول» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} .
قال القرطبي: لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود، وكانوا إذا سلموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: السَّام عليك يعنون الموت. كما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن اليهود أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: السَّام عليك، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» عَلَيْكُمْ «فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: السَّام عليكم، ولعنة الله، وغضبه عليكم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَهْلاً يا عَائِشَةُ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ «، قالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ذلك» أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ؟ «.(18/537)
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ذلك:» إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ، فقُولُوا: علَيْكَ مَا قُلْتَ «، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} » .
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا: وعَليْكُمْ» بالواو.
فقال بعض العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إن الواو العاطفة تقتضي التشريك، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك، يقال: سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً.
وقال بعضهم «الواو» زائدة كما زيدت في قول الشاعر: [الطويل]
4732 - فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
أي: لما أجزنا انتحى، فزاد «الواو» .
وقال آخرون: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ل «عائشة» رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
فصل في رد السَّلام على أهل الذمة
اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك.
وقال مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ليس بواجب، فإن رددت فقل: عليك.
وقال بعضهم: نقول في الرد: علاك السَّلام، أي: ارتفع عنك.
وقال بعض المالكية: تقول في الرد: السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا} .
هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول، ومعنى الآية: أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون: السام عليك، ويوهمون أنهم يسلمون، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرد عليهم بقوله: «عليكم» فإذا خرجوا قالوا: «لولا يعذبنا الله» أي: هلا يعذبنا بما نقول، أي: لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول.(18/538)
وقيل: قالوا: إنه يرد علينا، ويقول: وعليكم السَّام، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا، وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل الكتاب، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب.
قوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي: كافيهم جهنم عقاباً غداً {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} .
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان} .
أي: كفعل المنافقين واليهود.
قال مقاتل: أراد بقوله: «آمنوا» المنافقين آمنوا بلسانهم.
وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم: لا تتناجوا بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} والمراد بالبر: الطاعة، وبالتقوى: العفاف عما نهى الله عنه.
{واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [أي] : تجمعون في الآخرة.(18/539)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
قوله تعالى: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} . تقدم قراءتنا «ليحزن» بالضم والفتح في «آل عمران» [آل عمران 176] .
وقرىء: «بفتح الياء والزاي» على أنه مسند إلى الموصول بعده، فيكون فاعلاً.(18/539)
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب: الألف واللام في لفظ «النجوى» لا يمكن أن يكون للاستغراق؛ لأن في «النجوى» ما يكون من الله ولله، بل المراد منه: المعهود السابق، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين.
قال المفسرون: معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} أي: التناجي {شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: بمشيئته.
وقيل: بعلمه.
وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بأمره.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي: يكلون أمرهم إليه، ويفوضون [جميع] شئونهم إلى عونه.
فصل في النهي عن التناجي
روى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ» .
فبين في هذا الحديث غاية المنع، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً، فقال له وللأول: تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة. خرجه في «الموطأ» ونبه فيه على العلة بقوله: «مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ» أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان، وأحاديث النفس، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه.(18/540)
قال القرطبي: «وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال» .
وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب، أو مباح، أو واجب فإن الحزن يقع به.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام؛ لأن ذلك كان حال المنافقين، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك.
وقال بعضهم: ذلك خاصّ بالسفر، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث. والله أعلم.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} الآية.
وجه التعلق، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة.
وقال القرطبي: لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والنظر إليه.
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومجاهد والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة، فنزلت، فيكون كقوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] .
وقال مقاتل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في «الصفة» وكان في المكان ضيق، وكان يكرم أهل «(18/541)
بدر» من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل «بدر» وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم على القيام، وشقّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمن حوله من غير أهل «بدر» : «قُمْ يا فُلانُ» بعدد القائمين من أهل «بدر» فشقّ ذلك على من قام، وعرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكراهة في وجوههم. فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ، فنزلت الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للوَقْر الذي كان في أذنيه، فوسعوا له حتى قرب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محبته للقرب منه ليسمع كلامه، وإن فلاناً لم يفسح له، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} .
قرأ الحسن، وداود بن أبي هند، وعيسى، وقتادة: «تَفَاسحُوا» ، والباقون: «تَفَسَّحوا» أي: توسعوا والفُسْحة: السَّعة، وفسح له: أي وسع له، ومنه قولهم: «بلد فسيحٌ» ولك في كذا فسحة، وفسح يَفْسَحُ، مثل: «مَنَعَ يَمْنَعُ» أي: وسع في المجلس، و «فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً» مثل: «كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة» أي: صار واسعاً، ومنه مكان فسيح.
وقرأ عاصم: «في المجالس» جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً.
والباقون: بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع، وقرىء: «في المَجْلَس» - بفتح اللام - وهو المصدر، أي: تفسحوا في جلوسكم، ولا تتضايقوا.
فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير
قال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه(18/542)
للخير، والأجر، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه» .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه» .
وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا.
وكان ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه.
وروى أبو هريرة عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ، فَيقْعُدَ فِيْهِ، ولكِنْ يقُولُ: أفسحوا» .
فصل
إذا قام من مكانه، فقعد غيرهُ نظرنا، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام، لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك؛ لأن فيه تفويت حظه.
فصل
إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة، فيجلس فيه، فإذا جاء قام له منه، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذَا قَامَ أحَدُكُمْ» - وفي حديث(18/543)
أبي عوانة: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» ذكره القرطبي في «تفسيره» .
قوله: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} .
قال ابن الخطيب: هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة، قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فانشزوا} .
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر بخلاف عنه بضم شين «انْشُزُوا» في الحرفين، والباقون: بكسرهما، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال: نشز أي: ارتفع، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ ك «عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ» وتقدم الكلام على هذا في «المائدة» .
فصل في معنى انشزوا
قال ابن عباس: معناه إذا قيل لكم: ارتفعوا فارتفعوا.
قال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها، وذلك أن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة، فنزلت.
وقال الحسن ومجاهد أيضاً: انهضوا إلى الحرب.
وقال ابن زيد والزَّجَّاج: هذا في بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فانْشُزُوا» أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا.(18/544)
وقال قتادة: معناه: أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف.
قال القرطبي: «وهذا هو الصحيح لأنه يعم، والنَّشْز: الارتفاع، مأخوذ من نَشْزِ الأرض، وهو ارتفاعها» .
قوله: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ} بطاعاتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيامهم في مجالسهم، وتوسّعهم لإخوانهم.
وقوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم} يجوز أن يكون معطوفاً على «الَّذين آمنوا» ، فهو من عطف الخاص على العام؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم، ويجوز أن يكون «الذين أوتوا» من عَطْف الصفات، أي: تكون الصفتان لذات واحدة، كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء، و «درجات» مفعول ثان. وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في «الأنعام» .
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تم الكلام عند قوله تعالى: «منكم» ، وينصب «الذين أوتوا» بفعل مضمر، أي: ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات، أو يرفعهم درجات.
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون في هذه الآية: إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم.
قال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى: أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.
وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف، فيسبقون إلى مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالخطاب لهم.
«ورأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه، فقال:» يا فُلاَنُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّا غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ «» .
وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس.
وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن.
وروى يحيى بن يحيى عن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ}(18/545)
الصحابة، {والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب.
قال القرطبي: ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك، فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه الله إيَّاه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِيْنَ سَنَة» .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ» .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ: الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ» .
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه» .(18/546)
«ومر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله عَزَّ وَجَلَّ ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ، فهؤلاءِ أفضلُ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً «ثم جلس فيهم» .
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية.
قال ابن عباس في سبب النزول: إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس.
وقال الحسن: إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى، فشق ذلك عليهم، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون: إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته، فكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} [المجادلة: 9] الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية.
قال ابن العربي: وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله - تعالى - قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح.(18/547)
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً؛ لأن الأمر للوجوب، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.
وقيل: كان مندوباً بقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} [إلى آخر الآية] .(18/548)
وأجيب عن الأول: أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ. انتهى.
فصل
اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي رَحِمَهُ اللَّهُ: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ.
وقال مقاتل بن حيان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام، ثم نسخ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار، فاشتريت به عشرة دراهم، وكلما ناجيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها.
وروي عن ابن جريج، والكلبي، وعطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ثلاثة، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وإعطاؤه الرَّاية يوم «خيبر» ، وآية النجوى.
{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من إمساكها، «وأطْهَرُ» لقلوبكم من المعاصي {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} يعني: الفقراء {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «لما نزلت {يا أيها الذين(18/549)
آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا ترى دِيْنَاراً؟ «قلت: لا يطيقونه، قال:» نِصْف دِيْنَارٍ «، قلت: لا يطيقونه، قال:» فَكَمْ «؟ قلت: شعيرة، قال:» إنَّك لزَهِيدٌ «فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} الآية» .
ومعنى قوله: «شعيرة» من ذهب، ومعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّك لزَهِيْدٌ» أي: لقليل المال فقدّرت على حسب حالك.
قال ابن العربي: «وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس» .
قال القرطبي: «والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم» .
فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ، وقال: إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.
قال ابن الخطيب: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة، ولا يكون هذا نسخاً، وهذا كلام حسن، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} .
وقيل: منسوخ بوجوب الزكاة.
قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} .
هذا استفهام معناه التقرير.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أأشفقتم» أي: أبخلتم بالصدقة.
وقيل: خفتم.
و «الإشفاق» : الخوف من المكروه، أي: خفتم بالصدقة، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.(18/550)
قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} . في «إذ» هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها على بابها من المعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى، فتداركوه بإقامة الصَّلاة. قاله أبو البقاء.
الثاني: أنها بمعنى «إذا» كقوله تعالى:
{إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] وتقدم الكلام فيه.
الثالث: أنها بمعنى «إن» الشرطية، وهو قريب مما قبله؛ إلا أن الفرق بين «إن» ، و «إذا» معروف.
فصل في معنى الآية
المعنى: فإن لم تفعلوا ما أمرتم به، {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي: ونسخ الله ذلك الحكم، ورخص بكم في ألاَّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة، وسائر الطاعات، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل.
قال القرطبي: وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ضعيف؛ لأن الله - تعالى - قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء.
فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف، وبيانه من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} يدل على تقصيرهم.
الثاني: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} .
الثالث: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} .
فالجواب: قال ابن الخطيب: ليس الأمر كما قلتم؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة، ويشتغلوا بالمناجاة، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة، فلا يمكن أن يكون مقصراً، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة، فهذا أيضاً غير جائز؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم.(18/551)
فأما قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب. فقال هذا القول.
وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فقد [كفاكم] هذا التَّكليف.
قوله تعالى {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
روي عن أبي عمرو: {خبير بِمَا يعْملُونَ} بالياء من تحت، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب.
والمعنى: يحيط بأعمالكم ونيَّاتكم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} .
قال قتادة: هم المنافقون تولّوا اليهود.
وقال السدي ومقاتل: هم اليهود. {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء، ولا من اليهود والكافرين، كما قال جل ذكره: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143] .
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
قال السدي ومقاتل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حُجْرة من حُجَره، إذ قال:» يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ «، فدخل عبد الله بن نبتل، وكان أزرق، أسمر قصيراً، خفيف اللحية، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» علاَمَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ «؟ فحلف بالله ما فعل، وجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما شتموه، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية»
فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كذبة.(18/552)
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: والمراد من هذا الكذب، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويكيدون المسلمين، وإذا قيل: إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ: إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر.
قوله: {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص، بل كقوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إلى هؤلاء} [النساء: 143] فالضمير في «ما هم» عائد على {الذين تَوَلَّوْاْ} ، وهم المنافقون، وفي «مِنْهُمْ» عائد على اليهود، وهم الكافرون الخلص.
والثاني: أنها حالٌ من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم أيضاً.
والثالث: أنها صفة ثانية ل «قوماً» فعلى هذا يكون الضمير في «ما هم» عائداً على «قوماً» وهم اليهود، والضمير في «منهم» عائد على «الذين تولّوا» يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون. قاله ابن عطية.
إلا أن فيه تنافر الضمائر، فالضمير في «وَيَحْلِفُونَ» عائد على «الذين تولّوا» فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على «الَّذيْنَ تولّوا» وعلى الثالث: تختلف كما عرفت.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، أي: يعلمون أنه كذب، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها.
قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي: لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في جهنم، وهو الدَّرْك الأسفل من النَّار.
وقيل: عذاب القبر.
قال ابن الخطيب: لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القَبْر، وحملنا قوله جل ذكره: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 16] على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار. {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بئست الأعمال أعمالهم.(18/553)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} .
قرأ العامة: «أيْمَانَهُمْ» - بفتح الهمزة - جمع «يَمِين» .
والحسن وأبو العالية - بكسرها - مصدراً هنا، وفي «المُنَافقين» ، أي: إقرارهم اتخذوه جُنّة يستجنُّون بها من القَتْلِ.
قال ابن جني: «هذا على حذف مضاف، أي: اتخذوا إظهار أيمانهم جُنَّة من ظهور نفاقهم» .
وقوله تعالى: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} مفعولان ل «اتَّخَذُوا» .
قوله: {لهم عذاب مهين} في الدنيا بالقَتْل وفي الآخرة بالنار.
وقيل: المراد من الكل عذاب الآخرة، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} [النحل: 88] . الصّد عن سبيل الله: المنع عن الإسلام.
وقيل: إلقاء الأراجيف وتَثْبِيط المسلمين عن الجهاد.
قوله تعالى: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} تقدم الكلام عليه في آل عمران.
قال مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ: قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد(18/554)
شقينا إذاً، فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فنزلت الآية.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي: لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يحلفون لله - تعالى - يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا، وهو قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ويحسبون أنهم على شيء، بإنكارهم وحلفهم.
قال ابن زيد: ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة.
وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار، والأول أظهر.
والمعنى: أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
قال القاضي والجُبَّائي: إن أهل الآخرة لا يكذبون، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة: إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذباً، وقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: في الدنيا.
قال ابن الخطيب: «وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النَّظْم» .
روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ تعالى؟ فَتقُومُ القدريَّةُ مُسْودَّةً وجُوهُهُمْ، مُزْرَقَّةً أعْيُنُهُمْ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيْلُ لُعَابهُم، فيقُولُونَ: واللَّهِ ما عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً ولا قَمَراً ولا صَنَماً، ولا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلهاً» .
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: صدقوا ولله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} ، هم والله القدرية ثلاثاً.
قوله تعالى: {استحوذ} . جاء به على الأصل، وهو فصيح استعمالاً، وإن شذ قياساً.(18/555)
وقد أخرجه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - على القياس، فقرأ: «اسْتَحَاذَ» ك «استبان» . وتقدم هذه المادة في «النساء» في قوله تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] .
قال الزجاج: «اسْتَحْوَذَ» في اللغة استولى، يقال: حذت الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها.
وقال المبرد: «استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به» .
قيل: المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا.
وقيل: قوي عليهم فأنساهم ذكر الله، أي: أوامره في العمل بطاعته.
وقيل: زواجره في النهي عن معصيته، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هاهنا، {أولئك حِزْبُ الشيطان} : طائفته ورهطُه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخَاسِرُونَ} في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين:
الأول: أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً.
الثاني: لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} تقدم أول السورة.
{أولئك فِي الأذلين} . أي: من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً.
قوله تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} .
يجوز أن يكون «كَتَبَ» جرى مجرى القسم، فأجيب بما يجاب به.
وقال أبو البقاء: وقيل: هي جواب «كتب» ؛ لأنه بمعنى «قال» .
وهذا ليس بشيء؛ لأن «قال» لا يقتضي جواباً، فصوابه ما تقدم.(18/556)
ويجوز أن يكون «لأغلبن» جواب قسم مقدر، وليس بظاهر.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: {كتب الله لأغلبن} أي: قضى الله ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة.
وقال الفراء: «كتب» بمعنى «قال» .
وقوله: «أنا» توكيد، «ورسلي» من بعث منهم بالحرب، فإن الرسول بالحرب غالب، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
قال مقاتل: قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا «مكة» و «الطائف» و «خيبر» وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على «فارس» و «الروم» ، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أتظنون «الروم» و «فارس» كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} .
ونظيره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] .
قوله: {ورسلي} .
قرأ نافع وابن عامر بفتح «الياء» .
والباقون: لا يحركون.
قال أبو علي: «التَّحريك والإسكان جميعاً حسنان» .
وقوله تعالى: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قوي على نُصْرة أنبيائه «عَزِيزٌ» غالب لا يدفعه أحد عن مُرَاده.
قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} .
«يوادُّون» هو المفعول الثاني ل «تَجِدُ» ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى «(18/557)
صادق ولقي» ، فيكون «يوادّون» حالاً، أو صفة ل «قوماً» .
ومعنى «يوادُّون» أي: يحبون ويوالون {مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} . وقد تقدم الكلام على المُحَادّة.
والمعنى: أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله.
فصل في المراد بهذه الموادّة
فإن قيل: أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟ .
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه.
قوله تعالى: «ولو كانوا» هذه «واو» الحال.
وقدّم أولاً الآباء؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنَّى بالأبناء؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها، قال الحماسي في معنى ذلك، رحمة الله عليه رحمة واسعة: [السريع]
4733 - وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا ... أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ
ثم ثلَّث بالإخوان؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع.
قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل]
4737 - أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ - جَنَاحُهُ ... وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ
ثم ربع بالعشيرة؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد.
قال بعضهم، رحمة الله عليه: [البسيط](18/558)
4734 - لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ ... في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وقرأ أبو رجاء: «عَشِيْراتهم» ، بالجمع، كما قرأها أبو بكر في «التوبة» كذلك.
فصل في مناسبة الآية
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} والمعنى: أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم «أحد» ، وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم «بدر» ، وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال ابن جريح:
«حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصكّه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر ذلك له، فقال:» أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ «، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته» ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم «بدر» أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه.
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية
قال القرطبي: استدل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالسوا القدرية، وعادوهم في الله، لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} .
قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان.
وعن الثوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.(18/559)
وعن عبد العزيز بن أبي رواد: أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه، وتلا هذه الآية.
وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} » الآية
. قوله: {أولئك كَتَبَ} .
قرأ العامّة: «كَتَبَ» مبنيًّا للفاعل، وهو الله - سبحانه وتعالى - «الإيمان» نصباً، وأبو حيوة في رواية المفضل: «كُتِبَ» مبنيًّا للمفعول «الإيمان» رفع به.
والضمير في «منه» لله تعالى.
وقيل: يعود على «الإيمان» ؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين. قاله السدي، أي: أيدهم بروح من الإيمان، يدل عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] .
فصل في معنى كتب الإيمان
معنى «كتب الإيمان» أي: خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يُوالِ من حاد الله.
وقيل: «كَتَبَ» : أثبت. قاله الربيع بن أنس.
وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] أي: اجعلنا، وقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} [الأعراف: 156] .
وقيل «كتب» أي: جمع، ومنه الكتيبة، أي: لم يكونوا ممن يقول: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} أي: على قلوبهم الإيمان، كقوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] .
وخص القلوب بالذكر، لأنها موضع الإيمان.
قوله: «وأيَّدهُمْ» ، أي: قوَّاهم ونصرهم بروح منه.
قال الحسن: بنصر منه.
قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحاً؛ لأنه به يحيا أمرهم.(18/560)
وقال الربيع بن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بالقرآن وحججه.
وقال ابن جريح: بنُورٍ وبُرهان وهدى.
وقيل: برحمة من الله.
وقيل: أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ} أي: قبل أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرحوا بما أعطاهم {أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .
وهذه في مقابلة قوله تعالى: {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ» .(18/561)
سورة الحشر(18/562)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربع مائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} تقدم نظيره.
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} .
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل: سورة النَّضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب «المدينة» في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان من أمرهم ما نصّ عليه.
قوله: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} .
يجوز أن تكون «من» للبيان، فتتعلق بمحذوف، أي: أعني من أهل الكتاب.
والثاني: أنها حال من «الَّذين كفروا» .
وقوله تعالى: {مِن دِيَارِهِمْ} متعلق ب «أخرج» ، ومعناها: ابتداء الغاية، وصحت إضافة الديار إليهم؛ لأنهم أنشئوها.(18/562)
قوله: {لأَوَّلِ الحشر} .
هذه اللاَّم متعلقة ب «أخرج» وهي لام التوقيت، كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي: عند أول الحشر.
وقال الزمخشري: وهي كاللام في قوله تعالى: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] ، وقوله: «جئت لوقت كذا» وسيأتي الكلام على هذه «اللام» في سورة «الفجر» إن شاء الله تعالى.
فصل في الكلام على الحشر
قال القرطبي: «الحشر» : الجمع، وهو على أربعة أضرب:
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة.
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} .
قال الزهري: كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء، وكان الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى «الشام» .
قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في «الشام» فليقرأ هذه الآية.
وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «اخْرُجُوا» قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرْضِ المَحْشَرِ» .
قال قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هذا أول المحشر.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هم أول من حشر من أهل الكتاب، وأخرج من دياره.
وقيل: إنهم أخرجوا إلى «خيبر» ، وإن معنى «لأول الحشر» : إخراجهم من حصونهم إلى «خيبر» ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من «خيبر» إلى «نجد» و «أذرعات» .
وقيل: «تيماء» و «أريحاء» ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم.(18/563)
وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة.
قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيلُ معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح.
وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل، ولا ترى بالنهار.
قال ابن العربي: للحشر أول ووسط، وآخر.
فالأول: إجلاء بن النَّضير.
والأوسط: إجلاء خيبر.
والآخر: حَشْر يوم القيامة.
وعن الحسن: هم بنو قريظة، وخالفه بقية المفسرين، وقالوا: بنو قريظة ما حشروا، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي.
فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم
قال إلكيا الطَّبري: ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ، والآن فلا بد من قتالهم، أو سبيهم، أو ضرب الجزية عليهم.
قوله تعالى: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} أي: لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم.
وقوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم.
قيل: المراد بالحصون: الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة.
قوله: {مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم} . فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «حُصُونهم» مبتدأ، و «مَانِعتهم» خبر مقدم، والجملة خبر «أنهم» . لا يقال: لم لا يقال: «مَانعَتُهُم» مبتدأ، لأنه معرفة، و «حصونهم» خبره، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة.(18/564)
الثاني: أن تكون «مانعتهم» خبر «أنهم» و «حصونهم» فاعل به، نحو: إن زيداً قائم أبوه، وإن عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى؛ لأن في نحو: «قائم زيد» على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً، خلافاً، الكوفيون يمنعونه، فمحل الوفاق أولى.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فأي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو» مانعتهم «، وبين النظم الذي جاء عليه؟ .
قلت: بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم، ومنعها إياهم، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل» أن «، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، وليس ذلك في قولك: حصونهم تمنعهم» . انتهى.
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول، وقد تقدم أنه مرجوح.
وتسلط الظن هنا على «أن» المشددة، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل «علم» وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته، وأنه بمنزلة العلم.
وقوله: {مِّنَ الله} أي: من أمره.
قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} .
قال الزمخشري: قرىء «فأتاهم الهلاك» أي: أتاهم أمره وعذابه {من حيث لم يحتسبوا} ، أي: لم يظنوا، وقيل: من حيث لم يعلموا.
وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح: «من حيث لم يحتسبوا: بقتل كعب بن الأشرف، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها» .
وقيل: الضمير في «فأتاهم الله» يعود إلى المؤمنين، أي: فأتاهم نصرُ الله وتقويته [لا] يمنعهم شيء منها.
قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة.
قال أهل اللغة: «الرُّعْبُ» : الخوف الذي يرعب الصُّدور، أي: يملؤه، وقذفه: إثباته فيه، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه.(18/565)
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق.
قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم} يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به، وأن يكون حالاً من ضمير «قلوبهم» ، وليس بذاك.
وقرأ أبو عمرو: «يُخَرِّبُونَ» بالتشديد، وباقيهم: بالتَّخفيف.
وهما بمعنى؛ لأن «خرَّب» عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة.
وعن أبي عمرو: أنه فرق بمعنى آخر، فقال: «خرّب» - بالتشديد - هدم وأفسد، و «أخرب» - بالهمزة - ترك الموضع خراباً، وذهب عنه، وهو قول الفرَّاء.
قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً.
و «يُخْرِبُونَ» من خرب المنزل وأخربه صاحبه، كقوله: «عَلِمَ وأعْلَمَ، وقَامَ وأقَامَ» .
وإذا قلت: «يخربون بيوتهم» من التخريب فإنما هو تكثير؛ لأن ذكر «بيوتاً» تصلح للتقليل والتكثير.
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: «فرحته وأفرحته» .
قال الأعشى: [المتقارب]
4736 - ... ... ... ... ... ... ... ... وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير.
ويجوز أن يكون «يخربون» تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً.
قال أبو عمرو: وإنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن،(18/566)
وبنو النضير لم يتركوها خراباً، وإنما خرَّبوها بالهدم، ويؤيده قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} .
فصل في تفسير الآية
قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم.
وقال مقاتل: إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب.
وقيل: إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم.
وقيل: إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها، ويحملونها على الإبل.
فإن قيل: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟ .
قلت: لما عرضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
وقال الزهري: «يخربون بيوتهم» بنقض المواعدة، «وأيدي المؤمنين» بالمقاتلة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «بأيديهم» في تركهم لها، «وأيدي المؤمنين» في إجلائهم عنها.
قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} .
والاعتبار: مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع.
ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.(18/567)
ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يا أولي الأبصار} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر.
قال الفراء: أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر.
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله، فأنزلهم الله - تعالى - منها، وسلط عليهم من كان ينصرهم، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه.
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس.
وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} .
العامة: على مده وهو الإخراج.
يقال: أجليت القوم، وجلا هو جلاء.
وقال الماوردي: الجلاء أخصّ من الخروج؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد.
وقال غيره: الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك.
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح: «الجَلاَ» بألف فقط.
وطلحة: مهموزاً من غير ألف ك «النبأ» .
والمعنى: أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم، وأنه يبقون مدة، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي: بالقتل كما فعل بإخوانهم «بني قريظة» ، والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء.
وأما قوله: {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار} ، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد؛ لأن «لولا» تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.(18/568)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} .
أي: عادوه وخالفوا أمره.
{وَمَن يُشَآقِّ الله} .
قرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع: بالفك، كالمتفق عليه في الأفعال، وأدغم الباقون.
والمقصود من الآية الزَّجْر.(18/569)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قوله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} .
«ما» شرطية في موضع نصب ب «قطعتم» ، و «من لينة» بيان له، و «فبإذن الله» جزاء الشرط، فلا بد من حذف، أي: فقطعها بإذن الله، فيكون «بإذن الله» الخبر لذلك المبتدأ.
واللِّيْنة: فيها خلاف كبير.
قيل: هي النَّخْلة مطلقاً.
وأنشد الشاعر في ذلك: [الطويل]
4737 - كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وقال ذو الرمة: [الطويل]
4738 - طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ ... نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ
وقيل: هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة. قاله الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير وعكرمة، والخليل.(18/569)
وقيل: ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة، وهو قول أبي عبيدة.
قال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق: الفَحْل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي.
وقيل: هي النَّخْلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض.
وأنشد الأخفش رحمة الله عليه: [الخفيف]
4739 - قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى ... بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ
وقال سفيان بن عيينة: هي ضرب من النخل، يقال لثمره: اللَّون. تمره أجود التَّمر، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضِّرْس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل: هي الفَسِيْلة؛ لأنها ألينُ من النخلة.
وأنشد: [الخفيف]
4740 - غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ ... ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ
وقيل: اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم.
وقال الأصمعي: إنها الدَّقَل. قال: وأهل «المدينة» يقولون: لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل.
قال ابن العربي: «والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك» .
وفي عين «لينة» قولان:
أحدهما: أنها «واو» ؛ لأنها من اللون، وإنما قلبت ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها ك «ديمة» و «قيمة» .
الثاني: أنها «ياء» ؛ لأنها من اللين.
وجمع اللينة «لين» ؛ لأنه من باب اسم الجنس ك «تمرة، وتمر» .
وقد كسر على «ليان» وهو شاذّ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك «رطبة ورطب وأرطاب» .
وأنشد: [المتقارب](18/570)
4741 - وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا ... نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ
والضمير في قوله «تَرَكْتُمُوهَا» عائد على معنى «ما» .
قوله: «قَائِمَةً» .
قرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي: «قُوَّماً» على وزن «ضُرَّباً» جمع «قائم» مراعاة لمعنى «ما» فإنه جمع.
وقرأ عبد الله، {ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها} أي: لم تقطعوها.
وقرىء: «قَائِماً» مفرداً مذكراً.
وقوله: {أُصُولِهَا} .
قرىء: «أصْلها» بغير «واو» ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع «أصل» نحو: «رَهْن ورُهُن» .
والثاني: أن يكون حذف الواو استثقالاً لها، واكتفى بالضمة عن «الواو» .
فصل في نزول الآية
روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما نزل بنو النضير، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك.
فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا.
وقال بعضهم: بل نُغيظهم بقطعها، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: حرَّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نخل بني النضير وقطع(18/571)
وهي «البُويرة» ، فنزل: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه «فبإذْنِ الله» أي: بأمره {وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} .
و «اللام» في «ليخزي» متعلقة بمحذوف أي: أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين.
فصل في هدم حصون الكفار
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال.
وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون، فسألهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال هذا: تركتها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال الآخر: قطعتها غيظاً على الكُفَّار.
واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الماوردي رَحِمَهُ اللَّهُ: في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب.
وقال إلكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين أظهرهم، ولا شكَّ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط.
قال ابن العربي: وهذا باطل لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما يدل على اجتهاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ، وذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} .
قوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} الآية.
قال المبرد: «يقال: أفاء يفيء، إذا رجع، وأفاء الله، إذا رده» .
وقال الأزهري: «الفَيْء: ما رده الله على أهل دينه من أموالٍ بلا قتالٍ إما بأن(18/572)
يجلوا عن أوطانهم ويخْلُوهَا للمسلمين، أو يصالحون على جزيةٍ يؤدّونها عن رءوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفكِ دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح، ويتركوا الباقي، فهذا المال هو الفيءُ، وهو ما أفاء الله على المسلمين، أي: رده من الكفار على المسلمين» .
وقوله: «مِنْهُمْ» أي: من يهود بني النضير.
قوله: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ} .
الفاء جواب الشرط، أو زائدة، على أنها موصولة متضمنة معنى الشَّرط، و «ما» نافية.
والإيْجَاف: حمل البعير على السَّير السريع، يقال: وجف البعير والفرس إذا أسرع، يَجِفُ وجْفاً ووَجِيفاً ووجفَاناً، وأوجفته أنا إيجافاً، أي: أتعبته وحركته.
قال العجاج: [الرجز]
4742 - نَاجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مِمَّا وجَفَا ... وقال نصيب: [الطويل]
4743 - ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قطَعْتُ وجيفَهُمْ ... إلَيْكَ ولوْلاَ أنْتَ لَمْ يُوجفِ الرَّكْبُ
قوله تعالى: {مِنْ خَيْلٍ} .
«من» زائدة، أي: خيلاً، والرِّكاب: الإبل، واحدها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها.
قال ابن الخطيب: والعرب لا يطلقون لفظ الرَّاكب إلاَّ على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً.
والمعنى: لم تقطعوا إليها شُقَّة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من «المدينة» على ميلين قاله الفراء. فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً، ولا إبلاً إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل: إنه ركب جملاً.(18/573)
وقيل: حماراً مخطُوماً بليفٍ، فافتتحها صُلْحاً.
قال ابن الخطيب: إن الصحابة طلبوا من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يقسم الفَيْءَ بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم، فذكر الله - تعالى - الفرق بين الأمرين، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأما الفيءُ فلم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضعه حيث يشاء.
وها هنا سؤال، وهو أن أموال بني النَّضير أخذت بعد القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين:
الأول: أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرِّكاب، وحاصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون، بل هي فيء «فَدَك» ؛ لأن أهله انجلوا عنه، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير حربٍ، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأخذ من غلَّة «فدك» نفقته ونفقة من يعوله، ويجعل الباقي للسِّلاح والكراع، فلما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ادعت فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنه كان نحلها «فدكاً» ، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنت أعز الناس علي فقراً، وأحبهم إلي غنى، لكني لا أعرف صحة قولك، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطلب منها أبو بكر الشَّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول، ويجعل ما يبقى في السلاح والكُراع.
وكذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - جعله في يد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجريه على هذا المجرى، ورد هذا في آخر عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: إن بنا غنًى وبالمسلمين إليه حاجة.
وكان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجريه كذلك، ثم عاد إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فكان يجريه هذا المجرى، والأئمة الأربعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - اتَّفقوا على ذلك.
والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة، وإنما كانوا على ميلين من «المدينة» ، فمشوا إليها مشاة، ولم يركب إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما كانت المقاتلة قليلة، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله - تعالى - مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلاً، فخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتلك الأموال فروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسمها بين المهاجرين، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً(18/574)
منها إلا ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة.
قال بعض العلماء: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم، فبين الله - تعالى - أنها فيءٌ، وكان قد جرى بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، ولم يكن قتالٌ على التحقيق، بل جرى مبادىء القتال، وجرى الحصار، فخص الله - تعالى - تلك الأموال برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: علمهم الله - تعالى - وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرهم بغير كراع ولا عدة.
{ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من عباده} من أعدائه.
وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
قوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله} .
قال الزمخشري: «لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها» .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي «قريظة» و «النضير» ، وهما ب «المدينة» و «فدك» وهي على ثلاثة أميال من «المدينة» و «خيبر» ، وقرى «عرينة» و «ينبع» جعلها الله - تعالى - لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله - تعالى - لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُهماناً لغير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تطييباً منه لعباده.
فصل في المراد بذي القربى
قال ابن الخطيب: أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم، وبنو المطلب.
وقال القرطبي: وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال؟ .
فقال بعضهم: إن قوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} منسوخ بآية «الأنفال» من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء، وهذا قول(18/575)
يزيد بن رومان، وقتادة وغيرهما، ونحوه عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال بعضهم: ما غنمتم بصُلْح من غير إيجاف خيل، ولا ركاب، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئاً، الأول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين.
وقال معمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الأولى: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة «الأنفال» للغانمين.
وقال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وبعض العلماء: إنَّ معنى الآيتين واحد، أي: ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهمٍ، أربعة منها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهمٍ؛ سهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً، وسهم لذوي القُرْبى، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب؛ لأنهم منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وأما بعد وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالذي كان من الفيء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثُّغُور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وفي قول آخر: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثُّغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء.
فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلا خوف، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ لي مِنْ غَنائِمكُمْ إلاَّ الخمسُ، والخمسُ مردودٌ فِيْكُم» .
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّا لا نُورثُ ما تركناهُ صدقة» .
وقيل: كان مال الفيء لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} فأضافه إليه، غير أنه كان لا يتأثّل مالاً، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات:
فالآية الأولى وهي قوله تعالى: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} [الحشر: 2] ، ثم قال تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} يعني: من أهل الكتاب معطوفاً عليهم {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} يريد - كما بينا - فلا حق لكم فيه، ولذلك قال(18/576)
عمر: كانت خالصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني بني النضير، وما كان مثلها فهذه آية واحدة، ومعنى متحد.
الآية الثانية: قوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاء الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية «الأنفال» أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} ، عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فمن ها هنا نشأ الخلاف.
فقالت طائفة: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصُّلح كله ونحوه.
وقالت طائفة: هي ملحقة بآية «الأنفال» ، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة؟ .
قال القرطبي: «وإلحاقها بالتي قبلها؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى» .
وقد قيل: إن سورة «الحشر» نزلت بعد «الأنفال» ، ومن المُحَال أن ينسخ المتقدم المتأخر.
فصل في أموال الأئمة والولاة
الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب:
الأول: ما أخذ من المسلمين على طريق التَّطهير لهم كالصَّدقات والزكوات.
والثاني: الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفواً صفواً من غير قتال، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعُشُور والمأخوذ من تجار الكفار.
ومثله أن يهرب المشركون، ويتركون أموالهم، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له.
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة.
وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصنع فيها ما شاء كما قال في «الأنفال» : {قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] ثم نسخ بقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 41](18/577)
الآية وقد مضى وأما الفيء وقسمته وقسمة الخمس سواء.
قال القرطبي: «والأمر فيهما عند مالك إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازِلَ تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما، أو قسمة أحدهما، قسمها كلها، أو قسم أحدهما بين الناس، ويستوي فيه غريبهم ومولاهم، ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطي ذوي القربى من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الفيءِ سهمهم على ما يراه الإمام، وليس لهم حد معلوم» .
وهل يعطي الغني منهم؟ .
فأكثر الناس على إعطائه؛ لأنه حق لهم.
وقال مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا يعطي منهم غير فقرائهم؛ لأنه جعل لهم عوضاً من الصدقة.
وقال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن ما حصل من أموال الكفار بغير قتال كان يقسم في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على خمسة وعشرين سهماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشرون سهماً يفعل فيها ما يشاء، والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.
قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي: وهذا القول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصاً له كما ثبت في الصحيح عن عمر مبيناً للآية، ولو كان هذا لكان قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم.
فصل في تقسيم هذه الأموال
وتقسم هذه الأموال المتقدم ذكرها في البلد الذي جُبِيَ فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلاَّ أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أعوام «الرَّمادة» وكانت خمسة أعوام أو ستة.
وقيل: عامين.
وقيل: عام اشتدّ فيه الطَّاعون مع الجوع، وإن لم يكن ما وصفناه. ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويبدأ بمن أبوه فقير، والفيء حلال للأغنياء، ويساوي فيه بين الناس، إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة، والتفضيل فيه إنما يكون فيه على قدر الحاجة، ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم، ويعطي منه الجائزة والصِّلة إن كان ذلك أهلاً، ويرزق القضاة والحكام، ومن فيه مصلحة للمسلمين، وأولاهم بتوفير الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعاً، ومن أخذ من الفيء شيئاً في الديوان كان عليه أن يغزو إذا وقع الغزو.(18/578)
قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} .
قرأ هشام: «تكون» بالتاء والياء، «دولة» بالرفع فقط، والباقون: بالياء - من تحت - ونصب «دولة» فأما الرفع فعلى أن «كان» تامَّة، وأما التذكير والتأنيث فواضحتان؛ لأنه تأنيث مجازي.
وأما النصب فعلى أنها الناقصة، واسمها ضمير عائد على الفيء، والتذكير واجب لتذكير المرفوع، و «دولة» خبرها. وقيل «دولة» عائد على «ما» اعتباراً بلفظها.
وقرأ العامة: «دولة» بضم الدال.
وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلمي: بفتحها.
فقيل: هما بمعنى، وهو قول عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي، وهو ما يدولُ للإنسان، أي: ما يدور من الجد والغنى والغلبة.
وقال الحُذَّاق من البصريين والكسائي: «الدَّوْلة» - بالفتح - من المُلك - بضم الميم -، وبالضم من «المِلْك» - بكسرها - أو بالضم في المال، وبالفتح في النُّصْرة.
وهذا يرده القراءة المروية عن علي والسلمي، فإن النصرة غير مرادة قطعاً، و «كي لا» علة لقوله تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي: استقراره لكذا لهذه العلة.
قال المبرد: الدولة اسم للشَّيء الذي يتداوله القوم بينهم.
والدولة - بالفتح - انتقال حال سارة من قوم إلى قوم، فالدُّولة - بالضم - اسم لما يتداول، وبالفتح مصدر من هذا، ويستعمل في الحالة السارّة التي تحدث للإنسان، فيقال: هذه دولة فلان، أي قد أقبل، والمعنى: كي لا يكون الفيءُ الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بُلغةً يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم.
والمعنى: فعلنا ذلك في هذا الفيءِ، كي لا يقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء منها أيضاً بعد المرباع ما شاء.(18/579)
وفيها يقول شاعرهم: [الوافر]
4744 - لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
يقول: لئلا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية.
قال الكلبي: إنها نزلت في رؤساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أموال المشركين: يا رسول الله، خُذْ صفيَّك والربح، ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية؛ وأنشد: [الوافر]
4745 - لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [من الأخذ والغلول «فانتهوا» ] .
قاله الحسن وغيره.
وقال السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم عنه فلا تطلبوه، قال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.
فصل في أن أوامر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أوامر الله تعالى
هذه الآية تدل على أن كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر من الله - تعالى - لأن الآية وإن كانت في الغنائم، فجميع أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونواهيه داخل فيها.
قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا.
فقال الرجل: اتقرأ عليَّ بهذه آية من كتاب الله تعالى؟ قال نعم: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} .(18/580)
وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: سَلُوني عمَّا شئتم أخبركم من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فقلت له: أصلحك الله، ما تقول في المحرم يقتل الزُّنْبُور؟ قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقْتَدُوا باللَّذيْنِ من بَعْدِي أبي بَكرٍ وعُمر رضِيَ اللَّهُ عنهُمَا» .
حدثنا سفيان بن عيينة بن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه أمر بقتل الزُّنْبُور.
وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبيَّن أنه يقتدي فيه ب «عمر» ، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بالاقتداء به، وأنَّ الله - تعالى - أمر بقُبول ما يقوله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسُّنَّة.
وسئل عكرمة عن أمهات الأولاد، فقال: هل هُنَّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ} [النساء: 59] .
وفي «صحيح مسلم» وغيره عن علقمة عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَعَنَ اللَّهُ الواشِمَاتِ والمُسْتوشِمَاتِ والمُتنمِّصَات والمُتَفلِّجَاتِ للحُسْنِ، المُغيِّراتِ لخَلْقِ الله» فبلغ ذلك امرأة من «بَنِي أسد» يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعَنُ من لعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في كتاب الله تعالى، فقالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه ما تقول، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: [ {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} .
قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى الله عنه. الحديث.
فصل في الكلام على الآية
قوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} .(18/581)
وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى] : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} .
فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر، بدليل ما تقدم، مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذَا أمَرتكُمْ بشَيءٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتطعْتُمْ، وإذَا نَهيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فانتهُوا» .
قوله: {واتقوا الله} أي: عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه.
وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيعوها، {فإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} .(18/582)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من «لِذي القُربى» . قاله أبو البقاء والزمخشري.
قال أبو البقاء: «قيل: هو بدل من» لذي القُرْبى «وما بعده» .
[وقال الزمخشري: بدل من «لذي القُرْبى» وما عطف عليه] ، والذي منع الإبدال من «لله وللرسول» والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أخرج رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الفقراءِ في قوله: {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تسميته بالفقيرِ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عَزَّ وَجَلَّ.
يعني أنه لو قيل: بأنه بدل من «الله ورسوله» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قبيح لفظاً، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل: إن معناه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - تفخيماً، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره، وإنما جعله بدلاً من «لذي القُربى» ؛ لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ.
الثاني: أنه بيان لقوله تعالى: {والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] ، وكررت لام الجر لما كانت(18/582)
الأولى مجرورة ب «اللام» ليبين أنَّ البدل إنما هو منها. قاله ابن عطية.
وهي عبارة قلقةٌ جداً.
الثالث: أن «للفقراء» خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل: تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل: اعجبوا للفقراء.
قوله «يبتغون» يجوز أن يكون حالاً، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: للفقراء.
والثاني: «واو» أخرجوا. قالهما مكي.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين.
وقيل: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء} ولكن يكون «للفقراء» وهو مبني على الإعراب المتقدم، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى، «واليتامى والمساكين» أي: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به.
وقيل: {ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} [الحشر: 6] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا.
وقيل: والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين، أي: شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: {وَلِذِي القربى واليتامى} [الحشر: 7] .
قال القرطبي: «وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان.
و» المهاجرون «: من هاجر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حبًّا فيه ونُصرةً له» .
وقال قتادة: هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عَزَّ وَجَلَّ - ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
قوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} أي: أخرجهم كفار «مكة» ، أي: أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل «يَبْتَغُونَ» أي: يطلبون {فَضْلاً مِّنَ الله} : أي غنيمة في(18/583)
الدنيا «ورضْوَاناً» في الآخرة أي: مرضاة ربهم {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} في الجهاد {أولئك هُمُ الصادقون} في فعلهم ذلك.
وروي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - خطب ب «الجابية» ، فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمعطيهنّ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي، أخرجنا من «مكة» من ديارنا وأموالنا.
قوله: {أولئك هُمُ الصادقون} .
يعني: أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم.
قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} .
يجوز في قوله: {والذين تبوّءوا الدار} وجهان:
أحدهما: أنه عطف على «الفقراء» فيكون مجروراً، ويكون من عطف المفردات، ويكون «يحبون» حالاً.
والثاني: أن يكون مبتدأ، خبره «يُحبُّون» ويكون حينئذ من عطف الجمل.
وفي قوله: «والإيمان» . ستة أوجه:
أحدها: أنه ضمن «تَبَوَّءوا» معنى لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه، إذ الإيمان لا يتبوأ.
الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا، كقوله: [الرجز]
4746 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ...
وقوله: [مجزوء الكامل]
4747 - ... ... ... ... ... ... ... ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثالث: أنه يتجوّز في الإيمان، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط(18/584)
بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة. وفيه خلاف مشهور.
الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة، ودار الإيمان، فأقام «لام» التعريف في «الدار» مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.
الخامس: أن يكون سمى «المدينة» ؛ لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان.
قال بهذين الوجهين الزمخشري.
وليس فيه إلاَّ قيام «ال» مقام المضاف إليه، وهو محل نظر، وإنما يعرف الخلاف، هل يقوم «ال» مقام الضمير المضاف إليه؟ .
فالكوفيون يُجِيزُونه، كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مأواه.
[والبصريون: يمنعونه، ويقولون: الضمير محذوف، أي: المأوى له] .
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً.
السادس: أنه منصوب على المفعول معه أي: مع الإيمان معاً. قاله ابن عطية.
وقال: وبهذا الاقتران يصح معنى قوله «من قبلهم» فتأمله.
قال شهاب الدين: «وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] من باب إضمار الفعل؛ لأنه لا يقال: أجمعت شركائي، إنما يقال: جمعت» .
فصل في المراد بهذا التبوء
«التَّبَوُّء» : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا «المدينة» قبل المهاجرين إليها، والمراد بالدَّار: «المدينة» .
والتقدير: والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم.
فصل
قيل هذه الآية معطوفة على قوله: «للفقراء المهاجرين» وأن الآيات في «الحَشْر» كلها معطوفة بعضها على بعض.
قال القرطبي: ولو تأملوا ذلك، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن(18/585)
الله - تعالى - يقول: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 2]- إلى قوله - «الفاسقين» فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} [الحشر: 6] فأخبر أن ذلك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه، وما تقدم فيهم من القتالِ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر، ثم قال تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] ، وهذا كلام غير معطوف على الأول، وكذا {والذين تبوّءوا الدار والإيمان} ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفَيْء للفقراء المهاجرين، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء، وكذا {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ابتداء كلام، والخبر {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] .
وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُو الدار} ، {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] معطوف على ما قبله، وأنهم شركاء في هذا الفيء، أي: هذا المال للمهاجرين، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} [التوبة: 60] .
ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ:
{وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} [الحشر: 6] حتى بلغ {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} ، {والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان} ، {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي ب «سَرْو حمير» نصيبه منها لم يعرق جبينه.
وقيل: إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه، قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر» وتلا: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} [الحشر: 7] إلى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} فلما بلغ قوله: {أولئك هُمُ الصادقون} قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] إلى قوله {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.
فصل
روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيبر.(18/586)
وصح عن عمر أنه أبقى سواد «العراق» و «مصر» وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة، وأرزاق الجيش والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم.
واختلف فيما فعل من ذلك: فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه قسم «خيبر» ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل: إنه تأول في ذلك قول الله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] على ما تقدم أيضاً.
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار
اختلفوا في قسمة العقار، فقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الإمام مخير بين قسمتها، أو وقفها لمصالح المسلمين.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] مقطوعاً مما قبله، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.
فصل في فضل المدينة
قال القرطبي: «روى ابن وهب قال: سمعت مالكاً يذكر فضل» المدينة «على غيرها من الآفاق، فقال: إن» المدينة «تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: {والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية» .(18/587)
قوله تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} . فيه وجهان:
أحدهما: أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته. قاله الزمخشري.
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين، وفي «أوتُوا» للمهاجرين.
والثاني: أن الحاجة هنا من الحسد.
قال الحسنُ: حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
والضميران على ما تقدم قبل.
وقال أبو البقاء: «الحاجة مس حاجة» . أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا، فالضميران ل {الذين تبوّءو الدار والإيمان} .
وقال القرطبي: «يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين، والمعنى: مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة» .
فصل في سبب نزول الآية
قال القرطبي: «كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ «، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا، ونادت الأنصار: رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله، فقال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ «وأعطى رسول الله للمهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم» .(18/588)
ويحتمل أن يريد به {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} إذا كانوا قليلاً يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا، وقد أنذرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ» .
قوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بني النضير:» إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً «. فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة» ، فنزل: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} الآية.
قال ابن الخطيب: «وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات.
فذكر القرطبي: أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية» .
وخرجه مسلم أيضاً: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إني مجهودٌ، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ يُضيف هذا الليلة رَحِمَهُ اللَّهُ؟ «فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله أنا، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» ، وذكر نحو الحديث الأول.(18/589)
وفي رواية: فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله.
وذكر المهدوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} الآية.
وذكر الثعلبي عن أنس، قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت الآية.
فصل في معنى الإيثار
الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية،(18/590)
وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف، أي: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟ .
فالجواب: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم، فكانوا كما قال الله تعالى: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس} [البقرة: 177] .
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
«كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب، فقال هذه صدقة، فرماه بها، وقال:» يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس «انتهى.
فصل في الإيثار بالنفس
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.
ومن الأمثال: [البسيط]
4748 - الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ ... والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ففي الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أحد، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشلتْ.
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم» اليَرْموك «أطلب ابن عم لي [ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن(18/591)
نعم] ، فإذا أنا برجل يقول: آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمعت آخر يقول: آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو اليزيد البسطامي رَحِمَهُ اللَّهُ: ما غلبني أحد سوى شاب من أهل» بلخ «قدم علينا حاجًّا، وقال: يا أبا اليزيد، ما حد الزهد عندكم؟ .
فقلت له: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.
فقال: هكذا كلاب» بلخ «عندنا.
فقلت: وما حدّ الزهد عندكم؟ .
قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حدُّ الزهد؟ قال: ثلاث، تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند الفوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى» الري «ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
هذه واو الحال، والخصاصة: الحاجة، وأصلها من خصاص البيت، وهي فروجه، وحال الفقير يتخللها النقص، فاستعير لها ذلك.
وقال القرطبي: «أصلها من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة: انفراد بالحاجة، أي: ولو كانت بهم فاقة وحاجة» .
ومنه قول الشاعر: [الكامل]
4749 - أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ
قوله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} .
العامة على سكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وابن أبي عبلة وأبو حيوة: بفتح الواو وتشديد القاف.(18/592)
والعامة - بضم الشين - من «شح» ، [وابن أبي عبلة] وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بكسرها.
قال القرطبي: الشُّحُّ والبخل سواء، يقال: رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة.
قال عمرو بن كلثوم: [الوافر]
4750 - تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ ... عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل.
وفي «الصحاح» : الشح: البخل مع حرصٍ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ، ورجل شَحِيحٌ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة.
والمراد بالآية: الشُّح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة، وما شاكل ذلك، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه.
روى الأسود عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن رجُلاً أتاه فقال: إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى -، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً، ولكن ذلك هو البخل، وبئس الشيء البخل، ففرق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بين الشح والبخل.
وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي(18/593)
النَّاس، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع.
قال ابن زيد: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.
وقال ابن جريج: الشح: منع الزكاة وادخار الحرام.
وقال ابن عيينة: الشح: الظلم.
وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
وقال ابن عباس: من اتبع هواه، ولم يقبل الإيمان، فذلك هو الشحيح.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه، فقد وقاه الله شحَّ نفسه.
وقال أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ، وأعْطَى في النَّائِبَة» .
وعنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدعو
«اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا» .
وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم قني شُحَّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال القرطبي: ويدل على هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ(18/594)
القِيَامةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً» .
وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرُّ بابن آدم؟ قالوا: الفقرُ، فقال: الشح أضر من الفقر، لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً.(18/595)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
قوله تعالى: {والذين جَآءُو} . يحتمل الوجهين المتقدمين في «الذين» قبله، فإن كان معطوفاً على «المهاجرين» ، ف «يقولون» حال ل «يحبون» أي: قائلين أو مستأنف، وإن كان مبتدأ ف «يقولون» خبره.
فصل
هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار. {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} . قال بعض المفسرين: هذا عطف على «المُهَاجرينَ» وهم الذين هاجروا من بعد.(18/595)
وقيل: التابعون لهم بإحسان، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الأولى منازل المهاجرين، والثانية هي: الذين تبوءوا الدار والإيمان، والثالثة: والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل.
وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد، فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبَّهم، واستغفر لهم كما أمرك الله.
وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه، أنه جاءه رجل فقال: يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} ؟ [الحشر: 8] الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله فيهم: {والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان} ؟ [الحشر: 9] الآية، قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام، وهي قوله تعالى: {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} .
وروي أن نفراً من أهل «العراق» جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ ، قالوا: لا، قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل. ذكره النحاس.
فصل في وجوب محبة الصحابة
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم، والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء.
قال مالك: من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ} .(18/596)
فصل
قال القرطبي: دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه، وإن هذه الآية قاضية بذلك، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - {والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [الدين] .
«يروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج إلى المقبرة، فقال:» السَّلامُ [عليكم] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا «قالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ؟ فقَالَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ «» .
فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم، لا كما قال السُّديُّ والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك.
وعن الحسن أيضاً: أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» بعد انقطاع الهجرة.
قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} .
قيل: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم.
وقيل: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسبوهم، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا» .(18/597)
وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا: لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم» .
وقال العوام بن حوشب: أدركت هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى تتآلف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم.
وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه -، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه -، وسئلت الرافضة، من شرُّ أهلِ ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة.
{وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي: حسداً وبغضاً، {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} . للتبليغ فقط بخلاف قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [العنكبوت: 12] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة.
فصل
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً.
قال المقاتلان: يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وقيل: رفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، ومالوا ليهود قريظة والنضير.
والإخوان: هم الإخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً:
أحدها: الأخوّة في الكفر؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وثانيها: الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.(18/598)
وثالثها: الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فقالوا لليهود: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} .
وقيل: هذا من قول بني النضير لقريظة، وقولهم: {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} يعنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: لا نطيعه في قتالكم.
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جهة الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم وفعلهم.
فقولهم: {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي: في قتالكم أو في خذلانكم.
قوله تعالى: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} .
أجيب القسم المقدر، لأن قبل «إن» لام موطئة حذفت للعلم بمكانها، فإنَّ الأكثر الإتيان بها، ومثله قوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] وقد تقدم.
قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} .
أجيب القسم لسبقه، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله تعالى: {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى. وهو غلط؛ لأن {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} ليس جواباً للشرط بل جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله: [البسيط]
4751 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ: لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك، ولكنه صرح بأنه جواب القسم، فقال: «جاءت الأفعال غير مجزومة في» لا يخرجون ولا ينصرون «؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر» .
فقوله: «وفي هذا نظر» يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك، بل جاء على ما يقتضيه القياس.(18/599)
وفي هذه الضمائر قولان:
أحدهما: أنها كلها للمنافقين.
والثاني: أنها مختلفة بعضها لهؤلاء، وبعضها لهؤلاء.
فصل
اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وكان الأمر كذلك؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير: لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .
[وقيل: معنى لا ينصرونهم: لا يدومون على نصرهم، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين، فالمعنى: لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أي: ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار] .
قوله تعالى: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} .
مصدر من «رُهِبَ» المبني للمفعول، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين، كأنه قيل: لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في مدح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [البسيط]
4752 - فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ ... وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ ... بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
و «رَهْبَةً» تمييز.(18/600)
فصل في معنى الآية
المعنى: لأنتم يا معشر المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً} أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله، يعني صدور بني النضير.
وقيل: صدور المنافقين، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي: يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم، «ذَلِكَ» إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته.
قوله تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين «إلاَّ» إذا كانوا {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالخنادق والدُّروب والحيطان [يظنُّون] أنها تمنعهم منكم، {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} أي: من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم.
قوله: «جَمِيعاً» حال، و {إِلاَّ فِي قُرًى} متعلق ب «يُقَاتِلُونَكُمْ» .
وقوله: «جُدُرٍ» .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «جدار» بالإفراد. وفيه أوجه:
أحدها: أنه السُّورُ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم.
والثاني: أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه.
والثالث: أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار.
والباقون قرأوا: «جُدُر» - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار، فجمع لذلك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش، ويروى عن ابن كثير وعاصم: بضمة وسكون؛ وهي تخفيف الأولى، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه، وهي قراءة كثير من المكيين: «جَدْر» بفتحة وسكون.
فقيل: هي لغة في الجدار.
وقال ابن عطية: معناه أصل بنيات كالسور ونحوه: قال: ويحتمل أن يكون من(18/601)
جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم. يقال: أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع. والجدر: نبت، واحده جدرة.
وقرىء: «جَدَرٌ» - بفتحتين - حكاها الزمخشري.
وهي لغة في الجدار أيضاً.
وقرىء: «جُدْر» - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار.
قال القرطبي: ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف «كتاب» وفي الجمع كألف «ظِراف» ومثله «ناقة هجان، ونوق هجان» لأنك تقول في التثنية «هجانان» ، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى.
قاله ابن جني.
قوله: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} .
«بَيْنَهُمْ» متعلق ب «شديد» و «جميعاً» مفعول ثانٍ، أي: مجتمعين.
وقوله: {وَقُلُوبُهُمْ شتى} . جملة حالية، أو مستأنفة للإخبار بذلك.
والعامة على «شتى» بلا تنوين، لأنها ألف تأنيث.
ومن كلامهم: «شَتَّى تئوب الحلبة» أي متفرقين.
وقال آخر: [الطويل]
4753 - إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا ... هِيَ اليَوْمَ شَتَّى، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ
وقرأ مبشر بن عبيد: «شَتًّى» منونة، كأنه جعلها ألف الإلحاق.
وفي قراءة ابن مسعود: «وقُلُوبُهُمْ أشتُّ» يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً.
فصل في معنى الآية
معنى {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: عداوة بعضهم لبعض. قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} بالكلام والوعيد لنفعلن كذا.(18/602)
وقال السُّدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ.
وقيل: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لقوا العدو انهزموا.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} .
يعني اليهود والمنافقين. قاله مجاهد. وعنه أيضاً: يعني المنافقين.
وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب.
وقال قتادة: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} أي: مجتمعين على أمْر ورأي. {وَقُلُوبُهُمْ شتى} : أي: متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق.
وعن مجاهد أيضاً: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي: ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله.
وقيل: لا يعقلون ما فيه الحظ لهم.
وقيل: لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
خبر مبتدأ مضمر، أي: مثلهم مثل هؤلاء.
و «قريباً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بالتشبيه المتقدم، أي: يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر، ثم بين ذلك بقوله: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} .
والثاني: أنه منصوب ب «ذاقوا» أي: ذاقوا في زمن قريب.
أي: ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر.
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان.
فصل في معنى الآية
يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم.(18/603)
قال ابن عباس: يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير.
وقال قتادة: يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة، وكان بينهما سنتان.
وقال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعني كفَّار قريش يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد.
وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: «قَرِيباً» .
وقيل: هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
«وَبَالَ أمرهم» أي: جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة جعل «وبَالَ أمْرِهِمْ» نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [الذرية] . وهو قول الضحاك. ومن قال: المراد بنو النضير، قال: «وبَالَ أمْرِهِمْ» الجلاء والنفي، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر} .
هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم، وحذف حرف العطف ولم يقل: وكمثل الشيطان، لأن حذف حرف العطف كثير، كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم.
وقوله: {كَمَثَلِ الشيطان} كالبيان لقوله {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
فصل
روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أن الإنسان الذي قال له الشيطان: اكفر؛ راهب، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح، فدلّ الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه، ذكره القاضي إسماعيل، وعلي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكر خبره طويلاً.
وذكر ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في قوله: {كَمَثَلِ الشيطان} أنه كان راهب في(18/604)
الفترة يقال له: برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس، وذكر خبر برصيصا بتمامه.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من «المدينة» ، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد.
وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] الآية.
وقال مجاهد: المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم.
ومعنى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر} .
أي: أغواه حتى قال: إنِّي كافر، وليس قول الشيطان: {إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} حقيقة، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إِنِّي برياء مِّنكَ} .
وفتح الياء من «إني» نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأسكن الباقون.(18/605)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار} .
العامة على نصب «عَاقِبتَهُمَا» والاسم «أن» وما في حيزها، لأن الاسم أعرف من {عاقبتهما أنهما في النار} . وقد تقدم تحرير هذا في «آل عمران» و «الأنعام» .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم: برفعها، على جعلها اسماً، و «أن» وما في حيزها خبر كقراءة: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] .
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} .
العامة على نصبه، حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً.
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان، ومن جعلها في الجنس فالمعنى فكان عاقبة الفريقين أو الصنفين.
قال مقاتل: يعني المنافقين واليهود.
ونصب «عَاقِبتَهُمَا» على أنه خبر «كان» والاسم {أَنَّهُمَا فِي النار} .
وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والأعمش، وابن أبي عبلة: برفعه خبراً، والظرف ملغى، فيتعلق بالخبر، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظيًّا للحرف، وأعيد معه ضمير ما دخل عليه كقوله: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] .
وهذا على مذهب سيبويه، فإنه يجيز إلغاء الظرف وإن أكد.
والكوفيون يمنعونه، وهذا حجة عليهم، وقد يجيبون بأنا لا نسلم أن الظرف في هذه القراءة ملغى بل نجعله خبراً ل «أن» و «خالدان» خبر ثان، وهو محتمل لما قالوا إلا أن الظاهر خلافه.
قال القرطبي: وهذه القراءة خلاف المرسوم.
وقوله: {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} أي: المشركين، كقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .(18/606)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يعني يوم القيامة، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة؛ كقوله: [الطويل]
4754 - وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ ... وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلت كغد؛ لأن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى «ما قدَّمتْ» أي: من خير أو شرّ.
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد، لتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: الغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله: «ولتنظر» .
وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بكسرها على الأصل.
والحسن: بكسرها ونصب الفعل، جعلها لام «كي» ، ويكون المعلل مقدّراً، أي: ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم.
قوله تعالى: {واتقوا الله} تأكيد.
وقيل: كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى: أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية: ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري.
ثم قال: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
قال سعيد بن جبير: {بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بما يكون منكم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ} .(18/607)
العامة: على الخطاب، وأبو حيوة: على الغيبة، على الالتفات.
{نَسُواْ الله} أي: تركوه {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أن يعملوا لها خيراً. قاله المقاتلان.
وقيل: نسوا حق الله، فأنساهم حق أنفسهم. قاله سفيان.
وقيل: «نسُوا اللَّه» بترك ذكره وتعظيمه «فأنساهم أنفسَهُمْ» بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً. حكاه ابن عيسى.
وقيل: قال سهل بن عبد الله: «نَسُوا اللَّهَ» عند الذنوب «فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ» عند التوبة.
وقيل: «أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ» أي: أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] ، {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] .
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في «أنسَاهُمْ» إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً.
وقيل: «نَسُوا اللَّهَ» في الرخاء «فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ» في الشدائد.
{أولئك هُمُ الفاسقون} . قال ابن جبير: العاصون.
وقال ابن زيد: الكاذبون، وأصل الفِسْق الخروج، أي: الذين خرجوا عن طاعة الله.
قوله تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} أي: في الفضل والرتبة، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة، بقوله: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وهدّد الكافرين بقوله: {كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين. واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق، ثم [قال: {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} .
وهذا كالتفسير لنفي تساويهما.
و «هم» يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ، فعلى الأول: الإخبار بمفرد، وعلى الثاني: بجملة.(18/608)
ومعنى «الفَائِزُونَ» المقربون المكرمون.
وقيل: الناجون من النار، ونظير هذه الآية قوله: {لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] ، وقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار] } [ص: 28] .
فصل
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية، قالوا: لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، [فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان] ، وهو غير جائز وجوابه معلوم.
فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه. قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} .
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي: متشققة من خشية الله.
والخاشع: الذَّليل. والمتصدّع: المتشقق.
وقيل: «خاشعاً» لله بما كلفه من طاعته، «متصدعاً» من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه.
وقيل: هو على وجه المثل للكفار.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .(18/609)
أي: أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده.
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] .
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجُور بالعقاب.
قوله: «خاشعاً» حال؛ لأن الرؤية بصرية.
وقرأ طلحة: «مصّدعاً» بإدغام التاء في الصاد.
قوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} .
لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى، فقال: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه: عالم السر والعلانية.
وقيل: ما كان وما يكون.
وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا.
وقيل: «الغيب» ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه، و «الشَّهَادة» ما علموا وشهدوا.
وقوله: {الرحمن الرحيم} . تقدم مثله.
قوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس} .
قرأ أبو دينار وأبو السمال: «القَدُّوس» بفتح القاف.(18/610)
[قال الحسن: هو الذي كثرت بركاته] .
والعامة: بضمها، وهو المنزّه عن كل نقص، والطَّاهر عن كل عيبٍ.
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتطهر منه.
ومنه «القادوس» لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية.
وكان سيبويه يقول: «قَدُّوس، وسبُّوح» بفتح أولهما.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ: «القَدُّوس» بفتح القاف.
قال ثعلب: كل اسم على «فَعُّول» فهو مفتوح الأول، مثل: سَفُّود، وكَلُّوب، وتَنُّور، وسَمُّور، وشَبُّوط، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس، فإنَّ الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان، وكذلك: الذروح بالضم.
قوله: «السَّلامُ» . أي: ذو السلامة من النقائص.
قال ابن العربي: اتفق العلماء على أنّ قوله: «السَّلامُ» النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة.
فقيل: معناه الذي سَلِمَ من كل عيب، وبَرِىءَ من كل نقص.
وقيل: المسلم على عباده في الجنّة، كما قال: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] .
وقيل: معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. وهذا قول الخطابي.
قال القرطبي: وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل، وعلى الأول يكون صفة ذات.
وقيل: معناه: المسلم لعباده.
قوله: «المُؤمِنُ» .
أي: الذي أمن أولياؤه عذابهُ، يقال: أمنه يؤمنه فهو مؤمن.
وقيل: المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] .(18/611)
وقرأ العامة: «المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن» .
وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل ابن القعقاع: بفتحها.
فقال الزمخشري: بمعنى المؤمن به، على حذف حرف الجر، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] المختارون.
وقال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، أي: هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به، وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري.
فصل
قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي، قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين.
قوله: {المهيمن العزيز} .
قيل: معنى المهيمن «الشاهد» الذي لا يغيب عنه شيء. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل.
قال الخليل وأبو عبيدة: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] .
وقال ابن الأنباري: «المُهَيْمِنُ» : القائم على خَلْقِه بقدرته.
وأنشد: [الطويل]
4755 - ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ
وقيل هو في الأصل: مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء، كقوله: «أرَقْت وهرقت» ومعناه: المؤمن. نقله البغوي.
وتقدم الكلام على «العَزِيز» .(18/612)
قوله: «الجبَّارُ» .
استدل به من يقول: إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة، فإنه من «أجبره على كذا» ، أي قهره.
قال الفرَّاء: ولم أسمع «فعّالاً» من «أفعل» إلا في «جبَّار ودرَّاك» من أدرك انتهى واستدرك عليه: أسأر، فهو سَئّار.
وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح.
وقيل: هو من قولهم: نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
4756 - سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا
يعني النَّخْل التي فاتت اليد.
قال ابن الخطيب: فيه وجوه:
أحدها: أنه «فعّال» من جبر، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير.
قال الأزهري: «هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه» .
قال العجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [الرجز]
4757 - قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ ... الثاني: أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده.
قال السديُّ: إنه هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراده.
قال الأزهري: «هي لغة» تميم «، وكثير من الحجازيين يقولونها» .
وكان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: جبره السلطان على كذا، بغير ألف.
الثالث: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الجبَّار هو الملك العظيم.
وقيل: الجبار الذي لا تُطاق سطوته.
قال الواحدي: هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان:(18/613)
أحدها: المُسَلَّط، كقوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [ق: 45] .
الثاني: العظيم الجسم، كقوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] .
والثالث: المتمرّد عن عبادة الله كقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً} [مريم: 32] .
الرابع: القتال كقوله: {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] وقوله: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} [القصص: 19] .
قوله: {المتكبر} .
قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله.
وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم.
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد.
قال حميد بن ثور: [الطويل]
4758 - عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ ... بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ
قال الزجَّاج: وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده.
وقال ابن الأنباري: «المتكبر» ذو الكبرياء.
والكبرياء عند العرب الملك، قال تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} [يونس: 78] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار» .
وقيل: المتكبر معناه العالي.
وقيل: الكبير، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً.
وقد يقال: تظلّم بمعنى ظلم، وتشتّم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قرّ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب «تفعل» إذا نسب إلى ما لم يكن منه، ثم نزّه نفسه فقال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
كأنه قال: إن المخلوقين قد يتكبرون، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف،(18/614)
لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق.
قوله: {هُوَ الله الخالق البارىء} .
«الخَالقُ» هنا المقدر، و «البَارِىءُ» المنشىء المخترع، وقدم ذكر الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة.
قوله: «المُصَوِّرُ» .
العامة: على كسر الواو ورفع الراء، إما صفة وإما خبر.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والحسن بن السميفع، وحاطب بن أبي بلتعة: بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجها على أن يكون منصوباً ب «البَارِىءُ» .
و «المصوَّر» هو الإنسان إما آدم، وإما هو وبنوه.
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز.
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً: فتح الواو وجرّ الراء، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو: «الضارب الرجل» .
والوقف على «المصوّر» في هذه القراءة أيضاً حرام، وقد نبَّه عليه بعضهم.
وقال مكي: «ويجوز نصبه في الكلام، ولا بد من فتح الواو فتنصبه ب» البارىء «، أي: هو الله الخالق المصور، يعني: آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبنيه» . انتهى. وكأنه لم يطلع على هذه القراءة.
وقال أيضاً: «ولا يجوز نصبه مع كسر الواو، ويروى عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
يعني أنه إذا كسرت الواو، وكان من صفات الله تعالى، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله.
وقوله: «ويروى» أي: كسر الواو ونصب الراء، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين،(18/615)
فيتخرج على أنه من القطع، كأنه قال: أمدح المصور، كقولهم: «الحَمْدُ للَّه أهل الحمد» بنصب أهل؛ وقراءة من قرأ: {اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} بنصب «رب» .
قال مكي: و «المصور» مُفَعِّل «من» صَوّر يُصَوّر «، ولا يحسن أن يكون من» صار يصير «، لأنه يلزم منه أن يقال: المصير، بالياء» .
وقيل: هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.
وقدم «البارىء» على «المصور» لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
قوله: {لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} تقدم نظيره.
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال:
«سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن اسم الله الأعظم، فقال:» عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ، فأكثر قراءتهَا «فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ» .
وقال جابر بن زيدٍ: إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية.
وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنَ قَرَأ سُورَة الحَشْرِ غُفِرَ الله لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبه ومَا تأخَّر» .
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنَ قَرَأ خَواتِيمَ سُورة الحَشْرِ في لَيلٍ أو نهارٍ، فقبضهُ اللَّهُ في تلْكَ اللَّيلةِ أو ذلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الجنَّة» .(18/616)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
مدنية، وتسمى " الممتحنة " - بكسر الحاء - أي: المختبرة، وأضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة والكاشفة لما كشفت من عيوب المنافقين.
ومن قال " بفتح الحاء " فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال تعالى: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} [الممتحنة: 10] .(19/3)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
وهي ثلاث عشرة آية، وثلاث مائة وثمان وأربعون كلمة، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} الآية.
وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [اللائقة بحضرة الله - تعالى - من الوحدانية وغيرها] ، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات.
قوله: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} .
هذان مفعولا الاتخاذ.(19/3)
و «العَدو» لما كان بزنةِ المصادر وقع على الواحد فما فوق.
وأضاف العدو لنفسه تغليظاً في جرمهم.
روى مسلم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا والزبير والمقداد، فقال:» ائْتُوا روضة «خَاخٍ» فإنَّ بِهَا ظعينةً معها كتابٌ فخذُوهُ مِنْهَا «فانطلقنا تُعادي بنا خيلنَا، فإذا نحن بالمرأة، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل» مكة «يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله، إني كنت أمرأً ملصقاً في قريش - قال سفيان: يقول: كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أمَا إنَّهُ قَدْ صَدقَكُمْ «، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنَّهُ شهد بَدْراً، ومَا يُدْريك لعلَّ اللَّه اطلع على مَنْ شَهِدَ بَدْراً، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} إلى قوله: {سَوَآءَ السبيل} .
قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش، وكان في الكتاب: «أما بعد، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له وعده فيكم، فإن الله وليه وناصره» .
وقيل: «إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [المدينة من مكة ورسول الله] يتجهز لفتح مكة. قيل: كان هذا زمن الحديبية، فقال لها رسول(19/4)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمهاجرةً جئت يا سارة؟ قالت: لا، قال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة، وقد ذهبت الموالي - تعني قُتِلُوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: فأيْنَ أنت عَن شَبابِ أهْلِ مكَّة؟ - وكانت مغنيةً نائحةً قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدرٍ، فحث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وأعطوها، فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى، وقال: أعطيك عشرة دنانير، وبُرداً على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل» مكَّة «، وكتب في الكتاب: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت سارة، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك، فبعث عليّاً والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي، وفي رواية: عليّاً وعمار بن ياسر، وفي رواية: عليّاً وعماراً وعمراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرساناً، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة» خاخ «، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها وخلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها، فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا: أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذَّبنا وسلَّ سيفه، وقال أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّكِ ولأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها - وفي رواية في حُجزتِهَا - فخلُّوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إلى حاطب، فقال: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، وذكر الحديث»
فصل في النهي عن موالاة الكفار
هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكُفَّار، وقد تقدم نظيره، كقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} [آل عمران: 28] . وقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] .
روي أن حاطباً لما سمع {يا أيها الذين آمَنُواْ} غشي من الفرح بخطاب الإيمان.
قوله: «تُلقُون» . فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه تفسير لموالاتهم إياها.
الثاني: أنه استئناف إخبار بذلك، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب.(19/5)
الثالث: أنها حال من فاعل «تتَّخذُوا» أي: لا تتخذوا ملقين المودّة.
الرابع: أنها صفة لأولياء.
قال الزمخشري: «فإن قلت: إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له، فأين الضمير البارز، وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ .
قلت: ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بُدّ من الضمير البارز» .
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة، وفيها كلام مكي وغيره.
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] ، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف.
قال شهاب الدين: «ولا يلزم ما قال، لأنه معلوم من القواعد الشرعية، فلا مفهوم لها ألبتة» .
وقال الفرَّاء: «تلقون» من صلة «أولياء» .
وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات.
قوله: «بِالمَودَّةِ» . في الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الباء مزيدة في المفعول به، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ، وقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] .
والثاني: أنها غير مزيدة، والمفعول محذوف، ويكون معنى الباء: السببية، كأنه قيل: تلقون إليهم أسرار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قاله الزجاج.
الثالث: أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه «تلقون» أي: إلقاؤهم بالمودة.
نقله الحوفي عن البصريين [وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين.
إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين] لا يوافق أصولهم، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عندهم، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها، فإن «إلقاءهم» مبتدأ، و «بالمَودَّةِ» متعلق به، والخبر أيضاً محذوف، وهذا إجحاف.(19/6)
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: في الآية مباحث.
