أي إلى الأعلام.
فقد فقر من شيء فوقع في أضعف منه، وأجِيب عن ذلك: بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويتِ الدّلالة عليه فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أردتموه في المِثَال والشِّعر.
والمذهب الثاني: التفضيل، وهو مذهب الأخفش، وذكل أنه يجوز بشرطين:
أحدهما: أن يكون أحد العاملين جاراً، والثاني: أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل «بلا» ثمال الأول: الآية الكريمة والأبيات المتقدمة، ولذلك استصوب المبرد اشتهاده بالآية ومثال الفصل «بلا» قولك: مَا فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَلاَ الحُجْرَةِ عَمْرٌو. فلو فقد الشرطان، نحو: إنَّ زَيْداً شَتَم بِشْراً، وَوَاللهِ خَالِداً (هِنْداً) أو فقد أحدهما، نحو: إنَّ زيداً ضَرَبَ بَكْراً، وخالداً بِشْراً، فقد نقل ابن مالك، الامتناع عن الجميع. وفيه نظر، لما سيأتي من الخِلاف.
الثالث: أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارًّا، وأن يكون متقدماً نحو الآية الكريمة، فلو لم يتقدم نحو: إنَّ زَيْداً في الدارِ وعمرو السوقِ، لم يَجُز، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله.
الرابع: الجواز مطلقاً، ويُعْزَى للفراء.
الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المكذورة: أن ينتصب «آيات» على الاختصاص. قاله الزمخشري، كما سيأتي. وأما قراءة الرفع ففيها أوجه:(17/345)
أحدها: أن يكون الأول. والثاني: ما تقدم في {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
الثالث: أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين، وذلك أن «اخْتِلاَفِ» عطف على «خَلْقكم» وهو معمول «لفِي» و «آيات» قبلها، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمول عاملين في هذه القراءة أيضاً.
قال الزمخشري: وقرىء: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصب على قولك: إنَّ زَيْداً فِي الدَّارِ وعمرو في السوق أو عمراً في السُّوق. قال: وأما قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت، فالعاملان في النصب (إنَّ) و (فِي) ، أقيمت الواو مُقَامَهُما فعملت الجر في «اختلاف الليل والنهار» والنصب في «آيات» وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و (في) عملت الرفع في «آيات» والجر في «اختلاف» . ثُمَّ قال في توجيه النصب: والثاني: أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور.
والوجه الخامس: أن يرتفع «آياتٌ» على خبر ابتداء مضمر أي هِيَ آياتٌ. وناقشه أبو حيان فقال: ونسبة الجر والرفع والجر والنصب للواو ليس بصحيح؛ لأنّ الصحيحَ من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل، وأيضاً ناقش أبو شامة فقال: فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضاً يعني قراءة الرفع عطف على عاملين. وهما حرف «في» والابتداء المقتضي للرفع. ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة؛ لأن الابتداء ليس بعامل لظفي.(17/346)
وقرىء: واخْتِلاَفُ بالرفع آيَةٌ بالرفع، والتوحيد على الابتداء والخبر.
وكذلك قرىء: وما يَبُيُّ مِنْ دَابَّةٌ بالتوحيد. وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطلحة وعِيسَى: وتصْرِيف الرِّيح كذا قال أبو حيان. قال شهاب الدين: وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضاً. وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
فصل
اختلاف الليل والنهار فيه وجوه:
الأول: تبديل النهار بالليل وبالعكس.
الثاني: زيادة طول النهار على طول الليل والعكس.
الثالث: اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.
قوله: {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} يعني الرزق الذي هو سبب أرزاق العباد {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا يدل على وجوب القول بوجود الفاعل المختار من وجوه:
أحدها: إنشاء السحاب وإنزال المطر فيه.
وثانيها: تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض.
وثالثها: تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة، وأغصانها، وأوراقها، وثمارها، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللّب، كالجَوْز، واللَّوز، ومنها ما يكون اللّب محيطاً بالقشر كالمِشْمِش والخوخ، ومنها ما يكون خالياً عن القشر كالتِّين. فتولد أقسام النبات على كثرة أقسامه وَتَبَايُنِها يدلّ على وجوب القول بوجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم.
قوله: {وَتَصْرِيفِ الرياح} هي أقسام كثير منها الشرقية، والغربية والشّمالية، والجنوبية، ومنها الحارّة، والباردة، أياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. واعلم أنه تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي(17/347)
تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] . فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل، والتافوت بين الوصفين من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال في سورة البقرة: {إنَّ في خلق السموات والأرض} وقال ههنا: {إن في السموات والأرض} والصحيح عند أهل السنة: إنَّ الخلق غير المخلوق، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق.
الثاني: أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل، وأهمل منها الفلك والسحاب، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما.
الثالث: أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل احد منها بنظر تامٍّ سابقٍ.
الرابع: أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع: أحدها: للمؤمنين، وثانيها: «يوقنون» . وثالثها: «يعقلون» .
قال ابن الخطيب: وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين (بل أنتم من طلاب الجَزْم واليقين، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاْ فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
قوله تعالى: {تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} يجوز أن تكون «نتلوها» خبراً «لِتِلْكَ» و «آيَاتُ اللهِ» ، بدل أو عطف بيان، ويجوز أن تكون «تِلْكَ آيَاتُ» مبتدأ وخبراًن و «نَتْلُوها» حال قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه «تلك» من معنى الإرشاد ونحوه: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . قال أبو حيان: وليس نحو لأن في «هَذَا بَعْلِي» حرف تنبيه؛ فقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تَنَبَّهْ وأما تلك فليس فيها حرف تنبيه، (فإذا كان حرف التنبيه عاملاً) بما فيه من معنى التنبيه لأن المعنى قد يعمل في الحال، فالمعنى تَنَبَّهْ لزيدٍ في حال شَيْخِه أو في حال قيامه.(17/348)
وقيل: العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه إن كان هناك. قال شهاب الدين: بل الآية نحو: هَذَا بَعْلِي شَيْخاً من حَيْثِيَّةِ نسبة العمل لاسم الإشارة غاية ما ثَمَّ أن في الآية الأخرى ما يَصْلُحُ أن يكون عاملاً، وهذا لا يَقْدَح في التنظير إذا قصدت جهةً مشتركةً، وأما إضمار الفعل فهو مشترك في الموضعين عند من يرى ذَلِكَ قال ابن عطية: وفي «نَتْلُوها» حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة فيها ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذا المعنى، فلا يكون فيها حذفُ مضاف.
وقرأ بعضهم: يَتْلُوهَا بياء الغيبة، عائداً على الباري تعالى.
قوله: «بالْحَقِّ» حال من الفاعل، أي ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي ملتبسةً بالحق. ويجوز أن تكون (الباء) للسببية فتتعلق بنفس «نَتْلُوهَا» .
قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ} قال الزمخشري: أي بعد آيات الله، فهو كقولك: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، يريدون: كَرَمَ زَيْدٍ. وردَّه عليه أبو حيان بأنه ليس مراداً، بل المراد إعجاباً، وبأنَّ فيه إقحاماً للأسماء من غير ضرورة، قال: وهذا قلب لحقائق النَّحْو.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو وعاصمٌ في رواية «يُؤمِنُون» بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب. و «فَبِأَيِّ» متعلق به، قدم لأن له صدر الكلام. واختار أبو عبيد الياء، لأن فيه غيبة، وهو قوله: {يُوقِنُونَ} ، و {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فإن قيل: في أول الكلام خطاب، وهو قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} قُلْنَا: الغيبة أقرب إلى الحرف المُخْتَلَفِ فيه فكان أولى.
فصل
ومعنى الآية أن من لم ينتفع بهذه الآيات، فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به. وهذه(17/349)
الآية تبطل القول بالتقليد، وتوجب على المكلف على التأمل في دلائل دين الله.(17/350)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ... } الآية لما بين الآيات للكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} والأفاك الكذاب، والأثيم المُبَالغ في اقتراف الإثم، وهو أن يبقى مصراً على الإنكار، والاستكبار. قال المفسرون: يعني النَّظْر بن الحارث، والآية عامة في من كان موصوفاً بهذه الصفة.
قوله: «يَسْمَعُ» يجوز أ، يكون مستأنفاً، أي هو يسمع، أو دون إضمار «هو» وأن يكون حالاً من الضمير في «أثيم» وأن يكون صفة.
قوله: «تُتْلَى عَلَيْهِ» حال من «آيَاتِ اللهِ» ، ولا يجيء فيه الخلاف وهو أنه يجوز أن يكون في محل نصب مفعولاً ثانياً؛ لأن شرط ذلك أن يقع بعدها ما لا يسمع نحو «سَمِعْتُ زَيْداً يَقْرَأ» أما إذا وقع بعدها ما يسمع، نحو: سَمِعْتُ قِرَاءَةَ زَيْدٍ يَتَرنَّمُ بِهَا فهي متعدية لواحد فقط، و «الآيات» مما يسمع.
قوله: «ثمَّ يُصِرُّ» قال الزمخشري: فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} قلتُ: كمعناه في قول القائل:
4439 - ... ... ... ... ... ... ... ... يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
وذلك أن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفِرار منها، وأما زورانها والإقدام على مزاولتها فامر مستبعد، فمعنى ثم الإيذان بأن فعل المقدم عليها(17/350)
بعدما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق من تُلِيَتْ عليه وسَمِعَها كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستنكاره عن الإيمان بها.
قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن يتكون حالاً، والأصل كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، ومحل الجملة النصب على الحال يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السَّامِع ثم قال: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
قوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً} العامة على فتح العين وكسر اللام خفيفة مبنياً للفاعل. وقتادةُ ومطر الوراق عُلِّم مبنياً للمفعول مشدداً.
قوله: (اتَّخَذَهَا) الضمير المؤنث فيه وجهان:
أحدهما: أنه عائد على «آيَاتِنَا» يعني القرآن.
والثاني: أنه يعود على «شَيْءٍ» وإن كان مذكراً، لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:
4440 - نَفْسي بِشَيْءٍ مِن الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ ... اللهُ وَالْقَائِمُ المَهْدِيُّ يَقْضِيهَا
لأنه أراد «بشَيْء» جاريةً يقال لها: عتبة.
فصل
المعنى ذلك الشيء هُزُؤٌ، إلا أنه تعالى قال: اتَّخَذَها للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحسّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد.
قوله: «أُولَئِكَ» إشارة إلى معنى كل أفَّاكٍ أَثِيم ليدخل فيه جميع الأفاكين فَحُمِلَ أوَّلاً على لفظها فأفرد، ثم على معناها فجمع، كقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .
قوله: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} لما قال: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وصف كيفية ذلك العذاب فقال: من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم لأنهم في الدنيا. قال الزمخشري هي اسم للجهة التي يواجه بها الشخص من خَلْفه أو من قُدَّامِهِ. ثم بين أن ما ملكوه في(17/351)
الدنيا لا ينفعهم فقال: {وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أي من الأموال.
قوله: {وَلاَ مَا اتخذوا} عطف على ما كسبوا و «ما» فيهما إما مصدرية أو بمعنى الذي أي لا يغني كَسْبُهُمْ ولا اتِخّاذُهُمْ، أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه.
فإن قِيلَ: إنه قال قبل هذه الآية: {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ثم قال ههنا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فما الفرق بينهما؟
فالجواب: كون العذاب مُهِيناً يدُلُّ على حصول الإهانة مع العذاب وكَوْنهُ عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضَّرَر.
قوله: «هَذَا هُدًى» يعني هذا القرآ هدى أي كامل في كونه هدى من الضلالة {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وقد تقدم الكلام على الرجز الأليم في «سبأ» والرجز أَشَدُّ العذاب لقوله تعالى: {رِجْزاً مِّنَ السمآء} [البقرة: 59] وقوله: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134] . وقرىء «أليم» بالجر، والرفع، أما الرفع فتقديره لهم عذاب أليم، ويكون (المراد) من الرجز النَّجَسُ الذي هو النجاسة، ومعنى النجاسة فيه قوله: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وكأن المعنى لهم عذاب من تَجرُّع رجسٍ أو شرب رجس، فيكنون تنبيهاً للعذاب، وأما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم، وإذا كان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً.(17/352)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قوله تعالى: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ ... } الآية لما ذكر تعالى الاستدلال بكيفية جَرَيَان الفلك على وجه البحر؛ وذلك لا يحصل إلا بتسخير ثلاثة أشياء: أحدها: الرياح التي توافق المراد. وثانيها: خلق وجه الماء على المَلاَسَةِ التي تجري عليها الفُلك. وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تَغْرقُ(17/352)
عنه. وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ولا بدّ من موجود قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} إما بالتجارة وإما الغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو لاستخراج اللَّحم الطَّرِيِّ.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي خلقها مسخرة لنا. أي لنفعنا.
قوله: «جميعاً» حال من {ما في السموات وما في الأرض} أو توكيد. وقد عدها ابن مالك في أَلْفَاظِهِ و «منه» يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة ل «جميعاً» وأن يتعلق «بسَخَّر» أي هو صادر من جهته ومن عنده. وجوَّز الزمخشري في «منه» أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُنَّ جَمِيعاً منه، وأن يكون {وَمَا فِي الأرض} مبتدأ و «منه» خبره.
قال أبو حيان: وهَذَانِ لا يجوزان إلاَّ على رأي الأخفش، من حيث إنَّ الحال تقدمت يعني «جَمِيعاً» فقدمت على عاملها المعنوي يَعْنِي الجَار فهي نظير: زَيْدٌ قَائِماً فِي الدَّارِ والعامة على «مِنْهُ» . وابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بكسر الميم وتشديد النون ونصب التاء. جعله مصدراً مِنْ: «مَنَّ يَمُنُّ مِنَّةً» فانتصبا به عنده على المصدر المؤكد، وإما بعامل مضمر، وإما بسخَّر لأنه بمعناه. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى بان عباس مظلم. قال شهاب الدين: قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جلة غير ابن عباس، فنقلها بن خالويه عنه وعن عُبَيْد بْنِ عُمَيْر ونقلها صاحب اللوامح وابن جني عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو والجَحْدَريّ وعبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر. وقرأ(17/353)
مُسْلِمَةُ بْنُ مَحَارِب كذلك إلا أنه رفع التاء جعلها خَبَر ابْتداءٍ مضمر، أي هي مِنَّةً.
وقرأ أيضاً في رواية أخرى فتح الميم وتشديد النون و «ها» كناية مضمومة جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى. ورفعه من وجهين:
أحدهما: بالفاعلية بسَخَّر، أي سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأشياءَ مَنُّهُ عَلَيْكُمْ.
والثاني: أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُو، أو ذَلِكَ مَنُّهُ عليكم إنَّ في ذَلِكَ {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} تقدم نظيره في سورة إبراهيمَ، قال ابن عباس: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَغْفِرُوا لاَ يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْدالله بْنَ أُبَيِّ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها: المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له: ما حَبَسَك؟ فقال: غُلام عمر قعد على طَرف البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي، وقُرَبَ أبي بكر، فقال عبد الله بن أُبَيِّ: مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر، فاشتمل بسيفه، يريد التوجه (له) فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: إنَّ رَجُلاًمن بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) بمكَّةَ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو والتَّجَاوز، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال: احتاجَ رَبَّ محمَّد، فمسع ذلك عُمَرُ، فاشتمل على سيفه، وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه سولم إليه فردَّه. وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ: نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل مكة كانوا في آَذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال.(17/354)
قال ابن الخطيب: وإنما قالوا بالنسخ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً. والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وقوله: {لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} قال ابن عباس: لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية وتقدير تفسير «أيام الله» عند قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] .
قوله: {لِيَجْزِيَ قَوْماً} قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ: لنَجْزِي بنون العظمة، أي لنَجْزي نَحْنُ. وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل؛ أي ليجزي اللهُ. وأبو جعفر بخلاف عنه وشبيةُ وعَاصمٌ في رواية كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب «قوماً» . وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير المفعول الثاني، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره: ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ، ونظيرهن: الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً.
الثاني: أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ. وفيه نظر لأنه لا يترك المفعول به، ويقام المصدر، لا سيما مع عدم التصريح به.
الثالث: أن القائم مقامه الجار والمجرور، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا:
4441 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلاَبَا(17/355)
و:
4442 - لَمْ يُعْنَ بالْعَلْيَاءِ إلاَّ سَيِّدَا ... والبصريون لا يُجِيزُونَه.
فصل
المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير.
فإن قيل: ما الفائدة من تنكير «قَوْماً» مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} ؟
فالجواب: أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم، كأنه قيل: ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات، والتجاوز عن المؤذيات، وتجرع المكروه، كأنه قيل: لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن. ثم ذكر الحكم العام فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} مثل ضربه الله للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} .(17/356)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} يعني التوراة {والحكم والنبوة} والمراد بهذه الآية أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على نبي إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبي البغي والحسد، والمقصود منه أن يبين أن طريقة قومِهِ كطريقة مَنْ تَقَدَّم. واعلم أن المراد بالكتاب التوراة أما الحكم، فقيل: المراد به العِلْم والحُكْمُ.
وقيل: المراد العلم بفصل الحكومات. وقيل: معرفة أحكام الله وهو علم الفقه. وأما(17/356)
النبوة فمعلومة {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} الحَلاَلاَت، يعني المَنَّ والسَّلْوا {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} . قال المفسرون: على عالَمِي زمانهم قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحبَّ إليه منهم.
ثم قال: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني العلم بمَبْعَثِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما بين لهم ممن أمره وأنه يهاجر من تِهامةَ إلى يثربَ، ويكون أنصاره من أهل يثربَ. وقيل: المراد بالبيِّنات المعجزات القاهرة على صحة نبوتهم والمراد معجزات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ثم قال تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وتقدم تفسير هذا في سورة «حم عسق» . والمراد من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههُنَا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما مقصودهم طلب الرِّيَاسَةِ والتَّقَدُّم، فيجوز أنه علموا ثم عاندوا. ويجوز أن يريد بالعلم الإدلة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحقَّ، لكنه اختلفوا وأظهروا النزاع على وجه الحسد، ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمعنى أنه لا ينبغي أن يغتر المُبْطِل بِنعَم الدنيا، فإنها وإن ساوت نِعَمَ الملحقّ أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه وذلك كالزجر لهم. ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً، أمَرَ رسوله بأن يَعْدِلَ عن تلك الطريقة، وأن يتمسَّك بالحقّ وأن لا يكون له غَرَض سوى إظهار الحق فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر} أي جعلناك يا محمد على سنة وطريقة بعد موسى «مِنَ الأَمْر» من الدِّين {فاتبعها وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يعني مراد الكافرين وأديانهم الخبيثة. قال الكلبي: إن رؤساءَ قريشٍ قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بمكة ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفْضَلَ منْك وأسَنّ، فأَنْزَل الله تَعَالَى هذه الآية.
قوله: «عَلَى شَرِيعةٍ» هو المفعول الثاني لحَعَلْنَاك والشريعة في الأصل ما يرده الناس من الماء في الأنهار، ويقال لذلك الموضع شريعة، والجمع شرائع قال:
4443 - وَفِي الشَّرَائِع مِنْ جَيْلاَن مُقْتَنَصٌ ... رَثٌّ الثِّيابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ(17/357)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
فاستعير ذلك للدين، لأن العباد يردون ما يحيى به نفوسهم.
قوله: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي اتبعت أهواءهم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} والمعنى إنك لو ملت أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وإنَّ الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة، فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثوب، وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم.
قوله
تعالى
: {هذا
بَصَائِرُ} أي هذا القرآن، جمع خَبَرُهُ باعتبار ما فيه. وقرىء: «هَذِه» رجوعاً إلى الآيات ولأن القرآن بمعناها كقوله:
4444 - ... ... ... ... ... ... ... ..... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ؟
لأنه بمعنى الصيحة، والمعنى بصائر للناس، أي معالم للناس في الحُدُودِ والأحكام يبصرون بها. وتقدم تفسيره في سورة الأعراف {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} هدىة من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن اتقى وآمن.(17/358)
قوله: «أَمْ حَسِبَ» أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها، أو بالهمزة وَحْدَاها وتقدم تحقيق هذا.
قوله: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» هنو المفعول الثاني للجَعْل، أي أن نَجْعَلَهُمْ كائنين كالذين آمنوا أي لا يحسبون ذلك. وَقَدْ تقدم في سورة الحج أنَّ الأخَوَيْنِ وحفصاً قرأوا هنا: سَوَاءً بالنصب والباقون بالرفع. وتقدم الوعد عليه بالكلام هنا فنقول: أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ينتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» ويكون المفعول الثاني للجعل «كالذين آمنوا» أي أحسبواأنْ نَجْعَلَهُم مثلهم في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ؟ ليس الأمر كذلك.
الثاني: أن يكون «سواءً» هو المفعول للجَعْل. و «كَالَّذِينَ» في محل نصب على الحال، أي أن نجعلهم حال كونهم مِثْلَهم سواءً. وليس معناه بذاك.
الثالث: أن يكون «سواه» مفعولاً ثانياً «لحسب» . وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء.
قال شهاب الدين: وأظنه غلطاً؛ لما سيظهر لك، فإنه قال: ويقرأ بالنصب وفيه وجهان:
أحدهما: هو حال من الضمير في «الكاف» أي نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال.
الثاني: أن يكون مفعولاً ثانياً لحسب والكاف حال، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحِسْبان وعلى هذا الوجه {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} مرفوعان (بسواء} لأنه قد قَوِيَ باعتماده انتهى.
فقد صرح بأنه مفعول ثاني للحسبان، وهذا لا يصح ألبتّة، لأن «حسب» وأخواتها إذا وقع بعدها «أَنَّ: المشددة و» أَنْ «المخففة أو الناصبة سَدَّت مسدَّ المفعولين، وهنا قد(17/359)
وقع بعد الحسبان» أَنْ «الناصبة، فهي سادّة مسدَّ المفعولين فمِنْ أين يكون» سواءًَ «مفعولاً ثانياً لحسب؟!
فإن قلت: هذا الذي قلته رأي الجمهور، سيبويه وغيره، وأما غيرهم كالأخفش فيدَّعي أنها تسد مسدّ واحدٍ. وإذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب المذهب فأَعْرَبَ» أنْ نَجْعَلَهُمْ «مفعولاً أول (ل» حَسِبَ «) و» سَوَاءً «مفعولاً ثانياً.
فالجواب: أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفاً، ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر وهو أنه قد رفع به (مُحياهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) لأنه بمعنى مستو كما تقدم، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول بل رفع أجنبيًّا من المعفول لأول وهو نظير: حَسِبْتُ قِيَامَكَ مُسْتَوِياً ذهابك وعدمه.
ومن قرأ بالرفع فيحتمل قراءته وجهين:
أحدهما: أن يكون «سواء» خبراً مقدماً، و «مَحْيَاهُم» مبتدأ مؤخراً، ويكون «سواء» مبتدأ و «محياهم» خبره كذا أعربوه. وفيه نظر تقدم في سورة الحج، وهو أنه نكرة لا مسوغ فيها وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبراً لا مبتدأ.
ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه:(17/360)
أحدها: أنها استئنافية. والثاني: أنها تبدل من الكاف الواقعة مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد، ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواءً محياهم ومماتهم كان سديداً، كما تقول: ظَنَنْتُ زَيْداً أبوه مُنْطَلِق.
قال أبو حيان: وهذا أعني إبدال الجملة من المفرد أجازه ابن جني وابن مالك ومنعه ابن العِلْجِ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقريره ذلك. ثم قال: «والذي يظهر أنه لا يجوز يعني ما جوزه الزمخشري قال: لأنها بمعنى التَّصْيِير، ولا يجوز: صَيَّرْتُ زيداً أبو قائمٌ؛ لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصفٍ فيها، وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقال مما ذكر فلا يجوز.
قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها، لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الحمل صفة وحالاً، نحو: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبُوهُ قائِمٌ، وجاء زيد أبو قائمٌ، فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيِّز التصيير؛ إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية.
الثالث: أن تكون الجملة حالاً (و) التقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَماتِهِم؟! ليسوا كذلك بل هم مقترفون. وهذا هو الظاهر عند أبي حيان وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيِّز الحسبان، وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر، ويظهر أن(17/361)
قوله: سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول جيِّد انتهى. ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفة أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته. وقرأ الأعمش» سواءً «نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ.
بالنصب أيضاً، فأما سواء فمفعول ثان، أو حال كما تقدم. وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكونا ظرفي زمان، وانتصبا على البدل من مفعول (نجعلهم) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني، والتقدير: أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ (سَوَاءً) .
والثاني: أن ينتصبا على الظرف الزماني، والعامل إما الجعل أو سواء، والتقدير أن نجعهلم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه: ومن قرأ بالنصب جعل «مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ» ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم. قال أبو حيان: وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ (النَّجْم) بخلاف (محيا) و (ممات) و (مقدم) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكماينة فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع، لا على حذف مضاف كخُفُوق، فإنه لا بد من حذف مضاف، لكونه موضوعاً للمصدرية وهذا أمر قريب، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان. أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك. والضمير في «محياهم ومماتهم» يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده. فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه. ويجوز(17/362)
أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء. وقال أبو البقاء: ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم. والعامل: نجعل أو سواء. وقيل: هو ظرف. قال شهاب الدين: هو القول الأول بعينه.
(فصل)
لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} (و) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً. والتقدير: هنا: أفيعلم المشركون هناأم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين. والاجتراح: الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم. قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] . وقال الكلبي: نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة، وشيبةً، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالاص منكم في الدنيا. فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات. ثم قال: {سواءً محياهم ومماتُهُمْ} . قال مجاهد عن ابن عباس: معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين؟! كلا فإنه يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه. الكافر بالضِّدِّ منه، كما ذكره الله تعالى في قوله: «وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض» «واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ» والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون: سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.
وأما في القيامة فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 3842] وقيل: معنى الآية لا يستوون في الممات، كما استووا في الحياة، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في(17/363)
الصحة والرزق والكفاية، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنَّما يظهر الفرق بينهم في الممات. وقيل: إنَّ قوله {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} مستأنف والمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وكذلك محيا الكفار ومماتهم سواء أي كل يموت على حسب ما عاش عليه. ثم إنه تعالى صرح بإنكار التسوية فقال: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يقضون. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تَمِيم الدَّاريِّ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصْبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد (بها) ويبكي {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات ... } الآية.
قوله تعالى: {وخلق الله السموات والأرض بالحق} لما بين أن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السَّعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال: {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي لو لم يوجد البعث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل لأنه تعالى لو خلق الظالم وسطله على المظلوم الضعيف ولا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ولو كان ظالماً لبطل أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق. وتقدم تقريره في سورة يُونُس.
قوله: «بِالْحَقِّ» فيه ثلاثة أوجه إما حال من الفاعل، أو من المفعول أو الباء للسببية.
قوله: «وَلتُجْزَى» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عطفاً على «بالحق» في المعنى، لأن كلاًّ منهما سبب فعطف الصلة على مثلها.
الثاني: أنها معطوفة على معلل محذوف، والتقدير: خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرْضَ ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لايتم إلاَّ إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت بين الدَّركات والدرجات بين المحقين والمبطلين.
الثالث: أن تكون لام الصيرورة أي وصار الأمر منها من اهتدى بها قوم وظلَّ عنها آخرون.(17/364)
قوله: «أفَرَأْيت» بمعنى أخبرني وتقدم حكمها مشروحاً، المفعول الأوّل من اتخذ والثاني محذوف، تقديره: بعد غشاوة أيهتدي؟ ودل عليه قوله: ِ «فَمَنْ يَهْدِيهِ» .
وإنما قدرت بعد غشاوة، لأجل صلا ت الموصول. واعلم أنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفار، وقبائح طرائقهم فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} قال ابن عباس والحسن وقتادة: وذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه.
وقرىء «آلِهَتَهُ» هواه، لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه والمعنى اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما تهواه نفسه. قال سعيد بن جبير: كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رَموه وكسروه وعبدوا الآخر. قال الشعبي: إنما سمي الهوى لأنه يَهوِي بصاحبه في النار. قوله: «عَلَى عِلْمٍ» حال من الجلالة أي كَائِناً عَلَى عِلْمٍ منه يعاقبة أمره أنه أهل لذلك.
وقيل: حال من المفعول، أي أضله وهو عالم، وهذا أشنع لَهُ. وقرأ الأَعرجُ: آلِهَةً على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره آلهته هواه.
قوله: {وختم على سمعه وقلبه} يسمع الهوى وقلبه لم يعقل الهدى وهو المراد من قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وقد تقدم.
قوله: «غشاوة» قرأ الأخوان غَشْوَةً بفتح الغين، وسكون الشين. والأعمش وابن مِصْرف كذلك إلا أنهما كسرا الغين. وباقي السبعة غِشاوة بكسر الغين. وابن(17/365)
مسعود والأعمش أيضاً بفتحها وهي لغة ربيعة والحسن وعكرمة. وعبد الله أيضاً بضمها، وهي لغة محكيَّة وتقدم الكلام في ذلك في أول سورة البقرة، وأنه قرىء هناك بالعَيْن المُهْملة.
قوله: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعد إضلال الله إياه. وقال الواحدي: ليس يبقى لِلْقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة؛ لأن الله تعالى صرح منعه إياهم عن الهدى بعد أن أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره. ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} قرأ العامة بالتشديد، والجَحْدريّ بتخفيفها والأعمش تتذكرون بتاءين.
قوله: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} تقدم نظيره. وقرأ زيد بن على نُحْيَا بضم النون.
فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكر القيامة كان يجب أن يقول: نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟
فالجواب: من وجوه:
الأول: المراد بقوله: «نموت» حال كونهم نُطَفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقوله: «نحيا» ما حصل بعد ذلك في الدنيا.
الثاني: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا.
الثالث: قال الزّجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعضٌ ويحيا بعضٌ.
الرابع: قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى قدم ذكر الحياة فقال: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} ثم قال بعده: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعن أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ عليه الموت بعد، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد.
قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} أي وما يُفنينا إلا مرُّ الزمان، وطول العمر، واختلافُ الليل والنهار {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} الذي قالوه {مِنْ عِلْمٍ} أي لم يقولوه عن علم عَلِموه {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} .
روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قال الله تعالى:» لاَ يَقُل ابْنُ آدَمَ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا أُرْسِلُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ فَإِذَا شِئْتُ(17/366)
قَبَضْتُها «وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لا يَسُبَّ أحدُكُمْ الدَّهْرَ فإنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ، وَلاَ يَقُولَنَّ لِلْعِنَبِ الكرْمَ، فإنََّ الكَرْمَ هُوَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ «ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب المكاره فيقولون: أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، كما أخبر الله عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان يرجع سَبُّهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهُوا عن سبِّ الدهر.
قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قرأ العامة بنصب» حجتهم «. وزيدُ بْنُ عليٍّ، وعمروُ بْنُ عُبَيد، وعُبَيْدُ ابن عَمرو بالرفع وتقدم تأويل ذلك و» ما كان «جواب» إذا «الشرطية. وجعله أبو حيان دليلاً على عدم إعمال جواب» إذا «فيها لأن» ما «لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
قال: وخالفت غيرها من أدوات الشرط، حيث لم يقترن بالفاء جوابها إذا نفي بما.
فصل
سمى قولهم حجة لوجوه:
الاول: لزعمهم أنه حجة.
الثاني: أن من كانت حجته هذا فليس له ألتة حجة كقوله:
4445 - ... ... ... ... ... ... ... ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجيعُ(17/367)
الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها. واعلم أنهم احتجوا على إنكمار البعث بهذه الشبهة وهي شبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لايحصل في الحال يجب أن يمتنع حصوله فإن كان حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي خلقنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عندم حُصُولِنا في الأزل إلى وقت خلقنا يدل على امتناع حصولنا وذلك باطلٌ.
قوله تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} .
فإن قيل: هذا الكلام مذكوراً لأجل جواب من يقول: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدَّهر} وهذا القائل ينكر وجود الإله ووجود القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله: {الله يُحْيِيكُمْ} ؟ وهل هذا إلا إثْبَات الشيء بنفسه، وهو باطل؟!
فالجواب: أنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الإله القادر الفاعل الحكيم مراراً فقوله: ههنا: {الله يُحْيِيكُمْ} إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أنّ الإحياء من الله، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء ألأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أن الله تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحيكم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقاً. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى ما تقدم في الآية المقتدمة، وهو أن كونه تعالى عادلاً خالقاً منزهاً عن الجَوْز والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة، ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} دلالة على حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداء، وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.(17/368)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ... } الآية لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عَمَّمَ الدليل فقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي لله القدرة على جميع الكائنات سواء كانت في السموات أو في الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كُلِّ الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الدار ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى، فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية. ولما بين تعالى إمكانية القول بالحشر والنشر في هذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوالِ القيامة فأولها: قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} في عامله وجهان:
أحدهما: أنه «يخسر» و «يومئذ» بدل من «يَوْمَ تَقُومُ» . والتنوين على هذا التنوين عوض عن جملة مقدرة ولم يتقدم من الجمل إلا «تقوم الساعة» فيصير التقدير: ويوم تقوم الساعة يومئذ تقوم الساعة. وهذا الذي قدروه ليس فيه مزيد فائدة، فيكون بدلاً توكيديًّا.
والثاني: أن العامل فيه مقدر، قالوا لأن يوم القيامة حالة ثالثة ليست بالسَّماء ولا الأرض، لأنهما يتبدلان فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم. ويكون قوله: «يَوْمَئذٍ» معمولاً ليخصرُ، والجملة مستأنفة من حيثُ اللفظ، وإنْ كَانَ لها تعلق بما قبلها من حيثُ المَعْنَى.