الأول: اتخاذ العدو أولياء، كيف يمكن، والعداوة منافية للمحبة؟ .
والجواب: لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوْلادُنَا أكْبَادُنَا»
الثاني: لم قال: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} ولم يقل بالعكس؟ .
والجواب: أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى.
الثالث: قال: «أولياء» ، ولم يقل: ولي العدو أو العدو معرفاً؟ .
فالجواب: أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد، فكذلك المعرف بالإضافة.
فصل
قال القرطبي: قوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} يعني بالظَّاهر، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ» ، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده، وخلوص اعتقاده.
فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين
قال القرطبي: من كثر تطلّعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين.
وإذا قيل: بأنه لا يكون كافراً بذلك فهل يقتل حدًّا أم لا؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد الحاكم الإمام في ذلك.(19/7)
وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قُتِلَ لأنه جاسوس، وقد قال مالك: يقتل الجاسوس لإضراره بالمسلمين، وسعيه بالفساد في الأرض، ولعل ابن الماجشون إنما أخذ التكرار في هذا؛ لأن حاطباً أخذ في أول فعله، فإن كان الجاسوس كافراً، فقال الأوزاعي: يكون نقضاً لعهده، وقال: الجاسوس الحربي يقتل، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان.
وقد روي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتي بعين للمشركين اسمه: فُرات بن حيَّان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ فأمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخلي سبيله، ثم قال:» إنَّ مِنكُمْ من أكِلُهُ إلى إيمانِهِ، مِنْهُمْ فُراتُ بنُ حيَّانَ «
قوله:» وقَدْ كَفرُوا «. فيه أوجه:
أحدها: الاستئناف.
الثاني: حال من فاعل» تتخذوا «.
الثالث: حال من فاعل» تلقون «، أي: لا تتولَّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم.
وقرأ العامة:» بما «- بالباء -، والجحدري وعاصم في رواية:» لما «- باللام - أي: لأجل ما جاءكم من الحق، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور، وتقديره: كفروا بالله ورسوله.
قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} .
يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسيراً لكفرهم، فلا محلَّ لها على هذين، وأن يكون حالاً من فاعل» كَفَرُوا «.
قوله:» وإيَّاكُمْ «. عطف على» الرَّسُول «وقدّم عليهم تشريفاً له.
وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يجوز أن يقال: يخرجونكم والرسول، فيجوز: يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن.
وهو ضعيف، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله.
وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} في سورة النساء [131] .(19/8)
قوله: {أَن تُؤْمِنُواْ} مفعول له، وناصبة» يخرجون «أي: يخرجونكم لإيمانكم أو كراهة إيمانكم.
فصل
قال القرطبي: {أن تؤمنوا بالله} تعليل ل» يخرجون «والمعنى: يخرجون الرسول، ويخرجونكم من» مكة «لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن الكلام فيه تقديم وتأخير، والتقدير: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي، وابتغاء مرضاتي [فلا تلقوا إليهم بالمودة.
وقيل: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي} ] شرط وجوابه مقدم، والمعنى: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتَّخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
قال أبو حيان: {إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ} جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم «لا تتخذوا» وتقدم، وهو «لا تتخذوا» عند الكوفيين ومن تابعهم.
قال الزمخشري: و {إن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق ب «لا تتخذوا» يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي، وقول النحويين في مثله: هو جواب شرط، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى.
يريد: أنه متعلق به من حيث المعنى، وأما من حيث الإعراب، فكما قال جمهور النحويين.
قوله: {جِهَاداً فِي سَبِيلِي} {وابتغآء مَرْضَاتِي} يجوز أن ينتصبا على المفعول له، أي: خرجتم لأجل هذين، أو على المصدر بفعل مقدر أي: تجاهدون وتبتغون، أو على أنهما في موضع الحال.
قوله: «تُسِرُّونَ» .
يجوز أن يكون مستأنفاً، ولم يذكر الزمخشري غيره.(19/9)
ويجوز أن يكون حالاً ثانية مما انتصب عنه «تلقون» حالاً.
ويجوز أن يكون بدلاً من «تلقون» . قاله ابن عطية.
والأشبه أن يكون بدل اشتمال، لأن إلقاء المودة يكون سرًّا وجهراً، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء.
قال القرطبي: «تُسِرُّونَ» بدل من «تُلْقُونَ» ومبين عنه، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68، 69] .
وأنشد سيبويه: [الطويل]
4759 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَضرَّمَا
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: أنتم تسرون. قاله ابن عطية.
ولا يخرج عن معنى الاستئناف.
وقال أبو البقاء: «هو توكيد ل» تلقون «بتكرير معناه» .
قال شهاب الدين: «وفيه نظر، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرًّا وجهراً» .
وتقدم الكلام على الباء في قوله: «بالمودَّة» .
قوله: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ} .
هذه الجملة حال من فاعل «تُسِرُّونَ» ، أي: وأيُّ طائلٍ لكم في إسراركم، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي.
و «أعْلَمُ» ، يجوز أن يكون أفعل تفضيل، وهو الظاهر، أي: أنا أعلم من كل أحد بما يخفون، وما يعلنون.
وأن يكون فعلاً مضارعاً.
قاله ابن عطية، وعُدِّي بالباء، لأنك تقول: علمت بكذا، وعلمت كذا فتكون زائدة.
وقيل: وأنا أعلم من كل أحد كما يقال: فلان أعلم وأفضل من غيره.(19/10)
[فإن قيل: لم قدم العلم بالإخفاء على العلم بالإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس؟ .
فالجواب هذا بالنسبة إلى علمنا، لا بالنسبة إلى علمه - تعالى - إذ هما سيّان في علمه تعالى؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء، وهو الكفر، فيكون مقدماً.
فإن قيل: لم لم يقل: بما أسررتم، ثم وما أعلنتم، مع أنه أليق بما سبق في قوله: «تُسِرُّونَ؟» فالجواب: أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإنَّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] ، أي: أخفى من السِّر] .
فصل في معاتبة حاطب
قال القرطبي: وهذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته، ونصيحته للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدق إيمانه؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبٍّ لحبيب؛ كما قال: [الوافر]
4760 - إذَا ذَهَبَ العِتَابُ فليْسَ وُدٌّ ... ويَبْقَى الودُّ مَا بَقِيَ العِتَابُ
فصل في المراد بالمودة
والمراد بالمودّة في الآية النصيحة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد.
{وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي: من يسر إليهم ويكاتبهم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي: أخطأ طريق الهدى.
قوله: «ومَن يفعلهُ» . في الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على الإسرار؛ لأنه أقرب مذكور.
والثاني: يعود على الاتِّخاذ. قاله ابن عطية.
قوله: {سَوَآءَ السبيل} .
يجوز أن يكون منصوباً على الظرف، إن قلنا: ضلَّ قاصر.
وأن يكون مفعولاً به، إن قلنا: هو متعد.(19/11)
[فإن قيل: ما الفائدة في قوله «مِنكُمْ» ، ومن المعلوم أن من فعل هذا، فقد ضل سواء السبيل؟
فالجواب: إن كان المراد من قوله: «مِنْكُمْ» هم المؤمنون فظاهر، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمناً] .(19/12)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قوله: {إِن يَثْقَفُوكُمْ} يلقونكم ويصادفونكم، ومنه المثاقفة، أي: طلب مصادفة [الغرة] في المسايفة وشبهها.
وقيل: «يثقفوكم» : يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء} أي: بالضَّرب والشَّتم.
قوله: {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} .
في «ودوا» وجهان:
أحدهما: أنه معطوفٌ على جواب الشرط، وهو قوله: «يَكُونُوا» و «يَبْسطُوا» قاله الزمخشري.
ثم رتب عليه سؤالاً وجواباً، فقال: «فإن قلت: كيف أورد جواب الشَّرط مضارعاً مثله، ثم قال:» ودوا «بلفظ الماضي؟ .
قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا مضار الدنيا والآخرة جميعاً» .
والثاني: أنه معطوف على جملة الشَّرط والجزاء، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية، وموادتهم كفر المؤمنين.
ورجح أبو حيان هذا، وأسقط به سؤال الزمخشري وجوابه، فقال: «وكأن الزمخشري فهم من قوله:» ووَدُّوا «أنه معطوف على جواب الشرط، والذي يظهر أنه ليس معطوفاً عليه؛ لأن ودادتهم كفرهم ليست مرتبة على الظفر بهم والتسليط عليهم، بل هم(19/12)
وادُّون كفرهم على كل حال سواء ظفروا بهم أم لم يظفروا» انتهى.
قال شهاب الدين: «والظَّاهر أنه عطف على الجواب، وقوله: هم وادُّون ذلك مطلقاً مسلم، لكن ودَادَتَهُم له عند الظَّفر والتسليط أقرب وأطمع لهم فيهم» .
وقوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ} .
يجوز أن يكون لما سيقع لوقوع، وأن تكون المصدرية عند من يرى ذلك.
وتقدم تحريرهما في البقرة.
فصل في معنى الآية
والمعنى: ودوا لو تكفرون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا تناصحوهم، فإنهم لا يناصحونكم.(19/13)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} .
لما اعتذر حاطب بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم بيَّن الله - تعالى - أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئاً يوم القيامة إن عصى من أجل ذلك.
{يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
قوله: {يَوْمَ القيامة} يجوز فيه وجهان.
أحدهما: أن يتعلق بما قبله، أي: لن ينفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} .
والثاني: أن يتعلق بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على «أولادكم» ويبتدأ {يَوْمَ القيامة} .
والقراء في {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} على أربع مراتب:
الأولى: لابن عامر: بضم الياء وفتح الفاء والصاد مثقلة.(19/13)
الثانية: مثقلة إلا أنه بكسر الصاد للأخوين.
الثالثة: بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة لعاصم.
الرابعة: بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد مخففة للباقين، وهم نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وهذا في السبعة.
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة: بضم الياء وكسر الصاد مخففة وسكون الفاء مخففة من «أفْصَلَ» .
وأبو حيوة أيضاً: «نُفْصِلُ» بضم النون، من «أفصل» .
والنخعي وطلحة: «نُفَصِّلُ» بضم النون وفتح الفاء وكسر الصَّاد مشددة.
وقرأ أيضاً وزيد بن علي: «نَفْصِلُ» بفتح النون وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة فهذه أربع، فصارت ثماني قراءات.
فمن بناه للمفعول، فالقائم مقام الفاعل إما ضمير المصدر، أي: يفصل الفصل، أو الظرف، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في أحد الأوجه، أو الظرف وهو باقٍ على نصبه كقولك: جُلِسَ عندك. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وفيه سؤال، وهو أنه لِمَ لَمْ يَقُلْ: خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء؟
والجواب: أنَّ الخبير أبلغ في العلم، والبصير أشهر منه فيه، فإنه يجعله كالمحسُوس بحس البصر.(19/14)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} الآية.(19/14)
لما نهى عن مُوالاةِ الكُفَّار ذكر قصة إبراهيم، وأن من سيرته التَّبرؤ من الكُفَّار، أي: فاقتدوا به إلاَّ في الاستغفار لأبيه.
والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة، ويقال: هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة «أسوة» في سورة «الأحزاب» والكلام على مادتها.
قوله: {في إِبْرَاهِيمَ} . في أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «أسوة» ، تقول: لي أسوة في فلان، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت.
وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره.
الثاني: أنه متعلق ب «حسنة» تعلق الظرف بالعامل.
الثالث: أنه نعتٌ ثانٍ ل «أسوة» .
الرابع: أنه حال من الضمير المستتر في «حسنة» .
الخامس: أن يكون خبر «كَانَ» و «لَكُمْ» تبيين.
قوله: {والذين مَعَهُ} يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين.
وقال ابن زيدٍ: هم الأنبياء.
قوله: {إِذْ قَالُواْ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «كان» .
والثاني: أنه متعلق بخبرها.
قالهما أبو البقاء.
ومن جوز في «كان» أن تعمل في الظرف علقه بها، والمراد بقومهم: الكفار.
قوله: {إِنَّا بُرَءآؤ} .
هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع «بريء» ، نحو «كرماء» في نحو «كريم» .
وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف.
وفيه أوجه:(19/15)
أحدها: أنه جمع بريء أيضاً، والأصل كسر الباء، وإنما أبدل من الكسرة ضمَّة ك «رُخَال، ورُبَاب» قاله الزمخشري.
الثاني: أنه جمع «بريء» أيضاً وأصله: «برآء» كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً. قاله أبو البقاء.
الثالث: أنه اسم جمع ل «بريء» نحو: «تؤام، وظؤار» اسمي جمع ل «توأم، وظِئْر» .
وقرأ عيسى أيضاً بفتح الباء وهمزة بعد ألف، كالتي في «الزخرف» ، وصح ذلك لأنه مصدر، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد.
قال الزمخشري: «والبراء والبراءة كالظماء والظماءة» .
وقال مكي: وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر: «بِراء» - بكسر الباء - جعلاه ك «كريم وكرام» .
قال القرطبي: هو على وزن «فِعَال» مثل: «قِصَار وقصير» ، و «طِوَال وطويل» و «ظراف وظريف» ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون.
وأجاز الفراء: بفتح الباء، ثم قال: «وبراءُ» في الأصل مصدر.
كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.
فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم.
قال القرطبي: «الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في فعله، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله» .
قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} ، أي بما آمنتم به من الأوثان.
وقيل: بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً} أي: هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: {تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} ، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله: {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] .(19/16)
فالجواب: أن الإيمان بالله وحده مستلزمٌ للإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء متصل من قوله: «في إبراهيم» ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره: في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت.
الثاني: أنه مستثنى من {أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وجاز ذلك؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا.
وهذا واضح؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
قال: فإن قلت: ممَّ استثني قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}
قلت: من قوله «أسْوةٌ حسَنةٌ» ؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به، ويتخذوه سنة يستنون بها.
فإن قلت: فإن كان قوله «لأسْتغفِرنَّ لَكَ» مستثنى من القول الذي هو «أسْوةٌ حَسَنةٌ» فما بال قوله: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} وهو غير حقيق بالاستثناء، ألا ترى إلى قوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} [الفتح: 11] .
قلت: أراد استثناء جملة قوله: «لأبيهِ» والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار.
الثالث: قال ابن عطية: «ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي: لم تبق صلة إلا كذا، والله أعلم» .
الرابع: أنه استثناء منقطع، أي: لكن قول إبراهيم.
وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله: «أسْوَةٌ» ، وهو ممنوع.
فصل
قال القرطبي: معنى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} أي: فلا تتأسَّوا به في الاستغفار، فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن موعدة منه له.
قاله قتادة ومجاهد وغيرهما.(19/17)
وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة «التوبة» ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سائر الأنبياء؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمِرْنا أمراً مطلقاً في قوله:
{وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله، وذلك إنما جرى؛ لأنه ظن أنه أسلم، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم؟ .
قوله: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} هذا من قول إبراهيم لأبيه، أي: ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به.
قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} .
يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده، كأنه قال لهم: قولوا: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي: اعتمدنا {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي: رجعنا {وَإِلَيْكَ المصير} أي: الرجوع في الآخرة.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} . أي: ولا تظهر عدوَّنا علينا، فيظنوا أنهم على حقّ. فيفتنوا بذلك وقيل: لا تسلّطهم علينا، فيقتلوننا ويعذبوننا.
وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك.
وقيل: لا تبسط [عليهم] الرزق دوننا، فإن ذلك فتنة لهم.
وقيل: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي: عذاباً أي: سبباً يعذب به الكفرة، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي: في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء «أسْوةٌ حَسَنةٌ» أي: في التَّبرِّي من الكُفَّار.
وقيل: كرر للتأكيد.
وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدة.
قال القرطبي: وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه.
قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله} .(19/18)
بدل من الضمير في «لكُمْ» بدل بعض من كل، وقد تقدَّم مثله في «الأحزاب» .
والضمير في «فيهم» عائد على «إبراهيم» ومن معه، وكررت «الأسوة» تأكيداً.
وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة، {وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار {فَإِنَّ الله هُوَ الغني} عن خلقه، أي: لم يتعبدهم لحاجته إليهم {الحميد} إلى أوليائه وأهل طاعته.
وقيل: الحميد في نفسه وصفاته.
قوله تعالى: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} .
قال المفسرون: لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} أي: من كفار «مكة» ، وقد فعل الله ذلك؛ لأن «عَسَى» من الله وعد، ولا يخلف الله وعدهُ، وهذا بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح «مكة» ، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام.
وقيل: المودة تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس: وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، فأما زوجها فتنصَّر، وسألها أن تتابعه على دينه، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى النجاشي فخطبها، فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص، قال: فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار.
وقيل: خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عثمان بن عفَّان، فلما زوجه إياها بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى النجاشي فيها، فساق عنه المهر، وبعث بها إليه، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابنته: وذلك الفحل لا يقدع أنفه.
قال ابن الأثير: «يقال: قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم، فإذا أراد ركوب(19/19)
الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ، ويروق بالراء» .(19/20)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} الآية.
هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.
قال قتادة: نسختها: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
وقيل: كان هذا الحكم لعلة، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح «مكة» نسخ الحكم، وبقي الرسم يتلى.
وقيل: هي مخصوصة في خلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه. قاله الحسن.
قال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وهو قول أبي صالح.
وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا، ولم يهاجروا.
وقيل: يعني به النساء والصبيان؛ لأنهم ممن لا يقاتل، فأذن الله في برهم.
وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة، «واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هَلْ تَصِلُ أمَّهَا حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً؟ قال:» نَعَمْ «» خرجه البخاري ومسلم.
وقيل: إن الآية نزلت فيها.
وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي(19/20)
كانت فيها المهادنة بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطَّيالسي في مسنده.
قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ} وقوله: {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال، فيكون في موضع جرّ.
والمعنى: لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة، صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم. حكاه الفرَّاء.
وقوله: {وتقسطوا إِلَيْهِمْ} . أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي.
فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر.
نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب «الأحكام» له: أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، قال: وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب، وإنما يعطي الإباحة خاصة؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم «.(19/21)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين} أي: جاهدوكم على الدين(19/21)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} وهم عتاة أهل «مكة» ، {وَظَاهَرُواْ} أي: عاونوا {على إِخْرَاجِكُمْ} وهم مشركوا مكة {أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} أي: يتخذهم أولياء وأنصاراً وأحباباً {فأولئك هُمُ الظالمون} .
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ} الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [المشركين] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبين أحكام مهاجرة النساء.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل «مكة» رده إليهم، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية بعد، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب.
وقيل: مسافر المخزومي، فقال: يا محمد، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل: «جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يردها.
وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله إخوتها، وحبسها فقالوا للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ردها علينا للشرط، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كان الشَّرط في الرجال لا في النساء» ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه(19/22)
سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل، يومىء إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك.
وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ، ففرت منه، وهو يومئذ كافرٌ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف، فولدت له عبد الله. قاله زيد بن حبيب، نقله الماورديّ.
وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة.
قوله: {المؤمنات} . تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه؛ أو في الظاهر.
وقرىء «مُهَاجِرَاتٌ» - بالرفع - وخرجت على البدل.
فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً
اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة: كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان، وهذا يدل على أن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقرّه الله على خطأ.
وقالت طائفة: لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين:
أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم.
الثاني: أنهن أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. ومن أسلمت فلا تردوها.
قوله: {فامتحنوهن} .
قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها، قالت: سأهاجر إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلذلك أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بامتحانهن، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به.
فقال ابن عباس: كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها،(19/23)
ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقاً لرجل من المسلمين، ولا لحدث أحدثته، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، وحب الله ورسوله، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زوجها مهرها، وما أنفق عليها، ولم يردها، فذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وروي عن ابن عباس أيضاً: أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} .
خرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح.
فصل
قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن.
فصل
قال القرطبي: ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز، وهذا مذهب الكوفيين، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك.
واحتج الكوفيون «بأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم، فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [بنصف الدية] وقال:» أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ(19/24)
أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما «قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ.
قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [رجل] يأمره، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود.
قوله: {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} .
هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله به.
قاله الزمخشري.
أي: هذا الامتحان لكم، والله أعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر، وسمَّى الظن الغالب في قوله: {عَلِمْتُمُوهُنَّ} علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه، وتقدم ذلك في البقرة.
قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} .
أي: بما يظهرن من الإيمان.
وقيل: أي: علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} وقوله: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} تأكيد للأول لتلازمهما.
وقيل: أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: لم يحل الله مؤمنة لكافر، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها.
وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين.
والصحيح الأول؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.
قوله: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} .(19/25)
أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق، وذلك من الوفاء بالعهدِ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال.
فصل في استحقاق الغرم بالمنع
ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً؛ لانه لا قيمة له.
وللشافعي في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن هذا منسوخ.
قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة، ففيه [قولان] :
أحدهما: أن يعطى [زوجها] العوض لهذه الآية.
والثاني: لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً، وليس عليه عوض، لأنه لا عوض للباطل.
فصل
أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الإمام، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف.
وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء.
وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [من] لا عهد بينه وبين المسلمين، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق.
قال القرطبي: «والأمر كما قال» .
قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} . أي: في أن تنكحوهن.(19/26)
وقوله: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} .
يدوز أن يكون ظرفاً محضاً، وأن يكون شرطاً، جوابه مقدَّر، أي: فلا جناح عليكم.
فصل
ومعنى الآية: ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي: مهورهن، فأباح الله نكاحهن للمسلمين؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار.
قال القرطبي: أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال.
قوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .
قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين، وباقي السبعة - بتخفيفها - من «مسَك، وأمسك» بمعنى واحد.
يقال: أمسكت الحبل إمساكاً، ومسَّكته تمسيكاً، وفي التشديد مبالغة، والمخفف صالح لها أيضاً.
وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو عمرو، وابن عامر في رواية عنهما: «تَمَسَّكُوا» - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل: «تَتمسَّكُوا» - بتاءين - فحذفت إحداهما.
وعن الحسن أيضاً: «تَمْسِكُوا» مضارع «مَسَك» ثلاثياً.
والعِصَم: جمع عِصْمَة، والعِصْمَة هاهنا: النِّكاح، يقول: من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها.
و «الكوافر» جمع «كافرة» ، ك «ضوارب» في «ضاربة» و «صواحب» .
ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال: «الكوافر» يشمل الرجال والنساء.
قال الفارسي: فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة.(19/27)
فقال أبو علي: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ .
قال أبو عليٍّ: فبهت، وقلت: هذا تأييد إلهي.
قال شهاب الدين: وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً، نحو: هذه طائفة كافرة، أو في قوّة المذكور، أما أن يقال: طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال، ويجتمع جمع «فَاعِلَة» فهذا لا يجوز، وقول الفارسي: «لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ» فهذ يصح ولكنه الغالب، وقد يجمع «فاعل» وصف المذكر العاقل على «فواعل» وهو محفوظ نحو: «فوارس ونواكس» .
فصل في المراد بالآية
قال النخعي: المراد بالآية: المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب، فتكفر، وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين ب «مكة» مشركتين: قريبة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما ب «مكة» ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة، فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما، فلما ولي عمر، قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك، فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نساء الكفار فحبسها، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية.
وقال الشعبيُّ: كانت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، امرأة أبي العاص بن الربيع، أسلمت ولحقت بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأقام أبو العاصِ ب «مكة» مشركاً، ثم أتى «المدينة» ، فأسلم، فردها عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شيئاً.
قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين.
وقال الحسنُ بن عليٍّ: بعد سنتين.
قال أبو عمر: فإن صح هذا، فلا يخلو من وجهين:(19/28)
إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، يعني عدتهن، وهذا مما لا خلاف فيه، إن عنى به العدة.
قال الزهريُّ في قصة زينب هذه: كانت قبل أن تنزل الفرائض.
وقال قتادةُ: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة، بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
فصل في المراد بالكوافر
المراد بالكوافر هنا: عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها.
وقيل: هي عامَّة، نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم، لقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .
وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه ب «مر الظهران» ، ثم رجع إلى «مكة» وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته، وقالت: [اقتلوا] الشيخ الضَّال، ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقر على نكاحها، لأن عدتها لم تكن انقضت.
قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحها.
قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار، كما أن المسلمين، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا: أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين: إذا أسلمت المرأة، عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما.
قالوا: ولو كانا حربيين، فهي امرأته، حتى تحيض ثلاث حيض، إذا كانا جميعاً في(19/29)
دار الحرب، أو في دار الإسلام، وإن كان أحدهما في دار الحرب، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما.
وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء، وهذ الخلاف إنما هو في المدخول بها.
وأما غير المدخول بها، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما، ولا عدة عليها، هكذا يقول مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في المرأة ترتد وزوجها مسلم: تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح.
وقال الشافعي وأحمد: [ينظر إلى تمام] العدة.
[فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة، فمذهب مالك والشافعي، وأحمد توقف إلى تمام العدة، وهو قول مجاهد] .
وكذلك الوثني تسلم زوجته، إن أسلم في عدَّتها، فهو أحق بها، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما، لما ذكر مالك في «الموطأ» .
[قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر] .
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها، وقال بعضهم: ينفسخ النكاح بينهما، لما روى يزيد بن علقمة قال: أسلم جدي، ولم تسلم جدتي، ففرق بينهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة، قالوا: لا سبيل له عليها إلا بخطبة.
قوله: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} .
قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: كان هذا حكم الله، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة.
قال الزهريُّ: ولولا هذه الهدنة، والعهد الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش(19/30)
يوم الحديبية، لأمسك النساء، ولم يرد الصَّداق، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وإن فاتكم شيء أيها المؤمنون} .
قوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي بما ذكر في هذه الآية، {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب.
والثاني: أنه حال من: «حكم الله» ، والراجع إما مستتر أي: يحكم هو، أي: الحكم على المبالغة، وإما محذوف، أي: يحكمه، وهو الظاهر.
قوله: {مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
يجوز أن يتعلق ب «فاتكم» أي: من جهة أزواجكم، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج، كما تقدم.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «شيء» .
ثم يجوز في «شيء» ، أن يراد به: المهر، ولكن على هذا، فلا بد من حذف مضاف، أي: من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته.
ويجوز أن يراد ب «شيء» [النساء، أي: بشيء من النساء، أي: نوع وصف منهن، وهو ظاهر وصفه بقوله: {مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك، فإنَّه قال: وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار، وفي قراء أبي مسعود: «أحد» .
فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء» : النساء الفارات] ، ثم قال: فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب «شيء» : أحد، كما تقدم، لكان قوله: «إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر» ، ظاهراً في أن المراد ب «شيء» : المهر؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله: «تغليظاً» فيه نظر؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك.(19/31)
وعدي: «فات» ب «إلى» ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك.
قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} ، عطف على «فاتكم» .
وقرأ العامة: «عاقبتم» . وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من العقوبة، قال الزجاج: «فعَاقَبْتُم» فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
والثاني: أنَّه من العُقْبة، وهي التوبة، شبه ما حكم به على المسلمين، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره، ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر. انتهى.
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة وحميد: بتشديد القاف دون ألف.
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه: إذا قفاه؛ لأن كل واحد من المتعاقبين، يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال: عقبه يعقبه انتهى.
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف: النخعي، وابن وثاب، والزهري، والأعرج أيضاً. وبالتخفيف، وكسر القاف: مسروق، والزهري، والنخعي أيضاً.
وعن مجاهد: أعقبتم.
قال الزمخشري: معناه: دخلتم في العقبة.
قال البغوي: «معناه: أي: صنعتم بهم، كما صنعوا بكم» .
وفسَّر الزجاج القراءات الباقية: فكانت العقبى: أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم.
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ: من المعاقبة بمعنى المناوبة.
يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي: جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر، ويقال: أعقب - أيضاً. وأنشد بعضهم رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل](19/32)
4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ ... لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ
قال البغوي: «وكلها لغات بمعنى واحد، يقال: عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ، إذا غنم» .
وقيل: التعقيب: غزوة بعد غزوة.
فصل
روي أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا، فنزل قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} .
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وعنهم - قالت: حكم الله عَزَّ وَجَلَّ بينهم، فقال - جل ثناؤه -: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} ، فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله - عَزَّ وَجَلَّ - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا، أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم، وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا إليهم: أما نحن، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً، فإن كان لنا عندكم شيء، فوجهوا به، فأنزل الله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} . الآية.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة، يرد بعضهم على بعض.
قال الزهريُّ: ولولا العهد، لأمسك النساء، ولم يرد إليهم صداقاً.
وقال قتادة ومجاهدٌ: إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا: هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد، وقالا: ومعنى {فَعَاقَبْتُمْ} فاقتصصتم.
{فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} يعني: الصفات، فهي عامة في جميع الكفار.(19/33)
وقيل: فعاقبتم المرتدة بالقتل.
وقال قتادة أيضاً: وإن فاتكم شيء من أزواجكم، إلى الكفار، الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، ثم نسخ هذا في سورة براءة.
وقال الزهريُّ: انقطع هذا يوم الفتح.
وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم.
وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضاً. حكاه القشيري.
فصل
قال القرطبي: الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
وقال البغويُّ: روي عن ابن عبَّاسٍ قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات، ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة، كانت تحت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروعُ بنت عقبة، وكانت تحت شماس بن عثمان، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما رجعن إلى الإسلام، أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة.
فصل في رد مهر من أسلمت
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، هل كان واجباً، أو مندوباً؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء؟ على قولين:
أحدهما: أنه وقع على رد الرجال، والنساء جميعاً، لما روي من قولهم: لا يأتيك منا أحد، إلا رددته، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً.
والثاني: أن الصلح لم يقع على ردّ النساء؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته، وذلك؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت، وأكرهت(19/34)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
عليها؛ لضعف قلبها، وقلة هدايتها إلى المخرج منه، بإظهار كلمة الكفر مع التورية، وإضمار الإيمان، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته، وهدايته إلى التقية، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً.
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة: لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة.
وقيل: هي غير منسوخة، ويرد إليهم ما أنفقوا.
فصل في معنى الآية.
معنى الآية: إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة» ، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس، [وهو قول ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] .
وقال الزهري: يعطى من الفيء.
وعنه: يعطى من صداق من لحق منا.
وقيل: إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم، فخذوا ذلك منهم {واتقوا الله} ، أي: احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} الآية.
لما فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مكة» ، جاءه نساء أهل «مكة» يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن أن لا يشركن.
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «والله ما أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قط إلا بما أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - وما مست كف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كف امرأة قط، وكان يقول إذا أخذ عليهن:» قَدْ بايعْتُكنَّ «كلاماً»(19/35)
وروي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، بايع النساء، وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن.
وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا، ومعه عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة، وعمر يصافحهن.
وروي أنَّه كلف امرأة وقفت على الصفا، وكلفها أن تبايعهن، ففعلت.
قال ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما التعويل على ما في صحيح مسلم من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المتقدم. قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمتحنهن بقول الله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} إلى آخر الآية، قالت عائشة: «فمن أقر بهذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» انْطَلقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ «، لا والله ما مَسَّتُ يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام»
وقالت أمُّ عطيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلَّم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليكن:» ألا تشركن بالله شيئاً «الآية، فقلن: نعم، فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ»
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه، ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه.
فصل
روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح» مكة «، وهو على الصفا، وعمر بن الخطَّاب أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغهن عنه، على ألاَّ يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(19/36)
أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد، فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام، والجهاد فقط، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ولاَ يَسْرِقْنَ «، فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله قوتنا، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟ .
فقال أبو سفيان: ما أًصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لها: وإنَّك لهِنْدُ بِنْتُ عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عني ما سلف، فقال عَفَا اللَّهُ عنكِ، ثم قال: {وَلاَ يَزْنِينَ} فقالت هند: أو تزنِي الحُرَّة؟ فقال: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} ، أي: لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربَّيناهُمْ صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر، وأنت أعلم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان - وهو بكرها - قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} »
قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم، وكانت المرأة تلتقط ولداً، فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك، فكان هذا من البهتان والافتراء؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم.
وقال بعض المفسرين: المرأة إذا التقطت ولداً، كأنَّما التقطت بيدها ومشت برجلها إلى أخذه، فإذا أضافته إلى زوجها، فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها.
وقيل: يفترينه على أنفسهن حيث يقلن: هذا ولدنا، وليس كذلك، إذ الولد ولد الزنا.
وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن البطن التي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، وهذا عام في الإتيان بولد، وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
وقيل: معنى «بين أيديهن» : ألسنتهن بالنميمة، و «بين أرجلهن» : فروجهن.
وقيل: ما بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع.
وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ما تأمر إلا بالأرشد، ومكارم الأخلاق، ثم قال: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: في كل أمر وافق طاعة الله.
قال بكر بن عبد الله المزنيُّ: في كل أمر فيه رشدهن.(19/37)
وقال مجاهدٌ: لا تخلو المرأة بالرجال.
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب والكلبيُّ وعبدُ الرحمنِ بن زيدٍ: هو النهي عن النوح، والدعاء بالويلِ، وتمزيق الثوب، وحلق الشعر، ونتفه، وخمش الوجه، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم، ولا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
وروت أم عطيَّة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن ذلك في النوح، وهو قول ابن عباس.
وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة «عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ولا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، قال:» هُوَ النَّوحُ «
وفي صحيح مسلم عن أمِّ عطيَّة:» لما نزل قوله: «يُبَايِعْنَك» ، إلى قوله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، قالت: كان منه النياحة، قالت: فقلت: يا رسول الله، إلا آل بني فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إلا آل بني فلان»
قوله: «يُبَايعْنكَ» : حال، و «شَيْئاً» : مصدر، أي شيئاً من الإشراك.
وقرأ علي والسلمي والحسن: «يُقَتِّلْنَ» بالتشديد.
و «يفترينه» : صفة ل «بهتان» ، أو حال من فاعل: «يأتين» .
فصل
ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صفة البيعة خصالاً شتى، صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر أركان الأمر، وهي ستة أيضاً: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة، وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان، وكل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها، ولا يحجزهن [عنها] شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا، ونحو منه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لوفد عبد القيس: «» وأنْهَاكُم عن الدُّبَّاء والحنتمِ والنَّقيرِ والمزفَّتِ «(19/38)
فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي؛ لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي، هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.
فصل
» لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البيعة: « {وَلا يَسْرِقْنَ} {وَلاَ يَزْنِينَ} ، قالت هند: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل مسِّيك، فهل عليَّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي؟ فقال:» لا، إلاَّ بالمعرُوفِ «، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها، فتضيع، أو تأخذ أكثر من ذلك، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك» ، أي: لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني: من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه [كانت] سارقة تعصي بها، وتقطع يدها» .
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل: هلاَّ قيل: إذا جاءك المؤمنات فامتحنوهن، كما قال في المهاجرات؟ .
فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الامتحان حاصل بقوله تعالى: {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ} إلى آخره.
وثانيهما: أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع للمبايع على ما في قلبها، فلا بد من الامتحان، وأما المؤمنات، فهن في دار الإسلام، وعلمن الشرائع، فلا حاجة إلى الامتحان مع ظاهر حالها.
فإن قيل: ما الفائدة في تقديم البعض في الآية على البعض وترتيبها؟ .
فالجواب: قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح، ثم كذلك إلى آخره، وقدم في الأشياء المذكورة على ما هو الأظهر فيما بينهم.
فصل
قال عبادةُ بن الصامت: «أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما أخذ على النساء: أنْ لا تُشرِكُوا باللَّه شَيْئاً ولا تَسْرقُوا ولا تزْنُوا ولا تقتلُوا أوْلادكُمْ، ولا يعضه بعضُكُمْ بعضاً، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ آمُرُكمْ بِهِ» .(19/39)
معنى «يعضه» : يسحر، والعضه: السحر.
ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} إنه: السحر.
وقال الضحاكُ: هذا نهي عن البهتان، أن لا يعضه رجل ولا امرأة «بِبُهتَانٍ» أي: بسحر، والجمهور على أن معنى «ببهتان» : بولد، يفترينه «بين أيديهن» : ما أخذته لقيطاً، «وأرجلهن» : ما ولدته من زنا كما تقدم.
فصل في هذا الأمر
قال المهدويُّ: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا، والأمر بذلك ندب لا إلزام.
وقال بعض العلماء: إذا احتيج إلى المِحْنَةِ من أجل تباعد الدَّار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.
قوله: {فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} قالت: وما مسَّتْ يَدُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا يد امرأة يملكها.
وقالت [أميمة] بنت رقيقة: «بايعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نسوة، فقالت:» فِيْمَا اسْتطعْتُنَّ وأطَعْتُنَّ «، فقلت: يا رسول الله صافحنا، فقال:» إنِّي لا أصَافِحُ النِّساءَ، إنَّما قَوْلِي لامرأةٍ كَقوْلِي لمِائةِ امرأة «(19/40)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} ، وهم اليهود.(19/40)
فقوله: {غضب الله عليهم} صفة ل «قوماً» ، وكذلك: «قَدْ يَئِسُوا» وقوله: {مِنَ الآخرة} .
«مِنْ» لابتداء الغاية، أيضاً كالأولى أي: أنهم لا يوقنون [بالآخرة ألبتة] .
و {مِنْ أَصْحَابِ القبور} . فيه وجهان:
[أحدهما: أنها لابتداء الغاية أيضاً كالأولى، والمعنى: أنهم لا يوقنون ببعث الموتى ألبتة، فيأسهم من الآخرة من موتاهم] لاعتقادهم عدم بعثهم.
والثاني: أنها لبيان الجنس، يعني: أن الكفار هم أصحاب القبور.
والمعنى: أنَّ هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من خير الآخرة، فيكون متعلق «يئس» الثاني محذوفاً.
وقرأ ابن أبي الزِّناد: «الكافر» ب «الإفراد» .
فصل في نزول الآية
قال ابنُ زيدٍ: إنَّ ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم، فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهوا عن ذلك، {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} يعني: اليهود قد يئسوا من الآخرة بأن يكون لهم فيها ثواب وخير، {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} أي: يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا إلى القبور من أن يكون لهم ثواب وحظ في الآخرة.
وقال مجاهد: الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله.
وقيل: هم المنافقون.
وقال الحسن وقتادة: هم اليهود والنصارى.
وقال ابن مسعودٍ: معناه: أنهم تركوا العمل للآخرة، وآثروا الدنيا.
وقال الحسنُ وقتادةُ: معناه: أن الكُفَّار الذين هم أحياء، يئسوا من الكفار ومن أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.
وقيل: إن الله - تعالى - ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعةَ وغيره.(19/41)
قال ابن عباس: قوله: {لاَ تَتَوَلَّوْاْ} أي: لا توالوهم، ولا تناصحوهم، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة، يريد أن كفار قريش يئسوا من خير الدنيا، كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى.
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ المُمتحنةِ كَانَ المُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاء يَوْمَ القِيَامَةِ» والله سبحانه وتعالى أعلم.(19/42)
سورة الصف(19/43)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
[مدنية] في قول الأكثرين. وذكر النحاس [عن ابن عباس] : أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومئتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن في السورة التي قبلها، بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، وابتغاء مرضاته بقوله: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي} [الممتحنة: 1] ، وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن، ويحثّه على الجهاد، فقال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 3] .
فإن قيل: ما الحكمة في أنه - تعالى - قال في بعض السور: «سبَّح للَّهِ» بلفظ الماضي، وفي بعضها: «يُسَبِّحُ» بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر؟ .
فالجواب: أن الحكم في ذلك تعليم العبد، أن تسبيح الله تعالى دائم لا ينقطع، كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال.
و «العَزِيزُ» : هو الغالب على غيره أي شيءٍ كان ذلك الغير، ولا يمكن أن [يحكم] عليه غيره، و «الحَكِيمُ» : هو الذي يحكم على غيره، أي شيء كان ذلك الغير.
فإن قيل: هلاَّ قيل: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما وهو أكثر مبالغة؟ فالجواب: إنما يكون كذلك، إذا كان المراد التَّسبيح بلسان الحال، أما إذا كان المراد من التسبيح المخصوص باللسان فالبعض بوصف معين، فلا يكون كذلك.(19/43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
روى الدَّارميُّ في مسنده قال: أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام، قال: قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا؟ فأنزل الله - تعالى -: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} حتى ختمها، قال عبد الله: قرأها علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ختمها، قال أبو سلمة: فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة، فقرأها علينا يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد، فقرأها علينا الدارمي.
وقال عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، [فلما نزل الجهاد كرهوه] .
[وقال الكلبي: قال المؤمنون: يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها] ، فنزلت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلَّهم الله عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] الآية، فابتلوا يوم أحد، ففروا، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء.
وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ: لما أخبر الله - تعالى - نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثواب شهداء «بدر» ، قالت الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك.
وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وابتلينا، ولم يفعلوا.
وقال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر، وأنكاهم، فقتله، فقال رجل: يا(19/44)
نبي الله، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك، فقال عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف: يا صُهيبُ، أما أخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنك قتلت فلاناً، فإن فلاناً انتحل قتله، فأخبره، فقال: أكذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم، والله يا رسول الله، فنزلت الآية في المنتحل.
وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون «للنبي» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا.
فصل
قال القرطبي: «هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها» .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى: أنه بعث قراء إلى أهل «البصرة» ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل، قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل «البصرة» وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ، فتقسوا قلوبكم، كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب «براءة» ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها «لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ» ، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها: «يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة» .
قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين، أما قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله: شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة، فمعنى ثابت في الدين، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً، والملتزم على قسمين:
[أحدهما: النذر، وهو] على قسمين:
نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة، ونحوه من القرب، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً.
ونذر مباح، وهو ما علق به شرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة، ففيه خلاف: فقال مالك وأبو حنيفة: يلزم الوفاء به.(19/45)
وقال الشافعي في قول: لا يلزم الوفاء به.
وعموم الآية حجة لنا؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق، أو مقيد بشرط.
وقد قال أصحابه: إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة، وهذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد منه القربة، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل، أو من الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر، فلم يخرج عن سنن التكليف، ولا زال عن قصد التقرب.
قال ابن العربي: «فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء، وإن كان وعداً مجرداً.
فقيل: يلزم بتعلقه، واستدلوا بسبب الآية، فإن روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله هذه الآية، وهو حديث لا بأس به.
وروي عن مجاهد أن عبد الله [بن رواحة] لما سمعها قال:» لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل «.
والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال» .
قال القرطبي: «قال مالك: فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة، فيقول: نعم، ثم يبدو له ألاَّ يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه» .
فصل
قال القرطبي: ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] ، {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] .
وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ،(19/46)
قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ، قُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ؟ .
قال: هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ «
فصل
قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي، فيكون كذباً، وفي المستقبل، يكون خلفاً، وكلاهما مفهوم.
قال الزمخشري: هي لام الإضافة، دخلت على» ما «الاستفهامية، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك:» بم، وفيم، وعمَّ «، وإنما حذفت الألف؛ لأن» ما «والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالها في كلام المستفهم» ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ} ، والاستفهام من الله تعالى مُحَال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء، والجواب هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا.
وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أي: لم تقولون [ما ليس الأمر فيه] إليكم، فلا تدرون هل تفعلون، أو لا تفعلون، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول.
قوله: {كَبُرَ مَقْتَاً} . فيه أوجه:
أحدها: أن يكون من باب: «نعم وبئس» ، فيكون في «كَبُر» ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و «أن تقُولُوا» هو المخصوص بالذم، فيجيء فيه الخلاف المشهور: هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه؟ أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف، كما تقدم تحريره؟ .
وهذه قاعدة مطردة: كل فعل يجوز التعجّب منه، يجوز أن يبنى على «فَعُل» - بضم العين - ويجري مجرى «نعم وبئس» في جميع الأحكام.(19/47)
والثاني: أنه من أمثلة التعجّب.
وقد عده ابن عصفور في «التعجب» المبوَّب له في النحو، فقال: «صيغة: ما أفْعَلَهُ، وأفْعِلْ به، ولَفَعُل، نحو: لرمُو الرجل» .
وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه، قصد في «كَبُر» : التعجب من غير لفظه؛ كقوله: [الطويل]
4762 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا
ثم قال: وأسند إلى: «أن تقولوا» ، ونصب: «مقتاً» ، على تفسيره، دلالة على أن قوله: {مَا لاَ تَفْعَلُون} : مقت خالص لا شوب فيه.
الثالث: أنَّ «كَبُرَ» ليس للتعجب ولا للذم، بل هو مسند إلى «أن تقولوا» و «مقتاً» : تمييز محول من الفاعلية والأصل: كبر مقتاً أن تقولوا أي: مقت قولكم.
ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله: «لِمَ تَقُولُونَ» أي: «كبر أي القول مقتاً» ، و «أن تقولوا» على هذا إما بدل من ذلك الضمير، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن تقولوا.
قال القرطبي: و «مقتاً» نصب بالتمييز، المعنى: كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً.
وقيل: هو حال، والمقت والمقاتة: مصدران، يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس.
فصل
قال القرطبيُّ: قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي.(19/48)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قرأ زيد بن علي: «يُقَاتَلُون» - بفتح التاء - على ما لم يسم فاعله.
وقرىء: «يُقَتَّلُونَ» بالتشديد.(19/48)
و «صفًّا» : نصب على الحال، أي: صافين أو مصفوفين.
قل القرطبي: «والمفعول مضمر، أي: يصفون أنفسهم صفًّا» .
وقوله: «كأنَّهُمْ» يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل: «يقاتلون» ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «صفًّا» ، فتكون حالاً متداخلة قاله الزمخشري.
وأن يكون نعتاً ل «صفًّا» ، قاله الحوفي.
وعاد الضمير على «صفًّا» ، فيكون جمعاً في المعنى، كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .
فصل
فإن قيل: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، أن قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله} في ذم المخالفين في القتال، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا، وهذه الآية مدح [للموافقين] في القتال. واعلم أن المحبة على وجهين.
أحدهما: الرضا عن الخلق.
وثانيهما: الثَّناء عليهم.
والمرصوص، قيل: المتلائم الأجزاء المستويها.
وقيل: المعقود بالرصاص. قاله الفراء.
وقيل: هو من التضام من تراصّ الأسنان.
وقال الراعي: [الرجز]
4763 - مَا لَقِيَ البِيضُ من الحُرْقًوصِ ... يَفْتَحُ بَابَ المغْلَقِ المَرْصُوصِ ... الحرقوص: دويبة تولع بالنساء الأبكار.(19/49)
وقال القرطبي: والتَّراصُّ: التلاصق، ومنه قوله: وتراصوا في الصف، ومعنى الآية: إن الله - تعالى - يحب من يثبت في الجهاد، وفي سبيله، ويلزم مكانه، كثبوت البناء.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه، فيسمونه أهل مكة المرصوصُ.
قال ابنُ الخطيب: ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضاً، كالبنيان [المرصوص] .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ: هذا تعليم من الله للمؤمنين، كيف يكونون عند قتال عدوهم.
فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس
قال القرطبي: استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة.
قال المهدويُّ: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات.
فصل في الخروج من الصف
لا يجوز الخروج من الصفِّ إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو منفعة تظهر في المقام ك «فرصة» تنتهز ولا خلاف فيها.
وفي الخروج عن الصف للمبارزة [خلاف] .
فقيل: إنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدو، وطلباً للشهادة، وتحريضاً على القتال.
وقيل: لا يبرز أحد طلباً لذلك؛ لأن فيه رياء وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر، كما كانت في حروب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم «بدر» ، وفي غزوة «خيبر» ، وعليه درج السلف.
وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة «البقرة» عند قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [الآية: 195] .(19/50)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} الآية.
لما ذكر الجهاد، بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، أي: واذكر لقومك يا محمد هذه القصة.
قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} .
وذلك حين رموه بالأدرة، كما تقدم في سورة الأحزاب.
ومن الأذى: ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدَّعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، وقولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 124] ، وقولهم: أنت قتلت هارون.
قوله: {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} . جملة حالية.
قال ابن الخطيب: و «قَدْ» معناه: التوكيد، كأنه قال: وتعلمون علماً يقيناً، لا شبهة [لكم] فيه.
قوله: {أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} .
والمعنى: أنَّ لرسول الله يحترم يقيناً.
قوله: {فَلَمَّا زاغوا} ، أي: مالوا عن الحق، {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} أي: أمالهم عن الهدى.
وقيل: {فَلَمَّا زاغوا} عن الطاعة، {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} عن الهداية.
وقيل: {فَلَمَّا زاغوا} عن الإيمان، {أزاغ الله قلوبهم} عن الثواب.
وقيل: لمَّا تركُوا ما أمرُوا به من احترام الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وطاعة الرب، «خلق» الله في قلوبهم الضلالة عقوبة لهم على فعلهم.(19/51)
{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} .
قال الزجاجُ: «يعني من سبق في علمه أنه فاسق» .
قال ابنُ الخطيب: «وهذه الآية تدلّ على عظم إيذاء الرسول، حتى إنه يؤدّي إلى الكفر، وزيغ القلوب عن الهدى» .
قوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} .
أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً، وقال: {يابني إِسْرَائِيلَ} ولم يقل: «يا قوم» كما قال موسى؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم، فيكونون قومه، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم} أي: بالإنجيل.
قوله: «مُصدِّقاً» حال، وكذلك: «مُبَشِّراً» والعامل فيه: «رسول» ؛ لأنه بمعنى المرسل.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب: «مصدقاً، ومبشراً» أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت: بمعنى: الإرسال؛ لأن «إليكم» صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل؟ انتهى.
يعني بقوله: صلات، أنها متعلقة ب «رسول» صلة له، أي: متصل معناها به لا الصلة الصناعية.
قوله: {يأتي من بعدي} ، وقوله: «اسمه أحمد» ، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول.
أو «اسْمهُ أحمدُ» في موضع نصب على الحال من فاعل «يأتي» .
أو تكون الأولى نعتاً، والثانية حالاً، وكونهما حالين ضعيف، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه.
وقرأ
نافع
وابن
كثير
وأبو
عمرو
: «مِنْ بَعدِيَ» - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم، واختاره أبو حاتم؛ لأنه اسم، مثل الكاف من «بعدك» ، والتاء من «قمت» .(19/52)
والباقون: قرءوا بالإسكان.
وقرىء: {من بعد اسمه أحمد} ، فحذف الياء من اللفظ.
و «أحمدُ» اسم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو اسم علم.
يحتمل أن يكون من صفة، وهي: «أفعل» التفضيل، وهو الظَّاهر، فمعنى «أحمد» أي: أحمدُ الحامدين لربِّه.
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله، ونبينا «أحْمَد» أكثرهم حمداً.
قال البغويُّ: والألف في «أحْمَد» ، للمبالغة في الحمد، وله وجهان:
أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: الأنبياء كلهم حمادون لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وهو أكثر حمداً لله من غيره.
والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي: الأنبياء كلهم محمودون، لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها، انتهى.
وعلى كلا الوجهين، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة. وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً؛ لأنه يخلف العلمية للصفة.
وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة.
وأنشد حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يمدحه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويصرفه: [الكامل]
4764 - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ ... والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ
«أحمد» : بدل أو بيان «للمُبَارك» .
وأما «مُحَمَّد» فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى «محمود» ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، ف «محمّد» هو الذي حمد مرة بعد أخرى.
قال القرطبي: «كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى، وكذلك المدح ونحو ذلك، فاسم» محمد «مطابق لمعناه، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه،(19/53)
فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقاً عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه، ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان:» أحمد «حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم:» أحمد «على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى فقال:» اسمه أحمد «، وذكره موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمَّة محمد، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث، كان محمداً بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته» .
رُوِيَ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ، واسمي في الزَّبُورِ: المَاحِي، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ، واسْمِي في الإنجيلِ: أحْمَدُ، وفي القُرْآنِ: مُحَمَّدٌ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ» .
وفي الصحيح: «لِي خَمْسَةُ أسْمَاء: أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي، وأنَا العَاقِبُ» وقد تقدم.
قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات} .
قيل: عِيْسَى.
وقيل: مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
{قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} .
قرأ حمزة والكسائي: «ساحر» نعتاً للرجل.
وروي أنها قراءة ابن مسعود.
والباقون: «سحر» نعتاً لما جاء به الرسول.
قال أبو حيان هنا: وقرأ الجمهور: «سحر» ، وعبد الله، وطلحة والأعمش، وابن وثاب: «ساحر» ، وترك ذكر الأخوين.(19/54)
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.
قوله: {وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} .
جملة حالية من فاعل: «افْتَرَى» ، وهذه قراءة العامة.
وقرأ طلحة: «يدَّعي» - بفتح الياء والدال مشددة - مبنياً للفاعل.
وفيها تأويلان:
أحدهما: قاله الزمخشري، وهو أن يكون «يفتعل» بمعنى: «يفعل» نحو: «لمسه والتمسه» .
والضميران، أعني: «هو» ، والمستتر في: «يدعى» لله تعالى، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد، كأنه قيل: والله يدعو إلى الإسلام.
وفي القراءة الأولى يكون الضَّميران عائدين على «من» .
والثاني: أنه من ادّعى كذا دعوى، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عُدِّي باللام؛ وإلا فهو متعدٍّ بنفسه.
وعلى هذا الوجه فالضميران ل «من» أيضاً، كما هما في القراءة المشهورة.
وعن طلحة: «يُدَّعى» - مشدد الدال - مبنياً للمفعول.
وخرجها الزمخشري على ما تقدم من: ادَّعاه ودعاه بمعنى: لمسه والتمسه.
والضميران عائدان على «من» عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى، فإن الضميران لله، كما تقدم تحريره.
وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد المعجزات التي ظهرت لهما، ثم قال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي.
قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} .
الإطفاءُ هو الإخماد، يستعملان في النار، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج.(19/55)
وفي هذا اللام أوجه:
أحدها: أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة.
قال الزمخشري: أصله {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} كما في سورة التوبة [32] ، وكأنَّ هذه اللام، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئت لإكرامك وفي قولك: «جئت لأكرمك» ، كما زيدت اللام في: «لا أبا لك» توكيداً لمعنى الإضافة في: «لا أباك» .
وقال ابن عطية: «واللام في:» ليطفئوا «لام العلة مؤكدة، ودخلت على المفعول؛ لأن التقدير:» يريدون أن يطفئوا نور الله «، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت انتهى.
وهذا ليس مذهب سيبويه، وجمهور النَّاس، ثم قول أبي محمد:» وأكثر ما يلزم «ليس بظاهر؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة، بل هي جائزة للزيادة، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً، بل الأكثر عدمها.
الثاني: أنَّها لام العلة والمفعول محذوف، أي: يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليطفئوا.
الثالث: أنَّها بمعنى:» أن «الناصبة، وأنها ناصبة للفعل بنفسها.
قال الفرَّاء: العرب تجعل» لام كي «في موضع:» أن «، في» أراد وأمر «، وإليه ذهب الكسائي أيضاً.
وقد تقدم نحو من هذا في قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء: [الآية: 26] .
فصل
قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد بنور الله - هاهنا - القرآن، يريدون إبطاله، وتكذيبه بالقول.
وقال السديُّ: الإسلام، أي: يريدون دفعه بالكلام.
وقال الضحاكُ: إنَّه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريدون إهلاكه بالأراجيف.
وقال ابنُ جريجٍ: حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم، وقيل:(19/56)
إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه، وجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابنُ عيسى.
فصل في سبب نزول هذه الآية
قال الماورديُّ: سبب نزول هذه الآية، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد، فما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها.
قوله: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} .
قرأ الأخوان وحفص وابن كثير: بإضافة:» متم «، ل:» نوره «.
والباقون: بتنوينه ونصب:» نوره «.
فالإضافة تخفيف، والتنوين هو الأصل.
وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل.
وقوله:» والله متم «، جملة حالية من فاعل:» يريدون «، أو» ليطفئوا «.
والمعنى: والله متم نوره، أي: بإظهاره في الآفاق.
فإن قيل: الإتمام لا يكون إلاَّ عند النُّقصان، فما معنى نقصان هذا النور؟ .
فالجواب: إتمامه بحسب نقصان الأثر وهو الظُّهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار، وهو الإتمام، يؤيده قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .
وعن أبي هريرة: إن ذلك عند نزول عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قاله مجاهد.
قوله: {وَلَوْ كَرِهَ} .
حال من هذه الحال فهما متداخلان، وجواب: «لو» محذوف، أي: أتمه وأظهره، وكذا {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ، والمعنى: ولو كره الكافرون من سائر(19/57)
الأصناف، فإن قيل: قال أولاً: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ، وقال ثانياً: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فما الفائدة؟ .
فالجواب: إذا أنكروا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما أوحي إليه من الكتاب، وذلك من نعمة الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال: {ولو كره الكافرون} ، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، فالمراد من الكافرين هنا: اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به، وأما قوله: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ، فذلك عند إنكارهم [التوحيد] وإصرارهم عليه، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعاهم في ابتداء الدعوة إلى التوحيد ب «لا إله إلا الله» ، فلم يقولوا: «لا إله إلا الله» ، فلهذا قال: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} .(19/58)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني: محمداً «بالهُدَى» أي: بالحقِّ والرشاد، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} بالحُجَج، ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور: أن لا يبقى دين [آخر] من الأديان، بل المراد: أن يكون أهل الإسلام عالين غالبين، ومن الإظهار ألا يبقى دين آخر سوى الإسلام في آخر الزمان.
قال مجاهدٌ: ذلك إذا أنزل الله عيسى، لم يكن في الأرض دين إلاَّ دين الإسلام.
قال أبو هريرة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} بخروج عيسى، وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لَيَنْزلنَّ ابنُ مريمَ حكماً عادلاً، فليَكسرنَّ الصَّليبَ وليقتلنَّ الخِنْزيرَ، وليضَعَنَّ الجِزيَةَ، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبنَّ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُد، وليَدعُونَّ إلى المالِ فلا يقبلهُ أحدٌ «.
وقيل: ليُظْهرهُ، أي: ليطلع محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سائر الأديان حتى يكون عالماً بها عارفاً بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيَّروا منها» على الدِّينِ «أي: على الأديان؛ لأن الدين مصدر يعبر به عن الجميع.(19/58)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية.
قال مقاتلٌ: «نزلت في عثمان بن مظعون، قال: يا رسول الله، لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار أبداً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ من سُنَّتِي النَّكاحَ فلا رهْبانِيَةَ في الإسْلامِ وإنَّما رَهْبانِيةُ أمَّتِي الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ، وخصاء أمَّتِي الصَّومُ، فلا تُحرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكُم، ومِنْ سُنَّتِي أنَامُ وأقُومُ وأفْطِرُ وأصُومُ، فمنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليْسَ منِّي «، فقال عثمان: لوددت يا نبي الله، أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها» ، فنزلت.
وقيل: «أدُلُّكُمْ» أي: سأدلكم، والتجارة: الجهاد، قال الله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] : الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين.
وقيل: لأهل الكتاب.
وقيل: نزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا.
قال البغويُّ: وجعل ذلك بمنزلة التجارة؛ لأنهم يرجون بها رضا الله عَزَّ وَجَلَّ، ونيل جنته والنجاة من النار.
والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، كما أن التجارة تنجي التاجر من الفقر فكذا هذه التجارة، وكما أن في التجارة الربح والخسران، فكذلك هذه التجارة، فمن آمن وعمل صالحاً، فله الأجر الوافر، ومن أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، فله الخسران المبين.
قوله: {تُنجِيكُم} . هذه الجملة صفة ل «تجارة» .
وقرأ ابن عامر: {تُنجّيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ} بالتشديد.
والباقون: بالتخفيف، من «أنْجَى» ، وهما بمعنى واحد؛ لأن التضعيف والهمزة متعديان.(19/59)
والمعنى: يخلصكم من عذاب أليم، أي مؤلم.
قوله: {تُؤْمِنُونَ} .
لا محلّ له لأنه تفسير ل «تجارة» .
ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر، أي تلك التجارة تؤمنون، والخبر نفس المبتدأ، فلا حاجة إلى رابط.
وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل، أي «أعني تؤمنون» ، وجاز ذلك على تقدير «أن» وفيه تعسف.
والعامة على: «تؤمنون» خبراً لفظياً ثابت النون.
وعبد الله: «آمنُوا، وجاهدُوا» أمرين.
وزيد بن علي: «تؤمنوا، وتجاهدوا» بحذف نون الرفع.
فأما قراءة العامة، فالخبر بمعنى الأمر، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد: على حذف لام الأمر، أي: «لتؤمنوا، ولتجاهدوا» .
كقوله: [الوافر]
4765 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة} [إبراهيم: 31] في وجه، أي: لتَفْدِ ولتقيموا، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله: «يتقي» .
وكذلك قولهم: «اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه» ، تقديره: ليتق الله.
وقال الأخفش: أن «تؤمنون» : عطف بيان ل «تجارة» .
وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل: أن تؤمنوا، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله: [الطويل]
4766 - ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى ... الأصل: أن أحضر الوغى.
وكأنه قيل: هل أدلّكم على تجارة منجية: إيمان وجهاد، وهو معنى حسن، لولا ما فيه من التأويل، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من «تِجارةٍ» .(19/60)
وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: «هل أدلكم» .
واختلف الناس في تصحيح هذا القول.
فبعضهم غلطه. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
يعني: أنه ليس مرتباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرد الدلالة.
قال القرطبي: و «تُؤمِنُونَ» عند المبرد والزجاج في معنى «آمِنُوا» ولذلك جاء «يَغْفِر لَكُمْ» مجزوماً على أنه جواب الأمر.
قال ابن الخطيب: «هَلْ أدلكُمْ» في معنى الأمر عند الفرَّاء، يقال: هل أنت ساكت أي: اسكت، وبيانه أن «هَلْ» بمعنى الاستفهام ثم يندرج إلى أن يصير عرضاً وحثًّا، والحث كالإغراء، والإغراء أمر.
وقال المهدوي: إنما يصح حمله على المعنى، وهو أن يكون «تُؤمِنُونَ، وتجاهدون» : عطف بيان على قوله: «هل أدلكم» .
كأن التجارة لم يدر ما هي فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قيل: هل تؤمنون وتجاهدون؟ .
قال: فإن لم يقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير إن دُللتم يغفر لكم والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة.
وقال الزمشخري قريباً منه أيضاً.
وقال أيضاً: إن «تؤمنون» استئناف كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تؤمنون.
وقال ابن عطيَّة: «تُؤمِنُونَ» : فعل مرفوع، تقديره: ذلك أنه تؤمنون.
فجعله خبراً، وهي وما في حيّزها خبر لمبتدأ محذوف، وهذا محمول على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب فإنه لا حاجة إليه.
فصل
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ} ؟ .(19/61)
فالجواب: يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر، ويمكن أن يكون أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة.
فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة: 124] ، أو يكون المراد الأمر بالثبات على الإيمان، كقوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} [إبراهيم: 27] . فإن قيل: كيف ترجى النجاة إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع؟ .
فالجواب: أن هذا المجموع هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خير في نفس الأمر.
قوله: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} .
قال القرطبي: ذكر الأموال أولاً، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق، «ذَلِكُمْ» أي: هذا الفعل {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أموالكم وأنفسكم، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم.
قوله: {يَغْفِرُ لَكُمْ} فيه أوجه:
أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، كما تقدم.
والثاني: أنه مجزوم على جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
الثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم.
قال القرطبي: «وأدغم بعضهم، فقرأ:» يَغْفر لَكُمْ «، والأحسن ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر قويّ فلا يحسن الإدغام في اللام؛ لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف» .
قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} .
روى الحسنُ قال: «سألت عمران بن حصينٍ وأبا هريرة عن قوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} ، فقالا: على الخبير [سقطت] ، سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فقال:» قَصْرٌ مِن لُؤلُؤة في الجنَّةِ، في ذلِكَ القصْرِ سَبْعُونَ داراً من ياقُوتةٍ حَمْراءَ، فِي كُل دَار سَبْعُونَ بَيْتاً(19/62)
من زَبرْجدة خَضْراءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً، عَلَى كُلِّ سَريرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً من كُلِّ لَوْنٍ على كُلِّ فِراشٍ سَبعُونَ امْرَأةً، من الحُورِ العِينِ، فِي كُلِّ بيتٍ سَبْعُونَ مَائدةً، عَلى كُلِّ مائدةٍ سَبْعُون لوْناً من الطَّعام، فِي كُلِّ بَيْتٍ سبعُون وصيفاً ووصيفَةً، فيُعْطِي اللَّهُ تعالى المُؤمِنَ القُوَّة في غَدَاةٍ واحدةٍ مَا يَأتِي ذَلِكَ كُلِّهِ «.
قوله: {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} .
أي دار إقامة. {ذلك الفوزُ العظيمُ} أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
قوله: {وأخرى تُحِبُّونَهَا} . فيها أوجه:
أحدها: أنها في موضع رفع على الابتداء وخبرها مقدر، أي: ولكم أو وثمَّ أو عنده خصلة أخرى أو مثوبة أخرى، و» تُحِبُّونهَا «: نعت له.
الثاني: أن الخبر جملة حذف مبتدؤها، تقديره: هي نصر، والجملة خبر» أخرى «. قاله أبو البقاء.
الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف للدلالة عليه بالسِّياق، أي: ويعطكم، أو يمنحكم مثوبة أخرى، و» تُحِبُّونهَا «نعت لها أيضاً.
الرابع: أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره» تُحِبُّونهَا «فيكون من الاشتغال، وحينئذ لا يكون» تحبونها «نعتاً لأنه مفسر للعامل فيه.
الخامس: أنها مجرورة عطفاً على» تجارة «.
وضعف هذا بأنها ليست مما دلَّ عليه إنما هي ثواب من عند الله.
قال القرطبي:» هذا الوجه منقول عن الأخفش والفراء «.
قوله: {نَصْرٌ مِّنَ الله} .
خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة، أو الخلة الأخرى نصر،» من الله «نعت له أو متعلق به، أي: ابتداؤه منه.
ورفع» نَصْرٌ، وفَتْحٌ «قراءة العامة.
ونصب ابن أبي عبلة الثلاثة. وفيه أوجه ذكرها الزمخشري.(19/63)
أحدها: أنها منصوبة على الاختصاص.
الثاني: أن ينتصبن على المصدرية، أي: ينصرون نصراً، ويفتح لهم فتحاً قريباً.
الثالث: أن ينتصبن على البدل من «أخْرَى» ، و «أخرى» منصوبة بمقدر كما تقدم، أي يغفر لكم ويدخلكم جنات ويؤتكم أخرى، ثم أبدل منها نصراً وفتحاً قريباً.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أي: ولكم نصر من الله {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، أي: غنيمة في عاجل الدنيا قبل فتح مكة. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد فتح فارس والروم {وَبَشِّرِ المؤمنين} برضا الله عنهم.
وقال البغوي: «وبشر المؤمنين» يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
ثم حضهم على نصر المؤمنين وجهاد المخالفين، فقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} }(19/64)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
أي: كونوا حواريِّي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريِّي عيسى على من خالفهم.
قوله: {أَنصَارَ الله} .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أنصاراً» ، منوناً «لله» جاراً ومجروراً.
والباقون: «أنصار» غير مُنوَّنٍ، بل مضافاً للجلالة الكريمة.
والرسم يحتمل القراءتين معاً، واللام يحتمل أن تكون مزيدة في المفعول للتقوية لكون العامل فرعاً، إذ الأصل «أنصار اللَّهِ» وأن تكون غير مزيدة، ويكون الجار والمجرور نعتاً ل «أنصار» . والأول أظهر.
وأما القراءة على الإضافة ففرع الأصل المذكور، ويؤيد قراءة الإضافة الإجماع عليها في قوله تعالى: {نَحْنُ أَنصَارُ الله} ولم يتصور جريان الخلاف هنا، لأنه مرسوم بالألف.(19/64)
قال القرطبي: قيل: في الكلام إضمار، أي: قل لهم يا محمد: كونوا أنصار الله.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله، أي: كونوا أنصار الله كما فعل أنصار عيسى، فكانوا بحمد الله أنصاراً وكانوا حواريين.
فصل في الحواريين
قال القرطبيُّ: «الحواريون: خواص الرسل.
قال معمر: كان ذلك بحمد الله تعالى، أي نصروه سبعون رجلاً، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة، وقيل هم من قريش، وسماهم قتادة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة واسمه عامر، وعثمان بن مظعون، وحمزة بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ولم يذكر سعيداً فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أجمعين» .
قوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} .
وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلاً، وقد مضت أسماؤهم في «آل عمران» .
وهم أول من آمن به من بني إٍسرائيل. قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: قال الله لعيسى: إذا دخلت القرية فأتِ النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة؛ فأتاهم عيسى وقال لهم: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا: نحن ننصرك، فصدقوه ونصروه.
قوله: «كَمَا» . فيه أوجه:
أحدها: أن الكاف في موضع نصب على إضمار القول، أي: قلنا لهم ذلك كما قال عيسى.
الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف تقدير: كونوا كوناً. قاله مكي. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يؤمروا بأن يكونوا كوناً.
الثالث: أنه كلام محمول على معناه دون لفظه.
وإليه نحا الزمخشري، قال: «فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أنصاري؟(19/65)
قلت: التشبيه محمُول على المعنى، وعليه يصح، والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أنصَاري إلى اللَّهِ» ؟ .
وتقدم في «آل عمران» تعدي أنصار ب «إلى» واختلاف الناس في ذلك.
وقال الزمخشري هنا: «فإن قيل: ما معنى قوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ فالجواب: يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين {نَحْنُ أَنصَارُ الله} والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجهاً إلى نصرة الله، وإضافة أنصاري خلاف إضافة» أنصَار اللَّهِ «فإن معنى {نَحْنُ أَنصَارُ الله} نحن الذين ينصرون الله، ومعنى» مَنْ أنصَارِي «من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب، والدليل عليه قراءة من قرأ: مَنْ أنَصارُ اللَّهِ» . انتهى.
يعني: أن بعضهم يدعى أن «إلى» بمعنى «مع» أي من أنصاري مع الله؟! .
وقوله: قراءة من قرأ «أنصَار اللَّهِ» ، أي: لو كانت بمعنى «مع» لما صح سقوطها في هذه القراءة.
قال شهاب الدين: «وهذا غير لازم، لأن كل قراءة لها معنى يخصها إلا أن الأولى توافق القراءتين» .
قوله: {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعني في زمن عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالوا كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه الله إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فظهرت فرقة المؤمنين على الكافرين، فذلك قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} ، غالبين.
وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى؛ والأول أظهر؛ لأن عيسى لم يقاتل أحداً، ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.
وقال زيد بن علي، وقتادة: «فأصْبَحُوا ظاهِرينَ» غالبين بالحُجَّة، والبرهان، لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام، والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل، والله تعالى لا يأكل.(19/66)
وقيل: نزلت هذه الآية، في رسل عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع بطريس وبولس إلى «رومية» ، واندراييس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى «قرطاجنة» ، وهي «إفريقية» ، ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل «الكهف» ، ويعقوبس إلى أورشليم، وهي «بيت المقدس» ، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا وبروس إلى «الإسكندرية» وما حولها فأيَّدهم الله تعالى بالحجة فأصبحوا «ظاهرين» أي: عالين، من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه.
قوله: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} .
من إيقاع الظاهر موقع المضمر مبهماً تنبيهاً على عداوة الكافر للمؤمن، إذ الأصل فأيدناهم عليهم، أي: أيدنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتين المذكورتين.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الصَّف كَان عيسَى مُسْتغفِراً لَهُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا، ويَوْمَ القِيَامَةِ هُوَ رَفِيقه» .(19/67)
سورة الجمعة
[مدنية] وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفا.
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ".(19/68)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
وعنه قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له، قال: يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ". بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} تقدم الكلام فيه.
وقوله: {الملك القدوس العزيز الحكيم} .
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة: «سبَّحَ للَّهِ» بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل، فقال في أول هذه السورة بلفظ [المستقبل] ليدل على التسبيح في الزمن الحاضر والمستقبل.(19/68)
وأما تعلق الأول بالآخر، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا غالبين على الكُفَّار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة، وفي أول هذه السورة ذكر على ما يدل على كونه مقدساً، ومنزّهاً عما لا يليق بحضرته العليَّة ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعالى فله الملك، ولا ملك أعظم من هذا على الإطلاق، ولما كان الملك كله له تعالى فهو الملك على الإطلاق، ولما كان الكل خلقه فهو المالك على الإطلاق.
قوله: {الملك القدوس} .
قرأ العامة: بجر «الملكِ» وما بعده نعتاً لله، والبدل ضعيف لاشتقاقهما.
وقرأ أبو وائل وسلمة بن محارب ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ مقتضٍ للمدح.
وقال الزمخشري: «ولو قرىء بالنصب على حدّ قولهم: الحمد لله أهل الحمد، لكان وجهاً» .
وقرأ زيد بن علي: «القَدُّوس» بفتح القاف، وقد تقدم ذلك. و «يُسَبِّحُ» من جملة ما يجري فيه اللفظان، ك «شكره وشكر له ونصحه ونصح له وسبحه وسبح له» .
فإن قيل: «الحَكِيمُ» يطلق أيضاً على الغير كما يقال في لقمان: إنه حكيم.
فالجواب: أن الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء مواضعها، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.
قوله: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} .
تقدم الكلام في «الأميّ والأميين» جمعه.
و «يَتْلُو» وما بعده صفة ل «رسول» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «الأميّون» العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.
وقيل: الأميّون الذين لا يكتبون، وكذلك كانت قريش.
وروى منصور عن إبراهيم قال: «الأمّي» الذي لا يقرأ ولا يكتب.(19/69)
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - الأميون الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل: الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه.
وقرىء: «الأمين» بحذف ياء النَّسب.
قوله: {رَسُولاً مِنْهُمْ} .
يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما من حيّ من العرب إلا ولرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم قرابة وقد ولدوه.
وقال ابن إسحاق: إلا بني تغلب، فإن الله طهَّر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم لنصرانيتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أميًّا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الماورديُّ: فإن قيل: فما وجه الامتنان بأن بعث اللَّهُ نبيًّا أميًّا؟ .
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: لموافقته ما تقدم من بشارة الأنبياء.
الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم.
الثالث: لينفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها.
قال القرطبي: «وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته» .
قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يعني القرآن «ويُزكِّيهم» أي: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. قاله ابن عباس.
وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. قاله ابن جريج ومقاتل.
وقال السديُّ: يأخذ زكاة أموالهم، «ويُعَلِّمُهُم الكِتابَ» يعني: القرآن، «والحكمة» يعني السُّنة. قاله الحسن.
وقال ابن عباس: «الكتاب» الخط بالقلم، لأن الخط إنما نشأ في العرب بالشَّرع لما أمروا بتقييده بالخط.
وقال مالك بن أنسٍ: «الحكمة» الفقه في الدين.
وقد تقدم في البقرة.(19/70)
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} أي: من قبله وقبل أن يُرسل إليهم {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في ذهاب عن الحق.
فصل في الرد على بعض الشبه
قال ابن الخطيب: احتج أهل الكتاب بهذه الآية، فقالوا: قوله تعالى: {بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} يدل على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصَّة، قال: وهذا ضعيف، فإنه [لا] يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى قوله تعالى: {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] أنه لا يفهم منه أنه لا يخطه بشماله، ولأنه لو كان رسولاً إلى العرب خاصة، كان قوله تعالى {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] لا يناسب ذلك، وقد اتفقوا على صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله: {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} دليلاً على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان رسولاً إلى الكل.
قوله: {وآخرين منهم} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مجرور عطفاً على «الأميين» ، أي: وبعث في آخرين من الأميين و {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفة ل «آخرينَ» .
والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضَّمير المنصوب في «يُعلِّمُهُم» .
أي: ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم وسيلحقون، فكلّ من تعلم شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى آخر الزَّمان فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معلمه بالقوة؛ لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
قوله: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} .
أي: لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم.
قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم.
وفي «صحيح البخاري» ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: وفينا سلمان الفارسي قال: فوضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يده على سلمان ثم قال:» لَوْ كَانَ(19/71)
الإيمانُ عِندَ الثُّريَّا لناله رجالٌ مِنْ هؤلاءِ «، وفي رواية:» لَوْ كَانَ الدِّينُ عندَ الثُّريَّا لذهب بِهِ رجُلٌ من فارسَ، أو قال: مِنْ أبْناءِ فِارِسَ حتَّى يتناولهُ «لفظ مسلم.
وقال عكرمة: هم التابعون.
وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقاله ابن زيد ومقاتل بن حيان، قالا: هم من دخل الإسلام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى يوم القيامة.
قال سهل بن سعد الساعدي: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» «إنَّ في أصْلاب أمَّتِي رجالاً ونِساءً يدخُلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ» ثم تلا: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} «والقول الأول أثبتُ.
» وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «رأيتُني أسْقِي غَنَماً سُوداً ثُمَّ أتبعتُهَا غَنَماً عُفْراً أوِّلْها يَا أبا بَكْر» ، قال: يا نبِيَّ الله، أما السُّودُ فالعربُ، وأمَّا العُفْرُ فالعجمُ تتبعُك بعد العربِ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَذِلكَ أوَّلها الملك يا أبا بكر» «يعني: جبريل عليه السلام، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .
قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش.
وقيل: يعني: الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله الكلبي.
وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة، لما روى أبو صالح عن أبي هريرة:» أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور بالدَّرجات العلى والنعيم(19/72)
المقيم، فقال: «ومَا ذَاكَ» ، فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفَلاَ أعلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْركُونَ بِهِ من سَبَقكُمْ وتَسبقُونَ من بَعْدكُمْ ولا يكُونُ أحَدٌ أفضل مِنكُمْ إلاَّ من صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ» قالوا بلى يا رسول الله، قال: «تُسَبِّحُونَ وتُكبِّرُونَ وتحْمدُونَ دُبر كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثينَ مرَّةً» ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} «
وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودخولهم في دينه ونصرته.(19/73)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} .
هذه قراءة العامَّة.
وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر: «حَمَلُوا» مخففاً مبنياً للفاعل.
قوله: {كَمَثَلِ الحمار} .
هذه قراءة العامة.
وقرأ عبد الله: «حِمَارٍ» منكراً، وهو في قوة قراءة الباقين، لأن المراد بالحمار: الجِنْس ولهذا وصف بالجملة بعده، كما سيأتي.
وقرأ المأمون بن هارون الرشيد: «يُحَمَّل» مشدداً مبنيًّا للمفعول.
والجملة من «يَحْمِلُ أو يُحَمَّلُ» فيها وجهان:
أشهرهما: أنه في موضع الحال من «الحمار» .(19/73)
والثاني: أنها في موضع الصفة للحمار، لجريانه مجرى النكرة، إذ المراد به الجنس.
قال الزمخشري: أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم، في قوله: [الكامل]
4767 - وَلقَدْ أمُرُّ على اللَّئيمِ يسُبُّنِي..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وتقدم تحرير ذلك وأن منه عند بعضهم: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ} [يس: 37] ، وأن «نسلخ» نعت لليل، والجمهور يجعلونه حالاً للتعريف اللفظي.
وأما على قراءة عبد الله: فالجملة وصف فقط، ولا يمتنع أن تكون حالاً عند سيبويه. والأسفار: جمع سفر، وهو الكتاب المجتمع الأوراق.
فصل في تفسير هذا المثل
هذا مثل ضرب لليهود لما تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «حُمِّلُوا التَّوراةَ» أي: كلفوا العمل بها. قاله ابن عباس.
وقال الجرجاني: هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي: ضمنوا أحكام التوراة.
وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} .
لم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أي: كتباً من العلم، واحدها سفر.
قال الفرَّاء: هي الكتب العظام، لأنها تسفر عما فيها من المعاني إذا قرئت، ونظيره: شبر وأشبار.
يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرأون التوراة ولا ينتفعون بها، لأنهم خالفوا ما فيها.
قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل، كذلك اليهود، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء.
قال الشاعر: [الطويل]
4768 - لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي البَعِيرُ إذَا غَدَا ... بأوسَاقِهِ أوْ رَاحَ مَا فِي الغَرَائِرِ(19/74)
قوله: {بِئْسَ مَثَلُ القوم} فيه أوجه:
أحدها: وهو المشهُور أن «مثَلُ القَوْمِ» فاعل «بِئْسَ» والمخصوص [بالذم الموصول بعده، وهذا مشكل؛ لأنه لا بد من تصادق فاعل «نعم وبئس» والمخصوص هنا: «المثل» ليس بالقوم المكذبين]
والجواب: أنه على حذف مضاف، أي: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا.
الثاني: أن «الَّذينَ» صفة للقوم فيكون مجرور المحلّ، والمخصوص بالذَّم محذوف لفهم المعنى، تقديره: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء، وهو قريب من الأول.
الثالث: أن الفاعل محذوف، وأن «مثل القوم» هو المخصوص بالذَّم، وتقديره: بئس المثل مثل القوم، ويكون الموصول نعتاً للقوم أيضاً، وإليه ينحو كلام ابن عطية فإنه قال: والتقدير {بئس المثل مثل القوم} .
وهذا فاسد: لأنه لا يحذف الفاعل عند البصريين إلاَّ في مواضع ثلاثة ليس هذا منها، اللهم إلا أن يقول بقول الكوفيين.
الرابع: أن يكون التمييز محذوفاً، والفاعل المفسر به مستتر، تقديره: «بئس مثلاً مثل القوم» وإليه ينحو كلام الزمخشري فإنه قال: «بئس مثلاً مثل القوم» .
فيكون الفاعل مستتراً مفسراً ب «مَثَلاً» ، و «مثلْ القَوْمِ» هو المخصوص بالذم، والموصول صفة له، وحذف التمييز، وهذا لا يجيزه سيبويه وأصحابه ألبتة.
نصوا على امتناع حذف التمييز، وكيف يحذف وهو مبين.
فصل
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما الحكمة في تعيين الحمار من دون سائر الحيوانات؟ .
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، كما قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 87] ، والزينة في الخيل أظهر وأكثر بالنسبة إلى الركوب والحمل عليه، وفي البغال دون الخيل، وفي الحمير دون البغال، فالحمار كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يكون الحمار في معنى الحمل أظهر(19/75)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات.
وثانيها: أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة لأولئك القوم، والحمار يمثل به في الجهل والبلادة.
وثالثها: أن في الحمار من الحقارة ما ليس في غيره من الحيوانات. والغرض من الكلام هاهنا تحقير القوم وتعييرهم، فيكون تعيين الحمار أليق.
ورابعها: أن حمل الأسفار على الحمار أسهل وأعمّ وأسهل لسرعة انقياده، فإنه ينقاد للصبي الصغير من غير كلفة، وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره.
وخامسها: أن رعاية الألفاظ والمناسبة من لوازم الكلام [وبين] لفظ الأسفار والحمار مناسبة لفظة [لا توجد] في غيره من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
فصل
قال القرطبي: «معنى الكلام: بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم فحذف المضاف {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء يعني من سبق في علمه أنه يكون كافراً» .
قوله
: {قُلْ
يا
أيها
الذين هادوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} . أي: من دون محمَّد وأصحابه. لما ادعت اليهود الفضيلة، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، قال الله تعالى: {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} فللأولياء عند الله الكرامة {فَتَمَنَّوُاْ الموت} لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله.
قوله: {أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ} .
سادّ مسد المفعولين أو المفعول على الخلاف، و «لله» متعلق ب «أولياء» أو بمحذوف نعتاً ل «أولياء» ، و {من دون الناس} كذلك.
قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} . جواب الشَّرط.(19/76)
والعامة: بضم الواو وهو في الأصل واو الضمير.
وابن السميفع وابن يعمر وابن إسحاق: بكسرها، وهو أصل التقاء السَّاكنين.
وابن السميفع أيضاً: بفتحها وهذا طلب للتخفيف.
وتقدم نحوه في: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] .
وحكى الكسائي إبدال الواو همزة.
قوله: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} ، وقال في البقرة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] .
قال الزمخشري: لا فرق بين «لا» و «لن» في أنَّ كل واحد منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتي مرة بلفظ التأكيد «ولن يتمنوه» ومرة بغير لفظه «ولا يتمنونه» .
قال أبو حيان: «وهذا رجوع عن مذهبه وهو أن» لن «تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة وهو أنها لا تقتضيه» .
قال شهاب الدين: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين «لا» و «لن» في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص «لن» بمعنى آخر.
وتقدم الكلام على هذا مشبعاً في «البقرة» .
فصل
المعنى: «ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم» أي: أسلفوه من تكذيب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلو تمنوه لماتوا، فكان ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية.
«قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزلت هذه الآية:» والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات «» .
وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد مضى الكلام على هذه الآية في «البقرة» عند قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} [البقرة: 94] .(19/77)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قوله: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} .(19/77)
في هذه الفاء وجهان:
أحدهما: أنها داخلةٌ لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك.
قال الزجاج: ولا يقال: إنَّ زيداً فمنطلق، وهاهنا قال: «فإنَّهُ مُلاقِيكُمْ» لما في معنى «الذي» من الشرط والجزاء، أي: فررتم منه فإنه ملاقيكم، وتكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه.
الثاني: أنها مزيدة محضة لا للتضمين المذكور.
وأفسد هؤلاء القول الأول بوجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما يجوز إذا كان المبتدأ أو اسم إن موصولاً، واسم «إن» هنا ليس بموصول، بل موصوفاً بالموصول.
والثاني: أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط يعني أنه متحقق فلم يشبه الشرط الذي هو من شأنه الاحتمال.
وأجيب عن الأول: بأن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد؛ ولأن «الذي» لا يكون إلا صفة، فإذا لم يذكر الموصوف دخلت الفاء، والموصوف مراد، فكذلك إذا صرح بها.
وعن الثاني: بأن خلقاً كثيراً يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر.
وجوز مكي: أن يكون الخبر قوله: {الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وتكون الفاء جواب الجملة قال: كما تقول: «زيد منطلق فقم إليه» .
وفيه نظر؛ لأنها لا ترتب بين قوله: {إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وبين قوله {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} فليس نظيراً لما مثله.
قال القرطبي: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {الذي تَفِرُّونَ} ثم يبدأ بقوله {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} .
وقرأ زيد بن علي: «إنَّهُ» بغير فاء.
وفيها أوجه:(19/78)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
أحدها: أنه مستأنف، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول، كأنه قيل: فإن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه. قاله الزمخشري.
الثاني: أن الخبر الجملة من قوله: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت.
الثالث: أن يكون «إنه» تأكيد، لأن الموت لما طال الكلام أكد الحرف تأكيد لفظياً، وقد عرف أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه أو بإعادة ضميره، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه «إن» .
وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت، و «ملاقيكم» خبره، كأنه قيل: إن الموت إنه ملاقيكم.
وقرأ ابن مسعود: «ملاقيكم» من غير «فإنه» .
فإن قيل: الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟ .
فالجواب: أنَّ هذا على جهة الرَّد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا وعيد بليغ وتهديد شديد.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} الآية.
قرأ العامة: «الجُمُعَة» بضمتين.
وقرأ عبد الله بن الزبير وزيد بن علي والأعمش وأبو حيوة وأبو عمرو في رواية بسكون الميم.
فقيل: هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفاً وهي لغة تميم.
وقيل: هو مصدر بمعنى الاجتماع.(19/79)
وقيل: لما كان فيه معنى الفعل صار «كرجل هُزْأة» أي: يُهزأ به، فلما كان في «الجمعة» معنى التجمع أسكن؛ لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه، فصار ك «هزأة» الذي يهزأ به. قاله مكي.
وكذا قال أبو البقاء: هو بمعنى المجتمع فيه، مثل: رجل ضحكة، أي يضحك منه.
وقال مكي: يجوز إسكان الميم إستخفافاً، وقيل: هي لغة.
وقد تقدم أنها قراءة وأنها لغة تميم.
وقال أبو حيان: «ولغة بفتحها لم يقرأ بها» .
قال شهاب الدين: «قد نقلها أبو البقاء قراءة، فقال: ويقرأ - بفتح الميم - بمعنى الفاعل، أي: يوم المكان الجامع، مثل: رجل ضحكة، أي: كثير الضحك» .
وقال مكي: «وفيه لغة ثالثة - بفتح الميم - على نسبة الفعل إليها كأنها تجمع الناس، كما يقال:» رجل لحنة «إذا كان يلحن الناس، وقرأة إذا كان يقرىء الناس» ، ونقلها قراءة أيضاً الزمخشري، إلا أن الزمخشري جعل «الجمعة» - بالسكون - هو الأصل، وبالمضموم مخففاً منه يقال: يوم الجمعة، يوم الفوج المجموع، كقولهم: «ضُحَكَة» للمضحوك منه، ويوم الجمعة - بفتح الميم - يوم الوقت الجامع، كقولهم: ضحكة ولعبة، ويوم الجمعة، كما قيل: عُسَرة في عُسْرة، وقرىء بهن جميعاً.
وتقديره: يوم الوقت الجامع أحسن [من تقدير أبي البقاء يوم] المكان الجامع؛ لأن نسبة الجمع إلى الطرفين مجاز، فالأولى إبقاؤه زماناً على حاله.
قال القرطبي: «وجمعها جُمع وجُمعان» .
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم، فاقرأوها «جمعة» يعني بضم الميم.(19/80)
وقال الفرَّاء وأبو عبيد: والتخفيف أحسن وأقيس، نحو: غُرْفة وغُرَف، وطُرْفة وطُرَف وحُجرة وحُجَر وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل: قال ابن الخطيب: قوله: «للصَّلاةِ» ، أي: لوقت الصلاة، بدليل قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم.
فالجواب: روى سلمان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّمَا سُمِّيتْ جُمعَةً لأنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا خلقَ آدَمَ»
وقيل: لأن الله - تعالى - فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمع فيها جميع المخلوقات.
وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع النَّاس فيها للصلاة.
قوله: {مِن يَوْمِ} .
«من» هذه بيان ل «إذا» وتفسير لها. قاله الزمخشري.
وقال أبو البقاء: إنها بمعنى «في» أي: في يوم، كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] ، أي: في الأرض.
فصل في أول من قال أما بعد وسمى الجمعة
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: قال أبو سلمة: أول من قال: أما بعد، كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة لاجتماع قريش فيه إلى كعب، وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة.
وقيل: أول من سماها جمعة: الأنصار.
قال ابن سيرين: جمَّع أهل «المدينة» من قبل أن يقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة، وقبل أن ننزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أنهم قالوا: إن اليهود يجتمعون فيه في كل سبعة أيام وهو يوم السَّبت، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله فيه ونصلي فيه ونستذكر، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم(19/81)
الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا، فذبح لهم أسعد شاةً فتعشَّوا وتغدَّوا منها لقلتهم فهذه أول جمعة في الإسلام.
وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلاً.
وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة للمسلمين بالمدينة قبل أن يقدمها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة، فأضافه كعب إليه.
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النَّبيت من حرَّة بني بياضة في بقيع يقال له: بَقِيعُ الخضمات، قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين.
ذكره البغوي.
وأما أول جمعة جمعها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأصحابه، [فقال أهل السير: «قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] مهاجراً حتى نزل ب» قباء «على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنين عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، ومن تلك السَّنة يُعَدُّ التاريخ فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً، فجمع بهم(19/82)
وخطب، وهي أول جمعة خطبها بالمدينة، وقال فيها:» الحَمْدُ لِلَّهِ، أحْمَدهُ، وأسْتَعينُهُ، وأسْتَغفِرُهُ، وأسْتَهْدِي بِهِ، وأومِنُ بِهِ، ولا أكْفُرُهُ، وأعَادِي من يَكْفُرُ بِهِ، وأشْهَدُ ألا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ ورسُولهُ، أرْسلَهُ اللَّهُ بالهُدَى ودَيِنِ الحَقِّ ليظهره على الدين كله والنُّورِ والمَوعِظَةِ والحِكْمَةِ، على فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وقلَّةِ العِلْمِ وضَلالةٍ مِنَ النَّاسِ، وانقِطاعٍ مِنَ الزَّمانِ، ودُنُوٍّ مِنَ السّاعةِ، وقُرْبٍ مِنَ الأَجَلِ؛ مَن يُطِع الرَّسُول فَقَدْ رَشَدَ ومن يَعْصِي اللَّهَ ورسُولَهُ فَقَدْ غَوَى وفرَّطَ وضَلَّ ضلالاً بَعِيداً. وأوصِيكُمْ بتَقْوَى اللَّهِ فإنَّهُ خَيْرُ ما أوصيكم وخير ما أوصى بِهِ المُسْلِمُ المُسْلِمَ أنْ يَحُضَّهُ على الآخِرةِ وأنْ يأمرهُ بتَقْوَى اللَّهِ، واحْذَرُوا ما حذَّرَكُمُ اللَّهُ من نَفْسِهِ، فإنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِنْ عَمِلَ بِهِ على وجَلٍ ومخَافَةٍ من ربِّهِ عُنْوانُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْغُونَ مِنَ الآخِرةِ ومَن يُصْلِح الذي بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أمْرِهِ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ لا يَنْوِي بِهِ إلاَّ وجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْراً في عَاجل أمْرِهِ وذُخْراً فِيمَا بَعْدَ المَوْتِ حِينَ يَفْتَقِرُ المَرْءُ إلى ما قدَّم ومَا كَانَ ممَّا سِوَى ذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد} [آل عمران: 30] .
هُوَ الَّذي صدقَ قولهُ، وأنجَزَ وعْدَهُ، لا خُلْفَ لذَلِكَ فإنَّه يقولُ: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة ق: 29] .
فاتَّقُوا اللَّهِ في عاجلِ أمْركُمْ وآجلهِ، فِي السِّرِّ والعلانيةِ، فإنَّهُ {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] .
ومَنَ يتَّقِ اللَّهَ فقد فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
وإنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِي مقْتَهُ وتُوقِي عُقوبتَهُ وتُوقِي سُخْطَهُ، وإنَّ تَقْوَى اللَّه تُبَيِّضُ الوُجُوه وتُرْضي الرَّبَّ، وترفعُ الدَّرجة، فخُذُوا حِذْركُمْ ولا تُفَرِّطُوا في جَنْب اللَّهِ فقدْ عَلَّمَكُمْ في كتابهِ ونَهَجَ لَكُمْ سبيلهُ، ليَعْلَمَ الَّذينَ صَدَقُوا وليَعْلَمَ الكَاذِبِينَ، فأحْسِنُوا كَمَا أحسن اللَّهُ إليْكُمُ، وعادُوا أعْدَاءهُ، وجَاهِدُوا في اللَّهِ حقَّ جِهَادِهِ هُو اجتبَاكُمْ وسمَّاكُمُ المُسلِمينَ، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] ، ولا حَولَ ولا قُوَّة إلاَّ باللَّهِ العليِّ العظيم، فأكْثِرُوا من ذِكْرِ اللَّهِ تعالى واعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، فإنَّه من يُصْلِحْ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهِ مَا بَيْنَه وبيْنَ النَّاسِ، ذلِكَ بأنَّ اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ ولا يَقْضُون عليْهِ، ويَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللَّهُ أكبرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ «.
فصل في خطاب الله للمؤمنين
خاطب اللَّهِ المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال: {يا أيها(19/83)
الذين آمنوا} ، ثُمَّ خصه بالنِّداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 58] ليدلّ على وجوبه وتأكيد فرضه.
وقال بعض العلماء: كون الصَّلاة الجمعة ها هنا معلُوم بالإجماع لا من نفس اللفظ.
وقال ابن العربي: «وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختصّ بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة» .
فصل
كان الأذان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما في سائر الصلوات مؤذن واحد إذا جلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على المنبر أذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعلي ب «الكوفة» ثم زاد عثمان أذاناً ثانياً على داره التي تسمى الزوراء حين كثر الناس بالمدينة، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم يخطب عثمان. أخرجه ابن ماجه في سننه.
وقال الماوردي: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفَّان ليتأهب النَّاس لحضور الخطبة عند اتساع «المدينة» وكثرة أهلها، وقد كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أذانين في المسجد.
قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث: ثالثاً، لأنه إضافة إلى الإقامة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بَيْنَ كُلِّ أذَانَينِ صلاةٌ لِمن شَاءَ» يعني الأذان والإقامة.
وتوهّم بعض الناس أنه أذان أصلي، فجعلوا المؤذنين ثلاثة، فكان وَهْماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم.
قوله: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} .(19/84)
قيل: المراد بالسعي هنا القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية.
وقال الجمهور: السعي العمل كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] ، وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [من سورة الليل: 4] ، وقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] .
والمعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والطهر والتوجه إليه.
وقيل: المراد به السعي على الأقدام، وذلك فضل، وليس بشرط، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَن اغْبرَّتْ قَدمَاهُ في سبيل اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النَّارِ» .
قال القرطبي: «ويحتمل ظاهره وجهاً رابعاً، وهو الجري والاشتداد» .
قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصَّحابة والفقهاء الأقدمون، فقرأها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: {فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر.
وقرأ ابن مسعود كذلك، وقال: لو قرأت: «فاسْعَوا» لسعيت حتى يسقط ردائي.
وقال ابن شهاب: [فامضوا] إلى ذكر الله، سالكاً تلك السبيل، وهو كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير.
قال أبو بكر بن الأنباري: وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خرشة بن الحر قال: رآني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومعي قطعة فيها: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فقال عمر: من أقرأك هذا؟ قلت: أبيٌّ، فقال: إن أبيًّا أقرؤنا للمنسوخ ثم قرأ عمر: {فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وقال الفراء وأبو عبيدة: معنى السَّعي في الآية المضي للجمعة.
واحتج الفراء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله.
واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر: [السريع](19/85)
4769 - أسْعَى عَلَى جدِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شأنِهِ سَاعِ
فهل يحتمل السعي في هذا البيت المضي والانكماش، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود وعلى فصاحته وإتقان عربيته.
قال القرطبي: وما يدلّ على أن المراد هنا العدو، قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا أقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلاَ تَأتُوهَا وأنتُمْ تَسْعونَ ولكِن ائْتُوهَا وعَليْكُمُ السَّكِينَةُ» .
قال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما والله ما هو بالسَّعْي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصَّلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك.
فصل في أن الآية خطاب للمكلفين
هذه الآية خطاب للمكلفين [بالإجماع] ويخرج منه المرضى والزمنى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة.
لما روى الدارقطني عن أبي الزبير عن جابر «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال» مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَعليْهِ الجُمُعة يَوْمُ الجُمُعةِ إلاَّ مَريضٌ أو مُسافِرٌ أو امْرَأةٌ أوْ صَبِيٌّ أو مَمْلوكٌ، فمن اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أو تجارة اسْتَغْنَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عَنْهُ، واللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ «.
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه معه الإتيان إليها كالمرض الحابس أو خوف الزيادة في المرض أو خوف جور(19/86)
السلطان عليه في مال أو ولد دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوَحْل عذر إن لم ينقطع.
وروى المهدوي عن مالك أنهما ليسا بِعُذْرٍ.
ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره فهو معذور، وقد فعل ذلك ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاده ولا يجزيه أن يصلي قبله وهو عاص في تخلفه ذلك مع إمكانه.
فصل في وجوب السعي
وجوب السعي يختص بالقريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الذي لا يسمع النداء فلا يجب عليه السعي.
واختلف الناس في القريب والبعيد.
فقال ابن عمرو وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وأنس: تجب الجمعة على من كان في المصر على ستة أميال.
وقال ربيعة: أربعة أميال.
وقال مالك والليث: ثلاثة أميال.
وقال الشافعيُّ: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صَيِّتاً، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وموقف المؤذن عند سور البلد.
«وروت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أن الناس كانوا ينتابُون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لو اغْتسَلْتُمْ ليَوْمِكُمْ هَذَا «.
قال العلماء: والصوت إذا كان رفيعاً والناس في هدوء وسكون، فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال، والعوالي من» المدينة «أقربها على ثلاثة أميال.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» إنَّمَا الجُمعَةُ عَلَى مَن سَمِعَ النِّداءَ «.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجب الجمعة على من في المصر سمع النداء أو لم يسمعه ولا تجب على من هو خارج المصر ولو سمع النداء، حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل» زبارة «وهي بينها وبين الكوفة مجرى نهر؟ فقال: لا.(19/87)
وروي عن ربيعة أيضاً: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة.
فصل في وجوب الجمعة بالنداء.
دلّت هذه الآية على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» إذَا حَضرتِ الصَّلاةُ فليُؤذِّنْ أحَدُكُمَا وليَؤُمّكما أكْبَركُمَا «.
وروى أنس بن مالك» أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» «.
وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأحمد بن حنبل: أنها تصلى قبل الزوال، واستدل أحمد بحديث سلمة بن الأكوع:» كنا نصلّي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ «.
وحديث ابن عُمَر:» ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة «.
وأخرج مسلم مثله عن سهل.
قال القرطبي: وحديث سلمة محمول على التكبير، لقول سلمة:» كنا نُجمِّعُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا زالت الشَّمس ثم نرجع ونتتبّع الفيء «.
فصل
نقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، وجمهور الأمة على أنها فرض عين لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» ليَنْتَهينَّ أقْوامٌ عَنْ ودْعِهِمُ الجُمعاتِ أو ليَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِم ثُمَّ ليَكونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ «.
وروى ابن ماجه في» سننه «قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مَن تركَ الجُمَعَة ثَلاثَ مرَّاتٍ طَبَعَ اللَّهُ على قَلْبِهِ» ، إسناده صحيح.(19/88)
وقال ابن العربي: ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الرَّواحُ إلى الجُمُعَةِ واجِبٌ على كُلِّ مُسْلمٍ» .
فصل في العدد الذي تنعقد به الجمعة
اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة.
فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً أحراراً عاقلين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم والٍ، وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط.
وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاث إذا كان فيهم وال.
وقال الحسن وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات.
وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلاً.
فصل في اجتماع العيد والجمعة.
إذا اجتمع العيد والجمعة سقط فرض الجمعة عند أحمد لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها، ولما روي أن عثمان أذن في [يوم] عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة.
وقال غيره: لا يسقط فرض الجمعة لأن الأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام، وقول الصحابي ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه.
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ في العيدين وفي الجمعة: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1] قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصَّلاتين» أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه.
قوله: {إلى ذِكْرِ الله} .
أي: الصلاة.(19/89)
وقيل: الخطبة والمواعظ. قاله سعيد بن جبير.
قال ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع؛ لأنها تحرم البيع، ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المُستحبَّ لا يحرم المباح.
قال القرطبي: وإذا قلنا: إنَّ المراد بالذِّكر الصَّلاة فالخطبة من الصَّلاة، والعبد يكون ذاكراً لله بقلبه كما يكون مسبحاً لله بفعله.
قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟ .
قلت: ما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير، فهو في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك» .
فصل في السفر يوم الجمعة
ذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيماً فلا يسافر حتى يصلي الجمعة، وذهب بعضهم إلى الجواز، لما روى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال:
«بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رآه فقال:» مَا مَنَعَكَ أن تَغْدُوَ مَعَ أًصْحَابِكَ «، قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال:» لَوْ أنفقْتَ مَا فِي الأرْضِ مَا أدْرَكْتَ «. فصلى غدوتهم» .
وسمع عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رجلاً عليه أهبة السفر، يقول: لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال له عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفرٍ.
قوله: {وَذَرُواْ البيع} .
يدل على تحريم البيع في وقت الجمعة على من كان مخاطباً بفرضها، والبيع لا(19/90)
يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة، فلا ينهى عن البيع والشراء.
وفي وقت التحريم قولان:
أحدهما: أنه من بعد الزَّوال إلى الفراغ منها. قاله الضحاك، والحسن، وعطاء.
الثاني: أنه من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصَّلاة. قاله الشافعي.
قال القرطبي: «ومذهب مالك أن البيع يفسخ إذا نودي للصلاة، ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس اشتغالهم به كاشتغالهم بالبيع، قال: وكذلك الشرك والهبة والصدقة نادر لا يفسخ» .
قال ابن العربي: «والصحيح فسخ الجميع؛ لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً مفسوخ» .
وحمل بعضهم النهي على الندب لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، وهو مذهب الشافعي؛ فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ.
وقال الزمخشري: إن عامة العلماء على أن ذلك النهي لا يؤدي إلى فساد البيع، قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه عن الذُّهُول عن الواجب، فهو كالصلاة في الدار والثوب والمغضوب، والوضوء بماء مغصُوب.
قال القرطبي: «والصَّحيح فساده وفسخه لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» كُلُّ عملٍ ليْسَ عليْهِ أمْرُنَا فهُو ردٌّ «أي: مردود.
ثم قال:» ذَلِكُمْ «أي: ذلك الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} مصالح أنفسكم.
قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} .
هذا أمر إباحة كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] ، والمعنى: إذا فرغتم من الصلاة {فانتشروا فِي الأرض} للتجارة والتصرف في حوائجكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي: من رزقه.
وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال:(19/91)
اللهم إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك رزقاً حلالاً وأنت خير الرازقين.
وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى: {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} : إنه العمل في يوم السبت.
وقال سعيد بن المسيب: طلب العلم.
وقيل: صلاة التطوع.
وقال ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هي عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيادة الأخ في الله تعالى.
فصل
في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة.
منها ما روي عن أبي هريرة قال: «خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان فيما حدثته أن قلت له: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه هَبَطَ من الجنة، وفيه مَاتَ، وفِيهِ تِيبَ علَيْهِ، وفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، ومَا مِن دابَّةٍ إلاَّ وهِيَ مُسَبِّحَةٌ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ حِين تُصْبحُ حتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ شفقاً من السَّاعَة إلاَّ الجِنَّ والإنْسَ وفيهَا سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهُو يُصلِّي فيسألُ اللَّهَ شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ «.
قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ هي في آخر ساعة من يوم الجمعة.
قال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وهُو يُصلِّي «وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصلَّى فِيهَا؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَن جَلَسَ مَجْلِساً يَنتظِرُ الصَّلاة فَهُوَ فِي صلاةٍ حتَّى يُصلِّيهَا «؟ .(19/92)
قال أبو هريرة: بلى. قال:» فهو ذاك «» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعة واسْتَنَّ ومسَّ طِيْباً إن كان عِندَهُ ولبِسَ مِنْ أحْسَن ثيابهِ ثُمَّ خَرَجَ حتَّى يَأتِيَ المَسْجِدَ ولمْ يتَخَطَّ رِقَاب النَّاسِ ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَرْكَعَ وأنصَتَ إذا خَرَجَ الإمامُ، كَانَتْ كفَّارة لما بَيْنهُمَا وبَيْنَ الجُمُعةِ الأخْرَى الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا» .
وقال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] .
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الجمعة كَانَ عَلى كُلِّ بَابٍ مِنْ أبْوابِ المَسْجدِ ملائِكةٌ يَكْتُبُونَ [النَّاسَ على مَنَازلِهِم] ، الأوَّل فالأوَّلَ، فإذا خرج الإمامُ طُويتِ الصُّحَفُ واستَمَعُوا الخُطْبَةَ» .
وقال: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعَةِ، ثُمَّ رَاحَ في السَّاعةِ الأولى، فكَأنَّما قَرَّب بَدَنةً، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ الثَّانيةِ فكأنَّما قرَّب بقرةً، ومَن راحَ في السَّاعةِ الثَّالثة فكأنَّما قرَّب كبْشاً، ومن رَاحَ في السَّاعةِ الرَّابعةِ فكأنَّما قرَّب دَجَاجَةً [ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب عصفوراً] ، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ السادسة، فكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً فإذا خَرَجَ الإمامُ حَضرتِ الملائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» .
قوله: {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [كي تفلحوا] .
وقال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره؛ ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح.(19/93)
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً؟ .
فالجواب: أن الأول من جملة ما لا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة والثاني من جملة ما يجتمع مع التجارة كما في قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] .
قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} .
روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من «الشام» فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثني عشر رجلاً، وفي رواية: أنا فيهم، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} .
وذكر الكلبي: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من «الشام» في مجاعةٍ وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من برّ ودقيق وغيره فنزلت عند أحجار الزيت وضرب بالطبل ليعلم الناس بقدومه فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً وقيل إلا أحد عشر رجلاً وحكى البغوي قال: فلما رأوه قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه قال الكلبي وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمانية رجال حكاه الثعلبي عن ابن عباس وذكر الدارقطني من حديث جابر قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها وتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس معه إلاّ أربعين رجلاً أنا منهم قال: وأنزل الله تعالى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} قال الدارقطني لم يقل في هذا الآثار إلاّ أربعين رجلاً غير علي بن عاصم بن حصين وخالفه أصحاب حصين فقالوا لم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاّ اثني عشر رجلاً. واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة وذكر الزمخشري أن النبي صلى الله عيله وسلم قال:
«والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» .
وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد وفيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر قال القرطبي ولم يذكر جابراً وذكر مسلم أنه كان فيهم والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر وإن كان عبد الله بن مسعود بينهم فهم أربعة عشر.(19/94)
وروى البغوي قال: «وكان ذلك قبل أن يسلم دحية، قال: فخرج الناس إليه، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لو قام هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء «» فأنزل الله هذه الآية.
فصل
وذكر أبو داود في مراسيله: السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً بفضلهم ألاَّ يفعلوا، فقال: حدثنا محمود بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارته، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} فقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة فكان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عيله وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق في جنبه مستتراً به حتى يخرج، فأنزل الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} [النور: 63] الآية.
قال السُّهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عيله وسلم يوجب أن يكون صحيحاً. والله أعلم.
وقال قتادة: وقد بلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات، كل مرة عير تقدم من «الشام» وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارة ونظرهم إلى العير تمر لهوٌ لا فائدة فيه، إلا أنه كان مما لا إثمَ فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل.
وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، وضرب بالطبل [ليؤذن] الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنا عشر رجلاً.(19/95)
وقيل: أحد عشر رجلاً.
وحكى البغوي قال: «فلما رأوه قام خشية أن يسبقوا إليه» .
قال الكلبي: كانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمانية رجال، وحكاه الثعلبي عن ابن عباس.
وذكر الدارقطني من حديث جابر قال: «بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها، وانفضوا إليها، وتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس معه إلا أربعين رجلاً أنا فيهم» ، قال: وأنزل الله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} .
قال الدارقطني: لم يقل في هذا الاسناد: «إلا أرْبعِينَ رَجُلاً» غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين، فقالوا: لم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا اثنا عشر رجلاً.
واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة. وذكر الزمخشري أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لوْ خَرَجُوا جَمِيعاً لأضرَمَ اللَّهُ عليْهِمُ الوَادِي نَاراً» .
وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد، وفيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبق معه إلا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر.
قال القرطبي: «لم يذكر جابراً.
وذكر مسلم: أنه كان فيهم.
والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر، وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر» .
قوله: {انفضوا إِلَيْهَا} .
أعاد الضمير على التجارة دون اللهو لأنها الأهم في السبب.
قال ابن عطية: «وقال: إليها، ولم يقل: إليهما، تهمُّماً بالأهم، إذ كانت هي(19/96)
سبب اللهو، ولم يكن اللَّهْو سببها، وتأمل أن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبْيَن» انتهى.
وفي قوله: «لم يقل: إليهما» ثم أجاب بما ذكر نظر، لأن العطف «بأو» لا يثنى معه الضمير ولا الخبر ولا الحال، ولا الوصف؛ لأنها لأحد الشيئين، ولذلك تأول الناس:
{إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما تقدم في موضعه.
وإنما الجواب عنه: أنه وحَّد الضمير؛ لأن العطف ب «أو» ، وإنما جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو، وإن كان جائزاً للأهتمام كما قاله ابن عطية وغيره.
وقال الزمخشري قريباً من ذلك فإنه قال: فإن قلت: كيف قال: إليها، وقد ذكر شيئين؟ فالجواب: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وكذلك قراءة من قرأ: انفضوا إليه. انتهى.
فقوله: «قلت: تقديره» إلى آخره، يشعر بأنه كان حق الكلام أن يثنى الضمير ولكنه حذف، وفيه ما تقدم من المانع من ذلك أمر صناعي وهو العطف ب «أو» .
وقرأ ابن أبي عبلة: «إلَيْهِ» .
أعاد الضمير إلى اللهو، وقد نصَّ على جواز ذلك الأخفش سماعاً من العرب، نحو: إذا جاءك زيد أو هند فأكرمه، وإن شئت فأكرمها.
وقرأ بعضهم: «إليْهِمَا» بالتثنية.
وتخريجها كتخريج: «إن يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيراً فالله أولى بهما» كما تقدم تحريره.
والمراد باللهو الطبل.
وقيل: كانت العير إذا قدمت «المدينة» استقبلوها بالتصفيق والصفير.
قوله: «وتَركُوكَ» .
جملة حالية من فاعل «انفضَّوا» و «قد» مقدرة عند بعضهم.
فصل في أن الخطبة فريضة في صلاة الجمعة.
الخطبة فريضة في صلاة الجمعة، ويجب أن يخطب قائماً فإن هذه الآية تدل على أن القيام شرط، ويخطب متوكئاً على قوس أو عصا، لما روى ابن ماجه في سننه «أن(19/97)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا» .
وأن يخطب على منبر؛ لأنه أبلغ في إعلام الحاضرين، ويسلم إذا صعد المنبر على الناس. لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا صعد المنبر سلم» .
ولم ير ذلك مالك.
وهل تشترط الطهارة في الخطبة؟
فيه قولان مبنيان على أن الجمعة ظهر مقصورة، أو فريضة مستقلة.
فإن قيل: بأنها ظهر مقصورة.
فقيل: الخطبتان عوض عن الركعتين الأخريين، وعلى هذا فيشترط لهما الطهارة.
وإن قيل: بأنها فريضة مستقلة فالخطبتان وعظ وتذكير، وذلك لا يشترط لها طهارة، وأقل ما يجزىء في الخطبة أن يحمد الله - تعالى - ويصلي على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من القرآن، وكذلك في الخطبة الثانية إلا أن الواجب بدلاً من قراءة الآية الدعاء في قول أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحميد، أو التسبيح، أو التكبير أجزأه.
وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما تناوله اسم الخطبة.
وقال ابن عبد البر: وهذا أصح ما قيل في ذلك.
قال القرطبي: «والسكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سُنَّة» .
قوله: {مَا عِندَ الله خَيْرٌ} .
«ما» موصولة مبتدأ، و «خير» خبرها.(19/98)
والمعنى: ما عند الله من ثواب صلاتكم خيرٌ من لذَّة لهوكم، وفائدة تجارتكم.
وقيل: ما عندكم من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا} .
{والله خَيْرُ الرازقين} .
أي: خير من رَزَقَ وأعْطَى، فمنه فاطلبوا واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيْرَي الدنيا والآخرة.
قال ابن الخطيب: قوله {والله خَيْرُ الرازقين} من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين، والمعنى: إن أمكن وجودُ الرازقين فهو خيرُ الرازقين.
وقيل: لفظ الرَّازق لا يطلقُ على غيره إلا بطريقِ المجازِ.
فإن قيل: التِّجارةُ واللَّهْوُ من قبيل ما لا يرى غالباً، فكيف يصحُّ قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} ؟ .
فالجواب: ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة، كقوله: {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] إذ الكلام غيرُ مسموعٍ.
وروى الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ بعددِ مَنْ ذَهبَ إلى الجُمعةِ من مِصْرٍ مِنْ أمْصَارِ المُسْلمينَ ومَنْ لَمْ يَذْهَبْ» .(19/99)
سورة المنافقون(19/100)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
مكية، وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة وستة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون} .
«إذا» : شرط، قيل: جوابه «قالوا» .
وقيل: محذوف، و «قالوا» : حال أي إذا جاءوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم.
وقيل: الجواب {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ، وهو بعيد، و «قالُوا» أيضاً: حال.
فصل في تعلق هذه السورة بالتي قبلها
قال ابنُ الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملةٌ على ذكر بعثة الرسول، وذكر من كان يُكذِّبهُ قلباً ولساناً فضرب لهم المثل بقوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] .(19/100)
وهذه السورة مشتملةٌ على ذكر من كان يكذِّبُ قلباً دون اللسان، ويصدقه لساناً دون القلب.
وأما تعلق الأول بالآخر، فلأن في آخر تلك السُّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ورعايةِ حقِّه بعد النداء لصلاةِ الجمعةِ، وتقديم متابعته على غيره، فإنَّ ترك التعظيم والمتابعةِ من شيمِ المنافقين، والمنافقون هم الكاذبون.
فصل في نزول السورة.
روى البخاري عن زيد بن أرقم، قال: «كنت مع عمي فسمعتُ عبد الله بن أبيِّ ابْنَ سلول يقول: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} ، وقال: {لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} ، فذكرتُ ذلك لعمي، فذكر عمي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدَّقهُمْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذَّبني فأصابَنِي همٌّ لمْ يُصبني مثلُه، فجلست في بيتي، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون} إلى قوله: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} ، وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} ، فأرسل إليَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال» إنَّ اللَّهَ قدْ صدقَكَ «.
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم، قال:» غَزوْنَا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان معنا أناسٌ من الأعراب، فكُنَّا نبدر الماء، أي: نقسمه، وكان الأعرابُ يسبقُوننا إلى الماء، فيسبق الأعرابي أصحابه، فيملأ الحوض، ويجعلُ حوله حجارة، ويجعلُ النِّطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجلٌ من الأنصار أعرابيًّا فأرخى زِمامَ ناقته لتِشرب، فأبَى أن يدعهُ، فانتزع حجراً ففاض الماءُ، فرفع الأعرابيُّ خشبة، فضرب بها رأس الأنصاريِّ فشجَّهُ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} [المنافقون: 7] من حوله، يعني: الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند الطعام، فقال عبد الله: فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} .
قال زيد: وأنا ردف عمي، فسمعت عبد الله بن أبي، فأخبرت عمي، فانطلق، فأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحلف وجحد قال: فصدَّقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(19/101)
وكذَّبني، قال: فجاء عمّي إليَّ فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذبك، والمنافقون.
قال: فوقع عليّ من جرأتهم ما لم يقع على أحدٍ.
قال: فبينما أسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد خفقتُ برأسي من الهمِّ إذ أتاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعرك في أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرّني أنَّ لي بها الخُلدَ في الدنيا، ثم إن أبا بكرٍ لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ .
قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني، وضحك في وجهي، فقال: أبْشِرْ ثم لحقني عمرُ، فقلتُ له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سورة المنافقين «.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فصل في المنافق
سُئلَ حُذيفةُ بنُ اليمانِ عن المنافقِ، فقال: الذي يصفُ الإسلامَ ولا يعملُ به.
وروى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلف، وإذا ائتُمِنَ خَانَ «.
وروى عبدُ الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنافقاً خَالِصاً، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلةٌ مِنهُنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ من النِّفاقِ حتَّى يدعها: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وإذَا حدَّث كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ «.
وروي عن الحسن أنه ذُكِرَ له هذا الحديثُ، فقال: إن بني يعقوب حدَّثوا فكذبُوا، ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقاً أن تفضي بهم إلى النفاق.
وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصالُ من غير اختيارٍ واعتيادٍ أنه منافقٌ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» المُؤمِنُ إذَا حدَّثَ صَدَقَ، وإذَا وَعَدَ نجَّزَ، وإذا ائتُمِنَ وفَّى «.
والمعنى: أن المؤمن الكامل إذا حدَّث صدق.(19/102)
قوله:» نَشْهَدُ «.
يجري مجرى القسم كفعلِ العلم واليقين، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم في قوله: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} .
وفي قوله: [الكامل]
4770 - ولَقَدْ عَلِمْتُ لتَأتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إنَّ المَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
وقد تقدم [الخلاف] في الصدق والكذب، واستدلالهم بهذه الآية، والجواب عنها في أول البقرة.
وقال القرطبي هنا: معنى «نَشْهَدُ» نحلفُ، فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحدٍ من الحلف والشهادة إثباتٌ لأمر مُغَيَّب، ومنه قول قيس بن ذريح: [الطويل]
4771 - وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أني أحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي، فَمَا عِنْدهَا لِيَا؟
ونظيره قول الملاعن: أشهدُ بالله.
قال الزمخشري: «والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد. يقول الرجلُ: أشهدُ، وأشهدُ بالله، وأعزمُ، وأعزمُ بالله في موضع» أقْسِمُ وأُولي «، وبه استشهد أبو حنيفة على أن» أشهدُ «يمين» .
ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه.
قوله: {والله يَعْلَمُ} .
جملة معترضة بين قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وبين قوله: {والله يَشْهَدُ} [لفائدة.
قال الزمخشري: «ولو قال:» قالوا: نشهد إنك لرسول الله، واللَّهُ يشهدُ إنَّهُم لكاذبُون «لكان يُوهِمُ أن قولهم هذا كذبٌ، فوسط بينهما قوله:» واللَّهُ يعلمُ إنَّكَ لرسُولُه «ليُميطَ هذا الإبهام» .
قال القرطبي: {والله يعلم إنك لرسوله} كما قالوه بألسنتهم] ، {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} بضمائرهم، فالتكذيبُ راجع إلى الضمائر وهذا يدلُّ على أن الإيمان(19/103)
تصديقُ القلب، وعلى أنَّ الكلام الحقيقي كلامُ القلب، ومن قال شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذبٌ، وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم، وهو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لو قالوا: نعلم إنَّك لرسولُ الله مكان قولهم: نشهد إنَّكَ لرسُولُ اللَّهِ، تفيد ما أفاد قولهم: نشهد؟ .
فالجواب: لا؛ لأن قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} صريحٌ في الشَّهادة على إثبات الرسالة، وقولهم: نعلم ليس بصريح في ذلك.
قوله: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} .
قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
ويجوز أن يكون مستأنفاً جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه، أي أنَّ الحامل لهُم على الأيمانِ اتقاؤهم بها عن أنفسهم.
والعامة: على فتح الهمزة، جمع يمين.
والحسن: بكسرها مصدراً.
وتقدم مثله في «المجادلة» ، والجُنَّةُ: التُّرْس ونحوه، وكل ما يقيك سوءاً. ومن كلام الفصحاء: [جُبَّةُ البرد] جُنَّةُ البردِ.
قال أعشى همدان الشاعر: [الطويل]
4772 - إذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لعرضِكَ جُنَّةً ... مِنَ المَالِ سَارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرِ
فصل
قال القرطبي وغيره: اتَّخذُوا أيمانهُم جُنَّةً، أي: سُترةً، وليس يرجع إلى قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} وإنَّما يرجعُ إلى سبب الآيةِ التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال، وقد قال، وقال الضحاك: يعني: حلفهم بالله «إنهم لمنكم» .
وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة «براءة» في قوله:
{يَحْلِفُونَ
بالله
مَا قَالُواْ} [التوبة: 74] .(19/104)
فصل في نص اليمين
قال القرطبي: «من قال: أقسمُ باللَّهِ، وأشهد بالله، أو أعزم بالله، أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت، أو عزمت، أو حلفت، وقال في ذلك كله:» بالله «فلا خلاف أنها يمينٌ، وكذلك عند مالكٍ وأصحابه أن من قال: أقسمُ، أو أشهد، أو أعزم، أو أحلف، ولم يقل» بالله «إذا أراد» بالله «، وإن لم يرد» بالله «فليس بيمين» .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال: أشهد بالله لقد كان كذا كان يميناً، ولو قال: أشهد لقد كان كذا - دون النية - كان يميناً لهذه الآية؛ لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} .
وعند الشافعي: لا يكون ذلك يميناً وإن نوى اليمينَ؛ لأنَّ قوله تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ليس يرجعُ إلى قوله: «قالوا: نَشهدُ» ، وإنما يرجعُ إلى ما في براءة من قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} .
قوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} .
أي: أعرضوا، وهو من الصُّدود، أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حدود الله عليهم من القَتْل، والسبي، وأخذ الأموال، فهو من الصَّدِّ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا أو يقتدي بهم غيرهم.
وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدُّخول في الإسلام بأن يقولوا: ها نحن كافرون بهم، ولو كان ما جاء به محمد حقًّا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالاً، فبيَّن الله أنَّ حالهم لا يخفى عليه، ولكن حكمه أن من أشهر [الإيمان] أجري عليه في الظَّاهر حكم الإيمان.
قوله: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
أي: سيئت أعمالهم الخبيثةُ في نفاقهم، وأيمانهم الكاذبةِ، وصدِّهم عن سبيل الله. و «ساء» يجوز أن تكون الجارية مجرى «بِئْسَ» ، وأن تكون على بابها، والأول أظهر وقد تقدم حكم كل منهما.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل، ولم يقل: إنَّهم ساء ما كانوا يعملون؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب أن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها(19/105)
جُنَّة أي: سُترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا} .
هذا إعلامٌ من الله بأن المنافقين كفار، إذْ أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب.
وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها بالكفر {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} الإيمان ولا الخير.
وقرأ العامَّةُ: «فَطُبِعَ» مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار بعده.
وزيد بن علي: «فَطَبَعَ» مبنياً للفاعل.
وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على الله تعالى، ويدل عليه قراءة الأعمشِ، وقراءته في رواية عنه: «فَطَبَعَ اللَّهُ» مُصرحاً بالجلالة الكريمة.
وكذلك
نقله
القرطبي عن زيد بن علي.
فإن قيل: إذا كان الطَّبْع بفعل الله - تعالى - كان ذلك حجة لهم على الله تعالى فيقولون: إعراضنا عن الحق لغفلتنا بسبب أنه - تعالى - طبع على قلوبنا؟ .
فأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الطبع من الله - تعالى - لسوء أفعالهم، وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وغوايتهم الباطلة.
والثاني: أن الفاعل ضميرٌ يعودُ على المصدر المفهوم مما قبله، أي: فطبع هو أي بلعبهم بالدين.
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} .
أي: هيئاتهم، ومناظرهم، {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني: عبد الله بن أبي وقال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيماً جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان، فإذا قال، سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مقالته، وصفه الله بتمامِ الصُّورةِ وحسن الإبانةِ.
وقال الكلبي: المراد ابن أبي وجدُّ بن قيس ومعتِّب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة.(19/106)
وفي صحيح مسلم: وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} . كانوا رجالاً [أجمل] شيء كأنهم خشبٌ مسنَّدةٌ شبههم بخشب مسندة إلى الحائطِ لا يسمعون ولا يعقلون أشباحٌ بلا أرواحٍ، وأجسامٌ بلا أحلامٍ.
وقيل: شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها.
قال الزمخشري: شبهوا في استنادهم بالخشب المسندة إلى حائط؛ لأنهم أجرام خاليةٌ عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به فأسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان.
فصل في قراءة خشب
قرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي: «خُشْبٌ» بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب، واختيارُ عُبيدٍ.
لأنَّ واحدتها خشبة كما تقول: بدنة وبُدْن. قاله الزمخشري.
وقال أبو البقاء: و «خُشبٌ» - بالإسكان والضم - جمع خَشَب، مثل: أَسَد وأُسْد.
قال القرطبي: وليس في اللغة: «فَعَلَة» يجمع على «فُعُل» ، ويلزم من ثقلها أن تقول: «البُدُن» فتقرأ: «والبُدُنَ» ، وذكر اليزيدي أنه جمع الخشباءِ، كقوله تعالى: {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} [عبس: 30] واحدتها: حديقة غلباء.
وقرأ الباقون من السبعة: بضمتين.
وقرأ سعيد بن جبير، وابن المسيب: بفتحتين.
ونسبها الزمخشري لابن عبَّاس، ولم يذكر غيره.(19/107)
فأما القراءة - بضمتين - فقيل: يجوز أن تكون جمع خشبة، نحو: ثمرة وثُمُر. قاله الزمخشري.
وفيه نظر؛ لأن هذه الصيغة محفوظة في «فَعَلَة» لا ينقاس نحو: ثَمَرَة وثُمُر.
ونقل الفارسي عن الزبيدي: «أنه جمع: خَشْبَاء، وأخْشِبَة» غلط عليه؛ لأنه قد يكون قال: «خُشْب» - بالسكون - جمع «خَشْبَاء» نحو: «حَمْرَاء وحُمْر» لأن «فَعْلاء» الصفة لا تجمع على «فُعُل» بضمتين، بل بضمة وسكون.
وقوله: الزبيدي، تصحيف، إما منه، وإما من الناسخ، إنما هو اليزيدي تلميذ أبي عمرو بن العلاء، ونقل ذلك الزمخشري.
وأما القراءة بضمة وسكون.
فقيل: هي تخفيف الأولى.
وقيل: هي جمع خشباء، كما تقدم.
وهي الخشبة التي نُخِر جوفها، أي: فرغ، شبهوا بها لفراغ بواطنهم مما ينتفع به.
وأما القراءة - بفتحتين - فهو اسم جنس، وأنِّثَتْ صفته، كقوله: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وهو أحد الجائزين.
وقول: «مُسَنَّدَةٌ» .
تنبيه على أنه لا ينتفعُ بها كما ينتفعُ بالخشب في سقفٍ وغيره، أو شبهوا بالأصنام؛ لأنهم كانوا يسندونها إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم.
وقيل: شُبِّهُوا بالخشب المُسنَّدةِ إلى الحائط، لأن الخشبة المسنَّدة إلى الحائط أحدُ طرفيها إلى جهة، والآخرُ إلى جهة أخرى.
والمنافق كذلك لأن أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر، والطرف الآخر وهو الظاهرُ إلى جهة أهلِ الإسلام.
ونقل القرطبي عن سيبويه أنه يقال: «خَشَبةٌ وخِشَابٌ وخُشُبٌ» مثل: ثَمَرة وثِمَار وثُمُر، والإسناد: الإمالة، تقول: أسندتُ الشيء أي: أملته، و «مُسَنَّدةٌ» للتكثير، أي: استندوا إلى الإيمان لحقن دمائهم.(19/108)
قوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} .
فيه وجهان:
أظهرهما: أن «عليهم» هو المفعول الثاني للحسبان، أي واقعة وكائنة عليهم ويكون قوله: {هُمُ العدو} جملة مستأنفة، أخبر الله عنهم بذلك.
والثاني: أن يكون «عليهم» متعلقاً ب «صَيحةٍ» و «هُمُ العَدُوُّ» جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» هُمُ العَدُوُّ «هو المفعولُ الثَّاني كما لو طرحت الضمير.
فإن قلت: فحقه أن يقال: هي العدُوُّ، قلت: منظور فيه إلى الخبر كما في قوله: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 77] ، وأن يقدر مضافٌ محذوفٌ أي: يحسبون كل أهلِ صيحةٍ» انتهى.
وفي الثاني بعد بعيد.
فصل
وصفهم الله تعالى بالجُبْنِ والخَوَر.
قال مقاتل والسدي: إذا نادى مناد في العسكر أن أنفلتت دابة، أو أنشدت ضالّة ظنوا أنهم هم المرادون، لما في قلوبهم من الرعب.
كما قال الأخطل: [الكامل]
4773 - مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلاً تكرُّ عَليْهِمُ ورِجَالا
وقيل: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ} ، أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم؛ لأن للريبة خوفاً، استأنف الله خطاب نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: «هم العَدُوُّ» وهذا معنى قول الضحاك.
وقيل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبداً وجلُون من أن ينزل الله فيهم أمراً يبيح به دماءهم، ويَهْتِكُ به أسْتارهُم، ثم وصفهم الله بقوله {هُمُ العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.(19/109)
قوله: {فاحذرهم} . فيه وجهان:
أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم.
الثاني: فاحذر ممايلتهُم لأعدائك، وتخذيلهم لأصحابك.
{قَاتَلَهُمُ الله} .
قال ابن عباس: أي: لعنهم الله.
قال أبو مالك: هي كلمةُ ذمٍّ وتوبيخ.
وقد تقول العرب: قاتله اللَّه ما أشعرهُ، فيضعونه موضع التعجب.
وقيل: معنى {قَاتَلَهُمُ الله} أي: أحلَّهُم محلَّ من قاتله عدو قاهر، لأن الله تعالى قاهرٌ لكلِّ معاندٍ. حكاه ابن عيسى.
قوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
«أنى» بمعنى: كيف.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون «أنى» ظرفاً ل «قاتلهم» ، كأنه قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا، أو صرفوا، فلا يكون في القولِ استفهام على هذا. انتهى.
قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز؛ لأن «أنَّى» إنما تستعمل بمعنى «كيف» ، أو بمعنى «أين» الشرطية أو الاستفهامية، وعلى التقادير الثلاثة فلا تتمحض للظرف، فلا يعمل فيها ما قبلها ألبتَّة كما لا يعملُ في أسماءِ الشرط والاستفهام.
فصل
قال ابن عباس: «أنَّى يؤفكُونَ» أي: يكذبون.
وقال قتادة: أي يعدلون عن الحق.
وقال الحسن: يُصْرفُونَ عن الرشدِ.
وقيل: معناه كيف تضل عقولهم على هذا مع وضوح الدَّلائل، وهو من الإفك.
قوله: «أنَّى» بمعنى: «كيف» ، وقد تقدم.(19/110)
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} .
هذه المسألة عدها النحاة من الإعمال، وذلك أن «تعالوا» يطلب «رسُولُ اللَّهِ» مجروراً ب «إلى» أي: تعالوا إلى رسول الله.
و «يَستَغْفِرْ» يطلبه فاعلاً، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه، وحذف من الأول، إذ التقديرُ: تَعَالوا إليْهِ. ولو أعمل الأول لقيل: تعالوا إلى رسول الله يستغفر، فيضمر في «يستغفر» فاعل.
ويمكن أن يقال: ليست هذه من الإعمالِ في شيء؛ لأن قوله «تعالوا» أمر بالإقبال من حيث هو، لا بالنظر إلى مقبل عليه.
قوله: {لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} هذا جواب «إذا» .
وقرأ نافع: «لَوَوْا» مخففاً، والباقون مشدداً على التكثير.
و «يَصُدُّونَ» حالٌ؛ لأن الرؤية بصرية، وكذا قوله: «وهُمْ يَسْتَكبرُونَ» حال أيضاً، إما من أصحاب الحال الأولى، وإما من فاعل «يصدون» فتكون متداخلة.
وأتي ب «يَصُدُّون» مضارعاً دلالة على التجدُّدِ والاستمرارِ.
وقرىء: «يَصِدُّونَ» بالكسر.
وقد تقدمتا في «الزخرف» .
فصل في نزول الآية
لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاقِ فتوبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم، فلوو رءوسهم أي: حرَّكُوها استهزاء وإباء.
قاله ابن عباس.
وعنه أنه كان لعبد الله موقف في كل سبب يحُضُّ على طاعة الله، وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عيله وسلم عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال: لا أذهب إليه.(19/111)
قال المفسِّرون: «وسبب نزول هذه الآية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا بني المصطلق على ماء يقال له:» المُريْسِيعُ «من ناحية» قُدَيد «إلى السَّاحل فازدهم أجير لعمر يقال له:» جهجاه بن سعيد الغفاري «يقود له فرسه بحليف لعبد الله بن أبيٍّ، يقال له:» سِنَانُ بنُ وبرة الجهنِيُّ «حليفُ بني عوفٍ من الخزرج على ماء» بالمشلِّل «فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار فلطم جهجاه سناناً وأعان عليه جهجاه فأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له: حقالٌ، وكان فقيراً، فقال عبد الله بن أبي: أوقد فعلوها؟ والله ما مثلنُا ومثلهُم إلاَّ كما قال الأولُ:» سَمِّنْ كلْبَكَ يأكلْكَ «أما - والله - لَئِنْ رَجَعْنَا إلى» المدينة «ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال لقومه: كفوا طعامكُم عن هذا الرجل، لا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله - أنت - والله - الذليلُ المنتقص في قومك، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا أبداً، فقال عبد الله: اسكت إنما كنتُ ألعبُ، فأخبر زيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، قال: فعذره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال زيد بن أرقم: فوجدت في نفسي ولامني الناسُ، فنزلت سورةُ المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله، فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آياتٌ شديدة، فاذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستغفر لك، فألوى رأسه» فنزلت الآيات. خرجه البخاري والترمذي بمعناه.
وقيل: معنى قوله: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ} يستتبكم من النِّفاق، لأن التوبة استغفارٌ {ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} أي يعرضُون عن الرسول {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون عن الإيمان.
قيل: قال ابن أبيّ لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومن فقد آمنت، وأن أعطي الزكاة من مالي فقد أعطيتُ، فما بقي إلا أن أسجدَ لمحمدٍ.
قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} .
قرأ العامَّة: «أسْتَغْفَرْتَ» بهمزةٍ مفتوحةٍ من غير مدٍّ، وهي همزة التسوية التي أصلُها الاستفهامُ.
وقرأ يزيد بن القعقاع: «آسْتغَفرْتَ» بهمزة ثم ألف.
فاختلف الناسُ في تأويلها:(19/112)
فقال الزمخشري: إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيانِ لا قلباً لهمزة الوصل كما في {آلسَّحْرُ} [يونس: 81] و {آللهُ} [يونس: 59] .
يعني إنما أشبع همزة التسوية فتولد منها ألف.
وقصده بذلك إظهار الهمزة وبيانها، إلا أنه قلب الوصل ألفاً كما قلبها في قوله: {آلسحر، آلله أذن لكم} لأنَّ هذه الهمزة للوصل، فهي تسقط في الدرج، وأيضاً فهي مكسورة فلا يلتبس معها الاستفهام بالخبر بخلاف «آلسّحر» ، {آلله أذن لكم} .
وقال آخرون: هي عوض عن همزة الوصلِ، كما في {ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] .
وهذا ليس بشيء؛ لأن هذه مكسُورة فكيف تبدل ألفاً.
وأيضاً فإنما قلبناها هناك ألفاً ولم نحذفها وإن كان حذفها مستحقاً لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، وهنا لا لبس.
وقال ابن عطية: وقرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع: «آسْتغْفَرتَ» بمدَّةٍ على الهمزة وهي ألف التسوية. وقرأ أيضاً: بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي هذا كله ضعف، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام، وهو يريدُها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
قال شهاب الدين: أما قراءته «استغفرت» بوصل الهمزة فرويت أيضاً عن أبي عمرو، إلا أنه يضم ميم «عَليْهِمُ» عند وصله الهمزة لأن أصلها الضم، وأبو عمرو يكسرها على أصل التقاءِ الساكنينِ.
وأما قوله: وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر، فإن أراد بهذا مدَّ هذه الهمزة في هذا المكان فصحيح، بل لا تجده أيضاً، وإن أراد حذف همزة الاستفهامِ، فليس بصحيح؛ لأنه يجوز حذفها إجماعاً قبل «أم» نثراً ونظماً، فأما دون «أم» ففيه خلاف:
والأخفش رَحِمَهُ اللَّهُ يجُوِّزه، ويجعل منه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} [الشعراء: 22] .
وقول الآخر: [الطويل]
4774 -[طَرِبْتُ ومَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ ... ولا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يلعَبُ]
وقول الآخر: [المنسرح]
4775 - أفْرَحُ أنْ أرْزأ الكِرَامَ وأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ(19/113)
وأما قبل «أم» فكثير، كقوله: [الطويل]
4776 - لَعَمْرُكَ مَا أدْرِيَ وإنْ كُنْتَ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة.
فصل في نزول هذه الآية.
قال قتادةُ: «هذه الآية نزلت بعد قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، وذلك أنَّها لما نزلت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أخبرني رب فلأزيدنهم على السبعين «، فأنزل الله تعالى: {فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية» .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد بالفاسِقينَ المُنافقُونَ.
فصل في تفسير الآية
معنى قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} .
أي: كل ذلك سواء لا ينفع استغفارك شيئاً؛ لأن الله تعالى لا يغفر لهم، نظيره: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} [الشعراء: 136] ، {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} .
قال ابن الخطيب: قال قوم: فيه بيان أن الله - تعالى - يملك هداية وراء هداية البيان، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك.
وقيل: معناه لا يهديهم لفسقهم، وقالت المعتزلة: لا يُسمِّيهم المهتدينَ إذا فَسَقُوا وضلُّوا.
فإن قيل: لم ذكر الفاسقين ولم يقل: الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كلاًّ منهم تقدم ذكره؟ .
فالجواب: أن كل واحد منهم دخل تحت الفاسقين.(19/114)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قوله: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} .
قد تقدم سببُ النزول، وأن ابن أبي قال: لا تنفقوا على من عند محمد «حتى ينفضوا» أي يتفرقوا عنه، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن خزائن السماوات والأرض له ينفق كيف يشاء.
قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} .
وقال الحسن: «خزائنُ السماوات» الغُيوبُ، وخزائنُ الأرضِ القلوبُ، فهو علاَّمُ الغيوب ومُقلبُ القُلوبِ.
قوله: {يَنفَضُّواْ} .
قرأ العامَّةُ: «ينفضُّوا» من الانفضاضِ وهو التفرقُ.
وقرأ الفضلُ بن عيسى الرقاشي: «يُنْفِضُوا» من أنفض القوم، فني زادهم.
ويقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضَّ.
فيتعدى دون الهمزة ولا يتعدى معها، فهو من باب «كَبَبتهُ فانْكَبَّ» .
قال الزمخشري: وحقيقته جاز لهم أن ينفضوا مزاودهم.
ثم قال تعالى: {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} أنه إذا أراد أمراً يسره.
قوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} .
القائل ابن أبيّ، كما تقدم.
وقيل: إنه لما قال: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وألبسه قميصه، فنزل قوله: {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} .
وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سَلُولَ قال لأبيه: والله الذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الأعزُّ وأنا الأذلُّ، فقاله.
توهموا أن العزة لكثرةِ الأموال والأتباعِ فبيَّن اللَّهُ - تعالى - أنَّ العزَّة والمنَعَة والقُوَّة لله.(19/115)
قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} .
قرأ العامَّةُ: بضم الياء وكسر الراء مسنداً إلى «الأعزّ» و «الأذلّ» مفعول به، والأعزُّ بعضُ المنافقين على زعمه.
وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة والمسيبي: «لنُخْرجَنَّ» بنون العظمة، وبنصب «الأعزَّ» على المفعول به، ونصب «الأذَلَّ» على الحالِ.
وبه استشهد من جوز تعريفها.
والجمهور جعلوا «أل» مزيدة على حدّ «أرسلها العراك» و «ادخلوا الأول فالأول» .
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون منصوباً على المفعولِ، وناصبه حال محذوفةٌ، أي: مشبهاً الأذلَّ.
وقد خرجه الزمخشري على حذف مضافٍ، أي: خروج الأول أو إخراج الأول.
يعني بحسب القراءتين من «خرج وأخرج» فعلى هذا ينتصب على المصدر لا على الحال.
ونقل الدَّاني عن الحسن أيضاً: «لنخرُجَنَّ» بفتح نون العظمة وضم الراء، ونصب «الأعزَّ» على الاختصاص كقولهم: «نحن العرب أقرى النَّاس للضيفِ» و «الأذلَّ» نصب على الحال أيضاً.
قاله أبو حيان.
وفيه نظر، كيف يخبرون عن أنفسهم أنهم يخرجون في حال الذل مع قولهم: «الأعز» أي: «أخُصُّ الأعزَّ» ويعنون ب «الأعزِّ» أنفسهُم.
وقد حكى هذه القراءة أيضاً أبو حاتم.
وحكى الكسائي والفرَّاء: أن قوماً قرأوا: «ليَخْرُجنَّ» - بفتح الياء وضم الراء - ورفع «الأعزّ» فاعلاً ونصب «الأذل» حالاً.
وهي واضحة.
وقرىء: «ليُخْرجَنَّ» - بضم الياء - مبنيًّا للمفعول، «الأعز» قائم مقام الفاعل «الأذلّ» حال أيضاً.(19/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
فصل في ختم الآية ب «لا يفقهون»
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله: «لا يَفْقَهُونَ» وختم الثَّانية بقوله: «لاَ يَعْلمُونَ» ؟ .
فالجواب: ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فِقهَ يَفْقَهُ، كعلِمَ يَعْلَمُ، أو من فقُهَ يَفقهُ، كعَظُمَ يَعظُمُ، فالأول لحصولِ الفقه بالتكلُّفِ، والثاني لا بالتكلُّفِ، فالأول علاجيٌّ، والثاني مزاجي.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} .
حذَّر المُؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المُنافقُون إذ قالُوا - لأجْلِ الشُّحِّ بأموالهم -: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} .
وقوله: {عَن ذِكْرِ الله} .
أي: عن الحجِّ والزكاة.
وقيل: عن قراءة القرآن.
وقيل: عن إدامة الذكر.
وقال الضحاك: عن الصلواتِ الخمس.
وقال الحسنُ: عن جميعِ الفرائضِ، كأنه قال: عن طاعة الله.
وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} يشتغل بالمالِ والولدِ عن طاعةِ ربهِ {فأولئك هُمُ الخاسرون} .
قوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} .
قال ابن عباس: يُريدُ زكاة الأمْوالِ.(19/117)
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} .
قال القرطبي: «هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزَّكاةِ ولا يجوزُ تأخيرها أصلاً وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها» .
قال ابن الخطيب: وبالجملة فقوله: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} تنبيه على المحافظة على الذِّكرِ قبل المَوْتِ. وقوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} : تنبيه على الشكر كذلك.
قوله: {فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتنيا} .
أي: هلاَّ أخَّرتَنِي.
وقيل: «لا» صلة، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي.
أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً.
روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: «مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلْ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ، فقال رجُلٌ: يا ابْنَ عبَّاسٍ، اتَّق اللَّهِ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ، فقال: سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} إلى قوله {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال: فما يوجبُ الزَّكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعداً، قال: فما يوجبُ الحجَّ؟ قال: الزادُ والراحلةُ» .
قال القرطبيُّ: ذكره الحليمي في كتاب «منهاج الدين» مرفوعاً، فقال: وقال ابن عبَّاس قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ» الحديث.
قال ابنُ العربيِّ: «أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين.
وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ؛ لأننا إن قلنا: الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ، فلا تخرج الآية عليه.
وإن قلنا: الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم(19/118)
يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.
وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه.
والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ «.
قوله: {فَأَصَّدَّقَ} .
نصب على جواب [التمني] في قوله: {لولا أخرتنيا} .
وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير:» فأتَصَدَّقَ «، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد.
قوله:» وأكُنْ «.
قرأ أبو عمرو:» وأكونَ «بنصب الفعل عطفاً على» فأصَّدَّقَ «.
والباقون:» وأكُنْ «مجزوماً، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين.
واختلف عباراتُ الناس في ذلك.
فقال الزمخشري:» عطفاً على محل «فأصَّدَّقَ» كأنَّه قيل: إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ «.
وقال ابن عطية:» عطفاً على الموضع: لأنَّ التقدير: إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي «.
وقال القرطبي:» عطلفٌ على موضع الفاء، لأن قوله: «فأصدق» لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي «أصَّدَّقْ» ، ومثله: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] فيمن جزم.
فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غيرُ هذا، وهو أنه جزمٌ على توهم(19/119)
الشرط الذي يدل عليه التمني، ولا موضع له هنا لأنَّ الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهرُ الشرطُ، كقوله: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] فمن جزم عطفه على موضع {فلا هَادِي لَه} ؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لانجزم «انتهى.
وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين.
ونظَّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين: [الطويل]
4777 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا
فخفض» ولا سابقٍ «عطفاً على» مدركٍ «الذي هو خبرُ» ليس «على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدةِ، وهو عكسُ الآية الكريمة؛ لأنه في الآيةِ جزم على توهُّم سقوطِ الفاءِ، وهنا خفض على توهُّم وجود الباء، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك.
قال شهاب الدين:» ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملاً في القرآن الكريم، فلا يقال: جزم على التوهم لقبحه لفظاً «.
وقال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان» أكن «بغير واو.
وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال:» الفرقُ بينهما أنَّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ، وأثره مفقودٌ، والعامل في العطفِ على التوهم مفقود، وأثره موجود «. انتهى.
قال شهاب الدين:» مثال الأول «هذا ضارب زيد وعمراً» فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو «ضارب» موجود، وأثره وهو النصب مفقود، ومثال الثاني ما نحن فيه، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود، وأصرحُ منه بيتُ زهيرٍ، فإن الباء مفقودةٌ وأثرُها موجود، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة، ومن ذلك أيضاً بيت امرىء القيس: [الطويل]
4778 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفِ شِواءٍ أو قَدِيدٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه من العطف على التوهُّم، وذلك أنه توهّم أنه أضاف «منضج» إلى «صفيف» وهو لو أضافه إليه فجره فعطف «قديدٍ» على «ضعيفٍ» بالجر توهماً لجرّه بالإضافة «.(19/120)
وقرأ عبيد بن عمير:» وأكُونُ «برفع الفعل على الاستئناف، أي:» وأنَا أكُونُ «، وهذا عدةٌ منه بالصلاح.
فصل فيما تدل عليه الآية
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذه الآية تدل على أن القوم لم يكونوا من أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند اللَّه خير في الآخرة.
قال القرطبي:» إلا الشَّهيد فإنه يتمنّى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة «.
وقال الضحاك: لم ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا طلب الرجعة وقرأ هذه الآية {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير وشرّ.
قرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي: بالياء من تحت على الخبر على من مات، وقال هذه المقالة.
والباقون: بالخطاب، وهما واضحتان.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ قَرَأ سُورةَ المُنافقينَ بَرِىءَ مِنَ النِّفَاقِ «والله أعلم.(19/121)
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين.
وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مدنية ومكية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سورة " التغابن " نزلت ب " مكة " إلا آيات من آخرها نزلت ب " المدينة " في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جفاء أهله وولده، فأنزل الله - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم} [التغابن: 14] إلى آخرها.
وهي ثماني عشرة آية ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفا.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن ". بسم الله الرحمن الرحيم(19/122)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} . تقدم نظيره.
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين، وهذه السورة للموافقين الصادقين، وأيضاً فإن تلك السورة مشتملة على ذكر النفاق سرًّا وعلانية، وهذه السورة مشتملة على التهديد البالغ لهم عن ذلك، وهو قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ، وأما تعلق هذه السورة بآخر التي قبلها فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما تقدم، وفي أول هذه السورة أشارة إلى أن في الناس أقواماً يواظبون على الذِّكر والشكر دائماً وهم الذين يُسَبِّحُون، كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} .
قوله: {لَهُ الملك} .
مبتدأ وخبر، وقدم الخبر ليفيد اختصاص الملك والحمد لله تعالى، إذ الملك والحمد له - تعالى - حقيقة {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً.
وروى أبو سعيد الخدري قال: «خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشية فذكر شيئاً مما يكون، فقال:» يُولَدُ النَّاسُ على طَبقاتٍ شَتَّى: يُولَدُ الرَّجُلُ مؤمِناً ويَعيشُ مُؤمِناً ويمُوتُ مُؤمِناً ويُولَدُ الرَّجُلُ كَافِراً ويعيشُ كَافِراً ويمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجُلُ مُؤِمناً ويَعِيشُ مُؤمِناً ويَمُوتُ كَافِراً، ويُولَدُ الرَّجلُ كَافِراً ويَعيشُ كَافِراً ويَمُوتُ مُؤمِناً «» .
وقال ابن مسعود: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَلَق اللَّهُ فِرْعونَ في بَطْنِ أمِّهِ كَافِراً، وخلق يَحْيَى بْنَ زكريَّا في بَطْنِ أمِّهِ مُؤمِناً» .(19/123)
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: «وإنَّ أحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ أو باعٌ فيَسبقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَملِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وإن كان أحَدُكُمْ ليَعْمَلُ بِعَملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى ما يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ فَيَسْبِقُ عليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمِل أهْلِ الجنَّةِ فَيدخُلُهَا» .
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الرَّجُلَ ليَعملُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ وهُوَ من أهْلِ الجَنَّةِ» .
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه.
قاله الحسن.
وقال غيره: لا حذف فيه؛ لأن المقصود ذكر الطرفين.
وقيل: إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير: «هُو الَّذي خَلقُكُمْ» ، ثم وصفهم فقال: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} كقوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] الآية، قالوا: فالله خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} ، واحتجوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ فأبواهُ يَهوِّدانهِ ويُنصِّرانهِ ويُمْجِّسانِهِ» .
قال البغوي: وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الغلامَ الذي قَتلهُ الخضِرُ طُبعَ كافراً» .
وقال تعالى: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] .