فصل
اعلم أنَّ الحَيَاةَ والعقل والصحة كأنها رأس مال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية مَجْرَى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح والكفار قد اتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلاَّ الحرمان والخِذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
وثانيها: قوله: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الظاهر أن الرؤية بصرية فيكون «جاثية»(17/369)
حال قال الليث: الجَثْوُ الجُلُوسُ على الركب الجِثِيّ بين يَدَي الحَاكِمِ، وذلك لأنها خائفة والمذنب مُسْتَوْفِزٌ. وقيل: مجتمعة، ومنه الجُثْوَةُ للقبر لاجتماع الأحجار عليه، قال (الشاعر) (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4446 - تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ... صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها. قال الزمخشري وقرىء: جاذية بالذال المعجمة قال: والجَذْوُ أشد من الجَثْوِ، لأن الجَاذِي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وهو أشد استيفازاً من الجاثِي.
قوله: «كُلُّ أمة» العامة على الرفع بالابتداء، و «تُدْعَى» خبرها. ويعقوب بالنصب على البدل من «كُلَّ أمَّة» الأولى، بدل نكرة موصوفة من مثلها.
قوله: إلَى كِتَابِهَا «أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفي باسم الجنس كقوله تعالى بعد ذلك: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ} . قال سلمان الفارسي: إن في القيامة ساعةً هي عشرُ سنين، يَخِرُّ الناس فيها جثاةً على ركبهم، حتى إبراهيم ينادي ربه لا أملك إلا نفسي.
قوله: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ» هذه الجملة معمولة لقول مضمر، التقدير: يقال لهم اليومَ تُجَزونَ و «الْيَوْمَ» معمول لما بعده و «مَا كنْتُمْ» هو المفعول الثاني.
فإن قيل: الجثْو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة {
فالجواب: أن الجاثي الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة (إلى) أن يظهر كونه محقاً.(17/370)
فإن قيل: كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟
فالجواب: لا منافاة بين الأمرين، لأنه كتابهم، بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه.
قوله: {يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي يشهد عليكم بأعمالكم من غير زيادة ولا نقصان.
وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. و «ينطق» يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثايناً، وأن يكون «كتابنا» بدلاً و «ينطق» خبر وحده و «بالحق» حال.
قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نأمر الملائكة بنسخه أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم وقيل: نستنسخ أي نأخذ نسخة، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان إلا ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، نحو قولهم: هلُم، واذهب، فالاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم. والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ كتابٌ من كِتَاب. وقال الضحاك: نستنسخ أي نُثْبِتُ. وقال السدي: نكتب. وقال الحسن: نَحْفَظُ. ثم بين أحوال المطيعين فقال: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه.
فصل
قالت المعتزلة: علّق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والعمل الصالح والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عندم عندم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة يجب أن لا يحصل الفوز بالجنة}
وأُجِيبَ: بأن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.
فصل
سمى الثواب رحمة، والرحمة إنما يصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم (تكن) واجبةً، فوجب أن لا يكون الثوابُ واجباً على الله تعالى.
قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ} هذا على إضمار القول أيضاً، وقدر الزمخشري(17/371)
على عادته جملة بين الهمزة والفاء أي ألَمْ تأتكم رسلي فَلَمْ تكن آياتي؟
فصل
ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قِسماً ثالثاً، وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة في إثبات منزلة بين المنزلتين باطل، وفي الآية دليل على أن استحقاق العقوبة، لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وعلى أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم: إنَّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ} العامة على كسر الهمزة لأ، ها محكيَّةٌ بالقول، والأعْرَجُ وعمرو بن فائدٍ بفتحها. وذلك مُخَرَّجُ على لغة سُلَيْمٍ يُجْرون القولم مُجْرَى الظَّنِّ مطلقاً ومنه قوله:
4447 - إذَا قُلْتُ أَنِّي آيِبٌ أهْلَ بَلْدَةِ..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
قوله: «وَالسَّاعة: قرأ حمزة بنصبها عطفاً على» وَعْدَ اللهِ «الباقون برفعها، وفيه ثلاثة أوجه:
الأول: الابتداء، ما بعدها من الجملة المنفية خبرها.
الثاني: العطف على محل إنّ واسمها معاً، لأن بعضهم كالفارسيِّ والزمخشري يَرَوْنَ أن ل» إنّ «واسْمِها موضعاً وهو الرفع بالابتداء.(17/372)
قوله:» إلاَّ ظَنًّا: هذه الآية لا بدّ فهيا من تأويل، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل ملا بعده من جميع معمولاته مرفوعاً كان أم غير مرفوع، إلا المفعول المطلق، فإنه لا يفرغ له، لا يجوز: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً لأنه لا فائدة، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه في قوة: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً لأنه لا فائدة فيه، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه قو قوة: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْبتُ. قاله مكي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: فإن: قلت: ما معنى: إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا؟ قلت: أصله نظن ظنًّا، ومعناه إثبات الظن حسبُ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيدُ نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} . فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها.
قال أبو حيان: وهذا كلام من لا شُعُور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعولٍ وغيرهما إلا المصدر المؤكد، فإنه لا يكون فيه.
وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه:
أحدها: ماقاله المبرد وهو أن الأصل: إنْ نَحْنُ إلاَّ نَظُنُّ ظَنًّا قال: ونظيره ما حكاه أبو عمرو: لَيْسَ الطِّبُ إلاَّ المسكُ. تقديره ليس إلا الطيبُ المسكُ. قال شهاب الدين: يعني أن اسم «ليس» ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك» في محل نصب خبرها. وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انْتَقَضَ نفيها «بإلا» قياساً على «ما الحجازية» . والمسألة طويلة مذكورة ف يكتب النحو، وعليها حاكاية جَرَتْ بين أبي عمرو، وعيسى ببن عُمَرَ.(17/373)
الثاني: أنّ «ظَنًّا: له صفة محذوفة تقديره: إلاّ ظَنًّا بَيِّناً، فهو مختص لا مؤكد.
الثالث: أن يضمن (نظن) معنى» نعتقد «فينتصب» ظناً «مفولاً به لا مصدراً.
الرابع: أن الأصْل إنْ نَظُنُّ إلاَّ أنَّكُم تَظُنُّونَ ظَنًّا، فحذف هذا كله موهو معزوٌّ للمبرد أيضاً. وقد رده عليه من حيث إنه حذف إنّ واسمها وخبرها وأبقى المصدر.
وهذا لا يجوز.
الخامس: أن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فاستثني الشك كأنه قيل: مالنا اعتقاد إلاّ الشك. ومثل الآية قول الأعشى:
4448 - وَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ ... وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلاََّ اغْتِرَارَا
يريد اغتراراً بيناً.
فصل
قال ابن الخطيب: القوم كانوا في هذه المسألة على قولين، منهم من كان قاطعاً ينفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكًّا متحيراً فيه لأنهم من كثرة ماسمعوه من الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحّته صاروا شاكين فيه، وهم المذكورون فيه هذه الآية، ويدل على ذلك أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤُلاء، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول. ثم قال: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ»(17/374)
في الآخرة {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي جزاؤها {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهذا كالدليل على أن هذه الفِرقة لما قالوا: إنْ نظنّ إلاَّ ظناً إنما ذكروه استهزازً وسخرية، وعلى هذا الوجه فصار ذلك أول خسرانهم، فهذا الفريق أسوأ من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا مُنْكِرين، وما كانوا مُسْتَهْزِئِينَ وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.
قوله: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ} أن نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ولقاء هذا اليوم. وقيل: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه.
قوله: {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ} هذا من التوسع في الظرف، حيث أضاف إليه ما هو واقع فيه، كقوله: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] .
قوله: {وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} فجمع الله عليهم من وجوه العذاب، ثلاثة أشياء، قطع الرحمة عنهم، وصيّر مأواهم النار، وعدم الأنصار، ثم بين تعالى أن يقال لهم: إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب، لأنكم أتيتم ثلاثة أنواع من الاعمال القبيحة، وهي الإصرار على إنكار الدين الحق والاستهزاء به، والسخرية والاستغراق في حب الدنيا، وهو المراد بقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا} .
قوله: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} تقدم الخلاف في قوله: {لا يخرجون منها} في أول الأعراف، وأن حمزة والكِسَائيّ قرءا بفتح الياء وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء. {ولا هم يستعتبون} لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأنه لا يقبله في ذلك اليوم عذرٌ ولا توبة قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} قرأ العامة «رَبّ» في الثلاثة بالجر تبعاً للجلالة، بياناً، أو بلادً، أو نعتاً، وابن مُحَيْصِنٍ برفع الثلاثة على المدح بإضمار «هُوَ» .
قوله: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات} يجوز أن يكون «في السموات» متعلقاً بمحذوف حالاً من «الْكِبْرِياء» وأن يتعلق بما تعلق به الظروف الأول، لوقوعه خبراً.
ويجوز أن(17/375)
يتعلق بنفس «الكبرياء» لأنها مصدر. وقال أبو البقاء: «وأن يكون يعني في السموات ظرفاً والعامل فيه الظرف الأول، والكبرياء، لأنها بمعنى العظمة» . قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتة المصدرية.
فصل
لما تم الكارم في المباحث الرُّوحَانيَّة ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} أي فاحمدوا الله الذيه وخالق السموات والأرضين، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الرُّبُوبيَّة توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.
ثم قال: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} يعني بكمال قدرته، يقدر على خلق أي شيء أراد، (و) بكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة.
وقوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلاَّ هُوَ. روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يقول الله عزّ وجلّ:» الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحداً مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ «.
وروى أبي بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ الحَاثيِية سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ وسَكَّنَ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ «.(17/376)
سورة الأحقاف(17/377)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
مكية، خمس وثلاثون آية، وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم لى: {حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى} تقدم الكلام على نظير ذلك. والمراد ههنا بالأجل المسمى يوم القيامة، وهو الأجل الذين ينتهي إليه السموات والأرض وهو إشارة إلى قيامها.
قوله: {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ} يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عن إنذارهم أو بمعنى الذي أي عن الذي أُنذِرُوهُ و «عن» متعلقة بالإعراض و «مُعْرِضُون» خبر(17/377)
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} حكم «أرأيتم» . ووقع بعد هذه «أََرُونِي» فاحتلمت وجين:
أحدهما: أن تكون توكيداً لها، ولأنهما بمعنى أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني (لأَرَأَيْتُمْ) قوله «مَاذَا خَلَقُوا» إلا أنه استفهام، والمفعول الأول هو قوله: «مَا تَدْعُونَ» .
الوجه الثاني: أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع، لأن «أَرأَيْتُمْ) يطلب ثانياً و» أروني «كذلك، وقوله:» مَاذَا خَلَقُوا: هو المُتَنَازَعُ فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول.
وجوز ابن عطية في «أَرأَيْتُم» أن لا يتعدى، وجعل «مَا تَدْعُونَ» استفهاماً معناه التوبيخ. وقال: «وتدعون» معناه تبعدون. وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله: {َأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة} [الكهف: 63] وقد تقدم.
قوله: «مِن الأَرْضِ» هذا بيان للإبهام الذين في قوله: «مَاذَا خَلَقُوا» .
قوله: «أَمْ لَهُمْ» هذه «أم» المنقطعة، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ، وقوله: «مِنْ قَبْلِ هَذَا» صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا، كذا قدرها أبو البقاء، والأحسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا.
قوله: «أَوْ أَثَارةٍ» العامة على أَثارة، وهي مصدر على فَعَالةٍ، كالسَّمَاحَةِ، والغَوايَةِ والظَّلاَلَةِ ومعناها البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً، ثم هزِلَتُ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت. والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف، يقال: لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف، وتستعمل في غير ذلك قال الراعي:
4449 - وََذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَت عَلَيْهَا ... نَبَاتاً في أكَِمَّتِهِ قَفَاراً
وقيل: اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ. ومنه قوله عمر: «ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلاَ(17/378)
آثِراً» أي مسنداً له عن غيري. وقال الأعشى:
4450 - إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا ... بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ
وقيل: فيها غير ذلك. وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين: أَثَرَةٍ دون ألف. وهي الواحدة وتجمع على أَثَر، كقَتَرَةٍ، وقَتَرٍ. وقرأ الكسائي: أُثْرَةٍ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء. وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون.
والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى، أي ائتوني بخبر واحد يشضهد بصحة قولكم. وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي. و «مِن عِلْمٍ» صفةٌ لأَثَارَةٍ.
فصل
قال أبو عُبَيْدَة والفَرَّاءُ والزَّجَّاجُ أثارة من علم أي بقية. قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلم كقولك: هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلاَنٍ، ومن هذا المعنى سيمت الأخبار والآثار، يقالً: جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا. قال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال:
الأول: الأثارة واشقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ.
والثاني: من الأثر الذي هو الرواية.
والثالث: من الأَثَرِ بمعنى العلامة.(17/379)
قال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي يسند إليهم. وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال مجاهد: خاصة من علم. قال ابن الخطيب: وههنا قول آخر في تفسير (قوله) تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خًطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ» فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام. فإ، صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم.
قوله: «وَمَنْ أَضَلُّ» مبتدأ وخبر. وقوله «مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ» من نكرة موصوفة أو موصولة، وهي مفعولة بقوله: «يَدْعُو» .
قوله: {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} يجوز أن يكون الضَّمِيرانِ عائدين على مَنْ في قوله: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} وهم الأصنام ويوقع عليهم من معاملتهم إياها معالمة العقلاء ولأنه أراد جميع مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ الله وغلب العقلاء، ويكون قد راعى معنى «من» فلذلك جمع في قوله: «وهم» بعدما راعى لفظها فأفرد في قوله: «وَيَسْتَجِيبُ» وقيل: يعود على «مَنْ» في قوله: «ومَنْ أَضَلّ» وحُمِلَ أولاً على لفظها، فأفرد في قوله: «يَدْعُو» ، وثانياً على معناها فجمع في قوله: {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} .
فصل
«ومن أضلّ» استفهام على سبيل الإنكار والمعنى لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دُعِيَتْ لا تسمع، ولا تجيب لا في لحال ولا في المآل إلى يوم القيامة. وإنما جعل ذلك غاية، لأن يوم القيامة قد قيل: إنه تعالى يحييها، ويخاطب منْ يعبدها، فلذلك جعله الله تعالى حدًّا وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تُعَادِي هَؤُلاَءِ العابدين.
واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يُحْيِي هذه الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عبادتهم. وقيل: المراد عبدة الملائكة وعيسى، فإنهم في يوم القيامة ينظهرون عبادة هؤلاء العابدين وهو المراد بقوله: {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي جاحدين كقوله: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] .(17/380)
قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.
فصل
لما تكلم في تقرير التوحيد، ونَفْي الأضداد، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات قالوا: هذا سحر أي يسمون القرآن سحراً.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أم للإنكار والتعجب كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين بطلان شبهتهم فقال: «قل» يا محمدج «إِن افْتَرَيْتُهُ» على سبيل الفرض، فإن الله يعاملني بعقوبة بُطْلاَن ذلك لافتراء، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفِرْيَةِ؟ يعني لعقابه، وهو المراد بقوله: {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً} أي لاَ تَقْدِرُونَ أن تردوا عني عذابه، وإن عذبني الله على افْترائِي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟! ونظيره: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 17] {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} [المائدة: 41] . ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن، والقول فيه بأنه سحر. {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب {وَهُوَ الغفور الرحيم} لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيمٌ به.(17/381)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ... } لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم نسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفِرْيَة حكى(17/381)
عنهم شُبْهَةً أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزاتٍ عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} .
قوله: «بدعاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره: ذَا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء: وهذا على أن يكون البدْعُ مَصْدراً.
والثاني: أن البِدْعَ نفسه صفة على فِعْلٍ بمعنى بَدِيعٍ كالخِفِّ والخَفِيف؛ والبِدْعُ والبَدِيعُ ما لم ير له مِثْلٌ، وهو من الابْتِدَاع وهو الاختراع. أنشد قطرب:
4451 - فَمَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي ... رِجَالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسٍ وَأَسْعد
قال البغوي (رَحِمَهُ اللَّهُ) : (البِدْعُ) مثلُ نصْف ونَصِيفٍ، وجمع البِدْعِ أَبْداٌ. وقرأ عكرمة وأبو حَيْوَة وابنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِدعٌ بفتح الدال جمع بِدْعَةٍ، أي ما كنت ذا بِدَعٍ. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فِعَلٍ، كِدين قِيَم، ولَحْمٍ زِيَمٍ.
قال أبو حيان: ولم يُثْبِتْ سيبوَيْهِ صفةً على «فِعلٍ» إلاَّ قَومْاً عِدًى. وقد استدرك عليه لحمٌ زِيَمٌ. أي متفرق. وهو صحيحٌ. وأما قول العرب: مَكَانٌ سِوى، وماء رِوًى، ورجل رِضًى، ومَاءٌ صرّى، وسَبْيٌ طِيَبٌ، فمتأولة عند التصريفيين. قال شهاب(17/382)
الدين: تأويلها إما بالمصدرية أو القَصْر، كِقيَم في قِيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهدٌ بَدِع بفتح الباء كسر الدال، وهو وصف كَحَذِرٍ.
فصل
البدع والبديع من كل شيء المَبْدَأ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجوداً قبله. قال المفسرون معناه إني لست بأول مُرْسَل، قد بعث قبلي كثيرٌ من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي؟ {وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله؟} وقيل: إنهم طلبوا منه معجزة عظيمةً وإخباراً عن الغيوب فقال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وُسْعِ البشر، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم، فإذا لم يقْدِروا على ما تُرِيدُنَه فكيف أقدر عليه؟! وقيل: إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وبأنه فقير، وأن أتباعه فقراء فقال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} . وهم كلهم على هذه الصفةِ فهذه الأشياء لا تقدح في نُبُوَّتي كما لا تقدح في نُبُوَّتِهِم.
قوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} العامة على نيابة المفعول. وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنياً للفاعل، أي الله تعالى. والظاهر أن (ما) في قوله: «مَا يَفْعَلُ» استفهامية مرفوعة بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهي معلقة «لأَدْرِي» عن العمل، فتكون سَادَّةً مسَدَّ مفعوليها.
وجوَّزَ الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة، يعني أنها متعدية لواحدٍ، أي لا أعرف الذي يفعلُه اللهُ.
فصل
في تفسير الآية وجهان:
أحدهما: أن يحمل ذلك على أوال الدنيا. والثاني: أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة. أما الأول ففيه وجوه:(17/383)
الأول: معناه لا أدْرِي ما يصير إليه أمري وأمركم، ومَن الغالب منَّا ومن المغلوب؟ .
الثاني: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلىأرض ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممَّا هم فيه من أذى المشركين. ثم إنَّهم مكثوا بُرهَةً من الدهر لا يروْنَ أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله: ما رأيْنا الذي قُلْتَ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتَها في المنام؟ فكست النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل الله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إِلَيِّ.
الثالث: قال الضحاك: لا أدري ما تُؤمَرُونَ به، ولا ما أومر به من التكاليف، والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذكركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب، ثم أخبر أنه تعالى يظهر دينه على الأديان فقال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [الفتح: 28] وقال في أمته: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فأخبره الله ما يصنع به وبأمته قال السدي.
الرابع: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أو أُقْتَلُ، كما تقل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المُكَذِّبون أَتُرْمَوْنَ بالحجارة من السماء أو يُخْسَف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال: لَما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ربُّه فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح: 15] فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك فما يعفل بنا؟ فأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ّ: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: 5] الآية وأنزل: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [الأحزاب: 47] فبين الله ما يفعل به وبهم، وهذا قول أنس وقتادة والحَسَنِ وعكرمةَ. وقالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغُفْرَان ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا بدّ وأن يعلم من نفسه كَوْنَهُ نَبيًّا، ومتى علم كونَه نبياً، علم أنه لا يصدر عنه الكبائرُ وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونُه شاكًّا في أنه هل هو مغفور له أم لا؟ .(17/384)
الثاني: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13] فكيف يعقل أن يبقى فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقُدْوةُ الأولياء شاكًّا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثَبَتَ ضَعْفُ هذا القَوْلِ.
قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} العامة على بناء «يُوحَى» للمفعول، وقرأ ابن عمر بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى. والمعنى إنِّي لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلاَّ بمقتضى الوَحْي. واحتج نُفَاةُ القياس بهذه الآية فقالوا: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلاَّ بالنص الذي أوحاه الله (إليه) فوجب أن يكون حالُنَا كذلك. ثم قال الله تعالى: {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة، وبالإخبار عن الغيوب فقال: قُلْ مَا أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة (البشر والعالم بتلكم الغيوب ليس إلاَّ اللهُ تَعَالَى) . .
قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} مفعولا «أرأيتم» محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره: فقد ظَلَمْتُمْ. ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً. وقدره الزمخشري: ألستم ظالمين؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو: إنْ تَزُرْنَا أَفَلاَ نُكْرِمُكَ؟ وإن كان غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو: إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلاَّ خَيْراً؟
قال شهاب الدين: والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى الإعراب.
وقال ابن عطية و «أرَأَيْتُم» يحتمل أن تكون مُنَبِّهة، فهي لفظ موضوع للسؤال، لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها. قال أبو حيان: وهذا خلاف ما قرّره النحاة، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره. وقيل: جواب الشرط هو قوله: {فَآمَنَ واستكبرتم} . وقيل: هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا(17/385)
والمبطل؟ وقيل: «فمن أضل» . قال ابن الخطيب: ججواب الشرط محذوف، والتقدير أن يقال: إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين.
ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله: «إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي» وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 13] وقد يذكر كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله} [القصص: 71] .
فصل
معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ» يعني القرآن {مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أيها المشركون {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} . المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ» عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآمن به، واستكبر اليهود، فلم يؤمنوا كما روى أنس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قال: «سمع عبد الله بن سَلاَم بِمَقْدِم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاه وهو يخترف في أرض، فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له: إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نبي، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال: جبريل قال: نعم قال: ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] . أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً. ثم قال يا رسول الله: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم(17/386)
عني بَهَتُونِي عنْدك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ رجل عبد اللهن فيكم؟ فقالوا: خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال: أفرأيتم (إن أسلم) عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذَه الله من ذلك» فخرج إليه عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا: أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص: ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلاَم وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} .
وقيل: الشاهد: هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصَّلاَة والسَّلام قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعامين، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه سولم بالمدينة؟! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقومه. وأجاب الكلبيُّ بأن السورة مكمية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين. قال ابن الخطيب: ولِقائِلٍ أن يقول: إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المسائل الثلاث، فلما أجاب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك الجواب آمن عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يألكه أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلاَّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر صادقاً لزم الدور. وهو محال.
الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول: الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ إلى حد الإعجاز.
والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول: العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم.(17/387)
وقيل: المراد بالشاهد التوراة. ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن مصدق التوراة ثم قال: {فَآمَنَ واستكبرتم} فلم تؤمنوا {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ... } في سبب نزول وجوه:
الاول: أن كفار مكمة قالوا: إِن عَامَّةَ من يتبع محمداً الفقراءُ والأرذالُ مثلُ عمَّار، وصُهَيْب، وابْن مَسْعُودٍ ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه هؤلاء.
والثاني: قيل: لما أسلمت جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَة، وأسْلَم، وغِفار، قالت بنو عامر وعطفان وأسد وأشجع: لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاة البَهْمِ.
الثالث: قيل: إنَّ أَمَةً لعمرَ أسلمت وكان عمر يضربها ويقول: لولا أنّي فترت لزِدْتُكِ ضَرْباً فكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه.
الرابع: قيلأ: كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه.
قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن تكون لام الصلة، أي لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا: لأجل إيمان الذين آمنوا، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا: ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا. والضمير في «كان» و «إليه» عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسول أو الرسول.(17/388)
قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} العامل في «إذْ» مقدر أي ظهر عنادُهُمْ، وتسبب عنه (قوله) «فَسَيَقُولُونَ» ولا يعمل في «إذْ» فَسَيَقُولُونَ، لتضاد الزمانين، أعني المُضِيَّ والاسْتِقْبَالَ ولأجل الفاء أيضاً.
فصل
المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا: أسَاطِيرُ الأَوَّلين.
قوله (تعالى) : {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} العامة على كسر ميم «مِنْ» حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب تقديره: وأنْزَلَ مِنْ قِبْلِهِ كِتَابَ مُوسَى وقرىء: وَمَنْ قَبْلَه بفتح الميم كِتَابَ مُوسَى بالنصب، على أن «من» موصولة، وهي مفعول أول لآتَيْنَا مقدَّراً، و «كتاب موسى» مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كِتَابَ مُوسَى.
قوله: «إمَاماً ورَحْمَةً» حالان من «كتاب موسى» . وقيل: منصوبان بمقدر أي أَنْزَلْنَاهُ إِمَاماً ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «مِنْ قَبْل» من الاستقرار. وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي جعلناه إماماً ورحمة من الله لمن آمن به.
ومعنى الآية: ومن قبل القرآن كتابُ موسى يعني التوراة إماماً يهتدى به، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره: وتقجمه كتاب موسى إماماً ورحمةً ولم يَهْتَدُوا به كما قال في الآية الأخرى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} .
قوله: {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} أي القرآن يصدِّق الكتب التي قبله، في أن محمداً رسول من عند الله.(17/389)
قوله: «لِسَاناً» حال من الضمير في «مُصَدِّق» ويجوز أن يكون حالاً من «كِتَابٍ» والعامل التنبيه، أو معنى الإشادة. و «عربياً» صفة ل «لِسَاناً» وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالاً، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به ناصبه «مصدق» وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل: هو على حذف مضاف، أي مُصَدِّق ذَا لسانٍ عَرَبيٍّ وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: هو على إسقاط حرف الجرف، أي بلسان وهو ضعيف.
قوله: «لتنذر متعلق بمُصَدِّق، و» بُشْرَى «عطف على محلّه تقديره: للإنذار وللبُشْرَى. ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب. فأما من قرأ بياء الغيبة وقد تقدم ذلك في يس فإنَّهُمَا متَّحِدَانِ. وقيل: بشرى عطف على لفظ» لِتُنْذِرَ «أي فيكون مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره: هِيَ بُشْرَى. ونقل أبو حيان وجه النصب عطفاً على محل» لِتُنْذِرَ «عن الزمخشري وأبي البقاء ثم قال:» وهذا لايصح على الصحيح من مذاهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع مُحْرز. وهنا المحل ليس بحق الأصَالة؛ إذ الأصل في المفعول الجر (له) ، والنصب ناشىء عنه، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه «. انتهى.
قوله: الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب(17/390)
بشروط ذكروها ثم يقولون: ويجوز جره بلام فقولهم: ويجوز ظاهر في أنه فرع أصل.
قال الزجاج (رَحِمَهُ الله) : الأجوزُ أن يكون» وبشرى «في موضع رفع أي وهُو بُشْرَى.
قال و (لا) يجوز أن يكون في موضع نَصْب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين. وقوله للمحسنين متعلق ببشرى، أو بمحذوف على أنَّه صفة لها.
فصل
المراد بالذين ظلموا مشركوا مكمة، والحاصل أن المقصودَ من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.(17/391)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} لما قرر دلائل التوحيد والنُّبوة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحققين فقال: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} وقد تقدم تفسيره في سورة السجدة. والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلُونَ ويقولون: لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا، وههنا رفع الواسطة وذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يلتقونهم بالبشارة من غير واسطة.
قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الفاء زائدة في خَبَر الموصول، لما فيه من معنى الشرط. ولم تمنع «إنَّ» من ذلك إبقاء معنى الابتداء بخلاف لَيْتَ، ولَعَلَّ، وكَأَنَّ.
قوله تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الجنة} قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل:
أولها: أن قوله: {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} يفيد الحصر وأن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخ الجنة.
وثانيها: قوله {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء.(17/391)
وثالثها قوله: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على إثبات العمل للعبد.
ورابعها: يدل على أن العبد يستحق على الله جزاء عمله وتقدم جواب ذلك.
قوله: {خَالِدِينَ} منصوب على الحالية و «جَزَاءً» منصوب إما بعامل مضمر، أي يُجْزَوْنَ جزاءً أو بما تقدم، لأن معنى أولئك أصحاب الجنة جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ.(17/392)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} تقدم نظيره. قرأ الكوفيون: إحْساناً، وباقي السبعة «حسناً» بضَمِّ الحاء وسكون السين، فالقراءة الأولى يكون «إحْسَاناً» فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن أليهما إِحْسَاناً وقيل: بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى «أَلْزَمْنَا» فيكون مفعولاً ثانياً وقيل: بل هو منصوب على المفعول له، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما. وقيل: هو منصوب على المصدر، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا، فهو مصدر صريحٌ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. وقال ابن عطية: إنها تتعلق إما «بوصَّيْنَا» وإما «بإحْسَاناً» وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا يتعدى بالباء، وإنما يتعدى باللام لا تقول: أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه. ورد بعضهم هذا بقوله: {أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي} [يوسف: 100] . وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدر بعضهم: ووصينا الإنسان بوالديه ذَا إحْسَانٍ، يعني فيكون حالاً. وأما «حُسْناً» فقيل(17/392)
فيها ما تقدم في «إحسان» . وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما. وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة وفي لقمان. قال ابن الخطيب: حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً. وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيه. والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا، كما يقال: هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ. قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف، والباقون بضمها، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، مثل الضَّعْف والضُّعْف، والفَقْر والفُقْر، ومن غير المصادر الدَّفُّ، والدُّفُّ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي: الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فهذا بالضم، وقال: {تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} [النساء: 19] فهذا في موضع الحال، وما كان مصدراً في موضع الحال فالفتح فيه أحسن. وقال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة. ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة. وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً.
فصل
قال المفسرون: حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة، لقوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ(17/393)
فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} [الأعراف: 189] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق.
فصل
دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} فذكرهما معاً، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليهما بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب.
قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي مدة حمله. وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر «فَاصَل» كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا. والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ: وفَصْلُهُ. قيل: والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ. ولو نصب «ثلاثين» على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه أي مُدَّة حَمْلِهِ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ.
فصل
دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً. وروي عن أبي بكر (الصديق) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها. فقال عمر: لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة. وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه.
قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} لا بد من جملة محذوفة، تكون «حَتَّى» غاية لها، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده، قال ابن عباس في رواية عطاء الأشد ثماني عشرة سنة وقيل: نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه، وهو مابين ثماني عشرة سنة(17/394)
إلى أربعين سنة، فذلك قوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مَضَت القِصَّةُ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وقال علي بن أبي طالب: الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة، ونُبِّىء النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به ودعا ربه فقال: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} بالهداية والإيمان. وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثُ وثلاثون سنةً.
فصل
قال ابن الخطيب: مراتب سن الحيوان ثلاثة، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
فأولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية، وحيئنذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ (والانتماء) .
والثانية: وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب.
والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بفحظ الحرارة الغريزية. ثم هذا النقصان على قسمين:
فالأول: هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ.
قوله: «أَرْبَعِينَ» أي تمامها، «فأربعين» مفعول به. قال المفسرون: لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلاَّ بعد أربعين سنة. قال ابن الخطيب: وهذا يشكل بعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنه(17/395)
تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أن ما جاء (هـ) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: «أَوْزِعْنِي» قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) معناه أَلْهِمْنِي. قال الجوهري: أَوْزَعْتُهُ أَغْرَبْتُهُ به، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرّى به، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي.
قوله: «وأَن أعمل صالحاً ترضاه» قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أجاب الله عزَّ وجَلَّ دعاء أبي بكر، فأعتق تعسةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله، منهم بلالٌ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. ودعا أيضاً فقال: «فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي» فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً. فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً. فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عبد الرحمن أبو عتيق، كلهم أدركوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا} أصلح يتعدى بنفسه لقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وإنَّمَا تعدى ب «في» لتضمنه معنى: الطف بي في ذريتي أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح كقوله:
4452 - يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيها نُصَلِّي ... والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.
قوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، ومع كونه من المسلمين.
قوله: {أولئك الذين نتقبل عنهم} قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب «أحسن» على المفعول به، وكذلك «نتَجَاوَزُ» والباقون للمفعول،(17/396)
ورفع «أحْسَن: لقيامه مقام الفاعل، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين.
الحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى.
(فصل)
ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.
فإن قيل: كيف قال: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه؟!
فالجواب من وجهين:
الأول: المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر: 55] وكقولهم: النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان.
الثاني: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب، ولا عقاب، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب.
وقوله: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} فلا يعاقبهم عليها.
قوله: {في أصحاب الجنة} فيه أوجه:
أظهرها: أنه في محل أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك: «أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ» أي في جُمْلَتِهِم.
والثاني: أن «في» معناها «مَعَ» .
الثالث: أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة.