وروى أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وكل اللَّهُ بالرَّحمِ مَلكاً، فيقُولُ: أي: ربِّ نُطفَةٌ،(19/124)
أي ربِّ علقَةٌ، أي: ربِّ مُضغَةٌ، فإذا أرَادَ اللَّهُ أن يقْضِيَ خَلْقَهَا، قال: ربِّ أذكرٌ أم أنْثَى؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فما الرِّزْقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ ذلِكَ في بَطْنِ أمِّهِ» .
وقال الضحَّاك: فمنكم كافر في السِّر، مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر، كافر في العلانية كعمّار وذويه.
وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب يعني في شأن الأنْوَاء، كما جاء في الحديث.
قال القرطبي: وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال -: والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر، وكُفره فعل له وكسبٌ، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكَسْب، مع أنَّ الله خالق الإيمان، والكافر يكفر، ويختار الكفر بعد خلق اللَّه تعالى إياه؛ لأن اللَّه - تعالى - قدّر ذلك عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان باللَّه تعالى، وفي هذا سلامة من الجَبْر والقدر. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة.
وقيل: فمنكم كافر بأن الله خلقه، وهو مذهب الدَّهْرية، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنه - تعالى - حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا [خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، فأي حكمة دعته إلى خلقهم؟] .
فالجواب إذا علمنا أنه تعالى حكيم، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة.
قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} .
أي: خلقها يقيناً لا ريب فيه.
وقيل: الباء بمعنى اللام، أي: خلقها للحق، وهو أن يجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.(19/125)
قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} .
قرأ العامة: بضم صاد «صُوركم» ، وهو القياس في فعله.
وقرأ زيد بن علي والأعمش، وأبو رزين: بكسرها، وليس بقياس وهو عكس لُحَى - بالضم - والقياس «لِحى» بالكسر.
فصل
معنى «وَصَوَّركُمْ» يعني آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خلقه بيده كرامة له. قاله مقاتل.
وقيل: جميع الخلائق، وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل.
فإن قيل: كيف أحسن صوركم؟ .
قيل: بأن جعلهم أحسن الحيوان كلِّه وأبهاه صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصُّور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب كما قال - عزَّ وجلَّ -: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] كما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الخِلقة سمج الصورة؟ .
فالجواب: لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في خير الحسن غير خارج عن حده. قوله {وَإِلَيْهِ المصير} . أي: المرجع، فيجازي كلاًّ بعمله.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ المصير} يوهم الانتقال من جانب إلى جانب، وذلك على الله تعالى مُحال؟ .
فالجواب: أن ذلك الوهْمَ بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفسه بمعزل عن حقيقة الانتقال إذا كان المنتقل منزهاً عن الجانب والجهة.
قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} . تقدم نظيره.
قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - نبَّه بعلمه ما في السماوات وما في الأرض، ثم(19/126)
بعلمه ما يسرونه وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ألبتة.
ونظيره قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] .
وقرأ العامّة: بتاء الخطاب في الحرفين.
وروي عن أبي عمرو وعاصم: بياء الغيبة، فيحتمل الالتفات وتحمل الإخبار عن الغائبين.
{والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فهو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء.(19/127)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} .
الخطاب لقريش، أي: ألم يأتكم خبر كُفَّار الأمم السالفة {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي: عوقبوا {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مُؤلم.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ}
الهاء للشأن والحديث، و {كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم} : خبرها، ومعنى الإشارة أي: هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم بالبينات، أي: بالدلائل الواضحة.
قوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} .
يجوز أن يرتفع «بشر» على الفاعلية، ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح، لأن الأداة تطلب الفعل، وأن يكون مبتدأ وخبراً.
وجمع الضمير في «يَهْدُونَنَا» إذ البشر اسم جنس.
أنكروا أن يكون الرسول من البشر.(19/127)
وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع، فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] .
قوله: «فَكَفَرُوا» أي: بهذا القول إذ قالوه استصغاراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده.
فصل
فإن قيل: قوله «فَكَفَرُوا» يفهم منه التولي، فما الحاجة إلى ذكره؟ فالجواب: قال ابن الخطيب: إنهم كفروا وقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي، فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدلّ على التولي، فلهذا قال: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} .
وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
قوله: {واستغنى الله} استغنى بمعنى المجرد.
وقال الزمخشري: «ظَهَر غناه» ، فالسين ليست للطلب.
قال مقاتل: استغنى الله، أي: بسلطانه عن طاعة عباده.
وقيل: استغنى الله، أي: بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد، وتعود إلى الهداية {والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} غنيٌّ عن خلقه حميد في أفعاله.
فإن قيل: قوله: {وَتَوَلَّواْ واستغنى الله} يوهم وجود التولّى والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنيًّا؟ .
فأجاب الزمخشري: بأن معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
ثم أخبر عن إنكارهم للبعث فقال - عَزَّ وَجَلَّ -:
{زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} أي: ظنوا، والزعم هو القول بالظن.
وقال الزمخشري: الزعم ادِّعاء العلم، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «زَعَمُوا مطيَّة الكَذِب» .(19/128)
وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكاذب زعموا.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب كما تقدم في آخر سورة «مريم» ثم عمّت كل كافر.
قوله: {أَن لَّن يُبْعَثُواْ} .
«أن» مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله، و «أن» وما في خبرها سادة مسدَّ المفعولين للزعم أو المفعول.
قوله: «بَلَى» إيجاب للنفي، و «لتُبْعثُنَّ» جواب قسم مقدر، أي: لتخرجن من قبوركم أحياء، «ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ» لتخبرن «بِمَا عَمِلْتُمْ» أي: بأعمالكم، {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا الرسالة؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب: أنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار عنده أظهر من الشمس في اعتقاده ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم.
ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان، قال: {فآمنوا بالله ورسوله} وهذا يجوز أن يكون صلة لما تقدم؛ لأنه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم بالله، وتكذيبهم للرسل فقال «فآمِنُوا» أنتم «باللَّه ورسُولِهِ» لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة.
وقال القرطبي: قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة {والنور الذي أنزلنا} وهو القرآن لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل: هلا قيل: ونوره بالإضافة كما قال: ورسوله؟ .
فالجواب: إن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة، فكأنه قال: ورسوله ونوره، ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: بما تسرّون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} . منصوب بقوله: «لتُنبَّؤنَّ» عند النحاس، وب «خَبِير» عند(19/129)
الحوفي، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم.
وب «اذكر» مضمراً عند الزمخشري، فيكون مفعولاً به.
أو بما دلّ عليه الكلام، أي يتفاوتون يوم يجمعكم. قاله أبو البقاء.
وقرأ العامَّة: «يَجْمعُكُمْ» بفتح الياء وضم العين.
ورُوِي سكونُها وإشمامها عن أبي عمرو، وهذا منقول عنه في الراء نحو «ينصركُمْ» وبابه كما تقدم في البقرة.
وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري: «نَجْمعُكُمْ» بنون العظمة، اعتباراً بقوله: {والنور الذي أَنزَلْنَا} . والمراد ب «يَوْمَ الجَمْعِ» أي: يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله.
وقيل: يجمع فيه بين الظالم والمظلوم.
وقيل: يجمع فيه بين كل نبي وأمته.
وقيل: يجمع فيه ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي.
قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} .
«التَّغَابُن» تفاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة، وهو أخذ الشيء بدون قيمته.
وقيل: الغبن: الإخفاء، ومنه غبن البيع لاستخفائه، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين.
ويقال: غبنت الثوب وخبنته، أي: أخذت ما طال منه من مقدارك: فهو نقص وإخفاء.
وفي التفسير: هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره، فيعمل فيه بطاعة الله، فيدخل الأول النار، والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغَبْن البَيِّن والمغابن: ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين.(19/130)
والمغبون: من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يؤمئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام.
قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه.
فإن قيل: فأيُّ معاملة وقعت بينهما حى يقع الغبن فيها؟ .
فالجواب: هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً، وقد فرق الله الخلق فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً في السعير.
وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف:
رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث في بطاعة ربه، ورجل كان له عبد، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي.
وروى القرطبي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا: قُولا مَا أنتما بِقَائِلين، فيقُولُ الرَّجُلُ: يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ: يا ربِّ، وما عَسَى أَن أقُولَ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً، فيقُولُ اللَّهُ تعالى: قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة، فتقُولُ لَهُ: غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ» .
فصل
استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} ،(19/131)
وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون، واحتجوا عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لحبان بن منقد: «إذا بِعْتَ فَقُل: لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً» .
ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً؛ لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث، وهذا الحد اعتبر الشارع في الوصية وغيرها.
ويكون معنى الآية على هذا: يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً.
قال بعض علماء الصُّوفية: إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ» .
قوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ} .
قرأ نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.
قوله: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} يعني القرآن {أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير} .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: قال الله تعالى في حق المؤمنين: {وَمَن يُؤْمِن بالله} بلفظ المستقبل، وفي حق الكُفَّار قال: «والذين كفروا» بلفظ الماضي؟ .
فالجواب: أن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ندخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل: قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن} بلفظ الواحد و «خَالدِينَ» بلفظ الجمع؟ .
فالجواب: ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى.(19/132)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وَبِئْسَ المصير} بعد قوله: {خَالِدِينَ فِيهَآ} وذلك بئس المصير؟ .
والجواب: أن ذلك وإن كان في معناه فلا بد من التصريح [بما] يؤكده.
فصل(19/133)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكفار فقال:
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: بإرادته وقضائه.
وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله.
وقيل: إلا بعلم الله.
وقيل: سبب نزول هذه الآية: أنَّ الكُفَّار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقًّا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا فبيّن الرب تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً فبعلم الله وقضائه.
فإن قيل: بم يتصل قوله: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ؟ .
فالجواب: يتعلق بقوله: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [التغابن: 8] كما أن من يؤمن بالله يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.
قوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله} يصدق ويعلم أنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله {يَهْدِ قَلْبَهُ} للصبر والرضا.
وقيل: يثبته على الإيمان.
وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة.
وقيل: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . قال ابن جبير.
وقال ابن عباس: هو أن يجعل في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.(19/133)
وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر وإذا أنْعِمَ عليه شكر وإذا ظلم غفر.
وقيل: {يَهْدِ قَلْبَهُ} إلى نَيْل الثَّواب في الجنَّة.
قوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} .
قراءة العامة: بالياء مجزوماً جواباً للشرط لتقدم ذكر الله.
وابن جبير وابن هرمز طلحة والأزرق: بالنون على التعظيم.
والضحاك وأبو حفص وأبو عبد الرحمن وقتادة: «يُهْدَ» مبنياً للمفعول «قَلْبُهُ» قائم مقام الفاعل.
ومالك بن دينارٍ، وعمرو بن دينار، وعكرمة: «يَهْدَأ» بهمزة ساكنة «قلبه» فاعل به، بمعنى يطمئن ويسكن.
وعمرو بن فائد: «يَهْدَا» بألف مبدلة من الهمزة كالتي قبلها، ولم يحذفها نظراً إلى الأصل، وهي أفصح اللغتين.
وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً: «يَهْدَ» بحذف هذه الألف إجراء لها مُجرى الألف الأصلية، كقول زهير: [الطويل]
4779 - جَرِيءٌ مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقِبْ بظُلْمِهِ ... سريعاً، وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
وقد تقدم إعراب ما قبل هذه الآية وما بعدها.
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . لا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، ولا كراهة من كرهه.
قوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} . أي: هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته {فَإِن تَولَّيْتُمْ} عن الطاعة فليس على الرسول إلا البلاغ المبين.
قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} . أي: لا معبود سواه، ولا خالق غيره.
قال ابن الخطيب: «قوله {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} يحتمل أن يكون من جملة ما تقدم من الأوصاف الجميلة بحضرة الله تعالى من قوله: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ(19/134)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قَدِيرٌ} [التغابن: 1] ، فإن من كان موصوفاً بهذه الأوصاف هو الذي لا إله إلا هو» .
قوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
قال الزمخشري: هذا بعث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} .
قال ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جفاء أهله وولده، فنزلت، ذكره النحاس.
وحكاه الطَّبريّ عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التَّغابن كلها ب «مكة» إلا هؤلاء الآيات: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا فيَرقّ فيقيم فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
روى الترمذي عن ابن عباس، وسئل عن هذه الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإذا الناس قد تفقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
حديث حسن صحيح.
فصل
قال ابن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته، وإنما كان(19/135)
عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ فِي طريقِ الإيمانِ، فقَال لَهُ: أتُؤمِنُ وتَذَرُ دينكَ ودينَ أهْلكَ ومالكَ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أهلك فَخالفَهُ وهاجَرَ، ثُمَّ قَعدَ لَهُ على طريقِ الجهادِ، فقَالَ لَهُ: أتُجَاهدُ فتَقْتُلَ نَفْسَك فتنُكَحَ نِسَاؤكَ ويُقسَّم مالك فخَالفَهُ فَجَاهَدَ فقُتِلَ فحقٌّ على اللَّهِ أن يُدْخِله الجَنَّة» .
وقعود الشَّيطان يكون بوجهين:
أحدهما: أن يكون بالوسوسة.
والثاني: أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، فقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] ، وفي حكمة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عبدُ الدِّرهَمِ، تعِسَ عبْدُ الخَميصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَة» ، ولا دَنَاءَةَ أعْظَمُ مِنْ عبادَة الدِّينار والدِّرهم، ولا همَّة أخسُّ من همَّة تَرْتَفِعُ بثَوبٍ جَديدٍ.
واعلم أن قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يدخل فيه الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوّاً له، كذلك المرأة يكون زوجها عدوّاً لها بهذا المعنى.
قوله: {فاحذروهم} . أي: فاحذروهم على أنفسكم، والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدنِ، أو لضررٍ في الدين، وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة، فحذر الله تعالى العبد من ذلك.
قال ابن الخطيب: وقيل: أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جملة ما تقع به الفتنة، وهذا عام يعم جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره.
قوله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(19/136)
روى الطَّبري عن عكرمة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} . قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول أهله: أين تذهب وتدعنا؟ .
قال: فإذا أسلم وفَقُهَ قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. قال: فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وقال مجاهد في هذه الآية: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم لهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم.
والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
قوله: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} .
أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله.
وفي الحديث: «يُؤتى بِرَجُلٍ يوم القِيامَةِ، فيُقال: أكَلَ عياله حَسَنَاته» .
وقال بعض السلف: العيال سوس الطاعات.
وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم، اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنةٍ، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مُضلاّت الفتن.
وقال الحسنُ في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} ، أدخل «من» للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر من في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} ؛ لأنهما لا يخلوان من الفتنة، واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب، فجاء الحسن والحُسَين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله - عَزَّ وَجَلَّ -:(19/137)
{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرتُ إلى هذينِ الصَّبيَّين يمشيان ويعثُرانِ فلمْ أصْبِرْ حتَّى قطعتُ حديثي ورَفعتُهُمَا ثُمَّ أخَذَا في خُطْبَتِهِ» .
{والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . يعني: الجنة، فلا أعظم أجراً منها.
قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} .
قال قتادة، والربيع بن أنس، والسُّدي، وابن زيد: هذه الآية ناسخة لقوله {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] .
ذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال: جاء أمر شديد، قال: ومن يعرف هذا ويبلغه، فلما عرف الله أنه اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} .
وقال ابن عباس: هي محكمة لا نسخ فيها، ولكن حق تقاته أن تجاهد لله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة، فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص، ولا مشروط بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ .
فالجواب: أن قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} معناه فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله - تعالى - قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها، لقوله تعالى: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] إلى قوله: {فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99] ، فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً بالإقامة في دار(19/138)
الشرك، فكذلك معنى قوله: {مَا استطعتم} في الهجرة من دار الشِّرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم.
ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} عقيب قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} ، ولا خلاف بين علماء التأويل أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كانوا تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير: قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} فيما تطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرَّحت جباهُهُمْ، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: {فاتقوا الله مَا استطعتم} فنسخت الأولى.
قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النَّقْل، لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله: {واسمعوا وَأَطِيعُواْ} .
أي: اسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا ما تؤمرون به، وتنهون عنه.
وقال مقاتل: «اسْمَعُوا» أي: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وهو الأصل في السَّماع «وأطِيعُوا» الرسول فيما يأمركم أو ينهاكم.
وقيل: معنى «واسْمَعُوا» أي: اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته.
قوله: {وَأَنْفِقُواْ} .
قال ابن عباس: هي الزكاة.
وقيل: هي النفقة في النفل.
وقال الضحاك: هي النفقة في الجهاد.
وقال الحسن: هي نفقة الرجل لنفسه.
وقال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا، قوله: «لأنفُسِكُمْ» وخفي عليه قوله: إن نفقة الفرض والنَّفْل في الصَّدقة على نفسه، قال الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}
[الإسراء: 7] . فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أنها عامة.(19/139)
قوله: {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} .
في نصبه أوجه:
أحدها: قال سيبويه: إنه مفعول بفعل مقدر، دلَّ عليه «وأنفقوا» ، تقديره: ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم وقدموا لأنفسكم كقوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] .
الثاني: تقديره: يكن الإنفاق خيراً، فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً.
الرابع: أنه حال، وهو قول الكوفيين.
الخامس: أنه مفعول بقوله «أنفِقُوا» ، أي: أنفقوا مالاً خيراً.
قوله: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} .
تقدم نظيره.
وكذا {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} .
تقدم في سورة البقرة والحديد.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} .
تقدم معنى الشكر في «البقرة» . والحليم: الذي لا يعجل.
قال بعضهم القَرْض الحسن: هو التصدق من الحلال.
وقيل: التصدق بطيب النفس، والقرض هو الذي يرجى بدله.
قوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} .
أي: ما غاب وحضر، «وهُوَ العَزيزُ» الغالب القاهر، فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} [الزمر: 1] أي: من الله القاهر المُحْكم خالق الأشياء.
وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: «عَزَّ يَعِزُّ» - بكسر العين - فيكون معنى العَزِيز على هذا أنه لا يعادله شيء وأنه لا مثل له «الحَكِيمُ» في تدبير خلقه.
وقال ابن الأنباري: «الحَكِيمُ» هو المُحْكِم الخلق للأشياء، صرف عن «مفعل» إلى «فعيل» ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 1، 2] .(19/140)
فصرف عن «مفعل» إلى «فعيل» والله أعلم.
روى الثعلبي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ مولُودٍ يُولَدُ إلاَّ وهو على الفطرة فِي تَشَابِيكِ رَأسِهِ مَكتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ من فَاتحةِ سُورةِ التَّغَابنِ» .
وعن زرّ بن حبيش قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن قَرَأ سُورَةَ التَّغَابُنِ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْتَ الفُجَاءَةِ» والله أعلم.(19/141)
سورة الطلاق(19/142)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
مدنية، وهي إحدى عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} .
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} [التغابن: 18] ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء، والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات.
فصل في هذا الخطاب.
وهذا الخطاب فيه أوجه:
أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له؛ كقوله: [الطويل]
4780 - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ ... وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً
الثاني: أنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه، كقوله: [الطويل]
4781 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا ... ... ... ... ... ... .(19/142)
أي: ويدها.
كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبرد.
الثالث: أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
الرابع: أنه على إضمار قول، أي: يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء.
قال القرطبي: قيل: إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب، وذلك لغة فصيحة، كقوله: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، والتقدير: يا أيها النبي قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وهذا هو قولهم: إن الخطاب له وحده، والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: {يا أيها النبي} ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال: {يا أيها الرسول} .
قال القرطبي: ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.
روى أبو داود: أنها طُلِّقت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن للمطلَّقة عدّة، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق.
الخامس: قال الزمخشري: «خصّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنداء وعمّ بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه» في كلامٍ حسنٍ.
وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم.
قال القرطبي: وقيل: المراد به نداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً له، ثم ابتدأ: {إذا طلّقتم النساء} ، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة: 90] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم، ثم افتتح فقال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة: 90] الآية.
وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} أي: إذا أردتم، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] . وتقدم تحقيقه.(19/143)
فصل في طلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلّق حفصة ثم راجعها.
وعن أنس قال: طلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأتَتْ أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وقيل له: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره القشيري والماوردي والثعلبي.
زاد القُشيريّ: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} .
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة، فنزلت الآية.
وقال السُّديُّ: نزلت في عبد الله بن عمر، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء.
وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم.
قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ.
فصل في الطلاق
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ» .(19/144)
وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا، فإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْه العَرْشُ» .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات» .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ» أسنده الثعلبي.
وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ: أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ: أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ» .
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه» .
قال ابن المنذر: واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق: فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس.
قال حماد الكوفي: والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.(19/145)
فصل في وجوه الطلاق
روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال، فأن يطلقها [طاهراً] من غير جماع، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ.
واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي» .
وطلاق السُّنة: أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء.
وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها، أو الصغيرة التي لم تحض، والآيسة بعدما جامعها، أو طلق الحامل بعد ما جامعها، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً» .
والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره.
قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} .
قال الزمخشري: «مستقبلات لعدتهن» ، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم أي: مستقبلاً لها، وفي قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {من قبل عدتهن} انتهى.
وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا.
وقال: «الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق» .
وفي مناقشته نظر، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام.
وقال أبو البقاء: «لعدَّتهنَّ» أي: عندما يعتد لهن به، وهن في قبل الطهر. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.(19/146)
وقال أبو حيان: «هو على حذف مضاف، أي: لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت، نحو: لقيته لليلة بقيت من شهر كذا» انتهى.
فعلى هذا تتعلق اللام ب «طلقوهن» .
وقال الجرجاني: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} صفة للطَّلاق.
كيف يكون، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة؟
للإضافة، وهي أصلها، أو لبيان السبب والعلة، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] .
أو بمعنى «عند» كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي: عنده.
وبمنزلة «في» كقوله تعالى: {أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} [الحشر: 2] ، أي: في أول الحشر.
وهي في هذه الآية بهذا المعنى، لأن المعنى: فطلقوهن في عدتهن، أي: في الزمان الذي يصلح لعدتهن.
فصل في قوله: لعدتهن
قال القرطبي: قوله: «لعدَّتِهِنَّ» يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه، وفي الطهر مأذون فيه، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر.
فإن قيل: معنى قوله: «فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ» أي: في قُبُل عدتهن، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال ابن عمر، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض؟ .
قيل: هذا هو الدليل الواضح لمن قال: بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار، ولو كان كما قال الحنفي، ومن تابعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل(19/147)
انقضاء النهار ثُمَّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء، ولأن بعض القرء يسمى قرءاً، كقوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة، وكقوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني.
وقال البغوي: معنى قوله «لِعدَّتهِنَّ» أي: لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن: {فطلقوهن في قبل عدتهن} ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر.
فصل في الطلاق في الحيض
من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه، وأخطأ السُّنة.
وقال سعيد بن المسيب في آخرين: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
فصل في طلاق السنة
قال عبد الله بن مسعود: طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك، فتلك العدّة التي أمر الله بها.
قال القرطبي: قال علماؤنا: طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض طاهراً، لم يمسّها في ذلك الطُّهر، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو. وقال الشافعي: طلاق السُّنة: أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة.
قال ابن العربي: «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح، فإنه قال فيه:» مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا «وهذا يدفع الثلاث» .
وفي الحديث أنه قال: «» أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً «؟ قَال:» حَرُمَتْ عليْكَ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ «» .
وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء.
وهو(19/148)
مذهب الشافعي. لولا قوله بعد ذلك: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية، وبذلك قال أكثر العلماء.
قال القرطبي: وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية، ولكن الحديث فسرها، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر.
واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه.
وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فأبانها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاب ذلك عليه.
وبحديث عويمر العجلاني، لما لاعن، قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاثة، فلم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل في نزول العدة للطلاق
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، أنها طلقت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.
قوله: {وَأَحْصُواْ العدة} .
يعني في المدخول بها، أي: احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق.
قيل: أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً، وقيل: للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعة أمر النفقة والسكن.
وفي المخاطب الإحصاء أقوال.
أحدها: أنهم الأزواج.
والثاني: هم الزوجات.
والثالث: هم المسلمون.
قال ابن العربي: والصحيح أنهم الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من «طَلَّقتُمْ» ، و «أحْصُوا العِدَّة» و «لا تُخْرجُوهُنَّ» على نظام واحد، فرجع إلى الأزواج، ولكن(19/149)
الزوجات داخلة فيه بالإلحاق، لأن الزوج يُحْصِي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج، وليلحق نسبه أو يقطع، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفَتْوَى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة.
قوله: {واتقوا الله رَبَّكُمْ} . أي: لا تعصوه.
{لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ} . أي: ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثِمَتْ، ولا تنقطع العدّة.
فإن قيل: ما الحِكمةُ في قوله تعالى: {واتقوا الله رَبَّكُمْ} ولم يقتصر على قوله {واتقوا الله} ؟ .
فالجواب: إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية.
فصل في الرجعية والمبتوتة.
والرجعية والمبتوتة في هذا سواء، وذلك لصيانة ماء الرجل، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله تعالى: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 24] ، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك، وقوله {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ} يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج، وقوله: {ولا يخرجن} يقتضي أنه حق على الزوجات، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً، فلها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً؛ فإن رجالاً استشهدوا ب «أحد» ، فقالت نساؤهم: نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها.
وأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها.
وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.(19/150)
وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً. وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس «لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة: والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرت له قولهما، فقال: لا نفقة لك» ، وفي رواية: «ولاَ سَكَنَ» ، فاستأذنت في الانتقال، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسامة بن زيد، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته، فقال مروان: لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصْمَةِ التي وجدنا النَّاس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} ، قالت: هذا لما كانت له رجعة، لقوله: {لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً} ، فأي أمر يحدث بعد الثَّلاث؟ فكيف تقولون: «لا نَفقَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ حامِلاً، فعلام تَحبسُونهَا» لفظ مسلم.
فبين أن الآية في تحريم الإخراج، والخروج إنما هو في الرجعية.
فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت.
وأما البائن فليس له شيء في ذلك، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة.
قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} .
قال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، والشعبي، ومجاهد: هو الزِّنا، فتخرج ويقام عليها الحد.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن تنتقل.(19/151)
وفي كتاب أبي داود، قال سعيد: تلك امرأة فتنت النَّاس، إنها كانت لسنةً فوضعت على يدي أم مكتوم الأعمى.
قال عكرمة: في مصحف أبيٍّ {إلا أن يفحشن عليْكم} .
ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتَّقي الله، فإنك تعلمين لم أخرجت.
وعن ابن عبَّاس أيضاً: أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري.
وعن ابن عباس أيضاً والسدي: «الفاحشة خروجها من بيتها في العدة» .
وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق، أي: لو خرجت كانت عاصية.
وقال قتادة: «الفاحشة» النشوز، وذلك أن يطلقها على النُّشوز، فتتحول عن بيته.
وقال ابن العربي: أما من قال: إنه الخروج للزنا، فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال: إنه البذاء، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال: إنه كل معصية فوهم، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج، وأما من قال: إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً.
قوله: {مُّبَيِّنَةٍ} .
قرىء: بكسر الياء.
ومعناه: أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة.
وقرىء: بفتح الياء المشددة.
والمعنى: أنها مبرهنة بالبراهين، ومبينة بالحُجَجِ.
قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} .(19/152)
أي: هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك.
قوله: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} .
الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً.
وقال مقاتل: «بعد ذلك» أي بعد طلقة أو طلقتين «أمراً» أي: المراجعة من غير خلاف.
قوله: {لَعَلَّ الله} .
هذه الجملة مستأنفة، لا تعلُّق لها بما قبلها، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات.
وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن، وقرر ذلك في قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} [الأنبياء: 111] .
فهناك يطلب تحريره.(19/153)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} .
قرأ العامة: «أجَلَهُنَّ» ؛ لأن الأجل من حيثُ هو واحد، وإن اختلفت أنواعه بالنسبة إلى المعتدات.
والضحاك وابن سيرين: «آجَالهُنّ» جمع تكسير.(19/153)
اعتباراً بأن أجل هذه غير أجل تلك.
فصل في معنى الآية
معنى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن انقضاء العدة، كقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 131] أي: قربن من انقضاء الأجل {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني المراجعة بالمعروف أي: بالرغبة من غير قصد المضارة في المراجعة تطويلاً لعدتها كما تقدم في البقرة {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: اتركوهن حتَّى تنقضي عدّتهن، فيملكن أنفسهن.
وفي قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء عدتها إذا ادعت ذلك على ما تقدم في «البقرة» عند قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] الآية.
فصل
قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] أن الزوج له حق في بدنه وذمته، فكل من له دَيْن في ذمة غيره سواء كان مالاً، أو منفعة من ثمنٍ، أو مثمن، أو أجرة، أو منفعة، أو صداق، أو نفقة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] .
وكذلك الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمطلوب يؤدى بإحسان.
قوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} .
أمر بالإشهاد على الطلاق، وقيل على الرجعة.
قال القرطبي: «والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق، فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان.
وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقه جميعاً وهذا الإشهاد مندُوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وعند الشَّافعي واجبٌ في الرَّجعة مندوب إليه في الفرقة، وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألاَّ(19/154)
يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي بثبوت الزوجية فيرث» .
فصل في الإشهاد على الرجعية
الإشهاد على الرجعية ندب عند الجمهور، وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرَّجعة، فليس بمراجع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة، فهو رجعة وكذلك النظر إلى الفَرْج رجعة.
وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة، فهي رجعة.
وقيل: وطؤه مراجعة على كُلِّ حال، نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية.
قال القرطبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وكان مالك يقول: إذا وطىء ولم ينو الرجعة، فهو وَطْء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائهِ الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له رجعة في هذا الاستبراء.
فصل فيمن أوجب الإشهاد في الرجعة
أوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إنَّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وخصوصاً حل الظهار بالكفارة.
فصل
إذا ادّعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز، وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينةً أنه ارتجعها في العدة، ولم تعلم بذلك لم يضرّه جهلها، وكانت زوجته وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها، ثم أقام الأول البيّنة على رجعتها، فعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك روايتان:
إحداهما: أن الأول أحق بها.
والأخرى: أن الثاني أحق بها، فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.
قوله: {ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} .
قال الحسنُ: من المسلمين.(19/155)
وعن قتادة: من أحراركم، وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث؛ لأن «ذَوَيْ» للمذكر.
قال القرطبي: «ولذلك قال علماؤنا: ولا مدخل للنساء فيما عدا الأموال» .
قوله: {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} كما تقدم في «البقرة» .
أي: تقرباً إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير.
قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} أي: يرضى به {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.
قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} .
قال الزمخشري: «قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من أمر الطلاق على السُّنَّة» كما مر.
روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سئل عمن طلق زوجته ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج؟ [فتلاها] .
وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
وعن ابن عبَّاس أيضاً: يجعل له محرجاً ينجِّيه من كل كربٍ في الرجعة في الدنيا والآخرة.
وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه. قاله علي بن صالح.(19/156)
وقال الكلبي: {وَمَن يَتَّقِ الله} بالصَّبر عند المصيبة {يجعل له مخرجاً} من النار إلى الجنة.
وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه.
وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شدة.
وقال الربيع بن خيثم: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس.
وقال الحسين بن الفضل: {وَمَن يَتَّقِ الله} في أداء الفرائض {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من العقوبة {وَيَرْزُقْهُ} الثواب {مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أن يبارك له فيما آتاه.
وقال سهل بن عبد الله: {وَمَن يَتَّقِ الله} في اتباع السُّنَّة {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من عقوبة أهل البدع {مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} .
وقال أبو سعيد الخدري: ومن تبرأ من حوله وقوَّتهِ بالرجوع إلى اللَّه {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما كلفه الله بالمعونة.
وقال ابن مسعود ومسروق: الآية على العموم.
وقال أبو ذر: «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ «وتلا: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [فما زال يكررها ويعيدها» .
وقال ابن عباس: «قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب} ] قال:» مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموتِ، ومن شدائد يوم القيامة «» .
وقال أكثر المفسرين: «نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشتكي إليه الفاقة، وقال: إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني؟ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» اتِّق اللَّهَ واصْبِرْ، وآمُرُكَ وإيَّاهَا أن تَسْتَكْثِرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم «، فعاد إلى بيته، وقال(19/157)
لامرأته: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرني وإياك أن نستكثر من قول» لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم «فقالت: نِعْمَ ما أمرنا به، فجعلا يقولان، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم، وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاةٍ، فنزلت الآية، وجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك الأغنام له» .
وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي: إنه أصاب خمسين بعيراً.
وفي رواية: فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه.
وقال مقاتل: «أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: نعم» ، ونزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} .
وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن انقَطَعَ إلى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَؤونةٍ ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكلها اللَّهُ إليهِ» .
وقال الزجاج: أي: إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ أكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ من كُلِّ هَمٍّ فَرجاً، ومِن كُلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً، ورَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» .(19/158)
قوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} .
أن من فوّض إليه أمره كفاهُ ما أهمَّه.
وقيل: من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية، ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَوْ أنَّكُمْ تَتوكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكُم كَمَا يَرزقُ الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصاً وتَرُوحُ بِطَاناً» .
قوله: {إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} .
قرأ حفص: «بَالِغُ» من غير تنوين «أمْرِهِ» مضاف إليه على التخفيف.
والباقون: بالتنوين والنصب، وهو الأصل، خلافاً لأبي حيان.
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند، وأبو عمرو في رواية: «بَالِغٌ أمْرُهُ» بتنوين «بالغ» ورفع «أمره» .
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «بالغ» خبراً مقدماً، و «أمره» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «إن» .
والثاني: أن يكون «بالغ» خبر «إن» و «أمره» فاعل به.
قال الفراء: أي: أمره بالغ.
وقيل: «أمره» مرتفع ب «بالغ» والمفعول محذوف، والتقدير: بالغ أمره ما أراد.(19/159)
وقرأ المفضل: «بالغاً» بالنصب، «أمرُه» بالرفع. وفيه وجهان:
أظهرهما: وهو تخريج الزمخشري: أن يكون «بالغاً» نصباً على الحال، و {قَدْ جَعَلَ الله} هو خبر «إن» تقديره: إن الله قد جعل لكل شيء قدراً بالغاً أمره.
والثاني: أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها، كقوله: [الطويل]
4782 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... . إنَّ حُرَّاسنَا أسْدَا
ويكون «قَدْ جَعَلَ» مستأنفاً كما في القراءة الشهيرة.
ومن رفع «أمره» فمفعول «بالغ» محذوف، تقديره: ما شاء، كما تقدم في القرطبي.
فصل في معنى الآية
قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً.
قوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} .
قيل: إن من قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إلى قوله: {مَخْرَجاً} آية، ومنه إلى قوله تعالى: {قَدْراً} آية أخرى، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة.
وقرأ جناح بن حبيش: «قَدراً» بفتح الدال.
والمعنى: لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه.
وقيل: تقديراً.
وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة.
وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} فقال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَنَحْنُ إذَا توكلنَا عليْهِ يُرسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلاَ نَحْفَظُهُ» ، فنزلت: {إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} فيكم وعليكم.
وقال الربيع بن خيثم: إنَّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به(19/160)
هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجَّاه، ومن دعاه أجاب له.
وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] ، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} ، {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] ، {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .(19/161)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قوله: {واللائي يَئِسْنَ} .
تقدم الخلاف فيه.
وأبو عمرو يقرأ هنا: «واللاّئي يئسن» بالإظهار.
وقاعدته في [مثله] الإدغام، إلا أن الياء لما كانت عنده عارضة لكونها بدلاً من همزة، فكأنه لم يجتمع مثلان، وأيضاً فإن سكونها عارض، فكأن ياء «اللائي» متحركة، والحرف ما دام متحركاً لا يدغم في غيره، وقرىء: «يَئِسْنَ» فعلاً ماضياً.
وقرىء: «يَيْئَسْنَ» مضارع.
و {مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ} .
«من» الأولى لابتداء الغاية، وهي متعلقة بالفعل قبلها، والثانية للبيان متعلقة بمحذوف.
و «اللاَّئِي» مبتدأ، و «فَعدَّتُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ، و «ثَلاثةُ أشْهُرٍ» خبره، والجملة خبر الأول، والشرط معترض، وجوابه محذوف.
ويجوز أن يكون «إن ارْتَبْتُمْ» جوابه {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} ، والجملة الشرطية خبر المبتدأ، ومتعلق الارتياب محذوف، تقديره: إن ارتبتم في أنها يئست أم لا لإمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها.(19/161)
وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض، أو استحاضة، وإذا كان هذا عدة المرتاب فيها فغير المُرتَاب فيها أولى.
وأغرب ما قيل: إن «إنِ ارتَبْتُمْ» بمعنى: تَيَقَّنْتُمْ، فهو من الأضداد.
قوله: {واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} .
مبتدأ، خبره محذوف، فقدره جملة كالأولى، أي: فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، والأولى أن يقدر مفرداً، أي: فكذلك أو مثلهن.
ولو قيل: بأنه معطوف على «اللاَّئِي يَئِسْنَ» عطف المفردات، وأخبر عن الجمع بقوله: «فعدَّتُهُنَّ» لكان وجهاً حسناً، وأكثر ما فيه توسُّطُ الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه. وهذا ظاهر قول أبي حيان: و {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} معطوف على قوله «واللاَّئِي يَئِسْنَ» ، فإعرابه مبتدأ كإعراب «واللائي» .
قوله: {وَأُوْلاَتُ الأحمال} مبتدأ، و «أجَلُهُنَّ» مبتدأ ثانٍ، و «أن يَضَعْنَ» خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر الأول.
والعامَّة: على إفراد «حَمْلَهُنَّ» .
والضحاك: «أحْمَالهُنَّ» .
فصل في عدة التي لا ترى الدم
لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم.
قال أبو عثمان عمير بن سليمان: لما نزل عدة النِّساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبيُّ بن كعب: يا رسول الله، إن ناساً يقولون: قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء، الصغار والكبار وذوات الحَمْل، فنزلت: {واللائي يَئِسْنَ} الآية.
وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] قال(19/162)
خلاّد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدّة التي لم تَحِضْ، وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحُبْلى؟ فنزلت: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ} ، يعني: قعدن عن الحيض.
وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية.
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة؟ .
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ} ، فلا يرجون أن يحضن «إن ارتبْتُمْ» أي: شككتم.
وقيل: تيقنتم، وهو من الأضداد، يكون شكًّا ويقيناً كالظَّن.
واختيار الطَّبري: أن يكون المعنى إن شككتم، فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.
قال القشيري: وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا، هل بلغت سن اليأس لم نقل: عدتها ثلاثة أشهر.
والمعتبر في سن اليأس أقصى عادة امرأة في العالم.
وقيل: غالب نساء عشيرة المرأة.
وقال مجاهد: قوله: «إن ارْتَبْتُمْ» للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة الآيسة، والتي لم تحضْ فالعدّة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.
وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً، وفي الأشهر مرة.
وقيل: إنه متصل بأول السورة، والمعنى لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة.(19/163)
قال القرطبي: «وهو أصح ما قيل فيه» .
فصل في المرتابة في عدتها
المرتابة في عدتها لم تنكح حتى تستبرىء نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الرِّيبة، وقد قيل في المرتابة التي ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه إنها تنتظر سنة من يوم طلَّقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، فإن طلقها فحاضت حيضة، أو حيضتين، ثم ارتفع حيضها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضها ثم حلت [للأزواج] . وهذا قول الشافعي بالعراق.
فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر [أربعة أشهر وعشراً، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة أشهر] .
وروي عن الشافعي أيضاً: أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سنَّ اليائسات.
وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيدة عن أهل العراق.
فصل في ارتياب المرأة الشابة
إذا ارتابت المرأة الشابة هل هي حامل أم لا؟ .
فإن استبان حملها فأجلها وضعه، وإن لم يستبن، فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة، وبه قال أحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطَّاب وغيره.
وأهل «العراق» يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها وإن مكثت عشرين سنةً، إلا أن تبلغ من الكبر سنًّا تيأس فيه من الحيضِ فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر.
قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
قال إلكيا: وهو الحق، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر. والمرتابة ليست آيسة.
فصل فيمن تأخر حيضها لمرض
فأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وبعض أصحابه: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة كما تقدم.(19/164)
وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة.
وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
فصل
لو تأخّر الحيض بغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة على ما تقدم، فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على الاختلاف.
قال القرطبي: «وأشهر الأقوال خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت» .
وقال أشهب: لا تحل أبداً حتى تنقطع عنها الريبة.
قال ابن العربي: «وهو الصحيح، إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك» ، وروي مثله عن مالك.
فصل فيمن جهل حيضها بالاستحاضة
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها أقوال:
قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث.
قال الليث: عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة «سنة» .
قال القرطبي: «وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدّتها في مذهب مالك سنة، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدّة» .
وقال الشَّافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر، وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين.
قال ابن العربي: «وهو الصحيح عندي» .
وقال أبو عمر: المستحاضة إذا علمت إقبال حيضتها وإدبارها اعتدت بثلاثة قُرُوءٍ.
قال القرطبي: «وهذا أصحّ في النظر، وأثبت في القياس والأثر» .
قوله: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} .(19/165)
يعني: الصغيرة، فعدتهن ثلاثة، فأضمر الخبر، وإنما كانت عدتها الأشهر لعدم الأقراء في حقِّها عادة، والأحكام إنما أجراها اللَّه تعالى على العادات، فتعتد بالأشهر، فإن رأت الدَّم في زمن احتماله عند النِّساء انتقلت إلى الدَّم لوجود الأصل، فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم، كما أن المُسِنَّة إذا اعتدت بالدم، ثم ارتفع عادت إلى الأشهر، وهذا إجماع.
فصل
قوله: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ} وضع الحمل، وإن كان ظاهراً في المطلقة؛ لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية، وحديث سبيعة، كما مضى في سورة «البقرة» .
فإذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوءمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما.
قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} .
أي: من يتقه في طلاق السنة {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} في الرجعة.
وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة.
{ذَلِكَ أَمْرُ الله} أي: الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبيَّنَهُ لَكُمْ، {وَمَن يَتَّقِ الله} أي: يعمل بطاعته {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي: في الآخرة.
قوله: {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
هذه قراءة العامة مضارع «أعظم» .
وابن مقسم: «يعظم» بالتشديد، مضارع عظم مشدداً.
والأعمش: «نعظم» بالنون، مضارع «أعظم» وهو التفات من غيبة إلى تكلم.
قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} .(19/166)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قال ابن الخطيب: {أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله {وَمَن يَتَّقِ الله} كأنه قيل: كيف يعمل بالتقوى في جنس المعتدات؟ فقيل: «أسكنوهُنَّ» .
قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} . فيه وجهان:
أحدهما: أن «من» للتبعيض.
قال الزمخشري: «مبعضها محذوف معناه: أسكنوهن مكاناً من حيثُ سكنتم، أي: بعض مكان سُكناكم، كقوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي: بعض أبصارهم» .
قال قتادةُ: إن لم يكن إلا بيت واحد، فأسكنها في بعض جوانبه.
قال ابن الخطيب: وقال في الكشاف: «من» صلة، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم.
والثاني: أنها لابتداء الغاية. قاله الحوفي، وأبو البقاء.
قال أبو البقاء: والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله «مِن وُجْدِكُم» ، والوُجْد: الغِنَى.
قوله: «من وجدكم» . فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} بتكرار العامل، وإليه ذهب أبو البقاء.
كأنه قيل: أسكنوهن من سعتكُم.
والثاني: أنه عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال بعد أن أعرب «مِنْ حَيْثُ» تبعيضية، قال: «فإن قلت: فقوله» مِنْ وُجْدِكُمْ «قلت: هو عطف بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ومفسّر له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه، والوُجْد: الوسع والطاقة» .
وناقشه أبو حيان بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل. إنما عهد هذا في البدل، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً.(19/167)
وقرأ العامة: «وجدكم» بضم الواو.
والحسن، والأعرج، وأبو حيوة: بفتحها.
والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب: بكسرها.
وهي لغات بمعنى واحد.
يقال: وجدت في المال أجد وُجْداً وجدة، والوُجْد: الغِنَى والقُدرة، والوَجْد بفتح الواو: الحُزْن أيضاً والحب والغضب.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: روى أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} ، فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قوله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} يعني المطلقات اللاتي بنَّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن، وليست حاملاً، فلها السُّكنَى، ولا نفقة لها ولا كُسْوة؛ لأنها بائن منه، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها، وإن كانت حاملاً فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها.
قال البغوي: ونعني بالكسوة مؤونة السكن، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة، وإن كانت عاريةً فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها، فأما من لم تَبِنْ منه، فإنها امرأته يتوارثان، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملاً كانت أو غير حامل، وإنما أمر الله بالسكن للبائن، قال تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فجعل الله - عَزَّ وَجَلَّ - للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة.
قال ابن العربي: «إن الله - تعالى - لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها» .
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك والشافعي: أن لها السَّكنى ولا نفقة لها.(19/168)
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة.
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: لا نفقة لها ولا سُكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سُكْنَى ولا نفقة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل لك السُّكنى والنفقة، قال: إن زوجها طلَّقها ثلاثاً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّمَا السُّكْنَى والنَّفقةُ على من لَهُ عليْهَا رَجْعَةٌ، فَلمَّا قدمتُ» الكُوفَة «طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة» .
وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد، فقال: يا شعبي، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيسٍ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتومٍ.
وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش، فخيف على ناحيتها.
وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها.
وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] ، وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية.
فصل في المعتدة عن وطء الشبهة
قال البغوي: «وأما المُعتدَّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بِعيْبٍ أو خيار عتق، فلا سُكْنَى لها ولا نفقة، وإن كانت حاملاً، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً عند أكثر العلماء، وروي عن عليٍّ أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. واختلفوا في سكناها:
فللشافعي قولان:
أحدهما: لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت، وهو قول علي وابن عبَّاس وعائشة، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة.(19/169)
والثاني: لها السكنى، وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، لما روى كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفُريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - «أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف» القدوم «لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة، فقالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» نَعَمْ «، فانصرفت حتى إذا كنت في الحُجْرة أو في المسجد دعاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بي فدعيت له، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» كَيْفَ قُلْتِ؟ «قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال:» امْكُثِي حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ «، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهُر وعَشْراً، قالت: فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به» .
فمن قضى بهذا القول قال: إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ» ، ومن لم يوجب السُّكنى قال: أمرها بالمكث آخراً استحباباً لا وجوباً.
قوله: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} .
قال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النَّفقة. وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي الضحى: أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها، ثم طلقها.
قوله: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
هذا في وجوب النَّفقة والسُّكنى للحامل المطلقة ثلاثاً أو أقل حتى تضع حملها، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي، وابن عمر وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان، وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.(19/170)
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا ينفق عليها، إلا من نصيبها، وقد مضى في «البقرة» .
قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} .
يعني المُطلَّقات، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يَبِنَّ، ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في «البقرة» .
قوله: {وَأْتَمِرُواْ} .
افتعلوا من الأمر، يقال: ائتمر القوم وتأمّروا، أي: أمر بعضهم بعضاً.
وقال الكسائي: «ائتمروا» تشاوروا؛ وتلا قوله تعالى: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] وأنشد قول امرىء القيس: [الطويل]
4782 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ..... ويَعْدُو عَلَى المَرْءِ مَا يَأتَمِرْ
فصل في هذا الخطاب
الخطاب في قوله: «وائتمروا» للأزواج والزوجات، أي: وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده.
قوله: {فَسَتُرْضِعُ} .
قيل: هو خبر في معنى الأمر، والضمير في «له» للأب، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} والمفعول محذوف للعلم به، أي: فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى، والظَّاهر أنه خبر على بابه.
فصل في تفسير الآية
قوله: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه.
وقيل: معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها.(19/171)
وقال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجْرة.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد.
فقال مالك: إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال.
وقيل: يجب عليها بكل حال.
فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع، فإن اختلفا في الأجرة، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة، وإن دعا الأب إلى أجرِ المثل، وامتنعت الأم لتطلب شططاً، فالأب أولى به، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها.
قوله: {لِيُنفِقْ} .(19/172)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
هذه قراءة العامة: أعني كسر اللام، وجزم المضارع بها.
وحكى أبو معاذ القارىء: «لِيُنْفِقَ» بنصب الفعل على أنها لام «كي» نصب الفعل بعدها بإضمار «أن» ويتعلق الحرف حينئذ بمحذوف، أي: شرعنا ذلك لينفق.
وقرأ العامة: «قُدِرَ» مخففاً.
وابن أبي عبلة: «قُدِّرَ» مشدداً.
فصل في وجوب النفقة للولد على الوالد
قال القرطبي: هذه الآية أصل وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم، خلافاً لمحمد بن الموَّاز إذ يقول: إنها على الأبوين على قَدْر الميراث.
قال ابن العربيّ: ولعل محمداً أراد أنها على الأم عند عدم الأب، وفي البخاري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَقُولُ لَكَ المَرأةُ: أنفِقْ عليَّ وإلاَّ طلِّقْنِي، ويقُولُ لَكَ العَبْدُ: أنفِقْ عَلي واستَعْمِلْنِي، ويقُولُ لَكَ ابْنُكَ: أنفِقْ عليَّ إلى مَنْ تكلُني؟» ،(19/172)
فقد تعارض القُرآن [والسُّنة] وتواردا في شرعة واحدة.
قوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} من المال، والمعنى لا يكلف الله الفقير مثل ما يكلف الغني {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي: بعد الضيق غنى وبعد الشدة سعة.
فصل في اختلاف الزوجين في قبض النفقة
قال ابن تيمية: إذا ختلف الزوجان في قبض النفقة والكسوة، فقال القاضي أبو يعلى وأتباعه: إن القول قول الزَّوجة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما لو اختلف اثنان في قبض سائر الحقوق مثل الصَّداق، وثمن المبيع ونحو ذلك، ومذهب مالك بخلاف ذلك.
وقال الغزالي: فيها وجهان: وحسنوا قول الزوج.
قال ابن تيمية: وكذلك يجيء لأصحاب أحمد وجهان كما لو كان الصداق منفعة حصلت لها، فقالت: حصلت من غيرك وقال: بل حصلت منّي مثل أن يصدقها تعليم قصيدة أو غيرها مما يجوز جعله صداقاً فإنها إذا تعلمت من غيره كان عليه الأجرة، فإن قال: أنا علمتها وقالت: بل غيره، ففيها وجهان، فهكذا في النَّفقة، فإنها لا بُدَّ أن تكون قد ارتزقت في الزمن الماضي، وهو يقول: أنا رزقتها، وهي تقول: بل غيره.
والصَّواب المقطُوع به أنه لا يقبل قولها في ذلك مطلقاً؛ فإن هذا فيه فساد عظيم على هذا القول في مذهب الشَّافعي، وقول أحمد الموافق له ولا يجيء ذلك على مذهب مالك، ولا على مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد الموافق له؛ فإنا إذا قلنا: إن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لم يقبل دعواها بالنفقة الماضية، وإنما يجيء على قولنا إن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، كما هو المشهور من مذهب أحمد، وهو قول الشافعي.
والعُمْدَة في ذلك الأمر المعروف عن عمر بن الخطاب؛ قال ابن المُنذِر: إن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غلبوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا، أو يطلقوا؛ فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، وليس قبول الزوجة في ذلك مأثوراً عن أحمد، ولا ملائماً لأصوله، فإنه في تداعي الزوجين وغيرهما يرجح من تشهد له اليد الحكمية العرفية دون اليد الحسية، ومعلوم أن المدعى عليه يترجح تارة باليد في الأعيان وببراءة الذمة في الحقوق، فكما أن في اليد لم يلتفت إلى مُجرَّد الحس، بل يرجع إلى اليد الحكمية التي يستدلّ عليها بالأفعال والتصرفات؛ إذ الأَصل في الدعاوى ترجيح مَنِ الظَّاهرُ معهُ.
والظهور يستدلّ عليه(19/173)
بالأفعال والتصرفات والأمور العادية، كما يستدلّ عليها بمجرد اليد الحسية، فإذا كانت العادة الغالبة والعرف المعروف يقتضي وجود فعل لم يكن الظاهر عدمه حتى يرجح قول من يدعي عدمه.
وهذا ينبني على أصول:
أحدها: أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنما تنازعا في المنفق، فقال هو: مني، وقالت هي: من غيرك، فهنا الأصل عدم غيره، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير، فإن ادعت ممتنعاً لم يقبل بحال، وإن ادعت ممكناً فهو محل التردُّد، فإن إنفاقه واجب، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف.
والأصل الثاني: أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه، أو قول مثبته.
والأصل الثالث: أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم، وفعله إما متعذّر أو متعسر، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاماً كلَّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود، وهذا ظاهر بيِّن.
الأصل الرابع: أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف، ومطالبته بها إذا كان لا ينفق، بخلاف ما إذا كان غائباً، وهي الصُّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي، بل قد يقال: إن ذلك رضا منها بترك النفقة، وليس هذا قولاً بسقوط النفقة في الماضي، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها، أو تكون راضية بترك النفقة.
وهذا أصل خامس: وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكتت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها.
فصل في النفقة والكسوة بالمعروف
وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعاً وقدراً وصفة، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم.
وقال بعضهم: هي مقدَّرة بالشَّرع نوعاً وقدراً مُدًّا من حنطة، أو مدًّا ونصفاً أو مدَّين(19/174)
قياساً على الإطعام الواجب في الكفارة. والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً قديماً وحديثاً لقول الله تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} [البقرة: 233] ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهند: «خُذِي مَا يَكْفيكِ وَولدَكِ بالمَعْرُوفِ» ، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو كان ذلك مقدّراً بشرع لبينه لها قدراً ونوعاً كما بين فرائض الزكوات والديات.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خطبته ب «عرفات» : «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .
ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارَّة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز.
«وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للذي سأله: مَا حَقُّ زَوجةِ أحدنّا عليْهِ؟ .
قال» تُطْعِمُها إذَا أكَلْتَ، وتَكسُوهَا إذَا اكتَسيْتَ، ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُر إلاَّ في البيْتِ «» .
وهكذا قال في نفقة المماليك: «هُمْ إخْوانُكُمْ وخَولكُمْ جعلهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَن كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدهِ فليُطْعِمْهُ ممَّا يأكلُ، وَليُلْبِسْهُ ممَّا يَلبسُ ولا تُكلِّفُوهُمْ ما يَغلبُهُمْ فإن كلَّفْتُموهُمْ فأعينُوهُمْ» .
ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدرة، وصفة الإنفاق.
فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلاً كالبُرِّ، ولا موزوناً كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التَّمْر والشعير فيعطيها ذلك، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم، فيعطيها ذلك والطبيخ، فيعطيها ذلك، وإن كان عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل(19/175)
ذلك، وإن كان يطحن في الطَّاحون ويخبز في البيت فعل ذلك، وإن كان يخبز في غير البيت فعل ذلك، وإن كان يشتري مخبُوزاً من السُّوق فعل ذلك، وكذلك الطَّبيخ ونحوه، فذلك هو المعروف فلا يتعيَّن عليه دراهم ولا حَبُّ أصلاً، فإن تعيين ذلك من المنكر ليس من المعروف، وهو مصرٌّ بها تارة، وبه تارة، وبهما أخرى، وكذلك القدر لا يتعين مقدراً مطرداً، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
وأما الإنفاق، فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة.
وقيل: لا يجب التمليك، وهو الصَّواب، فإن ذلك ليس من المعروف، بل عرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعاً تارة، وتارة أفراداً، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف، وتضارّا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند العشرة بالمعروف.
وأيضاً فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم.
وقد اتَّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة.
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل، ويكسوها إذا اكتسى، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها، فلا حق لها سوى ذلك، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقاً أو حَبّ مقدر مطلقاً، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي في قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ} أي: «لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصَّغير على قدر وسعه، فيوسع إذا كان موسعاً عليه، ومن كان فقيراً فعلى قدر ذلك، فتقدر النَّفقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة» .
وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: النفقة محدودة، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزَّوج وحده من يُسره وعُسْره، ولا اعتبار بحالها، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدَّان، والمتوسط مد ونصف والمعسر مُدّ؛ لظاهر قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} .(19/176)
فجعل الاعتبار بحال الزوج في اليُسْر والعُسْر؛ ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة؛ لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها، فقدرت قطعاً للخصومة لهذه الآية، ولقوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236] .
وأجاب القرطبي: بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير، وأنها تختلف بعُسْر الزوج ويُسْره، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها، وقد قال تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} [البقرة: 233] ، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها؛ لأنه لم يخص في ذلك واحداً منهما، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنيمة مثل نفقة الفقيرة، وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لهند: «خُذِي ما يَكْفيكِ وولَدَك بالمعرُوفِ» ، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان.(19/177)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
قوله: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} .
لما ذكر الأحكام ذكر وحذَّر مخالفة الأمر، وذكر عُتُوَّ وحُلُول العذاب بهم، وتقدم الكلام في «كأين» في «آل عمران» .
قوله: {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} .
ضمّن «عَتَتْ» معنى أعرض، كأنه قيل: أعرضت بسبب عتوِّها، أي: عتت يعني القرية والمراد أهلها.
وقوله: {فَحَاسَبْنَاهَا} إلى آخره. يعني في الآخرة، وأتى به بلفظ الماضي لتحقُّقه.
وقيل: العذاب في الدُّنيا، فيكون على حقيقته، أي جازيناها بالعذاب في الدُّنيا {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} في الآخرة وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقَحْط والسَّيف والخَسْف والمَسْخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً.
والنُّكْر: المنكر، وقرىء مخففاً ومثقلاً، وقد مضى في سورة الكهف.
قوله: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} . أي: عاقبة كفرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرَهَا خُسْراً} أي: هلاكاً في الدنيا بما ذكرنا وفي الآخرة بجهنم.(19/177)
قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ} .
تكرير للوعيد توكيداً.
وجوز الزمخشري أن يكون «عَتَتْ» وما عطف عليه صفة ل «قَرْيَةٍ» ، ويكون الخبر ل «كأيٍّ» في الجملة من قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ} .
وعلى الأول يكون الخبر «عَتَت» وما عطف عليه.
قوله: {الذين آمَنُواْ} .
منصوب بإضمار أعني، بياناً للمنادى في قوله: {ياأولي الألباب} أي: العُقُول، ويكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، ويضعف كونه بدلاً لعدم حلوله محل المبدل منه.
قوله: {قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً} .
في نصب «رسولاً» أوجه:
أحدها: قال الزجاج والفارسي: إنه منصوب بالمصدر المنون قبله؛ لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29] ، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] .
وقول الآخر: [الوافر]
4783 - بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عنِ المَقِيلِ
الثاني: أنه جعل نفس الذكر مبالغة، ويكون محمولاً على المعنى، كأنه قال: قد أظهر لكم ذكراً رسولاً، فيكون من باب بدل الشَّيء من الشَّيء وهو هو.
الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول، تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع: كذلك، إلا أن «رسولاً» نعت لذلك المحذوف.
الخامس: أنه بدل منه على حذف مضاف، أي ذكراً ذا رسول.
السادس: أن يكون «رَسُولاً» نعتاً ل «ذِكْراً» أو على حذف مضاف، أي: ذكراً ذا رسول، و «ذا» رسول نعتاً ل «ذِكْراً» .
السابع: أن يكون «رسولاً» بمعنى رسالة، فيكون «رسولاً» بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بيناً عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي، إلا أن هذا يبعده قوله «يَتْلُو عَلَيْكُم» لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز.(19/178)
الثامن: أن يكون «رَسُولاً» منصوب بفعل مقدر، أي: أرسل رسولاً، لدلالة ما تقدَّم عليه.
قال البغوي: كأنه قيل: أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً.
وقيل: مع رسول.
التاسع: أن يكون منصوباً على الإغراء: أي: اتبعوا والزموا رسولاً هذه صفته.
فصل في قوله: رسولاً
اختلف الناس في «رسولاً» ، هل هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو القرآن نفسه أو جبريل.
قال الزمخشري: «هو جبريل أبدل من» ذكراً «لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذِّكر، فصح إبداله منه» .
قال أبو حيَّان: «ولا يصحّ هذا لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض، ولا بدل اشتمال» . انتهى.
قال شهاب الدين: «وهذا الذي قاله الزمخشري سبقه إليه الكلبي، وأما اعتراضه عليه، فغير لازم؛ لأنه بولغ فيه حتى جعل نفس الذكر كما تقدم بيانه» .
وقرىء: «رسول» بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: هو رسول.
وقيل: الذكر هنا الشَّرف كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] ثم بين الشرف فقال: «رَسُولاً» ، والأكثر على أن المراد بالرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعاً منزلين.
قوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله} . نعت ل «الرسول» ، و «آيَاتِ اللَّهِ» القرآن. و «مبيِّنَاتٍ» قرأ العامة: بفتح الياء، أي: يبينها الله، وبها قرأ ابن عباس، وهي اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، لقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118] .
وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي: بكسرها، أي: يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام.
قوله: {لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} . الجار متعلق إما ب «أنزل» وإما ب «يتلو» .(19/179)
وفاعل «يخرج» إما ضمير الباري - تعالى - المنزل، أو ضمير الرسُول، أو الذكر.
والمراد بالذين آمنوا من سبق له ذلك في علم الله.
وقوله: {مِنَ الظلمات إِلَى النور} . أي: من الكفر إلى الهدى والإيمان.
قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وأضاف الإخراج إلى الرسُول؛ لأن الإيمان إنما حصل بطاعته.
قوله: {وَمَن يُؤْمِن} . هذا أحد المواضع التي رُوعي فيها اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظ آخراً.
قوله: {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} قرأ نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.
وقوله: «خَالِدينَ» . قال بعضهم: ليس قوله «خالدين» فيه ضمير عائد على «من» إنما يعود على مفعول «يُدخِلْهُ» و «خَالِدينَ» حال منه والعامل فيه «يدخله» لا فعل الشَّرط.
هذه عبارة أبي حيَّان.
وفيها نظر، لأن «خَالدِينَ» حال من مفعول «يُدْخلهُ» عند القائلين بالقول الأول، وكان إصلاح العبارة أن يقال: حال من مفعول «يُدْخِلهُ» الثاني وهو «جنَّاتٍ» . والخلود في الحقيقة لأصحابها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال: «خالدين هم فيها» لجريان الوصف على غير من هو له.
قوله: {قَدْ أَحْسَنَ الله} . حال ثانية، أو حال من الضمير في «خَالِدينَ» ، فتكون متداخلة. ومعنى قوله: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} ، أي: وسَّع له في الجنَّات.(19/180)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قوله: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} .
يدّل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة، ولا خلاف في أن السماوات سبع بعضها فوق بعض بدليل حديث الإسراء وغيره، وقوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} يعني سبعاً، واختلف فيهن.
فقال الجمهور: إنها سبع أرضين مطبقاً بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كلِّ مكان من خلق الله.(19/180)
وقال الضحاك: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي: سبعاً من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها فوق بعض من غير فُتُوق بخلاف السماوات.
قال القرطبي: والأول أصحّ؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره، روى أبو مروان عن أبيه: «أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها:» اللَّهُمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ ومَا أظْللْنَ، وربَّ الأرضينَ السَّبْعِ وما أقْلَلْنَ، وربَّ الشَّياطينِ وما أضللنَ، وربَّ الرِّياحِ وما أذررْنَ، إنَّا نَسْألُكَ خَيْر هذهِ القريةِ وخَيْرَ أهْلِهَا، ونَعُوذُ بِكَ من شرِّها وشرِّ أهلهَا، ومن شرِّ مَنْ فيهَا «» .
وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَن ظَلَمَ قِيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقه يَوْمَ القيامَةِ من سَبْعِ أرضينَ» .
قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة أهل الإسلام بإهل الأرض العليا ولا يلزم فيمن غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان:
أحدهما: أنهم يشاهدون من كل جانب من أرضهم، ويستمدّون الضياء منها، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، وهذا قول من جعل الأرض كرة.
وحكى الكلبي عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس: أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار، وتظل جميعهم السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى، احتمل أن يلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا يلزمهم دعوة الإسلام؛ لأنها لو لزمتهم لكان النصُّ بها وارداً، ولكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأموراً بها.
قال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاكَ، ففلك القمر بالنسبة إلى السماء الثانية أرض، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض وكذلك البقية بالنسبة(19/181)
إلى ما تحته سماء وبالنسبة إلى ما فوقه أرض، فعلى هذا تكون السماوات السَّبع وهذه سبع سماوات وسبع أرضين.
قوله: {مِثْلَهُنَّ} . قرأ العامَّة: بالنصب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على سبع سموات. قاله الزمخشري.
واعترض عليه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين حرف العطف، وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور، وهو مختص بالضرورة عند أبي علي.
قال شهاب الدين: وهذا نظير قوله: {آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] عند ابن مالك، وتقدم تحريره في سورة البقرة والنساء، وهو عند قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} [النساء: 58] ، {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] .
والثاني: أنه منصوب بمقدر بعد الواو، أي: خلق مثلهن من الأرض.
واختلف الناس في المثليَّة.
فقيل: مثلها في العدد.
وقيل: في بعض الأوصاف؛ فإن المثليَّة تصدق بذلك، والأول المشهور.
وقرأ عاصم في رواية: «مثلُهنَّ» بالرفع على الابتداء، والجار قبله خبره.
قوله: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} .
يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون نعتاً لم قبله. قاله أبو البقاء.
وقرأ أبو عمرو في رواية، وعيسى: «يُنَزِّلُ» بالتشديد، أي: الله، «الأمْرَ» مفعول به. والضميرُ في «بَيْنَهُنَّ» عائد على «السَّماواتِ والأرضين» عند الجمهور، أو على السمواتِ والأرض عند من يقول: إنها أرض واحدة.
وقوله: {لتعلموا} : متعلق ب «خَلَقَ» أو ب «يَتَنَزَّل» .
والعامة: «لتعْلَمُوا» بتاء الخطاب، وبعضهم بياء الغيبة.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهدٌ: يتنزل الأمرُ من السماوات السبع إلى الأرضين السبع.
وقال الحسنُ: بين كل سماءين أرض وأمر.(19/182)
والأمر هنا الوحي في قول مقاتل وغيره، وعلى هذا يكون «بَيْنَهُنَّ» إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها، وبين السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: الأمر هنا القضاء والقدر، وهو قول الأكثرين، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى ما بين الأرض السُّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} بحياة بعض، وموت بعض، غِنَى قوم، وفقر قوم.
وقيل: ما يُدَبِّرُ فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطرُ، ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على اتساعِ اللغةِ، كما يقال للموت: أمر اللَّهِ، وللريح والسَّحاب ونحوهما.
قال قتادةُ: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره وقضاء من قضائه.
{لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أي: من قدر على هذا الملك العظيم، فهو على ما بينهما من خلقه أقدر من العفو، والانتقام أمكنُ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته، {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} ، فلا يخرج شيء عن علمه وقُدرته.
ونصب «عِلْماً» على المصدر المؤكد؛ لأن «أحَاطَ» بمعنى «عَلِمَ» .
وقيل: بمعنى: وأن الله أحاط إحاطة.
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} ماتَ علَى سُنَّةِ رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .(19/183)
سورة التحريم(19/184)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
مدنية، وهي ثنتا عشرة آية، ومائتان وسبع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} ؟ .
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله.
وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه، ولما كان خلق السماوات والأرض، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله، فلهذا قال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} .
فصل في سبب نزول الآية
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يمكثُ عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليها فلتقل: إني أجد ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزل: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} إلى قوله: {إِن تَتُوبَآ} لعائشة وحفصة» .(19/184)
وعنها أيضاً قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه، فدخل على حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدتْ لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شربة، فقلت: أما - والله - لنحتالن له، فذكرت ذلك لسَوْدَة، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريحُ، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشتد عليه أن يوجد منه الريح؛ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسلٍ، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرفُطَ، وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفيةُ، فلما دخل على سودة قالت سودة: والذي لا إله إلا هو، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي، وإنه لعلى الباب، فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جَرسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك، ثم دخل على صفيّة، فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة، قالت له: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة: سبحان الله، لقد حرمناه، قالت: قلت لها: اسكتي» .
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العسل حفصة، وفي الأولى زينب.
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه شربه عند سودة.
وقد قيل: إنما هي أمّ سلمة، رواه أسباط عن السديِّ.
وقال عطاء بن أبي مسلم.
قال ابن العربي: «وهذا كله جهل، أو تصور بغير علمٍ» .
فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير.
والمغافير: بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة، فيها حلاوة، واحدها: مغفور.
وجَرَسَتْ: أكلت، والعُرْفُطُ: نبت له ريح كريح الخمرِ.
وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك.(19/185)
وقال ابن عبَّاس: أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقبلها، والمرأة أم شريك، قاله عكرمة.
وقيل: إن التي حرّم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك «الإسكندرية» .
قال ابنُ إسحاق: هي من كورة «أنْصِنا» من بلد يقال له: «حفْن» ، فواقعها في بيت حفصة.
روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: «دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأم ولده، مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة، فهي عليّ حرام إن قربتها، قالت حفصة: فكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ «، فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً، فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} » الآية.
قال القرطبي: أصح هذه الأقوال أولها، وأضعفها أوسطها.
قال ابن العربي: «أما ضعفه في السند، فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموهوبة ليس تحريماً لها؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية، فهو أمثل في السند، وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً، وإنما الصحيح أنه كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة، فحلف أن لا يشربه، وأسر ذلك، ونزلت الآية في الجميع» .(19/186)
فصل في هل التحريم يمين؟
قوله تعالى: {لِمَ تُحرِّمُ} إن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرم ولم يحلف، فليس ذلك بيمين، ولا يحرم قول الرجل: «هذَا عليَّ حَرامٌ» شيئاً، حاشا الزوجة.
وقال أبو حنيفة: أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب، دون الملبوس، وكانت يميناً توجب الكفارة.
وقال زفر: هو يمين في الكل، حتى في الحركة والسكون، واستدل المخالف بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرَّم العسل، فلزمته الكفَّارة، وقد قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فسماه يميناً.
قال القرطبي: ودليلنا قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [المائدة: 87] . وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] .
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال، ولم يوجب عليه كفارة.
قال الزجاجُ: ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله، ولم يجعل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحرم إلا ما حرم الله عليه.
فمن قال لزوجته أو أمته، أنت عليَّ حرام، فإن لم يَنْوِ طلاقاً، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء، فعليه كفارة واحدة.
ولو حرم على نفسه طعاماً، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته: «أنْتِ عليَّ حَرَامٌ» .
قال القرطبيُّ: «فيه ثمانية عشر قولاً:
أحدها: لا شيء عليه، وبه قال الشعبي، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماءِ، والطعام، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] . والزوجة من الطَّيِّبات، ومما أحل الله.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116] .(19/187)
فما لم يحرمه الله، فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراماً، ولم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لما أحله الله: هو حرام عليَّ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله:» واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ «.
وروى البغويُّ في تفسيره: أن حفصة لما أخبرت عائشة، غضبت عائشةُ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها، فقيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} ؟ أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين، يعني: أقدم عليه، وكفِّر.
وثانيها: أنه يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والأوزاعي، وهو مقتضى الآية.
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمينٌ بكفرها.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ.
يعني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حرم جاريته، فقال تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فكفَّر عن يمينه، وصيَّر الحرام يميناً، خرجه الدارقطني.
وثالثها: أنه يجب فيها كفَّارة، وليست بيمين، قاله ابن مسعود؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفَّارة على المعنى، والآية ترده.
ورابعها: هي ظهارٌ، ففيها كفارة الظهارِ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق، ولأنه إنما حرم وطؤها، والظهار أقل درجات التحريم.
وخامسها: أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب، والزهري، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه ابن(19/188)
خويزمنداد عن مالك؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة.
وثامنها: أنها ثلاث تطليقات. قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً، وأبو هريرة؛ لأنه التحريم المتيقن.
وتاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في المدخول بها. قاله علي بن زيد والحسن والحكم، وهو مشهور مذهب مالك؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة، وتحرمها.
وعاشرها: هي ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، وإن لم يدخل بها، قاله عبد الملك في «المبسوطة» ، وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ.
وحادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث، قاله أبو مصعب، ومحمد بن الحكم.
وثاني عشرها: أنه إن نوى الطَّلاق، والظهار كان ما نوى، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، فإن نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها: أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار، وإنما يكون طلاقاً. قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقاً، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها، حتى يكفر كفارة الظِّهار.
وخامس عشرها: إن نوى الطلاق، فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدة فهي رجعية، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وساس عشرها: إن نوى ثلاثاً، فثلاثاً، وإن نوى واحدة، فواحدة، وإن نوى يميناً، فهي يمينٌ، وإن لم ينو شيئاً، فلا شيء عليه، وهو قول سفيان، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: لم ينو شيئاً فهي واحدة.
وسابع عشرها: له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة، قاله ابن شهاب، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً.
قال ابن العربي: «ورأيت لسعيد بن جبير، وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً، ولست أعلم لها وجهاً، ولا يبعد في المقالات عندي» .(19/189)
قال القرطبي: وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً، فقال: كذبت، ليست عليك بحرامٍ، ثم تلا: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة، وقد قال جماعة من المفسرين: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاله زيد بن أسلم وغيره «.
هذا كله في الزوجة، وأما الأمةُ [فليس] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين.
قال ابن العربي:» والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله، وهو الواحدة إلا أن يعدده، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول: أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج، فهذا نصف في المراد «.
فصل في هذا الاستفهام
قال ابن الخطيب: قال صاحب» النظم «: قوله:» لِمَ تُحَرِّمُ «استفهام بمعنى الإنكار، وذلك من اللَّه نهيٌ، وتحريم الحلال مكروه؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى.
فإن قيل: قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟ .
فالجوابُ: أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل: تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن، فكيف قال: لم تحرم ما أحل الله؟ فالجواب: أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر، فكيف يضاف إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مثل هذا؟ .
قوله: {تَبْتَغِي} .(19/190)
يجوز أن يكون حالاً من فاعل» تُحَرِّمُ «، أي: لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك.
ويجوز أن يكون تفسيراً ل» تُحَرِّمُ «.
ويجوز أن يكون مستأنفاً، فهو جواب للسؤال.
و» مَرْضَاتَ «اسم مصدر، وهو الرضا، وأصله» مرضوة «.
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول، أو للفاعل، أي: ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ.
والمعنى: يفعل ذلك طلباً لرضاهن {والله غَفُورٌ} أي: لما أوجب المعاتبة {رَّحِيمٌ} برفع المُؤاخذةِ.
قال القرطبيُّ:» وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة، ولا كبيرة «.
قوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .
{فَرَضَ الله لَكُمْ} أي: بيَّن لكم، كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] وقيل: قد أوجب الله.
وقال صاحب «النظم» : إذا وصل «فَرَضَ» ب «عَلَى» لم تحتمل غير الإيجاب كقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.
قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .
تحليل اليمين كفَّارتها، أي: إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة» : {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الآية: 89] .
قال القرطبيُّ: وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول، أو المشروب لم يحرم عليه؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً، وإن قال: نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال: كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يميناً، ويكون في الكفارة وجهان:
قوله: {تَحِلَّةَ} .(19/191)
مصدر «حَلّل» مضعفاً، نحو «تكرمة» ، وهذان ليسا [مقيسين] ، فإن قياس مصدر «فَعَّلَ» «التفعيل» إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ.
فأما المعتل اللام نحو «زكَّى» ومهموزها نحو: «نبَّأ» فمصدرهما «تَفْعِلَةٌ» نحو: «تَزْكِيَةٌ، وتَنْبِئَةٌ» .
على أنه قد جاء «التفعيل» كاملاً في المعتل، نحو: [الرجز]
4784 - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا ... وأصلها: «تَحْلِلَة» ك «تَكْرِمَة» فأدغمت، وانتصابها على المفعول به.
فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفر عن يمينه.
وقال الحسنُ: لم يكفر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة، والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كفر بعتق رقبةٍ.
وعن مقاتل: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعتق رقبةً في تحريم مارية. والله أعلم.
فصل في الاستثناء في المين
قبل: قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله} [الأحزاب: 38] ، أي: فيما شرعه له في النساء المحللات، أي: حلل لكم ملك اليمين، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك.
وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي: فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ.
وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً، فكأنه قال: «استثن بعد هذا فيما تحلف عليه» وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة.
قال القرطبيُّ: «والأصل» تحللة «، فأدغمت، و» تَفْعِلَة «من مصادر» فَعَّل «كالتوصية والتسمية، فالتحلية تحليل اليمين، فكأن اليمين عقد، والكفارة حلٌّ وقيل: التحلة الكفارة، أي: أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف» .(19/192)
فصل
قال ابن الخطيب: وتحلة القسم على وجهين:
أحدهما: تحليله بالكفارة كما في هذه الآية.
وثانيهما: أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر، كما روي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ» أي: زماناً يسيراً.
وقرىء: «كفَّارة أيمانِكُم» .
قوله: {والله مَوْلاَكُمْ} .
أي: وليّكم وناصركم في إزالة الحظر، فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة {وَهُوَ العليم الحكيم} .(19/193)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قوله: {وَإِذَ أَسَرَّ} .
العامل فيه «اذكر» فهو مفعول به لا ظرف.
والمعنى: اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه، يعني حفصة «حَدِيثاً» يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك.
وقال الكلبيُّ: أسرَّ إليها أن أباك عائشة يكونان [خليفتين] من بعدي على أمَّتي.
وقال ابن عباس: أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة، فذكرته حفصة.(19/193)
روى الدارقطني في سننه عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} ، قال: «اطلعت حفصة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أم إبراهيم، فقال:» لا تُخبري عائِشَة «، قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره اللَّهُ عليه،» فَعرَّف بعضهُ، وأعْرَضَ عن بَعْضٍ «، قال: أعرض عن قولها:» إن أباك وأباها يكُونانِ خَليفَتيْنِ مِنْ بَعْدِي «» ، كره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينشر ذلك بين الناس.
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي: أطلعه الله على أنها قد نبأت به.
قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} .
أصل «نَبَّأ وأنْبَأ، وأخبر وخبّر، وحدّث» أن يتعدى لاثنين [إلى] الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} تعدى لاثنين، حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، أي: «نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا» ، وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} ذكرهما، وقوله: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} ذكرهما، وحذف الجار.
وقرأ طلحة بن مصرف: «فلمَّا أنْبَأت» ، وهما لغتان «نَبَّأ وأنْبَأ» .
قوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} .
قرأ الكسائي: بتخفيف الراء.
قال القرطبي: «وبها قرأ علي، وطلحة بن مصرف، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر» .
قال عطاء: كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل «عَرَّفَ» مشددة حصبه بالحجارة.
وقرأ الباقون: بتشديد الراء.
فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً، أي «عرَّفَهَا بَعْضَه» ، أي: وقفها عليه على سبيل العَتْب.(19/194)
{وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} ، تكرماً منه وحلماً، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى: {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} ، أي: لم يعرفها إياه، ولو كانت مخففة لقال في ضده: وأنكر بعضاً.
وأما التخفيف: فمعناه جازى على بعضه، وأعرض عن بعض.
قال الفرَّاءُ: وتأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «عَرَفَ» بالتخفيف، أي: غضب فيه، وجازى عليه، كقولك لمن أساء إليك: «لأعرِفنَّ لك ما فعلت» أي: لأجَازِينَّك عليه.
فصل في نزول الآية
قال المفسرون: إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها، فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي، وهو من قبيل قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] أي: يجازيكم عليه، وقوله: {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها؛ لقوله تعالى: {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} .
وقرأ عكرمة: «عَرَّافَ» بألف بعد الراء.
وخرجت على الإشباع، كقوله: [الرجز]
4785 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ ... وقيل: هي لغة يمانية، يقولون: «عراف زيد عمراً» .
وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى «أعلم» تعدت لثلاثة.
وقال الفارسي: «تعدَّت بالهمزة أو التضعيف» .
وهو غلط، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف، والهمزة كانت متعدية لاثنين، فاكتسبت بالهمزة، أو التضعيف ثالثاً، والأمر ليس كذلك اتفاقاً.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ: عرف بعضه، وأعرض عن بعض تكرماً.
وقال الحسنُ: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} .(19/195)
وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكرٍ وعمر سيملكان بعده.
قال المفسرون: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جازى حفصة، بأن طلقها طلقة واحدة، فلما بلغ ذلك عمر، فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلقك، فأمره جبريل بمراجعتها، وشفع فيها، واعتزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نساءه شهراً، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم.
وقيل: هم بطلاقها، حتَّى قال له جبريل: لا تطلقها، فإنها صوَّامة قوَّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها.
قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} ، أي: أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، قالت: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} يا رسول الله عني، فظنت أن عائشة أخبرته، فقال - عليه السلام -: {نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} الذي لا يخفى عليه شيء. وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر، فأخبرت حفصة بذلك عائشة، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة، وأخبرها بما أخبرت به عائشة، وهو تحريم الأمة {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} يعني عن ذكر الخلافة، كره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينشر ذلك بين الناس، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي: أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه، قالت حفصة: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي: من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ؟ «قال: {نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} » .
قال ابن الخطيب: وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم.
قوله: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} .
شرط في جوابه وجهان:
أحدهما: هو قوله: {فَقَدْ صَغَتْ} .
والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.
و «صَغَتْ» مالت وزاغت عن الحق.
ويدل له قراءة ابن مسعود: «فقد زاغت» .(19/196)
قال القرطبيُّ: «وليس قوله {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} جزاء للشرط؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً، فجواب الشرط محذوف للعلم به، أي: إن تتوبا كان خيراً لكما؛ إذ قد صغت قلوبكما» .
والثاني: أن الجواب محذوف، وتقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء، ودلّ على المحذوف {فَقَدْ صَغَتْ} ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.
قال شهاب الدين: «وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً» .
وقوله: {قُلُوبُكُمَا} من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: «قَلبَاكُمَا» ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل. وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة.
ومن مجيء التثنية قوله: [الكامل]
4786 - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ ... كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع
والأحسن في هذا الباب الجمع، ثم الإفراد، ثم التثنية.
وقال ابن عصفور، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الطويل]
4787 - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا
وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية.
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس.
وقوله: «إنْ تَتُوبَا» فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فصل في المراد بهذا الخطاب.
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين: عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} أي: زاغت ومالت عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب العسل والنِّساء.(19/197)
قال ابن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة.
قوله: {وَإِن تَظَاهَرَا} .
أصله: «تَتَظاهَرَا» فأدغم، وهذه قراءة العامة.
وقرأ عكرمة: «تَتَظَاهَرَا» على الأصل.
والحسن وأبو رجاء، ونافع، وعاصم في رواية عنهما: بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها.
فصل في معنى تتظاهرا
معنى تتظاهرا، أي: تتعاونا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعصية والإيذاء.
روى مسلم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: مكثت سنةً، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ .
فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبةً لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك. وذكر الحديث.
قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} .
يجوز أن يكون «هو» فصلاً، و «مَولاهُ» خبره والمبتدأ جملة «إنَّ» .
والمعنى: الله وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما.
قوله: {وَجِبْرِيلُ} .
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى.
والمعنى: الله وليه، وجبريل وليه، فلا يوقف على «مَولاهُ» ويوقف على جبريل.
ويكون {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} مبتدأ، «والملائكة» معطوفاً عليه، والخبر «ظَهِيرٌ» ورفع «(19/198)
جبريل» نظراً إلى محل اسم «إن» وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك.
ويكون «جِبْريلٌ» وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويكون «جبريل» ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة.
ويكون «الملائكةُ» مبتدأ، و «ظهيرٌ» خبره، وأفرد لأنه بزنة «فَعِيل» .
قال القرطبيُّ: «هو بمعنى الجمع» .
قال أبو علي: قد جاء «فعيل» للكثرة، قال تعالى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 11] . ومعنى: «ظهيرٌ» أي: أعوان، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] .
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله «مَولاهُ» ، ويكون «جبريلُ» مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و «ظهيرٌ» خبر الجميع، فتختص الولاية بالله، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين، مرة بالتنصيصِ عليه، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ.
وهذا عكس ما في «البقرة» في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] ، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهناك ذكر العام بعد الخاص، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول.
وفي «جِبْريل» لغات تقدم ذكرها في «البقرة» .
قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} .
قال المسيِّبُ بن شريكٍ: {وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أبو بكر.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو عمر.
وقال عكرمة: أبو بكر وعمر.
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: « {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} : أبو بكر وعمر» .(19/199)
وعن أسماء بنت عميسٍ قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: « {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ} : علي بن أبي طالب» .
وقيل: خيار المؤمنين، و «صالح» : اسم جنس، كقوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] . قاله الطبريُّ.
وقال العلاءُ بنُ زياد، وقتادة، وسفيان: هم الأنبياء.
وقال ابن زيد: هم الملائكة.
وقال السديُّ: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ليس لفظ الواحدِ، وإنما هم «صَالِحُو المُؤمِنينَ» فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فصل في هذا التظاهر
قيل: كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النفقة، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن.
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثُمَّ أقبل عمرُ، فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً حوله نساؤه، واجماً ساكتاً، قال: فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة، فقمت إليها، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة «فقام أبو بكر إلى عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} [الأحزاب: 28] حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 29] » الحديث.(19/200)
قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} .
الظَّاهر أنه مفرد، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع.
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، نحو: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] . و {يَدْعُ الداع} [القمر: 6] ، و {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] ، إلى غير ذلك.
ومثل هذا ما جاء في الحديث: «أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ» .
قالوا: يجوز أن يكون مفرداً، وأن يكون جمعاً، كقوله: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً.
فإذا كتب هذا، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ.
وجوز أبو البقاء في «جبريل» أن يكون معطوفاً على الضمير في «مولاهُ» ، يعني المستتر، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه.
وجوز أيضاً: أن يكون «جبريل» مبتدأ، و «صالحُ» عطف عليه، فالخبرُ محذوفٌ، أي: مواليه.
فصل في المراد بصالح المؤمنين
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أراد بقوله «وصَالحُ المؤمنين» يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على من عاداه، وناصرين له: وهو قول المقاتلين.
وقال الضحاكُ: خيار المؤمنين.
وقيل: كل من آمن وعمل صالحاً.
وقيل: كل من برىء من النفاقِ.
وقيل: الأنبياء.
وقيل: الخلفاء.
وقيل: الصحابة.
قوله: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} .
قيل: كل «عَسَى» في القرآن واجب إلا هذا.(19/201)
وقيل: واجب، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن.
قال النحويون: «إنْ طلَّقكُنَّ» شرط معترض بين اسم «عَسَى» وخبرها، وجوابه محذوفٌ، أو متقدم، أي «إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى» .
وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم.
قال: وهو أولى من {يَرْزُقُكمْ} [يونس: 31] ، ونحوه لثقل التأنيثِ.
قوله: {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً} .
قرىء: مخففاً ومشدداً، كما تقدم في «الكهف» .
والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال.
وقوله: {أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} .
لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال معناه السديُّ.
وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، كقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فصل في الكلام على لفظ مسلمات
قوله: {مُسْلِمَاتٍ} إلى آخره. إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص.
قال سعيد بن جبير: يعني مخلصاتٍ.
وقيل: مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة {مُّؤْمِنَاتٍ} أي: مصدقات بتوحيد الله.
وقيل: مصدقات بما أمرنَ به: ونهين عنه {قَانِتَاتٍ} مطيعات، والقنوت: الطاعة.
وقيل: داعياتٍ بتوحيد الله.
وقيل: مصليات «تائبات» أي: من ذنوبهن، قاله السديُّ.
وقيل: راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تاركاتٍ لمحاب أنفسهن، {عَابِدَاتٍ} أي: كثيرات العبادةِ لله تعالى.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد(19/202)
{سَائِحَاتٍ} أي: صائمات، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير.
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات.
قال زيد: وليس في أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.
وقال الفرَّاء والقتبي وغيرهما: سمي الصائمُ سائحاً؛ لأن السائحَ لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام.
وقيل: يسحن معه حيثما ساح.
وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى، من ساح الماءُ إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة.
وقرأ عمرو بن فائد: «سَيِّحاتٍ» .
فصل في الكلام على الآية.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟ .
فالجواب: إذا طلقهن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لعصيانهن له، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيراً منهن.
فإن قيل: قوله: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} يوهم التَّكرارَ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء؟ فالجواب: الإسلام هو التصديق باللسان، والإيمان التصديق بالقلب، وقد لا يجتمعان فقوله {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} تحقيقاً لاجتماعهما.
قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات.
و «ثَيِّباتٍ» ونحوه لا ينقاس؛ لأنه اسم جنس مؤنث، فلا يقال: نساء حورات، ولا رأيت عينات.
و «الثَّيِّبُ» وزنها «فَيعِل» من «ثاب يثوب» أي: رجع، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها.(19/203)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
وأصله: «ثَيْوب» ك «سيِّد وميِّت» أصلهما: «سَيْود ومَيْوت» على الإعلال المشهور.
والمعنى: منهن ثيّب، ومنهن بِكْر.
قيل: إنما سميت ثيِّباً؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، وإلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
قال القرطبي: «والأول أصح؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج، وأما البكر: فهي العذراء، سميت بكراً؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها» .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ذكر الثيبات في مقام المدحِ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ .
فالجوابُ: يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لاختصاصهن بالمال، والجمال، أو النسب، أو المجموع، وإذا كان كذلك، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح، لجواز ذلك.
وقال الكلبيُّ: أراد بالثيِّب مثل: آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل: مريم ابنة عمران.
قال القرطبيُّ: «وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن، والله أعلم» .
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} .
«قُوْا» أمر من الوقاية، فوزنه «عُو» ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة، وهذا محمول عليه، واللام حذفت حملاً له على المجزوم؛ لأن أصله «أوقيوا» ك «اضربوا» فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم، واستثقلت الضمة على الياء، فالتقى ساكنانِ، فحذفت الياء؛ وضم ما قبل الواو لتصح.(19/204)
وهذا تعليل البصريين.
ونقل مكي عن الكوفيين: أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي، والقاصر، فحذفت الواو التي هي فاء في «يَقِي، ويَعِد» لتعديهما، ولم يحذف من «يَوْجَلُ» لقصوره.
قال: «ويرد عليهم نحو: يَرمِ، فإنه قاصر، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه» .
قال شهاب الدين: وفي هذا نظر؛ لأن «يَوْجَلُ» لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة.
وقلت: ولا مضمرة، تحرُّزاً من «تَضَع، ويَسَع، ويهب» .
وقرأ بعضهم: «وأهْلُوكُمْ» .
وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب «قُوْا» ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها: فإن قلت: أليس التقديرُ: «قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم» ؟ .
قلت: لا، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو، و «أنْفُسَكُمْ» واقع بعده، كأنه قيل: قوا أنتم، وأهلوكم أنفسكم، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب.
قوله: «ناراً» مفعول ثانٍ، «وقُودُهَا النَّاسُ» صفة ل «نَاراً» وكذلك «عَليْهَا مَلائكةٌ» ، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عَليْهَا» ، و «مَلائِكَةٌ» فاعل به، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى، وكذلك {لاَّ يَعْصُونَ الله} .
وتقدم الخلاف في واو {وَقُودُهَا} [البقرة: 24] ضمًّا وفتحاً في «البقرة» .
فصل في معنى الآية
قال الضحاك: المعنى: قو أنفسكم؛ وأهلوكم، فليقوا أنفسهم ناراً.(19/205)
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر، والدعاء، حتى يقيهم الله بكم.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقتادة ومجاهدٌ: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
قال ابن العربي: وهو الصحيحُ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل.
كقوله: [الرجز]
4788 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... .
وكقوله: [مجزوء الكامل]
4789 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيَّة.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ» .
قال الحسن في هذه الآية: يأمرهم، وينهاهم.
وقال بعض العلماء لما قال: «قُو أنفُسَكُمْ» : دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ» فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات، فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «حَقُّ الولدِ على الوالِدِ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ» .(19/206)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا نَحَلَ والدٌ ولَداً أفْضَل مِنْ أدبٍ حسنٍ» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ» .
قال بعض العلماء: ويخبر أهله بوقت الصلاة، ووجوب الصيام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي، فأيقظَ أهلَهُ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء» .
وذكر القشيريُّ قال: «فلما نزلت هذه الآية، قال رجلٌ: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ .
فقال:» تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمر الله «» .
وقال مقاتلٌ: ذلك حق عليه في نفسه، وولده، وأهله، وعبيده، وإمائه.
قال إلكيا: فعلينا تعليم أولادنا، وأهلينا الدين، والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب.
وهو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] ، وقوله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 14] .
وتقدم الكلام على قوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} في «البقرة» .(19/207)
فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] ، ثم قال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ .
فالجوابُ: أن الفساق، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: «قُوا أنفُسَكُمْ» باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد.
قوله: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} .
يعني الزَّبَانية، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلقِ، كما حبب لبني آدم الطعام، والشراب «شِدادٌ» ، أي: شداد الأبدان وقيل: غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ.
وقيل: «غِلاظٌ» في أخذهم أهل النار «شِدادٌ» عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: أغلاظ أجسامهم ضخمة «شِدادٌ» أي: أقوياء.
قال ابن عبَّاس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خزنة جهنم: «مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ» .
قوله: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} .
يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي: «مَا أمَرَهُمُوهُ» ، والأصل: «بِهِ» ، لا يقال: كيف حذف العائد المجرور، ولم يجر الموصول بمثله؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً.
وأن تكون مصدرية، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال، كأنه قيل: لا يعصون أمره.
وقوله: {وَيَفْعَلُونَ} .
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ .(19/208)
قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها.
والثانية: معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه» .
وقال القرطبي: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} أي: لا يخالفونه في أمر من زيادة، أو نقصان {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} في وقته لا يقدمونه، ولا يؤخرونه.
وقيل: أي: لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ، ولله أن يفعل ما يشاء.(19/209)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
أي: فإن عذركم لا ينفع، وهذا النهي لتحقيق اليأس {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، ونظيره: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم: 57] .
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} .
فرأ الجمهور: بفتح نون «نَصُوحاً» .
فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من: نصح الثوب، أي: خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية.
وقيل: هي من قولهم: عسل ناصح، أي: خالص.
وقرأ أبو بكر: بضم النون.
وهو مصدر «نَصَحَ» ، يقال: نصح نصحاً ونصوحاً، نحو: كَفَر كُفْراً وكُفُوراً، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً.
وفي انتصابه أوجه:(19/209)
أحدها: أنه مفعول له، أي: لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم.
والثاني: أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: ينصحهم نصحاً.
الثالث: أنه صفة لها، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر، أو على حذف مضاف، أي: ذات نصوحٍ.
وقرأ زيد بن عليّ: «تَوْباً» دون تاء.
فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه الآية بقوله: {يا أيها الذين كَفَرُواْ} أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم، بالتوبة في الدنيا، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ.
فصل
أمر بالتَّوبة، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح:
فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع.
روي عن عمر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ورفعه معاذٌ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال قتادة: «النَّصُوحُ» الصَّادقة الخالصة.(19/210)
وقيل: الخالصة. يقال: نصح له، أي: أخلص له القول.
وقال الحسن: «النَّصُوحُ» أن يبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره.
وقيل: هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلٍ منها.
وقال الكلبيُّ: التوبة النَّصوح، الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألاَّ يعود.
وقيل غير ذلك.
فصل في الأشياء التي يُتَاب منها
قال بعض العلماءِ: الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين، فإن كان حقاً لله عَزَّ وَجَلَّ كتركِ صلاة، أو صوم أو تفريط في زكاة؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.
وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] .
وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم، كما تقدم.
وكذلك الشُّرَّاب، والسُّراق، والزُّناة إذا صلحوا، وتابوا، وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا، هذا مذهب الشافعي.
فإن كان الذنبُ من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه، فإن لم يكن قادراً، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.
وإن كان لواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، ولا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفى، فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه، أو لم يعرفه، فذلك صحيح.(19/211)
وإن أساء رجل إلى رجل، بأن فزعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط وآلمه، ثم جاءه مستعفياً نادماً على ما كان منه عازماً على ألا يعود فلم يزل يتذلل له، حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط الذَّنب عنه، وهكذا إن شتمه بشتمٍ لا حدَّ فيه.
قوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .
«عَسَى» من الله واجبةً، وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» .
و «أنْ» في موضع نصب.
قوله: «ويُدخِلَكُمْ» . معطوف على «يُكَفِّرَ» .
قرأ العامة: بالنصب.
وابن أبي عبلة: بسكون اللام.
فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل، فسلبت الحركة؛ لأنه يتحلل من مجموع «يُكفِّرَ عَنْكُم» مثل «نطع وقمع» فيقال: فيهما: نَطْع وقَمْع.
ويحتمل أن يكون عطفاً على محل «عَسَى أن يُكَفِّرَ» كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، قاله الزمخشري.
يعني أن «عَسَى» في محل جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن «عَسَى» جوابٌ ولا تقع جواباً؛ لأنها للإنشاء.
قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي} .
«يَوْمَ» منصوب ب «يُدخِلَكُم» ، أو بإضمار «اذْكُرْ» .
ومعنى «يُخْزِي» هنا: يعذب، أي: لا يعذبه، ولا يعاقب الذين آمنوا معه.
قالت المعتزلة: قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب.
قال ابنُ الخطيب: وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألاَّ يخزيهم.(19/212)
من أهل السنَّةِ من يقف على قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي} ، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء: الفضيحة، أي: لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه.
قوله: {والذين آمَنُواْ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون منسوقاً على «النَّبِي» ، أي: ولا يخزي الذين آمنوا، فعلى هذا يكون «نُورُهُمْ يَسْعَى» مُستأنفاً، أو حالاً.
والثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره «نُورُهُمْ يَسْعَى» ، و «يَقُولُون» خبر ثاني أو حال.
وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد» وإعراب ما بعدها في «براءة» .
وقرأ أبو حيوة، وأبو نهل الفهمي: «وبإيْمَانهِمْ» بكسر الهمزة.
ومعنى قوله: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي: في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور، وخير.
وقيل: يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم «وبأيْمانِهِمْ» لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة، وقولهم: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس: يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين إشفاقاً.
وقال الحسنُ: إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى، كقوله: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] وهو مغفور.
وقيل: أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه، فيسألون إتمامه.
وقال الزمخشري: السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالجواد المسرع، وبعضهم حَبْواً، وهم الذين يقولون: ربنا أتمِمْ لنا نورنا.(19/213)
فإن قيل: إنه - تعالى - لا يخزي النبي في ذلك اليوم، ولا الذين آمنوا معه؟ .
فالجوابُ: لأن فيه إفادة الاجتماع، بمعنى لا يخزي الله المجموع، أي: الذين يسعى نورهم، وفيه فائدة عظيمة، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم.(19/214)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
أمره أن يجاهدَ الكُفَّار بالسيف، والمواعظ الحسنة، والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة، وإقامة الحُجَّة أن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنه لا نُور لهم يجوزون به على الصِّراط مع المؤمنين.
وقال الحسنُ: أي: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود وكانت الحدودُ تقامُ عليهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يرجع إلى الصنفين {وَبِئْسَ المصير} أي: المرجع.
قال ابن الخطيب: وفي مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {يا أيها النبي} في أول السورة وفي هذه الآية ووصفه بالنبي لا باسمه، كقوله لآدم: {يا آدم} [البقرة: 35] ، وموسى {ياموسى} [طه: 11] ، ولعيسى {ياعيسى} [المائدة: 116] دليل على فضيلته عليهم.
فإن قيل: قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يدل على أن مصيرهم بئس المصيرُ، فما فائدة ذلك؟ فالجوابُ: أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً، والمطلق يدل على الدوام، وغير المطلق لا يدل على الدوام.(19/214)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للصَّالحات، من النِّساء، فقال:(19/214)
{ضَرَبَ الله مَثَلاً} إلى آخره، تقدم الكلام على «ضرب» مع «المَثَل» ، وهل هو بمعنى «صير» أم لا؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة «النحل» .
فصل في ضرب الله لهذا المثل
ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين، وكان اسم امرأة نوح «والهة» ، وامرأة لوط «والغة» ، قاله مقاتل.
وقال الضحاكُ عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: إن جبريل نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره أن اسم امرأة نوح «وَاغِلة» وامرأة لوط «والهة» ، {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} يعني نوحاً ولوطاً.
ويجوز أن يكون «امْرَأة نُوحٍ» بدلاً من قوله «مثلاً» على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح.
ويجوزأن يكونا مفعولين.
قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} .
جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل «ضَرْبِ المثلِ» ، ولم يأت بضميرهما، فيقال: تحتهما أي: تحت نوح ولوط، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات، وهو الصَّلاح.
قوله: {فَخَانَتَاهُمَا} .
قال عكرمة، والضحاك: بالكفر.
وقال سليمان بن رقية، عن ابن عباس: كانت امرأة تقول للناس: إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه.
وعن ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما.(19/215)
قال القشيريُّ: وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين، وكانتا مشركتين وقيل: كانتا منافقتين.
وقيل: خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك.
وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.
قوله: {فَلَمْ يُغْنِيَا} .
العامة: بالياء من تحت، أي: لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله.
وقرأ مبشر بن عبيد: تغنيا - بالتاء من فوق -، أي: فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما.
وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة.
وجوابه: أن «عَنْ» هنا اسم كهي في قوله: [الكامل]
4790 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ، والجواب هناك.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: لم يدفع نوح، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة، لا بالوسيلة.
وقيل: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إنَّ محمداً يشفع لنا، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار «مكة» ، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما.
{وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم. قطع الله(19/216)
بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً.
قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ} .
واسمها آسية بنت مزاحم.
قال يحيى بن سلام: قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مثل ضربه الله يحذر به عائشة، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة، والثبات على الدين.
وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.
قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون.
وقيل: هي عمة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت: «ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله» . فرمى بروحها في الجنة، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.
وقال الحسنُ: رفعها تأكل في الجنة، وتشرب.
قال سلمان الفارسي: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة.
قوله: {إذْ قَالَتْ رَبِّ} .
منصوب ب «ضرب» ، وإن تأخر ظهور الضرب.
ويجوز أن ينتصب بالمثل.
قوله: {عِندَكَ} .
يجوز تعلقه ب «ابْنِ» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَيْتاً» كان نعته فلما قدم نصب حالاً.
و {فِي الجنة} .
إما متعلق ب «ابْنِ» وإما بمحذوف على أنه نعت ل «بَيْتاً» .(19/217)
فصل في قصة امرأة فرعون.
قال المفسرون: لما كانت تعذب في الشمس، وأذاها حرّ الشمس {قَالَتْ: رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك، فقبض رُوحها.
وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ، حتى رأت مكانها في الجنَّة، وانتزع روحها، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً.
وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة، فهي فيها تأكل، وتشرب، وتتنعم.
قوله: {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} .
تعني بالعمل: الكفر.
وقيل: «من عمله» ، أي: من عذابه وظلمه.
وقال ابن عباس: الجماع.
{وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} ، أي: الكافرين.
قال الكلبيُّ: أهل «مصر» .
وقال مقاتل: القبط.
قوله: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ} .
عطف على {امرأة فِرْعَوْنَ} .
ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين، وللمؤمنين بامرأتين.
وقال أبو البقاء: «ومَرْيَمَ» أي: «واذكر مريم» .
وقيل: أو «ومثل مريم» .
وقرأ العامة: «ابْنَة» بنصب التاء.
وأيوب السختياني: بسكون الهاء، وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
والعامة أيضاً: «فَنَفَخْنَا فيْهِ» أي: في الفرجِ.(19/218)
وعبد الله: «فِيْهَا» أي: في الجملة. وقد تقدم في «الأنبياء» مثله.
والعامة أيضاً: «وصَدَّقتْ» بتشديد الدال.
ويعقوب وقتادة وأبو مجلز، وعاصم في رواية: بتخفيفها، أي: صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.
والعامة على: «بِكَلمَاتِ» جمعاً.
والحسن ومجاهد والجحدري: «بِكلمَةِ» بالإفراد.
فقيل: المراد بها عيسى؛ لأنه كلمةُ الله.
فصل في مريم ابنة عمران
ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.
وقوله: {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} عن الفواحش.
وقال المفسرون هنا: أراد بالفرج الجيب، لقوله {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.
وهي في قراءة أبيٍّ: {فنفخنا في جيبها من روحنا} ، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً، ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] .
ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.
ومعنى «فَنَفَخْنَا» أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها «مِنْ رُوحِنَا» أي: روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى، وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: قول جبريل لها: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] الآية.
وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله كما تقدم.
وقيل: {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.
قوله: {وَكُتُبِهِ} .
قرأ أهل «البَصْرة» وحفص: «وكُتُبِهِ» على الجمع.
وقرأ الأخرون: «وكِتَابِهِ» على التوحيد.(19/219)
والمراد منه الكثرة، فالمراد به الجِنْس، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى.
وقرأ أبو رجاء: «وَكُتْبِهِ» بسكون التاء، وهو تخفيف حسن.
وروي عنه: «وكَتْبِهِ» بفتح الكاف.
قال أبو الفضل: مصدر وضع موضع الاسم، يعني ومكتوبه.
فصل في المراد بالكتب
أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى.
وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} .
يجوز في «مِن» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها للتبعيض، وقد ذكرهما الزمخشريُّ، فقال: و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {مِنَ القانتين} على التذكير؟ .
قلت: القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.
ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة.
وقال عطاء: من المصلّين بين المغرب والعشاء.
وعن معاذ بن جبلٍ: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لخديجة وهي تجود بنفسها: أتكرهين ما قد نزل بك، وقد جعل اللَّهُ في الكره خيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال: حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران، فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله» .
[قال ابن الأثير: الرفاء والبنين: الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء، وهو مهموز.
وذكره الهروي في «المعتلّ» قال: «وهو على معنيين:
أحدهما: الاتفاق وحسن الاجتماع، والآخر: من الهدوء والسكون، وأما المهموز(19/220)
فمن قولهم: رَفَأتُ الثَّوب رفاءً، ورفوتُه رفواً» انتهى] .
وروى قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ: مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ» .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} أعطاهُ اللَّهُ تَوْبَةٌ نَصُوحاً» .(19/221)
سورة الملك
مكية، وتسمى الواقية، والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة؛ لأنها تنقي وتنجي من عذاب القبر.(19/222)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وعن ابن شهاب: أنه كان يسميها المجادلة؛ لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف وثلاثمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} .
«تبارك» تفاعل من البركة وقد تقدم.
وقال الحسنُ: تقدّس.
وقيل: دام، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لدوامه {الذي بِيَدِهِ الملك} أي: ملكُ السموات والأرض في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عبَّاس: {بِيَدِهِ الملك} : يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء، ويُحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع.
قال ابن الخطيب: هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر، والنهي، والحل والعقد، ولا مدخل للجارحة.
قال الزمخشريُّ: {بِيَدِهِ الملك} كل موجود، وهو على كل ما لم يوجد قدير:(19/222)
قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يدل على أن المعدوم شيء؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود؛ لأن القدرة مؤثرة، والعدم نفي محض، فلا يكون أثراً لها، فوجب أن يكون المعدوم شيئاً.
فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله، وأبطلوا القول بالطَّبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجوداً لأفعالٍ نفسيةٍ، لقوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فصل في وحدانية الله
دلّت هذه الآية على الوحدانية؛ لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولاً، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيلزم وقوع مخلوق من خالقين، وهو محال؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال.
فصل في الرد على جهم
احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، فقال: لوكان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله تعالى: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لكن كونه قادراً على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئاً.
والجواب: لما دلّ قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله} [الأنعام: 109] على أنه - تعالى - شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذن دلّت هذه الآيةُ على أنَّ العامَّ المخصوص واردٌ في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز، بل واقع.
قوله: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} .
قيل: خَلَق الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة، لأن الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} [الشورى: 49] .
وقيل: قدمه؛ لأنه أقدم، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه.(19/223)
وقال قتادة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
«إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ» .
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ: الفَقْرُ، والمَرَضُ والمَوتُ» .
وقيل: إنما قدم الموت على الحياة؛ لأن من نصب الموت بين عينيه، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح.
قال ابن الخطيب: قالوا: الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في الموت.
فقيل: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقال أصحابنا: إنه صفة وجودية مضادة للحياة، واحتجوا بقوله تعالى: {الذي خَلَقَ الموت} والعدم لا يكون مخلوقاً، وهذا هو التحقيق.
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ: أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي.
قال ابن الخطيب: وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل، والتصوير، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا.
فصل في الموت والحياة
حكى ابنُ عباس، والكلبي ومقاتلٌ: أن الموت والحياة يجسمان، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء، ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها، فألقاها على العِجْل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.(19/224)
وعن مقاتل: «خَلَقَ المَوْتَ» يعني: النُّطفة والعلقة والمُضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنساناً، ونفخ فيه الروح، فصار إنساناً.
قال القرطبيُّ: وهذا حسن، يدل عليه قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} . متعلق ب «خلق» .
وقوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} تقدم مثله في أول «هود» [الآية 7] .
وقال الزمخشريُّ هنا: «فإن قلت: من أين تعلق قوله {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، بفعل البلوى؟ قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول: علمته هو أحسن عملاً، فإن قلت: أتسمي هذا تعليقاً؟ .
قلت: لا، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً» .
قال شهاب الدين: «وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل، فيقولون في:» عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ «: إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ؛ لأن» نظر «يتعدى به» .
فصل في اللام في قوله: ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ: اللام في «لِيَبْلوَكُمْ» تتعلق بخلقِ الحياة، لا بخلق الموت.
وقال الفراء والزجاج أيضاً: لم تقع البلوى على «أي» لأن فيما بين البلوى و «أي» إضمار فعل كما تقول: «بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع» ، ومثله قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] ، أي: سلهم، ثم انظر أيهم فأيهم، رفع بالابتداء، والمعنى: ليبلوكم ليعلم، أو فينظر أيكم أحسن عملاً.
قال ابن الخطيب: «أيُّكُمْ» مبتدأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.(19/225)
فصل في الابتلاء
الابتلاءُ: هو التجربة، والامتحان، حتى يعلم أنه هل يطيع، أو يعصي، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] .
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي: أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً.
وقال ابن عمر: «تلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} حتَّى بلغ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال:» أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ «» .
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره.
وقيل: خلق الله الموت للبعث، والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء «وهُوَ العَزِيزُ» في انتقامهِ ممن عصاه «الغَفُورُ» لمن تاب.
فصل فيمن قالوا: إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: «ليَبْلُوكُمْ» قالوا: وهذه اللام للغرض كقوله تعالى {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، والجواب: أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً، فكذلك هاهنا، إنه يشبه الغرض، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ.
قوله: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ، نعتاً، أو بياناً أو بدلاً.(19/226)
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ، أو مفعول فعل مقدر.
وقوله: «طِباقَاً» صفة ل «سَبْعَ» ، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جمع طبق، نحو: جبل وجبال.
والثاني: أنه جمع طبقة، نحو: رحبة ورحاب.
والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً.
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة، وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً. من قولهم: طابق الفعل، أي: جعله طبقةً فوق أخرى.
روي عن ابن عباس: «طِبَاقاً» ، أي: بعضها فوق بعض، والملتصق منها أطرافها.
قال القرطبيُّ: وقيل: مصدر بمعنى المطابقة، أي: خلق سبع سمواتٍ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً؛ لأنه مفعول ثان، فيكون «خَلَقَ» بمعنى جعل وصيّر.
وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً، فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن «سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ» بالخفض على النَّعت ل «سماواتٍ» نظيره: {وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 42] .
فصل في الدلالة على القدرة
قال ابن الخطيب: دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه.
أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة.
وثانيها: من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص.
وثالثها: أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة، والبطء إلى جهة معينة.
ورابعها: كونها في ذواتها محدثة، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
قوله {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} . «تَفاوتٍ» هو مفعول «ترى» و «مِنْ» مزيدة فيه. وقرأ الأخوان: «تَفَوُّت» بتشديد الواو دون ألف.(19/227)
قال القرطبيُّ: «وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه» .
والباقون: بتخفيفها بعد ألف، وهما لغتان بمعنى واحد، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد، قاله الفرَّاء.
وقال الأخفش: «تَفَاوُتٍ» أجود؛ لأنهم يقولون: تفاوت الأمر، ولا يكادون يقولون: «تفوت» .
واختيار أبي عبيد: «تفوت» ، يقال: تفاوت الشيء إذا فات.
واحتج بما روي في الحديث: أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: «أمثلي يتفوت عليه في ماله» .
قال النحاس: وهذا مردود على أبي عبيد، لأن «يتفوت» أي: يضاف في الحديث، «تفاوُتٍ» في الآية أشبه، كما يقال: تباين، تفاوت الأمر إذا تباين، أو تباعد، أي: فات بعضها بعضاً نقله القرطبي.
وحكى أبو زيد: تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها.
[والقياس] : الضَّمُّ كالتقابل، والفتح والكسر شاذان.
والتفاوت: عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله: «طِبَاقاً» وأصلها: ما ترى فيهن، فوضع مكان الضمير.
قوله: {ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ} تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على سببب سلامتهن، وهو أنه خلق الرحمن، قاله الزمخشري.
وظاهر هذا أنها صفة ل «طِبَاقاً» ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل.
وقال أبو حيَّان: الظَّاهر أنه مستأنفٌ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض، و «خَلق» مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف، أي: في خلق الرحمن السماواتِ، أو كل مخلوق، وهو أولى ليعم، وإن كان السياق مرشداً للأول.
فصل في معنى الآية
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج، ولا تناقض، ولا تباين، بل هي(19/228)
مستقيمة مستوية دالة على خالقها، وإن اختلفت صوره وقيل: المراد بذلك السماوات خاصة، أي: ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرق.
وقال السديُّ: «مِنْ تفَاوُتٍ» أي: من اختلاف، وعيب بقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن.
وقيل: «التفاوت» الفطور، لقوله بعد ذلك: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} ، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 65] .
قال القفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحتمل أن يكون المعنى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} في الدلالة على حكم الصانع، وأنه لم يخلقها عبثاً.
فصل في الخطاب في الآية لمن؟
الخطاب في قوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} إما للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله {فارجع البصر} ، {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ} .
فصل فيما تدل عليه الآية
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً، فلا بد وأن يكون عالماً، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله، قال: - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص، والعيب، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل، وبعضه سفه. والجواب: أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً.(19/229)
فصل في السموات السَّبع
روى البغويُّ عن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة، صُفْرٌ، وقال: نحاس، والخامسة: فضّة، والسادسة: ذهب، والسَّابعة: ياقوتة حمراء، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور.
قوله
{فارجع
البصر} . مسبب عن قوله {مَّا ترى} .
و «كرتَيْنِ» نصب على المصدر كمرتين، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته، بل التكثير بدليل قوله: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مزدجراً وهو كليل، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين، ولا ثلاث، وإنما المعنى كرات، وهذا كقولهم: «لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ، ودَوالَيْك، وهَذَاذَيْكَ» لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد، إنما يريدون التكثير أي: إجابة لك بعد أخرى. وإلا تناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة؛ كقوله: [البسيط]
4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ..... ... ... ... ... ... ... . .
أي: قبور كثيرة ليتم المدح.
وقال ابن عطية: «كَرَّتَيْنِ» معناه: مرتين، ونصبها على المصدر.
وقيل: الأولى ليرى حسنها، واستواءها، والثانية لينظر كواكبها في سيرها، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط.
قوله: {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} .
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه «فارْجعِ البصَرَ» مضمناً معنى «انظُر» ؛ لأنه بمعناه، فيكون هو المعلق.
وأدغم أبو عمرو: لام «هَلْ» في التاء هنا وفي «الحَاقَّة» ، وأظهرهما الباقون، وهو المشهور في اللغة.
والفطور: جمع فطرٍ، وهو الشَّقُّ، يقال: فطره فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شقّ، ومعناه: شق اللحم وطلع.
قال المفسرون: «الفُطُور» الصُّدوع والشُّقوق؛ قال الشاعر: [الوافر](19/230)
4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ ... هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ
قوله: «ينقلبْ» .
العامة: على جزمه على جواب الأمرِ.
والكسائي في رواية برفعه. وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً مقدرة.
والثاني: أنه على حذف الفاءِ، أي: فينقلب.
و «خَاسِئاً» حال وقوله: «وهُو حَسِيرٌ» حال، إما من صاحب الأولى، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها، فتكون متداخلة. وقد تقدّمتا «خاسئاً» و «حسير» في «المؤمنين» و «الأنبياء» .
فصل في تفسير الآية
لما قال: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} كأنه قال بعده: ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر، واردد النظر مرة أخرى، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة.
قال القرطبي: أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به، ويتفكَّروا في قدرته، فقال: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} أي: اردُدْ طرفك إلى السماء، ويقال: قلَّب بصره في السماء، ويقال: اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء، والمعنى متقارب، وإنما قال: «فارْجع» - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور؛ لأنه قال: «مَا تَرَى» والمعنى: انظر، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ، قاله قتادة.
قال مجاهد والضحاك: و «الفطور» الشقوق.
وقال قتادة: من خلل.
وقال السديُّ: من خروق.(19/231)
وقال ابن عبَّاس: مِنْ وهَنٍ.
وقوله: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} في موضع المصدر؛ لأن معناه: رجعتين.
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً، بل يتحيّر بالنظر إليها.
وقال ابن الخطيب: «معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل، والعيب، بل يرجع إليك» خَاسِئاً «أي: مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك: خسأت الكلب إذا باعدته، وطردته» .
وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى، وانخسأ الكلب أيضاً، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً، أي: ستر.
قال ابن عبَّاسٍ: الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى.
وقال المبردُ هاهنا: الخاسىء المبعد المصغر.
وقوله: «وهُو حَسِيرٌ» أي: قد بلغ الغاية في الإعياء، فهو بمعنى «فاعل» من الحسور الذي هو الإعياء، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ ... إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا
يقال: حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كلَّ وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر: [الطويل]
4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ
وقيل هو النادم؛ قال: [الرمل]
4795 - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ ... يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ(19/232)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} ، أي: السماء القربى؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس، والمعنى: السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي: الدنيا منكم لأنها «فعلى» تأنيث «أفعل» التفضيل، «بِمصَابِيحَ» جمع مصباح وهو السِّراجُ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار.
قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} .
الضمير في «وَجَعَلْنَاهَا» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «مَصَابِيحَ» .
قيل: وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ، والكوكب في مكانه لا يرجم به. قاله أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى؟ .
قال المهدويُّ: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب.
والثاني: أن الضمير يعود على السماء، والمعنى: وجعلنا منها؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم.
قاله أبو حيان. وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء.
قال القرطبي: والمعنى جعلنا شُهُباً، فحذف المضاف، بدليل قوله {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ، قال: وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها.
قال المهدويُّ: وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب.
وقال القشيريُّ: وأحسن من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين.
والرجوم: جمع رجمٍ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير.(19/233)
ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم.
وجمع المصدر باعتبار أنواعه، فعلى الأول يتعلق قوله: «للشَّياطينِ» بمحذوف على أنه صفة ل «رُجُوماً» .
وعلى الثاني: لا تعلق له؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً.
ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول، فيتعلق بمحذوف.
وقيل: الرجوم هنا الظنون، والشياطين: شياطين الإنس.
كما قال: [الطويل]
4796 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
فيكون المعنى: جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ، لشياطين الإنس، وهم الأحكاميون من المنجمين.
فصل في خلق النجوم
قال قتادةُ: خلق الله النُّجوم لثلاثٍ: زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى، وظلم.
وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتَّخذون الكهانة، ويتَّخذون النُّجوم علةً.
فصل
قال ابن الخطيب: ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا، أو في سماوات أخرى فوقها، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا، ولتلوح منها، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن، فيجب أن تكون كلها هناك.
وإنما قلنا: إن بعضها في الفلك الثامن، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف(19/234)
بهذه السيارات، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا: إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة.
قال ابن الخطيب: وهذه استدلالاتٌ ضعيفة؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة.
فصل في سبب الرجوم
قال ابن الخطيب: يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرست السماء ورجمت الشياطين، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض، فيلقيه إلى النَّاس، فيختلط على النبي أمره، ويرتاب النَّاس بخبره. ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه:
أحدها: أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة، قالوا: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها، فتلك الشعلة هي الشهاب.
وثانيها: أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك.
وثالثها: أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ، فالجن لا يقدرون على خرقها؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم، وإذا سمعوه من ذلك البعد، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض.
ورابعها: أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم، وعلى التقديرين، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها.(19/235)
وخامسها: أن الشياطين مخلوقون من النار، والنار لا تحرق النار، بل تقويها.
وسادسها: إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها؟ .
وسابعها: أن هذ الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض، لأنا نشاهدها بالعين، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب.
وثامنها: إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين؟ .
وتاسعها: لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء؟ .
والجواب عن الأول: أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وعن الثاني: أنه إذا جاء القدر عمي البصر، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها.
وعن الثالث: أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام.
وعن الرابع: ما روى الزهري عن علي بن الحسين، عن علي بن أبي طالب قال: «بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً في نفرٍ من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث؟ قال: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ، ولا لِحياتهِ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ؟ فيُخبرُونهُمْ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ «» .
وعن الخامس: أنَّ نار النجومِ قد تكون أقوى من نارِ الجن.
وعن السادس: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخبر ببطلان الكهانةِ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وعن السابع: أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا.
وعن الثامن: لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.(19/236)
وعن التاسع: أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} . لما ذكر منافع الكواكب، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} ، أي: وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة، وهو أشدُّ الحريقِ.
قال المبردُ: سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير، مثل قوله: مقتولة وقتيل.
وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة؛ لأن قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} خبر عن الماضي.
قوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ} خبر مقدم في قراءة العامة، و «عذابُ جهنَّم» مبتدؤه.
وفي قراءة الحسن والأعرج والضحاك: بنصب «عَذَابَ» فيتعلق ب «أعْتَدْنَا» عطفاً على «لَهُمْ» و «عَذابَ السَّعيرِ» ، فعطف منصوباً على منصوب، ومجروراً على مجرور، وأعاد الخافض، لأن المعطوف عليه ضمير.
والمخصوص بالذَّم محذوف، أي: وبئس المصير مصيرهم، أو عذاب جهنَّم، أو عذاب السَّعير.
فصل في معنى الآية
والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك، ثم إنه - تعالى - وصف ذلك العذاب بصفات، أولها قوله تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} يعني الكفار {إِذَآ أُلْقُواْ} طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} أي: صوتاً.
قال ابن عباس: الشَّهيق لجهنم عند إلقاء الكُفار فيها كشهيق البغلةِ للشعير.
وقال عطاءٌ: الشَّهيق من الكُفَّار عند إلقائهم في النار.
وقال مقاتلٌ: سمعُوا لجهنم شهيقاً.
قال ابن الخطيب: ولعل المراد تشبيه صوت لهبِ النَّار بالشهيق، وهو كصوت الحمار.
وقال المبرد: هو - والله أعلم - تنفس كتنفس التغيُّظ.
قال الزجاجُ: سمع الكُفَّار للنار شهيقاً، وهو أقبح الأصوات.(19/237)
وقيل: سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] .
قوله: «لَهَا» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شَهيقاً» لأنه في الأصل صفته، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: سمعوا لأهلها، وهي تَفُور: جملة حالية.
فصل في معنى الشهيق والزفير
قال القرطبيُّ: «والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، وقد مضى في سورة» هود «» .
وقوله: {وَهِيَ تَفُورُ} . أي: تغلي؛ ومنه قول حسَّان: [الوافر]
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لا شيءَ فِيهَا ... وقِدْرُ القَوْمِ حَامِيَةٌ تَفورُ
قال مجاهد: تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير.
وقال ابن عباس: تغلي بهم على المراجل، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول: فلان يفور غيظاً.
قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} .
قرأ العامة: «تَميَّزُ» بتاء واحدة مخففة، والأصل «تتميَّز» بتاءين، وهي قراءة طلحة.
والبزي عن ابن كثير: بتشديدها، أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] ، و {نَاراً تلظى} [الليل: 14] وبابه.
وأبو عمرو: يدغم الدَّال في التاء على أصله في المتقاربين.
وقرأ الضحاك: «تَمَايَزُ» والأصل: «تتمايزُ» بتاءين، فحذف إحداهما.
وزيد بن علي: «تَمِيزُ» من «مَازَ» .(19/238)
وهذا كله استعارة من قولهم: تميز فلان من الغيظ، أي: انفصل بعضه من بعض من الغيظ، فمن سببية، أي: بسبب الغيظ، ومثله في وصف كَلْب، أنشد عروة: [الرجز]
4798 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ إهَابِهِ
قال ابن الخطيب: ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب، فيعظم مقداره، فيزداد امتلاء العروق، حتَّى تكاد تتمزَّق.
فإن قيل: النَّار ليست من الأحياء، فكيف توصف بالغيظ؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب: أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة، فلعل الله - تعالى - يخلق فيها وهي نار حياة، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته، أو يكون المراد الزبانية.
فصل في تفسير الآية
قال سعيد بن جبير {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} يعني تنقطع، وينفصل بعضها من بعض.
وابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى.
قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} . تقدم الكلام على «كُلَّمَا» . وهذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير جهنم.
والفَوْج: الجماعة من الناس، والأفْوَاج: الجماعات في تفرقة، ومنه قوله تعالى: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ: 18] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} وهم مالك، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ، أي: رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم، حتى تحذروا.
قال الزَّجَّاج: وهذا التوبيخُ زيادة لهم في العذاب.
قوله: {بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ} . فيه دليل على جواز الجميع بين حرف الجواب، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا: بلى، لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبُول قول النذير؛ فعطفوا عليه: «فكَذَّبْنَا» إلى آخره.(19/239)
قوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير، أي: قلنا: «مَا أنْزَلَ اللَّهُ من شَيءٍ» أي: على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} اعترفوا بتكذيب الرسلِ، ثم اعترفوا بجهلهم، فقالوا وهم في النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} من النذر يعني: الرسل ما جاءوا به «أوْ نَعْقِلُ» عنهم.
وجوز الزمخشريُّ أن يكون من كلام الرُّسل للكفرةِ، وحكاه الكفرة للخزنةِ، أي: قالوا لنا هذا فلم نقبلهُ.
قال ابن الخطيب: يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار، أي: لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} .
قوله: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} .
قال ابن الخطيب: احتجّ بهذه الآية من قال: إنَّ الدين لا يتم إلا بالتعليم؛ لأنه قدم السمع على العقل، فدل على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم.
وأجيب: بأنه إنما قدم السمع؛ لأن الرسول إذا دعا، فأول المراتب أنه يسمع كلامه، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر.
فصل فيمن فضل السمع على البصر
واحتج بهذه الآيةِ من قدم السمع على البصر، قالوا: لأنه جعل للسمع مدخلاً في الخلاص من النار، والفوز بالجنة، والبصر ليس كذلك، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
قوله «بِذنْبِهِمْ» وحَّده؛ لأنه مصدر في الأصل، ولم يقصد التنويع بخلاف «بِذُنُوبِهِم» في موضع؛ ولأنه في معنى الجمع؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم.
فصل في المراد بالضلال الكبير
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه.
فصل في الرد على المرجئة
احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار قالوا: لأنه تعالى(19/240)
حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا: فكذبنا النذير، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار، وأجاب القاضي عنه: بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة، وكل من يدخل النار مخالف للدليل.
فصل في معرفة الله بعد ورود السمع
واحتج بهذه الآية من قال: إن معرفة الله، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع، قالوا: لأنه تعالى إنما عذبهم؛ لأنه أتاهم النذير، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا.
قوله: {فَسُحْقاً} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المفعول به، أي: ألزمهم الله سحقاً.
والثاني: أنه منصوب على المصدر، تقديره: «أسحقهم الله سحقاً» فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو «جَدْعاً له، وغفراً» فلا يجوز إظهار عامله.
واختلف النحاة: هل هو مصدر لفعل ثلاثي، أم لفعل رباعي، فجاء على حذف الزوائد.
فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر «أسْحَقهُ اللَّهُ» أي: أبعده.
قال الفارسي: فكان القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كقوله: [الوافر]
4799 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي
أي: تقديري.
والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه سمع «سَحَقَهُ اللَّهُ» ثلاثياً؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
4800 - يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب: أسحقه الله سحقاً.(19/241)
وقرأ العامة: بضم وسكون.
والكسائي وآخرون: بضمتين.
وهما لغتان، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف، و «لأصْحابِ» بيان ك {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، وسقياً لَكَ.
وقال مكيٌّ: «والرفع يجوز في الكلام على الابتداء» .
أي: لو قيل: «فسحق» جاز، لا على أنه تلاوة، بل من حيث الصناعة، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه، فإنه قال: «فسحقاً، نصباً على جهة الدعاء عليهم، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول: سُحْقاً لزيد، وبُعْداً له، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، فأما ما وقع وثبت، فالوجه الرفع، كما قال تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] و {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] ، وغير هذا من الأمثلة» ، انتهى.
فضعف الرفع كما ترى؛ لأنه لم يقع، بل هو متوقع في الآخرة.
فصل
قال المفسِّرون: {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} ، أي: فَبُعْداً لهم من رحمة الله.
وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: هو واد في جهنَّم يقال له: السحق.(19/242)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
قوله: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} ، نظيره: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} [ق: 33] وقد(19/242)
مضى الكلام فيه. أي: يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو «بالغَيْبِ» وهو عذاب يوم القيامة «ويَخْشَوْنَهُ» في دار التكليف، أي: يتقون جميع المعاصي.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق، فله الأمران، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع، فتعين العكس.
{لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنَّة.
قوله: {لَهْم مَّغْفِرَةٌ} الأحسن أن يكون الخَبَرَ «لَهُمْ» و «مَغْفرةٌ» فاعل به، لأن الخبر المفرد أصل، والجار من قبيل المفردات، أو أقرب إليها.
قوله: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} .
اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو جهرتم به، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور، يعني بما في القلوب من الخير والشر.
قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض: أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ، فنزلت: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} يعني وأسروا قولكم في أمر محمد.
وقيل: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحدة في علمه تعالى بها، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها.
قوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . في «مَنْ خَلَقَ» وجهان:
أحدهما: أنه فاعل «يَعْلَمُ» والمفعول محذوف، تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ، وبه بدأ الزمخشريُّ.
والثاني: أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى، و «مَنْ» مفعول به، أي: لا يعلم الله من خلقه.
قال أبو حيَّان: والظَّاهر أن «مَنْ» مفعول، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه، وهو الذي لطف علمه ودقّ، ثم قال: وأجاز بعض النحويين أن يكون «مَنْ» فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سرَّكُم، وجهركُم، وهو استفهام معناه الإنكار.(19/243)
قال شهاب الدينِ: «وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى، وقد أطنب مكي في ذلك، وأنكر على القائل به، ونسبه إلى ما ذكرت، فقال: وقد قال بعض أهل الزيغِ: إن» مَنْ «في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما، ولو أتت» مَا «في موضع» مَنْ «لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها، أو أظهروها خيراً كانت، أو شراً، ويقوي ذلك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ولم يقل: عليم بالمسرين والجاهرين، ويكون» مَا «في موضع نصبٍ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت» ما «في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ، وقوله: {بِذَاتِ الصدور} يمنع من ذلك» انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره، والمعنى الذي أبداه، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره: ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر «مَنْ خَلَقَ» الأشياء، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، ويجوز أن يكون «مَنْ خَلقَ» منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله، ثم قال: فإن قلت: قدرت في «ألاَ يَعْلَمُ» مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب، وأظهر باللسان من خلق، فهلاَّ جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى: ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير} لأنك لو قلت: ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً؛ لأن «ألاَ يَعْلَمُ» معتمد على الحال، والشيء لا يوقف بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: ألا يعلم السّر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد؟ .
قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون(19/244)
المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه، وما يخلقه.
قال ابن المسيِّب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير، وقد عصفت الريحُ، فوقع في نفس الرجل، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} ؟ .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم، منها «العَلِيمُ» ، ومعناه: تعميم جميع المعلومات، ومنها «الخَبِيرُ» ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها «الحَكِيمُ» ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها «الشَّهِيدُ» ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر، ومعناه: ألاَّ يغيب عنه شيء، ومنها «الحافظ» ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها «المُحصِي» ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور، واشتداد الريح، وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} .
فصل
لما قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم، فقال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الآية، والمعنى: أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية.
قال ابن الخطيب: فنقول: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة، وسكوناً، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها، وذلك غير معلومٍ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً، وبما في الصدور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟ .
فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر.(19/245)
قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير} .
قيل: اللطيف: العالم.
وقيل: هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب، والمراد به دقائق تدبيره لهم، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً.
قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، وكل هذا الخير الذي هيأته لك، ولا تأمن تأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم، ولو شئت خسفت بكم.
والذَّلُولُ: المنقاد الذي يذلّ لك، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد، أي: لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.
وقيل: يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا.
وقيل: إشارة إلى التمكن من الزرعِ، والغرس، وشق العيون، والأنهار، وحفر الآبار، وبناء الأبنية، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك.
وقيل: لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف، وكانت تبرد جداً في الشتاء.
قوله: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} . هذه استعارة حسنة جداً.
وقال الزمخشري: مثل لفرط التذليل، ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه، ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك.
فصل في هذا الأمر
هذا أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان.
وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها، ونواحيها، وآكامها وجبالها.(19/246)
وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب: «فِي منَاكبِهَا» في جبالها.
وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة. فقالت: مناكبها: جبالها، فصارت حُرَّة، فأراد أن يتزوجها، فسأل أبا الدرداء، فقال: «دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ» .
وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً: في طرفها وفجاجها، وهو قول السديِّ والحسن.
وقال الكلبيُّ: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه، وأصل الكلمة: الجانب، ومنه منكب الرجل والريح النكباء، وتنكب فلان عن فلان.
يقول: امشُوا حيث أردتم، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع.
وحكى قتادةُ عن أبي الجلد: أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألفاً، وللروم ثمانية آلافٍ، وللفرس ثلاثة آلافٍ، وللعرب ألفٌ.
قوله: {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} .
قال الحسن: ما أحله لكم.
وقيل: مما أنبته لكم.
وقيل: مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض «وإليْهِ النُّشورُ» المرجع.
وقيل: معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم، وإليه تبعثون من قبوركم.
قوله: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء} .
تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة «البقرة» .
وأن قنبلاً يقرأ هنا: بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل «وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ» ،(19/247)
وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين، وعدم ألف بينهما، وأما إذا ابتدأ، فيحقق الأولى، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم، ولم تبدل الأولى واواً، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها، وهي مفتوحة نحو «مُوجِل، ويُؤاخِذكُم» ، وقد مضى في سورة «الأعراف» عند قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} [الأعراف: 123] ، وإنما عددناه تذكيراً، وبياناً.
قوله: {مَّن فِي السمآء} . مفعول «أأمِنْتُمْ» وفي الكلام حذف مضاف، أي: أمنتم خالق السماوات.
وقيل: «فِي» بمعنى «على» ، أي: على السماء، كقوله:
{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] ، أي: على جذوع النخل.
وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك؛ لأنه اعتقد أن «مَنْ» واقعة على الباري، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن «مَنْ» هنا المراد بها: الملائكة سكان السماءِ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة.
وقيل: خوطبوا بذلك على اعتقادهم؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة، والذي تقدم أحسن.
قال ابن الخطيب: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب، فيكونُ أصغر منها، والعرش أكبر من السماء بكثير، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش، وهو باطل بالاتفاق، ولأنه قال: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} [الأنعام: 12] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: إما من في السموات عذابه، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، كما قال تعالى: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} [الأنعام: 3] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله، وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله.
قوله: {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} و {أَن يُرْسِلَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنهما بدلان من {مَنْ فِي السماء} بدل اشتمال، أي: أمنتم خسفه، وإرساله.
قاله أبو البقاء.
والثاني: أن يكون على حذف «مِنْ» ، أي: أمنتم من الخسف والإرسال، والأول أظهر.(19/248)
فصل
قال القرطبيُّ: ويحتمل أن يكون المعنى: أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي: تذهب وتجيء، والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر: [الطويل]
4801 - رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى ... دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ
جمع «حيزوم» وهو وسط الصدر.
وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض، فهو المور.
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور، فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
قال القرطبي: قال المحققُون: أمنتم من فوق السَّماء، كقوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض} [التوبة: 2] أي: فوقها لا بالمماسة والتحيُّز، لكن بالقهر والتدبير.
وقيل: معناه: أمنتم من على السماء كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] ، أي: عليها، ومعناه أنه مدبرها، ومالكها كما يقال: فلان على «العراق» ، أي: وليها وأميرها، والأخبار في هذا صحيحة، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ، لا يدفعها إلا ملحد، أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو والعظمة، لا بالأماكن والجهات والحدود؛ لأنها صفات الأجسامِ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء؛ لأن السماء مهبط الوحْي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
قوله {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} .
قال ابن عباس: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل.
وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء، لشدتها وقوتها.
وقيل: سحاب فيه حجارة.
قوله {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} .(19/249)
قيل: هاهنا النذير: المنذر، يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك، والمعنى: فستعلمون رسولي، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك.
وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، وكيف في قوله {كَيْفَ نَذِيرِ} [ينبىء] عن ما ذكرنا من صدق الرسول، وعقوبة الإنذار.
وقد تقدم أن «نَذِير، ونكير» مصدران بمعنى الإنذار؛ والإنكار.
وأثبت ورش ياء «نذيري» وقفاً، وحذفها وصلاً، وحذفها الباقون في الحالين.
قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} . يعني كفار الأمم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي: إنكاري وتغييري: قاله الواحديُّ.
وقال أبو مسلم: النكير عقاب المنكر، ثم قال: سقطت الياء من «نَذيرِي» ومن «نَكيرِي» حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها، والمتأخرة عنها.(19/250)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} .
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور، وصافاتٍ: أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن.
قال شهاب الدين: «صافَّاتٍ» يجوز أن يكون حالاً من «الطَّير» ، وأن يكون حالاً من «فَوقَهُمْ» إذا جعلناه حالاً، فتكون متداخلة، و «فَوقَهُمْ» ظرف ل «صافَّاتٍ» أو ل «يَرَوا» .
قوله: «ويَقْبِضْنَ» عطف الفعل على الاسم؛ لأنه بمعناه، أي: وقابضات، فالفعل(19/250)
هنا مؤول بالاسم عكس قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك.
وقول أبي البقاء: معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى، أي: يصففن ويقبضن، أي «صافَّاتٍ وقَابضاتٍ» لا حاجة إلى تقديره: يصففن ويقبضن؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل.
قال أبو حيان: «وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ} [العاديات: 3 - 4] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي؛ فإنه قبيح؛ نحو قوله: [الرجز]
4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر ... يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ
أي: قاصد في أسواقها وجائر» .
وكذا قال القرطبيُّ: هو معطوف على «صافَّاتٍ» عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: «بَاتَ يُغشِّيها» البيت.
قال شهاب الدين: هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية، ومفعول «يقبِضنَ» محذوف، أي: ويقبضن أجنحتهن.
قاله أبو البقاء، ولم يقدر ل «صَافَّاتٍ» مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها، والظاهر أن المعنى: صافات أجنحتها وقابضات، فالصف والقبض منها لأجنحتها.
ولذلك قال الزمخشري: «صافَّاتٍ» باسطات أجنحتهن، ثم قال: فإن قلت: لم قال: ويقبضن، ولم يقل: «قابضات» ؟ .
قلت: لأن الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.
قوله «مَا يُمسِكُهُنَّ» . يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً من(19/251)
الضمير في «يَقْبِضنَ» قاله أبو البقاء. والأول أظهر.
وقرأ الزهريُّ: بتشديد السِّين.
فصل في معنى: يقبضن
قوله: «ويَقْبِضْنَ» .
أي: يضربن بها لجنوبهن.
قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحية: صاف، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض، لأنه يقبضهما.
قال أبو خراش الشاعر: [الطويل]
4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ ... يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.
وقوله «ما يُمسِكُهنَّ» أي: ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
قال ابن الخطيب: وفيه وجهان:
الأول: المراد من «البصير» كونه عالماً بالأشياء الدقيقة، كما يقال: فلان له بصر في هذا الأمر، أي: حذق.
والثاني: أن يجري اللفظ على ظاهره، فتقول: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} فيكون رائياً لنفسه، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا: إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً، وأن كل الموجودات كذلك، فإن قيل: البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال: فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا: لا نسلم، فإنه يقال: إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات.
فصل
في قوله تعالى {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له، وقد نسبه للرحمن.
قوله: {أَمَّنْ هذا الذي} .
قرأ العامة: بتشديد الميم على إدغام ميم «أمْ» في ميم «مَنْ» و «أمْ» بمعنى «بَلْ» لأن بعدها اسم استفهام، وهو مبتدأ، خبره اسم الإشارة.(19/252)
وقرأ طلحة: بتخفيف الأول وتثقيل الثاني.
قال أبو الفضل: معناه: أهذا الذي هو جند لكم، أم الذي يرزقكم. و «يَنْصُركُمْ» صفة لجند.
فصل في لفظ جند
قال ابن عباس: «جُندٌ لَكُمْ» أي: حزب ومنعه لكم {يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن} ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: هذا الذي هو جند لكم، وهو استفهام إنكاري، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب، ولا حساب.
قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - معتمدين على شيئين:
أحدهما: قوتهم بعددهم ومالهم.
والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ} الآية، ورد عليهم الثاني بقوله: {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ} الآية.
قوله {إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} شرط، جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: أفمن يرزقكم غيره.
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله: {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} تقديره: «إن أرسل عليكم عذابه» ولا حاجة له صناعة.
فصل في معنى الآية
المعنى {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُم} أي: يعطيكم منافع الدنيا.
وقيل: من آلهتكم «إنْ أمسَكَ» يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى: {بَل لَّجُّواْ} ، أي: تمادوا وأصروا «فِي عُتُوٍّ» طغيان «ونُفورٍ» عن الحق، أو تباعد أو إعراض عن الحق.(19/253)
قوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى} . «مُكِبًّا» حال من فاعل «يمشي» .
قال الواحديُّ: «أكب» ، مطاوع كبه، يقال: كببته فأكب.
قال الزمخشريُّ: هو من الغرائب والشواذ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع، وما هو كذلك ولا شيء من بناء «أفعل» مطاوع، بل قولك: أكب، من باب «أنفض، وألأم» ومعناه: دخل في الكب، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع.
ومطاوع «كب، وقشع» انكب وانقشع.
قال أبو حيان: «ومُكِباً» حال من «أكب» وهو لا يتعدى، و «كب» متعد، قال تعالى {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] والهمزة فيه للدخول في الشيء، أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول: كببته فانكب. قال الزمخشريُّ: «ولا شيء من بناء» أفعل «مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه» انتهى.
وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه، وما جهله من كتاب سيبويه. انتهى.
قال شهاب الدين: انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة، وجعل يقول: إن مطاوع «كَبَّ» «انكب» لا «أكب» وأن الهمزة للصيرورة، أو للدخول في الشيء، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه، والله أعلم بصحتها: [الوافر]
4804 - وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم
وعلى تقدير التسليم، فالفاضل من عدت سقطاته.
قال القرطبيُّ: يقال: أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف، فإذا تعدى قيل: كبه الله على وجهه بغير ألف، وقوله: «أفَمنْ يَمْشي» هو المعادل ل {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً} .(19/254)
وقال أبو البقاء: «وأهْدَى» خبر «مَنْ يَمِشِي» وخبر «من» الثانية محذوف.
يعني أن الأصل: أم من يمشي سوياً أهدى، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن قولك: أزيد قائم، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر، نقول: هو معطوف على «زيد» عطف المفردات، ووحد الخبر لأن «أمْ» لأحد الشيئين.
فصل
قال المفسرون: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً} منكساً رأسه لا ينظر أمامه، ولا يمينه، ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه {كَمنْ يَمْشي سويّاً} مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه، وعن يمينه وعن شماله.
قال ابن عباسٍ: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق، فلا يزال ينكسه على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له.
قال قتادةُ: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا، يحشره الله يوم القيامة على وجهه.
وقال ابن عباس والكلبيُّ: عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: أبو بكر.
وقيل: حمزة.
وقيل: عمار بن ياسر.
قال عكرمة: وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي: إن الكافر لا يدري أعلى حق هو، أم على باطل، أي: هذا الكافر أهدى، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام.
قوله {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ} . أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} يعني القلوب.
قوله «قَلِيلاً» . نعت مصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و «ما» مزيدة أي: تشكرون قليلاً، والجملة من «تَشْكُرون» إما مستأنفة، وهو الظاهر، وإما حال مقدرة؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين.(19/255)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
والمراد بالقلة العدم، أو حقيقتها، أي: لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى، تقول: قلَّما أفعلُ كذا، أي: لا أفعله.
قال ابن الخطيب: وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم، وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} .
قوله: {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً، وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته ثالثاً، وهو قوله {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولهذا ختم الآية بقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة، فلهذا ختمها بقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
فصل في معنى «ذرأكم»
قال ابن عباسٍ: خلقكم في الأرض.
وقال ابن بحر: نشركم فيها، وفرقكم فيها على ظهرها {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازي كلاًّ بعمله.
{وَيَقُولُونَ
متى
هذا
الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: متى يوم القيامة ومتى هذا العذابُ الذي تعدوننا به؟ .
قال أبو مسلم: إنه تعالى قال: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} بلفظ المستقبلِ، وهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل، ويحتمل(19/256)
الماضي، والتقدير: وكانوا يقولون: متى هذا الوعد، ولعلهم كانوا يقولون ذلك سخرية، واستهزاء، وكانوا يقولونه إيهاماً للضعفة، ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤالِ، فقال {إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله} ، أي: قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره، نظيره: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] الآية {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: مخوف ومعلم لكم، ثم إنه تعالى بين حالهم عند ذلك الوعد وهو قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} ، أي: الموعود، أو العذاب زلفة، أي: قريباً، فهو حال.
وقال القرطبيُّ: «مصدر، بمعنى مزدلفاً، أي: قريباً، قاله مجاهد» .
ولا بد من حذف مضاف، أي: ذا زلفة، وجعل الزلفة مبالغة.
وقيل: «زُلْفَة» تقديره: مكاناً ذا زلفةٍ، فينتصب انتصاب المصدرِ.
فصل في المراد بالعذاب.
قال الحسنُ: عياناً. وأكثر المفسرين على أن المراد عذابُ الآخرةِ.
وقال مجاهدٌ: عذاب يوم بدر.
وقيل: رأوا ما يوعدون من الحشر قريباً منهم، لقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
وقال ابن عباس: يعني علمهم الشيء قريباً.
قوله: «سِيئَتْ» ، الأصل: «ساء» أحزن وجوههم العذاب، ورؤيته، ثم بني للمفعول، وساء هنا ليست المرادفة ل «بئس» كما تقدم مراراً.
وأشم كسرة السين الضم: نافع وابن عامر والكسائي، كما فعلوا ذلك في {سياء بِهِمْ} [هود: 87] في «هود» كما تقدم. والباقون: بإخلاص الكسر، وتقدم تحقيق هذا وتصريفه في أول «البقرة» ، وأن فيه لغات عند قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 11] .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس: «سِيْئَتْ» أي: اسودت وعليها الكآبة والغبرة.(19/257)
يقال: ساء الشيءُ يسوء، فهو مسيء إذا قبح، وساء يساء إذا قبح، وهو فعل لازم ومتعدّ ومعنى {سِيئَتْ وُجُوهُ} ، أي: قبحت، بان عليها الكآبةُ، وغشيها الكسوفُ والقترة وكلحوا.
قال الزجاج: تبين فيها السوء، أي: ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم، كقوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] .
قوله: {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} ، أي: قال لهم الخزنة.
قال الفراء: «تفتعلون» من الدعاء. وهو قول أكثر العلماءِ، أي: تتمنون، وتسألون.
وقال ابن عباس: تكذبون، وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث قاله الزجاج.
وقرأ العامة: بتشديد الدال مفتوحة.
فقيل: من الدعوى، أي: تدعون أنه لا جنة ولا نار، قاله الحسنُ.
وقيل: من الدعاء، أي: تطلبونه وتستعجلونه.
وقرأ الحسنُ وقتادةُ وأبو رجاء والضحاك، ويعقوب وأبو زيد وأبو بكر وابن أبي عبلة ونافع في رواية الأصمعي: بسكون الدالِ، وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء في قراءة العامة.
وقال قتادة: هو قولهم: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] .
وقال الضحاك: هو قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
وقال النحاس: تدَّعون، وتدْعون، بمعنى واحد، كما يقال: قدر واقتدر، وعدى واعتدى إلا أن في «افتعل» معنى شيء بعد شيء، و «فَعَل» يصح للقيل والكثير.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله} . أي: قل لهم يا محمد، يعني مشركي مكة وكانوا يتمنون موت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] أرأيتم إن متنا، أو رحمنا، فأخرت آجالنا، يعني أنا ومن معي من المؤمنين فمن يجيركم من عذاب الله؟ فلا حاجة لكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة.
وأسكن الياء في «أهْلَكَنِي» ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة وفتحها الباقون.(19/258)
وكلهم فتح الياء في «ومَنْ مَعِيَ» إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها، وفتحها حفص، كالجماعة.
قوله: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} . قد تقدم لِمَ أخر متعلق الإيمان وقدم متعلق التوكل، وأن التقديم يفيد الاختصاص.
قال القرطبيُّ: إنما قدم لوقوع «آمَنَّا» تعريضاً بالكافرين، حين ورد عقب ذكرهم، كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: «وعَليْهِ تَوكَّلْنَا» خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم، قاله الزمخشري.
وقرأ الكسائي: «فَسَيْعلمُونَ» بياء الغيبة نظراً إلى قوله «الكَافِرينَ» .
والباقون: على الخطاب، إما على الوعيد وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم، أي: فستعملون عند معاينة العذاب من الضال نحن، أم أنتم.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} يا معشر قريش {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، و «غَوْراً» خبر «أصْبَحَ» ، وجوز أبو البقاء: أن يكون حالاً على تمام «أصْبَحَ» ، لكنه استبعده.
وحكى أنه قرىء: «غُؤُوراً» - بضم الغين، وهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة - على «فعول» وجعل الهمزة منقلبة عن واو مضمومة.
فصل في المراد بالماء
كان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي: جارٍ، قاله قتادة والضحاك.
فلا بد لهم أن يقولوا: لا يأتينا به إلا الله تعالى، فقل لهم: فلم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم به.(19/259)
يقال: غار الماء يغور غوراً: نضب، والغور: الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة كما تقول: رجلٌ عدلٌ، ورضى.
كما تقدم في سورة الكهف.
قال ابن عباسٍ: «بِماءٍ مَعينٍ» أي: ظاهر تراه العيون، فهو مفعول.
وقيل: هو من معن الماءُ، أي: كثر، فهو على هذا «فَعِيل» .
وعن ابن عباس أيضاً: «فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ عذبٍ» .
روى أبو هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ سُورةً مِنْ كتابِ اللَّهِ ما هِيَ إلاَّ ثلاثُون آيَةً شَفَعتْ لرَجُلٍ فأخْرجتْهُ يَوْمَ القيامةِ مِن النَّارِ وأدْخلتْهُ الجَنَّةَ هِيَ سُورةُ تبَارَكَ» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا وضع الميت في قبره يؤت من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بي سورة «المُلْك» ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة «المُلك» ، ثم قال: هي المانعة من عذاب الله وهي في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ودِدْتُ أنَّ {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} في قلبِ كُلِّ مُؤمِنٍ» .(19/260)
سورة القلم
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله: {سنسمه على الخرطوم} [القلم: 16] مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله: {فهم يكتبون} [القلم: 47] مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى {من الصالحين} [القلم: 50] مدني، وباقيها. قاله الماوردي.(19/261)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى «ن» كقوله {ص والقرآن} [ص: 1] ، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو الحوت الذي على ظهره الأرض، وهو قول مجاهدٍ ومقاتل والسدي والكلبي.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون، فمارت الأرض(19/261)
فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض، ثم قرأ ابن عباس: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} .