قوله: {وَعْدَ الصدق} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} في معنى الوعد، فيكون قوله: «نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ» وعداً من الله بالتقبل والتجاوز والمعنى (أنه) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله، فبين أنه صدق لا شك فيه.(17/397)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قوله تعالى: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} لما وصف الولد البارَّ بوالديه، وصف الولد العاقَّ بوالديه ههنا. واعلم أنه قد تقدم الكلام على أُفٍّ. و «لكما» بيان أي التأفيف لكما نحو: «هَيْتَ لَكَ» وهي كلمة كَرَاهَيِة. {أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ} كم قبري حياً {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} ولم يبعث منهم أحد. قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد: نزلت في عبد الله. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو قوله: أُفٍّ كما أَحْيوا لي عَبْدَ الله بن جُدْعَان، وعامرَ بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. واحتجوا بهذا القول بأنه (لما) كاتب معاوية إلى ابن مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم شيئاً نُكراً أتبايعون أبناءكم فقال: (مروان) يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} والصحيح أنها نزلت في كل كافر عاقٍّ لوالديه. قاله الحسن وقتادة. قال الزجاج: قوله من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} فأعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين، فلا يكون ممّن حقَّت عليهم كلمة العذاب. قال ان الخطيب: وهذا القول هو الصحيح فإن قالوا: روى أه لما دعاه أبواه إلى الإسلام، وأخبراه بالبعث بعد الموت قال: أَتَعِدَانني أَنْ أُخْرَجَ من القبر يعني أبعث بعد الموت «وَقَدْ خلت القرون من قبلي» يعني الأمم الخالية، فلم يرجعوا منهم عبد الله بن جدعان، وفلان وفلان. فنقول: قوله: أولئك الذي حق عليهم القول المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول فالضمير عائد إلى المُشارِ إليهم بقوله: {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} لا(17/398)
إلى المشار إليه بقوله: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} . هذا جواب الكلبي في دَفْعِ ذلك الدليل، وهو حسن. وأيضاً روي أن مَرْوَان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ذلك فغضبت وقالت: والله ما هُوَ به، ولكن الله كفَّر أباك وأنت في صلبه. وإذا ثبت ذلك كان المراد كُلّ ولد اتصف بالصفات المذكورة. ولا حاجة إلى تخصيص اللفظ بشخص معين.
قوله: {ا} العامة على نوني مكسورتين، الأولى للرفع والثانية للوقاية وهشام بالإدغام ونافع في رواية بنون واحدة. وهذه شبيهة بقوله: «تَأْمُرُونِّي أَعْبُد» . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين بعدهما ياء.
واقل أبو البقاء: وهي لغة شاذة في فتح نون الاثنين. قال شهاب الدين: إن عنى نون الاثنين في الأسماء نحو قوله:
4453 - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ...
فليس هذا منه، وإن عنى في الفعل فلم يثبت ذلك لُغَةً، وإنما الفتح هنا لما ذكرت.
قوله: {أَنْ أُخْرَجَ} هو الموعود به، فيجوز أن نقدر الباء قبل «أن» وأن لا نقدِّرَهَا.(17/399)
قوله: {وَقَدْ خَلَتِ} جملة حالية، وكذلك {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله} أي يَسْأَلاَنِ الله، واستغاث يتعدى بنفسه تارة، وبالباء أخرى، وإن كان ابن مالك زعم أنه متعدٍّ بنفسه، وعابَ قولَ النحاة: مُسْتَغَاثٌ بِهِ قال شهاب الدين: لكنه لم يرد في القرآن إلا متعدياً بنفسه، (كقوله) : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} [القصص: 15] {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] . قال ابن الخطيب: معناه يستغيثان الله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل للفعل، ويجوز أن يقال: حذف الباء، لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء، فحذف الجار، لأنَّ الدعاء لا يَقْتَضِيهِ.
قوله: «وَيْلَكَ» منصوب على المصدر بفعل ملاق له في المعنى دون الاشتقاق، ومثله: وَيْحَهُ ووَيْسَهُ، وَوَيْتَهُ. وإما على المفعول به بتقدير ألْزَمَكَ اللهُ وَيْلَكَ، وعلى كلا التقديرين الجملة معمولة لقول مضمر، أي يَقُولاَنِ وَيْلَكَ آمِنْ، (والقول في محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قَائِلِينَ ذلك، والمعنى يقولان له ويلَكَ آمنْ) وصدِّقْ بالبْعثِ، وهو دعاء عليه بالثُّبُورِ والمراد الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهَلاَك.
قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} قرأ العامة بكسر إنّ، استئنافاً، أو تعليلاً، وقرأ عمرو بْنُ فَائِدٍ والأعرجُ بفتحها على أنها معمولة «لآمِنْ» على حذف الباء أي آمن بأن وعد الله حق بالبعث «فَيَقُولُ» لهما {مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} .
قوله: {1648;ئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي وجب عليهم العذاب {في أُمَمٍ} أي مع أمم. وقد تقدم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} .
قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) يريد(17/400)
من سبق إلى الإسلام فهوأفضل ممَّنْ تخلف عنه ولو ساعةً. وقال مقاتل: ولكل واحدٍ من الفريقين يعني البارَّ بوالديه والعاقّ لهما «دَرَجَاتٌ» في الإيمان والكفر والطاعة والمعْصِيَةِ.
فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات في أهل النار، وقد روي: الجَنَّةُ دَرَجَاتُ والنَّار دركات؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن ذلك على جهة التغليب.
وثانيها: قال ابن زيد: دَرَدُ أهل الجنة تذهب عُلُوًّا، ودَرَدُ أهلِ النار تذهب هُبُوطاً.
الثالث: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.
قوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} معلَّلة بمحذوف تقديره جَاؤُوهُمْ بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم وهشام بالياء من تحت وباقي السبعة بالنون. والسُّلَميّ بالتاء من فوق: أسند التَّوفيَةً للدرجات مجازاً. قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} إما استئناف وإما حال مؤكَّدة.(17/401)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} اليوم منصوب بقول مضمر، أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ في يوم عرضهم. وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم: «عُرِضَتْ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ» فيكون قلباً. وردهُ أبو حيان بأنه ضرورة وأيضاً العرض أمر نسبي فتصح إلى الناقة، وإلى(17/401)
الحوض. وقد تقدم الكلام في القلب وأنَّ فيه ثلاثة مذاهب.
قوله: {أَذْهَبْتُمْ} قرأ ابن كثير: أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين الأولى مخففة والثانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ولم يُدخل بينهما ألفاً. وهذا على قاعدته في: «أأنذرتهم» ونحوه. وابن عامر قرأ أيضاً بهمزتين، لكن اختلف رواياه عنه: فهشام سهل الثانية وخففها، وأدخل ألفاً في الوجهين، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق. وابن ذكوان بالتحقيق فقط، دون إدخال ألف، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبراً وإما استفهاماً سقطت أداته للدلالة عليها.
والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تسْتَفْهِمُ وتترك الاستفهام فتقول: أذْهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ وذَهَبتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ .
قوله: {فِي حَيَاتِكُمُ} يجوز تعلقه «بأَذْهَبْتُمْ: ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من» طَيْبَاتِكُمْ «.
فصل
قيل: المعنى يعرض الذين كفروا على (النار) أي يَدْخُلُون النار. وقيل: تدخل عليهم النارُ ليروا أهوالها، ويقال لهم: أَذْهَبتُمٍ طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدَّرَجَات فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حضكم شيء منها. وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَاماً وأحْسَنَكُمْ لِبَاساً، ولكنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي. قال الواحدي: إن الصالحين يؤثرون(17/402)
التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته، والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يبّخ بتمتعه، ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي. روى عمر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) » قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله: ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال: أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا «وروت عائشة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) قالت: ما شبع آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنها قالت: لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز.
وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَبِيتُ الليالي المتتابعةَ طاوياً وأهلُه لا يجدون شيئاً، وكان أكثر خبزهم خبزَ الشعير، والأحاديث فيه كثيرة.
قوله: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي العذاب الذي فيه ذُلّ وخِزْي. وقرىء: عَذَاب الهَوَانِ {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين:
أحدهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.
والثاني: الفِسق، وهو ذَنْب الجوارح وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يكتبرون عن قول الدين الحق، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد بالفسق المعاصي.
فصل
دلت الآية على ان الكفار يخاطبون بفروع الإسلام، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين:(17/403)
أولهما: الكفر، وثانيهما: الفسق وهذا الفِسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العَطْفَ يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيَّات.(17/404)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قوله تعالى: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف ... } الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا السبب قال تعالى في حقهم: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} [الأحقاف: 20] فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوةً وجاهاً، ثم إن الله تعالى سلَّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق فقال: «وَاذْكُرْ يا محمد لقومك أَخَا عَادٍ» أي هوداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: {إِذْ أَنذَرَ} بدل من «أخا» بدل اشتمال وتقدم تحقيقه. وقوله {بالأحقاف} هي جمع حِقْفٍ وهو الرمل المستطيل المعوجُّ ومنه احْقَوْقَفَ الهِلاَلُ، قال امرؤ القيس:
4454 - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ حقْفٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ(17/404)
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) وادٍ بين عمان ومَهْرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرَةَ إليها تنسب الإبل المَهْرِيَّة، وكانوا أهل عُمُد سيارة في الربيع فإذا العُود رَجَعُوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرَم، وقال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً من اليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر، بأرض يقال لها الشِّحْر.
قوله: {وَقَدْ خَلَتِ} يجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول والرابط الواو، والنُّذُر جمع نَذِيرٍ ويجوز أن يكون معترضة بين «أَنْذَرَ» وبين «أَنْ لا تَعْبُدُوا» أي أنذرهم بأن لا.
وقوله: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي مضت الرسل من قبل هود ومن خلفه أي بعده. (والمعنى أعلمهم أن الرسل الذي بعثوا قبله والذين يبعثون) بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.
فصل
قال المفسرون: إن هُوداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد أنذرهم وقال: أن لا تعبدوا إلا الله إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا «أي لتصرفنا» عَنْ آلِهَتِنَا أي عن عِبَادَتِهَا، والإفْكُ الصَّرْفُ، يقالُ: أَفِكَهُ عَنْ رَأيهِ إذا صَرَفَهُ عنه. وقيل: المراد لتلفتنا بالكذب. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من معاجلة العذاب على الكفر {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك أن العذاب نازل بنا قال هود: إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي والتحذير من العذاب، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليَّ {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} وهذا يحتمل أ، المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أُذِنَ لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون من حيث إنكم بَقِيتُم مُصرِّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون حيث تُصِرُّونَ على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر لكم أيضاً كوني كاذباً، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم.(17/405)
قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} في «هاء» «رَأَوْهُ» قولان:
أحدهما: أنه عائد على «ما» في قوله «ما تَعِدُنا» .
الثاني: أنه ضمير مبهم يفسره «عَارِضاً» إما تمييزاً، أو حالاً. قالهما الزمخشري.
وردَّه أبو حيان بأن التمييز المفسِّر للضمير محصورٌ في باب رُبَّ، وفي نِعْمَ وبِئْسَ، وبأنَّ الحالَ لم يُعْهَد فيها أن توضع الضمير قبلها، وأن النَّحويِّين لا يعرفون ذلك. وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين:
الاول: ما تقدم. والثاني: أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله:: «عارضاً» كقوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45] . ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا، عائد إلى السحاب، كأنه قيل: فلما رأَوا السَّحَابَ عارِضاً. وهذا اختيار الزجاج. ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير.
والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق السماء. قال أهل اللغة: العَارِضُ المُعْتَرِضُ من السَّحَاب في الجوِّ، قال:
4455 - يَامَنْ رَأَى عَارِضاً أَرقْتُ لَهُ ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
قوله: {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} صفة ل «عَارِضاً» ، وإضافة غير محضة فم ثَمَّ سَاغَ(17/406)
أن يكون نعتاً لنكرة وكذلك «مُمْطِرُنَا» وقع نعتاً «لِعَارِضٍ» ومثله:
4456 - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ ... لاَقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانَا
وقد تقدم أن أوديةً جمع وادٍ، وأن أفْعِلَةً وردت جمعاً لفاعل في ألفاظ كَوَادٍ وأدْوِيَةٍ ونَادٍ وأنْدِيَةٍ، وحَائِزٍ وأَحْوِزَةٍ.
فصل
قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} من العذاب. ثم بين ماهيته فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم وصف تلك الريح فقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأم ربها. ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِبكم.
قوله: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} قرىء: «ما اسْتُعْجلْتُمْ» مبنياً للمفعول. وقوله: «ريحٌ» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ، ويجوز أن يكون بدلاً من «هِيَ» و «فِيهَا عَذَابٌ» صفة ل «رِيحٍ» وكذلك «تُدَمّر» .
وقرىء: يَدْمُر كل شيء، بالياء من تحت مفتوحة، وسكون الدال، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية، أي تهلك كل شيء.
وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل والفاعل ضمير الريح؛ وعلى هذا فيكون (دَمَرَ) الثلاثي لازماً ومتعدياً.(17/407)
قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضشم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول «مَسَاكِنُهُمْ» بالرفع لقيامه مقام الفاعل، والباقون من السبعة فتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به. والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز، أعني إذا كان الفاصل «إلا» فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث (في الفعل) إلاَّ في ضرورة كقوله (رَحِمَهُ اللهُ) :
4457 - كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ ... إلاَّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ
وعيسى الهمداني: لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد.
ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ بالتوحيد أيضاً منصوباً. واجْتُزِىءَ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ.
فصل
روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ وقيل: إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت: (رَأَيْتُ) ريحاً فيها كشُهب النار.
وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من(17/408)
رجالهم ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام، لَهُمْ أنينٌ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم، فرَمَتْ بهم في البحر. وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية، وا لريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء، وتضربهم على الأرض، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه. قال عليه الصلاة وةالسلام، «مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلاَّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم» وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى. «وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال:» اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به «قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل: لما قال (تعالى) : {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فكيف يحصل التخويف؟
فالجواب: أن ذلك قبل نزول الآية.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} ما موصولة، أو موصوفة.
وفي «إنْ» ثلاثة أوجه:
أحدها: شرطية، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما، والتقدير: في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ.
والثاني: أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية، وهو كقوله:
4458 - يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لاَ يَرَاهُ ... وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ(17/409)
والثالث: وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدل له قوله في مواضع: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما» النافية إلى «إنْ» كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً. قال الزمخشري: وقد أَغَيُّ أبو الطيب في قوله:
4459 - لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال: «مَا إنْ بان» .
فصل
معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر، وكَثْرةِ المال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى.
قوله: {فَمَآ أغنى} يجوز أن يكون «ما» نفياً وهو الظاهر. أو استفهاماً للتقرير.
واستبعده أبو حيان لأجل قوله: {مِّن شَيْءٍ} قال: إذ يصير التقدير أي شيء أعنى عنهم من(17/410)
شيء؟ فزاد «من» فِي الوَاجِبِ، وهو لا يجوز على الصحيح.
قال شهاب الدين: قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب. وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام.
قوله: {إِذْ كَانُواْ} معمول ل «أغْنى» وِهيَ مُشْربة معنى التعليل، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ، أي ضربته لأنه أساء. وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة. ثم قال: {وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام {وَصَرَّفْنَا الآيات} الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون. قال الجبائي: قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب: بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات.
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله.
أي اتخذوها شفعاء وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .
قوله: {قُرْبَاناً} فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أن المفعول الأول ل «اتَّخَذَ» محذوف، هو عائد ... . . «قُرْبَاناً» نصب على الحال، و «آلِهَةً» هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ، والتقدير ... . . نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة.(17/411)
والثاني: أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و «قُرْبَاناً» مفعولاً ثانياً و «آلهة» بدل منه. وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال: «الفساد المعنى» . ولم يبين جهة الفاسد. قال أبو حيان: ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. قال شهاب الدين: ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و «آلهةً» بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة. بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ.
الثالث: أن «قرباناً» مفعولٌ من أجله. وعزاه أبو حيان للحَوْفي. وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً. وعلى هذا ف «آلِهَةً» مفعولٌ ثان، والأول محذوف كما تقدم.
الرابع: أن يكون مصدراً. نقله مكي. ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر.
قوله: {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم.
قوله: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} العامة على كسر الهمزة، وسكون الفاء، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضاً. وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ بثلاث فتحات فعلاً ماضياً، أي صَرَفَهُمْ. وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير، وابن الزبير، وابن(17/412)
عباس أيضاً آفَكَهُمْ بالمد فعلا ماضياً أيضاً. وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل، فالهمزة أصلية، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة.
وإذا قلنا: إنه أفعل، فهمزته يحتمل أنت تكون للتعدية، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم. وقرى أَفَكُهُمْ بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء، وزاد أبو البقاء أنه قرىء: آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء، ورفع الكاف قال: بمعنى أَكْذَبُهُمْ. فجعله أفعل تفضيل.
قوله: {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يجوز أن تكون ما مصدرية، وهو الأحسن، ليعطف على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله: «إفكهم» يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ.
والمعنى: وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ.(17/413)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن ... } الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ، ومنهم من كفر، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب، وأن كافرهم معرض للعقاب.
قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ} منصوب باذْكُرْ مقدراً. وقرىء: صَرفنا بالشديد للتكثير «مِنْ الْجِنِّ» صفلة ل «نَفَراً» ويجوز أن يتعلق ب «صَرْفَنا» و «مِنْ» لابتداء الغاية.
قوله: «يسمعون» صفة أيضاً لنفراً، أو حال، لتخصصه بالصفة إن قلنا: إن «مِنَ الْجِنِّ» صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً، ولو راعى لفظه فقال: يستمع لجاز.
قوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر، وأن تكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله: «إلَيْكَ» إلى الغيبة في قوله «حَضَرُوهُ» .
قوله: {فَلَمَّا قُضِيَ} العامة على بنائه للمفعول، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء» حضروه على القرآن. وأبو مِجْلزٍ وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فصل
ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين:
الأول: قال سعيد بن جبير: كانت الجن تَسْتَمع، فلما رجموا قالوا: هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب. وكان قد اتفق أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أَيِسَ من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن، فمر به نفرٌ من أشراف (جِنِّ) نَصِيبِينَ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن، فعرفوا أن ذلك هو السبب.
والقول الثاني: أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ(17/414)
عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن، ويُنْذِرُوا قومهم (انتهى) .
فصل
نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً؛ لأن في الجن مِلَلاً كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون. سئل أبن عباس: هل للجن ثواب؟
قال: نعم: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها.
فصل
قال الزمخشري: النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على «أَنْفَارٍ» روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين، فجعلهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسلاً إلى قومهم.
وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى. واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة الجن؟
فصل
روى القاضي في تفسيره عن أنس قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ علىعُكَّازِهِ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنها لمشية جنِّيِّ، ثم أتَى فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنها لنغمةُ جِنِّيّ، مفاق الشيخ: أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أَيِّ الجن أنت؟ قال يار سول الله: أنا هَامُ بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أدري بينك ونبين إبليس إلا أبوين قال: أجل يا رسول الله. قال كم أتى عليك مِنَ العُمر. قال: أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ على الآكام، وأصْدَادُ الهَامَ وأُوْرِشُ بين(17/415)
الأنَام. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب، فإني ممن آمن مع نوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال: إني والله لَمِنَ النّادمينت، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي: إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن. قال أنس: فعَلَّمَهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَشْرَ سُوَرٍ، وقُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يَنْعِهِ إلينا. قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ولا أراه إلا حيًّا. وروي أنه عمله سورة الواقعة، و {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1 و {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] و {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وسرة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين.
فصل
اختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) كانوا سبعة وقد تقدم، وقيل: كانوا تسعةً. وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا مستمعين يقال: أَنْصَتَ لِكَذَا، واسْتَنْصَتُّ لَهُ. روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب، وصنف يحلّون ويظْعَنُون.
ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم} انصرفوا إليهم «مُنْذِرِينَ» مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله {يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
فإنْ قيل: كيف قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا: من بعد عيسى؟(17/416)
فالجواب: أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله «يعني محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فصل
دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه سولم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.
قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.
فإن قيل: قوله {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال: وآمنوا به» ؟
فالجواب: أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} قال بعضهم: كلمة «من» هنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل: بل فائدته أن كلمة «من» هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل. ويجوز أن تكون تبعيضيةً.
قوله: {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ.
فصل
اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم: كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله: (ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على(17/417)
الطاعة والعقاب على المعصية.
وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ. قال الضحاك: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، لأن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ. والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنه يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر: سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب؟ ققال: نعم وقرأ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 56] . وقال عمر بن العزيز: إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض وَرِحابٍ ولُبْسِ فيها.
قوله: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أنصار يمنعونه من الله {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض. .} اعلم أنه تعالى قرر من أول سورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقهام أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه.
قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع «عِيِيَ» بالكسر يَعْيَا بالفتح فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين وسكون الياء. قالوا: وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة، على لغة طَيِّةء فَصَار «عَيَا» ، كما قالوا في بَقِي: بَقَا. ولما بنى الماضي على «فَعَلَ» بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية فصار: لَمْ يَعْيِ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة، ثم نقل حركة الياء إلى العين فصار اللفظ كما(17/418)
تَرَى. وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان، الفَكّ والإدغام. فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال و (أما) عَيِيَ فكقوله:
4460 - عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْيَتُ ... ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ
والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ. ومنه العَيُّ في الكلام، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه.
قوله: «بِقَادِرٍ» الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة «أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ» . قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] وقاس الزجاج «مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ» عَلَيْهَا. والصحيح التوقف. وقال الكسائي والفراء العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول: ما أظُنُّكَ بقائمٍ.
وقرأ عيسى، وزيد بن علي «قَادِرٌ» بغير ياء.
قوله: «بلى» إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} .(17/419)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} فيقال لهم: أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله: أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره. والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
قوله تعالى: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} الفاء في قوله «فَاصْبِر» عاطفة هذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم} أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أولو الحَزْم.
قوله: {مِنَ الرسل} يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم. قال ابن زيد: كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ. وقيل: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ» . وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل: هم ستة: نوحٌ وهودٌ، وصالحٌ، ولوطُ، وشعيبٌ،(17/420)
ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ.
وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ.
وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة. وقال البغوي: ذكرهم الله على التخصيص في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وفي قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعائشة: يا عائشةُ إن الله لم يرض لاولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} ، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.
قوله: {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} العذاب فإنه نازل بهم. قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر:
4461 - كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى ... كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى
واعلم أنه تم الكلام ههنا.
قوله: «بلاغ» العامة على رفعه. وفيه وجْهَان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله: {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} . وقيل: تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم.
والثاني: أنه مبتدأ والخبر قله «لَهُمْ» الواقع بعد قوله {وَلاَ تَسْتَعْجِل} أي لهم بلاغ(17/421)
فيوقف على «ولا تستعجل» . وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق «لهم» بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً. ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً «بَلَّغَ» فعلاً ماضياً. ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً «لِسَاعَةِ» فإنه قال: «ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز» . وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضاً: بَلاَغٍ بالجر، ويُخَرِّج على الوصف ل «نَهَار» على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً. والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.
قوله: «فهل يهلك» العام على بنائه للمفعول. وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر. قال ابن جني: «كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا» . وزيد بن ثابت: بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى. {القوم الفاسقون} . نصباً على المفعول به. وقرىء: «تَهْلِكُ» بالنو وكسر اللام ونب «الْقَوْم» .
فصل
المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج: تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون، ولهذا قال(17/422)
قومٌ: مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية.
روى أبيّ بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» (اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ) .(17/423)
سورة محمد(17/424)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
مدنية. وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم وقوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ... } أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة. والمراد بالذين كفروا قيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر، منهم أبو جهل والحارث بن هشام، وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم. وقيل: كفار قريش. وقيل: أهل الكتاب. وقيل: كل كافر. ومعنى صَدِّهِمْ عن سبيل الله، قيل: صدوا أنفسهم عن السَّبيل، ومنعوا عقولهم من اتِّباع الدليل. وقيل: صدوا غيرهم وَمَنَعُوهُم.
قوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر الجملة من قوله: {أَعْمَالَهُمْ} ويجوز نصبه على الاشتغال بفعل مقدر يفسره «أضل» من حيث المعنى، أي خَيَّبَ الَّذينَ كَفَرُوا.
قوله: {أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها فلم يقبلها وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام(17/424)
الطعام، وصلةِ الأرحام قال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجعل الدائرة عليهم.
قوله: {والذين آمَنُواْ} يجوز فيه الوجهان المتقدمان، وتقدير الفعل: «رَحِمَ الَّذِينَ آمَنُوا» .
قوله: {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشدداً، وزيد بن علي وابنُ مِقْسِم نَزَّلَ مبنيًّا للفاعل وهو اللهُ، والأعمش أُنْزِلض بهمزة التعدية مبنياً للمفعول. وقرىء: نَزَلَ ثلاثياً مبنياً للفاعل. قال سفيان الثوري: لم يخالفوه في شيء. قال بان عباس: «الذين كفروا وصدوا» مشركُوا مكَّةَ والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأَنْصَارُ.
قوله: {وَهُوَ الحق} جملة معترضة بين المبتدأ والخبر المفسَّر والمفسِّر.
قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} حالهم. وتقدم تفسير «البال» في طه. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : معنى: أصلح، أي عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ يعني أن هذا الإصلاحَ يعود إلَى صلاح أعمالهم حتَّى لا يَعْصُوا.
فصل
قالت المعتزلة: تكفير السيئات مرتّب على الإيمان، والعمل الصالح، فمن آمن ولم يعمل صالحاً يبقى في العذاب خالداً.
والجواب: لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والصّد، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله. أو نقول: إن الله تعالى رتَّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته، ومن عمل صالحاً أصلح باله. أو نقول: أي مؤمنٍ يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام، وعلى هذا فقوله: «وعَملُوا» من عطف المسببِ على السبب كقول القائل: أَكَلْتُ كَثِيراً وشَبِعْتُ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «وآمنوا بما نُزّل على محمد» مع أن قوله: «آمنوا وعلموا الصلحات» أفاد هذا المعنى؟ .
فالجواب: من وجوه:(17/425)
الأول: قوله: «الذين آمنوا» أي الله ورسوله، واليوم الآخر، وقوله: «آمَنُوا بِمَا نزل» أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميماً بعد أمور خاصة كقولنا: خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص.
والثاني: أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد «وهُوَ الحَقُّ» المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعلموا الصالحات والواو للجمع المطلق. (و) يجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً ويكون بياناً لإيمانهنم، كأنه قال: آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل: خرجتُ وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله.
قوله: «ذلك» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ والخبر الجار بعده.
الثاني: قال الزمخشري: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب كذا. فالجار في محلِّ نصب قال أبو حيان: ولا حاجة إليه.
قوله: {بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي الشيطان. وقيل: قول كبرائهم، ودين آبائهم {الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} يعني القرآن. وقيل: الحق هو الله تعالى: وعلى هذا فلا يكون قوله: «من ربهم» متعلقاً بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى: {اتبعوا} أي اتبعوا من ربهم، أو من فضل الله أو هداية ربهم ابتعوا بالحق؛ وهو الله تعالى.
ويحتمل أن يقال: قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} عائد إلى الفريقين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم.
قوله: «كذلك يضرب» خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم (والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم) لأجل الناس ليعتبروا (انتهى) .
فصل
قال الزجاج: معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال(17/426)
الكافرين. والمراد بالأمثال الأشكال. وقيل: بين كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق. والضمير في قوله {أَمْثَالَهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعود إلى الناس، كأنه تعالى قال: يضرب للناس أمثال أنْفُسِهِمْ.
والثاني: يعود إلى الفريقين السابقين، والمعنى يضرب الله للناس أمثال الفريقين السَّابقين.(17/427)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ} العامل في هذا الظرف فعل مقدر هو العامل في «ضَرْبَ الرِّقَابِ» تقديره فاضربوا الرقاب وقتَ مُلاَقَاتِكُمُ العَدُوَّ. ومنع أبو البقاء أن يكون المصدر نفسه عاملاً، قال: لأنه مؤكَّد وهذا أحد القولين في المصدر النائب عن الفعل، نحو: ضرباً زيداً، هل العمل منسوب إليه إم إلى عامله؟ ومنه (قول الشاعر) :
4462 - عَلَى جِينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُرِهِمْ ... فَنَدْلا زُرَيْقَ المَالَ نَذْطَ الثَّعَالِبِ
فالمال منصوب إما ب «أندل» أو ب «ندْلاً» والمصدر هنا أضيف إلى معموله. وبه استدل على أن العمل للمصدر، لإضافته إلى ما بعده ولو لم يكن عاملاً لَمَا أضيف إلى ما بعده.
فصل
قال ابن الخطيب: الفاء في قوله: «فإذا لقيتم» يستدعي متعلَّقاً تُعَلَّقُ به وتُرَتَّبُ عَلَيْه وفيه وجوه:
الأول: لما بين أن الذين كفروا أضل أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ومَنْ لا(17/427)
عمل له فهو هَمَج إعدامه خير من وجوده. {فإذا لقيتم الذين كفروا} بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال عملهم فاضربوا أعناقهم قال البغوي: فضرب الرقاب نَصْبٌ على الإغراء.
الثاني: إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين بأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حِزب الرحمن حق القتال (عند التَّحَزُّب) فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ.
الثالث: أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقُصُور نَظَرِه إيلام الحَيوان من الظُّلْم والطُّغْيَان ولا سيما القَتْلُ الذي هو تخريب بنيان. فيقال رَدًّا عليهم: لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فلمن يُقْتَلْ في سبيل الله لتعظيم الله وبأمره له (من) الأجر ما للمصلى والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأْخُذْكُمْ بهم رأفة. فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.
فصل
والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأن المؤمن هنا ليس بدافع، إنما هو مدافع وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله، بل يُتَدَرَّج ويُضْرَب غير المقتل فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك، فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود دفعهم عن وجه الأرض بالكلية، وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجِد، والمشركون نَجَسٌ، والمسجدُ يُطَهَّرُ من النجاسة؟ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصَّائل. والرقبة أظهر المقاتل، لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع ولا سيما فِي الحرب. وفي قوله «لَقِيتُمْ» ما ينبىء عن مخالفتهم الصَّائل، لأن قوله: «لقيتم» يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا «لقيكم» ، ولذلك قال في غير هذا الموضع
{واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} [النساء: 91] .
فإن قيل: ما الفائدة في قوله ههنا: {فَضَرْبَ الرقاب} بإضمار الفعل وإظهار(17/428)
المصدر، وقال في الأنفال: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] بإظهار الفعل وترك المصدر؟! .
فالجواب مبني على تقديم مقدَّمة، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً؛ إذ لا يمكن أن يفعلَ فاعل إلا فاعل، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال: أنِّي حَلَفْتُ أن أخْرُج مَن المدينة، فيقال له: فاخْرج صار المقصود صدور الفِعْل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يَخْرُج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج. فإذا قال قائل صادق: ضَاقَ بي المكانُ بسبب الأعداء فيقال مثلاً: الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب، حتى لو أمكن الخروج منغير فعل منه، لحصل الغرض لكنه محال فيعبته الفعل. وإذا عرف هذا فيقال: في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة (و) من حضر في صفِّ القتالِ، فصدور الفعل منه مطلوب. وههنا الأمر وارد ليس في وقتِ القِتال، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ} والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمُورِ على الفِعْل قال: {فَضَرْبَ الرقاب} . وفي ذلك بيان فائدة أخرى، وهي أن الله تعالى قال هناك {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] وذلِكَ لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال. فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
قوله: {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} هذه غاية للأمر بضرْب الرِّقاب، لا لبيان غاية القتل. وقوله: {فَشُدُّواْ الوثاق} قرأ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا بكسر الشين وهي ضعيفة جِدًّا. والوَثَاقُ بالفتح وفيه الكسر اسم ما يُوثَقُ به والمعنى حتى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ أي بالَغْتُم في القتل وقَهَرْتُمُوهُمْ فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يَفْلِتوا. والأسر يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] .(17/429)
قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} . فيهما وجهان:
أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره؛ لأن المصدر متَى سبق تفصيلاً لعاقبة جملة وجب نصبه بإِضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فَإِمَّا أنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا فِدَاءً ومثله:
4463 - لأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ ... تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالأَمَلِ
والثاني: قال أبو البقاء: إنهما مفعولان بهما لعامل مقدر تقديره: أَوْلُوهُمْ مَنَّا وأقْبَلُوا مِنْهُمْ فِدَاءً.
قال أبو حيان: وليس بإعرابِ نَحْويًّ.
وقرأ ابن كثير: فِدًى بالقصر قال أبو حاتم: لا يجوز، لأنه مصدر فَادَيته. ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب: فِدَاءً لَكَ، وفَدَاءِ بالمد أيضاً والبناء على الكسر، والتنوين، وهو غريب جداً.
وهذا يشبه قول بعضهم: هؤلاءٍ بالتنوين. وفِدًى بالكسر مع القصر، وفَدًا بالفتح مع القصر أيضاً. والأوزار هنا الأثقال. وهو مجاز. وقيل: هو من مجاز الحذف أي أهْل الحرب. والأوزار عبارة عن آلات الحرب قال (الشاعر في معنى ذلك رَحِمَهُ اللَّهُ) :(17/430)
4464 - وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوزَارَهَا ... رِمَاحاً طُوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورا
وحتى الأولى غاية لضرب الرقاب، والثانية ل «شُدُّوا» ويجوز أن يكونا غايتين لضَرْب الرِّقاب علىأن الثانية توكيد وبدل.
قال ابن الخطيب: وفي تعلق «حَتَّى» وجْهَانِ:
أحدهما: تعلقها بالقتل أي اقْتُلُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ.
وثانيهما: بالْمَنِّ والفِداء. ويحتمل أن يقال متعلقة بقوله: «فشدوا الوثاق» وتعلقها بالقتل أظهر.
فصل
قدم المن على الفداء، لأن حرمة النفس راجحة على طلب المال. والفداء يجوز أن يكون مالاً ويجوز أن يكون غيره من الأشياء ويشرط بشرط عليهم، أوعليه وحده.