قال الواقديُّ: اسم النون ليوثا.
وقال كعب الأحبار: لوثوثا.
وعن علي: اسمه تلهوت.
وقيل: إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقيل: الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه.
وقال الكلبي ومقاتل: اسم الحوت الذي على ظهر الأرض: البَهْمُوت.
قال الراجز: [الرجز]
4805 - مَا لِي أرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا ... واللَّهُ ربِّي خَلقَ البَهْمُوتَا
وروى عكرمة عن ابن عباس: أن نون آخر حروف الرحمن.
وقيل: إنه اسم للدواةِ، وهو أيضاً مروي عن ابن عباس.
قال القرطبيُّ: وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أوّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلمَ، ثُمَّ خلقَ النُّون، وهي الدَّواةُ، وذلك قوله تعالى» ن «والقلم» ومنه قول الشاعر: [الوافر]
4806 - إذَا مَا الشَّوْقُ يَبْرَحُ بِي إليْهِمْ ... وألفَى النُّون بالدَّمْعِ السِّجامِ
ويكون على هذا قسماً بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابةِ. فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق، وتارة بالكتابة.
وقيل: النون لوح من نون تكتب فيه الملائكةُ ما يؤمرون به، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً.
وقيل: النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة.
وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير، وقال محمد بن كعب: أقسم الله - تعالى - بنصره للمؤمنين.(19/262)
وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنَّة يقال له: نون.
وقيل: هو الحرف المعروف من حروف المعجم، قاله القشيري.
قال: لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلمُ، فهو إذن حرف هجاء، كما في أوائل السور.
قال الزمخشريُّ: «وأما قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي، أو شرعي، ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً، أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوينُ وإن كان علماً فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام؛ لأنك إذا جعلته مقسماً به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم، وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنَّة نحو ذلك» .
قال شهاب الدين: «وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب، وقلَّ من يتقنه» .
وقال ابن الخطيب بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن: وهذا ضعيف، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة، أو يكون الغرض منه التحدي، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.
فصل في قراءات «ن»
قرأ العامة: «نُونْ» ساكن النون كنظائره.
وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلا خلاف، وورش بخلاف عنه النون في الواو، وأظهرها الباقون.
قال الفراء: «وإظهارها أعجب إليَّ، لأنها هجاء، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل» ونقل عمن أدغم الغنَّة، وعدمها.
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السِّمال وابن أبي إسحاقَ: بكسر النون.(19/263)
وسعيد بن جبير وعيسى بخلاف عنه: بفتحها.
فالأولى على التقاء الساكنين، ولا يجوز أن يكون مجروراً على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله، كقولهم «اللَّهِ لأفعلَنَّ» ، لوجهين:
أحدهما: أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها.
والثاني: أنه كان ينبغي أن ينون، ولا يحسن أن يقال: هو ممنوع الصرف اعتباراً بتأنيث السورة، لأنه كان ينبغي ألاَّ يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة.
وأما الفتح، فيحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بناء، وأوثر على الأصل للخفة ك «أين وكيف» .
الثاني: أن يكون مجروراً بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة، وقد تقدم ذلك في قراءة «فالحقّ والحقِّ» [ص: 84] ، بجرّ «الحقّ» ، ومنعت الصرف اعتباراً بالسورة.
والثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف، أي:، اقرأوا نوناً ثم ابتدأ قسماً بقوله: «والقَلمِ» أو يكون منصوباً بعد حذف حرف القسم؛ كقوله: [الوافر]
- 4807 ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَذَاكَ أمَانَةَ اللَّهِ الثَّريدُ
ومنع الصرف لما تقدم، وهذا أحسن لعطف العلم على محله.
قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} .
«ما» موصولة، اسمية أو حرفية، أي: والذي يسطرونه من الكتب، وهم الكتَّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم.
والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها.
وقال الزمخشري يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في «يَسْطُرونَ» لهم.
يعني فيصير كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] تقديره: أو كذي ظلمات فالضمير في «يغْشَاه» يعود على «ذي» المحذوف.
فصل في المراد بالقلم
في «القلم» المقسم به قولان:
أحدهما: أن المراد به الجنس، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى:
{وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3، 4، 5] ،(19/264)
ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3، 4] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر.
والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر، عن ابن عباسٍ: أول ما خلق الله القلم ثم قال له: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عملٍ، أو أجلٍ، أو رزقٍ، أو أثرٍ، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
وروى مجاهد، قال: أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب القدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.
قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة، ولا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى؛ فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] فإنه ليس هناك أمر، ولا تكليف، وهو مجرد نفاذ القدرةِ في المقدور من غير منازعة، ولا مدافعة.
وقيل: القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار: أن أول ما خلق الله القلم.
وفي خبر آخر: أول ما خلق الله العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إلي منك، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أكمل النَّاسِ عقلاً أطوْعهُمْ للَّهِ وأعْلمُهُمْ بطاعته.
وفي خبر آخر: أول ما خلق الله جوهرة، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت، وسخنت، فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات، ومن الزبد الأرض.
قالوا: فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد، وإلا حصل التناقض.
قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} ، أي: وما يكتبون، يريد: الملائكة يكتبون أعمال بني آدم.
قال ابن عباس.
وقيل: وما يكتبون الناس ويتفاهمون به.
وقال ابن عباس: معنى {وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يعملون.
؟؟؟؟(19/265)
قال ابن الخطيب: {وَمَا يَسْطُرُونَ} مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل: المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في «يَسْطرُونَ» لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم، وسطرهم، أو مسطوراتهم، وإن حمل على القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله «ومَا يَسْطُرونَ» ، أي: وما يسطرون فيه، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله «يَسْطُرونَ» ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
قوله {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
قد تقدم الكلام على نظيره في «الطُّور» في قوله {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} [الطور: 29] .
إلا أن الزمخشري قال هنا: «فإن قلت: بم تتعلق الباء في» بِنعْمَةِ ربِّك «وما محله؟ قلت: متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك: أنت بنعمة ربِّك عاقل، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك: ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال كأنه قال: ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل» مَجْنُون «فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي» .
قال أبو حيَّان: «وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ، من أن الباء يتعلق بمجنون، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان:
أحدهما: أن النفي يسلط على المعمول فقط.
والآخر: أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه، ببيان ذلك أن تقول: ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع، والوجه الآخر: أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي: لا قيام، فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم» انتهى.(19/266)
واختار أبو حيان أن يكون «بِنعمَةِ» قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم.
وقال ابن عطية: «بنِعْمةِ ربِّك» اعتراض، كما تقول للإنسان: أنت بحمد الله فاضل، قال: ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بِنعْمَةِ» .
قال شهاب الدين: والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل: انتفى عنك ذلك بحمد الله، والباء سببية، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى، وأما المثال الذي ذكره، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل» وقد نحا صاحب «المُنَتخَب» إلى هذا فقال: المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل: معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لله؛ وقول لبيد: [الطويل]
4808 - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي ... وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ
أي وهو أربد، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.
فصل في إعراب الآية
قوله تعالى: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . هذا جواب القسم، وهو نفي.
قال الزجاج: «أنت» هو اسم «مَا» و «مَجْنُون» الخبر، وقوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} كلام وقع في الوسط، أي: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال: أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غاب عن خديجة إلى حراء، وطلبته، فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار، فقالت: ما لك؟ .
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له: {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1] ، فهو أول من نزل من القرآن، قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضأ، وتوضأت، ثم صلى، وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إليّ محمداً، فأرسلته فقال: هل أمرك جبريل - عليه(19/267)
السلام - أن تدعو أحداً؟ فقال: لا فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً، ثم مات قبل دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش، فقالوا: إنه مجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة، قال ابن عباسٍ: أول ما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [الأعلى: 1] ، وهذه الآية هي الثانية، نقله ابن الخطيب.
وذكر القرطبيُّ: أن المشركين كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مجنون به شيطان وهو قوله {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} [الطور: 29] أي: برحمة ربك، والنعمة هاهنا الرحمة. وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة.
قال القرطبي: «ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم، تقديره: ما أنت، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم» وقد تقدم.
فصل
قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث:
الأولى: نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراء من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم: «إنه مجنُون» .
الصفة الثانية: قوله: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه، يقال: منَّ الشيء إذا ضعف، ويقال: مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين.
قال لبيدٌ: [الكامل]
4809 - ... ... ... ... ... ... ... . ... غُبْسٌ كَواسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا(19/268)
أي: لا يقطع، يصف كلاباً ضارية، ونظيره قوله تعالى {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: «غَيْرَ مَمْنُونٍ» أي: غير محسوب عليك، قالت المعتزلة: لأنك تستوجبه على [عملك] ، وجوابهم: إن حملهم على هذا يقتضي التكرار، لأن قوله «أجراً» يفيده، وقال الحسنُ: غير مكدر بالمن.
وقال الضحاك: أجراً بغير عمل، واختلفوا في هذا الأجرِ على أي شيء حصل؟ فقيل: معناه إن لك على احتمال هذا الطعن، والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً.
وقيل: إن لك في إظهار النبوةِ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلةَ العالية.
الصفة الثالثة: قوله: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
قال ابن عباس ومجاهدٌ: «على خُلقٍ» على دين عظيمٍ من الأديان، ليس دين أحب إلى الله، ولا أرضى عنده منه.
وروى مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو أدب القرآن.
وقيل: رفقه بأمته، وإكرامه إياهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه.
وقيل: إنَّك على طبع كريم.
وقال الماوردي: حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ(19/269)
يُسَمَّى خُلُقاً، لأنَّه يصير كالخلقة فيه فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ، فيكون الخلق: الطبع المتكلف، والخِيم: الطبع الغريزي.
قال القرطبي: «ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] إلى عشر آياتٍ» .
قال ابن الخطيب: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية، والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة، وقالت: مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك، ولذلك قال الله تعالى {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر.
وقال الجنيد: سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، بدليل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق» .
فصل
قال ابن الخطيب: قوله: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال، لم يجز إضافة الجنون إليه؛ لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة، ولهذا قال:
{مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] أي: لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق، لأنه تعالى قال: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاقتداءِ به ليس هو(19/270)
معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليداً، وهو غير لائق بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليس هو الشرائع؛ لأن شريعته كشرائعهم، فتعين أن يكون المراد منه أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ، فلما أمر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقتدي بالكل، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم، وكلمة «عَلَى» للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ، ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن، وذم الخلق السّيّىء.
قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} .
قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقيل: فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل.
وقيل: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب، ويصيرون ذليلين ملعونين ويستولى عليهم بالقتل والنهب.
قال مقاتل بن حيان: هذا وعيد العذاب ببدر.
قوله {بِأَيِّكُمُ المفتون} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون، فزيدت كزيادتها في نحو «بحسبك زيد» ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى.
إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في «حَسْبُك» فقط.
الثاني: أن الباء بمعنى «فِي» فهي ظرفية، كقولك: «زيْدٌ بالبصرةِ» أي: فيها، والمعنى: في أي فرقة، وطائفة منكم المفتون: أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء.
ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة: «فِي أيكمُ» .
والثالث: أنه على حذف مضاف، أي «بأيكم فتن المفتون» فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش. وتكون الباء سببية.
والرابع: أن المفتون مصدر جاء على «مفعول» ك «المعقول» و «الميسور» ، والتقدير: «بأيكمُ المفْتُونُ» .
فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله: «ويُبْصرُونَ» ، ويبتدأ بقوله «بأيكمُ المفتُونُ» .(19/271)
وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها، ولا يوقف على «يُبْصِرُونَ» .
وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون «المَفْتُونُ» اسم مفعول على أصله، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً، وينبغي أن يقال: إن الكلام إنما يتم على قوله «المَفْتُونُ» سواء قيل: بأن الباء مزيدة أم لا، لأن قوله {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} معلق بالاستفهام بعده، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيحِ، بدليل قولهم: أما ترى أن برق هاهنا، فكذلك الإبصار، لأنه هو الرؤية بالعين، فعلى القول بزيادة الباء، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار.
فصل
قال القرطبيُّ: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} بأيكم المفتون، الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] و {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] ، وهو قول قتادة وأبي عبيدة كما تقدم وقيل: الباء ليست مزيدة، والمعنى «بأيكم المفتون» أي: الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى: المفتون، كقولهم: ما لفلان مجلود ولا معقول، أي: عقل ولا جلادة، قاله الحسن والضحاك وابن عباس.
قال الراعي: [الكامل]
4810 - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ ... لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا
أي عقلاً، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ.
وقيل: المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار، إذا حميته، قال تعالى {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} [الجن: 13] أي: يعذبون وقيل: المفتون: الشيطان؛ لانه مفتون في دينه , وكانوا يقولون: إن به شيطاناً , وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم: فسيعلمون غداً بأيهم [المجنون] أي: الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} . أي: إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِ الْمُهْتَدِينَ} , أي: الذين هم على الهدى، فيجازي كلاًّ غداً.(19/272)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف(19/272)
عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] وقيل: فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
قوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم: «فَيُدهِنُونَ» بثبوت نون الرفع وفيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على «تُدهِنُ» فيكون داخلاً في حيز «لَوْ» .
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لم رفع» فَيُدْهنُونَ «ولم ينصب بإضمار» أن «وهو جواب التمني؟ .
قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون، كقوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} [الجن: 13] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا» انتهى.
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان:
أحدهما: أنه عطف على التوهم، كأنه توهم أن نطق ب «أنْ» فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية «لَوْ» ، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في «البقرة» .
والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من «ودّ» .
والظاهر أن «لَوْ» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضاً محذوف، تقديره: ودوا إدهانك، فحذف إدهانك، لدلالة «لَو» وما بعدها عليه وتقدير الجواب: لسروا بذلك.
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والإدهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين. قاله الفراء والليث.(19/273)
وقال مجاهدٌ: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب، فيكذبون.
وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا.
وقال الحسنُ: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
وقال زيد بن أسلم: ودّوا لو تنافق وترائي، فينافقون ويراءون.
وقيل: ودُّوا لو تضعف فيضعفون. قاله أبو جعفر.
وقال القتيبي: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، وعنه: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى {لَوْ تَكْفُرُونَ} [النساء: 89] ومعنى: لو تصانعهم وقال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم «ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون» .
وقال القرطبيُّ: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الإدهان اللين والمصانعة.
وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول، وقال المفضل: النفاق وترك المناصحةِ، فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن.
وقال المبردُ: أدهن في دينه، وداهن في أمره أي: خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري، وقوله «(19/274)
فيُدْهِنُونَ» ساقه على العطف، ولو جاء به جواباً للنهي لقال: «فيُدْهِنُوا» ، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
قوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} .
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق: يعني الأخنس بن شريق.
وقال مجاهدٌ: يعني الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود.
وقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالاً، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه.
وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام.
والحلاف: الكثير الحلف. و «المَهين» قال مجاهد: هو الضعيف القلب.
وقال ابن عباس: هو الكذاب، والكذاب مهين.
وقال الحسن وقتادة: هو المكثار في الشر.
وقال الكلبي: المهين: الفاجر.
وقال عبد الله: هو الحقير.
وقال ابن بحر: هو الذليل.
وقال الرماني: هو الوضيع لإكثاره من القبيح.
وهو «فعيل» من المهانة بمعنى القلة، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز، أو هو «فعيل» بمعنى «مُفْعَل» والمعنى «مُهَان» .
قوله {هَمَّازٍ} ، الهماز: مثال مبالغة من الهمز، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه.(19/275)
قال ابن زيد: الهمَّاز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمّاز: باللسان.
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللمَّازُ: الذي يذكرهم في مغيبهم.
وقال مقاتل بالعكس، وقال مرة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة.
قال الشاعر: [البسيط]
4811 - تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً ... وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ
والنميم: قيل: هو مصدر النميمة.
وقيل: هو جمعها أي اسم جنس ك «تمرةٍ وتمرٍ» ، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه، ويحرش بين الناس.
وقال الزمخشري: والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدني بعض العرب: [الرجز]
4812 - تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه
والمشاء: مثال مبالغة من المشي، أي: يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة، أي: يمشي ويسعى بالفسادِ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ» .
والعتل: الذي يعتل الناس، أي: يحملهم، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه: {خُذُوهُ فاعتلوه} [الدخان: 47] .
وقيل: العتل: الشديد الخصومة.
وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم.
وأنشد:
4813 - بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ
وقيل: الغليظ الجافي.
ويقال: عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون. نقله يعقوب.
وقيل: العتل: الجافي الشديد في كفره.(19/276)
وقال الكلبيُّ والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل.
قال الجوهري: ويقال: عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً. ورجل مِعْتَل - بالكسر -، والعَتَل أيضاً: الرمح الغليظ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل، أي سريع إلى الشَّر ويقال: لا أنعتل معك، أي: لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً.
والزنيم: الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم.
قال حسانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الطويل]
4814 - أ - زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً ... كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ
وقال أيضاً: [الوافر]
4814 - ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيمُ
وقال أيضاً: [الطويل]
4815 - وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد
وأصله: من الزنمةِ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع، فاستعير للدعي، لأنه كالمعلق بما ليس منه.
فصل فيمن هو الحلاف المهين
تقدم القول في «الحلاف المَهين» ، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ: أنه الأخنس بن شريق، وعلى قول غيرهم: أنه الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، أو الوليد بن المغيرة، أو أبو جهل بن هشام، وتقدم تفسير «الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ» .
وأما قوله «منَّاعٍ للخَيْرِ» أي: للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته.
قيل: كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد، وكان يقول لهم ولأقاربه: من تبع منكم محمداً منعته رفدي.
وقال الحسنُ: يقول لهم: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً.
وقوله «مُعْتَدٍ» أي: على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل، وقوله «(19/277)
أثيمٍ» أي: ذا إثمٍ، ومعناه «أثُوم» ، فهو «فعيل» بمعنى «فَعُول» .
قال البغوي: «أثيم فاجر» . وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ألاْ أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ»
وفي رواية: «كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ» .
«الجوَّاظ» الجموع المنوع.
وقيل: الكثير اللحم، المختال في مشيته.
وقيل: القصير البطين.
وذكر الماورديُّ عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الجوَّاظ: الذي جمع ومنع، والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر» .
قال ابن الأثير: «وقيل: هو الذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قصر» .
قال القرطبيُّ: وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الشَّدِيدُ الخُلقِ، الرَّحيبُ الجوْفِ، المصحُّ الأكولُ، الشَّروبُ، الواجدُ للطعامِ، الظَّلُومُ للنَّاسِ» .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَبَ جوفه، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ» .(19/278)
وقوله «بَعْدَ ذلِكَ» أي مع ذلك، يريد ما وصفناه به «زنيم» وتقدم معنى الزنيم. وعن ابن عباس: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة.
وروى عنه ابن جبير: أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال عكرمة: هو الذي يعرف بلؤمه، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقيل: إنه الذي يعرف بالأبنة، وهو مروي عن ابن عباس، وعنه: إنه الظلوم.
وقال مجاهدٌ: «زَنِيمٍ» كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة.
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم.
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
قال الشاعر: [الوافر]
4816 - زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم
قيل: بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولدُ، كا روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا، ولا ولَدُ وَلدِهِ» .
وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ» .
وقالت ميمونة: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ» .(19/279)
وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر.
قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ، ألا لا يدخلن أحد بكُراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً، أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً؛ فقيل: «منَّاعٍ للخَيرِ» ، وفيه نزل:
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} [فصلت: 6، 7] .
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيماً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نُعت، فلم يعرف، حتى قتل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها.
قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحداً، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
فصل
قرأ الحسن: «عُتُلٌّ» بالرفع، أي هو عتل.
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القطع: إنه يبدأ بالإتباع، ثم بالقطع من غير عكس، وقوله: «بَعْدَ ذلِكَ» أي: بعدما وصفناه به.
قال ابن عطية: فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.
وقال الزمخشريُّ: «بَعْدَ ذَلِكَ» أي: بعدما عد له من المثالب، والنقائصِ، ثم قال: جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبُه واجترأ على كل معصية.
ونظير قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين} [البلد: 17] .
قوله: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} .
العامة: على فتح همزة «أن» ثم اختلفوا بعد، فقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر(19/280)
وأضاف القرطبي معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج: بالاستفهام.
وباقي السبعة بالخبر.
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق، وتسهيل، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، ولا بد من بيان ذلك فنقول: قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي معهم المفضل: بتحقيق الهمزتين، وعدم إدخال ألف بينهما، وهذا هو أصلهما.
وقرأ ابن ذكوان: بتسهيل الثانية، وعدم إدخال ألف.
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما.
فقد خالف كل منهما أصله، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله، كما تقدم أول البقرة.
وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه: «إن» بكسر الهمزة على الشرط.
فأما قراءة «أنْ» - بالفتح - على الخبر، ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنها «أن» المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة، واللام متعلقة بفعل النهي، أي: ولا تطع من هذه صفاته، لأن كان متمولاً وصاحب بنين.
الثاني: أنها متعلقة ب «عُتُل» وإن كان قد وصف.
قاله الفارسي.
وهذا لا يجوز عند البصريين، وكأن الفارسي اغتفره في الجار.
الثالث: أن يتعلق ب «زَنِيمٍ» ، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال.
الرابع: أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا، قاله الزمخشريُّ.
قال: ولا يعمل فيه، قال: الذي هو جواب «إذا» لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب.
وقال مكيٌّ، وتبعه أبو البقاء: «لا يجوز أن يكون العامل» تُتْلَى «لأن ما بعد»(19/281)
إذَا «لا يعمل فيما قبلها، لأن» إذَا «تضاف إلى الجمل، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف» انتهى.
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط، والمانع أمرٌ معنوي، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين.
وأما قراءة «آنْ كان» على الاستفهام، ففيها وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي: أتطيعه لأن كان، أو الكون طواعية لأن كان.
والثاني: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده، أي: لأن كان كذب وجحد.
وأما قراءة «إنْ كَانَ» - بالكسر - فعلى الشرط، وجوابه مقدر، تقديره: إن كان كذا يكفر ويجحد، دل عليه ما بعده.
وقال الزمخشريُّ: والشرط للمخاطب، أي: لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] .
وجعله أبو حيَّان من دخول شرط على شرط، يعني «إن، وإذا» إلا أنه قال: ليسا من الشروط المترتبة الوقوع. وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ: [الرجز]
4817 - فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ ... نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا
قال: «لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته» .
وقرأ الحسن بن أبزى: بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ، على قوله حين تليت عليه آيات الله: {أَسَاطِيرُ الأولين} .
فصل في توجيه قراءة الآية
قال القرطبيُّ: فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ، أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على «زَنِيمٍ» ، ويبتدىء «أنْ كَانَ» على معنى: لأن كان ذا(19/282)
مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير: لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ «أن كَانَ» بغير استفهام، فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} ولا يعمل في «أن» : «تُتْلَى» ولا «قَالَ» ، لأن ما بعد «إذَا» لا يعمل فيما قبلها؛ لأن «إذَا» تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و «قال» جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ، ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباريُّ: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على «زَنيمٍ» لأن المعنى: لأن كان ذا مالٍ كان، ف «أنْ» متعلقة بما قبلها.
وقال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله «مشَّاءٍ بنمِيمٍ» ، والتقدير: يمشي بنميم، لأن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب «عُتُلٍّ» ومعنى «أسَاطيرُ الأوَّليْنَ» أباطيلهم، وتُرهاتُهُم.
قوله: «سَنَسِمُهُ» . أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها.
قال جرير: [الكامل]
4818 - لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ
والخرطوم: الأنف، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والخرطوم أيضاً: الخمر، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال: هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر، قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
4819 - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ ... والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ
وأنشد نضر بن شميل: [البسيط]
4820 - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ ... وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ(19/283)
فصل في تفسير «سنسمه»
قال ابن عباس: «سَنَسِمُهُ» سنحطمه بالسَّيفِ، قال: وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف، فلم يزل محطوماً إلى أن مات.
وقال قتادةُ: سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها، يقال: وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
قال الضحاك: سنكويه على وجهه، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فهي علامة ظاهرة، وقال تعالى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة، وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] .
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} أي على أنفه، ويسودُّ وجهه في الآخرة، فعرف بسواد وجهه.
قال القرطبيُّ: «والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم: سادتهم» .
قال الفراء: وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبريُّ: نبين أمره تبياناً واضحاً، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم.
وقال: المعنى: سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي: تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء، أي: ألصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها.
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.(19/284)
وقيل: ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه؛ وأهله وماله من سوء، وذل وصغار، قاله ابن بحر.
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه: خراطيم، وأنشد البيت المتقدم.
قال ابن الخطيب: «وهذا تعسفٌ» .(19/285)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قوله {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة} . يريد أهل مكة، والابتلاء: الاختبار. والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من «صنعاء» ، ويقال: بفرسخين، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما، فلما مات صارت إلى ولده، فمعنوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
قال الكلبيُّ: كان بينهم وبين «صنعاء» فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم.
وقيل: جنة بصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيسير.
وقيل: كانوا من بني إسرائيل.
وقيل: وكانوا من ثقيف، وكانوا بخلاء، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين، فأرادوا حصاد زرعها، وقالوا: {لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها {فَأَصْبَحَتْ كالصريم} أي: الليل، ويقال أيضاً للنهار: صريم، فإن كان أراد الليل، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة، وإن كان أراد بالصريم النهار، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه،(19/285)
وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها.
فقيل: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء، والشجر [والزرع] والأعناب غيرها.
وقال البكريُّ في المعجم: سميت الطائف، لأن رجلاً من العرب يقالُ له: الدَّمُون، بَنَى حائطاً، وقال: إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم.
قوله «إذ أقْسَمُوا» ، أي: حلفوا فيما بينهم «ليَصْرِمُنَّهَا» أي: ليجذُّنها «مُصْبحِيْنَ» أي: وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين «ولا يَسْتَثْنُونَ» ، أي: لم يقولوا: إن شاء الله.
قوله: «مُصْبحِيْنَ» حال من فاعل «ليَصْرمُنَّها» وهو من «أصبح» التامة، أي داخلين في الصباح، كقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وقوله: إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في «كما» في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: بلوناهم ابتلاء كما بلونا، و «ما» مصدرية، أو بمعنى «الذي» و «إذَا» منصوبة ب «بَلَوْنَا» و «ليَصْرمُنَّهَا» جواب للقسم، وجاء على خلاف منطوقهم، ولو جاء لقيل: «لنَصْرمُنَّهَا» بنون المتكلم.
قوله: {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} .
هذه مستأنفة، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله، كقولهم: «قمت وأصك عينه» مستغنى عنه.
ومعنى: «لا يَسْتثْنُونَ» لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين، من الثني، وهو الكف والرد؛ لأنَّ الحالف إذا قال: واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين.
وقيل: المعنى: لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ.
وقيل: لا يقولون، إن شاء الله.
قال الزمخشريُّ: وسمي استثناء وهو شرط؛ لأن معنى: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.
قوله {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ} . أي هلاك، أو بلاء طائف، والطائف غلب في الشر.
قال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً.
ورد عليه بقوله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} [الأعراف: 201] وذلك لا يختص بليلٍ، ولا نهارٍ.(19/286)
وقرأ النخعيُّ: «طَيْفٌ» .
قوله «مِن ربِّك» . يجوز أن يتعلق ب «طاف» وأن يتعلق بمحذوف صفة ل «طَائِفٌ» .
قوله: {فَأَصْبَحَتْ كالصريم} . والصرام: جذاذ النخلِ، وأصل المادة الدلالة على القطع، ومنه الصُّرم، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
4821 - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ ... وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي
ومنه الصريمة، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً؛ قال: [البسيط]
4822 - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ
والصارم: القاطع الماضي، وناقة مصرمة: انقطع لبنها، وانصرم الشهر والسنة، أي: قرب انفصالهما، وأصرم زيد: ساءت حاله، كأنه انقطع سعده.
فقوله «كالصَّريمِ» . قيل: هي الأشجار المنْصَرِم حملها.
وقال ابن عباس: كالليل؛ لأنه يقال له: الصريم، لسواده، والصريم أيضاً: النهار وقيل: الصُّبحُ؛ لأنه انصرم من الليلة، قاله الأخفش. فهو من الأضداد.
وقال شمر: الصريم الليل، والصريم النهار.
وقيل: الصريم: رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً.
وقال الثوريُّ: كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم، أي: المقطوع ما فيه.
وقال الحسنُ: صرم عنها الخير، أي: قطع، فالصريم مفعول أيضاً.
وقال المؤرج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون «فَعِيْل» ، بمعنى «فاعل» .(19/287)
قال القشيريُّ: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريماً، ولا يقطع عن التصرف.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه.
فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان.
قال القرطبيُّ: في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان. لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا على فعلهم؛ ونظيره قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ» وقد مضى في آل عمران عند قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} [آل عمران: 135] .
قوله: {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} .
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: {اغدوا على حَرْثِكُمْ} يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: «صَارمِيْنَ» ، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار.
«أن اغْدُوْا» يجوز أن تكون المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام، وأن تكون المفسرة، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هلاَّ قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على؟ .
قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم: يغدى عليهم بالجفنة ويراح» انتهى.
فجعل «غَدَا» متعدياً في الأصل ب «إلى» فاحتاج إلى تأويل تعديه ب «عَلَى» ، وفيه نظر؛ لورود تعديه ب «عَلَى» في غير موضع؛ كقوله: [الوافر]
4823 - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب «عَلَى» فليعدوه بها، ومرادفه «بكر» تقول: بكرتُ عليه و «غدوتُ عليه» بمعنى واحد؛ قال: [الطويل](19/288)
4824 - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ ... قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه
قوله {إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} . جوابه محذوف، أي فاغدوا و «صارمين» : قاطعين حادين.
وقيل: ماضين العزم من قولك: سيف صارم.
قوله {فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} . أي: يتشاورون فيما بينهم، والمعنى يخفون كلامهم، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة.
وهو من خفت يخفت إذا سكت، ولم يبين.
قال ابن الخطيب: «وخَفَى وخَفَت، كلاهما في معنى الكتم، ومنه الخمود والخفاء» .
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس، حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام.
وقوله: {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} جملة حالية من فاعل «انْطَلقُوا» .
قوله: {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} .
«أنْ» مفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: يتخافتون بهذا الكلام، أي: يقوله بعضهم لبعض: {لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} .
قال ابن الخطيب: والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول.
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة: «لا يدْخُلنَّهَا» بإسقاط «أنْ» إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين، وإما على إجراء «يَتَخافتُونَ» مجراه كقول الكوفيين.
قوله: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} .
يجوز أن يكون «قَادِريْنَ» حالاً من فاعل «غَدَوْا» و «عَلى حَرْدٍ» متعلق به وأن يكون «على حَردٍ» هو الحال و «قَادِريْنَ» إما حال ثانية، وإما حال من ضمير الحالِ الأول.
والحرد: قيل: الغضب والحنق. قاله السديُّ وسفيان.(19/289)
وأنشد للأشهب بن رميلة: [الطويل]
4825 - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ
قيل: ومثله: [الرجز]
4826 - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي ... مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ
عطف لما تغاير اللفظان؛ كقوله: [الوافر]
4827 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا
قال أبو عبيدة والقتيبي: «عَلى حَرْدٍ» على منع من حاردت الناقة حراداً، أي: قل لبنها.
والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السَّنةُ: قل مطرها، وخيرها.
ويقال: حرد - بالكسر - يحرد حرداً، وقد تفتح فيقال: حَرَدَ فهو حردان وحارد، وليوث حوارد.
وقيل: الحرد، والحرود: الانفراد، يقال: حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً، أي: انعزل. ومنه كوكب حارد، أي: منفرد.
قال الأصمعي: هي لغة هذيل.
وقال القرطبيُّ: يقال: حرد يحرد حروداً، أي: تنحى عن قومه، ولم يخالطهم.
وقال أبو زيدٍ: رجل حريد من قوم حرداء، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه، وتحول عنهم.
قال الأصمعي: رجل حريد، أي: فريد وحيد، قال: والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب: [البسيط]
4828 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ(19/290)
ورواه أبو عمرو: بالجيم، قال: وهو سهيل.
وقيل: الحردُ القصد، يقال: حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً، قصداً، تقول: حردت حردك، أي: قصدت قصدك؛ قال الراجز: [الرجز]
4829 - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
وقال قتادة ومجاهدٌ: «عَلى حَرْدٍ» ، أي: على جد وجهد.
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة: أي: على أمر مجتمع قد أسموه بينهم.
قال البغويُّ: «وهذا معنى القصدِ» .
وقال الحسنُ: على حاجةٍ وفاقةٍ.
وقيل: الحرد اسم جنتهم بعينها، قاله السديُّ.
وقال الأزهريُّ: حرد اسم قريتهم. وفيهما بعد. و «قَادِريْنَ» إما من القدرة وهو الظاهرُ، وإما من التقدير، وهو التضييق، أي: مضيقين على المساكين.
وقرأ العامة: بالإسكان.
وقرأ أبو العالية وابن السميفع: بالفتح، وهما لغتان.
فصل في تفسير «قادرين»
قال الفرَّاء: ومعنى «قادرين» قد قدروا أمرم، وبنوا عليه.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم.
وقال الشعبيُّ: قادرين على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون.
ومعنى الآيةِ: وغدوا، وكانوا عند أنفسهم، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ.
قوله {فَلَمَّا رَأَوْهَا} . يعني الجنة محترقة، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها، وشكوا فيها، وقال بعضهم لبعض: «إنَّا لضالُّونَ» أي:(19/291)
ضللنا الطريق إلى جنتنا، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي، قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء، قاله قتادة.
وقيل: «إنَّا لضالُّون» عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا جنتنا بما صنعنا.
روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له «ثم تلا: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} » الآيتين.
قوله: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} ، يعني أعدلهم، وأفضلهم وأعقلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ: لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} أي: هلا تستثنون، وكان استثناؤهم تسبيحاً. قاله مجاهدٌ وغيره، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء، فلم يطيعوه.
قال أبو صالحٍ: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: «هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ» ، أي تقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.
وقال النحاس: أصل التسبيحِ التنزيه لله - عَزَّ وَجَلَّ -، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقال ابن الخطيب: التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: «إن شاء الله» مزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحاً.
وقيل: المعنى: هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم، وتتوبون إليه من خبث نيتكم.
قيل: إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول، وقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا: {ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين.
وقال الحسنُ: هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة، وإلا لكانت ناهية لهم [عن الفحشاء والمنكر، ولكانت داعية لهم] إلى أن يواظبوا على ذكر الله، وعلى قول إن شاء الله.
قوله {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ} . أي: يلوم بعضهم بعضاً، يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت(19/292)
رغبتني في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا: {ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي: عاصين بمنع حق الفقراءِ، وترك الاستثناء.
وقال ابنُ كيسان: طغينا نعم اللَّهِ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.
قرىء: «يبدلنا» بالتخفيف والتشديد، وهما لغتانِ.
وقيل: التبديلُ تغير الشيء، أو تغير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، ثم قال: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي: طالبون منه الخير راجعون لعفوه.
قال المفسرون: إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة، بزغر من أرض الشام، ويأخذ من أرض الشام جنة، فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود: إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها: الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً.
وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ.
وقال الحسنُ: قول أهل الجنة: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة. فتوقف في كونهم مؤمنين.
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ؟ .
قال: لقد كلفتني تعباً.
والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا. حكاه القشيري.
قوله: {كَذَلِكَ العذاب} . مبتدأ وخيره مقدم، أي: مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .
قال ابنُ زيدٍ: «كذَلكَ العَذابُ» أي: عذاب الدنيا وهلاك الأموال.
وقيل: هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .(19/293)
قال ابنُ عباسٍ: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً، وأصحابه، وليرجعوا إلى أهل مكة، حتى يطوفوا بالبيت، ويشربوا الخمر، وتضرب القيانُ على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم، فخابوا.
فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل
قال ابن الخطيب: قوله تعالى {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 14 - 15] ، والمعنى: لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله، كلا، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم، فكيف حال من عاند الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ.
فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا؟
قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً، والأول أظهر.
وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ، وعلى قتال بدر.(19/294)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
قوله: {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} ، أي: جناتٌ ليس فيها إلا النعيمُ الخالصُ لا يشوبه ما ينغصُه كما يشوب جناتِ الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال كفَّارُ مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضَّلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يُفضِّلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيلُ، فلا أقل من المساواةِ. فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} ، أي: إن التسوية بين المُطيع والعاصي غيرُ جائزة ثم وبَّخهُمْ فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاءِ مفوضٌ إليكم حتى تحكموا فيه.(19/294)
قوله: «عِندَ ربِّهِمْ» . يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً من «جنَّاتِ» .
فصل في رد كلام القاضي
قال القاضي: في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، والفاسق لما كان مجرماً، وجب أن لا يكون مسلماً.
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما متماثلان في الجوهرية، والجسمية، والحدوث، والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد: إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثارِ هذين الأمرينِ، فالمراد: أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله، وهذا لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومجرماً؟ .
فصل في رد كلام الجبائي
قال الجبائيُّ: دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم، وكانت طاعته غير محبطةٍ. والجوابُ: هذا ضعيفٌ، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلمِ الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرفِ.
قوله: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} . أي: ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي. وهذا كقوله {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 156 - 157] .
قوله: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} .
العامة على كسر الهمزة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها معمولة ل «تَدْرُسُونَ» ، أي: تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة، كقولك: علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر -.
والثاني: أن تكون على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين(19/295)
سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين}
[الصافات: 78، 79] ، قالهما الزمخشري.
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ، قال: «وتخير الشيء واختاره، أخذ خيره، كتنخله وانتخله، أخذ منخوله» .
الثالث: أنها على الاستئناف على معنى «إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير» .
قال القرطبي: تم الكلام عند قوله «تَدْرسُونَ» ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لمَا تَخَيَّرُونَ} أي: إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون، أي: ليس لكم ذلك، والكناية في «فِيْهِ» الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
وقرأ طلحة والضحاك: «أنَّ لَكُمْ» بفتح الهمزة. وهو منصوب ب «تَدْرسُونَ» إلا أن فيه زيادة لام التأكيد، وهي نظير قراءة {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} [الفرقان: 20] بالفتح.
وقرأ الأعرج وابن هرمز: «أإنَّ لَكُمْ» في الموضعين، يعني «أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ» «أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ» بالاستفهام فيهما جميعاً.
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} ، أي: عهود ومواثيق {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى، أي: أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
قال ابن الخطيب: والمعنى: أم ضمنا لكم، وأقسمنا لكم بأيمان مغلطة متناهية في التوكيد.
قوله: «بَالِغَةٌ» .
العامة على رفعها نعتاً ل «أيْمَانٌ» و {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بما تعلق به «لَكُمْ» زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم، أو «ببالغة» ، أي: تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه.
وقرأ زيد بن علي والحسن: بنصبها.
فقيل: على الحال من «أيْمَانٌ» لأنها تخصصت بالعمل، أو بالوصف.
وقال القرطبيُّ: «على الحال من الضمير في» لَكُمْ «لأنه خبر عن» أيمانٌ «ففيه ضمير منه، وإما من الضمير في» عليْنَا «إن قدرت» علينا «وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس(19/296)
الأيمانِ؛ لأن فيه ضميراً منه كما يكون إذا كان خبراً عنه.
وقيل: من الضمير في» علينا إن قدرت علينا «وصفاً للأيمان» .
وقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} . أي: لأنفسكم من الخير والكرامة.
قوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} ، جواب القسم في قوله: «أيْمانٌ» لأنها بمعنى أقسام.
قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . أي: سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين عليَّ: أيهم كفيل بما تقدم ذكره، والزعيم: الكفيل والضمين، قاله ابن عباس وقتادة، لقوله تعالى: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
وقال ابنُ كَيْسَان: الزعيم هنا: القائم بالحجة والدعوى.
وقال الحسن: الزعيم: الرسول.
قوله: «أَيُّهم» متعلق ب «سَلْهُمْ» و «بذلك» متعلق ب «زعيمٌ» ، أي: ضمين وكفيل وقد تقدم أن «سَألَ» تعلق لكونه سبباً في العلم، وأصله أن يتعدى ب «عَنْ» ، أو الباء كقوله:
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، وقوله: [الطويل]
4830 - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّساءِ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره.
قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} . هذه قراءة العامة.
وقرأ عبد الله: {أم لهم شرك فليأتوا بشركهم} بلفظ المصدرِ.
قال القرطبيُّ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} ، أي: ألهم، والميم صلة، ومعنى: شركاءُ، أي: شهداء {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} يشهدون على ما زعموا {إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} في دعواهم.
وقيل: فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر تعجيز.
وقال ابن الخطيب: «في تفسيره وجهان:
الأول: أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب، والخلاص من العقابِ، وإنما إضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم جعلوها شركاء للَّهِ، كقوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} [الروم: 40] .(19/297)
الثاني: أم لهم أناسٌ يشاركونهم في هذا المذهب، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقينَ في دعواهم، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي، ولا دليل من كتاب يدرسونه، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القولِ، فدل ذلك على بطلانه» .(19/298)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة، وهو قوله:
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} «يَوْمَ» منصوب بقوله «فليَأتُوا» أي: فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على «صَادِقينَ» .
أو بإضمارِ «اذْكُرْ» فيكون مفعولاً به، أو بمحذوفٍ وهو ظرف، أي: يوم يكشف يكون كيت وكيت. أو ب «خَاشِعةً» . قاله أبو البقاء.
و «عَنْ ساقٍ» قائم مقام الفاعل.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «تكشف» بالتاء من فوق مبنياً للفاعل، أي: الشدة والساعة. وعنه أيضاً كذلك: مبنياً للمفعول.
وهي مشكلة، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال: إن المفعول مستتر، أي: تكشف هي، أي: الشدة، ويتعلق «عَنْ ساقٍ» بمحذوف، أي: تكشف عن ساقها.
ولذلك قال الزمخشري: «وتكشف» بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً، والفعل للساعة، أو الحال: أي يشتد الحال، أو الساعة.
وقرىء: «ويُكشِفُ» - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من «أكشف» إذا دخل في الكشف، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها. ويقال له أيضاً: أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة.
قال الراجز: [الرجز]
4831 - عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا ... ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا(19/298)
في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءِ َبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا
وقال حاتم الطائيُّ: [الطويل]
4832 - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا ... وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
وقال الآخر: [مجزوء الكامل]
4833 - كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ
وقال الراجز: [الرجز]
4834 - أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا ... وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وقال الآخر: [السريع، أو الرجز]
4834 - ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ ... وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ
قال الزمخشريُّ: الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك؛ قال حاتم:
4835 - أ - أخو الحَرْبِ ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ: [الخفيف]
4835 - ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ
انتهى.
فصل في «الساق»
قال ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، قال: كرب وشدة.(19/299)
وعن مجاهد: شدة الأمر وحده.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: أشد ساعةٍ في القيامة.
وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه.
والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد، شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة.
وقيل: ساق الشيء: أصله الذي به قوامه كساق الشجرة، وساق الإنسان، أي: يوم يكشفُ عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور، وأصلها.
وقيل: يكشف عن ساق جهنم.
وقيل: عن ساق العرش.
وقيل: يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن، أي: يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة، فلا يمكنه أن يقوم، ويخرج.
فصل في تأويل «الساق»
قال القرطبيُّ: فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - يتعالى عن الأعضاء، والأبعاض، وأن ينكشف، ويتغطى، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل: «يكشف عن نوره عَزَّ وَجَلَّ» .
؟؟؟ وروى أبو موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى {عَنْ سَاقٍ} قال: يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً.(19/300)
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ، فيقال لهم: ما تَنْتَظِرُونَ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فيقولون: لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا، ولَمْ نَرَهُ، قال: وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ؟ فيقولون: نَعَم، فيُقَالُ لَهُمْ: فَكيْفَ تعرفونه، ولَمْ تَرَوهُ؟ قالوا: إنه لا شبيهَ لَهُ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ، فلا يَسْتطِيْعُونَ، فَذلكَ قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} فيقول الله تعالى: عبادي ارفعوا رءوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار» ، قال أبو بردةُ: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ، فقال عمر: سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا.
قوله {خَاشِعَةٌ} . حال من مرفوع «يُدْعَونَ» و «أبْصَارهُمْ» فاعل به، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها.
وقوله: «وهُمْ سَالِمُونَ» . حال من مرفوع «يُدعَونَ» الثانية.
ومعنى {خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ} ، أي: متواضعةٌ «تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ» وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار.
فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق
قال ابن الخطيب بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق: واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز.
واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال: الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر، فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يوم يشتد، ويتعاظم، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ، كما تقول: الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمَّ، ولا غل، وإنما هو مثل في البخلِ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول: لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ، وأقولُ: إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، أو تقول: لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بالإجماع، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت(19/301)
أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد، فإنهم يقولون في قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الحج: 23] ليس هناك أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع، وفساد الدينِ، وأما من قال: إنه لا يصار إلى التأويل، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم، أو ساق العرش، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فيقولون: نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ، أو ثلاثاً، ثُمَّ يقُولَ: هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ؟ فيقولون: لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ» .
قال: واعلم أن هذا القول باطل لوجوه:
أحدها: أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.
وثانيها: أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن، أما إذا أجملت ففائدة التنكير: الدلالة على التعظيم، كأنه قال: يوم يكشف عن شدة، وأي شدة لا يمكن وصفها.
وثالثها: أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه، ثم حكى قول أبي مسلم: بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصفه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود} ويوم القيامة ليس فيها تعبد، ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى:
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها، وإما حال المرض والهرم والعجز، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى(19/302)
الصلاة إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ} مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] . ثم قال: واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم، ثم قال: فأما قوله: «إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة» .
فجوابه: أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت: إن ذلك غير جائزٍ.
قوله {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود} في الدنيا {وَهُمْ سَالِمُونَ} معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي: أي: يدعون بالأذان، والإقامة، فيأبون.
وقال سعيد بن جبيرٍ: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح، فلا يجيبون، وهم سالمون أصحاء.
وقال كعبُ الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
وقيل: أي: بالتكليف الموجه عليهم في الشرع.
قوله: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث} ، أي: فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم.
وقال الزجاجُ: لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ، فإني أكفيك أمره.
و «مَنْ» منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم، أو مفعول معه، وهو مرجوح؛ لإمكان النسق من غير ضعف، وتقدم إعراب ما بعده.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده، وفي قدرته من القهر، يقال: ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ، فأنا أكفيكه.
قال السديُّ: والمراد بالحديث القرآن.
وقيل: يوم القيامةِ، وهذا تسلية للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: سنأخذهم على غفلة، وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر.(19/303)
وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، وننسيهم الشكر.
وقال الحسن: كم مستدرجٍ بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرورٍ بالستر عليه.
وقال أبو روق: كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار.
قال ابن عباسٍ: سنمكر بهم، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا ربِّ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له: كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ.
والاستدراج: ترك المعالجة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج.
ومنه قيل: درجات، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال: درجه إلى كذا، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج، فتدرج.
ومعنى الآية: إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم.
قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أمهلهم، وأطيل لهم المدة، كقوله {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178] والملاوة: المدة من الدهر، وأملى الله له، أي: أطال له، والملوان: الليل والنهار.
وقيل: {وَأُمْلِي لَهُمْ} ، أي: لا أعاجلهم بالموت، والمعنى واحد، والملا مقصور: الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: إن عذابي لقوي شديد؛ فلا يفوتني أحد، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك.
فصل في إرادة الكائنات
قال ابن الخطيبِ: تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان، فليسا بكيد، ولا استدراج، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء.
أجاب الكعبيُّ: بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ، أي: يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون، وهو مقتضى الحكمة، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي، ثم صاروا مفتنين.(19/304)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
وأجاب الجبائيُّ: بأن معنى قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي: إلى العذاب {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} في الآخرة، {وَأُمْلِي لَهُمْ} في الدنيا توكيداً للحجة عليهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} فأمهله، وأزيح الأعذار عنه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث} ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب: أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان.
قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} . عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} أي: أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، والمغرم: الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون، أي: يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال، فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
قوله: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} ، أي: علم ما غاب عنهم {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} .
وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون، وعن ابن عباسٍ: الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر، ويخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل، وأنهم لا يعاقبون.
وقيل: «يَكْتُبونَ» أي: يحكمون ما يريدون، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.
قوله
{فاصبر
لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لقضاء ربِّك، والحكم هنا القضاء.
وقيل: اصبر على ما حكم به عليك ربُّك من تبليغ الرسالةِ.
وقال ابنُ بَحْرٍ: فاصبر لنصر ربك.
وقيل: منسوخ بآية السيف {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} يعني يونس - عليه السلام - أي: لا تكن مثله في الغضب، والضجر، والعجلة.
وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويأمره بالصبر، ولا يعجل كما عجل يونس -(19/305)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقد مضى الفرق بين «ذي» و «صاحب» في «يونس» .
قوله: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} .
«إذْ» منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله، أو قصتك كقصته في وقت ندائه، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبُّ عليها النهي على أحوالها، وصفاتها.
وقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} . جملة حالية من الضمير في «نَادَى» .
والمكظوم: الممتلىء حزناً وغيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه.
قال ذو الرمة: [البسيط]
4836 - وأنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَناً ... عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ
فصل في دعاء يونس
«إذْ نَادَى» ، أي: حين دعا من بطن الحوتِ، فقال: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] .
قال القرطبي: ومعنى {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مملوء غمًّا.
وقيل: كرباً، فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني: قول عطاء وأبي مالك، قال الماورديُّ: والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب، والكرب في الأنفاس.
وقيل: «مَكْظُومٌ» محبوس، والكظم: الحبس ومنه قولهم: كَظَمَ غَيْظَهُ، أي: حبس غضبه، قاله ابن بحر.
وقيل: «إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المُبرِّدُ» .
والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر، والمغاضبة، فتبتلى ببلائه.
قوله: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} .
قال ابن الخطيب: لِمَ لَمْ يَقُلْ: تداركته نعمة؟ وأجاب: بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في «تَدَاركَهُ» . ولأن التأنيث غير حقيقي.(19/306)
وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس: «تَدارَكتْهُ» بتاء التأنيث لأجل اللفظِ.
والحسن وابن هرمز والأعمش: «تَدّارَكهُ» - بتشديد الدال -.
وخرجت على الأصل: تتداركه - بتاءين - مضارعاً، فأدغم، وهو شاذ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين؛ وهي كقراءة البزي {إذْ تَلَّقَّوْنَهُ} [النور: 15] ، و {ناراً تَلَّظَّى} [الليل: 14] ، وهذا على حكاية الحال، لأن المقصد ماضيه، فإيقاع المضارع هنا للحكاية، كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه نعمة.
قوله: {نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ} .
قال الضحاكُ: النعمة هنا: النبوة.
وقال ابن جبيرٍ: عبادته التي سلفت.
وقال ابن زيدٍ: نداؤه بقوله {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}
[الأنبياء: 87] .
وقال ابن بحرٍ: إخراجه من بطن الحوتِ.
وقيل: رحمة من ربِّه، فرحمه وتاب عليه.
قوله: {لَنُبِذَ بالعرآء} ، هذا جواب «لَوْلاَ» ، أي: لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم.
وقيل: جواب «لَولاَ» مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ.
ومعنى: «مَذْمُوم» ، قال ابن عباس: مُليمٌ.
وقال بكر بن عبد الله: مُذنِبٌ.
وقيل: مبعدٌ من كل خير. والعراء: الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل، ولا شجر يستر.
وقيل: لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً، يدل عليه قوله تعالى {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144] .
فصل في عصمة الأنبياء
قال ابن الخطيب: هل يدل قوله «وهُوَ مَذمُومٌ» على كونه فاعلاً للذنب؟ قال: والجوابُ من ثلاثة أوجه:(19/307)
الأول: أن كلمة «لولا» دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل.
الثاني: لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين.
الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة، لقوله «فاجْتبَاهُ رَبُّهُ» والفاء للتعقيب.
قيل: إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا.
وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
قوله: {فاجتباه رَبُّهُ} ، أي: فاصطفاه واختاره. {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} .
قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه، وفي قومه، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ، أو يزيدون.
فصل فيمن قال: إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت
قال ابن الخطيب: قال قوم: لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً، وهو المرادُ من قوله {فاجتباه رَبُّهُ} والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول، لأن الاحتباس في بطن الحوت، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص، ولا كرامة، فلا بد وأن تكون معجزة، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال.
فصل في خلق أفعال العباد
قال ابن الخطيب: احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه.
قال الجبائيُّ: يحتمل أن يكون معنى «جعلهُ» أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني.
والجواب: أن ذلك مجاز، والأصل في الكلامِ الحقيقة.
قوله: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ} «إنْ» المخففة من الثقيلة: «ليُزلقُونَكَ» ، أي: يغتالونك بأبصارهم، قرأها نافع: بفتح الياء، والباقون: بضمها.(19/308)
فأما قراءة الجماعة: فمن أزلقه، أي: أزال رجله، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق.
وأما قراءة نافع، فالتعدية بالحركة، يقال: زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح، ونظيره: شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح. [وقد تقدم لذلك أخوات] .
وقيل: زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً، إذا نحاه وأبعده، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً، إذا حلقه.
قال القرطبي: «وكذلك أزلقه، وزلقهُ تزليقاً، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، حكاه الجوهري وغيره» .
والباء في «بأبْصارهِمْ» إما للتعدية كالداخلة على الآلة، أي: جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك «عملت بالقدوم» ، وإما للسببية، أي: بسبب عيونهم.
وقرىء: «ليُزْهقونَكَ» من زهقت نفسه، وأزهقها.
ثم فيه وجوه:
أحدها: أنهم من شدة تحديقهم، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم: نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه: [الكامل]
4837 - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ ... نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ
فصل في المراد بالنظر
أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله، ولا مثل حججه.
وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر.
وقال الكلبيُّ: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء، فتمر به الإبل والغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالعين، فأجابهم، فلما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنشد: [الكامل](19/309)
4838 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ
فعصم الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونزلت هذه الآية.
وذكر الماورديُّ: أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله، فيقول: بالله ما رأيتُ أقوى منه، ولا أشجع، ولا أكبر منه، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قال القشيريُّ: وفي هذا نظرٌ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ، ولهذا قال: «ويقولون: إنه لمجْنُونٌ» أي: ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.
قال القرطبيُّ: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك.
فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بهلاكه وموته.
قال الهرويُّ: أراد ليغتالونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك.
وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم، يقال: زلق السَّهم، وزهق إذا نفذ، وهو قول مجاهد أي: ينفذونك من شدة نظرهم.
وقال الكلبي: يصرعونك، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.(19/310)
وقال العوفي: يرمونك.
وقال المؤرج: يزيلونك.
وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك.
وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه.
قوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب «يُزْلقُونكَ» ، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة، أي: لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك، ومن جوز تقديم الجواب، قال: هو هنا متقدم.
والمراد بالذكر القرآن، ثم قال: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وهو على ما افتتح به السُّورة، ثم قال: «ومَا هُوَ» يعني: القرآن.
{إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين} أي: الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد.
وقال الحسنُ: دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية.
وقيل: وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به.
وقيل: معناه شرف، أي: القرآن، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرف للعالمين أيضاً شرفوا باتباعه والإيمان به.
عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرأ سُورَةَ القلمِ أعْطَاهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - ثوابَ الذينَ حسَّنَ اللَّهُ أخلاقهم» .(19/311)
سورة الحاقة(19/312)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية، ومائتان وستة وخمسون كلمة، وألف وأربعة وستون حرفا. قوله تعالى: {الحاقة مَا الحآقة} .
«الحاقة» مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثانٍ، و «الحاقة» خبره، والجملة خبر الأول؛ لأن معناها «ما هي» واللفظُ استفهام، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها.
قال ابن الخطيب: وُضِعَ الظاهرُ موضع المضمرِ؛ لأنه أهولُ لها، ومثله {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1، 2] وقد تقدَّم تحريرُ هذا في «الواقعةِ» .
و «الحاقَّة» فيها وجهان:
أحدهما: انه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء.
وقيل: إن الأمر يحق فيها فهي من باب «ليل نائم، ونهار صائم» قاله الطبري.
وقيل: سميت حاقة؛ لأنها تكون من غير شكٍّ لأنها حقَّت فلا كاذبة لها.
وقيل: سميت القيامة بذلك؛ لأنها أحقت لأقوامٍ الجنَّة، وأحقَّت لأقوامٍ النَّار.
وقيل: من حق الشيء: ثبت فهي ثابتة كائنة.
وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله أي: تغلبه، من حاققته، فحققته أحقه أي: غلبته.(19/312)
وفي «الصحاح» : وحاقه، أي: خاصمه، وادعى كل واحد منهما الحقَّ، فإذا غلبه قيل: حقه، ويقال: ما له فيه حقٌّ، ولا حقاق أي: خصومة، والتحاق: والتخاصم، والاحتقاق: الاختصام، والحاقَّةُ والحقُّ والحقةُ ثلاثُ لغاتٍ بمعنًى.
وقال الكسائيُّ والمؤرج: الحاقَّةُ: يوم الحقِّ.
والثاني: أنه مصدر ك «العاقبة» و «العافية» .
قوله «ما الحَاقَّةُ» في موضع نصب على إسقاط الخافض، لأن «أدرى» بالهمزة يتعدى لاثنين، للأول: بنفسه، والثني: ب «الباء» ، قال تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] ، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعولِ الثاني، ودون الهمزة تتعدى لواحدٍ ب «الباء» نحو: «دريت بكذا» أو يكون بمعنى «علم» فيتعدّى لاثنين.
فصل في معنى «ما أدراك» .
معنى «ما أدراك» ، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عالماً بالقيامة، ولكن لا علم له بكونها وصفتها، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمُها، ولم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: بلغني أنَّ كل شيء في القرآن «ومَا أدْراكَ» فقد أدراه وعلمه، وكل شيء قال: «ومَا يُدْريكَ» فهو مما لم يعلمهُ.
وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: «وما أدْراكَ» فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: «وما يُدريْكَ» ، فإنه لم يخبر به.
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} .
«القارعةُ» القيامة، سميت بذلك [لأنها] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ.
وقيل: لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارعُ الدهرِ، أي: أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه؛ جمع قارضة، وهي الكلمة المؤذيةُ، وقوارعُ القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية «الكرسي» كأنَّه يقرع الشيطان.
وقال المبرِّد: القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين.
وقوارعُ القيامة: انشقاقُ السماءِ، وانفطارها، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف، والنجوم بالطَّمس والانكدار.
وإنما قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} ، ولم يقل: بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك(19/313)
بذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيبِ تذكيراً لأهل «مكةَ» وتخويفاً لهم من عاقبةِ تكذيبهم.
وقيل: عنى بالقارعةِ: العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح، وكانت منازلهم ب «الحجر» فيما بين «الشام» و «الحجاز» .
قال ابن إسحاق: هو وادي «القرى» ، وكانوا عرباً، وأما عادٌ فقوم هود، وكانت منازلهم ب «الأحقاف» ، و «الأحقاف» : الرمل بين «عمان» إلى «حَضْرمَوْتَ» و «اليمن» كله، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في «الأحقاف» .
قوله: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} . هذه قراءةُ العامةِ.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ: «فَهَلكُوا» مبنياً للفاعل.
وقوله: «بالطاغية» فيه إضمار أي: بالفعلة الطَّاغية.
وقال قتادةُ: بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ للحدِّ، أي: لحد الصيحاتِ من الهولِ، كما قال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] .
و «الطغيانُ» : مجاوزة الحدِّ، ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] ، أي: جاوز الحدَّ.
وقال ابن زيدٍ: بالرجل الطَّاغية، وهو عاقرُ الناقةِ، و «الهاء» فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة.
والمعنى: أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً، وإنما هلك الجميعُ؛ لأنهم رضوا بفعله، ومالئوه.
وقيل له: طاغية كما يقال: فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ.
ويحتمل أن يقال: بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ، وهم: التسعة رهطٍ، الذين كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وأحدهم عاقرُ الناقة.
وقال الكلبيُّ: «بالطَّاغيةِ» : بالصَّاعقةِ.
وقال مجاهدٌ: بالذُّنوبِ.(19/314)
وقال الحسنُ: بالطُّغيانِ فهي مصدرٌ ك «العاقبة» و «الكاذبة» ، أي: أهلكُوا بطغيانهم وكفرهم، وبوضحه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] .
قال ابن الخطيب: وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، قال: وقد طعنوا فيه بوجهين:
الأول: قال الزجاجُ: إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ، وهو قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ.
والثاني: قال القاضي: لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال: أهْلِكُوا لها ولأجلِها.
ف «الباء» للسببية على الأقوال إلاَّ على قولِ قتادة، فإنها فيه للاستعانة ك «عملتُ بالقدوم» .
قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} . أي: باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذٌ من الصَّرصر وهو البردُ. قاله الضحاك.
وقيل: إنَّها لشديدةُ الصوتِ.
وقال مجاهد: إنَّها لشديدة السُّمومِ، و «عَاتِية» عتت على خُزَّانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ.
وقال عطاء عن ابن عباسٍ: عتت على عادٍ فقهرتهم، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم.
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلاَّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ» ، [ {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ] ، ثم قرأ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} .(19/315)
وقيل: إنَّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيانٌ، إنَّما هو بلوغُ الشيء وانتهاؤه، ومنه قولهم: عتا النَّبْتُ، أي: بلغ منتهاه وجفَّ، قال تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8] ، أي: بالغة منتهاها في القوّة والشدّة.
قوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ، أي: أرسلها وسلَّطها عليهم، والتسخيرُ استعمال الشيء بالاقتدار.
وقال الزجاج: أقامها عليهم.
والجملة من قوله: «سخَّرها» يجوز أن تكون صفة ل «رِيْح» ، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة، أو من الضمير في «عاتية» ، وأن تكون مستأنفةً.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أنَّ فيه لطيفة، وذلك أن في الناس من قال: إن تلك الرياحَ إنما اشتدت؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك، فقوله: «سخَّرهَا» فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ، والتحذيرُ عن العقابِ.
وقوله: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً، فلما قال: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ، فأزال هذا الظنَّ بقوله: «حُسُوماً» أي: مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ.
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ: هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ.
وقيل: سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ.
وقيل: لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب، وانقطع العذابُ.
قوله: «حُسُوْماً» . فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبلها.
الثاني: أن ينتصب على الحالِ، أي: ذات حُسُوم.
وقرأ السدِّي: «حَسُوماً» - بالفتح - حالاً من الريح، أي: سخرها عليهم مستأصلة.
الثالث: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حُسوماً.
الرابع: أن يكون مفعولاً له.(19/316)
ويتضح ذلك بقول الزمخشريِّ: «الحُسُوْم» : لا يخلو من أن يكون جمع «حاسم» ك «شاهد» و «شهود» ، أو مصدراً «كالشَّكور» ، «والكفُور» ، فإن كانت جمعاً، فمعنى قوله: «حُسُوْماً» أي: نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ، واستأصلت كُلَّ بركةٍ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابُعِ فعل الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كرَّة بعد اخرى حتى ينحسمَ.
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي: تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً، أو تكون صفة كقولك: ذات حسومٍ، أو يكون مفعولاً له، أي: سخرها عليهم للاستئصال.
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر: [الوافر]
4839 - فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ ... تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ
انتهى. وقال المبرِّدُ: الحُسومُ: الفصلُ، حسمتُ الشَّيء من الشيء فصلتهُ منه.
ومنه الحسام.
قال الشاعر: [المتقارب]
4840 - فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً ... فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا
وقال الليثُ: هي الشُّؤمُ، يقال: هذه ليالي الحسوم، أي: تحسم الخير عن أهلها: لقوله تعالى: {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16] ، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول؛ لأن الفصل قطعٌ وكذلك الشُّؤم لأنه يقطع الخير.
قال ابنُ زيدٍ: حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً، وعنه أيضاً: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها؛ لأنها بدأ طلوع الشمس أول يوم، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم.
واختلف في أولها: فقال السدِّي: غداة يوم الأحدِ.
وقال الربيع بن أنس: غداة يوم الجمعة وقال يحيى بن سلام: غداة يوم الأربعاء، وهو يوم النحس المستمر.(19/317)
قيل: كان آخر أربعاء في السَّنة، وآخرها يوم الأربعاء، وهي في «آذار» من أشهر السريانيين، ولها أسماء مشهورة، قال فيها ابن أحمر: [الكامل]
4841 - كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ ... أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ ... صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ ... ومُعَلِّلٍ وبِمُطفِىء الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً ... وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ
وقال آخر: [الكامل]
4842 - ... - كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ
بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ ... وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِرٍ
ومُجَلِّلٍ وبِمُطْفِىء الجَمْرِ ... قوله: {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى} أي: في تلك الليالي والأيَّام «صرعى» جمع صريع، وهي حال نحو: «قتيل وقتلى، وجريح وجرحى» .
والضمير في «فيها» للأيام والليالي كما تقدم، أو للبيوت أو للريح، والأول أظهرُ لقُربهِ؛ ولأنه مذكور.
قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} . أي: أصول نخلٍ، و «كأنهم أعجازُ» حال من القوم، أو مستأنفة.
وقرأ أبو نهيك: «أعْجُز» على وزن «أفْعُل» نحو: «ضَبْع وأضْبُع» .
وقرىء: «نخيل» حكاه الأخفشُ.
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ، كما اختير تذكيره لها في سورة «القمر» .
وقال أبو الطُّفيل: أصول نخل خاوية، أي: بالية.
وقيل: خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها.
قال القرطبيُّ: وقد قال تعالى في سورة «القمر» : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو أخبار عن عظم أجسامهم، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي: أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية، أي: أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.(19/318)
وقال ابن شجرة: كانت الريحُ تدخل في أفواههم فتخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام: إنما قال: الخاوية، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.
قوله: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} .
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده، وتقدم في «الملك» .
و «مِنْ بَاقِيَة» مفعوله، و «مِنْ» مزيدة، والهاء في «بَاقِية» قيل: للمبالغة، فيكون المراد ب «الباقية» : البقاءُ، ك «الطاغية» بمعنى الطُّغيان، أي: من باقٍ.
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ، أو طائفةٍ، أو نفس، أو بقية ونحو ذلك.
وقيل: فاعلة بمعنى المصدر ك «العافية» و «العاقبة» .
قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً.
قال ابن جريجٍ: كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ، فألقتهم في البحر، فذلك قوله: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} وقوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] .(19/319)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
قوله: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} .
قرأ أبو عمرو والكسائيُّ: بكسر القاف، وفتح الباء، أي: ومن هو في جهته، ويؤيده قراءةُ أبي موسى: «ومن تلقاه» .(19/319)
وقرأ أبيٌّ وعبد الله: «ومنْ مَعَه» .
والباقون: بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه.
والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ، وعبد الله.
قوله: {والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ} .
«المؤتفكات» : أهل قرى لوط.
وقراءة العامة: بالألف.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: «والمُؤتَفكةُ» على التوحيد.
قال قتادةُ: إنما سُمِّيتْ قرى لوط «مُؤتفِكَات» لأنَّها ائتفكت بهم، أي: انقلبت.
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال: خمس قريات: «صبعة، وصعرة وعمرة، ودوما، وسدوم» ، وهي القرية العظمى.
وقوله: «بالخاطئة» . إما أن تكون صفة، أي: بالفعلة، أو الفعلات الخاطئة، وهي المعصية والكفر.
وقال مجاهد: بالخطايا كانوا يفعلونها.
وقال الجرجاني: بالخطأ العظيمِ، فيكون مصدراً ك «العاقبة» و «الكاذبة» .
قوله: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} إن عاد الضمير إلى فرعون، ومن قبله، فرسول ربِّهم موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ، فرسولُ ربِّهم لوط عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال الواحديُّ: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله: «فَعَصَوْا» فيكون كقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16]
قال القرطبي: وقيل: «رسول» بمعنى رسالة، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، كقوله: [الطويل]
4843 - لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ ... بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ
قوله: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} ، أي: عالية زائدة على الأخذات، وعلى عذاب الأمم،(19/320)
يقال: ربا الشيء يربوا إذا زاد، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي.
والمعنى: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار.
وقيل: إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة، لقوله: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو. ثم ذكر قصة قومِ نوح، وهي قوله:
{إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} ، أي: ارتفع وعلا.
وقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه، فلم يقدروا على حبسه.
قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ، وذكر ما حل بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: «حَمَلْناكُم» أي: حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، «فِي الجَاريَةِ» أي: في السفن الجاريةِ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24] ، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة؛ كقوله في بعض الألغاز: [البسيط]
4844 - رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ ... فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ
قوله: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} ، أي: سفينة نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم. في قول قتادة.
قال ابن جريجِ: كانت ألواحُهَا على الجوديِّ، والمعنى: أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ، وأنجى الله أباكم، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً، ولم يبق منها شيءٌ، وهذا قولُ الفرَّاءِ.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا ضعيفٌ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج: أن الضمير في قوله: «(19/321)
لنجعلها» يعود إلى «الواقِعَة» التي هي معلومةٌ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ، والتقدير: لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً، وعبرةً، ويدل على صحته قوله: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فالضمير في قوله: «وتَعِيهَا» لا يمكن عوده إلى السفينة، فكذا الضمير الأول.
قوله: «وتَعِيهَا» العامة: على كسر العين وتخفيف التاء، وهو مضارع «وَعَى» منصوب عطفاً على «لنجْعَلهَا» .
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل، قال القرطبي: وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب «رحم، وشهد» وإن لم يكن منه، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين.
قال ابن الخطيب: وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فَخْذ وكَبْد وكَتْف» ، وإنما فعل ذلك؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وَهْو وَهْي، ومثل ذلك {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في قراءة من سكَّن القاف.
وروي عن حمزة: إخفاء الكسرة.
وروي عن عاصم وحمزة: بتشديد «الياء» .
وهو غلط عليهما، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء، فظنَّها شدة.
وقيل: أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وروي عن حمزة أيضاً، وموسى بن عبد الله العبسي: «وتعِيهَا» بسكون «الياء» .
وفيه وجهان: الاستئناف، والعطف على المنصوب، وإنما سكنا «الياء» استثقالاً للحركة على حرف العلة، كقراءة:
{تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] .
فصل في «وعى»
قال الزَّجَّاجُ: يقال: وعيتُ كذا، أي: حفظتُه في نفسي، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى، وأوعيت المتاع في الوعاء.
قال الزجاجُ: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك: وعيته، بغير ألف.(19/322)
قال ابن الخطيب: واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم، ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته، ورحمته، وشدة قهره.
«روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال عند نزول هذه الآية:» سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ «، قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك «» .
فإن قيل: لِمَ قال: «أذُنٌ واعِيَةٌ» على التوحيد والتنكير؟ .
فالجوابُ: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله، فهي السَّواد الأعظم عند الله، وأن سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالمُ منهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] .
قال قتادة: الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ.
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} .
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة، فذكر أولاً مقدماتها، فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} .
قوله: «واحدةٌ» تأكيد، و «نَفْخَةٌ» مصدر قام مقام الفاعل.
وقال ابنُ عطية: «لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ» انتهى.
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ، نحو: «ضَرَبَ» .
والعامةُ على الرفع فيهما.
وقرأ أبو السّمال: بنصبهما، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ، فترك المصدر على(19/323)
أصله، ولم يؤنث الفعل وهو: «نُفِخَ» ؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى.
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات.
قال ابن الخطيب: لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ.
فإن قيل: لم قال بعد ذلك {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ .
قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان، والصَّعقة والنشور، والوقوف، والحساب، فكذلك {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} كقوله: «جئتُه عام كذا» وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته.
وقيل: إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ.
وقال: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، أي: لا تثنَّى.
قال الأخفشُ: ووقع الفعلُ على النَّفخة، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع، فقيل: نفخة.
قوله: {وَحُمِلَتِ الأرض} ، قرأ العامة: بتخفيف «الميم» .
أي: وحملتها الريحُ، أو الملائكةُ، أو القدرةُ، أي: رفعتْ من أماكنها، «فَدُكَّتا» ، أي: فُتَّتَا وكسِّرتا، {دَكَّةً وَاحِدةً} أي: الأرض والجبالُ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان، كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .
ولا يجوزُ في «دكَّةً» إلا النصبُ؛ لارتفاع الضمير في «دُكَّتَا» .
وقال الفرَّاءُ: لم يقلْ: «فَدُكِكْنَ» ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [والأرض كالجملة الواحدة] ومثله: {أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30] ، ولم يقل: «كُنَّ» .
وهذا الدَّكُّ، كالزلزلةِ لقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] .
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله، «فَدُكَّتَا» ، أي: جملة الأرض، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير {كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14] ، و {هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 6] .(19/324)
والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل: «دُكَّتا» أي: بُسطتا بسطةً واحدةً، ومنه اندكَّ سنامُ البعير، إذا انفرش في ظهره.
وقرأ ابن عامرٍ في رواية، والأعمش، وابن أبي عبلة وابن مقسم: «وحُمِّلت» - بتشديد الميم -.
فجاز أن يكون التشديد للتكثير، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر.
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره: وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها، لقوله: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] .
وقيل: التقدير: حملنا ملائكة، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف، والثاني هو القائم مقام الفاعل.
قوله: «فيَومئذٍ» منصوب ب «وقعت» ، و «وقَعَتِ الواقِعَةُ» لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وهو أن تكون «الوَاقعةُ» صارت علماً بالغلبةِ على القيامة، أو الواقعة العظيمة، وإلاَّ فقام القائمُ لا يجوز، إذ لا فائدة فيه، وتقدم هذا في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]
والتنوين في «يومئذٍ» للعوضِ من الجملة، تقديره: يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ.
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى {وانشقت السمآء} أي: انصدعت وتفطرت.
وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، أي: ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] بعد ما كانت محكمةً.
يقال: وهى البناء يَهِي وهْياً، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً.
ويقال: كلامٌ واهٍ أي: ضعيف.
فقيل: إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ.
وقيل: لهولِ يوم القيامةِ.
وقال ابن شجرة: «واهية» أي: متخرقة، مأخوذ من قولهم: وهى السِّقاءُ، إذا انخرق.(19/325)
ومن أمثالهم: [الرجز]
4845 - خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ ... ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ
أي: من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه.
{والملك على أَرْجَآئِهَآ} . لم يردْ به ملكاً واحداً، بل المراد الجنس والجمع. «على أرجائها» «الأرجاء» في اللغة: النواحي والأقطار بلغة «هُذَيْل» ، واحدها: «رجا» مقصور وتثنيته «رجوان» ، مثل «عصا، وعصوان» ، قال الشاعر: [الوافر]
4846 - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي ... أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي
وقال آخر: [الطويل]
4847 - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً ... ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ
و «رجاء» هذا يكتب بالألف عكس «رَجَا» ؛ لأنه من ذوات الواو، ويقال: «رجا» ، ورجوانِ، والجمع: «الأرجاء» ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه.
فصل في تفسير الآية
قاب ابن عباس: على أطرافها حين تنشق.
قال الماورديُّ: ولعله قول مجاهد وقتادة، وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم تنشقّ منها.
وقال سعيد بن جبيرٍ: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض، ويحرسون أطرافها.
وقال: إذا صارت السماءُ قطعاً، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها.
فإن قيل: الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى، لقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: 68] فكيف يقال: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ .(19/326)
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء، ثم يموتون.
والثاني: المراد الذين استثناهم في قوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] [النمل: 87] .
فإن قيل: إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة، فيرجعون من حيثُ جاءوا.
وقيل: {على أَرْجَآئِهَآ} ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] .
قوله: {على أَرْجَآئِهَآ} ، خبر المبتدأ، والضمير للسماء، وقيل: للأرضِ، على ما تقدم.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما الفرق بين قوله: «والمَلَكُ» وبين أن يقال: «والمَلائِكَةُ» ؟
قلت: الملكُ أعمُّ من الملائكةِ، ألا ترى إلى قولك: «ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ» أعم من قولك: «ما مِنْ ملائكةٍ» انتهى.
قال أبو حيَّان: ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى، ولذلك صح الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما، وأما دعواه أنه أعم منه، بقوله: «ألا ترى» إلى آخره، فليس دليلاً على دعواه؛ لأن «مِنْ ملكٍ» نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «مِن» المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فردٍ فرد، بخلاف «مِنْ ملائِكةِ» ، فإن «مِنْ» دخلت على جمع منكَّر، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة، لو قلت: «ما في الدار من رجال» جاز أن يكون فيها واحدٌ، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «مِنْ» وإنَّما جِيءَ به مفرداً؛ لأنه أخفُّ، ولأن قوله: {على أَرْجَآئِهَآ} يدلُّ على الجمع؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون «على أرجائِهَا» في وقتٍ واحدٍ بل أوقات، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
وقال شهاب الدين: إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة «(19/327)
البقرة» عند قوله: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فليرجع ثمَّة.
وأما قول أبي حيان: «ما مِنْ رجالٍ» أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع، ففيه خلاف، والتحقيق ما ذكره.
قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .
الضمير في «فَوقَهُمْ» يجوز أن يعود على «الملائكة» بمعنى كما تقدم، وأن يعود على الحاملين الثمانية.
وقيل: إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها.
وقيل: يعود على جميع العالم، أي: أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه.
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس: ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاكٍ.
وعن الحسن: الله أعلمُ كم هم ثمانية، أم ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين، فكانُوا ثَمانيَةً» خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ: وجهُ رجُلٍ، ووجهُ أسدٍ، ووجهُ ثورٍ، ووجهُ نسْرٍ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ» .
فإن قيل: إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ، فكيف سُمُّوا أوعالاً؟ .
فالجواب: أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ.
وفي الخبرِ: «أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ(19/328)
سماءٍ إلى سماءٍ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ» ذكره القشيريُّ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ.
وفي حديث مرفوع: «أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ؛ على صُوَرِ الأوعالِ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ» .
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ.
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه، وليس البيتُ للسكنِ، فكذلك العرشُ، ومعنى «فوقهم» أي: فوق رءوسهم.
قال ابنُ الخطيب: قالت المشبِّهةُ: لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش.
وأجاب: بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى، وذلك محالٌ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله، وكل ذلك كفرٌ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل، فنقول: السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره، ووقفت الأعوانُ حوله، فسمى الله يوم القيامة عرشاً، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه، أو يحتاجُ إليه، بل كما قلنا في البيت والطَّواف.
قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} هو جواب «إذَا» من قوله: «فَإذَا نُفِخَ» . قاله أبو حيَّان.
وفيه نظرٌ، بل جوابها ما تقدم من قوله: «وقَعَتِ الواقِعَةُ» و «تُعْرضُونَ» على هذا مستأنفة.
قوله: {لاَ تخفى} .(19/329)
قرأ الأخوان: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي، كقوله: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] .
واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور.
والأخوان: على أصلهما في إمالة الألف.
وقرأ الباقون: «لا تَخْفَى» بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل، واختاره أبو حاتم.
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ: هذا هو العرضُ على الله، ودليله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [الكهف: 48] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ» .
وقوله: {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} .
قال ابن شجرة: أي: هو عالم بكل شيء من أعمالكم، ف «خَافِيَة» على هذا بمعنى «خفيَّة» كانوا يخفونها من أعمالهم، ونظيره قوله تعالى: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] .
قال ابن الخطيب: فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ، يعني: «تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء» .
وقيل: لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب.(19/330)
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر، ولا البَرُّ من الفاجرِ.
وقيل: لا يتسر منكم عورة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً» .
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ، وهذا دليلٌ على النجاة.
قال ابن عباسٍ: أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب، وله شعاعٌ كشعاع الشمس، وقيل له: فأين أبو بكر، فقال: هيهات، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة.
قال القرطبي: وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه، ومعناه في كتاب «التذكرة» .
قوله: «هَاؤمَ» ، أي: خذوا {اقرؤا كِتَابيَهْ} يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح.
قال الشاعر: [الوافر]
4848 - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
وقال: [الطويل]
4849 - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ
وقال ابن زيدٍ: معنى: «هَاؤمُ» : تعالوا، فتتعدى ب «إلى» .
وقال مقاتلُ: «هَلُمَّ» .
وقيل: خذوا، ومنه الحديث في الربا: «إلا هَاء وهَاءَ» ، أي: يقول كل واحد لصاحبه: خُذْ، وهذا هو المشهورُ.(19/331)
وقيل: هي كلمةٌ وضعت لأجابة الدَّاعي عند الفرح، والنَّشاط.
وفي الحديث: «أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ، فأجَابَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» هَاؤمُ «يطول صوته.» .
وقيل: معناها «اقصدوا» .
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه، وأموا، من الأم، وهو القصدُ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم» .
وقيل: «الميمُ» ضميرُ جماعةِ الذكور.
وزعم القتيبي: أنَّ «الهمزة» بدلٌ من «الكاف» .
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح.
فقوله: «هاؤم» يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى: «خُذْ» أو «اقْصِد إليّ» إن كان بمعنى: «تَعَالَوْا» ، و «اقرأوا» يطلبه أيضاً، فقد تنازعا في: «كِتَابِيَه» وأعمل الثاني للحذف من الأول.
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف» .
وفيها لغاتٌ: وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً، وتكون اسم فعل، ومعناها في الحالين: «خذ» فإن كانت اسم فعلٍ، وهي المذكورة في الآية الكريمة، ففيها لغتان: المدّ والقصر تقول: «هَا درهماً يا زيدُ، وهاء درهماً» ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، ويتصل بهما كافُ الخطاب، اتصالها بإسم الإشارة، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره، نحو: «هَاكَ، هَاكِ، هاءَكَ» إلى آخره.
وتخلف كافُ الخطابِ همزة «هاءَ» مصرفة تصرف كاف الخطاب، فتقول: «هَاءَ يا زيدُ، هاءِ يا هندُ، هاؤم، هاؤن» وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فعلاً صريحاً؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ:
إحداها: أن يكون مثل «عَاطَى يُعَاطِي» ، فيقال: «هاء يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ، هاءوا يا زيدون، هائين يا هنداتُ» .
الثانية: أن تكون مثل: «هَبْ» فيقال: «هَأ، هِىء، هَاءَا، هِئُوا، هِئْنَ» ، مثل: «هَبْ، هِبِي، هِبَا، هِبُوا، هِبْنَ» .
الثالثة: أن تكون مثل: «خَفْ» أمراً من الخوف، فيقال: «هَأْ، هَائِي، هَاءَا، هَاءُوا، هَأنَ» ، مثل: «خَفْ، خَافِي، خَافَا، خَافُوا، خفْنَ» .
قوله: «كتابيه» . منصوب ب «هاؤم» عند الكوفيين، وعند البصريين ب «اقرأوا» ؛ لأنه أقربُ العاملين، والأصل «كتابي» فأدخل «الهاء» لتبين فتحة «الياءِ» و «الهاء» في «كتابيه»(19/332)
و «حسابيه» و «سلطانيه» و «ماليه» للسكتِ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، أو وصل بنية الوقف في «كتابيه» و «حسابيه» اتفاقاً، فأثبت «الهاء» .
وكذلك في «مَاليَه» و «سلطانيه» و {مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] في القارعة، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً، وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصل يستغنى عنها.
فإن قيل: فَلِمَ لم يفعل ذلك في «كتابيه» و «حسابيه» ؟ .
فالجواب: أنه جمع بين اللغتين، هذا في القراءات السبعِ.
وقرأ ابن محيصن: بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في «القارعة» ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل.
وقرأ الأعمشُ، وابن أبي إسحاق: بحذفها فيهن وصلاً، وإثباتها وقفاً.
وابن محيصن: يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها.
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه. وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام.
قوله: {إنِّي ظَنَنتُ} .
قال ابن عباس: أي: أيقنتُ وعلمتُ.
وقيل: ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه، ولم يؤاخذني بها.
قال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.
وقال مجاهد: ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ.
وقال الحسن في هذه الآية: إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه، فأساء العمل.(19/333)
وقوله: {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} ، أي: في الآخرة، ولم أنكرْ البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة.
قوله: {رَّاضِيَةٍ} ، فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على المجاز جعلت العيشة راضية؛ لمحلها في مستحقيها، وأنها لا حال أكمل من حالها، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.
الثاني: أنه على النَّسب، أي: ذات رضا، نحو: «لابنٌ وتامرٌ» لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى: ذات رضا يرضى بها صاحبها.
الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إنه مما جاء فيه «فاعل» بمعنى مفعول نحو: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] ، أي: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى فاعل، كقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] ، أي: ساتراً.
فصل في تنعم أهل الجنة.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً» .
قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ، أي: عظيمةٌ في النفوس، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ، القطوف جمع: قطف، وهو فعل بمعنى مفعول، ك «الدِّعْي» و «الذِّبْح» ، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار، و «دَانِيَةٌ» ، أي: قريبة التناولِ يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع.
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف.
{كُلُواْ} ، أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهذا أمر امتنان، لا أمرُ تكليف.
وقوله: «هنيئاً» قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ، أي: «أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً» ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر، أي: «هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً» . و «الباء» في «بما أسْلفتُمْ» سببية، و «ما» مصدرية أو اسمية، ومعنى «هَنِيئاً» ، لا تكدير فيه ولا تنغيص، «بما أسْلَفْتُم» قدمتم من الأعمال {فِي الأيام الخالية} ، أي: في الدنيا.
قالت المعتزلةُ: وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ، وأن الفعل للعبدِ، وقال: «كُلُوا» بعد قوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} لقوله: {فأما من أوتي كتابه} ، و «من» تتضمنُ معنى الجمعِ.(19/334)
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ: أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقال مقاتل: والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك.
قال الثعلبي: ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا} .
وقيل: إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول: {ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} ثُم يتمنَّى الموت، ويقول: {ياليتها كَانَتِ القاضية} .
فالضَّميرُ في «لَيْتهَا» قيل: يعود إلى الموتةِ الأولى، وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.
و «القَاضِيَة» : القاطعةُ من الحياة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] ، ويقال: قُضِيَ على فلان، إذا مات، والمعنى: يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري، ولم أبْعَثْ بعدها، ولم ألقَ ما وصلت إليه.
قال قتادة: يتمنى الموت، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت؛ قال الشاعر: [الطويل]
4850 - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ ... تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ، والمَوْتُ أعْظَمُ
وقيل: يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ.
قوله: {مَآ أغنى عَنِّي} ، يجوزُ أن يكون نفياً، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه، أي: أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار.
{هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} قال ابن عباس: هلكتْ عنِّي حُجَّتِي، والسلطانُ: الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك.(19/335)
وقال مقاتل: ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح.
وقال ابن زيد: يعني مُلكي وتسلّطي على الناس، وبقيت ذليلاً فقيراً، وكان مُطاعاً في أصحابه.(19/336)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ، كقوله: {كُلُواْ واشربوا} [الحاقة: 24] في إضمار القولِ، يقال ذلك لخزنةِ جهنَّم، والغلُّ: جمعُ اليدين إلى العُنُق، أي: شدوه بالأغلالِ.
{ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} ، أي: اجعلوه يصلى الجحيمَ، وهي النارُ العظمى؛ لأنه كان يتعاظمُ في الدنيا.
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم.
ولذلك قال الزمخشريُّ: «ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم» قال أبو حيان: «وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحُذاقِ النُّحاةِ» ، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
قوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} ، في محل جر صفة ل «سِلْسِلَة» و «في سِلْسِلة» متعلق ب «اسْلُكُوه» ، و «الفاء» لا تمنع من ذلك.
و «الذِّراع» مؤنث، ولذلك يجمع على «أفْعُل» وسقطت «التاء» من عدده.
قال الشاعر: [الرجز]
4851 - أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ ... وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ
وذكر السبعين دون غيرها من العدد، قيل: المرادُ به التكثير، كقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 10] .
وقيل: المراد حقيقة العدد.(19/336)
قال ابن عباسٍ: سبعون ذراعاً بذراع الملكِ.
وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً، كل ذراع سبعون باعاً، كل باع كما بينك وبين «مكّة» وكان في رحبة «الكوفة» .
وقال الحسنُ: الله أعلم أي ذراعٍ.
وزعم بعضهم أنَّ في قوله: «فِي سِلْسلَةٍ» «فاسْلُكوهُ» قلباً، قال: لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه، وتخرج من دبره، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه روي أنها لطولها، تجعل في عنقه، وتلتوي عليه، حتى تحيط به من جميع جهاته، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به.
وقال الزمخشريُّ: والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسة، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها، وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
وناعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته، وجوابه ما تقدم.
ونازعه أيضاً في أن «ثُمَّ» للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ.
وقال مكيٌّ: التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء. انتهى.
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد، وأقطع من التوعد بتغريقه.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} .
«الحضُّ» : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع.
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.
وقيل: المراد قول الكفار: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} [يس: 47] .(19/337)
وأصل «طعام» أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر، والطعام عبارةٌ عن العين، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام، فموضع «المسكين» نصب، والتقدير: على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل، وأضيف المصدر إلى المفعول.
قوله: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} في خبر «ليس» وجهان:
أحدهما: «له» .
والثاني: هاهنا، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر، أو كان حالاً من «حميم» ، ولا يجوز أن يكون «اليوم» خبراً ألبتة؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة.
ومنع المهدوي أن يكون «هاهُنَا» خبراً، ولم يذكر المانع.
وقد ذكره القرطبي فقال: «لأنه يصير المعنى: ليس هاهنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثمَّ طعاماً غيره» . انتهى وفي هذا نظر؛ لأنا لا نسلم أولاً أن ثمَّ طعاماً غيره، فإن أورد قوله: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] فهذا طعام آخر غير الغسلين.
فالجواب: أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه، فسمَّاه في آية «غسليناً» وفي أخرى «ضريعاً» .
ولئن سلمنا أنهما طعامان، فالحصر باعتبار الآكلين، يعني: أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر.
وإذا قلنا: إن «له» الخبر، وأن «اليوم» ، و «هاهنا» متعلقان بما تعلق هو به، فلا إشكال، وكذلك إذا جعلنا «هاهنا» هو الخبر، وعلقنا به الجار والظرف، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر.
وقوله: {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} ، صفة ل «طعام» ، دخل الحصر على الصفة، كقولك: «ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم» .
والمراد ب «الحميم» : الصديق، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام، أي: ليس له صديق ينفعه، ولا طعام إلا من كذا.
وقيل: التقدير: ليس له حميم إلاَّ من غسلين ولا طعام. قاله أبو البقاء.
فجعل «مِنْ غسْلِين» صفة ل «الحميم» ، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار.(19/338)
وقيل: من الطعام والشَّراب؛ لأن الجميع يطعم، بدليل قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] .
فعلى هذا يكون {إلاَّ من غسلين} صفة ل «حميم» ول «طعام» ، والمرادُ بالحميم: ما يشرب، أي: ليس له طعام، ولا شراب إلا غسليناً.
أما إذا أريد بالحميم: الصديد فلا يتأتَّى ذلك.
وعلى هذا الذي ذكرنا، فيه سؤالٌ، وهو أن يقال: بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان؟ والجواب: إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ، أو يجعل «له» أو «هاهنا» حالاً من «حميم» ويتعلق «اليوم» بما تعلق به الحال، ولا يجوز أن يكون «اليوم» حالاً من «حميم» ، و «له» و «هاهنا» متعلقان بما تعلق به الحال؛ لأنه ظرف زمان، وصاحبُ الحال جثة، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ.
و «الغِسْلين» : «فِعْلين» من الغُسَالة، فنُونُه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت.
قال المفسرون: هو صديدُ أهل النَّارِ.
وقيل: شجر يأكلونه.
وعن ابن عباس: لا أدري ما الغِسْلينُ.
وسمي طعاماً؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً؛ كقوله: [الوافر]
4852 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
قوله: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} . صفة ل «غسلين» .
والعامةُ: يهمزون «الخاطئون» ، وهم اسم فاعل من «خَطَأ يَخْطأ» إذا فعل غير الصواب متعمداً، والمخطىءُ من يفعله غير متعمد.
وقرأ الحسنُ والزهريُ والعتكي وطلحة: «الخَاطِيُون» بياء مضمومة بدل الهمزة.
وقرأ ناقع في رواية وشيبة: بطاء مضمومة دون همزة.
وفيها وجهان:(19/339)
أحدهما: أنه كقراءة الجماعةِ إلا أنه خفف بالحذف.
والثاني: أنه اسم فاعل من «خَطَا يَخْطُوا» إذا اتبع خطوات غيره، فيكون من قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [البقرة: 168] ، قاله الزمخشريُّ.
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ: «الصَّابيون» بدون همز، وكلام الناس فيها.
وعن ابن عباس: ما الخاطُون، كلنا نخطُو.
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ: ما الخاطُون إنما هو الخاطئون، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله.(19/340)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} .
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا: إن «لا» نافية لفعل القسم، وكأنه قيل: لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} .
وقيل: المراد: أقسم، و «لا» صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين: مبْصر وغير مبصر، فقيل: الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن «لا» زائدة، فالتقدير: لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني «جبريل» ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل: سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إنَّ محمداً ساحرٌ.
وقال أبو جهل: شاعر وليس القرآن من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال عقبة: كاهن، فقال الله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} أي: أقسم.(19/340)
وإن قيل: «لا» نافية للقسم، فجوابه كجواب القسم.
«إنه» يعني القرآن {لقول رسول كريم} يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ} [التكوير: 19، 20] .
وقال الكلبي أيضاً والقتبي: الرسول هنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، وليس القرآن من قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو من قول الله - عَزَّ وَجَلَّ - ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
فإن قيل: كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب: أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلغه للأمة.
قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} هو جوابُ القسمِ، وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ} معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين: أحدهما: مثبت، والآخر: منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} ، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي: إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ: «يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية: ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه: «تؤمنون» ، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفى إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان: أما قوله: «قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير: «ما أضْربُ زيداً ما أضربه» ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.(19/341)
قال شهابُ الدين: لا يُريد ابن عطية بدلالةِ «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله: «زيداً ما أضربه» أي: «ما أضرب زيداً ما أضربُه» وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة «الأعراف» فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ: «والقّلةُ في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة» .
قال أبو حيَّان: ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ» ، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة» ، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر: [الطويل]
4853 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا
أما إذا كان منصوباً نحو: «قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت» ، ولم تستعمل العرب «قليلاً» ، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء.
انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين: «وهذا مجرد دعوى» .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان: «يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون: بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون» .
وأبيّ: وتتذكرون «بتاءين» .
فصل في القرآن الكريم
قوله: {وما هو بقول شاعرٍ} ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، {ولا بقول كاهنٍ} ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله.(19/342)
وقيل: إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً، ولا يتممون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 18] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] .
وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون: قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
قوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} ، هذه قراءةُ العامة، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ وتقدم مثله.
وأبو السِّمال: «تنزيلاً» بالنصب على إضمار فعل، أي: نزل تنزيلاً.
قال القرطبي: وهو عطفٌ على قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.(19/343)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ} ، هذه قراءةُ العامَّة، «تَفعَّل» من القول مبنيًّا للفاعل.
قال الزمخشريُّ: «التقوُّلُ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل» .
وقرأ بعضهم: «تُقُوِّلَ» مبنياً للمفعول.
فإن كان هذا القارىءُ رفع ب «بَعْضَ الأقاويل» فذاك، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده.
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد: «يَقُولُ» مضارع «قَالَ» .
و «الأقاويل» جمعُ: «أقوال» ، و «أقوال» جمع: «قول» ، فهو نظير: «أبَاييت» جمع: «أبياتٍ» جمع «بيتٍ» .
وقال الزمخشريُّ: وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: «الأعاجيب» و «الأضاحيك» ، كأنها جمع «أفعولة» من القول.(19/343)
والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله «لأخذْنَا مِنْهُ باليَميْنِ» أي: لأخذناه بالقوة، و «الباء» يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة، والمعنى لأخذناه بقوة منا ف «الباء» حالية، والحالُ من الفاعل، وتكون «من» في حكم الزائدةِ، واليمينُ هنا مجاز عن القوة والغلبة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه.
قال القتبي: وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.
ومنه قول الشماخ: [الوافر]
4854 - إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ ... تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
قال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب.
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً، والمعنى: لأخذنا يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسَّيف، في جيده موجهة، وهو أشد عليه.
قال الحسن: لقطعْنَا يدهُ اليمنى.
وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.
وقال السدِّي ومقاتل: والمعنى: انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق، كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} [الصافات: 28] أي: من قبل الحق.
قوله: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} . وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه.
قاب أبو زيد: وجمعه الوُتْن، وثلاثة أوتِنَة، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه.
وقال الكلبي: هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم، وهما علباوان، وإن بينهما العِرْق.
والعِلْباء: عصب العنق.
وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر.
قال الشماخُ: [الوافر]
4855 - إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي ... عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ
وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر، وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه.(19/344)
وقال محمدُ بن كعب: إنه القلبُ ومراقه، وما يليه.
وقال عكرمة: إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف.
قال ابن قتيبة: ولم يرد أنا نقطعه بعينه، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه.
ونظيرهُ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي» «والأبَهَرُ» : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه، فكأنه قال: هذا أوانُ يقتلني السُّم، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره.
قوله: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
في «حاجزين» وجهان:
أحدهما: أنه نعت ل «أحد» على اللفظ، وإنما جمع المعنى، لأن «أحداً» يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي، قاله الزمخشري والحوفيُّ.
وعلى هذا فيكون «مِنْكُم» خبراً للمبتدأ، والمبتدأ في «أحد» زيدت فيه «مِنْ» لوجود شرطها.
وضعفه أبو حيَّان: بأن النفي يتسلَّط على كينونته «منكم» ، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.
والثاني: أن يكون خبراً ل «ما» الحجازية، و «من أحد» اسمها، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و «منكم» على هذا حالٌ، لأنه في الأصل صفة ل «أحد» أو يتعلق ب «حاجزين» ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع، لا يجوز: «ما طعامك زيداً آكلاً» ، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان، و «عنه» يتعلق ب «حاجزين» على القولين، والضمير للمقتول، أو للقتل المدلول عليه بقوله: «لأخذْنَا، لقطعنا» .
قال القرطبيُّ: المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] هذا جمع لأن «بين» لا تقع إلا على اثنين فما زاد، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ» .
لفظه واحد، ومعناه الجمع، و «من» زائدة.
والحَجْز: المنع، و «حَاجزيْنَ» يجوز أن يكون صفة ل «أحد» ، على المعنى كما(19/345)
تقدم، فيكون في موضع جر، والخبر «منكم» ، ويجوز أن يكون منصوباً، على أنه خبر، و «منكم» ملغى، ويكون متعلقاً ب «حاجزين» ، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في «إنَّ فيك زيداً راغبٌ» .
قوله: {وَإِنَّهُ} . يعني: القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: الخائفين الذين يخشون الله، ونظيره {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وقيل: المراد محيمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: هو تذكرة ورحمة ونجاة.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} .
قال الربيع: بالقرآن، {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني: القرآن {عَلَى الكافرين} إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة: الندامة.
وقيل: «إنه لحسرة» يعني: التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السَّفيه» فيه في قوله: [الوافر]
4856 - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ ... وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي: إلى السَّفهِ.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب: وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل: إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ} .
والجوابُ: ما تقدم.
قوله: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} يعني: القرآن العظيم، تنزيل من الله - عَزَّ وَجَلَّ - فهو كحق اليقينِ.
وقيل: حقًّا يقيناً لا بطلان فيه، ويقيناً لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد، قاله ابن الخطيب.
وقال القرطبيُّ: قال ابنُ عبَّاسٍ: إنما هو كقولك: عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف.(19/346)
وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
وقوله: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
قال ابن عبَّاس: أي: فَصَلِّ لربِّك وقيل: نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حِسَاباً يَسِيراً» .
وعن فُضالةَ بنِ شريك، عن أبي الزاهرية قال: سمعته يقول: «مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ» .(19/347)
سورة المعارج(19/348)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
مكية، وهي أربعة وأربعون آية، ومائتان وستة عشر كلمة، وألف وإحدى وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} .
قرأ نافع وابن عامرٍ: «سَالَ سَائِلٌ» بغير همز.
والباقون: بالهمز، فمن همز، فهو من السؤال، وهي اللغةُ الفاشيةُ.
ثم لك في «سأل» وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ضمن معنى «دعا» فلذلك تعدَّى بالباءِ، كما تقول: دعوتُ بكذا، والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ.
والثاني: أن يكون على أصله، والباء بمعنى «عن» ، كقوله: [الطويل]
4856 - م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ ... ..... ... ... ... ... ... ... ...
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] وقد تقدم تحقيقه.
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته.
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفاً، وليس بقياس تخفيف مثلها، بل قياس تخفيفها، جعلها بَيْنَ بَيْنَ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم.(19/348)
الثاني: أنَّها من «سَالَ يَسالُ» مثل: خَافَ يخافُ، وعين الكلمة واو.
قال الزمخشريُّ: «وهي لغةُ قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان» .
قال أبو حيَّان: وينبغي أن يتثبت في قوله: «إنها لغةُ قريش» ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز، أو أصله الهمز، كقراءة من قرأ {وسَلُوا} [النساء: 32] ، إذ لا يجوز أن يكون من «سَالَ» التي يكون عينها واواً، إذ كان يكون «وسالوا الله» مثل «خافوا» فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم، ثم جاء في كلام الزمخشري: وهما «يتسايلان» بالياء، وهو وهم من النُّساخ، إنما الصواب: يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال، يعني بالواو الصريحة.
وقد حكى أبو زيد عن العرب: إنهما يتساولان.
الثالث: إنها من السَّيلان، والمعنى: «سال» واد في جهنم، يقال له: سايل، وهو قول زيد بن ثابت.
فالعين ياء، ويؤيده قراءة ابن عباس: «سال سيل» .
قال الزمخشريُّ: «والسَّيل مصدر في معنى السَّائل، كالغَوْر بمعنى الغَائِر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب» ، انتهى.
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة، قال: [البسيط]
4857 - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً ... ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ
وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله: «سَال سَالٍ» مثل «مَال» .
وتخريجها: أن الأصل: «سائل» فحذفت عينُ الكلمة، وهي الهمزة، واللام محل الإعراب، وهذا كما قيل: هذا شاكٍ في شائك السِّلاح. وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة» فليلتفت إليه.
و «الباء» تتعلق ب «سال» من السيلان تعلقها ب «سأل» لِمَا يزيد.
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ، كأنه قيل: ما سؤالهم؟ .
فقيل: سؤالهم بعذاب، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب.
ولم يعترضه، وهذا عجيب، فإنَّ قوله أولاً: إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال(19/349)
ينافي تقديره بقوله: «سؤالهم بعذاب» ؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال.
وقال الزمخشريُّ: «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت، و» سأل «على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم، كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقعٍ» .
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ: الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن» والسؤالُ بمعنى الدعاء، أي دعا داع بالعذاب، عن ابن عباس وغيره، يقال: دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب.
ويقال: دعوتُ زيداً، أي التمستُ إحضاره، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] ، وقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 23] ، فهي تأكيد، أي: سأل سائل عذاباً واقعاً.
«لِلكَافِرينَ» أي: على الكافرين.
قيل: هو النضر بن الحارث حيثُ قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ، فنزل سؤاله، وقتل يوم «بدر» صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: «إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ «ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح، ثم قال: يا محمدُ، أمرتنا عن الله، أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، فقبلناه منك، وأن نصلي خمساً، ونزكي أموالنا، فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام، فقبلناه منك، وأن نحج، فقبلناه منك، ثُمَّ لم ترض بهذا، حتى فضَّلت ابن عمك علينا، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟ .
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه «فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه، فخرج من دبره فقتله، فنزلت {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} » .(19/350)
وقال الربيع: السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك.
وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم بالعقاب، وطلب أن يوقعه بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام إلى قوله تعالى {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] ، أي: لا تستعجل فإنه قريب، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ.
وقال قتادة: الباءُ بمعنى «عَنْ» ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع، أو متى يقع، قال الله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: فاسأل عنه، وقال علقمةُ: [الطويل]
4858 - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
أي: عن النِّساء، فالمعنى: سلوني بمن وقع العذاب، ولمن يكون، فقال الله تعالى: {لِّلْكَافِرِينَ} وقال أبو عليّ وغيره: وإذا كان من السؤال، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر، فيكون التقدير: سأل سائل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب.
قوله: {لِّلْكَافِرِينَ} . فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «سأل» مضمناً معنى «دعا» كما تقدم، أي: دعا لهم بعذاب واقع.
الثاني: أن يتعلق ب «واقع» واللام للعلة، أي نازل لأجلهم.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، صفة ثانية ل «عذاب» أي كائن للكافرين.
الرابع: أن يكون جواباً للسائل، فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين.
الخامس: أن تكون «اللام» بمعنى «على» ، أي: واقع على الكافرين.
ويؤيده قراءة أبيّ: «على الكافرين» ، وعلى هذا فهي متعلقة ب «واقع» لا على الوجه الذي تقدم قبله.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ يتصل قوله: «للكافرين» ؟ .
قلت: هو على القول الأول متصل ب «عذاب» صفة له أي بعذاب واقع كائن(19/351)
للكافرين، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع، أي: بعذاب نازل لأجلهم.
وعلى الثاني: هو كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين انتهى.
قال أبو حيَّان: وقال الزمخشري: أو بالفعل، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين، قال: هو كلام مبتدأ، وقع جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، وكان قد قرر أن «سأل» في معنى «دعا» فعدي تعديته، كأنه قال: دعا داعٍ بعذاب، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] انتهى، فعلى ما قرره، أنه متعلق ب «دَعَا» يعني «بسأل» ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، هذا لا يصح.
قال شهاب الدين: وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله: وعلى الثاني إلى آخره، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع، فنزلت، و «سأل» على هذا الوجه مضمن معنى «عني واهتم» ، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول، وهو أن «سأل» يتضمن معنى «دَعَا» ، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع، ونسب الزمخشري إلى الغلط، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري، في تعلق «اللام» من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.
قال القرطبي: وقال الحسن: أنزل اللَّهُ تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، وقال: لمن هو؟ فقال: «للكافرين» ، فاللام في «لِلكَافِريْنَ» متعلقة ب «واقع» .
وقال الفرَّاءُ: التقدير: بعذابٍ للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.
أي: هذا العذاب للكافرين في الآخرة، لا يدفعه عنهم أحدٌ.
وقيل: إن اللام بمعنى «على» أي: واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة.
وقيل: بمعنى «عَنْ» أي: ليس له دافع عن الكافرين.
قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} .
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل «عذاب» ، وأن يكون مستأنفاً، والأول أظهر.
وأن يكون حالاً من «عَذاب» لتخصصه، إما بالعمل وإما بالصفة، وأن يكون حالاً من الضمير في «للكافرين» إن جعلناه نعتاً ل «عَذاب» .(19/352)
قوله: {مِّنَ الله} يجوز أن يتعلق ب «دَافِعٌ» بمعنى ليس له دافع من جهته، إذا جاء وقته، وأن يتعلق ب «واقع» ، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده.
وقال أبو البقاء: ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن «لَيْسَ» فعل.
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.
وأجاب: بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك.
قال أبو حيَّان: والأجود أن يكون «مِنَ اللَّهِ» متعلقاً ب «وَاقع» ، و {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} جملة اعتراض بين العامل ومعموله. انتهى.
وهذا إنما يأتي على البدل، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ، لا صفة ل «عذاب» ، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.
قوله: «ذي» صفة لله، ومعنى: «ذِي المَعارِج» ، أي: ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة.
«فالمعارج» ، مراتبُ إنعامه على الخلق.
وقيل: ذي العظمة والعلو.
وقال مجاهدٌ: هي معارج السماءِ.
وقيل: هي السموات.
قال ابن عباس: أي: ذي السموات، سمَّاها معارج الملائكةِ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ، فوصف نفسه بذلك.
وقيل: «المعارج» الغرف، أي: أنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه في الجنة غرفاً.
وقرأ عبد الله: «ذِي المعاريج» بالياء.
يقال: معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج: الدرجات ومنه: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وتقدم الكلام على المعارج في «الزخرف» .
قوله: {تَعْرُجُ} . العامة: بالتاء من فوق.
وقرأ ابن مسعود، وأصحابه، والسلمي، والكسائي: بالياء من تحت.(19/353)
وهما كقراءتي: «فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ» [آل عمران: 39] ، «تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ» [الأنعام: 61] .
وأدغم أبو عمرو: الجيم في التاء.
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب، في المخرج والصفة، كما تقدم في {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] فحُمِلَ الإدغام في التاء، على الإدغام في الشين، لما بين الشين والتاء من التقارب.
وأجيب أيضاً: بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات، وإنْ لم يتقاربا في المخرج، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.
والجملة من «تعرج» مستأنفة.
قوله: «والرُّوحُ» من باب عطف الخاص على العام، إن أريد بالروح جبريل، أو ملك آخر من جنسهم، وأخر هنا وقدم في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ، وتهويل.
فصل في تحرير معنى الآية
{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} ، أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.
قال ابن عبَّاسِ: الروح: جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] .
وقيل: هو ملكٌ آخر، عظيمُ الخلقةِ.
وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله، كهيئة الناس وليس بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين تقبض.
قوله: «إليه» ، أي: إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل: هو كقول إبراهيم {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] ، أي: إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: «إليه» إلى عرشه.
قال شهاب الدين: الضمير في «إليْهِ» ، الظاهر عوده على الله تعالى.
وقيل: يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.(19/354)
قوله: «في يوم» ، فيه وجهان:
أظهرهما: تعلقه ب «تَعْرجُ» .
والثاني: أنه يتعلق ب «دافع» .
وعلى هذا فالجملة من قوله: «تعرجُ الملائكةُ» معترضة، و «كَانَ مقداره» صفةٌ ل «يوم» .
قال ابن الخطيب: الأكثرون على أنَّ قوله: «فِي يَوْمٍ» صلة قوله: «تَعْرُجُ» ، أي: يحصل العروج في مثل هذا اليوم.
وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: «بعَذابٍ واقع» [وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع] ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً، وإما أن يكون مقدراً، فإن كان معنى الآية: إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن، قال: وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية، وهذا غير جائز، بل المراد: أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار، نعوذ بالله منها.
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي: واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ» وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ.
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين» ولذلك سمى نفسه {سَرِيعُ الحساب} [المائدة: 40] ، و {أَسْرَعُ الحاسبين} [(19/355)
الأنعام: 62] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة، قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] .
والمعنى: لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.
قال البغوي: هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.
قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
واعلم أنَّ هذا الطول، إنَّما يكون في حق الكافرِ، وأما في حق المؤمن فلا، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال: «قِيْلَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال:» والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا «» .
وقال بعضهم: إنَّ ذلك، وإن طال، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار.
وأجيب: بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.
وقيل: هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق، أي: تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة، هذه المدة على سبيل التقدير على على التحقيق , أي: تعرج الملائكُة ساعة قليلة , لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ.
وعن مجاهد والحسن وعكرمة: هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ، وهو قول أبي مسلمٍ.
فإن قيل: كيف الجمعُ بين هذه، وبين قوله في سورة «السَّجدة» : {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] وقد قال ابن عباس: هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟ .(19/356)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
فالجوابُ: يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله: {في يَوْمٍ} يريد: في يوم من أيام الدنيا، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش.
قوله
: {فاصبر
صَبْراً جَمِيلاً} قال ابن الخطيب: هذا متعلق ب «سألَ سَائلٌ» ؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتعنُّت فأمر بالصبر.
ومن قَرَأ: «سَالَ سَائِل» ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله.
وقيل: أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو.
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ: هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال.
قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} .
الضميرُ في «إنَّهُمْ» لأهل «مكة» ، وفي «يَرونَهُم، ونَرَاه» لليوم إن أريد به يوم القيامة.
قال القرطبيُّ: أي: نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ، كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا.
وقال الأعمشُ: يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره: هذا بعيدٌ لا يكون.
وقيل: الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار، أي: غير كائن، «ونراه قريباً» لأن ما هو آت، فهو قريب.
قوله: {يَوْمَ تَكُونُ} ، فيه أوجه:(19/357)
أحدها: أنه متعلق ب «قريباً» وهذا إذا كان الضمير في «نراه» للعذاب ظاهراً.
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع» ، أي: يقع يوم يكون.
الثالث: أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده، أي: يوم يكون كان وكيت وكيت.
الرابع: أنه بدل من الضمير في «نَرَاهُ» إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ.
الخامس: أنَّه بدل عن «فِي يَوْمٍ» ، فيمن علقه ب «واقع» . قاله الزمخشري.
وإنَّما قال: فيمن علقه «بِواقعٍ» لأنه إذا علق ب «تَعْرُجُ» في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ، والجبال كالعِهْنِ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه.
قال أبو حيان: «ولا يجوز هذا» يعني: إبداله من «في يوم» قال: لأن «فِي يَوْمٍ» وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد، ولا محكوم له بحكم الزائد، ك «رُّبَّ» وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله: [الكامل]
4859 - أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ ... إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ولذلك لا يجوز «مررتُ بزيد الخياط» على موضع «بزيد» ولا «مررتُ بزيد وعمراً» ، ولا «غضب على زيد وجعفراً» ولا «مررت بزيد وأخاك» على مراعاة الموضع.
قال شهاب الدين: قد تقدم أن قراءة {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.
ثم قال أبو حيَّان: فإن قلت: الحركة في «يوم» تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ، فهو مجرور مثل «فِي يَوْمٍ» .
قلتُ: لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.
قال شهاب الدين: إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان» .(19/358)
قوله: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} .
قيل: «العِهْنُ» هو الصُّوف مطلقاً، وقيل: يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير: [الطويل]
4860 - كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ
الفتات: القطع، والعِهْنُ: الصُّوف الأحمر، واحده عهنة.
وقيل: يقيد كونه مصبوغاً ألواناً، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة، كما قال تعالى: {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر: 27] .
والمعنى: أنها تلين بعد شدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً، ثم هباءً مَنْثُوراً.
قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} .
قرأ العامة: «يَسْألُ» مبنياً للفاعل، والمفعول الثاني محذوف، فقيل: تقديره: لا يسأله نصره، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود.
وقيل: لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ.
وقيل: «حَمِيْماً» منصوب على إسقاط الخافض، أي: عن حميم، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
وقرأ أبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ: والبزي عن عاصم: «يُسْألُ» مبنياً للمفعول.
فقيل: «حميماً» مفعول ثان لا على إسقاط حرف، والمعنى: لا يسأل إحضاره.
وقيل: بل هو على إسقاط «عَنْ» ، أي: عن حميم، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يُسأل عن عمله، نظيره: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} عدي بالتضعيف إلى ثان، وقام الأول مقام الفاعل، وفي محل هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الصفة ل «حَمِيم» .
والثاني: أنها مستأنفة.(19/359)
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما موقع «يُبصَّرُونهُم» ؟
قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمَّا قال: {لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} قيل: لعله لا يبصره، فقال: «يُبَصَّرُونهُم» ، ثم قال: ويجوز أن يكون «يبصرُونهُم» صفة، أي: حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى.
وإنما اجتمع الضميران في «يبصرُونهُم» وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي.
وقرأ قتادةُ: «يُبصِرُونهُمْ» مبنياً للفاعل، من «أبصَرَ» ، أي: يبصر المؤمن الكافر في النار.
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«يُبصَّرُونهُم» ، أي: يرونهم، يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} [طه: 96] ، ويقال: «بصَّرَني زيدٌ بكذا» فإذا حذفت الجار قلت: بصَّرني زيدٌ، فإذا بنيت الفعل للمفعول، وقد حذفت الجارَّ، قلت: بصرت زيداً، فهذا معنى: «يُبَصَّرونهُمْ» أي: يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه، وهو مع ذلك، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فيبصر الرجلُ أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهُ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم.
وقال ابن عبَّاس: يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً: يُبْصِرُ بعضهم بعضاً، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ، فالضمير في «يُبَصَّرونهُم» على هذا للكافر، والهاءُ والميم للأقرباء.
وقال مجاهدُ: المعنى: يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ، فالضمير في «يُبَصَّرونهم» للمؤمنين، والهاءُ والميمُ للكفار.
وقال ابنُ زيدٍ: المعنى: يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا، فالضميرُ في «يُبَصَّرونَهُم» للتابعين، والهاءُ والميم للمتبوعين.
وقيل: إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه، والمقتولُ قاتله.
وقيل: إن الضمير في «يُبصَّرونَهم» يرجع إلى الملائكة، أي: يعرفون أحوال(19/360)
الناس، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم، وتمَّ الكلامُ عند قوله: «يُبصَّرُونَهُم» . قوله: «يَوَدُّ المُجرِمُ» ، أي: يتمنَّى الكافرُ {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} ، أي: من عذاب جهنم، وقيل: المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب، وتقدم الكلام على قراءتي «يَومئذٍ» فتحاً وجرًّا في «هود» والعامة: على إضافة «عَذابِ» ل «يَومِئذٍ» .
وأبو حيوة: بتنوين «عذابٍ» ، ونصب «يَومئذٍ» ، على الظرف.
قال ابنُ الخطيب: وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب.
وقال أبو حيَّان هنا: «والجمهور يكسرها - أي: ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة: يفتحها» انتهى.
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع، والكسائي.
قوله: {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} .
قال ثعلب: الفصيلةُ: الآباء الأدنون.
وقال أبو عبيدة: الفخذ.
وقال مجاهد وابن زيدٍ: عشيرته الأقربون.
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله: «شعوباً وقبائل» .
وقال المُبرِّدُ: الفصيلةُ: القطعةُ من أعضاء الجسدِ، وهي دون القبيلةِ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه.
قال ابنُ الخطيبِ: فصيلة الرجل: أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي» فلما كان مفصولاً منهما، كانا أيضاً مفصولين منه، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ.
وكان يقالُ للعباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فصيلةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن العمَّ قائم مقام الأب.
وقوله: «التي تؤويه» ، أي: ينصرونه.
وقال مالك: أمُّه التي تربيه، حكاه الماورديُّ، ورواه عنه أشهبُ.
قال شهاب الدين: ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو، قالوا: لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه، والإبدال للتخفيف.(19/361)
وقرأ الزهريُّ: «تؤويهُ، وتُنجِيهُ» بضم هاء الكناية، على الأصل.
و «ثُمَّ نُنجِيْهِ» عطف على «يَفْتَدِي» فهو داخلٌ في خبر «لَوْ» وتقدم الكلامُ فيها، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي، ومفعول «يَوَدُّ» محذوف، أي: يودُّ النَّجاة.
وقيل: إنها هنا بمعنى «أن» وليس بشيء، وفاعل «ينجيه» إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه «يَفْتَدي» ، أو ضمير من تقدم ذكرهم، وهو قوله: {وَمَن فِي الأرض} .
و {مَن فِي الأرض} مجرور عطفاً على «بَنِيْهِ» وما بعده، أي: يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و «حميماً» إما حال، وإما تأكيد، ووحد باعتبار اللفظ.
فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته» من أحكام
إذا وقف على فصيلته، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى، والأول أكثر في النطقِ، قاله القرطبي و «تؤويه» تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به، {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} ، أي: ويود لو فدي بهم لافتدى «ثُمَّ يُنجِيْهِ» أي: ويخلصه ذلك الفداءُ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار، كقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أي: وإن أكلهُ لفسقٌ.
وقيل: «يَودُّ المُجرمُ» يقتضي جواباً بالفاء كقوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] .
والجوابُ في هذه الآية «ثُمَّ يُنجِيهِ» لأنَّها من حروف العطف، أي يودُّ المجرم لو يفتدي، وينجيهِ الافتداءُ.(19/362)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
قوله: «كلا» . ردعٌ وزجرٌ.
قال القرطبيُّ: «وإنما تكون بمعنى» حقًّا «، وبمعنى» لا «وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى» حقًّا «فإن تمام الكلام» ينجيه «وإذا كانت بمعنى» لا «كان تمامُ الكلام عليها. إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ» .
قوله: {إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً} في الضَّمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضميرُ النارِ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها.
والثاني: أنه ضميرُ القصةِ.
الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ، قاله الزمخشريُّ. وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] .(19/362)
فعلى الأول يجوز في «لَظَى، نزَّاعةً» أوجه:
أحدها: أن يكون «لَظَى» خبر «إن» أي إن النار لظى، و «نزاعة للشوى» خبر ثان، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هي نزاعة، أو تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير المنصوب و «نزَّاعةً» خبر «إنَّ» .
وعلى الثاني: تكون «لَظَى نزَّاعةً» جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل «إنَّ» ، مفسرة لضمير القصةِ، وكذا على الوجه الثالثِ.
ويجوز أن تكون «نزَّاعةً» صفة ل «لَظَى» إذا لم نجعلها علماً، بل بمعنى اللهبِ، وإنما أنِّثَ النعتُ، فقيل: «نزَّاعةً» لأن اللهب بمعنى النارِ، قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ؛ لأن «لَظَى» ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً.
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري: «ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه» .
قال شهاب الدين: متى جعله ضميراً مبهماً، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ، وهو إما «لَظَى» على أن تكون «نزَّاعةً» خبر مبتدأ مضمر، وإما «نزَّاعةٌ» على أن تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير وهذا أقربُ، ولا يجوز أن تكون «لَظَى، نزَّاعةٌ» مبتدأ وخبر، والجملة خبر ل «إنَّ» على أن يكون الضميرُ مبهماً، لئلاَّ يتحد القولان، أعني هذا القول، وقول: إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ.
وقرأ العامة: «نزَّاعةٌ» بالرفع.
وقرأ حفص، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ، واليَزيديُّ، وابنُ مقسم: «نزَّاعةً» بالنصب. وفيها وجهان:
أحدهما: أن ينتصب على الحال، واعترض عليه أبو علي الفارسي، وقال: حمله على الحال بعيدٌ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها» .
وفي صاحبها أوجه:
أحدها: أنه الضمير المستكنُّ في «لَظَى» ؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك «الحارث والعباس» ، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي، وإذا عمل العلم الصريح(19/363)
والكنية في الظرف، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى، ومن مجيء ذلك قوله: [السريع أو الرجز]
4861 - أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان ... ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.
الثاني: أنَّه فاعل «تَدعُو» وقدمت حاله عليه، أي: تدعو حال كونها نزَّاعةً.
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً، لأنَّ «لَظَى» هذا شأنها، وهو معروف من أمرها، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ.
الثالث: أنه محذوف هو والعامل تقديره: تتلظَّى نزاعة، ودل عليه «لَظَى» .
الثاني من الوجهين الأولين: أنها منصوبة على الاختصاص، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل. كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر، والتقدير: أعني نزاعةٌ وأخصُّها.
وقد منع المبردُ نصب «نزَّاعة» ، قال: لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و «لَظَى» لا تكون إلا نزَّاعةً، قاله عنه مكِّيٌّ.
وردَّ عليه بقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] ، {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام: 126] قال: فالحق لا يكون إلا مصدقاً، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً.
قال شهاب الدين: المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ، وإن كان خلاف الأصلِ، واللظى في الأصل: اللهب، ونقل علماً لجهنم، ولذلك منع من الصرف.
وقيل: هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ، والشَّوى: الأطراف جمع شواة، ك «نوى، ونواة» ؛ قال الشاعر: [الوافر]
4862 - إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا ... وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا
يعني: أطرافها.
وقيل: الشَّوى: الأعضاء التي ليست بمقتل، ومنه: رماه فأشواه، أي لم يُصِبْ مقتله، وشوى الفرس: قوائمه، لأنه يقال: عَبْلُ الشَّوى.
وقيل: الشَّوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي: [مجزوء الكامل]
4863 - قَالتْ قُتَيْلَةُ: مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه(19/364)
وقيل: هو جلد الإنسان، والشَّوى أيضاً: رُذال المال، والشيء اليسير.
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن: «نزَّاعةً للشَّوى» : أي لمكارم وجهه. وعن الحسن أيضاً: إنه الهام.
وقال أبو العالية: لمحاسن وجهه.
وقال قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه.
وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً.
وقال الكسائي: هي المفاصل.
وقيل: هي القوائم والجلود.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
4864 - سَلِيمُ الشَّظَى، عَبْلُ الشَّوى، شَنِجُ النَّسَا ... لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ
قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ} .
يجوز أن يكون خبراً ل «إنَّ» أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من «لَظَى» أو من «نزَّاعةً» على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى: تدعُو «لَظَى» من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله «وتولَّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول: يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس: تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
وقال ثعلبٌ: «تَدعُو» ، أي: تهلك، تقول العربُ: دعاك الله، أي: أهلكك اللَّهُ.
وقال الخليلُ: إنَّه ليس كالدُّعاء «تعالوا» ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم، ومن تعذيبهم.
وقيل: الدَّاعي: خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها.(19/365)
وقيل: هو ضرب مثل، أي: أنها تدعوهم بلسان الحال، أي: إنَّ مصير من أدبر، وتولى إليها، فكأنَّها الدَّاعية لهم.
ومثله قول الشاعر: [الكامل]
4865 - ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً ... يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ
الغضيضُ الأبكمُ: الذباب، وهو لا يدعو، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له.
قال القرطبيُّ: «والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ، والأخبار الصحيحة» .
قال القشيريُّ: ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة.
قوله: {وَجَمَعَ فأوعى} . أي: جمع المال فجعله في وعاءٍ، ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعاً منوعاً.
قال ابن الخطيب: «جَمَعَ» إشارة إلى حبّ الدنيا، والحِرْص عليها، «وأوْعَى» إشارة إلى الأمل، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه.
وقيل: «جَمَعَ» المعاصي «فأوْعَى» أي: أكثر منها حتى أثقلتهُ، وأصرَّ عليها، ولم يَتُبْ منها.(19/366)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
قوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .
قال الضحاك: المرادُ بالإنسان هنا الكافر.
وقيل: عام لأنه استثنى منه المصلين، فدلَّ على أن المراد به الجنس، فهو كقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2، 3] . و «هَلُوعاً» حال مقدرة.
والهلع مُفسَّر بما بعده، وهو قوله «إذَا، وإذَا» .(19/366)
قال ثعلبٌ: سألني محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ .
فقلت: قد فسَّره اللَّهُ، ولا يكون أبينَ من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه. انتهى.
وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد: أشدّ الحرص وأسوأ الجزع، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما.
وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع، على التكثير.
وقيل: هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم: «ناقةٌ هلوَاع» ، أي: سريعة السير، قال المفسرون: معناه: أنه لا يصبر في خير ولا شر، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الهِلوَاع، الحريصُ على ما لا يحل له.
وقال عكرمة: هو الضَّجور.
وقال الضحاك: هو الذي لا يشبع.
والمَنُوع: هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى.
وقال ابن كيسان: خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه، ويرضيه، ويهربُ مما يكرهه، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ.
وقال أبو عبيدة: الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ، وجُبْنٌ خَالِعٌ» .
والعرب تقول: ناقةٌ هلواعة، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة؛ قال: [الكامل]
4866 - صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ
الذِّعِلب والذِّعلِبَة: النَّاقةُ السَّريعةُ.(19/367)
فصل في إعراب الآية
«جزُوْعاً، ومَنُوعاً» فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ:
أحدها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هَلُوعاً» ، وهو العاملُ فيهما، والتقدير: هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً، وقت مسِّ الشَّرِّ، ومنوعاً وقت مس الخير، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين.
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال: «جَزُوعاً» حال أخرى، والعاملُ فيها «هَلُوعاً» .
فقوله: «أخْرَى» يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله: والعامل فيها هلوعاً.
والثاني: أن يكونا خبرين ل «كان» ، أو «صار» مضمرة، أي: إذا مسَّه الشَّرُّ كان، أو صار جَزُوعاً، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً، قاله مكيٌّ.
وعلى هذا ف «إذا» شرطية، وعلى الأول ظرف محض، العامل فيه ما بعده كما تقدم.
الثالث: أنَّهما نعتٌ ل «هَلُوعاً» ، قاله مكيٌّ، إلاَّ أنَّه قال: وفيه بعد؛ لأنك تنوي به التقديم بعد «إذا» انتهى.
وهذ الاستبعادُ ليس بشيء، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله.
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت.
فصل في كلام القاضي
قال القاضي: قوله تعالى {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} نظير قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] ، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى، لما قدروا على تركها.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين:
أحدهما: الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع.
والثاني: تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ،(19/368)
فلا شك أنَّها تحدثُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ.
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار.
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
قيل: المرادُ بالخيرِ والشر: الغِنَى والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى: أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل: حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ: إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قوله: {إِلاَّ المصلين} .
قال النخعيُّ: المرادُ ب «المصلين» : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة.
وقال ابن مسعودٍ: هم الذين يصلونها لوقتها، فأمَّا تركها فكفرٌ.
وقيل: هم الصحابة وقيل: هم المؤمنون عامّةً.
قوله: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} أي: على مواقيتها.
وقال عقبة بن عامر: الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً.
و «الدائم» الساكن، ومنه: «نهى عن البول في الماء الدائم» ، أي: الساكن.
وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها.
فإن قيل: كيف قال: {على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} وقال في موضع آخر: {على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] .(19/369)
قال ابن الخطيب: دوامُهم عليها ألا يتركوها في وقتٍ من الأوقاتِ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجدِ الشريفةِ والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وألاّ يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصَّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلواتِ.
قوله: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} .
قال قتادة وابن سيرين: يريد الزكاة المفروضة.
وقال مجاهد: سوى الزكاة، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة الرَّحمِ وحمل الكل.
والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، والمعلوم هو المقدر، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ، وذلك يقل ويكثرُ.
وقال ابنُ عباسٍ: من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة.
وقوله: {لِّلسَّآئِلِ والمحروم} . تقدَّم في الذَّاريات.
قوله: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} [المعارج: 26] ، أي: بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة، أي: يؤمنون بالبعث، والنشور.
{والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} ، أي: خائفون، والإشفاق: الخوف إما من تركِ واجبٍ، وإما من فعلِ محظورٍ، ثم أكَّد ذلك الخوف بقوله:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} .
قال ابن عباسٍ: لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه.
وقيل: لا يأمنه أحدٌ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.
{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون} تقدَّم تفسيرهُ في سورة «المؤمنون» [المؤمنين: 5، 6، 7] .(19/370)
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} تقدَّم أيضاً [المؤمنين: 8] .
وقرىء: «لأمَانتِهِم» على التوحيد، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن.
ف «الأمانة» اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى ذلك.
قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} .
قرأ حفص: «بِشَهادَاتِهِمْ» جمعاً، اعتباراً بتعدد الأنواع، والباقون: بالإفراد، أو المرادُ الجنس.
قال الواحديُّ: والإفرادُ أولى؛ لأنه مصدرٌ، فيفرد كما تفرد المصادرُ، وإن أضيف إلى الجمع ك {لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ.
قال أكثرُ المفسرينَ: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام، ولا يكتمونها.
وقال ابن عبَّاس: بشهادتهم: أن الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
قال قتادةُ: على وضوئها وركوعها وسجودها، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يُراعُو إسباغَ الوضوءِ لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها، وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة على أحوالها، ذكره القرطبيُّ.
ثم قال: {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ، أي: أكرمهم الله فيها، بأنواع الكرامات.(19/371)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} .
روي أنَّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستمعون كلامه، ويستهزئون به(19/371)
ويكذبونه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلندخلنَّها قبلهم، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ} .
وقال أبو مسلمٍ: ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون، فهم الذين كانوا عنده، وإسراعهم المذكور هو الإسراعُ في الكفر، لقوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} [آل عمران: 176] .
و «الإهْطَاعُ» : الإسراعُ.
قال الأخفش: «مُهْطعيْنَ» ، أي: مُسرِعيْنَ، قال: [الوافر]
4867 - بِمكَّةَ أهْلُهَا ولقَدْ أرَاهُمْ ... إليْهِ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى: ما بالهُمْ يسرِعُونَ إليْكَ، ويجلسُونَ حولك، ويعملون بما تأمُرهُمْ.
وقيل: ما بالهم يسرعون في التكذيب لك.
وقيل: ما بالُ الذين كفروا يسرعون إلى السَّماع منك ليعيبوكَ ويستهزئوا بك.
وقال عطيةُ: «مُهْطِعيْنَ» : مُعْرضِيْنَ.
وقال الكلبيُّ: ناظرين إليك تعجُّباً.
وقال قتادةُ: مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك، وذلك من نظر العدو، وهو منصوبٌ على الحال.
قال القرطبيُّ: نزلت في جميع المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولا يؤمنون به، و «قبلك» ، أي: نحوك.
قوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} .
أي: عن يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشماله حلقاً حلقاً وجماعات.
قوله: «عِزيْنَ» ، حالٌ من «الَّذين كَفرُوا» .
وقيل: حال من الضمير في «مُهْطعِينَ» فيكونُ حالاً متداخلة، و «عَن اليَميْنِ» ، يجوز أن يتعلق ب «عزين» ؛ لأنَّه بمعنى متفرقين. قاله أبو البقاء.
وأن يتعلق ب «مُهْطِعيْنَ» أي: مسرعين عن هاتين الجهتين، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي: كائنين عن اليمين. قاله أبو البقاء.
و «عَزِيْنَ» جمع عزة، والعِزَة: الجماعة. قال مكيٌّ.
قال مكيٌّ: «وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه» .(19/372)
قيل: إن أصله: عزهة، كما أنَّ أصل سنة: سنهة، ثم حذفت الهاء، انتهى.
قال شهاب الدين: قوله: لا يعقل سَهْو، لأن الاعتبار بالمدلولِ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء. واختلفوا في لام «عِزَة» على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها «واو» من: «عزوته أعزوه» ، أي: نسبته، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض.
الثاني: أنَّها «ياء» ، إذ يقال «عَزيتُه» - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته، فعلى هذا في لامها لغتانِ.
الثالث: أنَّها هاءٌ، وتجمع تكسيراً على «عِزَهٍ» نحو كسرة وكِسَر، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء، فلم يقولوا: «عزات» كما لم يقولوا في «شفة وأمة: شفَات ولا أمات» استغناء ب «شِفَاه وإماء» .
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب «الواو» والنون؛ قال الراعي: [الكامل]
4868 - أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي ... أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولاَ
وقال الكميت: [الوافر]
4869 - ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا
وقال عنترةُ: [الوافر]
4870 - وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ ... عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ
وقال آخر: [الوافر]
4871 - تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ ... عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا
وقال الشاعرُ: [الوافر]
4872 - فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ ... تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا
والعزة لغةً: الجماعة في تفرقة، قاله أبو عبيدة.(19/373)
ومنه حديثُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقاً، فقال:» مَا لِي أراكُمْ عِزيْنَ، ألا تصفُّونَ كما تُصَفُّ المَلائِكةُ عِندَ ربِّهَا «، قالوا: وكيف تصف الملائكةُ؟ قال:» يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف «» .
وقال الأصمعيُّ: العِزُونَ: الأصنافُ، يقال: في الدَّار عزون، أي: أصناف.
وفي «الصِّحاح» : «العِزَةُ» الفرقة من الناس.
وقيل: العِزَة: الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة.
وقال الراغبُ: «وقيل: هو من قولهم: عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر، وتعزَّى: تصبَّر، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض» .
قال القرطبيُّ: ويقال: عِزُونَ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا: عزات، كما قالوا: ثبات، قيل: كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ.
وقال الأزهريُّ: وأصلها من قولهم: عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم، والاسم: «العَزْوَة» ، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد.
قوله: {أَن يُدْخَلَ} .
العامة: على بنائه للمفعول.
وزيد بن علي، والحسن، وابن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية، قال القرطبي: وطلحة بن مصرف، والأعرج على بنائه للفاعل.
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون: إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم، أجابهم الله - تعالى - بقوله: {كَلاَّ} لا يدخلونها، ثم ابتدأ فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ، ثم من علقة، ثم كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة، وإنما يستوجب بالإيمان، والعمل الصالح، ورحمة الله تعالى.(19/374)
وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ} ، أي: من القذر، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ.
وقال قتادة في هذه الآيةِ: إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ.
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ .
فقال له: أتعرفني، قال: نعم، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت تحمل العذرةَ، فمضى المهلَّب وترك مشيته.
قال ابن الخطيب: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً:
أحدها: لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم: كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة.
وثانيها: أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى: إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟ .
وثالثها: أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، ولم يتصفوا بالإيمانِ، والمعرفةِ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟ .
وقيل: معنى قوله: {خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} ، أي: مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ.
كقول الأعشى: [المتقارب]
4873 - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا ... وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا
أي: من أجل ليلى.(19/375)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} . قد تقدَّم.
وقرأ جماعة: «فلأقسم» دون ألفٍ.(19/375)
{بِرَبِّ المشارق والمغارب} ، قرأ العامةَ: بجمع «المشارق، والمغارب» .
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة، وحميد: بإفرادهما، وهي مشارقُ الشمس ومغاربها.
وقوله: «إنَّا لقَادِرُونَ» ، جواب القسم: {على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أي: نقدر على إهلاكهم، وإذهابهم، والإتيان بخير منهم، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، أي: لا يفوتنا شيء، ولا يعجزنا أمرٌ نريده.
قوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} ، أي: اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد، واشتغل أنت بما أمرت به. وقد تقدم تفسيره في سورة «الطور» .
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه، هل خرج إلى الفعل أم لا؟ .
فقيل: بدل بهم الأنصار والمهاجرين.
وقيل: بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.
وقيل: لم يقع هذا التبديلُ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا.
قوله: {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} .
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر: «يَلْقُوا» مضارع «لَقى» ، والمعنى: أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال:
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} ، يجوز أن يكون بدلاً من «يومهم» أو منصوب بإضمار «أعني» .
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر، وبني على الفتح، وإن أضيف إلى معرب، أي: هو يوم يخرجون، كقوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] . وتقدم الكلام عنه مشبعاً.
والعامة: على بناء «يَخْرجُونَ» للفاعل.
وقرأ السلميُّ والمغيرة، وروي عن عاصمٍ: بناؤه للمفعول.
قوله: «سِراعاً» ، حال من فاعل «يَخْرجُونَ» ، جمعُ سِرَاع ك «ظِرَاف» في «ظَريف» ، و «كأنَّهُمْ» حال ثانية منه، أو حال من ضمير الحال، فتكونُ متداخلة.(19/376)
والأجداثُ: القبور، ونظيره: {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] ، أي: سِرَاعاً إلى إجابة الدَّاعي.
قوله: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} . متعلق بالخبر.
والعامَّة: على «نَصْبٍ» بالفتح، وإسكان الصاد.
وابن عامر وحفص: بضمتين.
وأبو عمران [الجوني] ومجاهد: بفتحتين.
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم: بضم النون، وإسكان الصاد.
؟؟؟ فالأولى: هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه.
وقال أبو عمرو: هو شَبكةُ الصَّائدِ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.
وأمَّا الثانية، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.
وأنشد للأعشى: [الطويل]
4874 - وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
يعني: إيَّاك وذا النُّصُبِ.
الثاني: إنَّه جمعُ «نِصَاب» ك «كُتُب» و «كِتَاب» .
الثالث
: أنَّه جمع «نَصْب» نحو: «رَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف» وهذا قول أبي الحسن.
وجمع الجمع: أنصاب.
وقال النحاسُ: وقيل: نُصُبٌ ونَصْبٌ، بمعنى واحد، كما قيل: عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد.
وأما الثالثة: ففعلٌ بمعنى مفعول، أي: منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ.
والرابعة: تخفيفٌ من الثانية، والنصب أيضاً: الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] .
؟؟؟؟؟؟؟(19/377)
فصل في معنى قوله: نصب
قال ابن عباس: «إلى نصب» ، أي إلى غاية، وهي التي ينتهي إليها بصرُك.
وقال الكلبيُّ: هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ.
وقال الحسنُ: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم.
و «يُوفضُونَ» : يُسْرعُونَ.
وقيل: يستبقون.
وقيل: يسعون.
وقيل: ينطلقون، وهي متقاربة، والإيفاض: الإسراع؛ قال الشاعر: [المتقارب]
4875 - فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي ... دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ
وعبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنِّ؛ قال لبيد: [الطويل]
4876 - ... ... ... ... ... ... ... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ
وقال الآخر: [الرجز]
4877 - لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا ... وقال الليثُ: وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً، وأوفضها صاحبُها، فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم يقال: وفض وأوفض، واستوفض بمعنى: أسْرَع.
قوله: {خَاشِعَةً} . حال إما من فاعل «يُوفِضُونَ» وهو أقرب، أو من فاعل «يَخرُجونَ» وفيه بعدٌ منه، وفيه تعدد الحال لذي حالٍ واحدةٍ، وفيه الخلافُ المشهورُ.
و «أبْصارُهُمْ» فاعل، والمعنى: ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله.
قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ، قرأ العامةُ، بتنوين «ذلَّة» ، والابتداء ب «ذلِكَ اليَوْمَ» ، وخبره «الَّذي كَانُوا» .(19/378)
وقرأ يعقوب والتمَّارُ: بإضافةِ «ذلَّة» إلى «ذلك» وجر «اليَوْم» ؛ لأنه صفةٌ، و «الَّذِي» نعتٌ لليومِ.
و «تَرهَقُهمْ» يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل «يُوفضُونَ» أو «يَخرُجُونَ» ، ولم يذكر مكي غيره.
ومعنى: «ترهَقهُمْ» ، أي: يغشاهم الهوانُ والذلة.
قال قتادة: هو سوادُ الوُجوهِ.
والرَّهقُ: الغشيان: ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام، يقال: رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً، أي: غشيه.
ومنه قوله تعالى: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] .
{ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} ، أي: يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيِّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ سأل سَائلٍ، أعْطاهُ اللَّهُ ثَوابَ الَّذينَ لأمَانَاتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعثونَ، والَّذينَ هُمْ على صَلأتِهِمْ يُحَافِظُونَ» .(19/379)
سورة نوح عليه السلام(19/380)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
مكية وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} .
روى قتادة عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أوَّل نبيٍّ أرسِلَ نوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأرسِلَ إلى جَميعِ أهْلِ الأرضِ» .
ولذلك لمَّا كفروا، أغرق الله أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بنُ لامك بن(19/380)
متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قال وهبٌ: وكلهم مؤمنون، أرسل إلى قومهِ وهو ابنُ خمسين سنة.
وقال ابن عبَّاسٍ: أربعين سنة.
وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابنُ ثلاثمائة وخمسين سنة.
قوله: {أَنْ أَنذِرْ} .
يجوز أن تكون المفسرة، فلا يكونُ لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار الباءِ، ويجوز أن تكون المصدرية، أي: أرسلناه بالإنذار.
قال الزمخشريُّ: والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار. انتهى.
وهذا الذي قدره حسنٌ جدّاً، وهو جواب عن سؤال تقدَّم في هذا الكتاب، وهو قولهم: فإنَّ «أنْ» المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبكُ منها وما بعدها مصدر، وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر؛ ألا ترى أنَّك إذا قدَّرت «كتبت إليهم بأن قم كتبت إليه القيام» تفوت بالدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر، فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشريُّ، أي: كتبت إليه بأن قلتُ له: قُمْ، أي: كتبتُ إليه بالأمر بالقيامِ.
وقال القرطبي: «أي: بأن أنذر قومكَ، فموضع» أن «نصب بإسقاط الخافض» .
وقرأ عبد الله: «أنذر قومك» بغير «أن» بمعنى: «قلنا له: أنذر قومك» . وقد تقدم معنى الإنذار في سورة «البقرة» .
وقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال ابن عبَّاسٍ: يعني عذاب النَّار في الآخرة.
وقال الكلبيُّ: هو الطوفان.
وقيل: أنذرهم بالعذاب على الجملة إن لم يؤمنوا، فكان يدعو قومه وينذرهم، فلا يجيبونه كما تقدَّم.
{قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، أي: مخوف مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه.(19/381)
قوله: {أَنِ اعبدوا الله} ، إما أن تكون تفسيرية ل «نَذِيْر» أو مصدرية، والكلامُ فيها كالكلام في أختها كما تقدم، والمعنى: وَحِّدوا اللَّه واتَّقُوه، أي: خافوه «وأطِيعُونِ» فيما آمركم به؛ فإنِّي رسول الله إليكم.
{يَغْفِرْ لَكُم} جزم «يَغْفِرْ» لجواب الأمر.
قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} . في «مِنْ» هذه أوجه:
أحدها: أنَّها تبعيضية.
الثاني: أنَّها لابتداء الغايةِ.
الثالث: أنَّها لبيان الجنسِ، وهو مردود لعدم تقدم ما تبينُه.
الرابع: أنَّها مزيدةٌ. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفيٌّ.
قال شهاب الدين: ليس مذهبهم ذلك؛ لأنهم يشترطون تنكير مجرورها، ولا يشترطون غيره. والأخفش لا يشترط شيئاً، فزيادتُها هنا ماشٍ على قوله لا على قولهم.
قال القرطبي: وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن «مِنْ» لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
وقال زيد بن أسلم: المعنى يُخرِجُكم من ذنوبكم.
وقال ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.
قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ} .
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف قال: «يُؤخِّركُمْ» مع إخبارهِ بامتناع تأخيره؟ .
قلتُ: قضى الله أنَّ قوم نوحٍ إن آمنوا عمَّرهُم ألف سنةٍ، وإن بقُوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة، قيل لهم: إن آمنتم أخِّرتُم إلى الأجلِ الأطولِ، ثم أخبرهُم أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخَّرُ انتهى.
وقد تعلَّق بهذه الآية من يقول بالأجلين وتقدم جوابه.
وقال ابن عباسٍ: أي: يُنْسِىءُ في أعماركم، ومعناه: أنَّ الله - تعالى - كان قضى قبل خلقهم، إنْ هم آمنوا بارك في أعمارهم وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.
وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى أعماركم في عافية فلا يعاقبكم بالقحطِ وغيره، فالمعنى على هذا: يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم.(19/382)
وقال الزجاج: «أي يؤخركم عن العذاب، فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب» .
وعلى هذا قيل: أجل مسمى عندكم تعرفونه لا يميتكم غَرْقاً ولا حَرْقاً ولا قَتْلاً، ذكره الفراء. وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله.
قوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} ، أي: إذا جاء الموتُ لا يؤخَّر بعذاب كان، أو بغير عذاب، وأضاف الأجلَ إليه سبحانه؛ لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} [يونس: 49] ؛ لأنه مضروبٌ لهم، و «لَوْ» بمعنى «إنْ» أي: إن كنتم تعلمون.
وقال الحسن: معناه: لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّرُ.
وعلى هذا يكون جوابُ «لَوْ» محذوفاً تقديره: لبادرتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم كما قال الحسن.
قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} ، وهذان ظرفان ل «دَعوْتُ» ، والمراد: الإخبار باتصال الدعاء وأنَّه لا يفتر عن ذلك وقيل: معناه سراً وجهراً {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} ، أي: تباعداً من الإيمان، وهذا استثناء مفرغ وهو مفعول ثان.
وقراءة العامة: بفتح الياء من «دُعَائِي» .
وأسكنها الكوفيُّون، ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
قوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} ، أي: إلى سبب المغفرةِ، وهي الإيمانُ بك والطاعة لك {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} لئلاَّ يسمعُوا دُعائِي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي: غطُّوا بها وجوههم لئلاَّ يرون.
قال ابن عبَّاسٍ: جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلاَّ يسمعوا كلامي، فاستغشاءُ الثِّياب إذن زيادة في سدِّ الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت، أو ليعرفوه إعراضهم عنه.
وقيل: هو كنايةٌ عن العداوةِ، يقال: لبس فلانٌ ثياب العداوةِ «وأصَرُّوا» على الكفر فلم يتوبوا، «واسْتَكْبَرُوا» عن قبول الحق، وهو قولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] .
قوله: «لِتَغْفِرَ» ، يجوز أن تكون للتعليل، والمدعو إليه محذوفٌ، أي: دعوتهم(19/383)
للإيمان بك لأجلِ مغفرتك لهم، وأن تكونَ لام التَّعديةِ، ويكون قد عبَّر عن السبب بالمسبب، الذي هو حظهم، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سببٌ في الغفران.
و «جَعلُوا» ، هو العامل في «كُلَّمَا» وهو خبر «إنِّي» .
قوله: «جِهَاراً» ، يجوز أن تكون مصدراً من المعنى؛ لأنَّ المعنى يكون جهاراً وغيره، فهو من باب «قعد القُرفُصَاء» ، وأن يكون المرادُ ب «دعوتهم» : جاهرتهم. وأن يكون نعت مصدر محذوف أي: دعاء جهاراً.
وأن يكون مصدراً في موضع الحالِ، أي: مجاهراً، أو ذا جهارٍ، أو جعل نفس المصدر مبالغة.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلاً ونهاراً، ثم دعاهم جهاراً، ثُمَّ دعاهم في السرِّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعواتٍ مختلفاتٍ، حتى يصح العطفُ.
قلتُ: قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذي يأمُر بالمعروفِ، وينهى عن المنكرِ في الابتداء بالأهون، والترقي إلى الأشدِّ فالأشدِّ، فافتتح في المناصحة بالسرِّ فلما لم يقبلوا ثَنَّى بالمجاهرة، فلمَّا لم يقبلوا ثلَّث بالجمع بين السرِّ والإعلان، ومعنى» ثُمَّ «للدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار، والجمعُ بين الأمرين، أغلظُ من إفراد أحدهما» .
وقال أبو حيان: «وتكرر كثيراً له أنَّ» ثُمَّ «للاستبعاد، ولا نعلمه لغيره» .
وقوله: «اسْتِكبَاراً» . قال القرطبيُّ: تفخيم.
فصل في معنى الآية
معنى: «جِهَاراً» ، أي: مظهراً لهم الدعوة، وهو منصوب ب «دَعوْتهُمْ» بنصب المصدر.
{ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
أي: لم أبقِ مجهوداً.
وقال مجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: معنى «أعْلَنْتُ» صِحْتُ، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالدعاءِ عن بعضهم من بعض.
وقيل: «أسْرَرْتُ لهم» أتيتُهم في منازلهم وكلُّ هذا من نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مبالغةٌ في الدعاءِ، وتلطف في الاستدعاءِ.(19/384)
وفتح الياء من «إنِّي أعلنْتُ» ، الحرميون وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.
قوله: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} ، أي سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإيمان {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} وهذا منه - تعالى - ترغيبٌ في التوبة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الاسْتغفَارُ مَمحاةٌ للذنُوبِ» .
قوله: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} . أي: يرسل ماء السماءِ، ففيه إضمار.
وقيل: السماء: المطر، أي يرسلُ المطر؛ قال الشاعر: [الوافر] .
4878 - إذَا نَزََل السَّماءُ بأرْضِ قَوْمٍ ... رَعيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
و «مِدْراراً» يجوز أن يكون حالاً من «السَّماء» . ولم يؤنث؛ لأن «مفعالاً» لا يؤنث، تقول: «امرأة مِئْنَاث، ومِذْكَار» ولا يؤنث بالتاء إلا نادراً، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث، فتقول رجُلٌ مخدامةٌ، ومطرابةٌ، وامرأة مخدامة ومطرابة، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي: إرسالاً مدراراً. وتقدم الكلام عليه في الأنعام.
وجزم «يرسل» جواباً للأمر، و «مِدْرَاراً» ذا غيث كثيرٍ.
فصل في حكاية قوم نوح
قال مقاتل: لما كذَّبوا نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - زماناً طويلاً حبس اللَّهُ عنهم المطر، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنة، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واستغاثوا به، فقال: {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ، أي: لمن أناب إليه، ثم رغبهم في الإيمان فقال: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .
قال قتادة: علم نبيُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنهم أهل حرصٍ على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإنَّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة.
فصل في استنزال الرزق بالاستغفار.