فصل
قال ابن الخطيب: الوزر الإثمُ أو السِّلاح، والإثم إنما هو على المحارب وكذلك السلاح ومعناه تضع الحرب الأوزار التي على المحاربين أو السلاح الذي عليهم، كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] فكأنه قال: حتى تَضَع أمةُ الحرب، أو فِرقةُ الحرب أوزارها. والمراد انقضاء الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر لا حزب ن أحزاب الإسلام هذا إذا أمعنت النظر في المعنى. ولو قلنا: حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية، كقول القائل: خصومتي ما انْفَصَلَتْ، ولكني تركتها في هذه الأيام. وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم تَبْقَ. واختلفوا في وقت وضع الأوزار على أقوال، يرجع حاصلها إلى الوقت الذي لا يبقى فيه حِزْبٌ من أحْزَاب الإسلام، ولا حزب من أحزاب الكفر. وقيل: ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي(17/431)
الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وبقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإليه ذهب قتادة والضحاك، والسُّديُّ وابنُ جُرَيْجٍ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وقوالوا: لا يجوز المنّ على من قوع في الأسر من الكفار ولا الفداء.
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يَسْتَرِقَّهُمْ أو يمُنَّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يُفَادِيهم بالمال أو بأسارى المسلمين. وإليه ذهب ابنُ عمر. وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء. وهو قول الثَّوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) لما كثر المسلمون واشتد سلطناهم أنزل الله في الأسارى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} ، وهذا هو الأصح والاختيار، لأنه عمل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والخلفاءُ بعده.
روى البخاري عن أبي هريرةَ قال: «بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيلاً قبل نَجْد، فجاءت برجُل من بني حنيفة، يقال (له) ثُمَامَةُ بنُ أُثَالِ، فربطوه في سَارِيَةٍ من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكرٍ وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فلك ما شئتَ، حتى كان الغَدُ لقال له: ما عندك يَا ثُمَامَةُ؟ فقال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعمْ عَلَى شكر. فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال: ما عند يا ثمامةُ؟ قال: عندي ما قلتُ لك قال: أطْلِقُ اثمامة، فانطلق إلى نخل قريبٍ من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ مِنْ وَجْهِكَ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، واللهِ ما ك ان من دينٍ أبغَضَ إلَيَّ من دينكَ فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إلَيَّ. واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغضَ إلَيَّ من بلدِكَ فقد أصبح بلدكُ أحبَّ البلادِ إلَيَّ. وإ، خَيْلكَ أخذتني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فما ترى؟ فبشَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا ولكن أسلمت مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْكَةٍ حتى يأذن فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قال: أسر أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من عَقِيل فأوثقوه، وكانت ثَقِيفٌ قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَفَداهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرجلين اللذين أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ.(17/432)
قوله: «ذَلك» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار «افْعَلُوا» . قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: واجبٌ أو مقدمٌ كما يقول القائل: إنْ فعلت فذاك، أي فذاك مقصود ومطلوبٌ.
فصل
قال المفسرون: معناه «ذلك» الذي ذكرت وبيّنت من حكم الفكار، {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} فأهلكهم وكفاهم أمرهم بغير قتال، «ولكن» أمركم بالقتال {لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب، ومن قتل من الكافرين إلى العذاب.
فإن قيل: ما التحقيق في قولنا: التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السِّرَّ وأخْفَى؟
فالجواب من وجوه:
الأوّل: أن المراد منه يفعل ذلك فعل المسلمين أي كما يقول المبتلى المُخْتَبَر.
الثاني: أن الله تعالى يَبْلُو ليظهر الأمر لغيره، إما للملائكة، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر.
فإن قيل: فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله عالماً فَأَيُّ فائدةٍ فيه؟
فالجواب: أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مُسْتَغْنٍ؟ ولم خلق النار مُحْرِقَةً وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه: لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ؟
قوله: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} قرأ العامة قَاتَلُوا. وأبو عمرو وحفصٌ قُتِلُوا مبنياً للمفعول على معنى أنهم قُتِلُوا وماتوا؛ أصاب القتل بعضهم كقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] . وقرأ الجَحْدَرِيّ: قَتَلُوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قُتِّلُوا، بتشديد التاء مبنياً للمفعول.
قوله: {فلن يضل أعمالهم} قرأ على رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُضَلَّ مبنياً للمفعول أَعْمَالُهُمْ(17/433)
بالرفع لقيامه مقام الفاعل. وقرىء: تَضِلَّ بفتح التاء أَعْمَالُهُمْ بالرفع فاعلاً. والفاء في قوله: «فَلَنْ يُضِلّ» جَزَائية؛ لأن قوله تعالى: {والذين قُتِلُواْ} فيه معنى الشرط. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أُحُدٍ، وقد
فَشَتْ في المسلمين الجِرَاحَاتُ والقَتْلُ.
قوله: {سَيَهْدِيهِمْ} أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان، والعمل الصالح، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع.
وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ} يدل على الاستقبال فقال: {بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة} .
قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون مستأنفة.
والثاني: أن تكون حالاً.
فيجوز أن تضمر «قد» ، وأن لا تضمر، و «عَرَّفَهَا» من التعرف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل: الملك الموكل بأعماله يهديه.
وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يقال: عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها أي حددها، وتحديدها في قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} [آل عمران: 133] ، ويحتمل أن يقال: المراد هو قوله تعالى لهم: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72] فيشير إليه معرفاً لهم بأها هي تلك. وقيل: عرفها لهم وقت القتل، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزلة في الجنة فيشتاقُ إليه. وقرأ أبو عمرو في رواية ويِّدْخِلْهُمْ بسكون اللام وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ وعين {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] كان(17/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و {يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] وبابه.
قوله
: {يا
أيها
الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} أي إن تنصروا دينَه وتَنْصُروا رَسُولَهُ يَنْصُرْكُمْ على عدوكم. وقيل: إنْ تنصُرُوا حِزْبَ اللهِ وفَرِيقَهُ.
قوله: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} قرأ العامة ويثبت مشدداً. وروي عن عاصم تخفيفه من أثْبَتَ. والمعنى: ويُثَّبِّتْ أقْدَامَكُمْ عند القتال.
قوله: {والذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا، بدليل قوله: {فَتَعْساً لَّهُمْ} وقوله: «فتعساً» منصوب بالخبر. ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط. وقدر الزمخشري الفعل الناصب ل «تعساً» فقال: لأن المعنى يقال تعساً أي فقَضَى تَعْساً لَهُمْ. قال أبو حيان: وإضمار ما هو من لفظِ المصدر أولى. والثاني: أنه منصوب بفعل مقدر يفسره «فَتَعْساً لَهُمْ» ، كما تقول: زَيْدٌ جَدَعاً لَهُ. كذا قال أبو حيان تابعاً للزمخشري. وهذا لا يجوز لأن «لهم» لا يتعلق ب «تَعْساً» ، إنما هو متعلق بمحذوف لأنه بيان أي أعني عنهم. وتقدم تحقيق هذا. فإن عيَّنا إضماراً من حيثُ مُطْلَقُ الدَّلالة لا من جهة الاشتغال فمُسَلَّم، ولكن تأباه عبارتُهُما وهي قولهما: منصوب بفعل مضمر يفسره «فعساً لهم» . و «أَضَلَّ: عاطف على ذلك الفعل المقدر أي أتْعَسَهُمْ وأَضَلَّ أعمالهم والتَّعْسُ ضدّ السَّعْدِ، يقال: تَعَسَ الرَّجُل بالفتح تَعْساً، وأَتْعَسَهُ اللهُ، قال مُجَمَّعٌ:(17/435)
4465 - تَقُولُ وَقَدْ أَفردْتُهَا عَنْ خَليلِهَا ... تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمَّعُ
وقيل: تعس بالكسر عن إبي الهَيْثَم وشَمِرٍ وغيرهما. وعن أبي عبيدة: تَعسهُ واتْعَسَهُ مُتَعَدِّيَانِ، فهُما مَّما اتُّفِقَ فِيهِما فَعَلَ وأَفْعَلَ.
وقيل: التعس ضد الانتعاش، قال الزمخشري (رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى) : وتعساً له نقيض لَعَا لَهُ يعني أن كلمة» لَعَا «بمعنى انْتَعَشَ قال الأعشى:
4466 - بِذَاتِ لَوْث عَفْرَنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لعَا
وقيل: التعْسُ الهَلاَك. وقيل التعس الجَرُّ على الوجه، والنّكْسُ الجر على الرأس.
فصل
قال ابن عباس: صَمْتاً لهم، أي بُعْداً لهم. وقال أبو العالية: سُقْطاً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم وقال الفراء: هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العَثْرَةُ، وفي الآخرة التَّردَّي في النار. ويقال للعاثر: تَعْساً إذا لم يريدوا قيامه(17/436)
وضده لمَا إذا أرادوا قيامه. وأضل أعمالهم؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان، وهذا زِيَادَةٌ في تقوية قُلُوبِهِمْ؛ لأنه تعالى قال: لَكُم الثباتُ ولهم الزوالُ والتَّعَثُّر.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} يجوز أن يكون» ذلك «مبتدأ، والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر، أي الأمر ذلك بسبب أنهم كرهوا. أو منصوب بإضمار فعل أي فَعَلَ بهم ذَلِكَ بسبب أنهم كرهوا فالجار في الوجْهَيْنِ الأخيرين منصوب المحل والمعنى: ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم والمراد أنهم كرهوا القرآن، أو كرهوا ما أنزل الله من بيان التوحيد فلم يعرفوا العَمَل الصَّالِحَ بل أشركوا، والشرك يحبط العمل، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقيل: كرهوا ما أنزل الله من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها وما لها باطل، فأحبط الله أعمالهم.(17/437)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
ثم خوف الكفار فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم.
قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} يجوز أن يكون حذف مفعوله، أي أهلك الله بُيُوتَهُمْ، وخرّبها عليم أو يضمن معنى «دمر» معنى سخط اله عليهم بالتدمير. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} مناسب للوجه الأخير، يعني فينظروا إلى حالهم، ويعلموا أن الدنيا فانيةً.
قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي أمثال العاقبة المتقدمة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيلأ: التدمير. وقيل: الهلكة. والأول أولى لتقدم ما يعود عليه الضمير صريحاً مع صحة معناه.(17/437)
فإن قيل: إذا عاد الضمير إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال؟
فالجواب: أن المراد هو العذاب الذي هو مدلول العاقبة، والألم الذي دلّت العاقبة عليه.
فصل
في المراد بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} وجهان:
أحدهما: أن المراد الكافرون بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
الثَّانِي: أن المراد أمثالها في الآخرة، فيكون المراد من الكفارين مَنْ تقدّم، كأنه يقول: دَمَرَ اللهُ عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها.
فإن قيل: إذ كان المراد (من) الكافرين بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنهم أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة، فالأولون أهلكوا بأمور شديدة كالزَّلاَزِلِ والنِّيران والرِّيَاحِ والطُّوفَانِ، ولا كذلك قوم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
فالجواب: يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين، لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه، وأخبارهم عنه، وإنذارهم على أنهم قتلوا وأُسِرُوا بأيدي مَنْ كانوا يَسْتَخِفُّونَهُمْ ويستضعفونهم والقتل بيد المِثللا آلم من الهلاك بسبب عام.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} تقدم الكلام على نظيره {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} والمراد بالمولى هنا الناصر. ثم ذكر ما للفريقين فقال: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال: إنه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. وقد تقدم أن مِنْ في قوله: «مِنْ تَحْتِهَا» تحتمل أن تكون صلة معناه تجري تحتها، ويحتمل أن يكون المراد (أن) ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، يقال: هذا نهر مَنْبَعُهُ مِنْ أَيْنَ؟ يقال: من عين كذا من تحت جبل كذا.
قوله: {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي ليس لهم هِمة إلا بطونهم وفروجهم وهم لاهون عما في غد. قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والكافر يتزين، والكافر يتمتع.
قوله: {كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} إما حال من ضمير المصدر، أي يأكلون الأكل مشبهاً أكل الأنعام وإما نعت لمصدر أي أكلاً مثل أكل الأنعام.(17/438)
قوله: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً. ويجوز أن تكون حالاً، ولكنها مقدرة أي يأكلون مقدار ثَوْيتهم في النار. وقال في حق المؤمن: {إِنَّ الله يُدْخِلُ} بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر: {النار مثوى لهم} بصغية تنبىء عن الاستحقاق، لأن الإحسان لا يستدعي استحقاقاً، فالمحسن إلى من يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم. والمعذب من غير استحقاق ظالم.
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يريد أهل، ولذلك راعى هذا المقدر في قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} بعدما راعى المضاف في قوله: {هِيَ أَشَدُّ} والجملة من هي ابتداء صفة لقرية. وقال ابن عطية: نسب الإخراج للقرية حملاً على اللفظ وقال: «أهلكناهم» حملاً على المعنى. قال أبو حيان: وظاهر هذا الكلام لا يَصِحّ لأن الضمير في «أهلكناهم» ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليه الإخراج بل على أهل القرية في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} فإن كان أراد بقوله: «حملاً على المعنى» ، أي معنى القرية في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} فهو صحيح، لكن ظاهر قوله: حملاً على اللفظ، وحملاً على المعنى أن يكون في مدلول واحد. وكان على هذا يبقى كأين مفلتاً غير محدَّث عنه بشيء إلا أن يتخيَّل أن {هِيَ أَشَدُّ} خبر عنه والظاهر أنه صفة لقرية. قال شهاب الدين: وابنُ عطية إنما أراد لفظ القرية من حيث الجملة لا من حيث التفسير.
فصل
لما ضرب الله لهم مثلاً بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} ، ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل، ضرب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثلاً تسلية له فقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} أي أخرجك أهلها، قال ابن عباس: كان رجالهم أشد من أهل مكة، يدل عليه قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يقل: «أهلكناها» فلا ناصر لهم كذلك يفعل بهم، فاصبر كما صبر رسلهم.
وقوله: {فلا ناصر لهم} قال الزمخشري (كيف) قال {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} (مع) أن الإهلاك ماضٍ وقوله: {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} للحال والاستقبال محمول على الحكاية، والحكاية كالحال الحاضر، ويحتمل أن يقال: قوله: {فلا ناصر لهم} عائد على أهل قرية محمد(17/439)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كأنه قال: أهلكنا من تقدم من أهل دينك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويُخلِّصهُمْ مِنْ مِثْلِ ما جرى على الأولين.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى الغار التفت إلى مكة، وقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلَيَّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك. فأنزل الله هذه الآية.
قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أفمن كان مبتدأ والخبر {كَمَن زُيِّنَ لَهُ} وحمل على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «سوء عمله» ، وعلى المعنى فجمع في قوله: {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} . (والجملة من «اتبعوا أهواءهم» عطف على «زين» ؛ فهو صلة.
فصل
معنى قوله: «أفمن كان على بينة من ربه» أي يقين من دينه، يريد محمداً والمؤمنين، كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) يعني عبدة الأوثان، يريد أبا جهل والمشركين.(17/440)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} لما بين الفرق بين في الاهتداء والإضلال بين الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما.
قوله: «مثل الجنة» فيها أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ وخبره مقدر، فقدره النضْرُ بنُ شُمَيْل: مثل الجنة ما يسمعون «فما يسمعون» خبر، و {فِيهَآ أَنْهَارٌ} مفسر له. وقدره سبيويه: فيما يتلى عليكم ثمل الجنة.
والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل. قال سيبويه: المثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة، وذلك لا يقتضي مشابهة.(17/440)
الثاني: أن مثل زائدة تقديره: الجنَّةُ التي وعد المتقون فيها أنهار. ونظير زيادة مثل هنا زيادة «اسم» في قوله:
4467 - إلَى الْحَوْلِ ثُمَ اسْمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا..... ... ... ... ... ... ... . .
الثالث: أن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله: «فيها أنهار» ، وهذا ينبغي أن يمتنع؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ، ولا ينفع كون الضمير عائداً على ما أضيف إليه المبتدأ.
الرابع: أن مثل الجنة مبتدأ خبره {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} فقدره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد (في النار) (فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصحَّ.
وقدره الزمخشري أمثل الجنة كمن جزاؤه من هو خالد) والجملة من قوله: {فِيهَآ أَنْهَارٌ} على هذا فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: هي حال من الجنة، أي مستقرة فيها أنهار.
الثاني: أنها خبر لمبتدأ مضمر، أي هي فيها أنهار، كأن قائلاً قال: ما فكيها؟ فقيل: فيها أنهار.
الثالث: أن تكون تكريراً للصلة، لأنها في حكمها، ألا ترى إلى أنه يصح قولك:
التي فيها أنهار.
وإنما أعري قوله مثل الجنة تصوير المكابرة من أن يسوّي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه، كمن يسوّي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت وبين النار التي صفتها أن يسقي أهلُها الحَمِيم. ونظيره قوله القائل رَحِمَهُ اللَّهُ:
4468 - أَفْرَحُ أَنْ اُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنتْ ... أُورثَ ذَوداً شَصَائِصاً نُبْلاً(17/441)
هذا كلام منكر الفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تَعَرِّيه من حرف الإنكار. وذكر ذلك كله الزمخشري. وقرأ علي بن أبي طالب: مِثَالُ الجَنَّةِ. وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود: أَمْثَالُ بالجمع.
قوله: {غَيْرِ آسِنٍ} قرأ ابن كثير: أًسِن بزنة حَذِرٍ، وهو اسم فاعل من أَسِنَ بالكسر يَأسنُ، فهو أَسِنٌ كَحَذر يحذر فهو حَذِر. الباقون آسِن بزنة ضَارِبٍ من: أَسَنَ بالفتح يأسن، يقال: أَسَنَ المَاءُ بالفتح يَأسِنُ ويَأسُنُ بالكسر والضم أُسُوناً. وكذا ذكره ثَعْلَبُ في فصيحة. فهما لغتان يقال: أسن الماء يأسن أسناً وأَجِن يَأجنُ، وأَسِنَ يَأسُنُ ويَأسِنُ، وأَجَن يَأجُنُ أُسُوناً وأُجُوناً. وقال اليَزِيدِيُّ يقال: أَسِنَ بالكسر يَأسَنُ بالفتح أَسَناً أي تغير طعمه، وأما أَسِنَ الرَّجُلُ إذا دخل بئراً فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دواراً فأَسِنَ بالكسر فقط قال الشاعر:
4469 - قَدْ أَتْرُكَُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ المَائِحِ الأَسِنِ
وقرىء يَسِنٍ بالباء بدل من الهمزة. قال أبو علي: هو تخفيف أسن وهو تخفيف غريب.(17/442)
قوله: {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} صفة ل «لَبَنٍ» .
قوله: «لَذَّةٍ» يجوز أن يكون تأنيث «لَذٍّ» ولَذٌّ بمعنى لَذِيدٍ، ولا تأويلَ على هذا. ويجوز أن يكون مصدراً وصف به، ففيه التأويلات المشْهُورَة. قال ابن الخطيب: يحتمل أن يقال: ما ثَبَتَتْ لذَّتُهُ يقال: كعام لَذٌّ ولَذِيدٌ، وأَطْعِمَةٌ لَذَّة ولَذِيدَةٌ، ويحتمل أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحكيم: هو حَكِيمٌ كله، وللعاقل: هو عاقل كله. والعامة على جرِّ «لَذَّة» صفة لخمر. وقرىء بالنصب على المفعول له وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة. وبالرفع صفة «لأنهار» . ولم تجمع، لأنها مصدر إن قيل به وإلا فلأنها صفة لجمع غير عاقل، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.
قوله: {مِّنْ عَسَلٍ} نقلوا في عسل التذكير والتأنيث، وجاء القرآن على التذكير في قوله: «مُصَفًّى» والْعَسَلاَنُ العدو، وأكثر استعماله في الذِّئْبِ، يقال: عَسَلَ الذّئبُ والثعلب. وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه، فكا، العادي يَهُزّ أعضَاءَهُ ويُحركها، قال الشاعر:
4470 - لَدْنٌّ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وكنى بالعُسَيْلَة عن الجِمَاع، لما بينهما. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»
فصل
قال ابن الخطيب: اختار هذه الأنهار من الأنهار الأربعة؛ لأن المشروب إما أن يُشْرَبَ لِطَعْمِهِ أو لغير طعمه، فإن كان للطعم فالمطعوم تسعة: المُرّ والمَالِح، والحريف، والحَامِض، والعَفِصُ والقَابضُ والتّفه، والحلو، والدَّسِم. وألذها الحُلو والدَّسِم، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسَمُ الأشياء فالدهن لكن الدُّسُومَة إذا تَمَحَّضَتْ لا(17/443)
تطيب للأكل ولا للشرب، فإن الدّهن لا يأكل ولا يشرب في الغالب وأما اللبن ففيه الدسم الكائن في يغره وهو طيب للأكْل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى؛ وأمّا ما يشرب لغير الطَّعْم فالماء والخَمْر، فإن الخمر كريهة الطعم، لحصول التواتر بذلك، وإنما تشرب لأمر آخَر غير الطعام وأما الماء فلأن به بقاء الحيوان فذكره.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الخمر: {لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} ولم يقل في اللبن: لم يخبر طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفًّى للناظرين؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن اللذَّةَ تختلف باختلاف الأشخاص فربَّ طعام يلتذ به شخص ويَعَافُهُ الآخر فقال: لذة للشاربين بأَسْرِهِمْ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال لذة، أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم وأما الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإن الحُلْوَ والحَامِضَ وغيرهما يدركه كل أحد قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنَّ لهم طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجةً.
قوله: {كُلِّ الثمرات} فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا الجار صفة لمقدر، وذلك المقدر مبتدأ وخبره الجار قبله وهو «لَهُمْ» و «فيها» متعلق بما تعلق به، والتقدير: ولهم فيها زَوْجَانِ من كل الثمرات، كأنه انتزعه من قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقدر بعضهم صِنْفٌ. والأول أليق.
والثاني: أن «مِن» مزيدة في المبتدأ.
قوله: {وَمَغْفِرَةٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على ذلك المقدر لا بِقِيْدِ كونه في الجنة، أي ولهم مغفرة؛ لأَنَّ المغفرة تكون قبل دخول الجنة؛ أو بقيد ذلك. ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ أي وبِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ؛ لأنه ناشىءٌ عَنِ المغفرة وهو الجنة.
والثاني: أن يجعل خبرها مقدراً على ولَهُمْ مغفرةٌ. والجملة مستأنفة، والفرق بين الوجيهن أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار ب «لَهُمْ» الملفوظ به عن شيئين، ذلك المحذوف ومغفرة. وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر حذف للدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ.
قوله: {كَمَنْ هُوَ} قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً عن: {مَّثَلُ الجنة} ، بالتأويلين(17/444)
المذكورين عن ابن عطيةَ والزمخشريِّ وأما إذا لم تجعله خبراً عن «مَثَلٍ» ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: حَالُ هؤلاء المتقين كحال مَنْ هُو خَالدٌ.
وهذا تأويل صحيح. وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية فقال: وهو في موضع رفع أي حَالُهُمْ كحَالِ مَنْ هُوَ خَالدٌ فِي النَّار.
وقيل: هو اسْتِهْزَاءٌ بهم. وقيل: هو على معنى الاستفهام أي أكمنْ هُوَ خالد، وقيل: في موضع نصب أي يُشْبِهُونَ (حال) مَنْ هُو خَالدٌ فِي النَّار. انتهى.
ومعنى قوله: وقيل: هو استهزاء أي أن الإخبار بقولك: حالهم كَحَال مَنْ (هُوَ خَالِدٌ) على سبيل الاستهزاء والتهكم. قال البغوي: معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟ .
قوله: {وَسُقُواْ} عطف على الصلة عطف فعلية على اسمية، لكنه راعى في الأول لفظ «من» فأفرد وفي الثانية معناه فجمع. والأمعاء جمع مِعًى بالقصر وهو المُصْرَانُ التي في البطن. وقد وصف بالجمع في قوله:
4471 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... . . ومَعِى جِيَاعُ
على إرادة الجنس.
فصل
الماء الحميم هو الشديد الحَرِّ تسعر عليه النار منذ خلقت إذا أُدْنِيَ مِنْهم شَوَى وُجُوَهَهُمْ، ووقعت فَروة رُؤُسِهم، فإذا شَرِبُوا قطَّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم جميع ما في البطن من الحَوَايَا، واحدها مِعًى.(17/445)
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يعنى الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه، ولا يَفْهَمُونَه تهاوناً. والضمير في قوله: «وَمِنْهُمْ» يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله: {هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} يعنى ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك.
قوله
{حتى
إِذَا
خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ} قال المفسرون: حَتَّى للعطف. قالوا: والعطف بحتى لا يحسُنُ إلا إذا كان المعطوف جُزْءاً من المعطوف عَلَيْهِ إمَّا أعلاه وإما أدونه، كقولك: أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى المَلِكُ وجاء الحُجَّاجُ حَتَى المُشَاةُ. وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقاً بالمعطوف عليه من حيث المعنى. ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك. فوجه التعلق ههنا هو أن قوله: {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ} يفيد معنًى واحداً في الاستماع كأنه يقول: يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلُّم الطالب للتفهم، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم. والأول يؤيده قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101] ، وقوله بعد ذلك {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي تركموا اتّباعَ الحقِّ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة.
قوله: «آنِفاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الحال فقدَّره أبو البقاء: ماذا قال مُوْتَنِفاً؟ وقدره غيره مبتدئاً أي ما القول الذي ائْتَنَفَهُ الآن قبل انْفصاله عنه؟
والثاني: أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة. قاله الزمخشري. وأنكره أبو حيان قال: لأنا لم نعلم أحداً عده من الظروف.
واختلفت عبارتهم في معناه؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآنَ، ولذلك فسّره بالسَّاعةِ.
وقال ابن عطية: والمفسرون يقولون: آنفاً معناه الساعة الماضية القريبة منا وهنذا تفسير بالمعنى. وقرأ البَزِّيُّ بخلاف عنه أنِفاً بالقصر. والباقون المدِّ، وهما(17/446)
لغتان بمعنًى واحدٍ. وهما اسما فاعل كَحذر وحَاذِر وأَسنٍ وآسنٍ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مُجَرَّد، بل المستعمل ائْتَنَفَ يأتَنِفُ، واستأنف يَسْتَانِفُ والأئْتناف والاسْئتِنَاف الابتداء. قال الزجاج: هو من اسْتَأنَفْتُ الشَّيْءَ أي ابْتَدَأتُهُ أي مذا قال في أول وقت يَقْرُبُ منَّا؟
فصل
روى مقاتل (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجدد سألوا عَبْدَ الله بن مسعود استهزاءاً ماذا قال محمد آنفاً؟ ثم قال تعالى: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} فلم يؤمنوةا واتَّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق.
قوله: {والذين اهتدوا} يجز فيه الرفع بالابتداء والنَّصْب على الاشتغال و «تَقْوَاهُمْ» مصدر مضاف لفاعله. والضمير في «وَآتَاهُمْ» يعود على الله أو على (قَوْل) المنافقين؛ لأن قولهم ذلك ما يزيد المؤمنين تقوى. أو على الرسول والمعنى زادهم قول الرسلو هُدًى وآتاهم (تقواهم أي وفقهم للعمل بما آمر به، أو زادهم الله هدى وآتاهم الله تقواهم أو زادهم استهزاء المنافقين وآتاهم) قول المنافقين تقواهم أي ثواب تقواهم يوم القيامة.(17/447)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
قوله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يعني الكافرين والمنافقين، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إلاَّ غَنًى مُطْغِياً، أَوْ فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ مَرَضاً(17/447)
مُفْسِداً أَوْ هرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَا مُجْهِزاً أو الدَّجَّال، والدَّجَّال شَرٌّ غَائِبٍ يَنْتَظِرُ أو السَّاعَةُ، والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» وسميت القيامة بالساعة لسرعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب.
قوله: {أَن تَأْتِيَهُمْ} بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرؤاسيّ: إنْ تَأتِيهِمْ بإنِ الشّرطية وجز ما بعدها. وفي جوابها وجهان:
أحدهما: أنه قوله: {فأنى لَهُمْ} قال الزمخشري. ثم قال: فإن قلتَ: بم يتصل قوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} على القراءتين؟ قتلُ: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك: إنْ أَكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأَنَا حَقِيقٌ بالإكْرَامِ أكْرِمهُ.
والثاني: أن الجواب قوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} وإتيان الساعة وإن كان متحقّقاً إلا أنهم عُومِلُوا معاملةَ الشَّاكِّ وحالهم كانت كذا.
قوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} الأَشْراط جمع شَرْطٍ بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود:
4472 - فَإنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ باِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلْتِ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
والأشراط العلامات. ومنه أشراط الساعة. وأَشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أي ألْزَمَهَا أموراً.
قال أوس:
4473 - فَأَشْرضطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ ... فَأَلْقَى بأَسْبَاب لَهُ وَتَوَكَّلاَ
والشرط القطع أيضاً مصدر شرط الجلد يَشْرُطُهُ شَرْطاً.(17/448)
فصل
قال سهل بن سعد: «رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال بإصبعه هكذا بالوْسْطَى والتي تلي الإبهام: بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنْ» وقال عليه الصلاة السلام: «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أن يُرْفَعَ العِلْمُ وَيكْثُرَ الجَهْلُ ويَكْثُرَ الرِّبَا، ويَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، ويَقِلَّ الرِّجَالُ، وتَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امرأة القيمُ الواحِدُ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا ضُيِّعَتِ الأَمانَةُ فَانْتَظِر السَّاعَةَ فقيل: كَيْفَ إضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إذا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِر السَّاعَة» واعلم أن قوله تعالى: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بياناً لغاية عِنَادِهِمْ. ويحتمل أن يكون تسليةً لقلب المؤمنين كأنه تعالى لما قال: {فهل ينظرون إلا الساعة} ، فهم منه تعذيبهم، قال المفسرون: أشراط الساعةمثل انشقاق القمر، ورسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: {فأنى لَهُمْ} «أَنَّى» خبرٌ مقدم، و «ذِكْرَاهُم» مبتدأ مؤخر، أي أَنَّى لهم التذكير. وإذَا وما بعدها معترض. وجوابها محذوف أي كيف لهم التذكير إذا جاءتهم الساعة؟ فكيف تتذكرون؟ ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً أي أنَّى لهم الخلاص؟ ويكون «ذِكْرَاهُمْ» فاعلاً ب «جَاءَتْهُمْ» . وقرأ أبو عمرو في رواية «بَغَتَّةً» بفتح الغين وتشديد التاء.
وهي صفة فنصبها على الحال، ولا نظير لها في الصفات ولا في المصادر، وإنما هي في الأسماء نحو: الجَرَبَّة للجماعة والشَّرَبَّة للمكان. قال الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو، وأن يكون الصواب: بَغَتَةً بفتح الغين من غير تشديدٍ.
فصل
معنى الآية فمن أين لهم التَّذَكُّر والاتِّعاظ والتوبة إذا جاءتهم ذكراهم أي السّاعة نظيره: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} [الفجر: 23] .
قوله: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله} وجه مناسبته لما قبله هو أنه تعالى لما قال فاعلم أنه لا(17/449)
إله إلا الله أي يأتي بالساعة كما قال: {أَزِفَتِ الآزفة لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} [النجم: 5758] . وقيل: فاعلم أنَّه لا إله إلا الله ينفعك، قيل الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره. وقيل: معناه فاثْبُتْ عليه. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: فازدَدْ علماً إلى علمك. وقال أبو العالية وابن عُيَيْنَةَ: معناه إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا مَلْجَأَ ولا مَفْزعَ عند قيامها إلا الله. ثم قال: «فَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» أمرٌ بالاستغفار من أنه مغفور له لِتَسْتَنَّ به أمته. وقيل: معنى قوله لذنبك أي لذَنبِ أهل بيتك الذي ليسوا منك بأهل بيت. وقيل: المراد النبي؛ والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتُنا دون ذلك. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنّهُ لَيُعَانُ عَلَى قَلْبِ وَإنّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يستغفر لذنوبهم {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} قال ابن عباس والضحاك: متقلبكم: مُنْصَرَفَكُمْ ومنْشَرَكُمْ في أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار. وقال مقاتل وابن جرير: متقلبكم منصرفكم لأشغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم ومقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور، وقيل: معناه أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي هلاَّ. ولا التفات إلَى قول بعضهم إنَّ «لاَ» زائدة. والأصل لو نزلت. والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل. وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ بالنصب فيهما على الحَالِ. والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسَوَّغ وقوعَ الحال كذا وَصْفُها كقولك: الرَّجُلُ جَاءَنِي رَجُلاً صَالِحاً وقرىْ: فَإذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ. وقرأ زيدٌ بْنُ عَلِيٍّ وابنُ عُمَيْر «وَذَكَرَ» مبنياً للفاعل أي الله تعالى «القِتَالَ» نصباً.(17/450)
فصل
المعنى ويقول الذين آمنوا حرصاً منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجِهاد.
واعلم أن المؤمن كان ينتظرم نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخرت عنه التكليف كان يقول: هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها. وأما المنافق فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التَّبَايُن بين الفريقين في العلم والعمل.
والمراد بالسورة التي فيها تكليف؟ . وقوله: «مُحْكَمَةُ» أي لم تنسخ، وقال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين.
قوله: {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} يعنى المنافقين {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} شَزْراً بتحديقٍ شديدٍ كراهِيةً منهم للجهاد، وجبناً عن لقاء العدوِّ.
قوله: {نَظَرَ المغشي} الأصل نَظَراً مثل نَظَراً مثل نَظَر المَغْشِيِّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عنْد الموت.
قوله: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ} . اختلف اللّغويون وةالمُعْرِبُونَ (رَحِمَهُ اللهِ عَلَيْهِمْ) في هذه اللفظة فقال الأصمعي (رَحمهُ الله) : إنها فعل ماضٍ بمعنى قاربه ما يهلكه، وأنشد (رَحمهُ اللهُ) :
4474 - فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاَثِ
أي قارب أن يزيد.
قال ثعلب: لم يقل أحدٌ في أوْلَى أحسنت من الأصمعيِّ. وقال البغوي: معناه وَلِيَكَ وَقَرَبَك ما تكره ولكن الأكثرين على أنه اسم. ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الوَلْي وهو القريب كقوله:
4475 - تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا ... وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنا وَخُطُوبُ(17/451)
وقيل: هو مشتق من الوَيْل والأصل فيه أوئل. فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع. وإلَى هذا نحا الجُرْجَانيّ والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل: هي تهديد ووعيد كقوله:
4476 - فَأَوْلَى ثُمَّ أَولَى ثُمَّ أَوْلَى ... وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد: يقال لمن هم بالغضب: أولى لك كقول أعرابيِّ كان يوالِي رمي الصيد فيفلت منه فيقول: ِأَوْلَى لَكَ. ثم رمى صيداً فَقَارَبَهُ فأفلت منه فقال (رَحْمَةُ الله عليه ورِضَاهُ) :
4477 - فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ ... وَلَكِنْ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا
هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه.
وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه:
أحدهما: أن «أولى» مبتدأ (و) «لهم» خبره تقديره: فالهلاك لهم. وسوغ الابتداء بالنكرة كونهُ دُعَاء نحو: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] .
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: العِقَابُ أو الهَلاك أَوْلَى لهم. أي أقرب واَدْنَى. وقال ابنُ الخطيب: التقدير: فالموت أولى لهم؛ لأنَّ الموت سبق ذكره في قوله: {نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} ، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها. ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بِهِمْ.(17/452)
الثالث: أنه مبتدأ و «لهم» متعلق به، واللام بمعنى الباء. و «طاعة» خبره التقدير: أولى بهم طاعة دون غيرها.
وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه السِّيَاق، كأنه قيل: فأولى هو أي الهلاك.
وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال: ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. وقال ابن عطية: المشهور من استعمال العرب أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق. وقد تستعمل العرب «أولى لك» فقط على جهة الحذف والاخْتِصَار؛ لما معها من القول فتقول: أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد. انتهى.
وقال أبو البقاء: أَوْلَى مؤنثة أَوْلاة. وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين؛ أما التأنيث اللفظي وفلا يقال فيه ذلك. وسيأتي له مزيد بيان في القيامة إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قوله: {طَاعَةٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «أَوْلَى» على ما تقدم.
الثاني: أنها صفة «لِسُورَة» أي فإذا أنزلت سُورَةٌ محكمة «طاعة» أي ذات طاعة أو مطاعة. ذكره مكي، وأبو البَقَاءِ. وفيه بُعْد لكثرة الفواصل.
الثالث: أنها مبتدأ و «قَوْل» عطف عليها والخبر محذوف تقديره: أَمْثَلُ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِمَا. وقدّر مَكِّيٌّ منَّا طاعةٌ فقدّره مقدَّماً.
الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمْرُنَا طَاعَةٌ.
الخامس: أن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر. والوقف والابتداء يُعْرَفَانِ مما تقدم.(17/453)
فصل
قال المفسرون: قوله: طاعة وقول معروف ابتداء محذوف الخبر، تقديره طاعة وقول معروف أمثل، أي لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن. وساغ الابتداء بالنكرة، لأنها وُصِفَتْ بدليل قوله: {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} فإنه موصوف فكأنه تعالى قال: كاعة مخلصةً وقولٌ معروف خير. وقيل: يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة، أو منا طاعة وقول معروف: حسن.
وقيلأ: «متَّصل» . واللام في قوله: «لَهُمْ» بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة، أي لو أطاعوا الله كانت الطاعة والإجابة أولى بهم. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عَطَاءٍ.
قوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} في جوابها ثلاثة أوجه:
أحدهما: قوله: {فَلَوْ صَدَقُواْ} نحو: إذَا جَاءنِي طَعَامٌ فَلَوْ جِئْتَنِي أَطْعَمْتُكَ.
الثاني: أنه محذوف تقيدره: فَاصْدُقْ، كذا قدره أبو البقاء.
الثالث: أن تقديرنا ناقضوا. وقيل: تقديره كرهوا ذلك. وعَزَمَ الأمْر على سبيل الإسناد المجازي كَقوله:
4478 - قَدْ جَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا ... أو يكون على حذف مضاف أي عَزَمَ أَهْلُ الأمر. وقال المفسرون: معناه إذا جدَّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا لله في إظهار الإيمان والطاعة لكان(17/454)
خيراً لهم. وقيل: جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر لكلُّوا أو كذبوا فيما وعدو ولو صدقوا لكان خيراً لهم.
قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم إن توليتم أعرضتهم عن القرآن وفارقتم أحكامه {أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض} ، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرْضِ بالمعيصية والبَغْي وسَفْكِ الدماء وترجعون إلى الفُرْقة بعدما جمعكم الله بالإسلام!
قوله: {أَن تُفْسِدُواْ} خبر عسى.
والشرط مُعْتَرِضٌ بينهما وجوابه محذوف لدلاَلَةِ: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» عليه أو هو يفسره «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» ، عند من يرى تقديمه.
وقرأ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «إن تُوُلِّتُمْ» بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول من الولاية أي وُلِّيتم أمور الناس. وقال ابن الخطيب: لولا تولاَّكم ولاةٌ ظلمة، جُفاة غَشَمَة ومشيتم معهم لفسدتم وقعطت الأرحام والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال؟! . والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك، حيث تَتَقَتَلُونَ على أدنى شيءٍ كما كان عادة العرب الأُوَل. (وقرى: وُليتم من الولاية أيضاً) .
فصل
قال ابن الخطيب: في استعمال «عسى» ثلاثة مذاهب:
أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول: عَسَ زَيْدٌ، وعَسَيْنَا وعَسَوْا، وعَسَيْتُمَا، وعَسَيْتُ وعَسَيْتُنَّ وعَسَيْنَا وعَسَيْتُنَّ.
والثاني: أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال: عَسَاهُ، وعَسَاهُمَا، وعَسَاكَ، وَعَسَاكُمَا وعَسَايَ وعَسَانَا.(17/455)
الثالث: الإتيانُ بها من غير أن يُقْرَن بها شيء تقول: عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ، وعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ، وعَسَى أَنَا أخْرُجُ، والك متوجه ما عليه كلام الله أوجه، لأن «عسى» من الأفعال الجامدة، واقتران الفاعل بالفعل الأول من اقتران المفعول، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أرْبَعَ متحركات في مثل قول القائل: بَصُرْتُ وجوزوا في مثل قولنا: بَصَرُكَ. وقد تقدم الكلام في «عسى» مشْبَعاً.
وفي قوله: «عَسَيْتُم» إلى آخره، التفات من غيبة في قوله: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار: «عَسَيْتُمْ إنْ» لكان للمخاطب أنينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول: أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر (أن) تجيب إلا ب «لا» أو «نَعَمْ» ، فهو مُقَرَّر عندك وعندي.
واعلم أن «عَسَى للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في» لَعَلَّ «وفي قوله: {لِّيَبْلُوَكُمْ} [المائدة: 48] فقال بعضهم: يفعل بكم فعل المترجِّي والمبتلي والمتوقع. وقيل: كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال ابن الخطيب: هو محمول على الحقيقة؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعاً فالنظر غير مستلزم لأمر، وإِنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجِّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم مثاله من نَصَبَ شَبَكةً لاصطياد الصَّيد يقال: هو متوقع لذلك، فإن حصل له العمل بوقوعه فيه بأخبار صادقٍ أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع.
غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع(17/456)
هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظراً إلى ذلك الأمر حسب سواء كان له به علم أو لم يكن.
قوله: {وتقطعوا} قرأ العامة بالتشديد على التكثير، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب: بالتخفيف مضارع قَطَع. والحَسن: بفتح التاء والطاء مشددة، أصلها تَتَقَّطُعُوا بتاءين حذفت إحداهما. وانتصب «أَرْحَامَكُم» على هذا إسقاط الخافض أي في أرْحَامِكُمْ.(17/457)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
قوله: «أُلَئِكَ» مبتدأ، والموصول خبره والتقدير: أولئك المفسدون يدل عليه ما تقدم. وقوله: «فَأَصَمَّهُمْ» ولم يقل: «فَأَصَّم آذَانَهُمْ» و «أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» ولم يقل أعمارهم، قيلأ: لأنه لا يلزم من ذهاب الإذن ذهاب السمع فلم يتعرض لها، والأبصار وهي الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبْصار ولا يرد عليك قوله: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} ونحوه [الأنعام: 25] و [الإسراء: 46] و [الكهف: 57] لأنه دون الصَّمَم والصَّممُ أعظم منه فقال: أصمهم من غير ذكر الأذن، وقال: «أعْمَى أبْصَارَهُمْ» مع ذكر العين؛ لأن البَصَرَ ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبْصار ولو كان مصدراً لما جمع، فلم يذكر الأذن؛ إذْ لاَ مَدْخَلَ لها في الإصمام وذكر العين، لأن لها مدخلاً في الرُّؤية، بل هي الكل بدليل أنه الآفة في غير هذا الموضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً فقال تعالى(17/457)
حاكياً عنهم: {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] والوَقْر دون الصَّمَم.
فصل
{أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} إشارة إلى من سبق ذكرهم من المنافقين، أبعدهم الله عنه أةو عن الخبر الخير فأصمهم لا يسمعون الكلام المبين وأعمى أبصارهم عن الحق.
قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} فيه سؤال وهو أنه تعالى قال: فأصمهم وأعمى أبصارهم فيكف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل الأعمى أَبْصِر وللأصمّ أسْمَعْ؟! .
فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض:
الأول: تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لايؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يُصِمَّهم ويعميهم ويذمَّهم على ترك التدبر.
الثاني: أن قوله: {أفلا يتدبرون القرآن} المراد منه الناس.
الثالث: أن يقال: هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المقتدمة كأنه تعالى قال: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام، فإِذَنْ هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مُقْفَلَةً تقديره: أفلا يتبدون القرآن لكونهم ملعونين مُبْعَدِينَ {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} فيتدبرون ولا يفهمون؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول: أم بمعنى «بل» بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر.
وقيلأ: أم بمعنى بل. والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه روى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عن أبيه قال: «تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفلا يتبدرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شباٌّ من أهل اليمن بل على قولب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عُمَرَ حتى وَلِيَ فاستعان به» .
قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ} أم منقطعة وتقدم الكلام على «أم» منقطعة. وقرأ العامة: «(17/458)
أقْفَالُها» بالجمع على أَفْعَالٍ. وقرىء أَقْفُلُهَا (بالجمع) على أفْعل. وقرىء إِقْفَالُهَا بكسر الهمزة مصدراً كالإقبال. وهذا الكلام استعارة بليغة قيل: ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها.
فإن قيل: ما الفائدة في تنكير القلوب؟ .
فقال الزمخشري: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون للتنبيه على كون موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال: أمْ عَلَى قُلُوبٍ قاسيةٍ أو مظلمةٍ.
الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال: أم على نفس القلوب؛ لأن النكرة لا تَعُمُّ، تقول: جاءني رجالٌ فيُفْهَمُ البعض وجاءني الرجال فيُفْهَم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلباً، فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلبٍ هذا حجر.
وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال: على قلوبهم أقفالها أو هي لنعدم عَوْد فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فِإن قيل: قد قال تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] وقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر: 22] .
فالجواب: الإقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «أقْفَالُهَا» بالإضافة ولم يقل: أقفال كما قال: قُلُوبٍ؟ .
فالجواب: لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقْفال إليها لكونها مناسبةً لها. أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكُفْر والعِنَادِ.
قوله: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} رجَعُوا كفاراً {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى}(17/459)
قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما عرفوه ووجدوا نعتَه في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون.
قوله: {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} أي زين لهم القبيحَ. وهذه الجملة خبر: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} وتقدم الكلام على سَوَّلَ معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: وقد اشتقه من السَّؤلِ من لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاق جميعاً. قال شهاب الدين: كأنه يشير إلى ما قاله ابْنُ بَحْر من أن المعنى أعطاهم سُؤْلَهُمْ. ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافْتَرَقَا، فلو كان على ما قيل لقيل سأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قال الزمخشري نظر؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو. وعليه قراءة: «سَالَ سَائِلٌ» وقوله:
4479 - سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتُ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وقد تقدم هذا في البقرة مستوفًى.
قوله: {وأملى لَهُمْ} العامة على أملي مبنياً للفاعل وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تَعَالى. قال أبو البقاء: على الأول: يكون معطوفاً على الخبر. وعلى الثاني: يكون مستأنفاً. ولا يلزم ماقاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهَذَا وبهَذَا.
وقرأ أبو عمرو في آخرين أُمْلِيَ مبنياً للمفعول. والقائم مقام الفاعل الجار.
وقيل: القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء. وقرأ يعقوبُ وسلاَّمٌ ومجاهد وأُمْلِي بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء فاحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم أي وأملي أنا لهم، وأن(17/460)
يكون ماضياً كقراءة أبي عمرو سكنت ياؤه تخفيفاً وقد مضى منه جملة.
فصل
قال المفسرون: سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّل لهم. وأَمْلَى لهم أي مد لهم فِي الأمل يعني قالوا: نعيش أياماً ثم نؤمن به وهو معنى قوله: {وأملى لَهُمْ} .
فإن قبل: الإِملاء والإِمهال وَحَدُّ الآجال لا يكون إِلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ: وأملى لهم فإن المملي حينئذ هو الشيطان؟ .
قال الخطيب: فالجواب من وجهين:
أحدهما: هو أن المسوِّل أيضاً ليس هو الشيطان وإنما إسند إليه من حيث إن الله قد ر على يده ولسانه ذلك، فكذلك الشيطان يمسهم ويقول لهم: في آجالكم فَسْحَةٌ فتمتعوا برئاستكم ثم في آخر العمل تؤمنون.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} يعني المنافقين أو اليهود قالوا: {لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} وهم المشركون أي ذلك الإملاء لا يسبب قولهم الذين كرهوا. قال الواحدي.
وقيل: ذلك إشارة إلى التسويل. ويحتمل أن يقال: ذلك إشارة للارتداد بسبب قولهم: سنطيعكم قاله ابن الخطيب. قال: لأنا نبين أن قوله: «سنطيعكم ف يبعض الأمور» هو أنه قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كذاب ولكن لا نوافقكم على إِنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو كافر وإن آمن بغيره. لا بل نؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا نؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر، لأن الله تعالى كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهِيَ جائزة.
وقال المفسرون: إِن اليهود والمنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمور في التعاون على عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقعود عن الجهاد. وكانوا يقولونه سراً فقال الله تعالى: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} .(17/461)
وقوله: «إسْرَارَهُمْ» قرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدراً. والباقون بفتحها جمع سِرّ.
قوله: «فكيف» إما خبر مقدم، أي فيكف عمله بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة.
وإما منصوب بفعل محذوف أي فكيف تصنعون وإما خبر «لكان» مقدرة أي فكيف يكونُون؟ والظرف معمول لذلك المقدر وقرأ الأعمش: «تَوَفَّاهُمْ» دون تاء، فاحتملت وجهين: أن يكون ماضياً كالعامة، وأن يكون مضارعاً حُذفت إحدى تائيه.
قوله: «يَضْرِبُون» حال إما من الفاعل وهو الأظهر أو من المعفول.
فصل
قال ابن الخطيب: الأظهر أن قوله: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يعرفون أبناءهم ويؤيده القراءة بكسر الهمزة فإنهم كانوا يُسِرُّونَ نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإن قلنا: المراد من الذين ارتدّوا هم المنافقون فكانوا يقولون للجاحدين من الكفار سنطيعكم في بعض الأمور كانوا يرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10] وقال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] . وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} كأنه تعالى قال: هَبْ أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم؟ {أو نقول: لما قال الله تعالى: والله يعلم إسرارهم أنهم يختارون القتال لما فيه من الضرب والطعن مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غَلبوا في الحال والثواب في المآل، وإن غُلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم؟} .
وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارز قد يهزم الخَصْم ويسلم وجهه وَقَفاهُ وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ثَبَتَ وصَبَرَ وإن يثبت وانهزم فإنه فاته بالهرب فقد سلم وجهه وقفَاه وإن لم يفته فالضرب على فقاه لا غير ويوم الوفاة لا نُصْرة له ولا مفرّ، فوجهه وظهره مضروب مطعون فيكف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر؟ ّ.(17/462)
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله} أي ذلك الضرب بأنه اتبعوا ما أسخط الله. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بما كتموا التوراة وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان. وقيل: المراد بما أسخط الله الكفر لأن الإيمان يرضيه لقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] . وقيل: بما أسخط الله هو تسويل الشيطان.
فإن قيل: هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون: إن الذي هم عليه رضوان الله ولا نطلب به إلا رضى الله وكيف (لا) والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضى الله كما قالوا: {لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] وقالوا:
{فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} [الأعراف: 53] .
فالجواب: معناه كرهوا ما فيه رضى الله. وفيه قوله: {مَآ أَسْخَطَ الله} ولم يقل: «ما أرضى الله» لطيفة وهي أن رحمة الله سابقة، فله رحمة ثانية وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر، فهو يكون على ذبن، فقال «رضوانه» لأنه من وصف ثابت لله سابق. ولم يقل «سَخِطَ الله» بل قال «أَسْخَطَ» إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللَّعَان في حق المرأة: {والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين} [النور: 9] يقال: غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق فظهر الزنا بقوله وإيمانه وقبله لم يكن غضب فرضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله.
قوله: «فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» حيث لم يطلبوا رضا الله وإنما طلبوا رِضَا الشيطان والأصنام. قوله: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} يعني المنافقين و «أم» تستدعي جملة أخرى استفهامية يقال: أَزيدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك؛ يقال: إنَّ هذا لزيدٍ أم عمرو وكما يقال: بل عمرو. والمفسرون على أنها مقطعة. ويحتمل أن يقال: إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} . وكأنه تعالى قال: (أم) حسب الذين كفروا وأن لم يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها. والكل فاسد فإنما يعلمها ويظهرها.(17/463)
قوله: {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} الإخراد بمعنى الإظهار، أي لن يظهر أحقادهم و «أن» هذه مخففة. و «لن» وما بعدها خبرها واسمها ضمير الشأن. والأَضْغَانُ جمع ضغْنٍ وهي الأَحْقَادُ والضَّغِينَةُ كذلك. قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4480 - وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا
وقال عمرو بن كلثوم:
4481 - وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضَّغْنِ يَعْسُو ... عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا
وقيلأ: الضغن العداوة وأنشد:
4482 - قُلْ لابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتَ بِمَنْطِقٍ ... سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الأَضْغَانَا
يقال: ضَغِنَ بالكسر يَضْغَنُ بالفتح وقد ضَغِنتَ عليه وأضْغَنَ القَوْمُ وتَضَاغَنُوا.
وأصل المادة من الألتواء في قوائم الدّابة والقناة، قال (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) :
4483 - إنَّ قَنَاتِي مِنْ صَليباتِ القَنَا ... مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلاَّ ضَغَنَا
وقال آخر:
4484 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كَذَاتِ الضَّغْنِ تَمْشِي فِي الرِّقَاقِ(17/464)
والاضطغَانُ الاحتواء على الشيء أيضاً ومنه قولهم: اضطَغَنْتُ الصَّبِيَّ إِذَا احتضنته وأنشد:
4485 - كَأَنَّه مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا ... وقال الآخر:
4486 - وما اضطَغَنْتُ سِلاَحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
وفرسٌ ضَاغِنٌ لا يجري إِلاَّ بالضَّرْبِ.
فصل
قال المفسون: أضغانهم أحقادهم على المؤمنين فيُبْدِيها حتى تعرفوا نفاقهم. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أضغانهم حَسَدَهُمْ.
قوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} من رؤية البصر؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أرينك إياهم جاز. وقال ابن الخطيب: الإرَاءَةُ هنا بمعنى التعريف.
قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» عطف على جواب «لو» وقوله: «وَلَتَعْرفنَّهُمْ» جواب قسم محذوف.
قال المفسرون: معنى الكلام: لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ: بعلامتهم. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم(17/465)
بها. قال «أنس» : فأخفي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم.
قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي في معناه ومقصده. واللحن يقال باعتبارين:
أحدهما: الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك. ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي (رَحِمَهُ اللَّهُ) في حكاية له:
4487 - وَلَقَدْ وَحَيْتُ لكيْمَا تَفَهْمُوا ... وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
وقال آخر:
4488 - وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَن أحْيَاناً ... وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
واللَّحْنُ: صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ. وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه. يقال من الأول: لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَجِنٌ. وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» .
ويقال من الثاني: لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ.
فصل
معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ. قال ابن الخطيب: معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي(17/466)
يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم، وكأن قائلاً قال: فِلمَ لَمْ يُظْهر؟ فقال: أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف.
وقوله: «فَلَعَرفتهُمْ» لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال: عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا: فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف. واللام في قوله: «فلعرفتهم» هي التي تقع في خبر «لو» كما في قوله: «لأَرَيْنَاكَهُمْ» أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال: ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده. وقوله: {فِي لَحْنِ القول} أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه النفاق، كقولهم حين مجيء النصر: {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10] وقولهم: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة} [المنافقون: 8] وقولهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم فأمالوا كلامهم كما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون} [المنافقون: 1] .
ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا يفهمه (غيره.
فالنبي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعرف)
المنافقين ولم يظهر أمرهم، لى أن أذن الله له في إظهار أمرهم، ومنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم.
«بِسيماهُمْ» الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} [يس: 67] . وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى: {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين.
قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ ... وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} قرأ أبو بكر الثلاثة بالياء من أسفل يعني الله تعالى. والأعمش كذلك وتسكين الواو (والباقون بنون العظمة. ورُوَيْسٌ كذلك وتسكين الواو والظاهر قطعة عن الأوّل في قراءة تسكين الواو) ويجوز أن يكون سكن الواو تخفيفاً كقراءة الحسن: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} [البقرة: 237] بسكون الواو.(17/467)
فصل
المعنى: لنُعَامِلَنَّكُمْ معالمة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال {حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} أي علم الوجود والمشاهدة فإن تعالى قد علمه علم الغيب يريد نبين المجاهد الصابر على دينه من غيره وقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي يظهرها ويكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يَصْبِرُ على الجهاد.(17/468)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} قيل: هم أهل الكتاب قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ لأن أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: هم كفا رقريش. {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} إنما يضرون أنفسهم وهذا تهديد {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} فلا يُبْقي لهم ثواباً في الآخرة. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) هم المُطْعمُونَ يوم بدر. نظيرها قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [الأنفال: 36] وقيل: الأعمال ههنا مكايدهم في القتال.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} قال عطاء: بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرِّياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرون أ، هـ لايضر مع الإخلاص ذنب، كما لا ينفع مع الشِّرك عمل فنزلت هذه الآية فخافو الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: لا تَمُنُّوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد قال تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] فإنه يقول: فعلته لأجل قلبك ولولا أرضاك به لما فعلت وهذا مناف للإخلاص والله لا يقبل إلاَّ العَمَلَ الخالص.(17/468)
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قيل: هم أصحاب القَليب. وقيل: اللفظ عام.
قوله: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} يجوز جزم «تَدْعُوا» عطفاً على فعل النهي ونصبه بإضمار أن في جواب النهي. وقرأ أبو عبد الرحمن: بتشديد الدال فقال الزمخشري: مِن ادَّعَى القَوْمُ وتَدَاعَوْا مثل ارْتَمَوا الصَّيَد، وتَرَامَوْا. وقال غيره: بمعنى تغتروا. وتقدم الخلاف في السِّلْمِ.
فصل
لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات يحبط وذنبه الذي هوأقبح السيئات غير مغفور وأمر بطاعة الله وطاعة الرسول أمر بالقتال فقال: «فَلاَ تَهِنُوا» أي لا تَضْعُفُوا بعدما وجد السبب وهو الأمر بالجِدِّ والاجتهاد في القتال فقال: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} أي إلى الصلح أبتداء فمنع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلما.
قوله: {وَأَنتُمُ الأعلون} جملة حالية، وكذلك {والله مَعَكُمْ} وأصل الأَعْلونَ الأَعْلَيُونَ فَأُعِلًّ.
قال ابن الخطيب: أصله في الجمع الموافق أَعْلَيُونَ ومُصْطَفَيُونَ فسكنت الياء لكونها حرف علة تحرك ما قبله والواو كانت ساكنة فالتقى سكنان فلم يكن بُدٌّ من حذف أحَدِهِما وتحريك الآخر والتحريك كان قد ثبت في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف والواو فيه كانت لمعنى لا يستفاد إلاَّ منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أَعْلَوْنَ.
وبهذا الدليل صار في الجرِّ أَعْلَيْنَ ومُصْطَفَيْنَ. ومعنى الأعلون الغالبون قال الكلبي: أخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات {والله مَعَكُمْ} بالعَوْنِ والنُّصْرَةِ.(17/469)
قوله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي ينقصكم أو يفردكم عنها، فهو من وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذا قتلت له قتيلاً أو نَهَبْتَ مَالَهُ. أو من الوضتْر وهو الانفْراد. وقيل: كلا المعنيين يرجع إلى الإفْراد، لأن من قُتَل له قتيل، أو نهبَ له مال فقد أفرد عينه فمعنى: «لن يتركم أعمالكم» لَنْ يَنْقُصكُمْ شيئاً من ثواب أعمالكم يقال: وَتَرَه يَتِرُهُ وَتْراً وترَةً إذَا نقصه حَقَّهُ.
قال ابن عباس: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) وقتادة والضحاك: لن يَظْلِمَكُمْ أعمالكم الصالحة أن يؤتيكم أجورها. ثم حضَّ على طلب الآخرة فقال: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} الفواحش {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} جزاء أعمالكم في الآخرة {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ} ربكم {أَمْوَالَكُمْ} لإتتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة. نظيره قوله: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} [الذاريات: 57] . وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم نظيره: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] . وقيل: معنى الآية لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألانِكم غيضاً من فيض رُبع العشر فطيبوا بها نفساً. قاله ابن عُيَيْنَةَ. ويدل عليه سياق الآية.
قوله: «فَيُحْفِكُمْ» عطف على الشرط و «تَبْخَلُوا» جاب الشرط. قال ابن الخطيب: الفاء في قوله: «فَيُحْفِكُمْ» لِلإشارَة إلى أن الإحْفَاءَ يتبع السؤال لشُحِّ الأَنْفُس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون لمباينين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين، أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى يبين أن الإحْفَاء يقع عقيبَ السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً. قال المفسرون: فيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكم وبلحف عليكم بمسألة جميعها يقال: أَحْفَى فلانٌ فلاناً إذا جهده وَألحَفَ قلبهُ في المسألة.
قوله: {تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} العامة على إسناد «يُخْرِجْ» إلى ضمير فاعل إما الله تعالى أو الرسول أو السّؤَال؛ لأنه سبب وهو مجزوم عطفاً على جواب الشرط وروي عن أبي عمرو رفعه على الاستئنَافِ وقرأ أيضاً بفتح الياء وضم الراء ورفع «أَْضْغَانُكُمْ» فاعلاً.(17/470)
وابن عباس في آخرين وتَخْرُجْ بالتاء من فوق وضم الراء أضْغَانُكُمْ فاعل به. ويعقوب وَنخْرِجْ بنون العظمة وكسر الراء أضْغَانَكُمْ نصباً.
وقرىء: وَيُخْرَجْ بالياء على البناء للمفعول أضْغَانُكُمْ رفعاً به. وعيسى كذلك إلا أنه نصبه بإضمار أن عطفاً على مصدر متوهم أي بأن يُكَفَّ بُخْلُكُمْ وإخْرَاجَ أضغَانِكُمْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ.
فصل
قال قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأَضْغَان يعني ما طلبها ولو طلبها وألحَّ عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير فيخرج أضغانكم بسببه. فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه إذا طلبوا منكم وأنتم لمحبة الأموال وشُحِّ الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن.
ثم بين ذلك بقوله: {هَا أَنتُمْ هؤلاء} قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل؟
قوله: {هَا أَنتُمْ هؤلاء} (قال الزمخشري: هؤلاء) موصول صلته «تدعون» أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالو: وما وَصْفُنَا؟ فقيل: تُدْعَوْنَ. وقال ابن الخطيب: «هؤلاء» تحتمل وجهينِ:
أحدهما: أن تكون موصولة كأنه قال: أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله.
وثانيهما: هؤلاء وحدها خبر «أنتم» كما يقال: «: أنت (أنت و) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير. وقد(17/471)
تقدم الكلام على قوله: {هَا أَنتُمْ هؤلاء} مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ.
وقوله:» تُدْعَوْنَ «أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم. قوله: {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} بما فرض عليه من الزكاة {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة (الطّبيب) وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله: {والله الغني} أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله: {وَأَنتُمُ الفقرآء} إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء.
قوله: {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} بَخِلَ وضنَّ يتعديان ب» عَلَى «تارةً وب» عَنْ «أخرى.
والأجود أن يكون حال تعديهما ب: عَنْ» مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك.
قوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} هذه الجملة (الجملة الشرطية عطف على) الشرطية قبلها. و «ثُمَّ لاَ يَكُونُوا» عطف على «يَسْتَبْدِلْ» .
فصل
ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 16] قال المفسرون: إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم. قال الكلبي: هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ.
وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: فارس (والروم) لما روى أبو هريرة «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} قال يا رسول الله: من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب(17/472)
على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال: هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس. وقيل: هم قوم من الأنْصارِ» .
فصل
قال ابن الخطيب: ههنا مسألة، وهي أن النُّحَاةَ قالوا: يجوز في المعطوف على جواب الشرط «بالواو والفاء وثُمَّ» الجزم والرفع، تقول: إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ بالجزم والرفع جميعاً، قال الله تعالى ههنا {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وقال {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} بالجزم وقال في موضع آخر:
{وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111] بالرفع، لإثبات النون. وفيه تدقيق: وهو أن قوله: «لاَ يَكُونُوا» متعلق بالتوالي؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا مثلَ من يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين. وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون، فلم يكن التعلق هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم. وقوله: {يكونوا أَمْثَالَكُم} في الوصف لا في الجنس.
روى أُبَيُّ بن كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة مُحَمَّدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ» (صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرفَ وكرمَ) .(17/473)
سورة الفتح
مدنية. وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.(17/474)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
روى زيد بن أسلم عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسير مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة ليس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وروى أنس قال: نزلت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنا فتحنا لك ... إلى آخر الآية مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال: نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا فلما تلاها نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال رجل من القوم: هنيئا مريئا قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} حتى ختم الآية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه فتح الحديبية، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان. وقيل: الفتح الحكم لقوله(17/474)
تعالى: {افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] وقوله: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} [سبأ: 26] . فمن قال: هو فتح مكة قال: لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى لما قال: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} إلى أن قال: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة، وغَنِموا ديراهم، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
وثانيها: لما قال: «واللهُ مَعكُمْ» وقال: «وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ» بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون.
وثالثها: لما قال تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين.
فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال: فتحنا بلفظ الماضي؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا.
والثاني: ما قدره الله تعالى فهنو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له.
وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد. ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا. قال الشعبي في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نَخْل خيبر، وبلغ الهديْ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهر أهل الكتاب على المَجُوسِ. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ، وذلك أن(17/475)
المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام، قال المفسرون: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً.
قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} متعلق «بِفَتَحْنَا» وهي لام العلة. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ:
فإن قلتَ: كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة؟
قلتُ: لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز كأنه قال: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن، وإعراض العاجل والآجل.
ويجوز أن (يكون) فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب. وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكمون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة؟ ثم يقول: لم يجعل مُعَلَّلاً؟
وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين: آخرين؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال: إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ، والنُّصْرَةَ به عَمَت: الثاني: أن فتح مكة كان سبباً لتظهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتظهير بيته صار سبباً لتظهير عبده. الثالث: أن الفتح سبب الحِجَج، والبحَجِّ تحصل المغفرة كما ال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحج «اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً» .
الرابع: المراد منه التعريف تقديره: إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية: المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة. وهذا كلام ماش على الظاهر، وقال بعضهم: إنَّ هذه اللام لام القَسَم والأصل: لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام «كي» ، وحذفت النون. وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر، وبأنها لا تنصب المضارع.(17/476)
وقد يقال: إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ.
فصل
لم يكن للنبي صلى لله عليه وسلم ذنب فما يغفر له؟ فقيبل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: المراد ترك الأفْضل. وقيل: الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد. قال ابن الخطيب: وهي تصونهم عن العُجْبِ. وقيل: المراد بالمغفرة العِصْمة. ومعنى قوله: «وَمَا تَأَخَّر» قيل: إنه وعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة. وقيل: ما تقدم على الفتح.
وقيل: هو للعموم، يقال: اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم. وقيل: من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالفعو وما بعدها بالعصمة. وفيه وجوه أُخر ساقطة. قال ابن الخطيب: منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر «مَارِيَةَ» «وَمَا تَأَخَّر» من أمر «زَيْنَبَ» وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ.
قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قيل: إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ وهو آخر التكاليف والتكاليف نعمة وقيل: يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عدوٌّ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح.
وقيل: ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة، وأما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة: بِقبول شفاعتك.
فصل
قال الضحاك: إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال، كان الصلح من الفتح. فإنْ كانت اللام في قوله: «لِيَغْفِرَ» لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح. وقال الحسن بن الفضل: هو مردود إلى قوله: «واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار» .
وقال محمد بن جرير: هو راجع إلى قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} [النصر: 13] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة «وما تأخر» إلى وقت نزول هذه السورة.
وقيل: ما تأخر ممايكون. وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال سُفْيَانُ(17/477)
الثَّوْرِيّ: «ما تقدم» مما عملت في الجاهلية «وما تأخر» كل شيء لم تعمله كما تقدم.