في هذه الآية والتي قبلها في «هود» دليلٌ على أنَّ الاستغفار يستنزلُ به الرزق والأمطار قال الشعبيُّ: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماءِ التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا} .(19/385)
قال ابن الأثير: المجاديحُ واحدها «مجدح» والياء زائدة للإشباع، والقياس أن يكون واحدها مجداح، فأما مجدح فجمعه «مجادح» ، والمجدح: نجمٌ من النجوم.
قيل: هو الدبران.
وقيل: هو ثلاثةُ كواكب، كالأثافي تشبيهاً له بالمجدح، الذي له ثلاث شعبٍ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبهاً بالأنواء، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولاً بالأنواء، وجاء بلفظ الجمع؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر.
وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكى آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادعُ الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكى إليه آخرُ جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك، فقال ما قلت من عندي شيئاً، إنَّ الله تعالى يقول في سورة «نوح» : {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .
فإن قيل: إنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمر الكفار أولاً بالعبادة، والطَّاعة، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار.
فالجوابُ: لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له: إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً، فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلاً، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه، فقال نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً.
فإن قيل: فلم قيل: إنه كان غفاراً، ولم يقل: إنَّه غفار؟ .
فالجوابُ: كأنه يقول: لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر.
قوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .
قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة، وقدرة على أحدكم بالعقوبة، أي: أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؛ قال الهذليُّ: [الطويل]
4879 - إذَا لَسَعتْهُ النَّخْلُ لمْ يَرْجُ لَسْعهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ...(19/386)
وقال سعيد بن جبيرٍ وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثواباً، ولا تخافون له عقاباً.
وقال سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ} ، لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً.
وقال الوالبي والعوفي عنه: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.
وقيل: ما لكم لا تعتقدون لله عظمة.
وقال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة.
قال قطرب: هذه لغةٌ حجازيةٌ، وهذيل وخزاعةُ ومضر يقولون: لم أرج، أي: لم أبال.
قوله: «وقَاراً» ، يجوز أن يكون مفعولاً به على معان، منها: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً.
قال الزمخشريُّ: والمعنى ما لكم لا تكونون على حالٍ، تأملون فيها تعظيم الله إيَّاكم في دار الثواب «ولله» بيانٌ للموقر، ولو تأخر لكان صلته. انتهى.
أي: لو تأخر «للَّهِ» عن «وقَاراً» لكان متعلقاً به، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده، ومنها: لا تخافون لله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا.
ومنها: لا تخافون لله عظمة، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك.
وأن يكون حالاً من فاعل «تَرجُونَ» ، أي: موقرين الله تعالى، أي: تعظمونه ف «لِلَّهِ» على هذا متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من «وقَاراً» أو تكون اللام زائدة في المفعول به، وحسنه هنا أمران: كون العامل فرعاً، وكون المعمول مقدماً، و «لا تَرْجُونَ» حال.
وقد تقدم نظيره في المائدة.
والوقارُ: العظمة، والتوقيرُ التعظيم، ومنه قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] .
وقال قتادةُ: ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان.(19/387)
وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله، وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً.
وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤتون لله تعالى طاعة.
وقال الحسنُ: ما لكم لا تعرفون لله حقاً، ولا تشكرون له نعمة.
وقيل: ما لكم لا توحدون الله لأن من عظمه فقد وحَّده.
وقيل: إن الوقار هو: الثبات لله عَزَّ وَجَلَّ، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي: اثبتن، والمعنى: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم، لا إله لكم غيره، قاله ابن بحر، ثم دلَّهم على ذلك فقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} .
يعني نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ولحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر.
وقيل: «أطْوَاراً» صبياناً، ثم شباناً، ثم شيوخاً، وضعفاء، ثم أقوياء.
وقيل: «أطواراً» ، أي: أنواعاً، صحيحاً، وسقيماً، وبصيراً، وضريراً، وغنياً، وفقيراً.
وقيل: الأطوار: اختلافهم في الأخلاق، والأفعال.
قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} ، جملة حالية من فاعل «تَرْجُونَ» .
والأطوار: الأحوال المختلفة.
قال الشَّاعرُ: [البسيط]
4880 - فإنْ أفَاقَ فقَدْ طَارتْ عَمايَتُهُ ... والمَرْءُ يُخلقُ طَوْراً بَعْدَ أطْوارِ
وانتصابهُ على الحال، أي: منتقلين من حال إلى حال، أو مختلفين من بين مُسِيءٍ، ومحسن، وصالح، وطالح.
قوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
لما ذكر لهم دليل التوحيد من أنفسهم، أتبعه بدليل الآفاق فقال: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ، أي: ألم تعلموا أنَّ الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد، ومعنى: «طباقاً» قال ابن عباس والسدي: أي: بعضها فوق بعض كل سماء منها وطبقة على الأخرى كالقبابِ.
فإن قيل: هذا يقتضي ألا يكون بينهما فرج، وإذا كان كذلك فكيف تسلكها الملائكة؟ .(19/388)
فالجواب: أن الملائكة أرواح.
وأيضاً قال المبرِّد: معنى طباقاً، أي: متوازية لا أنها متماسة.
وقرا الحسنُ: «خلَق الله سبعَ سماواتٍ طِباقاً» على سبع أرضين بين كل أرض وأرض وسماء خلق وأمر.
وقوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ} ، على جهة الإخبار، لا المعاينة كما تقول: ألمْ ترنِي كيف صنعتُ بفلان كذا، و «طِبَاقاً» نصب على أنه مصدر طابقه طباقاً، أو حال بمعنى: «ذات طباقٍ» ، فحذف «ذات» وأقام «طِباقاً» مقامه، وتقدم الكلامُ عليه في سورة «الملك» .
وقال مكيّ: وأجاز الفرَّاء في غير القرآنِ جر «طِباق» على النعت ل «سماوات» .
يعني أنه يجوز أن يكون صفة للعدد تارة وللمعدود أخرى.
قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} ، أي: في السماوات، والقمر إنَّما هو في سماءٍ واحدةٍ منهن قيل: هو في السماء الدنيا، وإنَّما جاز ذلك لأن بين السماواتِ ملابسة فصح ذلك، وتقول: زيد في المدينة، وإنَّما هو في زاوية من زواياها.
وقال ابن كيسانِ: إذا كان في إحداهنَّ فهو فيهنَّ.
وقال قطرب: «فِيهِنَّ» بمعنى: «مَعهُنَّ» .
وقال الكلبيُّ: أي: خلق الشمس والقمر مع خلق السماوات والأرض.
وقال جُلُّ أهل اللغةِ في قول امرىء القيس: [الطويل]
4881 - وهَلْ يَنعَمَنْ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهدِهِ ... ثَلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أحْوالِ
«في» بمعنى: «مَعَ» .
وقال النحاس: سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية. فقال: جوابُ النحويين: أنه إذا جعله في إحداهن، فقد جعله فيهن، كما تقول: أعطني الثيابَ المعلمة، وإن كنت إنما أعلمت أحدها.
وجواب آخر: أنه يروى أنه وجه القمر إلى داخل السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات، ومعنى: «نُوْراً» ، أي: لأهل الأرض، قاله السدي.(19/389)
وقال عطاءُ: نورٌ لأهل السماوات والأرض.
وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضيء لأهل الأرض، وظهره يضيء لأهل السماء.
قوله: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} .
يحتمل ان يكون التقدير: وجعل الشمس فيهن - كما تقدم - والشمس، قيل: في الرابعة، وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة والله أعلم.
وقوله: «سِراجَاً» . يعني مصباحاً لأهل الأرض، ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم، وفي إضاءتها لأهل السماء، القولان الأولان، حكاه الماورديُّ.
وحكى القشيريُّ عن ابن عباسٍ: أن الشمس وجهه في السماوات وقفاه في الأرض.
وقيل: على العكس.
وقيل لعبد الله بن عمر: ما بالُ الشمس تقلينا أحياناً وتبرد علينا أحياناً؟ .
فقال: إنَّها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمنِ، ولو كانت في السَّماء الدنيا، لما قام لها شيء.
ولما كانت الشمس سبباً لزوال الليلِ وهو ظل الأرض أشبهت السِّراجَ، وأيضاً فالسراجُ له ضوءٌ والقمرُ له نورٌ، والضوء أقوى من النور، فجعل للشمس كما قال {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] .
قوله: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} . يعني آدمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خلقه من أديم الأرض كلِّها، قاله ابن جريج. وقد تقدم بيانه.
و «نَبَاتاً» . إما مصدر ل «أنبت» على حذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، لأن مصدر «أنْبَتَ» «إنباتاً» فجعل الاسم الذي هو النباتُ في موضع المصدر وإمَّا ب «نَبَتُّمْ» مقدراً، أي: «فَنَبَتُّمْ نَبَاتاً» ، فيكون منصوباً بالمضارع المقدر.
قال الزمشخريُّ: أو نصب ب «أَنْبَتَكُمْ» لتضمنه معنى: «نَبَتُّمْ» .
قال أبو حيَّان: ولا أعقل معنى هذا الوجه بالثاني.
قال شهابُ الدين: هذا الوجه المتقدم، وهو أنه منصوب ب «أَنْبَتَكُمْ» على حذف(19/390)
الزوائد ومعنى قوله: لتضمنه معنى «نَبَتُّمْ» ، أي: مشتمل عليه، غاية ما فيه أنه حذفت زوائدهُ.
قال القرطبيُّ: «وقال الخليلُ والزجاجُ: إنه محمول على المعنى، لأن معنى» أنْبتَكُم «جعلكم تنبتون نباتاً.
وقيل: معناه أنبت لكم من الأرض النبات، ف» نَبَاتاً «على هذا نصب على المفعول الصريح، والأول أظهر» .
قال ابن بحر: أنبتكم في الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر، ثم يعيدكم فيها، أي عند موتكم بالدفن {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} بالنشور والبعث يوم القيامة.
والإنبات: استعارة بليغة، قيل: المراد أنبت أباكم.
وقيل: المراد أنبت الكلَّ لأنهم من النطف، وهي من الأغذية التي أصلها الأرض، وهذا كالتفسير لقوله: {خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} ، ثم قال: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، وهذا إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن، من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء، فهو قادر على الإعادة، وقوله: {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، أكده بالمصدر فإنه قال: يخرجكم حتماً لا محالة.
قوله: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} ، أي: مبسوطة.
{لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي: طرقاً واسعة، والسُّبُل: الطرقُ، والفجاجُ: جمع فجٍّ، وهو الطريق الواسعة، قاله الفراءُ.
وقيل: الفَجُّ: المسلك بين الجبلين، وفي «الأنبياء» ، قدَّم الفجاج لتناسب الفواصل. وقد تقدم الكلام على ذلك.(19/391)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قوله: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} .(19/391)
ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، إنما زادهم أموالهم، وأولادهم خساراً؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة؛ ولذلك قال جماعة: ليس لله على الكافر نعمة، وإنَّما هي استدراج للعذابِ.
قال المفسِّرون: لبث فيهم نوحٌ - عليه السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
قال ابنُ عباس: دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويقولون لأبنائهم: إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ؛ فيما يأمركم به، حتى بلغوا سبع قرونٍ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً، حتى كثر الناس وفشوا.
قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماورديُّ.
قوله «وولده» قرأ أهل «المدينة» و «الشام» وعاصم: «وَوَلَدُه» بفتح اللام والواو.
والباقون: «وَوُلْدُهُ» بضم الواو وسكون اللام، وقد تقدم أنهما لغتان ك «بَخَل وبُخْل» .
قال أبو حاتم: ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح ك «خَشَب وخُشْب» .
وأنشد لحسَّانٍ: [الكامل]
4882 - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا ... مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ
قوله: {وَمَكَرُواْ} ، عطف على صلة «من» لأن المتبوعين هم الذين مكروا.
{وَقَالُواْ} للإتباع: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى، بعد حملها على لفظها في {لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار.
قوله «كُبَّاراً» ، العامة: على ضم الكاف وتشديد الباء، وهو بناء مبالغة أبلغ من «كُبَار» بالضم والتخفيف.
قال عيسى: وهي لغةٌ يمانية؛ وأنشد: [الكامل]
4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى ... خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ(19/392)
وقول الآخر: [الكامل]
4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي ... بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ
ويقال: رجل طُوَّال، وجميل، وحُسَّان، وعظيم، وعُظَّام.
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد: بالضم والتخفيف، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول.
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً: بكسر الكاف وتخفيف الباء.
قال أبو بكر: هو جمع كبير، كأنه جعل «مَكْراً» ، مكان «ذُنُوب» ، أو «أفاعيل» يعني فلذلك وصفه بالجمع.
فصل في المقصود بالمكر في الآية
قيل مكرهم: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.
وقيل: هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا، والولد، حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ.
وقال الكلبيُّ: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وهذا بعيد، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار.
قال ابن الخطيب: وإنَّما سماه مكراً لوجهين:
الأول: لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة، لاستمرارهم على عبادتها؛ لأنها معبود آبائهم، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة «آلهتكم» وصدفكم عن الدين؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً.(19/393)
الثاني: أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح [لا يعطيه شيئاً لأنه فقير] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح، وهو مثل مكر فرعون إذ قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] ، وقوله {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} [الزخرف: 52، 53] .
قوله: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً} [نوح: 23] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، إن قيل: إن هذه الأسماء لأصنام، وألا يكون إن قيل: إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون.
وقرأ نافع: «وُدّاً» بضم الواو، والباقون: بفتحها.
وأنشد بالوجهين قول الشاعر: [البسيط]
4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وقول الآخر: [الطويل]
4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ ... وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه
قال القرطبي: قال الليث: «وَدٌّ» - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح، و «وُدّ» - بالضم - صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود.
وفي الصحاح: «والوَدُّ» بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرىء القيس: [الرمل]
4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ ... وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ
قال ابن دريدٍ: هو اسم جبلٍ.
و «ود» : صنم كان لقوم نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ثم صار لكلب، وكان بدومةِ الجَندلِ، ومنه سموا بعبد ودّ.
قوله: {وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ} . قرأهما العامة بغير تنوين، فإن كانا عربيين: فالمنع من الصرف للعلمية والوزن، وإن كانا أعجميين: فالعجمة والعلمية.(19/394)
وقرأ الأعمش: «ولا يغوثاً ويعوقاً» مصروفين.
قال ابن عطية: «وذلك وهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل» . انتهى.
قال شهاب الدين: وليس بوهم لأمرين:
أحدهما: أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف «سَلاسِل» .
والثاني: أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً، وهي لغة حكاها الكسائي، ونقل أبو الفضل: الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي، ثم قال: جعلهما «فعولاً» ، فلذلك صرفهما، فأما في العامة: فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ.
قال شهاب الدين: «وهذا كلامٌ مشكلٌ، أما قوله:» فعولاً «فليس بصحيح، إذ مادة يغث ويعق مفقودة، وأما قوله: صفتان من الغوث والعوق، فليس في الصفات ولا في الأسماء» يفعل «والصحيح ما قدمته» .
وقال الزمخشريُّ: وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين، ففيهما المنع من الصرف، ولعله وجد الازدواج، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات: ودّاً وسواعاً ونسراً، كما قرىء {وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ.
قال أبو حيَّان: كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة.
فصل في بيان هذه الأسماء.
قال ابن عبَّاس وغيره: وهي أصنامٌ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها، ثم عبدتها العربُ، وهذا قول الجمهورِ.
وقيل: إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً} .
وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعند بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكان ود أكبرهم، وأبرّهم به.(19/395)
قال محمد بن كعب، كان لآدمَ خمس بنينَ: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عُبَّاداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله، إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجدِ، من صفر ورصاصٍ، ثم مات آخرُ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ .
قالوا: وما نعبدُ؟
قال آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحاً، فقالوا: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً} الآية.
وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم؛ ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت.
وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ: «أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ «
وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً، ويسمونها بأسمائهم
وهذا بعيدٌ، لأن نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم.
وروي عن ابن عباس: أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يحرس جسد آدمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطانُ: إن هؤلاء، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد،(19/396)
وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة، وحملهم على عبادتها، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين، والتراب، والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر، فاللات كانت لقديد، وأساف ونائلة وهبل، لأهل مكة.
قال الماورديُّ: فما» ود «فهو أول صنم معبود سمي» ودّاً «لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل؛ وفيه يقول شاعرهم: [البسيط]
4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وأما» سُواع «فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم.
وقال ابن الخطيب:» وسُواع لهمدَان «.
وأما» يَغُوثُ «فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة.
وقال المهدويُّ: لمراد ثم لغطفان.
وقال الثعلبيُّ: واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء، وأهل جرش من مذحج يغوث، فذهبوا به إلى مراد، فعبدوه زماناً، ثُمَّ بَنِي ناجية، أرادوا نزعه من» أنعم «ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة.؟
وقال أبو عثمان المهدويُّ: رأيت» يغُوث «وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه، حتى يبرك بنفسه، فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء، وينزلون حوله.
وأما» يعوق «فكان لهمدان ببلخ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء، ذكره الماورديُّ.
وقال الثعلبيُّ: وأما» يعوق «فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتى صار في الهمداني.
وفيه يقول غط الهمداني: [الوافر]
4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي ... ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ
وقيل: كان «يَعُوق» لمراد؛ وأما «نَسْر» ، فكان لذي الكلاع من حمير، في قول قتادة ومقاتل.
وقال الواقدي: كان «ودّ» على صورة رجلٍ، و «سُواع» على صورة امرأة،(19/397)
و «يَغُوث» على صورة أسد، و «يعوق» على سورة فرس، و «نَسْر» على سورة نسر من الطير، والله أعلم. قوله: {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} ، أي: الرؤساء فهو عطف على قوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} ، أو الأصنام، وجمعهم جمع العقلاءِ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] .
قوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين} . عطف على قوله: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [على حكاية كلام نوح بعد «قال» وبعد الواو النائبة عنه، أي قال: إنهم عصوني] ، وقال: «لا تَزِد» ، أي: قال هذين القولين، فهما في محل نصب، قاله الزمخشريُّ. قال: «كقولك: قال زيد نودي للصلاة، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه، معطوفاً أحدهما على صاحبه» .
وقال أبو حيَّان: «ولا تَزِد» معطوف على «قَدْ أضلُّوا» لأنها محكية ب «قَالَ» مضمرة، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة، بل تعطف خبراً على طلب، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك.
فصل في معنى «إلا ضلالاً»
معنى قوله: {إِلاَّ ضَلاَلاً} .
قال ابن بحر: أي إلا عذاباً، لقوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] .
وقيل: إلاَّ خسراناً.
وقيل: إلاَّ فتنة بالمال.
قوله: {مِّمَّا خطيائاتهم} . «مَا» مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة، وجعل «خَطِيئَاتهِم» بدلاً وفيه تعسف.
وتقدم الخلاف في قراءة «خَطِيئاتِهِم» في «الأعراف» .
وقرأ أبو رجاء: «خطيّاتهم» جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة.
وقال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات.
وقال قوم: خطايا وخطيات، جمعان مستعملان في القلة، والكثرة، واستدلوا بقول الله تعالى: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] .(19/398)
وقال الشاعر: [الطويل]
4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا
وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ «خطيئتهم» بالإفراد، والهمز.
وقرأ عبد الله «مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا» ، فجعل «ما» المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به.
و «من» للسببية تتعلق ب «أغْرقُوا» .
وقال ابنُ عطية: لابتداء الغايةِ، وليس بواضح.
وقرأ العامةُ: «أغرقوا» من «أغرق» .
وزيد بن علي: «غُرِّقُوا» بالتشديد.
وكلاهما للنقل، تقول: «أغرقت زيداً في الماء، وغرَّقته به» .
فصل في صحة «عذاب القبر»
قال ابن الخطيب: دل قوله: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء، وأيضاً فقوله «فأدْخِلُوا» يدل على الإخبار عن الماضي، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك، وقال مقاتل، والكلبيُّ: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لصدق وقوع وعده كقوله: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] .
قال ابن الخطيب: وهذا ترك للظاهر، من غير دليل، فإن قيل: إنما تركنا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء، فإنا نشاهده هناك، فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً؟ فالجواب: إن هذا الإشكال، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ، من أول عمره إلى الآن، فلمَ لا يجوز أن يقال: نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب.(19/399)
ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال: هذه الآية تدل على عذاب القبرِ، ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كقوله تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .
وقيل: أشار إلى ما في الخبر من قوله: «البحرُ نارٌ في نارِ» .
وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: {أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} ، قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي.
وأنشد ابن الأنباري: [البسيط]
4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ ... والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ
لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ ... فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ
قال المعربون: «فأدخلُوا» يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي، لتحقق وقوعه كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، وأن يكون على بابه، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .
قوله: {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} ، أي: من يدفع عنهم العذاب، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} [الأنبياء: 43] .
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} .
قال الزمخشريُّ: «ديَّاراً» من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيَّام وقيُّوم، وهو «فَيْعَال» من الدارة أصله: «ديْوَار» ففعل به ما فعل بأصل «سيِّد وميِّت» ولو كان «فَعَّالاً» لكان «دوَّاراً» انتهى.
يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في «مُتَحيِّز» وأن أصله: «مُتَحَيْوز» لا «مُتَفعِّل» إذ كان يلزم أن يكون «متحوِّزاً» لأنه من «الحَوْز» ويقال فيه أيضاً: «دَوَّار» نحو «قيَّام وقوَّام» .
وقال مكيٌّ: وأصله «ديْوَار» ثم أدغموا الواو في الياء مثل «ميِّت» أصله «ميْوِت» ثم أدغموا الثاني في الأول، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية.(19/400)
قال شهاب الدين: قوله أدغموا الثاني في الأول، هذا لا يجوز؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية، أما الشذوذ فكقوله: {واذَّكَرَ} [يوسف: 45] بالذال المعجمة، و {فهل من مُذَّكر} [القمر: 15] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو: امدح هذا، لا تقلب الهاء حاء، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف، والديار: نازل الدار، يقال: ما بالدار ديار، وقيل: الديار صاحب الدار.
وقال البغويُّ: «الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض، فيذهب ويجيء» فعَّال «من الدوران» .
فصل في دعاء نوح على قومه
لما أيس نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من أتباعهم إياه دعا عليهم.
قالت قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ» .
وقيل: سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ، فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبتِ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه، فحينئذ غضب ودعا عليهم.
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنَّما قال هذا، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ، لأن الله تعالى قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] . ولم يوجد التكذيب من الأطفال.
فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين
قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا(19/401)
كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم.
قوله: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} .
العامة: على فتح الدال على أنه تثنية والد؛ يريد: أبويه.
واسم أبيه: لملك بن متوشلخ، واسمه أمه: شمخى بنت أنوش، وكانا مؤمنين.
وحكى الماورديُّ: اسم أمه: منجل.
وقرأ الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ويحيى بن يعمر والنخعيُّ: ولولدي، تثنية ولد يعني: ابنيه ساماً وحاماً.
وقرأ ابن جبير والجحدري: «ولوالدِي» - بكسر الدال - يعني أباه.
فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده.
قال الكلبيُّ: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن.
وذكر القرطبي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام.
قوله {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} .
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أي: مسجدي ومصلاي، «مُؤمِناً» ، أي: مُصدِّقاً بالله، ف «مُؤمِناً» حال، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة.
وقيل: المراد بقوله «بيتي» ، أي: سفينتي.
وقال ابن عباس: أي: دخل في ديني.
فإن قيل: فعلى هذا يصير قوله: «مُؤمِناً» مكرراً.
فالجواب: إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً، وقد لا يكون مؤمناً، فالمعنى: ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ.(19/402)
قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} ، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى، وأحق بدعائه، ثم عمَّ المؤمنين، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة، قاله الضحاك.
وقال الكلبيُّ: من أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: من قومه، والأول أظهر، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [فقال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} ، أي: هلاكاً، ودماراً، والمراد بالظالمين: الكافرين] فهي عامة في كل كافر ومشرك.
وقيل: أراد مشركي قومه، و «تَبَاراً» مفعول ثاني، والاستثناءُ مفرغ، والتبار: كل شيء أهلك فقد تبر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] .
وقيل: التَّبارُ الخُسران.
قال المفسّرون: فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليْهِ السَّلامُ» .(19/403)
سورة الجن(19/404)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
مكية، وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} ، هذه قراءةُ العامة، أعني كونها من «أوْحَى» رباعياً.
وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس: «وَحَى» ثلاثياً.
وهما لغتان، يقال: وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد، فقلبت الواو همزة،(19/404)
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ؛ وأنشد العجاج: [الرجز]
4892 - وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً: «أُحي» بهمزة مضمومة لا واو بعدها، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة، نحو «أعد» في «وَعَد» فهذا فرع قراءة «وَحَى» ثلاثياً.
قال الزمخشريُّ: وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً: ك «إشاح، وإسادة» ، و «إعاء أخيه» [يوسف: 76] .
قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً، وحشواً، وآخراً، ولكل منها أحكام، وفي بعض ذلك خلاف، وتفصيل مذكور في كتب النحو. وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب.
ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ: وهذا تكثير وتبجح.
قوله: {أَنَّهُ استمع} ، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار، والمجرور، فيكون هذا باقياً على نصبه، والتقدير: أوحي إليَّ استماع نفرٍ «من الجن» صفة ل «نَفَر» .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس وغيره: قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ، والنَّفرُ: الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة، واختلفوا، هل رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لا؟ .
فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى: {أَنَّهُ استمع} ، وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} [الأحقاف: 29] .
وفي صحيح مسلم، والترمذي عن ابن عباسٍ قال: انطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشيطان، وبين خبر السماء، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ .
فقالوا: حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذلك إلا من شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو «تهامة» وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا(19/405)
القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} فأنزل الله على نبيه المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} الآية.
قال القرطبيُّ: وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.
فإن قيل: الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ الجن كانوا مع الشياطين، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ.
الثاني: أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن، إلا أنهم قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الإنس والجنِّ، فإنَّ الشيطان كل متمرد، وبعيد من طاعة الله تعالى.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟ .
فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} .
وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.
وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أرض «حرَّان» وأربعة من أرض «نَصِيبينَ» ،: قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر.
وقيل: إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى.
وقال عكرمةُ: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل.
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، روى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ(19/406)
يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الثانية: ثُمَّ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الثالثة، فقلتُ: أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ، فانطلقَ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال: لا تجاوزه، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ، قال ابنُ الأثير في» النهاية «:» الزّطّ: قومٌ من السودان والهنود «يقرعون في دُفُوفهِمْ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها، حتَّى غشاهُ، فغَابَ عنْ بَصرِي، فقُمْتُ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ، ولصقوا في الأرضِ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ» .
وفي رواية أخرى، «قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ أنْتَ؟ .
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنَا نَبِيٌّ، قالوا: فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟ .
فقال الحبيب المجتبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذه الشَّجرةُ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ، حتى انتصبتْ بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: على ماذا تشهدين فيَّ؟ .
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها: اذْهَبِي، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ، حتى صارتْ كما كانتْ.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فلمَّا عاد إليَّ قال: أردت أن تأتيني، قلت: نعم يا رسول الله قال: مَا كَانَ ذلكَ لَكَ، قال: هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ، فَسألُونِي الزَّادَ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ، ولا بَعْر» .
وفي رواية: «أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما فرغ وضع رأسهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حِجْرِ ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فرقد، ثُمَّ استيقظ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟
قال: لا، إلاَّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هَلْ هُو إلاَّ تمرٌ وماء» فَتوضَّأ مِنْهُ «.(19/407)
قال ابن الخطيب: وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه:
أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما رآهم، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا، وأي شيءٍ فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا، وقالوا كذا.
وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رآهم، وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه لأقوامهم.
قال ابن العربي:» ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس، لأنه شاهده، وابن عباس سمعهُ، وليس الخبرُ كالمعاينة «.
قال القرطبي: وقيل: إن الجنَّ أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دفعتين.
أحدهما: بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود.
والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس.
قال البيهقيُّ: الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود.
فصل في لفظ» قل «
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ قوله تعالى: قُلْ» أمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يظهر لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ، وفيه فوائد.
أحدها: أن يعرفوا بذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بُعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس.
وثانيها: أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(19/408)
وثالثها: أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس.
ورابعها: أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا.
وخامسها: أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس.
فصل في بيان أصل الجن
اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ، روى الضحاك عن ابن عباس أن: الجن هم ولد الجان، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلاَّ مع إبليس، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً.
وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
فصل في دخول الجِنة الجَنة
اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنَّة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان:
أحدهما: وهو قول الحسن: يدخلونها.
الثاني: وهو قولُ مجاهد: لا يدخلونها
فصل فيمن أنكر الجن
قال القرطبيُّ: وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة: الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج، إنما الواحد سبحانه وتعالى، وغيره مركب، ليس بواحد كيفما تصرف حاله، وليس يمتنع أن يراهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ.
ففي الحديثِ: «أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله» الحديث.
وفيه: «فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها» وذكر الحديث.(19/409)
وفي الحديث: «أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر «
وقال:» اذهبوا فادفنوا صاحبكم «» .
وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح: «إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا» ، وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها.
قال القرطبي: قلنا: هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة «المدينة» ؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله: «ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ» وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة.
قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} ، أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ} [الأحزاب: 37] ، {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، ووصف القرآن ب «عَجَباً» إما على المبالغة، أي: خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه، وإما في بلاغة مواعظه، أو عجباً من عظم بركته، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل، أي: معجب. قوله «يَهْدِي» صفة أخرى، أي: هادياً.
{إِلَى الرشد} . قرأ العامةُ: «الرشد» بضمة وسكون، وابن عمر: بضمها وعنه أيضاً: فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى: يهدي إلى الصواب.
وقيل: إلى التوحيد.
قوله تعالى: {فَآمَنَّا بِهِ} ، أي: بالقرآن، أي: فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله، {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} ، أي: لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين.
قوله: {وَأَنَّهُ تعالى} . قرأ الأخوان وابن عامر وحفص: بفتح «أنَّ» ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون: بالكسر.
وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ: «وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه» بالكسر، والباقون: بالفتح.(19/410)
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} .
وتلخيص هذه أن «أنَّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام:
قسم: ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني: أن يقترن بالواو، وهوأربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها وهو قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وهذا هو القسمُ الثاني.
والثالث: «وأنه لما قام» يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.
والاثنتا عشرة: وهي قوله {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ} [الجن: 3] ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} [الجن: 4] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] ، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8] ، {وَأَنَّأ كُنَّا} [الجن: 9] ، {وَأَنَّا لاَ ندريا} [الجن: 10] ، {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} [الجن: 11] ، {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 12] ، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] ، {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} [الجن: 14] .
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.
فقال أبو حاتم في الفتح: هو معطوف على مرفوع «أوحِيَ» ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحِيَ» ، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون» لم يستقم معناه.
وقال مكيٌّ: وعطف «أن» على «آمنَّا بِهِ» أتم في المعنى من العطف على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لأنَّك لو عطفت «وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا» وشبه ذلك على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.
الثاني: أن الفتح في ذلك عطف على محل «بِهِ» من «آمنَّا بِهِ» .
قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي» .
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال: «والفتح في ذلك على الجمل على معنى:»(19/411)
آمنَّا بِهِ «، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك»
وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: فتحت «أن» لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن» نحو: صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب: [الوافر]
4893 - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا ... فنصب «العيونَ» لإتباعها «الحواجب» ، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.
وقال الزجاج: «لكن وجهه أن يكون محمولاً على» آمنَّا بِهِ «وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة» .
الثالث: أنه معطوف على الهاء في «بِهِ» ، أي: آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.
وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة» عند قوله:
{وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال: هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن» أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى» مع «أن» .
ووجه الكسر: العطف على «إن» في قوله: «إنَّا سَمعْنَا» فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا: «إنَّا سَمِعْنَا» ، وقالوا: «إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا» إلى آخرها.
وقال بعضهم: الجملتان من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.(19/412)
ووجه الكسرِ والفتح في قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} ما تقدم.
ووجه إجماعهم على فتح {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «أنَّه اسْتَمَعَ» فيكون موحى أيضاً.
والثاني: أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي: فلا تدعوا مع الله احداً، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.
وقال الزمخشريُّ: «أنَّهُ اسْتَمَع» - بالفتح - لأنه فاعل «أوْحِيَ» ، و «إنَّا سَمِعْنَا» بالكسر لأنه مبتدأ، محكي بعد القول، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنِّ كسر، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما: «وأن المساجد، وأنه لما قام عبد الله يدعوه» ، ومن فتح كلهن، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في «آمنَّا بِهِ» ، أي: صدقناه وصدقنا به.
والهاء في {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ} ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر «أن» .
قوله: {جَدُّ رَبِّنَا} . قرأ العامة: {جَدّ رَبَّنَا} بالفتح ل «رَبَّنَا» .
والمراد به هنا العظمة.
وقيل: قدرته وأمره.
وقيل: ذكره.
والجدُّ أيضاً: الحظُّ، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» والجدُّ أيضاً: أبو الأب، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر.
وقرأ عكرمة: بضم ياء «ربُّنا» وتنوين «جدٌّ» على أن يكون «ربنا» بدلاً من «جد» .
والجد: العظيمُ. كأنه قيل: وأنه تعالى عظم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة.
وعنه أيضاً: «جداً» على التمييز و «ربنا» فاعل ب «تعَالى» ، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير: «جد ربنا» ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف، وربنا فاعل ب «تعالى» ، والتقدير: تعالى ربُّنا تعالياً جداً، أي: حقاً لا باطلاً.
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل.(19/413)
والثاني: أنه منصوب على الحال، أي: تعالى ربنا حقيقة وتمكناً، قاله ابن عطية.
وقرأ حميد بن قيس: «جُدُّ ربِّنا» - بضم الجيم - مضافاً ل «ربِّنا» ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل: ربنا العظيم، نحو: «جرد قطيفة» الأصل: قطيفةُ جرد، وهو مؤولٌ عن البصريين.
وقرأ ابنُ السميقع: «جدا ربنا» بألف بعد الدال مضافاً ل «ربِّنا» .
والجَدَا والجدوى: النفع والعطاء، أي: تعالى عطاء ربِّنا ونفعه.
فصل في معنى «الجد»
قال القرطبيُّ: الجد في اللغة: العظمةُ والجلالُ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه -: «كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا» أي: عظم وجل فمعنى «جَدُّ ربِّنَا» أي: عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضاً: ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً: غناه.
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود: أي: محظوظ، وفي الحديث: «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ» ، قال أبو عبيد والخليل، أي ذا الغنى منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قدرته وقال الضحاك: فعله.
وقال القرظي والضحاك: آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه.
وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السدي: أمره.
وقال سعيد بن جبير: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} ، أي: تعالى ربنا.(19/414)
وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من الجنِّ.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه.
قال القشيريُّ: ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنُّبُه أولى.
قال القرطبيُّ: «ومعنى الآية: وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما، أو الحاجة إليهما، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء» .
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} ، مستأنف، فيه تقرير لتعالي جده.
قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} .
الهاء في «أنه» للأمر أو الحديث، و «سَفِيهُنَا» يجوز أن يكون اسم «كَانَ» و «يقُولُ» الخبر، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل «كَانَ» لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ، نحو «سَفِيهُنَا يقُولُ» ، لو قلت: «يَقُولُ سَفيْهُنَا» على التقديم والتأخير، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب «كَانَ» يلتبس بالفعل والفاعل، وفي باب «كَانَ» يؤمن ذلك.
ويجوز أن يكون «سَفِيهُنَا» فاعل «يقُولُ» والجملة خبر «كَانَ» واسمها ضمير الأمر مستتر فيها، وقد تقدم هذا في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] وقوله تعالى: {شَطَطاً} تقدم في سورة الكهف مثله.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون» كان «زائدة، والسفيه: هو إبليس، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: المشركون من الجنِّ.
قال قتادةُ: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط: الغلو في الكفر.(19/415)
قال أبو مالك: هو الجور وقال الكلبي: هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر: [الطويل]
4894 - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا ... وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ
قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} أي: حسبنا {أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} .
» أنْ «مخففة، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها، والفاعل بينهما هنا حرف النفي، و» كذباً «مفعول به، أو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب:» تقَوَّل «- بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع» تقوَّل «أي: كذب، والأصل: تتقوَّل، فحذف إحدى التاءين، نحو» تذكرون «. وانتصب» كَذِباً «في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب، فهو نحو قولهم:» قَعدْتُ جُلُوساً «.
ومعنى الآية: وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقيل: انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو -:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} فمن فتح، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله: {أَنَّهُ استمع} ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه، من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.
وقيل: كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا، بعثُوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ، يعنون من الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وإن أفزعهم الجن رجعوا.
قال مقاتل: أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.(19/416)
وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ، فلما انتصف الليل جاء الذئب، فحمل حملاً من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي جارك الله، فنادى منادٍ: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً} ، أي: زاد الجنُّ الإنس رهقاً، أي: خطيئة، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
والرَّهقُ: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] ؛ وقال الأعشى: [البسيط]
4895 - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها ... هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا
يعني إثماً، ورجل مرهق، أي: يغشاه السائلون.
قال الواحديُّ: الرَّهَقُ: غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها.
وقال مجاهد أيضاً: «فزَادُوهُم» أي: أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ، حتى قالت الجنُّ: «سدنا الإنس والجن» .
وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن.
وقال سعيد بن جبير: كفراً.
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ، فالمعنى: وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي.
قال القشيريُّ: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن.
وقوله: «مِنَ الإنس» صفة ل «رِجَالٌ» وكذلك قوله «مِنَ الجِنِّ» .(19/417)
قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} .
الكلام في «أنْ لنْ» كالكلام في الأول، و «أن» وما في خبرها، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال، لأن «ظنُّوا» يطلب مفعولين، و «ظَننْتُم» كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.
والضمير في «أنَّهُم ظنُّوا» للإنس، وفي «ظَنَنْتُمْ» ، للجن، ويجوز العكس
فصل في الخطاب في الآية
هذا من قول الله تعالى للإنس، أي: وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.
قال الكلبيُّ: ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي: إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنتم أحق بذلك.
قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء} . هذا من قول الجنِّ، أي: طلبنا خبرها كما جرت عادتنا {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، أي ملئت حفظاً يعني: الملائكة.
فاللَّمْسُ: المس، فاستعير للطلب، لأن الماس متقرب، يقال: لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه.
والمعنى: طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها.
قوله: {فَوَجَدْنَاهَا} ، فيها وجهان:
أظهرهما: أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها: أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قوله «مُلِئَتْ» في موضع نصب على الحال على إضمار «قَدْ» .
والثاني: أنها متعدية لاثنين، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني.
و «حَرَساً» نصب على التمييز نحو «امتلأ الإناء ماء» .
والحَرَس: اسم جمع ل «حَارِس» نحو «خَدَم» ل «خَادِم» و «غيب» لغائب، ويجمع تكسيراً على «أحْراس» ؛ كقول امرىء القيس: [الطويل]
4896 - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ ... حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي(19/418)
والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدر الحراسةُ، و «شديداً» صفة ل «حَرسَ» على اللفظ؛ كقوله: [الرجز]
4897 - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا ... ولو جاء على المعنى لقيل: «شداد» بالجمع، لأن المعنى: مُلئتْ ملائكة شداد، كقولك السلف الصالح، يعني: الصالحين.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى: حرست حراسة شديدة» .
قوله: «وشُهُباً» . جمع «شِهَاب» ك «كِتَابِ وكُتُب» .
وقيل: المراد النجوم، أو الحرسُ أنفسهم، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع، وقد تقدم في سورة «الحجر، والصافات» .
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ، كقوله: [الطويل]
4898 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرجُ: «مُلِيتْ» بياء صريحة دون همزة.
قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ، المقاعد: جمع «مقعد» اسم مكان، والضمير في «منها» ، أي: من السماء، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ، فقالت الجن حينئذ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.
قوله «الآن» . هو ظرفٌ حالي، واستعير هنا للاستقبال، كقوله الشاعر: [الوافر]
4899 - ... ... ... ... ... ... ... ... سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا
فاقترن بحرف التنفيس، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله: «فالآن باشروهن» .(19/419)
و «رصداً» إما مفعول له، وإما صفة له «شهاباً» أي «ذا رصد» وجعل الزمخشري: «الرصد» اسم جمع ك «حرس» ، فقال: والرصد: اسم جمع للراصد ك «حرس» على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب» بمعنى الراصد، أو كقوله: [الوافر]
4900 - ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... . ومِعَى جَياعَا
فصل في بيان متى كان قذف الشياطين
اختلفوا: هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
فقال قوم: لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب، قاله الكلبيُّ، ورواه عطية عن ابن عباس، ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمرو: لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء.
قال نافع بن جبيرٍ: كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رميت بالشهب، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال: لم يرم بنجم، منذ رفع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حتى نُبِّىءَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرُمِيَ بها.
وقيل: كان ذلك قبل البعثِ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنذاراً بحاله.
وهو معنى قوله: «قَدْ مُلِئَتْ» ، أي: زيد في حرسها.
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي -: [الكامل]
4901 - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ ... نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا(19/420)
قال الجاحظُ: «هذا البيت مصنوع، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث» .
والقول بالرمي أصح لهذه الآية، لأنها تخبر عن الجن، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس، والشهب.
وقال بشر بن أبي خازم: [الكامل]
4902 - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا ... يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ»
قالوا: كُنَّا نقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ، أو يولد عظيم [فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ، سبَّح حملةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ: ماذا قال ربُّكمْ، فيُخْبَرُون، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه»
وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث، وهو قول الأكثرين.
قال الجاحظ: فلو قال قائلٌ: كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟ .
فالجوابُ: أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله - تعالى - قال له: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} [الحجر: 35] ، ولولا هذا لما تحقق التكليف.
قال القرطبيُّ: «والرَّصدُ» ، قيل: من الملائكة، أي: ورصداً من الملائكة، وقيل: الرَّصَد هو الشهب، والرصد: الحافظ للشيء، والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس، والواحد: راصد.
وقيل: الرَّصَد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ك «الخَبَط والنفض» .
قوله: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض} ، في {أَشَرٌّ أَرِيدَ} وجهان:(19/421)
أحسنهما: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.
والثاني: أن الرفع على الابتداءِ.
ولقائل أن يقول: يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر، وهو أنه قد عطف ب «أمْ» فعل، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ «أمْ» عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وهو أن الأصل: أشَرٌّ أريد بهم، أم خيرٌ، فوضع لقوله: «أمْ أراد بِهمْ» موضع خير.
وقوله: «أشَرٌّ» ساد مسدَّ مفعول «ندري» ، بمعنى أنه معلق به، وراعى معنى «مَنْ» في قوله: «بِهمْ ربُّهُمْ» فجمع.
فصل في معنى الآية
قال ابن زيد: معنى الآية: أنَّ إبليس قال: لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً.
وقيل: هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا: إنَّا لا ندري، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟ .
قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} .
هذا من قول الجنِّ، أي: قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.
قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ، يحتمل وجهين:
أحدهما: يحتمل أن «دُونَ» بمعنى «غير» ، أي: ومنا غير الصالحين، أي: كافرون، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش.(19/422)
والثاني: أن «دُونَ» على بابها من الظرف، وأنها صفة لمحذوف، تقديره: ومنا فريق أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع «مِنْ» التبعيضية يكثر، كقولهم: منَّا ظعنَ ومنَّا أقام، أي: منا فريقٌ ظعن، ومنا فريق أقام.
ومعنى الآية: ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.
قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} ، فيه أوجه:
أحدها: أن التقدير: كنا ذوي طرائق، أي: ذوي مذاهب مختلفة.
الثاني: أن التقدير: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ.
الثالث: أن التقدير: كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله: [الكامل]
4903 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ
الرابع: أن التقدير: كانت طريقتنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشريُّ.
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً.
وقال: إنَّه قدر في الأول: «ذَوِي» .
وفي الثاني: مثل.
وفي الثالث: طرائق.
ورد عليه ابو حيَّان قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} ؛ كقوله: [الكامل]
4904 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ
بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، فلا يخرج القرآنُ عليه، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.
والقددُ: جمع قددة، والمراد بها الطريقةُ، وأصلها السيرة، يقال: قِدَّة فلان حسنة، أي: سيرته، وهو من قدَّ السير، أي: قطعه على استواء، فاستعير للسيرة المعتدلة.
قال الشاعر: [البسيط]
4905 - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه ... في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ
وقال آخر: [البسيط]
4906 - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة ... إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ(19/423)
وقال لبيد في أخيه: [المنسرح]
4907 - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا ... لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ
والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: إناء من خشب.
فصل في معنى الآية
قال سعيد بن المسيِّب: معنى الآية «كنا مسلمين، ويهود ونصارى ومجوساً» .
وقال السدي: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية.
وقال قوم: إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون، ومنا الكافرون.
وقيل: أي: ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان، وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر، والطرائق: جمع طريقة، وهي مذهب الرجل، أي: كنا فرقاً، ويقال: القوم طرائق أي: على مذاهب شتَّى، والقددُ: نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده: قدَّة، يقال: لكل طريقةٍ قِدَّةٌ» .
قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} .
والظنُّ هنا بمعنى العلم، واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} ، «وأنَّهُم ظنُّوا» ، أي: علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى، أنا في قبضته، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره.
وقوله: «فِي الأرضِ» ، حال، وكذلك «هَرباً» مصدر في موضع الحالِ، تقديره: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.
قوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} ، يعني القرآن «آمنَّا بِهِ» ، وباللَّه، وصدقنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على رسالته، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ.(19/424)
قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بعث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء، وذلك قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109] .
وفي الحديث: «بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ» ، أي: الإنس والجن. وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} [الآية: 130] .
قوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} .
قال ابنُ عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس: النقصان، والرهق: العدوان، وغشيان المحارمِ، وقد تقدم في بيت الأعشى.
قوله: «فَلا يَخَافُ» ، أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ، ولولا ذلك لقيل: لا يخف، قاله الزمشخريُّ.
ثم قال: «فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟ .
قلتُ: الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل:» فهُو لا يخَافُ «، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره» .
قال شهاب الدين: «وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية» .
وقرأ ابن وثاب والأعمشُ: بالجزم، وفيها وجهان:
أحدهما: ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، أن «لا» نافية، والفاء حينئذ واجبة.
والثاني: أنها نافية، والفاء حينئذٍ زائدةٌ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله «بَخْساً» ، فيه حذف مضاف، أي: جزاء بخس، كذا قرره الزمخشريُّ.
وهو مستغنى عنه.
وقرأ ابن وثاب: «بَخَساً» بفتح الخاء.
قال القرطبيُّ: وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم: «فَلا يَخفْ» جزماً على جواب الشرط، وإلغاء الفاء أيضاً.(19/425)
قوله: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} . أي: وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط: الجائر لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل لأنه عادل إلى الحق، قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال: [الكامل]
4908 - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً ... عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ
وقد تقدم في أول «النساء» أن «قَسَطَ» : ثلاثياً بمعنى «جَارَ» ، و «أقسط» الرباعي بمعنى «عَدَل» . وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ: ما تقول فيَّ؟ .
قال: إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال، فقال: يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} . وقرأ {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .
قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} .
أي: قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.
قال الراغبُ: «حرى الشيء يحري، أي: قصد حراه، أي: جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد؛ قال الشاعر: [الكامل]
4909 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي
ويقال: رماه الله بأفعى حارية، أي: شديدة» انتهى.
وكأن أصله من قولهم: هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به. و «رَشَداً» مفعول به.
والعامة قرأوا: «رشداً» - بفتحتين - والأعرج: بضمة وسكون.
قوله: {وَأَمَّا القاسطون} . أي: الجائرون عن طريق الحق والإيمان {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي: وقوداً، وقوله «فَكانُوا» أي: في علم الله تبارك وتعالى.
فإن قيل: ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.
فالجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي: تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.
فإن قيل: فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار؟ .
فالجواب: أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.(19/426)
وهذا آخر كلام الجن.
قوله {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} ، «أنْ» هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي ب «لو» ، فأصله بين «أن» المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سَبَأ» .
وقال أبو البقاء هنا: «ولو» عوض كالسِّين، وسوف، وقيل: «لَوْ» بمعنى «إن» و «إن» بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} [مريم: 46] ، وقال في موضع آخر: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 37] ذكره ابن فضالة في البرهان.
قال شهاب الدين: «وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين» .
وقرأ العامة: بكسر «وأن لو» على الأصل.
وابن وثَّاب والأعمشُ: بضمها، تشبيهاً بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق
هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من «أنَّ» المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال ابن الأنباريِّ: ومن كسر الحروف، وفتح {وأنْ لو اسْتقَامُوا} أضمر يميناً تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.
قال الشاعر: [الوافر]
4910 - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً ... ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} ، {وَأَلَّوِ استقاموا} أو «على آمنا به» ويستغنى عن إضمار اليمين.(19/427)
والضمير في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا} ، قيل: يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي: هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقيل: بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ، إنما يليق بالإنس، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] .
وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
قال ابن الخطيب: «ويدل على صحة قول القاضي، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة» .
والغدق - بفتح الدال وكسرها -: لغتان في الماء الغزير، ومنه الغداق: للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق، والكثير النطق.
ويقال: غدقت عينه تغدق أي: هطل دمعها غدقاً.
وقرأ العامة: «غَدَقاً» بفتحتين.
وعاصم فيما يروي عنه الأعشى، بفتح الغين وكسر الدال، وقد تقدم أنهما لغتان.
قوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} .
قال ابن الخطيب: إن قلنا: إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان:
أحدهما: أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] الآية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} [المائدة: 66] الآية، وقوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] . وقوله: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ} [نوح: 10 - 11] ، إلى قوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] الآية.
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب.
الثاني: أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] الآية.(19/428)
والقول الأول: اختيار الزجاج، قال: لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة، وهي طريقة الهدى.
ومعنى: {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا، وإن قلنا: إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.
قوله: {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة، بأنَّ الفتنة هي الاختبار، كما يقال: فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.
وأجيبوا: بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.
فصل في التحذير من الدنيا
روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا «قالوا: ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟ .
قال:» بَركَاتُ الأرْضِ «. وذكر الحديث»
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ»
قوله: {وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} ، أي: عن عبادته، أو عن موعظته، أو عن وحيه.
وقال ابن زيدٍ: يعني القرآن، وفي إعراضه وجهان:
الأول: عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان.
وقيل: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} ، أي: لم يشكره.
قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .
قرأ الكوفيون: «يَسْلكْهُ» - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى، وباقي السبعة: بنون العظمة على الالتفات.
وهذا كما تقدم في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}
[الإسراء: 1] ، ثم قال: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1] .(19/429)
وقرأ مسلم بن جندب: «نسلكه» بنون العظمة مضمومة من «أسلكه» . وبعضهم: بالياء من تحت مضمومة، وهما لغتان، يقال: سلكه وأسلكه.
وأنشد: [البسيط]
4911 - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ ... و «سلك، وأسلك» يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال: يتعديان إلى أحد المفعولين، بإسقاط الخافض، كقوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ} [الأعراف: 155] .
فالمعنى: ندخله عذاباً، أو نسلكه في عذابٍ، هذا إذا قلنا: إن «صَعَداً» مصدر.
قال الزمخشريُّ: يقال: صَعَداً وصُعُوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب، أي: يعلوه، ويغلبه، فلا يطيقه، ومنه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول: ما شقَّ عليَّ، ولا غلبني.
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم، كما قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وغيره، فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «صعداً» مفعولاً به أي «يسلكه» في هذا الموضع ويكون «عذاباً» مفعولاً من أجله.
الثاني: أن يكون «عذاباً» مفعولاً ثانياً كما تقدم، و «صعداً» بدلاً من عذاباً، ولكن على حذف مضاف أي: عذاب صعد، وقرأ العامة بفتحتين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك «جُنُب» و «شُلُل» .
فصل
ومعنى عذاباً صعداً: أي شاقاً شديداً.
[وقيل عن ابن عباس:] هو جبل في جهنم، قال الخدريُّ: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت.(19/430)
وعن ابن عباس: إن المعنى مشقّة من العذاب، لأن الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك، ومنه قول عمر المتقدم، والمشي في الصعود يشق، وصعود العقبة الكئودِ.
وقال عكرمةُ: هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.
وقال: يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف صعودها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17] .
قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} . قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح، بتقدير: وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ.
وقال الخليل: أي ولأن المساجد، فحذف الجارُّ، ويتعلق بقوله «فلا تدعُوا» .
وجعلوه كقوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] فإنه متعلق بقوله {فَلْيَعْبُدُواْ} كقوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92] .
وقرأ طلحة وابن هرمز: «وإنَّ المسَاجِدَ» - بالكسر. .، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل، فيكون في المعنى كتقدير الخليل
فصل في المراد ب «المساجد»
المساجدُ: قيل هي جمع «مسجد» - بالكسر - وهو موضع السجود، وقد تقدم أن قياسه الفتح.
وقيل: هو «مسجد» - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ: «الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان» ، وهو قول سعيد بن المسيب.
والمعنى: إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله، وقال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ» وقيل: بل جمع مسجد، وهو مصدر بمعنى السجودِ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.(19/431)
وقال القرطبي: «المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة» .
قال سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قالت الجن: كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} ، أي: بنيت لذكر الله ولطاعته.
وقال ابن عبَّاسٍ: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة مساجد، لأن كلَّ أحد يسجد إليها.
قال القرطبيُّ: «والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة، وهذا أظهر الأقوال، وهو مروي عن ابن عباس» .
قال ابن الخطيب: «قال الواحديُّ: وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها -» مسجد «- بفتح الجيم - إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها» مسجد «- بكسر الجيم - لأن المواضع، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد، والمطلِع، والمنسِك، والمسكِن، والمنبِت، والمفرِق، والمسقِط، والمجزِر، والمحشِر، والمشرِق، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح، وهي: المنسك والمطلع والمسكن والمفرق، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع» .
قوله: «للَّهِ» . إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق، فقال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ»
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ»
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا «(19/432)
قال القرطبي:» وهذا حديث صحيح «.
فصل في نسبة المساجد إلى غير الله
فإن قيل: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث:
«سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق» .
ويقال: مسجد فلان، لأنه حبسه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
فصل في معنى الآية
معنى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها، ويجوز وضعُ الصدقات فيها، على رسم الاشتراك بين المساكين، والأكل فيها، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم، وسكن المريضِ فيه، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.
قوله: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} . وهذا توبيخٌ للمشركين، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.
وقال مجاهد: كانت اليهودُ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا بالله تعالى، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد.
وقيل: المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، وفي الحديث: «مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا: لا ردَّها اللَّه عليكَ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا»
وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله، لأن قوله تعالى {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.
وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال:» وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ «فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:» اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً(19/433)
ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً «» .
قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .
يجوز الفتحُ، أي: أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و «عَبْدُ اللَّهِ» هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة. «يَدعُوهُ» ، أي: يعبده.
وقال ابن جريج: «يَدْعوهُ» ، أي: قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي: يوحد الله.
{كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .
قال الزُّبيرُ بن العوام: هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم.
وقيل: كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: رغبة في سماع القرآن.
يروى عن مكحول: أن الجنَّ بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند الفجر.
وعن ابن عباس أيضاً: أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقيل: كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: «لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ» محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبريُّ(19/434)
أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.
قال مجاهد: اللِّبَد: الجماعات.
قوله «لِبَداً» : قرأ هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها.
فالأولى: جمع «لُبْدَة» - بضم اللام - نحو «غُرفَة وغُرَف» .
وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو «حطم» وعليه قوله تعالى {مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6] .
وأما الثانية: فجمع «لِبْدة» - بالكسر - نحو «قربة وقِرَب» .
واللبدة: الشيء المتلبد، أي: المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم «لبدة الأسد» . كقول زهير: [الطويل]
4912 - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ
ومنه: اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد: اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا: أطال اللَّهُ الأمد على لبد.
والمعنى: كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: «لُبُداً» - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.
وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جمع «لَبْد» نحو «رَهْن» جمع «رُهُن» .
والثاني: أنه جمع «لَبُود» نحو «صَبُور، وصُبُر» وهو بناء مبالغة أيضاً.
وقرأ ابن محيصن: بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً: «لُبَّداً» - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.
وقيل: وهو جمع «لابد» ك «ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع» .(19/435)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
وقرأ أبو رجاء: بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.
وقيل: اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء -: الشيء الدائم، واللبد أيضاً: الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر: [البسيط]
4913 - من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ ... بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ
ويروى: اللَّبد، قال أبو عبيد: وهو أشبه، ويقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد.
ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.
قوله
: {إِنَّمَآ
أَدْعُواْ
} ، قرأ عاصم وحمزةُ: بلفظ الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد، والباقون: «قال» إخباراً عن «عبد الله» وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الجحدريُّ: وهي في المصحف كذلك. وقد تقدم لذلك نظائر في «قل سبحان ربي» آخر «الإسراء» ، وكذا في أول «الأنبياء» وآخرها، وآخر «المؤمنون» .
قال المفسرون: سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له: إنَّك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نجيرك، فنزلت.
قوله: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا} .
قرأ الأعرج: «رُشُداً» - بضمتين -. وجعل الضر عبارة عن الغي؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته، فأقام المسبب مقام السبب، والأصل: لا أملك غياً، ولا رشداً، فذكر الأهم.
وقيل: بل في الكلام حذف، والأصل: لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه.
فصل في معنى الآية
المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً.(19/436)
وقيل: {لا أملك لكم ضرّاً} ، أي: كفراً «ولا رَشداً» أي: هُدَى، أي: إنما عليَّ التبليغ.
وقيل: الضَّرُّ: العذاب، والرشدُ: النعيم، وهو الأول بعينه.
وقيل: الضرُّ: الموت، والرشد الحياة.
قوله: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، أي: لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرُك.
وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: انطلقتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان: أنا أزجلهم عنك، فقال: {إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه، قال: ويحتمل معنيين:
أحدهما: لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.
الثاني: لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي: ملجأ الجأ إليه، قاله قتادة، وعنه نصيراً ومولى.
وقال السدي: حِرْزاً، وقال الكلبيُّ: مدخلاً في الأرض مثل السِّرب، وقيل: مذهباً ولا مسلكاً، حكاه ابن شجرة؛ قال الشاعر: [البسيط]
4914 - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ ... عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ
و «مُلتَحَداً» مفعول «أحد» لأنها بمعنى «أصيب»
قوله {إِلاَّ بَلاَغاً} ، فيه وجوه:
أحدها: أنه استثناء منقطع، أي: لكن إن بلغت عن الله رحمتي، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله: {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} .
لأنه لا يكون من دون الله - عَزَّ وَجَلَّ - وبعنايته وتوفيقه.
والثاني: أنَّه متصل، وتأويله، أن الإجارة مستعارة للبلاغ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلاً من «مُلتحَداً» لأن الكلام غير موجب، وهذا اختيار الزَّجاجِ.(19/437)
والثاني: أنه منصوب على الاستثناء.
الثالث: أنه مستثنى منقطع من قوله {لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً} .
قال قتادة: أي: لا أملك إلا بلاغاً إليكم، وقرره الزمخشري، فقال: أي: لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وقيل: {إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله} جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.
الرابع: أنَّ الكلام ليس استثناء، بل شرطاً، والأصل: «إن لا» ف «إنْ» شرطية وفعلها محذوفٌ، لدلالة مصدره، والكلام الأول عليه، و «لا» نافية، والتقدير: «إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ» .
وجعلوا هذا كقول الآخر: [الوافر]
4915 - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ
أي: وإن لا تطلقها يعلُ، فحذف الشرط ونفى الجواب، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين:
أحدهما: أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً.
والثاني: أنَّه حذف الجزءان هنا، أعني الشرط والجزاء.
فيكون كقول الشاعر: [الرجز]
4916 - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وإنْ ... كَانَ فَقيراً مُعدماً، قالتْ: وإنْ
أي قالت: وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته.
وقد يقال: إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.
وقال الحسنُ: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ} . فإن فيه النجاة والأمان.
قوله {مِّنَ الله} . فيه وجهان:
أحدهما: أن «مِنْ» بمعنى «عَنْ» لأن «بلغ» يتعدى بها، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ألاَ بلَّغُوا عنِّي» .
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ» .
قال الزمخشري: «مِنْ» ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «مِنْ» في قوله تعالى {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] ، بمعنى: «بلاغاً كائناً من اللَّهِ» .(19/438)
قوله {وَرِسَالاَتِهِ} . فيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة نسقاً على «بلاغاً» ، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره.
والثاني: أنها مجرورة نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر، ويجوز في جعله «مِنْ» بمعنى «عَنْ» ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم.
قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} ، في التوحيد، والعبادة {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ، العامة: على كسر «إن» جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء.
قال الواحديُّ: «إن» مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء.
ولذلك حمل سيبويه قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره: فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم.
قال ابن خالويه: «سمعت ابن مجاهد يقول: لم يقرأ به أحدٌ، وهو لحنٌ، لأنه بعد فاء الشرط، قال: سمعتُ ابن الأنباري يقول: هو صواب، ومعناه: فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم» .
قال شهاب الدين: ابن مجاهد، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] في «الأنعام» ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية.
قول «خالدينَ» . حالٌ من الهاء في «له» ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «مِنْ» فلذلك جمع؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ، ثم جمع المعنى.
فصل في رد كلام المعتزلة
استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات، وأيضاً: فقوله «أبداً» ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ.
والجوابُ: أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله، والرسالة، ثم قال تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال، أو نقول: هذه الصورة لا بد(19/439)
وأن تندرج في العموم، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب، أو نقول: إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة، ومعنى، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك، أو نقول: {وَمَن يَعْصِ الله} إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى {وَمَن يَعْصِ الله} متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي.
فإن قيل: يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل.
قلنا: يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه.
فصل في أن الأمر للوجوب
دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] ، {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] ، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] .
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} .
قوله: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} .
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تعلق حتى، وجعل ما بعده غاية له؟ .
قلت: بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من بوم بدر، وإظهار الله عليهم، أو من يوم القيامة {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} .
قال: ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار، واستقلالهم لعددهم، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون، قال المشركون: متى هذا الوعد؟ إنكاراً له.
فقال: «قُلْ» : إنه كائن لا ريب فيه.
قال أبو حيان: قوله: بم تعلق، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها(19/440)
حرف ابتداءٍ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج، وابن درستويه، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح، وأما تقديره: أنها تتعلق بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف، فقال: تقديره: دعهم حتَّى إذا رأوا.
وقال التبريزي: جاز أن يكون غاية لمحذوف، ولم يبيِّن ما هو.
وقال أبو حيان: «والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون» .
قوله: {مَنْ أَضْعَفُ} . يجوز في «مَنْ» أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء، و «أضْعَفُ» خبره، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها.
وأن تكون موصولة، و «أضعف» خبر مبتدأ مضمر، أي: هو أضعف، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان.
قال القرطبي: «حتى» هنا مبتدأ، أي «حتى أذا رأوا ما يوعدون» من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل يوم بدر {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} . و «مَنْ» يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم، بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ و «أقَلُّ عَداداً» معطوف.(19/441)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قوله: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} ، يعني: قيام الساعة لا يعلمه إلاَّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ.
قوله: {أَقَرِيبٌ} ، خبرٌ مقدمٌ، و {مَّا تُوعَدُونَ} مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون «قَرِيبٌ» مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و «مَا تُوعَدُون» فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون، نحو «أقَائِمٌ أبواك» ، و «مَا» يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية فلا عائد، و «أمْ» الظاهر أنها متصلة.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما معنى قوله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} ، والأمد(19/441)
يكون قريباً وبعيداً، ألا ترى إلى قوله تعالى {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً} [آل عمران: 30] ، قلت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة، أم مؤجل ضربت له غاية؟» .
وقرأ العامة: بإسكان الياء من «ربِّي» .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بالفتح.
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} . قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ .
فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} إلى آخره، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن، وأما وقت وقوعه فغير معلوم.
وقوله تعالى: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} ، أي: غاية وبعداً، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} .
فإن قيل: أليس «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال:» بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ «، فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ، فكيف قال - هاهنا -: لا أردي أقريب أم بعيد؟ .
فالجواب: أن المراد بقرب وقوعه، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
قوله: {عَالِمُ الغيب} ، العامة: على رفعه، إما بدلاً من» ربِّي «وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر، أي هو عالم.
وقرىء: بالنصب على المدح.
وقرأ السديُّ: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله:» فلا يُظهرُ «. العامة: على كونه من» أظْهَر «، و» أحَداً «مفعول به.(19/442)
وقرأ الحسنُ:» يَظْهرُ «بفتح الياء والهاء من» ظهر «ثلاثياً، و» أحد «فاعل به.
فصل في تفسير الغيب
الغيب ما غاب عن العباد.
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.
قوله: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} . يجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و» مِنْ «في قوله:» مِنْ رسُولٍ «لبيان المرتضين وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} بيان لذلك.
وقيل: هو متصل، و «رَصَداً» تقدم الكلام عليه.
ويجوز أن تكون «مِنْ» ، شرطية، أو موصولة مضمنة معنى الشرط، وقوله «فإنَّهُ» خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً، أي: لكن، والمعنى: لكن من ارتضاه من الرسل، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه.
فصل في الكرامات
قال الزمخشريُّ: «في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخل في السخط» .
قال الواحديُّ: وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة، أو موت، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال ابن الخطيب: واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.
قال ابن الخطيب: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} الآية.
فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟ .(19/443)
قلنا: لعله إذا قربت القيامةُ يظهر، وكيف لا، وقد قال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّاً وسطيحاً» كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى، وربيعة بن مضر، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا، يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيه، وأيضاً: قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.
قال ابن الخطيب: وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.
وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر» في شرح حالها وقالت: تفحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فإن قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.
فصل في معنى الآية
قال القرطبيُّ: المعنى {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] .
وقال ابن جبير: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.
فصل في استئثار الله بعلم الغيب
ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا: لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره(19/444)
دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال: إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل: [الكامل]
4917 - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي ... يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ ... وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟
وقيل لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ولم؟ .
قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده. ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم: نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في(19/445)
الحبس ما بقيتُ، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة «النَّهروان» الثابتة في «صحيح مسلم» ، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال: إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناسُ، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.
قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، يعني: ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا: هذا رسول ربِّك.
وقال ابن عباس وابن زيد: «رَصَداً» ، أي: حفظةُ يحفظون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين.
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب: هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله.
وقال الفرَّاءُ: فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.
وقال السديُّ: «رَصَداً» أي: حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان، و «رَصَداً» نصب على المفعول.
قال الجوهريُّ: «والرَّصدُ: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا: أرصاد، والرّاصد للشيء: الراقب له، يقال: رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والتَّرصُّد: الترقب، والمرصد: موضع الرصد» .
قوله: {لِّيَعْلَمَ} . متعلق ب «يَسْلكُ» .
والعامة: على بنائه للفاعل، وفيه خلاف. أي: ليعلم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.(19/446)
قال القرطبيُّ: «وفيه حذف تتعلق به اللام، أي: أخبرناه بحفظنا الوحي، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق» .
وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
قاله ابن جبير، قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام -.
وقيل: ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا.
وقيل: ليعلم الله، [أي: ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الرسول، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا] .
وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.
وقال ابن قتيبة: أي: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.
وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين، قد بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان، لإفراد الضمير.
والضمير في «أبْلغُوا» عائد على «من» في قوله: «من ارْتضَى» راعى لفظها أولاً، فأفرد في قوله {مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، ومعناها ثانياً، فجمع في قوله «أبْلَغُوا» إلى آخره.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.
وقرأ ابن أبي عبلة والزهري: لِيُعلم «- بضم الياء وكسر اللام - أي: ليعلم الله رسوله بذلك.
وقرأ أبو حيوة:» رِسَالة «بالإفراد، والمراد الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة:» وأحيط، وأحصي «مبنيين للمفعول،» كل «رفع ب» أحصي «. قوله:» عَدَداً «، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل: أحصى عدد كل شيء، كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] ، أي: عيون الأرض على خلاف سبق.(19/447)
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى، لأن» أحْصَى «بمعنى» عَد «، فكأنه قيل: وعد كل شيء عدداً.
أو يكون التقدير: وأحصى كلَّ شيء إحصاء، فيرد المصدر إلى الفعل، أو الفعل إلى المصدر.
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار، فقال:» عَدَداً «نصب على البيان، ولو كان مصدراً لأدغم.
يعني: أن قياسه أن يكون على» فَعْل «بسكون العين؛ لكنه غير لازم، فجاء مصدره بفتح العين.
ولما كان «لِيعْلمَ» مضمناً معنى «قَد عَلِمَ ذلِكَ» جاز عطف «وأحَاطَ» على ذلك المقدر.
قال القرطبي: «عَدَداً» ، نصب على الحال، أي: أحصى كل شيء.
فصل في معنى الإحاطة في الآية.
المعنى: أحاط علمه بما عند الرسل، وما عند الملائكة.
وقال ابن جبيرٍ: المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم، فيبلغوا رسالاته {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي: علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات، وبجميع الموجودات.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ» والله تعالى أعلم بالصواب.(19/448)
سورة المزمل
مكية في قول الحسن رضي الله عنه وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: {واصبر على ما يقولون} ، والتي تليها [الآية: 10، 11] ، ذكره الماوردي وغيره.(19/449)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
وقال الثعلبي: {إن الله ربك يعلم أنك تقوم} [المزمل: 10، 11] إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة. وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثماني مائة وثمانية وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها المزمل} ، أصله «المُتزمِّلُ» فأدغمت التاء في الزاي، يقال: تزمَّل يتزمل تزملاً، فإذا أريد الإدغام: اجتلبت همزة الوصل، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب.
وقرأ عكرمة: «المُزمِّل» - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل، وعلى هذا فيكون فيه وجهان:
أحدهما: أن أصله «المُزتمِل» بوزن «مفتعل» فأبدلت التاء ميماً وأدغمت، قاله أبو البقاء، وهو ضعيف.
والثاني: أنه اسم فاعل من «زمل» مشدداً، وعلى هذا، فيكون المفعول محذوفاً، أي: المزمل جسمه. وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي: «المُلفَّفُ،(19/449)
والتزمل: التلفف، يقال: تزمل زيد بكساء، أي: الفت به؛ وقال ذو الرُّمَّة: [الطويل]
4918 - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ... ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
4919 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ
وهو كقراءة بعضهم المتقدمة
فصل في بيان لمن الخطاب في الآية
هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه ثلاثةُ أقوالٍ:
الأول: قال عكرمة: {يا أيها المزمل} بالنبوة المتزمل بالرسالة، وعنه: يا أيها الذي زمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر، وكان يقرأ: {يا أيها المزمل} - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها، على حذف المفعول، وكذلك:» المدثر «، والمعنى: المزمل نفسه والمدثر نفسه، والذي زمله غيره.
الثاني: قال ابن عباس: يا أيها المزمل بالقرآن.
الثالث: قال قتادة: يا أيها المزمل بثيابه.
قال النخعيُّ: كان متزملاً بقطيفة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يصلي، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً، كان سداه شعراً ولحمته وبراً، ذكره الثعلبي.
قال القرطبيُّ:» وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية، فإنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح «.(19/450)
وقال الضحاكُ: تزمل لمنامه.
وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل، وتدثر، فنزل: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} .
وقيل: كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله، وقال: زمِّلوني، دثِّرُونِي.
روي معناه عن ابن عباس، قال: أول ما جاءه جبريل خافه، وظن أن به مساً من الجنِّ، فناداه، فرجل من الجبل مرتعداً وقال: زمِّلُوني، زمِّلُونِي.
وقال الكلبيُّ: إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة، وهو اختيار الفراءِ.
وقيل: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة، فقيل له: {يا أيها المزمل} قم واشتغل بالعبودية.
وقيل: معناه يا من تحمل أمراً عظيماً، والزمل: الحمل.
قال البغويُّ: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبي، والرسول.
فصل في نفي كون «المزمل» اسماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
قال السهيليُّ: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما ذهب إليه بعض الناس، وعدوه في أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما «المُزمِّلُ» اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك كان المُدثِّرُ.
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها «لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين غاضب فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب، فقال له:» قُمْ أبَا تُرابٍ «، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب، [وملاطفاً له وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لحذيفة: قم يا نومان ملاطفة له، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب]- وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {يا أيها المزمل قُمِ} فيه تأنيس له، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل، واتصف بتلك الصفة.(19/451)
قوله: {قُمِ الليل} . العامة: على كسر الميم لالتقاء الساكنين.
وأبو السمال: بضمها، إتباعاً لحركة القاف.
وقرىء: بفتحها طلباً للخفة.
قال أبو الفتح: الغرض: الهرب من التقاء الساكنين، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض.
قال شهاب الدين:» إلا أن الأصل: الكسر، لدليل ذكره النحويون، و «الليل» ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به «.
قال القرطبي:» وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول: «قمت الدار» حتى تقول: «قُمْتُ وسَط الدَّارِ، وخارج الدارِ» ، وقد قيل هنا: إن «قم» معناه: صل، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال «.
فصل في حد الليل
الليل: حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة.
قال القرطبيُّ:» واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ «.
واختلف هل كان فرضاً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوالٍ:
الأول: قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه.
الثاني: قول ابن عباسٍ، قال: كان قيامُ الليل فريضة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والأنبياء قبله.
الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته، لما روى «مسلم» : «أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنبئيني عن قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: ألست تقرأ: {يا أيها المزمل} قلت: بلى، قالت: فإن الله - عَزَّ(19/452)
وَجَلَّ - افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه حولاً، وأمسك الله - عَزَّ وَجَلَّ - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في آخر السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة» .
وروى وكيع، ويعلى ابن عباس قال: لما نزلت: {يا أيها المزمل} كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة.
وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ} [المزمل: 20] فخفف الله عنهم.
وقيل: كان قيام الليل واجباً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] وكان بين الوجوب ونسخه سنة.
وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد، حتى نسخ بالمدينة.
وقيل: لم يجب التهجد قط لقوله {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] ، ولأنه لو وجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوجب على أمته لقوله تعالى {واتبعوه} [الأعراف: 158] ، والنسخ على خلاف الأصل، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} . للناس في هذا كلام كثير، واستدلال على جواز استثناء الأكثر، والنصف، واعتراضات وأجوبة.
قال شهاب الدين: وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى: اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه:(19/453)
أحدها: أن «نِصْفهُ» بدل من «اللَّيْلِ» بدل بعض من كل، و «إلاَّ قَليْلاً» استثناء من النصف، كأنه قيل: [قُم أقل من نصف الليل، والضمير في «مِنْهُ» و «عليه» عائد على النصف، والمعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت] ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، قاله الزمخشريُّ.
وناقشه أبو حيَّان: «بأنه يلزم منه تكرار اللفظ، ويصير التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل، قال: وهذا تركيب ينزه القرآن عنه» .
قال شهاب الدين: والوجه في إشكال، لكن لا من هذه الحيثية، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً -، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال: والثاني: هو بدل من «قليلاً» - يعني النصف - قال: وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال: «أو انقُصْ مِنْهُ» ، «أو زِدْ عليْهِ» ، والهاء فيهما للنصف، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل.
قال شهاب الدين: «والجواب عنه: أن بعضهم قد عين هذا القليل، فعن الكلبي، ومقاتل: هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال:» والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل «، فأعاد الضمير على القليل، وفي الأول أعاده على النصف، ولقائل أن يقول: قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد، وذلك أن قوله: قُمْ نصف الليل إلا قليلاً، بمعنى أنقص من نصف الليل، لأن ذلك القليل، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت:» قم نصف الليل إلا القليل من النصف، وقم نصف الليل، أو انقص من النصف «وجدتهما بمعنى واحد، وفيه دقة فتأمله، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم، وقد عرف ما فيه، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال:» نِصفَهُ «بدل من» الليل «و» إلاَّ قَلِيلاً «استثناء من النصف، والضمير في» مِنْهُ «و» عَليْهِ «عائد للنصف، والمعنى: قُم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه» .
قال شهاب الدين: «والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً» .
الثاني: أن يكون «نِصفَهُ» بدلاً من «قَلِيْلاً» وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، وابن عطية.(19/454)