وقال عطاء الخراساني: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك، «وَمَا تَأَخَرَ» ذنوب أمتك بدعوتك. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوة والحكمة.
قوله: {صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} قيل: يهدي بك. وقيل: يُديمك على الصراط المستقيم، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده (و) العادجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم. ثم قال: {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} غالباً. وقيل: مُعِزًّا؛ لأن بالفتح ظهر النصر.
فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف النَّصْر بكونه عزيزاً من له النصر!
فالجواب من وجهين:
أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: معناه نصراً ذا عزة، كقوله: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذَاتِ رِضاً.
الثاني: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال لَهُ كَلاَمٌ صَادِقُ كما يقال له متكلم صادق.
الثالث: المراد نصراً عزيزاً صَاحِبُهُ.
الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشريُّ إذا قلنا: العزة هي الغلبة والعزيز الغالب. وأما إذا قلنا: العزيز هو النفيس القليل النظير، أو المحتاج إليه القليل الوجود، يقال: عَزَّ الشَّيْءُ في سُوقِ كَذَا أي قَلَّ وُجُودُهُ مع أنه مُحْتَاحٌ إليه، فالنصرُ كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المقيمين فيه من غير عَدَ ولا عُدَدٍ.
فصل في البحث المعنوي
وهو أن الله تعالى لما قال: {لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} أبرز الفاعل وهو(17/478)
الله، ثم عطف عليه بقوله: «ويُتِمّ» وبقوله: «ويَهْدِيكَ» ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل، ولا يظهر فيما بعد تقول: «جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ وَتَكَلََّمَ وَرَاحَ وَقَامَ» ولا تقول جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ زَيْدٌ، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَد، اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأوّل، وههنا لم يثقل: «وَيَنْصُرَكَ نَصْراً» بل أعاد لفظ الله وجوابه هذا إرشاد إلَى طريق النَّصر ولهذا قَلَّمَا ذَكَرَ الله النَّصْرَ من غير إضافة فقال تعالى:
{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40] ولم يقل: بالنَّصْر يُنْصَرُ وقال: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] ولم يقل: أيدك بالنصر، وقال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} وقال: {نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] ، وقثال: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 126] ، وهذا أدل الآيات على مطلوبها.
وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 127] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله (تعالى) كما قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} فلما قال ههنا: «وَيَنْصُركَ اللهُ» أ؟ هر لفظ الله، ليُعْلَمَ أن بذكر الله اطمئنان القلب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر.
فصل
قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} ثم قال: {لَكَ الله} ، ولم يقل: «إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ» تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] وقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] فإن قلنا: المراد من المغفرة في حق النبي صلى الله عليه سولم فكذلك لم يختص به نبينا، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وقال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47 و122] وكذلك الهداية قال تعالى: {يَهْدِي الله} [النور: 35] وكذلك النصر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171172] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي صلى لله عليه ونسلم فعظَّمه بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} وفيه التعظيم من وجهين:
أحدهما: قوله: «إنَّا»
والثاني: قوله: «لَكَ» أي لأجلك على وجه المِنَّةِ.(17/479)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} لما قال تعالى: {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح: 3] بين وجه النصر، وذلك أن الله تعالى قد ينصر رسله بصحيةٍ يهْلِكُ بها أعداؤُهُمْ، أو رَجْفَةٍ يُحْكَمُ فيها عليهم بالفَنَاءِ، أو بشيءٍ يْرْسِلُهُ مِن السَّمَاء، أو يصبر وقوة وثبات قلبٍ يرزق المؤمنين ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل، فقال: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} أي تحقيقاً للنصر. والمراد بالسكينة قيل: السكون، وقيل: الوَقَار لله. وقيل: اليقين. قال أكثر المفسرين: هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى: {يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 248] . ويحتمل أن تكون هي تلك؛ لأن المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب.
فصل
قال الله تعالى (في حق الكفار) {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26] [الحشر: 43] بلفظ القذف المُزعِج وقال في حق المؤمنين: {أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} بلفظ الإنزال المثبت.
وفيه معنى حكميّ وهو أن من علم شيئاً من قبل ويذكره استدام بذكره، فإذا وقع لا يَتَغَيَّر ومن كان غافلاً عن شيء فيقع رفعه فإنه يَرْجُفُ فؤاده، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صَيْحَةٍ، وقيل (له) لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يَرْتَجِفُ ومنل م يخبر به أو أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت. كذلك الكافر أَتَاهُ الله من حيث لم يحتسب وقذف في قلبه الرُّعْبَ، فارْتَجَفَ، والمؤمن أُتِيَ من حيث كان يذكر فسكن، فلا تزعج نفوسهم لما يرد عليهم. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنِينَةٌ إلاَّ التي في سورة البقرة.(17/480)
قوله: {إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} ، قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بَعث الله رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوا زادهم الصلاة، ثم الزكامة، ثم الصِّيام، ثم الحجّ، ثم الجِهَاد حتى أكمل لهم دينهم وكُلَّمَا أُمِرُوا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم. وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقيل: أنزل السكينة عليهم فَصَبَرُوا ورأوْا عَيْنَ القين ما علموا النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مُسْتَفَاداً من الغيب مع إيمانهم المستفادِ من الشهادة. وقيل: ازدادوا إيماناً بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسولُ الله، فإن الله واحدٌ، والحَشْرَ كائنٌ فآمنوا بأن كُلَّ ما يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو صدق، وكُلَّ ما يأمر الله تعالى به فهو واجب.
وقيل: ازدادوا إيماناً استدلاليًّا مع إيمانهم الفطري.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في حق الكفار: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178] ولم يقل مع كفرهم وقال في حق المؤمنين: {اإِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} ؟
فالجواب: أن كفر الكافر عِنَادِيّ، وليس في الوجود كُقْرٌ فِطْريّ، ولا في الوجود كفر عِنَادِيّ لينضمَّ إلَى الكفر الفطري بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال: انضم إلى الكفر بالأصول، لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعهة والانقياد، ولهذا قال: {اإِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} .
قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} فهو قادر على أهلاك عَدُوِّهم بجنود، بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأديهيم فيكون لهم الثواب. والمراد بجنود السموات والأرض الملائكة، وقيل: جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنُّ والحَيَوَانَاتُ. وقيل: الأسباب السماوية.
{وَكَانَ الله عَلِيماً} لما قال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} وعددهم غير محصور فقال «عَليماً: إشارة إلى أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض. وقيل: لما ذكر القلوب بقوله: {أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} والإيمان الذي من عَمَلِ القُلُوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يَعْلَمُ السِّرََّ وأخفى. وقوله» حكيماً «بعد» عليماً «إشارة إلى أنه يفعل على وَفْق العلم، فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً وبعلمه.
قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين} في متعلق هذه اللام أربعة أوجه:
أحدهما: محذوف تقديره: يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخبر ممن أهَّلَهُ له والشَّرَّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب.(17/481)
الثاني: أنها متعلقة بقوله:» إِنَّا فَتَحْنَا «لأنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنيئاً لك إن الله غَفَر لك فما بالنا؟ فنزلت الآية فكأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليُدْخِلَهُمْ جناتٍ.
الثالث: أنها متعلقة ب» يَنْصُرَكَ «كأنه تعالى قال: وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنات.
الرابع: أنها متعلقة ب» يَزْدَادُوا «واستشكل هذا بأن قوله:» ويعذب «عطف عليه وازديادهم الإيمان ليس سبباً عن تعذيب الله الكفار. وأجيبَ: بأن اعتقادهم أن الله يعذب الكفار يزيد في إيمانهم لا محالة.
وقال أبو حيان: والازْدِيَادُ لا يكون سبباً لتعذيب الكفار. وأجيب: بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن كأنه قيل: بسبب ازدِيَادِكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وفيه نظر لأنه كان ينبغي أن يقول: لا يكون مسبَّباً عن تعذيب الكفار وهذا يشبه ما تقدم في قوله:» لِيَغْفِرْ لَكَ اللهُ «.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين آخرين:
أحدهما: (تقديره) ويعذب نَقِيضَ ما لكم من الازْدِياد، يقال: فعلت لأخبر به العدوَّ والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو، فكذا ههنا ليزداد المؤمن إيماناً يُدْخِلُهُ الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه (به) .
وثانيهما: أن بسبب زيادة إيمان المؤمن يَكْثُرُ صَبْرُهُمْ وثباتهم ويتعب المنافق والكافر معه ويتعذب.
ثم ذَكَرَ وجوهاً أخر في تعلق الجار منها: أن الجار يتعلق بقوله:» حَكِيماً «كأنه تعالى قال: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ لأن الله حكيم فَعَلَ ما فَعَلَ ليدخل المؤمنين.
ومنها: أن يتعلق بقوله: «ويتم نِعْمَتَهُ عليك» فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العُقْبَى ليدخل المؤمنين جنات. ومنها: أن يتعلق بأمر مفهوم من قرينة الحال وهو الأمر بالقتال لأنه لما ذكر الفتح والنصر علم أن الحالَ حالُ القِتَال، فكأنه تعالى قال: إنَّ الله تعالى أَمَرَ(17/482)
بالقتال ليدخل المؤمنين، أو عرف من قرينة الحال أَنَّ الله اختار المؤمنين (فكأنه تعالى قال: اختار المؤمنين) ليدخلهم جنات.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] وقوله: وَبَشِّرِ الْموْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ (مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) ؟
فالجواب: أنه في المواضع التي فيها ما يُوهم اخْتِصَاصَ المؤمنين بالخير الموعود به مع مُشَارَكَةِ المؤمنات لهم ذَكَرَهُنَّ الله صريحاً وفي المواضع التي فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهن في المؤمنين كقوله: «وبشر المؤمنين» مع أنه علم من قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] العموم، فلا يوهم خروج المؤمنين عن البشارة. وأما ههنا فلما كان قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين} متعلّقاً بفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه، أو النصرة (بالمؤمنين) أو الفتح بأيديهم على ما تقدم.
فَإدْخَالُ المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تُقَاتِلُ فلا تدخل الجَنَّةَ الموعدَ بها فصرح الله بِذكرِهِنَّ، وكذا في قوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 35] ؛ لأن الموضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ ... وَآتِينَ ... وَأَطِعْنَ ... واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 3334] فكان ذكر النساء هنا (ك) أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأمر العظيم ذكرهم وذكرهن بفلظ مفرد من غير تبعية لما بينا (أنَّ الأصل ذكرهن في ذلك الموضع) .
قوله: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} فيه سؤال وهو أن تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعد ذكر الإدخال؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الواو لا تقتضي التريتب.
والثاني: أن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة.
قوله: {ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} «عِنْدَا اللهِ» متعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْزاً» لأنه صفته في الأصل. وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً لمَكَان. وفيه خلاف. وأن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الفوز، أي يفوزون عند الله ولا يتعلق «(17/483)
بفَوْزاً» ؛ لأنه مصدر فلا يتقدم معموله عليه. من اغتفر ذلك في الظرف جوزه. قال ابن الخطيب: معناه أن ذلك الإدخال والتكفير في علم الله فوز عظيم يقال: عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي.
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ... } الآية.
اعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع لأمور:
أحدها: أنهم كانواأ شد على المؤمنين من الكافر المجاهر؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه بإيمانه وكان يفشي أسراره. وإلى هذا أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله «اَعْدَى عَدُوكَ نَفْسُكَ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» ولهذا قال الشاعر:
4489 - احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّة ... وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّهْ
فَلَرُبَّمَا (انْقَلَبَ) الصَّدِيقُ ... عَدُوًّا وَكَان أَعْلَمَ بِالْمَضَرَّهْ
وثانيها: أن المنافق كان يظن أن يتخلص بالمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلبه يعذبه فلهذا أول ما أخبر الله عن المنافق.
قوله: {الظآنين بالله} صفة للفريقين. وتقدم الخلاف في السَّوءِ في التَّوبْة. وقرأ الحسن السُّوءِ بالضم فيهما.
فصل
قال المفسرون: ظن السوء هو أن ينصر محمداً والمؤمنين. وقال ابن الخطيب: هذا الظن يحتمل وجوهاً:
أحدها: هو الظن الذي ذكره الله بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول} [الفتح: 12] .
وثانيها: ظن المشركين بالله في الإشراك كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ(17/484)
سَمَّيْتُمُوهَآ} إلى أن قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [النجم: 23 28] .
وثالثها: ظننتم أ، الله لا يرى ولا يعلم كما قال تعالى: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] .
قال: والأول أصح أو يقال: المراد جميع ظنونهم كما قال: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] . ويؤيد ذلك دخول الألاف واللام في السَّوْء. وفي السَّوءِ وجُوهٌ:
أحدها: وهو اختيار المحققين من الأدباء: أن السَّوْسَ عبارة عن الفساد والصِّدق عبارة عن الصلاح، يقال: مررت برجل سَوءٍ أي فاسد، وسكنت عند رجل صِدْق، أي صالح وهو قول الخليل، والزَّجَّاج واختاره الزَّمخشريّ.
(وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال: ساء مِزَاجُهُ (و) ساء خُلُقُه (و) سَاءَ ظَنَّه، كما يقال: فسدَ اللحمُ وفسد الهواء بل كلُّ ما ساء فقد فسد، وكلّ؟ ما فَسدَ فقد سَاءَ غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال تعالى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} [الروم: 30] وقال: {سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] و [المجادلة: 15] و [المنافقون: 2] .
قوله: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} أي دائرة الفساد يعني حاق بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} زيادة على التعذيب «وَلعنَهُمْ» أي الغضب يكون شديداً {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} في العُقْبَى {وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي جهنم.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} تقدم تفسيره. وفائدة الإعادة أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، أو جنود الله أنزلهم قد يكون إنزالهم للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولاً لبيان الرحمة بالمؤمنين كما قال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43] وثانياً: لبيان إنزال العذاب بالنافقين والمشركين.
وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد(17/485)
جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ثم يقربهم زلفى بقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيعبدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله} [التحريم: 6] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنو وهم (الملائكة) ملائكة العذاب آخراً.(17/486)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك بما يفعلون، كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] أنه لا إله إلا الله وكما قال تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] . وهم الأبنياء «وَمُبَشِّراً» من قبل شهادته ويحكم بها «ونَذِيراً» لمن ردَّ شهادته.
ثم بين فائدة الإرسال فقال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعينوه وتنصوره «وَتُوَقِّرُوهُ» أي تُعظموه وتُفخموه، هذه الكنايات راجعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وههنا وقف. ثم قال وتسبحوه، أي تسبحوا الله، يريد يصلوا له بكرةً وَأصيلاً بالغَدََاةِ والعشيّّ.
وقيل: الكنايات راجعة إلى لله تعالى، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه، ويوقروه الله الذي يُعَظِّموه.
قوله: «لِتُؤْمِنُوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليُؤْمِنُوا وما بعده بالياء من تحت رجوعاً إلى قوله المؤمنين والمؤمنات. والباقون بتاء الخطاب (وقرأ الجَحْدريّ يَعَزُّرُوه بفتح(17/486)
الياء وضم الزاي وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي. وابن عباس واليماني ويُعَزِّزُوهُ كالعامَّة إلا أنه بزايَين من العِزَّة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الأحزاب: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 4546] وههنا اقتصر على الثلاثة الأول؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك المقام كان مقام ذكر، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد بالدخول ففصل هناك ولم يفصل هنا.
وثانيهما: أن قوله: «شاهداً» لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك: «وَدَاعِياً» كذلك ههنا لما لم يكن كونه شاهداً ينبىء عن كونه داعياً قال: ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروهُ. وقوله: «بكرة وأصيلاً» يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيَّةً، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفَحْشَاء والمُنْكَر.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يا محمَّدُ بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة، روى يزيدُ بن (أبي) عبيد قال: قلت لسلمةَ بْنِ الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الحديبية؟ قال: على الموت.
قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} خبر «إنَّ الَّذِينَ» و {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} جملة حالية، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله. وقرأ تمام بن العباس: يبايعون للهِ، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونَكَ لأجل الله.(17/487)
قوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعهُ فقد بايع الحقّ.
وقوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنًى واحدٍ، وإما أن تكومن بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان:
أحدهما: قال الكلبي: نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] .
وثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه، ويقال: اليدُ لفلانٍ أي الغلبة والقوة.
وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببابً لحفظ البيعة، فقال تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين.
قوله: «فَمَنْ نَكَثَ» أي نقص البيعةَ {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي عليه وما له {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} أي ثبت على البيعة {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} قرأ أهل العراق فسيُؤتيه بالياء من تحت، وقرأ الآخرون بالنون. والمراد بالأجر العظيم الجنة. وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم.(17/488)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} قال ابن عباس: ومجاهد: يعني أعراب غِفَار، ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، وأشْجَعَ وَأسْلَمَ، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً اسْتَنفَرَ من حول المدينة من الأعراب، والبَوَدِي ليخرجوا معه حَذَراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهَدْي، ليعلمَ الناسُ أنه لا يريد حَرباً فتثاقل كثيرٌ من الأعارب وتخلفوا واعْتَلُّوا بالشغل لظنهم أنه يهزم، فأنزل الله هذه الآية.
قوله: «شَغَلَتْنَا» حكى الكسائي عن ابن مدح أنه قرأ: شَغَّلَتْنَا بالتشديد {أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} يعني النساء والذَّرَارِي أنْ لم يكن لنا من يخلفنا فيهم {فاستغفر لَنَا} تَخَلٌّفَنَا عنك.
فكذبهم الله في اعتذارهم فقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} قرأ الأخوان ضُرًّا بضم الضاد والباقون بفتحها.
فقيل: هما لغتان بمعى كالفَقْر والفُقْر والضَّعف والضُّعْف، وقيل: بالفتح ضِدُّ النفع، وبالضم سُوء الحال فمن فتح قال: لأنه قابله بالنفع، والنفع ضد الضر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدفع عنهم الضر، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر واحد على دفعه {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره.
قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي ظننتم أن العدون يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبد الله: إلَى أهلهم دون ياء، بل أضاف الأهل مفرداً.(17/489)
قوله: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} . قرىء: وزين مبنياً للفاعل أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير. وقيل: كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا. والبُورُ الهلاكُ. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله:
4490 - يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُورُ
ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح.
قوله: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله} يجوز أن يكون (من) شرطية أو موصولة. والظاهر قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.(17/490)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
(قوله تعالى) : {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} {امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني هؤلاء الذين تخلفواعن الحديبية {إِذَا انطلقتم} سرتم وذهبتم أيها المؤمنون {امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني مغانم خيبر {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انطلقوا انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خير، وجعل عنائمهنا لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً من غنائم مكة إذا انصرفوا من الحديبية (منهم على صلح) ولم يصيبوا منهم شيئاً، (لأن قوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وعد للمبايعين بالغنيمة وللمخلفين الحالفين بالحرمان) .
قوله: يُرِيدُ (ونَ) يجوزو أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من «المخلفون» وأن يكون حالاً من مفعلو «ذَرُونَا» .
قوله: {كَلاَمَ الله} قرأ الأخوان كَلِمَ جمع كلمة والبقاون كَلاَم قيل معناه: يريدون أن يغيروا تواعد الله تعالى لأهل الحديبية، بغنيمة خيبر خاصة وقال مقاتل: يعني أمر الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن لا يسيِّر معه منهم أحداً. وقال ابن زيد: هو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما تخلف القوم أطعله الله على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] . والأولى أصوب وعليه أكثر المفسرين.
قوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.
قوله: {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} قرأ أبو حيوة تَحْسِدُونَنَا بكسر السين «بَلْ» للإضْراب(17/491)
والمضروب عنه محذوف في الموضعين عنه محذوف الموضعين أما ههنا فتقديره ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا أي يمنعكم الحد من أن نصيب منكم العنائم {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين {إِلاَّ قَلِيلاً} منهم وهم من صدق الله وروسله.
(فإن قيل: بماذا كان الحسد في اعتقادهم؟
قلنا: كأنهم قالوا: نحن (كنا) مصيبين في عدم الخروج (حيث) رَجَعُوا من الحديبية من غير عدو حاصل، ونحن اسْتَرَحْنَا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا. ثم قال الله تعالى رداً عليهم كما ردوا عليه: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لم يفقهوا من قولك: لا تخرجوا إلا ظاهر النهي، فلم يفهموا حكمة إلاَّ قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد. .) .
قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ} لما قال للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لهم لن تتبعونا، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم، فإنهم لم يبقوا على ذلك، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توتبهم علامة (وهو أنهم يدعون إلى قوم أولي بأس شديد، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ، حيث امتنع من أداء الزكاة، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون: فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن.
والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين:
أحدهما: أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة) وحل الأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبق من المنافقين على النفقا أحدٌ.
الثاني: أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير، والْجَمِّ الغفير، أمسّ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ.(17/492)
( «فصل»
قال ابن عباس ومجاهد: المراد بقوله {قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ} : هم أصحاب فارس. وقال كعب: الروم وقال الحسن: فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد) .
قوله: {أَوْ يُسْلِمُونَ} العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على «تُقَاتِلُونَهُمْ» أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ. وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها.
والنصب بإضمار «أن» عند جمهور البصريين، وب «أو» نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل: يكون قتالٌ أو إسلامٌ. ومثله في النصب قول امرىء القيس:
4491 - فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وقال أبو البقاء: أو بمعنى إلاَّ أَنْ، أو حَتَّى.
( «فصل»
معنى قوله: تقاتلونهم أن يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع؛ لأن «أو» تبين(17/493)
المتغايرين وتُنْبِىءُ عن الحصر، يقال: العدد زوجٌ أو فردٌ، ولهذا لا يصح قوله القائل: هذا زيدٌ أو ابن عمرو؛ أذا كان زيد ابن عمرو؛ إذا علم هذا فقول القائل: أُلاَزِمُكَ أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين: قسم يكون فيه الملازمة، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله: «أُلاَزِمُكَ أو تقضيني» ، كقوله: ألازمك إلى أن تقضيني، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء) .
قوله: {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} يعني الجنة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تُعْرِضُوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} عام الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو النار، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عزّ وجلّ {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} أي في التخلف عن الجهاد {وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} .
وذلك لأن الجهادَ عبارة عن المقاتلة والكرِّ والفَرِّ، وهؤلاء الثلاثةلا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب. وفي معنى الأعرج الأَقْطَعُ المُقْعَد بل أولى أن يعذر، ومن به عَرَجٌ لا يمكنه من الكرِّ والفرِّ لا يعذر، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسُّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يُضْعِفْهُ عن الكرِّ والفر، فهذه الأعذار في نفس المجاهد، وتبقى أعذار خارجة، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من ستصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفلٍ أو مريضٍ.
والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره.
قوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما. وقرآ الآخرون بالياء لقوله: {ومن يطع الله ورسوله} .(17/494)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين ... } الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] عاد إلى بيان حال المبايعين.
قوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} منصوب ب «رَضِيَ» و «تَحْتَ الشَّجَرَة» يجوز أن يكون متعلقاً ب «يُبَايِعُونَكَ» وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول.
( «فصل»
المعنى: يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً، ولا يفروا. وقوله: «تَحْتَ الشَّجَرَة» وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نَسِيناها فلم نقدر عليها. وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين؟ فجعل بعضهم يقول: ههنا، وبعضهم ههنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال: «قَالَ لَنَا رسول الله صلى الله عليه سولم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأَرْبَعَمِائةٍ ولو كنت أبصر اليوم لأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَة. وروى سالم عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لاَ يَدْخُلُ النار أحَجٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) » .
قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء {فَأنزَلَ السكينة} الطمأنينة والرضا «عَلَيْهِمْ»
فإن قيل: الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا؛ لأن علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: إن قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} متعلق بقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} كما تقول: «فَرِحْتُ أَمس إِذْ كَلَّمت زَيْداً فَقَامَ لي، وإذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمِني» فيكون الفرح بعد الإكرام مرتباً كذلك ههنا قال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ ... فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق إشارة ألى أن الرضا لا يكون(17/495)
عند المبايعة (حَسْب بل عند المبايعة) التي كان معها علم الله بصدقهم. والفاء في قوله {فَأنزَلَ السكينة} للتعقيب المذكور، فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم.
وفي قوله: «فَعَلِمَ» لبيان وصف المبايعة يكون (ها) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم.
قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} يعني فتح خيبر. وقوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً} أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ: «يَأخُذُونَهَا» بالغيبة، وهي قراءة العامة، و «تَأخُذُونَهَا» بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلاَبٍ.
فصل
قيل: المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم.
وقيل: مغانم هجر.
{وَكَان الله عَزِيزا} كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه «حَكِيماً» حيث جعل هلاك أعدائه على أيديهم ليثيبكم عليه، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال: يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ.
قوله: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلىيوم القيامة وليس المغانم كل الثواب، بل الجنة قُدَّامهم، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم، ولهذا قال: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني خيبر {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ، وغَطَفَان، ِأن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم.
قوله: «وَلتَكُونَ» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بفعل مقدر بعد تقديره: ولِتَكُونَ (فعلك) فعل ذلك.
الثاني: أنه معطوف على علة محذوفة تقديره: وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون.(17/496)
الثالث: أن الواو مزيدة. والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون.
قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} يثيبكم على الإسلام، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلىخيبر. روى أنسُ بن مالك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن بغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خَيْبَرَ، فانتهينا إليهم، فلما أصبح لم يسمع أذاناً (ركب) وركبتُ خلف أبِي طلحة، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وروى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم:
4492 - تَاللهِ لَوْلاَ اللهُ مَاأهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنضا ... وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتِ الأَقَدْامَ إنْ لاَ قَيْنَا ... وَأَنْزِلَننْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَنْ هَذَ؟ فقال: أنا عامر، قال: غَفَر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد.
قال: فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهُوَ على جمل له: يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْجَبُ يخطر بسيفه يقول:
4493 - قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاَح يَطَلٌ مُجَرِّبُ(17/497)
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ... فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
4494 - أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ ... كَلَيْثِ غابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَه ... أَكِيلُكُمْ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ ... قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
(ومعنى أكليكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسَّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل، والقِسِيُّ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة، والنون زائدة. قال ابن الأثير: وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها) .
وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
قوله: «وأخرى» يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون مرفوعة بالابتداء و {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتها و {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} خبرها.
الثاني: أن الخبر «منهم» محذوف مقدر قبلها، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا.
الثالث: أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى.
(الرابع: أن تكمون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير، بل لِدَلاَلة السِّياقِ، أي ووَعَدَ أُخْرَى، أو وآتاكُمْ أخرى.
الخامس: أن تكون مجرورة ب «رُبَّ» مقدرة، ويكون الواو واو «رب» ذكره(17/498)
الزمخشري. وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف مشهور أهنو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أبا حيان قال: ولم تأت «رُبَّ» جارة في القرآن على كَثْرة دورها، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر. قيل: إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله: {رُّبَمَا} [الحجر: 2] على قولنا: إنّ ما نكرة موصوفةٌ) .
قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} يجوز أن يكون خبراً ل «أُخْرَى» كما تقدم، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها مضمر أو حالاً أيضاَ.
فصل
قال المفسرون: معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقِدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب: تقديره: وعدكم الله مغانم تأخذونها، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء. قال: معنى قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي حفظها لمؤمنيني، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ.(17/499)
واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل: هي فارس والرومُ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام.
وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد: هي خيبر وعدها الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يصيبها ولم يكونوا برجونها. وقال قتادة: هي مكَّة. وقال عِكْرِمَةُ: حُنَيْن. وقال مجاهد: وما فَتَحُوا حتى اليوم، {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ} يعني أسداسً وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ {لَوَلَّوُاْ الأدبار} ، قال ابن الخطيب: وهذا يصلح جواباً لمن يقول: كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها، فقال: ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم. وثم قال {لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} .
قوله: {سُنَّةَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً.
قال ابن الخطيب: وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو: إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ تأثيراتٌ وتغييرات فقال: ليس كذلك، بل سنة الله نصرة رسوله، وإهلاك عدوه، والمعنى: هذه سنة الله في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه {تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} .(17/500)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وهذا تبيين لما تقدم من قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} [الفتح: 22](17/500)
بتقدير الله، كما أنه كف أيهديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم.
روى ثابتٌ عن أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هُبَطُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه فأخذهم سلْماً فاستحياهم فأنزل الله: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} .
قال عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنيّ: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية في اصل الشجرة التي قال الله تعالى «في القرآن» ، وعلى ظهره غُصْنٌ من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهرهِ، وعلي بن أبي طالب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فنادَوْا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جئتم في عهد (أحد) أو هل جَعَلَ لكم أحد أمناً؟ قالوا: اللَّهم لا فَخَلَّى سبيلهم. فأنزل الله هذه الآية.
قوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} قرأ أبو عمرو يَعْلَمُونَ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق قرأ الغيبة فهو رجوع إلى قوله: «أيْدِيَهُمْ» وَ «عَنْهُمْ» . ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله: أيْدِيَكُمْ «و» عَنكُم «، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإنْ كُنْتُمْ لا ترون ذلك.
ثم بين ذلك بقوله تعالى: {ُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر (فيهم) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات.
قوله:» وَالهَدْيَ «العامة على نصبه، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في»(17/501)
صَدُّوكُمْ «وقيل: نصب على المعية. وفيه ضعف، لإمكان العطف. وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على» المَسْجِدِ الحَرَامِ «. ولا بد من حذف مضاف، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ.
والعامة على فتح الهاء وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء. وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش، والهَدِيّ والهَدَا.
قوله: «مَعْكُوفاً» حال من الهدى أي محبوساً، يقال: عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته.
وأنكر الفارس تعدية «عكف» بنفسه، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا. وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.
قوله: {أَن يَبْلُغَ} فيه أوجه:
أحدها: أنه على إسقاط الخافض، أي «عَنْ» أو «مِنْ أن» وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق «صَدُّوكُمْ» وأن يتعلق ب «مَعْكُوفاً» أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ.
الثاني: أنه مفعول من أجله، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد، والتقدير: صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «مَعْكُوفاً» أي لأجل أن يبلغ محله، ويكون الحبس من المسلِمِينَ.
الثالث: أنه بدل من «الهدي» بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.
(فصل
معنى الآية {هُمُ الذين كَفَرُواْ} يعنى كفار مكة «وَصَدُّوكُمْ» منعوكم {عَنِ المسجد(17/502)
الحرام} أن تطوفوا فيه «وَالهَدْيَ» أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانت سبعينَ بدنةً «مَعْكُوفاً» محبوساً، يقال: عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه، وعُكُوفاً، كما يقال: رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مَنْحَرَهُ، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم. ثم قال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} يعني المستضعفين بمكة) .
قوله: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة للصِّنْفين، وغلب الذكور، وقوله: {أَن تَطَئُوهُمْ} يجوز أن يكون بطلاً من «رجال ونساء» ، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ، فالتقدير على الأول: ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ، والخبر محذوف تقديره: ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ.
(وأما جواب «لولا» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه محذوف، لدلالة جواب «لو» عليه.
والثاني: أنه مذكور وهو «لَعَذَّبْنَا» وجواب «لو» هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث: أن «لعذبنا» جوابهما معاً. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك.
وقال الزمخشرري قريباً من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: «لَوْ تَزَيَّلُوا» كالتكرير لِلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون «لَعَذَّبْنَا» هو الجواب.
ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني) .
فصل
المعنى «لم تعلموهم» لم تَعْرِفُوهُم {أَن تَطَئُوهُمْ} بالقتل وتُوقعوا بهم. {فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} . قال ابن زيد إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار، وهي دليل الإثم، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ؛ قال تعالى:
{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [(17/503)
النساء: 92] . وقال ابن إسحاق: غُرم الدية. وقيل: إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.
قوله: «فَتُصِيبَكُمْ» نَسَقٌ على {فَتُصِيبَكمْ} وقوله {أَن تَطَئُوهُمْ} يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مَعَرَّة» وأن يكون حالاً من مفعول «تُصيبُكُمْ» وقال أبو البقاء: مِنَ الضمير المجرور يعني في «منهم» . ولا يظهر معناه. أو أن يتعلق «بتصيبكم» أو أن يتعلق «بتطئوهم» ؛ أي تطئوهم بغير علم.
(فإن قيل: هذا تكرار، لأنه إن قلنا: هو بدل عن الضمير يكون التقدير: لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ؟ .
فالجواب: أن يقال: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من (الذي) يعرّكم ويعيبُ عليكم، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم (مَسبَّة) الكفار «بغير علم» أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه. أو يقال تقديره: لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه. أو نقول: المعرَّة قسمان:
أحدهما: ما يحصل من القتل العمد والعدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ.
والثاني: ما حصل من القتل خطأ وهو عند عندم العلم فقال: تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند العلم) .
والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» وأنشدوا:
4495 - وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ(17/504)
قوله: «لِيُدْخِلَ اللهُ» متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. وقال البغوي: اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكمة بعد الصلح قبل أن يدخلوها.
قوله: «َلوْ تَزَيَّلُوا: قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن تَزَيَلُوا على تَفَاعَلُوا.
والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط، أو على الكافرين، أو على الفريقين. والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم.
قوله (تعالى) : {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} العامل في» إذْ «إِما» لَعَذَّبْنَا «أو» صَدُّوكُمْ «أو» اذْكُر «فيكون مفعولاً به.
قال ابن الخطيب في إذ: يحتمل أن يكون ظرفاً، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له، ويحتمل أن يكون مفعولاً به، فإن قلنا: إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان:
أحدهما: هو قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ} أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام.
وثانيهما: المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين.
فإن قلنا: إنه غير مذكور ففيه وجهان:
أحدهما: حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قولبهم الحمية.
وثانيهما: أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية. وعلى هذا فقوله: «فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ» تفسير لذلك الإحسان. وإن قلنا: إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك(17/505)
الوقت كقولك: اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه. وعلى هذا يكون «إذْ» ظرفاً للفعل المضاف إليه.
قوله: «فِي قُلُوبِهِمْ» يجوز أن يتعلرق ب «جَعَلَ» على أنها بمعنى «أَلْقَى» ، فتتعدى لواحد؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر.
قوله: «حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ» بدل من «الحمية» قبلها، والحمية الأنَفَةُ من الشيء، وأنشدوا للمتلمس:
4496 - أَلاَ إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ ... كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا
وهي المنع، ووزنها فَعِيلَةٌ، وهي مصدر، يقال: حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه (حَمِيَّةً) .
(فصل
المعنى: إذ جعل الذين كفوروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه عن البيت، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله. قال مقاتل: قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللاتِ والعُزَّ لا يدخلونها علينا. فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم) .
قله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم. قال ابن الخطيب: دخول الفاء في قوله: {فَأَنزَلَ الله} يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إِذْ» ظرف لفعل مقدر كأنه قال: أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا. «فأنزل» تفسير لذلك الإحسان، كما يقال: «اَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام. ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول: أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ.
(قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين: كلمة التقوى لا إله إلا الله.
وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً. وقال عليٌّ وابنُ عرم: كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء(17/506)
قدير. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: هي الوفاء بالعَهْد) .
قوله: {وكانوا أَحَقَّ بِهَا} الضمير في «كانوا» يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار، وقيل: يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ.
(فصل
قال البغوي: وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير، قال ابن الخطيب: قوله: «أحق بها» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً (ما) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك.
الثاني: أن يكون لا للتفضيل كما في قوله {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] ، {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] ؛ إذ لا خير في غيره {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} ) .(17/507)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا} . «صَدَقَ» يتعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، يقال صَدَقََكَ فِي كَذَا، وقد يحذف كهذه الآية، وقوله: «بِالحَقِّ» فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «صَدَقَ» .
الثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صِدْقاً مُلْتَبِساً بالحَقِّ.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا، أي ملتبسةً بالحق.
الرابع: أنه قسم وجوابه: لَتَدْخُلُنَّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا، ويبتدأ بما بعدها.(17/507)
(قال الزمخشري. وعلى تقديره قَسَماً إما أن يكون قَسَماً بالله فإن الحقَّ من أسمائه، وأما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.
وقال ابن الخطيب: ويحتمل وجهين آخرين:
أحدهما: فيه تقديرم وتأخير تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق.
الثاني: أن يقال تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيراً للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي وَاللهِ لَتَدْخُلُنَّ.
فصل
ذكر المفسرون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويَحْلِقُونَ رُؤُسَهُمْ ويُقَصِّرونَ، فأخبر أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامَهُم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقَّ عليهم ذلك فأنتزل الله هذه الآية.
وروى مُجَمَّعُ بنُ جارية الأنصاريُّ قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما انصرفنا عنها إذ النَّاسُ يهزّون الأبَاعِرَ فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قالوا: أُوحيَّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال: فخرجنا نزحف فوجدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واقفاً على راحلته على كرَاع الغَمِيم، فلما اجتمع الناس قرأ: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» فقال عمر: أَوَ فَتحٌ هو يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده. ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان ف يالعام المقبل فقال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} أراها إياه في مَخْرَجِهِ إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجِدَ الحَرَامَ صدق وحق) .
قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» جواب قسم مضمر أو لقوله: «بالحَقِّ» على ذلك القول. وقال أبو البقاء: و «لَتَدْخُلُنَّ» تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله لتدخلن، فجعل كونه جواب قسم قسماً تفسيراً للرؤيا. وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيراً للرؤيا غير جواب القسم، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيراً وأن يكون مستأنفاً غير تفسير، وهو تفسير من عبارته.
قوله: {إِن شَآءَ الله} فيه وجوه:(17/508)
أحدها: أنه ذكره تعظيماً للعبادة الأدب كقوله تعالى:
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 و24] .
الثاني: أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول، ويأبون الصلح قال: لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تَدْخُلُنَّ بمشيئة اله (تَعَالَى.
الثالث: أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزَّل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لتدخلن» ذكر أنه بمشيئة الله) تعالى، لأن ذلك من الله وَعْدٌ، ليس عليه دينٌ ولا حقٌّ واجبٌ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله، وإلا فلا يلزمه به أحدٌ.
(فصل
قال البغوي: معناه وقال لتدخلن. وقال ابن كيسان: لَتْدخُلُنَّ من قوله رسول الله صلى لله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدباً بأدب الله تعالى حيث قال: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 و24] . وقال أبو عبيدة: «إِلاَّ» بمعنى إذ مجازه إذْ شَاءَ شالله كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذْ شَاءَ الله. وقيل: الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول؛ لأن الدخول لم يكن فيهن شك كقول النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند دخول القبر: «وإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَ حِقُونَ» فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت) .
قوله: «آمِنينَ» حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ وكَذَا «مُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ» . ويجوز أن تكون «مُحَلِّقِينَ» حالاً من «آمِنينَ» فتكون متداخلةً.
فصل.
قوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله: «لَتَدْخُلُونَّ» إشارة إلى الأول وقوله: «محلقين» إشارة إلى الآخر.
فإن قيل: محلقين حال الداخلين، والدَّاخل لا يكون إلا مُحْرِماً والمحرم لا يكون مُحَلّقاً.(17/509)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
(فالجواب: أن قوله: «آمِنينَ» مُتَمَكِّنِين من أن تُتِمُوام الحجَّ مُحَلِّقِينَ) .
قوله: «لاَ تَخَافُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً ثالثةً، وأن يكون حالاً (إما) من فاعل لتدخلن، أو من ضمير «آمنين» أو «محلِّقين أو مقصرين» فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله: «لا تخافون» إذا جعل حالاً فإنها مقارنة أيضاً.
فإن قيل: قوله: «لا تخافون» معناه غير خائفين، وذلك يحصل بقوله تعالى: {آمِنِينَ} فما الفائدة في إعادته؟
فالجواب: أن فيه كمال الأمن؛ لأن بعد الحق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحْرَمَ ومن دَخَلَ الحَرَمَ فقال: تَدْخُلُونَ آمِنِينَ وتَحْلِقُوَ، ويبقى أَمنُكُمْ بعد إحلالكم من الإحْرَام.
قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي ما لم تعلموا من المصلحة، وأن الصلاح كان في الصلح، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهوقوله تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ... } [الفتح: 25] الآية.
(فإن قيل: الفاء في قوله: «فعلم» فاء التعقيب، فقوله «فعلم» عقبت ماذا؟ .
فالجواب: إن قلنا: إن المراد من «فَعَلِم» وقت الدخول فهو عقيب صَدَقَ، وإن قلنا: المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب. والتقدير: لما حصلت المصلحةُ في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة.
{فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من قبل دخولهم المسجد الحرام «فَتْحاً قَرِيباً» وهو فتح الحديبية عند الأكْثَرين. وقيل: فتح خيبر. ثم قال: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26] وهذا يدفع وَهَمَ حدوثِ علمه في قوله: «فَعَلِمَ» ؛ لأن قوله: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26] يفيد سَبْقَ علْمِهِ) .
قوله
تعالى
: {هُوَ
الذي
أَرْسَلَ
رَسُولَهُ
بالهدى
} وهذا تأكيد لبيان صدق في(17/510)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
الرؤيا؛ لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي، لا يريد ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال. ويحتمل أن الرؤيا الموافقة للقواقع قد تقع لغير المرسل، ولكن ذلك قليل لا يقع لكل أحد فقال تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} وحكى له ما سيكون في اليقظة فلا يبعد أن يُرِيَه في المنام ما سيقع ولا استبعاد في صدق رؤياه وفيها بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة. والهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] وعلى هذا دين الحق هو ما فيه من الأصول والفروع. ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة.
فيكون قوله: «وَدِينَ الحق» إشارة إلى ما شرع. ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصولَ ودين الحق هو الأحكام. والألف واللام في «الهدى» يحتمل أن تكون للعهد وهو كقوله: {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ} [الأنعام: 88] وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هُدًى.
قوله: «وَدِينَ الْحَقِّ» يحتمل أن يكون المراد دين الله تعالى؛ لأن الحق من أسماء الله، ويحتمل أن يكون الحقُّ نقيضَ الباطل، فكأنه قال: دين الأمر الحق، ويحتمل أن يكون المراد الانقياد للحق، وقوله: أرسله بالهدى وهو المعجزة على أحد الوجوه {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي جنس الدين {وكفى بالله شَهِيداً} على أنك صادق فيما تخبر وفي أنك رسول الله. وهذا في تسلية قلب المؤمنين فإنهم تأَذوا من ردِّ الكفَّار عليهم العهد المكتوب وقالوا: لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله، بل اكتبوا محمد بن عبد الله، فقال تعالى: {وكفى بالله شَهِيداً} أي في أنه رسول الله.
قوله
: {مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ
اللهوَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
قوله: " محمد رسول الله " يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر؛ لأنه لما تقدم «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله» دل على ذلك المقدر، أي هو أي الرسول بالهُدَى محمد و «رسول الله» بدل أو بيان، أو نعت. وأن يكون مبتدأ وخبراً، وأن يكون مبتدأ و «رسول الله» على ما تقدم من البيان والبدل، والنعت «والذين معه» عطف على محمد والخبر «عَنْهم» .(17/511)
قوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} (قال ابن الخطيب: كأنه قال: «الذين معه» جميعهم {أشداء الكفار رحماء بينهم} لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وأما في حق النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقوله تعالى: {واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] . وقال في حقه: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
وعلى هذا فقوله: «تَرَاهُمْ» لا يكون خطاباً مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بل يكون عاماً خرج مَخْرَج الخطاب تقديره تراهم أيها السامع كائناً من كان) . وقرأ ابن عامر في رواية: رَسُولَ اللهِ بالنصب على الاختصاص وهي تؤيد كونه تابعاً لا خبراً حالة الرفع.
ويجوز أن يكون «وَالَّذِينَ مَعَهُ» على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي ورسول الذين آمنوا معه لأنه لما أرسل إليهم أضيف إليهم فهو رسول الله بمعنى أن الله أرسله ورسول أمته بمعنى أنه مرسل إليهم ويكون «أشداء» حينئذ خبر مبتدأ مضمرم أي هُمْ أَشِدَّاءُ. ويجوز أن يكون تَمَّ الكلامُ على «رَسُول اللهِ» و «الَّذين مَعَهُ» و «أشِدَّاء» خبره. وقرأ الحسن: أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بالنصب إما على المَدْح وإمَّا على الحال من الضمير المستكِنّ في «مَعَهُ» ؛ لوقوعه صلة، والخبر حينئذ عن المبتدأ قوله «تَرَاهُمْ ركعاً» و «رُكَّعاً سُجَّداً» حالان؛ لأن الرؤية بصرية، وكذلك «يَبتَغُونَ» . ويجوز أن يكون مستأنفاً. وإذا كان حالاص فيجوز أن تكون حالاً ثالثة من مفعول «تَرَاهُمْ» وأن تكون من الضمير المستتر في «رُكَّعاً سُجَّداً» . وجوز أبو البقاء أن يكون «سُجَّداً حالاً من الضمير في» رُكَّعاً «حالاً مقدرةً. فعلى هذا يكون» يَبْتَغُونَ «حالاً من الضمير» سُجَّداً، فيكون حالاً من حال، وتلك الحال الأولى حالٌ من حالٍ أخرى. وقرأ ابن يَعْمُرَ أَشِدًّا بالقصر والقَصْرُ من ضرائر الأشعار كقوله:(17/512)
4497 - لاَ بُدَّ مِنْ صَنْعَا وإنْ طَالَ السَّفَرْ..... ... ... ... ... ... ... ... .
فلذلك كانت شاذة. وقال أبو حيان: وقرأ عمرو بن عبيد: ورُضْوَاناً بضم الرءا قال شهاب الدين: وهذه قرءاة متواترة، قرأ بها عاصمٌ في رواية أبي بكر عنهُ، وتقدمت في سورة آل عمران واستثنيت له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة.
فصل
معنى الآية: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} أي غِلاظٌ عليهم كالأسد على فريسته، لا تأخذهم فيهم رأفة «رُحَمَاءُ بينهم» متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض كالوالد مع الوَلَد كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] و {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} خبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله} ، أن يدخلهم الجنة «وَرِضْوَاناً» أي يرضى عنهم. وهذا تمييز لركوعهم وسجودهم عن ركوع الكافر وسجوده وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.
قوله: «سِيمَاهُمْ» قرىء سِيماؤُهُمْ بياء بعد الميم والمد. وهي لغة فصيحة، وأنشد (رَحِمَهُ اللَّهُ عليه) :
4498 - غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمْيَاءُ لا تُشَقُّ عَلَى البَصَر
وتقدم الكلام عليها وعلى اشتاقها في آخر البقرة.(17/513)
و «فِي وُجُوهِهِمْ» خبر «سِيمَاهُمْ» و {مِّنْ أَثَرِ السجود} حال من الضمير المستتر في الجار وهو «في وُجُوهِهِمْ» . وقرأ العامة «مِن أَثْرِ» بفتحتين. وابن هرمُز بكسر وسكون. وقتادة «مِنْ آثار» جمعاً.
فصل
المعنى علامتهم في وجوههم من أثر السجود. قيل: المراد سيماهم نورٌ وبياضٌ في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . رواه عطيةُ العَوْفيُّ عن ابن عباس: وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارة وجوههم من كَثْرَةِ صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وروي البوالبيُّ عن ابن عباس: هو السَّمْتُ الحسن والخشوعُ والتواضع وهو قول مجاهد. والمعنى أن السجود أورثهم الخشوعَ والسَّمْتَ الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: صفرة الوجوه. وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو أثر التراب على الجِبَاه. وقيل: المراد ما يظهر في الجباه بكثرة السجود.
قوله: «ذَلِكَ مَثَلُهْمْ» ، «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من وصفهم بكونهم أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ لهم سِيمَا في وجوههم وهو مبتدأ خبره «مَثَلُهُمْ» و «فِي التَّوْرَاةِ» حال من «مَثَلَهُمْ» والعامل معنى الإشارة.
قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} يجوز فيه وجهان:
أحدهما أنه مبتدأ وخبره «كَزَرْعٍ» فيوقف على قوله: «فِي التَّوْرَاةِ» فهما مَثَلانِ.
وإليه ذهب أبن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) :
والثاني: أنه معطوف على «مَثَلُهُمْ» الأول فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ويوقف حينئذ على: ف يالإنجِيلِ وإليه نحا مُجاهدٌ، والفراء.
وعلى هذا يكون قوله «كَزَرْعٍ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسر بها المثل المذكور.(17/514)
الثاني: أنه حال من الضمير في «مَثَلُهُمْ» أي مُمَاثِلِينَ زَرْعاً هذِهِ صفَتُهُ.
الثالث: أنها نعت مصدر محذوف أي تمثيلاً كزرعٍ. ذكره أبو البقاء.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة مبهمةً أوضحت بقوله: «كزرع» ، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ} [الحجر: 66] .
قوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} صفة ل «زَرْع» . وقرأ ابنُ ذَكوَان بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر. وقرأ أبو حَيْوة: شَطَاءَهُ بالمد. وزيد بن على: شَطَاهُ بألف صريحة بعد الطاء فيحتمل أن تكون بدلاً من الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها على لغة من يقول: المِرَاةُ والكَمَاةُ بعد النقل. وهو مقيسٌ عند الكوفيين. ويحتمل أن يكون مقصوراً من الممدود. وأبو جعفر ونافع في رواية «شَطَهُ» بالنقل والحذف. وهو القياس. والجَحْدَريُّ شَطْوَهُ أبدل الهمزة واواً، أو يكون لغة مستقلة. وهذه كلها لغات في فِرَاخ الزرع، يقال: شَطَا الزرعُ وأَشْطَأ أي أخْرَجَ فِرَاخَهُ. وهل يختص ذلك بالحِنْطَةِ فقط أو بها وبالشعير فقط أو لا يختص خلافٌ مشهور. قال الشاعر:(17/515)
4499 - أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ الأَشْجَارِ أفنانُ الثَّمَرْ
قوله: «فآزَرَهُ» العامة على المد وهون على «أَفْعَلَ» . وَغَلَّطوا من قال: إنه فاعل كَجَاهَرَ وغَيْرِه بأنه لم يسمع في مضارعه: يُؤَازِرُ على يؤزر. وقرأ ذكوان: فَأَزَرَه مَقصُوراً، جعله ثلاثياً. وقرىء «فأزَّرَهُ» بالتشديد. والمعنى في الكل: قوّاه. وقيل: ساواه، وأنشد:
4500 - بِمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضَّال نَبْتُهَا ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ
قوله: «عَلَى سُوقِهِ» متعلق ب «اسْتَوَى» . ويجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها.
وقد تقدم في النمل أن قنبلا يقرأ سؤقه بالهمزة الساكنة. كقوله:
4501 - أَحَبُّ المُؤْقِدِينَ إلَيَّ مُؤْسَى..... ... ... ... ... ... ... ... ... .(17/516)
بهمزة مضمومة بعدها واو كعروج وتوجيه ذلك. والسُّوق جمع سَاقٍ.
( «فصل» .
قال المفسرون: يقال: أشطأ الزرع فهو مُشْطِىء إذا خَرَجَ. قال مقاتل: هو نبت واحد فإذا خرج بعده فهو شطء. وقال السُّديّ: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى «فَآزَرَهُ» قَوَّاهُ وأَعَانَهُ وشدَّ أزره «فَاسْتَغْلَظَ» غَلُظَ ذلك الزرع «فَاسْتَوَى» تَمَّ وَتَلاَحَقَ نَبَاتُهُ عَلَى سُوقِهِ أصوله: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» أي أعجب ذلك زُرَّاعَهُ هذ مثل ضربهُ الله لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإنجيل أنهم يكونوا قَليلاً ثم يَزْدَادُونَ وَكْثُرُونَ. قال قتادة: مَثَلُ أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإنجيل مكتوب له سيخرج قومٌ يَنْبتُونَ نبات الزرع يأمُرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر. وقيل: الزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والشطء أصحابه والمؤمنون. روى مبارك بن فُضَالة عن الحَسَن قال: محمد رسول الله والذين معه: أبو بكر الصديق {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} عمر بن الخطاب {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} عثمان بن عفان {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} على بان أبي طالب «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ رَبِّهِمْ» العشرة المبشرن «كَمَثَلِ زَرْعٍ» محمد {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أبو بكر {فَآزَرَهُ فاستغلظ} عثمان (بن عفان) يعني استغلظ عثمان بالإسلام {فاستوى على سُوقِهِ} علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه {يُعْجِبُ الزراع} قال: المؤمنون {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} فعل عمر لأهل مكة بعدما أسلم لا يُعبد الله سرًّا بعد اليوم.
روى أنس بن مالك: رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أَرْحَمُ (أصْحَابِ) النَّبِيِّ أبُو بَكْرس، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حُبًّا عُثْمَانُ وَأَفْرَضُهُمْ زيدٌ، وَأَقْوَأُهُمْ أبيٌّ، وَأَعْلَمُهُمْ بالحلال وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّة أَمِينٌ وَأَمِين هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ» ، وفي رواية أخرى: «وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ» وروى بريدةُ عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِي بِأَرْض كان نُورَهُمْ وَقَائِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) » .
قوله: {يُعْجِبُ الزراع} حال أي معجباً. وها تم المَثَلُ.
قوله: «لِيَغِيظَ» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه متعلق ب «وَعَدَ» ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعزِّ المؤمنين في الدنيا وما أد لهم في الآخرة غَاظَهُمْ ذلك.(17/517)
الثاني: أن يتعلق بمحذوف دل عليه تشبيهُهُمْ بالزرع في نمائِهِمْ وتقويتهم. قاله الزمخشري، أي شبههم الله بذلك ليغيظ.
الثالث: أن يتعلق بما دل عليه قوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار ... .} إلى آخره أي جعلهم بهذه الصفات ليغيظ.
قال مالك ابن أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) «مَنْ أصْبَحَ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَدْ هَذِهِ الآيَةُ» . وقال عليه الصلاة السلام: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ عَرَضاً بَعْدِي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن أذاهم فقد آذاني فَقَدْ أَذَى الله فَيُوشِكُ أَنْ يَأخُذَهُ» .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ تَسُبّثوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهِم وَلاَ نَصِيفَهُ» .
قوله: {لْكُفَّارَ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم} «مِنْ» هذه للبيان، لا للتبعيض؛ لأن كلهم كذلك فهي كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .
وقال الطبري: منهم يعني من الشطء الذي أخرج الزرع، وهم الداخلون في الإسلام إلىيوم القيامة، فَأَعَادَ الضمير على معنى الشطء لا على لَفْظِهِ فقال: «مِنْهُمْ» ولم يقل: مِنْه وهو معنًى حَسَنٌ.
فصل
قد تقدم الدكلام على الأجر العظيم والمغفرة مراراً. وقال ههنا في حق الراكعين السَّاجدين: إنهم يَبْتَغُونَ فضلاً من الله ورِضْواناً وقال: لهم أجر «ولم يقل: لهم ما يطلبوا (نَ) هـ من الفضْل؛ لأن المؤمن عند العمل لم يلتَفِتْ إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتدّ به فقال: لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نَزْرٌ لا يكون له أجرٌ والله تعالى آتاه من طلب الفضل، وسماه أجراً إشارةً إلى قبوله عمله ووقوعه الموقع.(17/518)
روى أنه من قرأ أول ليلة من رمضان: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فِي التَّطَوع حُفِظَ في ذلك العام (انتهى) . (اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ رِضَاكَ والْجَنَّة وأَعوذُ بك من سَخَطِكَ والنَّارِ) .(17/519)
سورة الحجرات(17/520)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
مدنية وهي ثماني عشرة آية، وثلثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. وفيها وجهان:
أحدهما: أنه معتمدٍّ، وحذف مفعوله إما اقتصاراً كقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وكقولهم: «هُوَ يُعْطِي وَمْنَعُ» ، وكُلُوا واشْرَبُوا «وإما اختصاراً للدلالة عليه أي لا تقدموا مالا يصلح.
والثاني: أنه لازم نحو: وَجه وتَوَجَّه. ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك: لاَ تَقَدَّمُوا بالفتح في الثَّلاَثَةِ. والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين. وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات البَزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضاً محذوف أَيْ لا تَتَقَدَّموا إلىأمر من الأمور.(17/520)
وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقال: لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ، وعَلاَ شَأْنُهُ.
وقرىء: لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ.
فصل
فصل في بيان حسن الترتيب وجوه:
أحدهما: أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلح، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.
الثاني: أنه تعالى لما بين علو درجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال: لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.
الثالث: أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ماأورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة قوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 29] ، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في يهذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم (ولا تقدموا) .
فصل في سبب النزول
روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قال الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ، وقال:» من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ «وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال أبو بكر: أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ماأردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ؛ قال (ابن) الزبير: فكان(17/521)
عمر لا يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (بعد هذه الآية) حتى يستفهمه. وقيل: نزلت في جماعة أكثروا من السؤال. وقال مجاهد: لا تَفْتَاتُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله. قال ابن الخطيب: والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ.
فصل
ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان فيهو بين يديه ناظر إليه. وفي قوله: {بين يدي الله ورسوله} فوائد:
إِحْدَاهَا: أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس غليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان: فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم.
وثانيها: ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره، لأن احترام الرسول احترام للمرسل، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله: «بين يدي الله» أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم. وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.
وثالثها: أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر، وهو قوله: «واتّقوا الله» لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله: وَاتَّقُوا الله «أي في تضييع حقه، ومخالفة أمره {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لأقوالكم،» عَلِيمٌ «بأفعالكم.(17/522)
قوله (تعالى) : {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد، كقول لقمان لابنه: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] ، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك.
ومنها: أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعادة مرة أخرى وقال: يا زيد قل كذا (يا زيد قل كذا (وقل كذا)) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك: يَا زَيْدُ لا تَنْطٌ ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.
فصل
قوله: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] .
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد. قال المفسرون: معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينداي بعضكم بعضاً. روى أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: «لما نزل قوله(17/523)
تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال: أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سعدَ بْنَ معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ: إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال ثابتٌ: أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل هو من أهل الجنة» .
«وروى لمانزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال: ما يُبكِيكَ يا ثابتُ؟ . قال: هذه الآية أتخوف أن تكمونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها: إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال: لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتى عاصمٌ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال: اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الي رآه فيه فلم يجدْه، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ بي بيت الفرس فقال له إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوك فقال له: اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يُبْكِيكَ يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأخاف أن تكمون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتضلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة؟ فقال: رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فأنزل الله {الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} الآية. قال أنس: فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزت طائفةٌ منهم فقال: أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له: اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزَ درعي فذهب بهاوهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن (به) في طِوَله، وقد وضع على درعي بُرْمَةً؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقُلْ له: إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ (عنِّي) ، وفلان (وفلان) من رقيقي عتيق.
فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ.
قال مالك بنأنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه.(17/524)
قوله: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} قال ابن الخطيب: إن قلنا: (إن) المراد من قوله: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله: «ولاَ تَجْهَرُوا» يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا: المراد بالرفع الخطاب فقوله: «لاَ تَجْهَرُوا» أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو (نَ) غيره.
واعلم أن قوله تعالى: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] ، وقوله: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله: {يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} [لقمان: 17] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل: ما الفائدة من قوله: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول} مع أن الجهر مستافد من قوله: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} ؟ .
فالجواب: أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو (نَ) لنظرائكم بل اجعلوةا كلمته عُلْيَا.
قوله: «أنْ تَحْبَطَ» مفعول من أجله. والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله: «لاَ تَرْفَعُوا» و «لاَ تَجْهَرُوا لَهُ» يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين. والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ.
وقال أبو البقاء: إنها لام الصّيرورةِ و {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} حال.
فصل
معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ. وقوله: {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نداماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة(17/525)
من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين.
فقوله: {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب.
قوله: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} أي إجلالاً له {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله: {أولئك الذين} يجوز أن يكون «أولئك» مبتدأ «والذين» خبره والجملة خبر «إِنَّ» ويكون «لهم مَغْفِرَةٌ» جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ امْتَحَنَ (الله قُلُوبَهُمْ) » صفة «لأولئك» أوة بدلاً منه أو بياناً و «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» جملة خبرية.
ويجوز أن يكون «لهم» هو الخبر وحده و «مَغْفِرَةٌ» فاعل به واللام في قوله: «لِلْتَّقْوَى» يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك: أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل. وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المقتدمخ، كقولك: جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني: أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك: جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه علىأنفسهم. على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله(17/526)
بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وقد تقدم الكلام عن ذلك.(17/527)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله (تعالى) : {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} هذا بيان لحال من كان في (مقابلة من تقدم، فإن الأول غَضَّ صوته، والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه:)
أحدهما: النداء، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ.
الثاني: النداء من وراء الحجرات، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيئَ بل يجيئه من مكانه وكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.
الثالث: قوله «الحجرات» يدل على كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته (في) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة.
قوله: «مِنْ وَرَاء» «مِنْ» لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن «مِنْ» يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال: لأ، الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له.
وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو: أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ.
والعامة على الحُجُرَات بضمتين وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها. وابن أبي عبلَة(17/527)
بإسكانها. وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله: «في ظُلُمَاتٍ» .
الحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة. قال البغوي: الحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ.
فصل
ذكروا في سبب النزول وجوهاً:
الأول: قال ابن عباس: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سريّةً إلى بني العَنْبر، وأمر عمليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ، فلما علما هربوا وتركوما عيالهم، فَسَبَاهُمْ عيينة، وقدم (بهم) على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكانت لكل امرأة من نساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حُجْرةٌ فجعلوا أن يخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا يا محمد: فادنا عيالنا، فنزل جبريل (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بين وبنيهم رجلاً فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم؛ قال سبرة: أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور: أرى (أن) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم. فأنزل الله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وصفهم بالجهل وقلة العقل.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد فإنن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقول إنما ذلك اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما بالشعر بُعِثْتُ، ولا بالفخر أُمِرْتُ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل(17/528)
قومه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لثابت بن قيس بن شِمَاس، وكان خطيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قُمْ فَأَجِبْهُ فأجَابَهُ. وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحسَّان بن ثاتب: أجبهُ فأجابهُ، فقام الأقرع بن حابس فقا: إن محمداً المؤتَى له، تكلم خطيبنا، فكان خطبيهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً، ثم مدنا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أشه أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَلظُ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل فيهم: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... } [الحجرات: 2] الآيات الأربع إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمدُ يا محمد، فأنزل الله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ ... } الآية.
فصل
في قوله: «أكثرهم» وجوه:
أحدها: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازاً عن الكذب واحتيادطاً في الكلام، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول: أنَا مع إحاحة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم.
الثاني: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله: إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف: زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ذكرنا. إذا علم هذا فهم بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم(17/529)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
إذا اعتبرتهم مع غيرها. فقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إشارة إلى ما ذكرنا.
الثالث: لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال: أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم.
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} تقدم مثله. وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم. وجعل اسم أن ضميراً عائداً على هذا الفاعل. وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحنيئذ يكمون اسم «أَنَّ» ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل.
قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يحتمل أمرين:
أحدهما: غفور لسوء صنعهم في التعجيل.
وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم.
ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصلح. وقوله: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} كالصبر لهم.
قوله
تعالى
: {يا
أيها
الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} قال المفسرون: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتَّهمُهمْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعث خالدَ بنَ الوليد(17/530)
خفْيةً في عسكره وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خال ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبره فنزل {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بن عقبة «بِنَبأ» بخبر، {فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجالهة {فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ} من إصابتكم بالخَطَأ، «نَادِمينَ» .
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينقل عنه أنه قال: وردت الآية لبيان ذلك حسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقوله: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] إلى غير ذلك؟! .
فصل
دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين:
أحدهما: أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.
الثاني: أنه تعالى قال: {أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} ، والجهل فو الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ.
قوله: «أَنْ تُصِيبُوا» مفعول له كقوله: أَنْ تَحْبَطَ «. قال ابن الخطيب: معناه على(17/531)
مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا، وعلى مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا.
قال: ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فقوله:» بِجَهَالةٍ «في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَهلينَ، ثم حقق ذلك بقوله: {فتبحوا على ما فعلتم نادمين} . وهذا بيان، لأن الجاهل لا بد وأن ينقدم على فِعْلِهِ. وقوله:» تصبحوا «معناه تصيبوا. قال النحاة: أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: بمعنى دخول الإنسان في الصباح.
والثاني: بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال: أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير.
الثالث: بمعنى صار كقوله:» أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً «أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ.
وهذا هو المراد من الآية. وكذلك» أمسى وأَضْحَى «. قال ابن الخطيب: والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متسوطة؛ فمثال الأول قوللك: صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ. ومثال الثالث قولك: صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به. وإذا علم هذا فنقول: أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط، لا يقال: أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً، لأنَّا نقول: إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه. وإذا علم هذا فقوله تعالى» فَتُصْبِحُوا «أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ، وكذلك في قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون.
قوله:» نَادِمينَ «الندم هَمٌّ دائم، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل: أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه: المَدِينَةُ.(17/532)
قوله: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا.
قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله:» فِيكُمْ «وإمَّا من المرفوع المستتر في» فِيكُمْ «لوقوعه خبراً.
ويجوز أن يكون مستأنفاً، إلا أنّ الزمخشري منع هذا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً. وأتى بالمضارع بعد «لو» دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ.
فصل
نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال: وجه التعليق هو أن قوله: «لو يطيعكم» في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله: فيكم، والتقدير: كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ.
ثم قال: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} . وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» . قال الزمخشري: اكتفى بالتغير في الصفة واختصر، ولم يقل: حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى: «لَوْ يطيعكم» بدل «أطاعكم» إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها. وههنا كذلك غن لم يحصل الخالفة بصريح اللفظ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك، لأن المخاطبين أولاً بقوله: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا ما قاله الزمخشري، واختاره وهو حسن قال: والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} واكشفوا. (ثم) قال بعده:(17/533)
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة: هذا الشَّيْخُ قاَعئدُ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل ألأحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد كفيه حيف ولا يروج عليه زيف. والذي يدل عليه أن المراد من قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
قوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.
فصل
{حبب إليكم الإيمان} فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزَّيَّنَهُ» حسنه «فِي قُلُوبِكُمْ» حتى اخترتموه {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يريد الكذب «والعِصْيَانَ» جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال: {أولئك هُمُ الراشدون} .
فصل
قال ابن الخطيب: بعد ذكره الكلام المتقدم: وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل:
المسألة الأولى: لو قال قائل: إذا كان المراد بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله} الرجوع إليه فلم يصرح بقوله: «فَتَبَيَّنُوا» وراجعوا النبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول: فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم: هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعهة من قوله: رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم(17/534)
بقعوده فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال: راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.
فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: «لَوْ يُطِعُكُمْ» بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟ .
نقول: بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله: «ليس فيهما آلهة» لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال: لا يطيعكم لقائل قائل: لِمَا لاَ يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال: لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم في لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.
واعلم أن في قوله: {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] .
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به؟ .
قلنا: لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذا ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة، بخلاف الشك، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً علهي لم يقل: فلا تتوقفوا بل قال: حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ.
فصل
قال ابن الخطيب: معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم، ثم زينه(17/535)
فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً: حبب إليكم الإيمان، وقال ثانياً: وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} قال ابن الخطيب: هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان. وأما الفسوق فيل: هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق} [الحجرات: 11] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعهة لقولهم: فسقت الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ. وأم العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم: الكفر ظاهر، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة.
قوله: «فَضْلاً» يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله. وفيما ينصبه وجهان:
أحدهما: قوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله: {أولئك هُمُ الراشدون} .
والثاني: أنه الفعل الذي فوي قوله «الرّاشدون» . وعلى هذا يقال: فكيف حاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل؟ . وأجاب الزمخشري: بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي كون متفضِّلاً عليه، منعماً في حقهم، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه. وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله. قال أبو حيان: وليس من مواضع إضمار كان، وجعل كلامه الأول اعتزالاً. وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه.(17/536)
ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأنها فضل إيضاً، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه.
وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى: {أولئك هُمُ الراشدون} وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة، قال: لأن قوله: فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني. والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة. وهذا يؤكد قولنا: أن ينتصب «فضلاً» بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ.
ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفيه مناسبات:
منها: أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال: فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم، ولا يقل كقوله المنافق: «لَوْلاَ يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ» فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته.
وثانيها: لما قال تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ} بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي «فإن الله عليم» يعلم من يكذبه «حكيمٌ» بأمره بما تقتضيه الحكمة.(17/537)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ... } الآية. لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال: فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائتفين من المؤمنين {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي} أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كانو عو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما.
فصل
الضمير في قوله: «اقْتَتَلُوا» عائد أفراد الطائفتين كقوله (تعالى) : {هذان(17/537)
خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] والضمير في قوله: «بينهما» عائد على اللفظ.
وقرأ ابن أبي عبلة: اقْتَتَلَتَا مراعياً للَّفْظِ. وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين، أو لأنه تأنيث مجازي.
فصل
روى أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ (ابْنِ سَلُول) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه سولم وركب حماراً (وانطلق المسلمون يمشون معه) وهو بأرض سَبِخَةٍ، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فعضب لكل واحد منهم أصحابهُ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وقال قتادة: نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضم بعضاً بالأيدي والنعال و (وإننْ) لم يكن قتال بالسيوف. وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا.
فصل
قوله: «وَإنْ طَائِفَتَانِ (من المؤمنين) ِإشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوئف المسلمين.
فإن قيل: نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟
فالجواب: أن قوله تعالى: {إنْ} إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادراً،(17/538)
غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك: «إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ» إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح، وقال: «وَإنْ طَائِفَتَانِ» ولم يقل: «فِرْقَتَان» تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 122] .
فصل
قال: من المؤمنين ولم يقل: منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه، كقول السيد لعبده: إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول: أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ، كذلك ههنا.
فصل
قال: وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل: فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة «إن» اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة، والمدلول عليها بكلمة إنْ، وذلك لأن كونهما طائتفين (مؤمنتين) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.
فإن قيل: فِلَم لَمْ يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ «جَاءَكُمْ» أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟
فالجواب: أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال: إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به. ولو قال: إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ.
فصل
قوله تعالى: {أقْتَتَلُوا} ولم يقل يَقْتَتِلُوا (بصيغة الاستقبال} ؛ لأن صيغة الاستقبال(17/539)
تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال: فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ.
فصل
قال: «اقْتَتَلُوا» ولم يقل: اقْتَتَلاَ وقال: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» ولم يقل: بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال: اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) فقال: «بَيْنَهُمَا» لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ.
قوله: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله. وقيل: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر. وقيل: إلى الصُّلْحِ.
كقوله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] وقيل: إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6] .
فإن قيل: كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إنْ» من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد: إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟
فالجواب: أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد
خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال: «فَإنْ بَغَتْ» يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.
فإنْ قيل: لم قال: فإنْ بَغَتْ ولم يقل: فَإن تَبْغِ؟
فالجواب: ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَتَلُوا «ولم يقل: يَقْتَتلُوا.
قوله:» حَتَّى تَفِيء «العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.
والزهري: بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال:» جاَ، يَجِي «(17/540)
دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب.
فصل
المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم. وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين.
قوله:» فَإِنْ فَاءَاتْ «أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ.
فإن قيل: قد تقدم أن» إنْ «تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال:» فَإنْ فَاءَتْ «؟
فالجواب: هذا كقول القائل لعبده: ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى: {فَإنْ فَاءتْ} أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً.
قوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله» وَأَقْسِطُوا «اعِدْلُوا {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} .
فإن قيل: لم قال ههنا: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ؟
فالجواب: أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: «بالْعَدْلِ» فكأنه قال: فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْلش فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى.
فإن قيل: لما قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله: وَأَقْسِطُوا؟
فالجواب: أنّ قوله: «فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا» كأن فيه تخصيصاً بحال الاقتتال فعمَّ(17/541)
الأمر بالعدل وقال: وأقصدوا أي في (كل) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط أزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ.
قوله: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} أي في الدين، والولاية. وقال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأَخ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة، والله تعالى قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن مابين الإخووة من الإسلام والنسب لهم كالأب. قال قائلهم (رحمةُ الله عليه) :
4502 - أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ ... إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ
قوله: «بَيْنَ أَخَويكُمْ» العامة على التثنية. وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين: إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلاَن. وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب، وقد تعكس كهذه الآية. وروي عن أبي عمرو وجماعة: إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ. وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلاَثُ.
فصل
المعنى: فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
فإن قيل: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل: اتَّقُوا وقال هَهُننَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم؟
فالجواب: أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها(17/542)
شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد، فقال: {فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله} أو يقال: قوله: وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله: «وَاتَّقُوا اللهَ» إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ»
فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس.
فصل
في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ؟ فقال: لا؛ من الشرك فروا فقيل: أمُنَافِقُونَ؟ فقال: (لا) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته. وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه.
فصل
«إنَّمَا» للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين. فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخ الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.
فإن قيل: إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون(17/543)
الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟
فالجواب: أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى.
فصل
قال النحاة ههنا: إنَّ «مَا» كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنين: 40] ليست كافة. قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى: هو أن رُبَّ من حرفو الجر و «الباء» و «عن» كذلك. و «ما» في «رُبَّ» كافّة، في «عما» و «بما» ليست كافة. والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا» و «إِنَّما» يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت «ربّما وإنَّما» لم يضرَّ تقول: ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ. ولو حذف «رُبَّمَا» وقلت: زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في «إنَّما» و «لَكِنَّما» وأما «عَمَّا» و «بما» فليس كذلك، لأن قوله تعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] لو حذفت «بما» وقلت: رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا» ، وأما «رٌبَّمَا» لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.
فإن قيل: إنَّ «إذَا» لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل. تقول: إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت: زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ!
نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول: إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا. وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي. ولا يحسن: إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما. وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف. وتقدم الكلام في «لعلّ» مِرَاراً.(17/544)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ... } الآية تقدم الخلاف في «قَوْم» وجعله الزمخشري ههنا جمعاً لقائمة قال: كصَوْم وزَور جمع صاَئِمٍ وزائرٍ. (و) فَعْل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو: رَكْب، وصَحْب. والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال، ولا يلتفت إليه ويُسْقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب. ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تَسْتَصْغِرُوهُمْ.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) نزلت في ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شِماس كان في أُذُنهِ وَقْرٌ، فكان إذا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جَنْبه فَيستَمِعُ ما يقول، فأقبل ذاتَ يوم وقد فاتَتْه رَكْعَةٌ من صَلاة الفَجْرِ، فلما انصرف النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة أخذ أصحابهُ مجالسَهم فَظنَّ كل رجل بمجلسه، فلا يكان يوسعِ أحدٌ لأحدٍ وكان الرجل إذا جاء ولم يجدْ مجلساً قَام قائماً فلما فرغ ثابتٌ من الصلاة أقبلَ نحوَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتخطى رقابَ الناس (ويقول) : تفسَّحُوا فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً فاجْلس فجلس ثابتٌ خَلْفَهُ مُغْضَباً فلما إجلتِ الظّلمة غَمَزَّ ثابتٌ الرجلَ فقال: من هذا فقال: أنا فلانٌ فقال له ثابت: ابن فلانة؟ ذكر أمُاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، فاستحيا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضَّحَّاكُ: نزلت فِي وَفْدِ تميم كانوا يستهزِئون بفُقَرَاء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل عمَّار، وخَبَّاب وبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وسَلَّمَانَ، وسالمٍ مولى حذيفة، لما رأو من رَثَاضة حَالِهِم.
قوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} قرأ أُبَي وعبدُ الله بنُ مسعود عَسَوْا وعَسَيْنَ ((17/545)
جَعَلاَها نَاقصةً) . وهي لغة تميم وقِرَاءَةُ العامة لغة الحجاز.
قوله: {وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} روي أنها نزلتْ في نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عيرت أم سلمة بالقِصَر، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً: نزلت في صَفيَّة بنتِ حُيَيّ بنِ أخْطَبَ قَالَ لهالنساء: يهودية بنتُ يَهُودِيَّيْنِ.
قوله: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} أي لا يعبُ بعضكُم على بعض. قرأ الحَسَنُ والأَعْرجُ: لا تَلْمُزُوا بالضّمِّ واللَّمْز بالقول وغيره والغَمْزُ باللسان فقط.
قوله: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} التنابز تفاعل من النَّبْز وهو التداعِي بالنَّبْز والنَّزَبِ، وهو مقلوب منه لقلة هذا، وكثرةِ ذلك. ويقال؟ : تَنَابَزُوا وتَنَابزوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقبِ سوءٍ. وأصله من الرفْع كأَنَّ النَّبزَ يَرْفَع صاحبه فيُشَاهَدُ. واللَّقَب: ما أشعر بضَعَةِ المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة أو رِفْعَتِهِ كالصِّدِّيق وعتيقٍ والفَاروق، وأَسَد الله، وأَسَدِ رَسُولِهِ وله مع الكمنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة ف يكتب النحو.
وأصل: تَنَابَزُوا تَتَنَابَزُوا أسقِطَتْ إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهَمزَتَيْنِ فقال: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 8] والحذفُ هَهُنَا أولى؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفانِ من جنْسٍ واحدٍ في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و «أنذرتهم» أُخْرَى، واحتمال حَرْشفَيْن في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة.
فصل
ذلك في الآية أموراً ثلاثةً مرتبة بعضها دون بعض، وهي السُّخْريَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ. والسُّخْرية الاحتقار والاستصغار، واللمز ذكر في غيبته بعيب. وهذا دون الأول، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المَسْخَرة الذي لا يغضب له ولا عَلَيْه، وهذا جعل فيه شيئاً ما فعابه به. والنَّبْزُ دون الثاني لأن يَصِفهُ بوصفٍ ثابت فيه نقصه به، ويحط منزلته والنّبْزُ مجرد التسيمة وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن(17/546)
إذا وضع لواحدٍ وعَلاَ عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من سمي سَعْداً وسَعِداً قد لا يكون كذلك وكذلك من لُقّب إمام الدين أو حُسَام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة، وكذلك النَّبز، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قالك لا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِروا إخوانكم بحيث لا تلتفوا إليهم إصلاً، وإذا نزلتم عن هذا فلا تَعيبُوهم طالبين حَطَّ درجتهم وإذا تَعِيبُوهم ولم تصفوهم بما يسوؤم فلا تُسَمُّوهم بما يكرهُونه.
فصل
قال ابن الخطيب: القَوْمُ اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنَّها مضطرة إليه في رفعش حوائِجِها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك.
فصل
في قوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} حكمة وهي أنهم أذا وجد منهم التَّكَبُّر المُفْض] إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيراً منهم، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال: «أَنَا خَيْرٌ منه» فصار هو خيارً منه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «يكونوا» أي يصيروا، فإن من استحقر إنساناً لفقره أو ضَعْفِهِ لا يأم أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويَقْوَى الضعيفُ.
فصل
في قوله: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} وجهان:
أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه فكأنه أعاب نَفْسَه.
والثاني: أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى:
{وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
ويحتمل أن يقال: لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم مُعَيَّب فإنكم إن فعلتم فقد(17/547)
عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب واحد فصِرْتُمْ عائِبِينَ من وجه مُعيََّبين من وجه. وهذا ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله: «وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» .
فصل
قال: «وَلاَ تَنَابَزُوا» وَلَمْ يقُل: ولا تَنْبزُوا لأن الامِزَ إذا لَمَزَ فالمَلْمُوز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يَلْمِزُهُ به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب.
وأما النَّبْزُ فلا يعجز كل أحد عن الإتيَانِ بِنَبْزٍ، فالظاهر أن النَّبْزَ يُفْظِي في الحال إلى التَّنَابز، ولا كذلك اللمزُ.
فصل
قال المفسرون: اللقب هو أن يدعي الإنسان بغير ما يُسَمَّى به، وقال عكرمة: هو قول الرجل للرجل يا فاسقُ، يا منافقُ، يا كَافرُ. وقال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيقال له بعد إسلامه، يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك، وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه: يا حمارُ يا خنزيرُ. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : التنابز بالألقاب أن يكون الرجلُ عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيَّر بما سلف من عمل.
قوله: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئسَ الاسمُ أن يقول له: يا يَهُودِيُّ يا فاسِقُ بعدما آمَن. وقيل: معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسصوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فستحقوا اسم الفسوق. ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أي من ذلك {فأولئك هُمُ الظالمون} .
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن ... } الآية. قيل: نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما، «وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كسان غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويقتدم لهما إلى المنزل فيهيّيء لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّىءْ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً؟ قال: لا غلبتني عَيْنَاي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسأله طعاماً، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ؛ وكان أسامة خازن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا: كمان عند أسامةم ولكن بَخِلَ(17/548)
فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا: بعثناه إلى بئر سُمَيْحَة فغار ماؤهم ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهما: مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا؟ قالا: والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال: (بل) ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان»
فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} .
فصل
قال سفيان الثوري: الظّنُّ ظنان:
أحدهما: إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به.
والأخر: ليس بإثم وهو أن يظن، ولا يتكلم به، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ» .
قوله:: «إثْمٌ» جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال: لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى.
قوله: «وَلاَ تَجَسَّسُوا» التجسس التَّتبعُ، ومنه الجَاسُوسُ، والجَسَّاسَةُ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ.
فصل
التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغََضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ(17/549)
الله. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.
فصل
واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً، وقوله تعالى: {كَثِيراً مِّنَ الظن} إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً» وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله: «وَلاَ تَجَسَّسُوا» إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كثيراً من الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه.
«قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ؟ «قالوا: الله ورسوله أَعلَم قال: ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ»
وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن.
قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} نصب «ميتاً» على الحال من «لَحْم» أو «أَخِيهِ» ، وتقدم الخلاف في مَيْتاً.
فإن قيل: اللحم ألا يكون ميتاً؟
فالجواب: بلى. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فسمى القطعة ميتاً.
فإن قيل: مإذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله(17/550)
حالاً فهو كقول القائل: مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ (قَائِماً) ويريد كون زيدٍ قائما. وذلك لا يجوز.
قلنا: من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ.
فصل
في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.
وقوله: «لَحْمَ أَخِيهِ» آكد في المنع؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله: «مَيْتاً» إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال: الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال: آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضظر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب.
قوله: «فَكَرِهْتُمُوهُ» قال الفراء: تقديره: فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه. وقال ابن الخطيب: الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال: أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ. وقال أبو البقاء: المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ. والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ.
وقيل: إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه قال ابن الخطيب: هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك: جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل: هو خبر يمعنى الأمر كقولهم: «اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ» .
وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ: فكُرِّهْتُمُوهُ(17/551)
بضم الكاف وتشديد الراء عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً: «كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ» فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ.
فصل
قال ابن الخطيب: الضمير في قوله: فَكَرِهْتُمُوهُ «فيه وجوه:
أظهرها: أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} معناه أيحب أحدمكم الأكل لأن» أَنْ «مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ.
وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.
وثالثها: أن يعود إلى الميّت في قوله:» ميتاً «تقديره: أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله:» ميتاً «ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربقه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة.
فصل
قال مجاهد: لما قيل لهم: أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً؟ قالوا: لا، قيل:» فكرهْتُمُوهُ «أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره باللسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله إن ذِكْرضكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ. قال: هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ «.(17/552)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قوله:» وأتَّقُوا اللهَ «عطف على ما تقدم من الأوَامِر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} وقال ههنا: {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله:» اجْتَنِبُوا كَثِيراً «فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.
قوله
(تعالى
) : {يا
أيها
الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} فقوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بضع لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ.
فصل
قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابنَ فلانة فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الذكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر، فقال: ما رأيت ثابتُ؟ قال: رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود، قال: فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا} [المجادلة: 11] .
وقال مقاتل: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ(17/553)
فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص: الحمُ لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو: إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره بما قالوا: فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنز لالله عزَّ وجلَّ هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال، والإزْرَاءِ بالفقراء.
فإن قيل: هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتبارً عُرْفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ! .
فالجواب: إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولحناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ. وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه.
وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإ، كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله، لقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وشرف النسب ليس مكتسباً ولايحصل بعسيٍ.
فصل
الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة، لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى.
فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم} ؟
فالجواب: بأن كل شيء يترجح علىغيره، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب(17/554)
عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله، فالذي بعده كالحُسْنِ والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك: هَذَا مِنَ النُّحَاس، وهَذَا مِنْ فضَّةِ والثاني: كقولك: هَذَا عَمَلُ فُلاَنٍ، وهذا عمل فُلاَن، فقال تعالى: لا ترجيح بما خلقتم منه، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله، فإن كان عندكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى.
قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} الشعوب جمع شَعْبٍ فتح الشين، وهو أعلى طبقات الأنْساب مثل رَبِيعة، ومُضَر، والأوْس، والخَزْرَج، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ: الشَّعب، والقَبِيلة، والعِمَارة، والبَطْن، والفَخِذ، والفصيلة، وكل واحد يدخلُ فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها، فتكون الفصائل داخلة في العَشِيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ وتدخل الأفخاذ في البُطُون والبطون في العَمَائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب، وذكر الأعم لأنه أذْهضبُ بالأفْتِخَارِ وسُمّي الشعب شعباً لتشَعب القبائل منه، واجتمامعهم فيه كشُعَب أغصان الشجرة. والشَّعْبُ من الأضداد، يقال: شَعْبٌ أي جمع، ومنه تشعيب القَدَح وشَعَّب أي شفرق، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قَبيلَةٌ وهي كَبكْر مِن ربيعة، وتَميم من مُضَرَ سميت بذلك لتقابلها، شبهت بقبائل الرأس، وهي وقيل: الشعوب في العجم، والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل. وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد:
4503 - قَبَائِلُ مِنْ شُعُب لَيْس فِيهم ... كَريمٌ قَدْ يُعَدُّ ولاَ نَجِيبُ
والنسبة إلى الشّعب شَعُوبِيَّة بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها عَمَارة فتح العين وهم كشَيْبَان مِنْ بكر ودَرِم من تميم، وَدُونَ العَمَائر البُطُون واحدتها بَطْن وهم كبَنِي هاشم وأمية من بني لُؤَيّ. ثم الفصائل والعشائر واحتها فَصِيلة وعَشيرة.
وقال أبو رَوْق: الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل يَنْتَسبون إلى المَدَائن والقُرَى والقَبَائل العرب الذي ينتسبون إلى آبائهم.(17/555)
قوله: «لِتَعَارفُوا» العامة على تخفيف التاء، والأصل: لتتعارفُوا فحذف إحدى التاءين. والبَزِّي بتشديدها وقد تقدم ذلك في البَقَرة، واللام مُتَلِّقة «بجَعَلْنَاكُم» .
وقرأ الأعْمِ بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي، وحذفه الجمهور، وابن عباس لتَعْرِفُوا مضارع عَرَفَ.
فصل
المعنى ليعرفَ بعضُكم بعضاً في قُرْب النسب وبعده لا لِتَفَاخَرُوا. وقال في أول الآية: خَلَقْنَاكُم وقال ههنا: وجَعَلْنَاكم شُعُوبا، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، والجَعْلَ شعوباً للتعارف، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب، لأن اعتبار الجعل شعوباً إنما يتحقق بعد تَحَقُّقِ الخلق، وفي هذا إشارة إِلى أَنَّه إن كان فيكم عبادة فتُعْتَبَرُ، وإلا فلا اعتبار لأنْسَابِكُمْ.
فإن قيل: الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93] .
فالجواب: أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسباً مَبْنيًّا على فعل لقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] ثم قال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30] وأما في النسب فلا.
قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} أخبر تعالى أن أرفعهم منزلةً عند الله أتقاهم. وقال قتادة في هذه الآية: أكْرَمُ الكَرَمِ التقوى وألأَمُ اللُّؤم الفجور. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحَسَبُ المَالُ والكَرَمُ التَّقْوَى» وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : كرم الدنيا الغِنَى وكرم الآخرة التقوى. وعن أبي هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاهُمْ، قالوا: عن هذا نسألك قال: فأكرمُ الناسِ(17/556)
يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ الله ابْنِ خَلِيلِ الله قالوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قال: فَعَنْ مَعَادِن العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا: نَعَم قال: خِيارُكُم في الجَاهِليَة خيارُكُم في الإسْلاَم إذا فَقِهُوا. وقال: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُورَكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُمْ» .
فصل
قرأ العامة: إنَّ أَكْرَمَكُمْ بكسر «إنّ» وابن عباس بفتحها، فإن جعلت اللام لام الأمر وفيه بُعْدٌ صَحَّ أن يكون قوله: «أنَّ أَكْرَمَكُمْ» بالفتح مفعول العِرْفَان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولاً، لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعفروا ذلك، فينبغي أن يكون المفعول محذوفاً واللام للعلة أي لِتَعْرِفُوا الحقَّ لأنَّ أَكْرَمَكُمْ.
فصل
قال ابن الخطيب: في المراد بالآية وجهان:
الأول: أن التقوى تفيد الإكرام.
والثاني: أن الإكرام يورث التقوى، كما يقال: المخلصون على خَطَر. والأول أشهر، والثاني أظهر.
فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابدٍ» .
فالجواب: أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فلا تقوى إلا العالم فالملتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرةٍ لا ثَمَر لها لكن الشجرة المثمرة أشرفُ من الشَّجَرةِ التي لا تُثْمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حَصَبُ جهنم، وأما العابد الذي يفضل عليه الفيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نِصَابٌ كامل، ولعلمه يعبده مخالفة الإلقاء في النار فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته، والمتقي هو العالم بالله المواظب لِبَابِهِ.
فإن قيل: خطاب الناس بقوله: «اَكْرَمَكُمْ» يقتضي اشتراك الكال في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام.(17/557)
فالجواب: ذلك غير لازم أنه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، ثم من استمر عليه وزَاد زِيدَ في كرامته، ومن رجع عنه أُزِيلَ عن الكرامة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم.(17/558)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} الآية. لما قالت تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصُول التقوى وأصله الإيمان والاتِّقاء من الشِّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون لنا الشرف قال الله تعالى: ليس الإميان بالقول إنما بالقلب، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في «الصدور» ولكن قولوا أسلمنا أي أنْقَدْنَا وأَسْلَمْنَا. قيل: نزلت في نَفَرٍ من بني أسد بن خزيمة، قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَنةٍ مُجَدِبَةٍ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون وَيُرحُون إلى رسو لالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون: أَتَتْكَ العرب بأنفسها على ظهور رَوَاحِلهَا، وجئناك بالأثقال والعِيَال والذَّرارِي ولم نُقاتِلكَ كما قاتَلَكَ بنُو فلان يَمُنُّون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويريدون الصدقة، ويقولون أَعْطِنَا، فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين الله تعالى في سورة الفتح وهم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأَسْلَمُ، وأشْجَعُ وغِفَار وكانوا يقولون: آمنًّا ليأمَنُوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} صدقنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} أنقَذْنا واسْتَسْلَمْنَا مخالفَة القتل والسَّبْي.
قال ابن الخطيب: وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم، فكل من(17/558)
أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب.
قوله: «وَلَمَّا يَدْخُلْ» هذه الجملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك. وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في: «قَولُوا» وقد تقدم الكلام في «لما» وما تدل عليه، والفرق بينها وبين «لم» في البقرة عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُم} [البقرة: 214] .
وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: «لَمْ تُؤمِنُوا: يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة {.
قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم. وقوله:» وَلَمَّا يَدْخُل «توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه. ثم قال:» ولما في «لمّا» من معنى التوقيع د
لي لعى أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده «، قال أبو حيان: فلا أدري من أي وجه يكون النفي بِلَمَّا يقع بعد؟} . قال شهاب الدين: لأنَّها لنفي قَدْ فَعل، وقَدْ للتَّوَقع.
فصل
قال ابن الخطيب: لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي، ومَا، وإنْ ولاَ كذلك من حرفو النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما؟ .
فالجواب: أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول: لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ، وآمَنَ اليَوْمَ، ولا تقول: لاَ يُؤْمِنُ أَمْسِ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما.
فإن قيل: مع هذا: لم جزم بهما؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول: لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع، فلا يمكن الجزم والقطع فيه، فإذا كان «لَمَّا ولَمْ» يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً، وعلى هذا نقول: إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا(17/559)
قيل: الأمر يجزم، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و «إنْ» في الشرط ك «لَمْ» لأن «إنْ» تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن «لَمْ» تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول: إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ، فلما كان «إنْ» مثلُ «لَمْ» في كونه حرفاً، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى، أو للشبه اللفظي.
فصل
أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص والإسلامُ هو الدخول في السِّلم، وهو الانقياد والطاعة يقال: أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عَزَّ وَجَلَّ ّ لإبراهيم: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] ومنها: ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله: {ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} .
قال ابن الخطيب: المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره.
مثلاه: الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان، لكن الحيوان في صورة الإنسان (ليس) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم.
وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 35 و36] إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ((بعد) ضعيفاً) قال لهم: لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان أيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام.(17/560)
قوله: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية. قال ابن عباس: تُخْلِصُوا الإيمان.
قوله: «لاَ يَلتكُمْ» قرأ أبو عمرو: «لا يألتكم» بالهمز من أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بالفتح في الماض والكسر والضم في المضارع لقوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21] والسُّوسِيّ يبدل الهمزة ألفاً على أصله.
والباقون:: يُلِتْكُمْ «من لاَتَهُ يليتُه كَباعَهُ يَبِيعُهُ. وهما لغتان معناهما لا يَنْقُصُكُمْ، فالأولى لغة غَطَفَان وأسدٍ والثانية لغة الحِجَاز، يقال: أَلتَ يأْلُتُ أَلْتاً، ولاَتَ يِليتُ لَيْتاً، وقيل: هي من وَلَتَهُ يَلِتُهُ كوَعَدَهُ يَعِدُهُ، فالمحذوف على القول الأولى عينٌ الكلمة ووزنها: يَفِلْكُمْ وعلى الثاني فاؤها، ووزنها يَعِلْكُمْ ويقال أيضاً ألاَتَهُ ليتُه كأَبَاعَهُ يُبِيعُهُ وآلَتَهُ يُؤْلِتُهُ كآمن يُؤْمِنُ. وكلّها لغات في معنى نَقَصَهُ حَقَّهُ، قال الحطيئة:
4504 - أَبْلِغْ سَرَاة بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً ولاَ كَذِبَا
وقال رؤبة:
4505 - ولَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ(17/561)
أي لم يمنعني ويَحْبِسْنِي.
فصل
قال ابن الخطيب: معنى قوله: (» لاَ يَلِتْكُمْ «) لا يَنْقُصُكُم، المراد منه أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعِّفكُم من الحسنة فهو يؤتيتكم به من الجزاء؛ لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبةً يكون ثمنها في السوق درهماً فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل، وإما معناه ألاّ يُعْطِي مثل ذلك من غير نقص أي يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص.
ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يغفر لكم ما قدم سلق ويرحمكم بما أتيتم به.(17/562)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} هذاإرشاد للذين قالوا آمنّا؛ بين لهم حقيقة الإيمان فقال: إنْ كُنتمْ تريدون الإيمان فالمؤمن من آمن بالله ورسوله {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} أي لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأن الإيمان إيقانٌ. و «ثُمَّ» للتراخي في الحكاية كأنه يقول: آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا.
ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل، أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الحشر والنَّشْر {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي ايقنوا أن بعده هذه الدار دارٌ أخرى فجاهدوا طالبين العُقْبَى {أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم.
فإن قيلأ: كيف يجوز أن يكذبوا في الإسلام، والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً، وإن لم يوجد اعتقاداً أو علماً، وذلك القدر كاف في صدقهم في قولهم: إِنَّا أَسْلَمْنَا؟! .
فالجواب: إن التكذيبَ يقع الى وجهين:
أحدهما: إن لا يوجد نفس المخبر عنه.
والثاني: إن لا يوجد كما أخبر في نفسك، فقد يقول له: ما جئتنا بلْ جئتَ(17/562)
للحاجة، فالله تعالى كذبهم في قولهخم: آمنّا على الوجه الأوَّل أي ما آمنتم أصلاً، ولم يصدقهم في الإسلام على الوجه الثاني فإنهنم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.
فصل
لما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَحْلِفُون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعرف الله غير ذلك منهم فنزل الله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} ، والتعليم ههنا بمعنى الإعْلام فلذلك قال: بِدِينكم، أدخل الباء فيه؛ لأنه منقول بالتضعيف من علمت به بمعنى شعرت به فلذلك تعدت لواحد بنفسها، ولآخر بالباء.
والمعنى لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، لأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم.
قوله (تعالى) : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يجوزم في قوله: أَنْ أَسْلَمُوا وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به لأنّه ضمن يمنون معنى يُعِيدُونَ كأنه قيل: يعيدون عليك إسلامهم مانِّين به عليك ولهذا صرح بالمفعول به في قوله: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} أي لا تُعيدوا عليَّ إسلامكم. كذا استدل أبو حَيَّان.
وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: لا نسلم انتصاب «إِسْلاَمَكُمْ» على المفعول به، بل يجوز فيه المفعول من أجله كما يجوز في محل «أَنْ أَسْلَمُوا» وهو الوجه الثاني فيه أي يمنون عليك لأجل أن أَسْلَمُوا فكذلك في قوله: {لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} ، وشروط النصب موجودة والمفعول له متى كان مضافاً اسْتَوَى جرّه بالحرف ونصبه.
قوله: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} يعني لا مِنَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَصْلاً، بل المنة عليكم حيث بينْتُ لكم الطرق المستقيم.
قوله: {أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} أعرابه كقوله: «أن أَسْلَمُوا» . وقرأ زيد بن علي: إِذْ هَدَاكُمْ بِإِذْ مَكَانَ «أنْ» وهي في مصحف عبد الله كذلك. وهي تفيد التعليل، وجواب(17/563)
الشرط مقدر أي فَهُوَ المَانُّ عليكم لا أَنتم عَلَيْه وعَلَيَّ.
فإن قيل: كيف مَنَّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا؟ .
فالجواب من ثلاث أوجه:
أحدها: أنه تعالى لم يقل: بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمانَ بلْ قال: أنْ هَدَاكُمْ للإِيمان.
وثانيها: أنَّ إرسال الرسول بالآيات البينات هدايةٌ.
ثالثها: أنه تعالى يمنُّ عليهم بما زعموا فكأنه قال: أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال: هداكم في زعمكم، ولهذا قال تعالى: {إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ... } الآية؛ وهذا تقرير لأول السورة حيث قال: «إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ» ، فأخبر ههنا عن علمه وبصره.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ ابن كثير بالغيبة، نظراً لوقله: يَمُنُّونَ وما بعده، والباقون بالخطاب، نظراً إلى قوله: لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ إلى آخره، وفي هذه الآية إشارة أنه يُبْصرُ أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة، لا يخفى عليه شيءٌ.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَة الحُجُرَاتِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْر عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَعَصَاهُ» (انتهى) .(17/564)
سورة ق(4/3)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
مكية، وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ق} قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هو قَسَمٌ. وقيل: اسم السورة. وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي: هو مفتاح اسمه قدير، وقادر، وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زُمُرَّدَةٍ خَضْراءَ ومنه: خُضْرَةُ السماء. والسماء مَقْبِيَّةٌ عليه، وعليه كتفاها ويقال: هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ. وقيل: معناه قضِي الأمر وقضي ما هو كائن، كما قالوا في حم (حم الأمر) ، وفي ص: صدق الله، وقيل هو اسم فاعل من قَفَا يَقْفُوهُ.
فصل
قال ابن الخطيب، لما حكى القول بأن «ق» اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال: وهذا ضعيف لوجوه:(4/3)
أحدها: أن أكثر القراء يقف عليها، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنَّ من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به.
وثانيها: لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كقوله تعالى: {والطور} [الطور: 1] ، ونحوه؛ لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأنْ يُقْسَمَ بِهِ، كقولنا: «اللَّه لأَفْعَلَنَّ كَذَا» فاستحقاقه له يغني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال: زَيْد لأَفْعَلَنَّ كَذَا.
ثالثها: أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب: {عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] ، ويكتب {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وفي جميع المصاحف يكتب حرف «ق» .
رابعها: أن الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في «ص» و «ن» و «حم» وهي حروف لا كلمات فكذلك في «ق» .
فإن قيل: هو منقول عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -.
نقول: المنقول عنه: أن قاف اسم جبل، وأما أن المراد ههنا ذلك فَلاَ.
فصل
قال ابن الخطيب: هذه السورة وسورة ص يشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن بعده وقوله بعد القسم: بل والتعجب. ويشتركان أيضاً في أن أول السورتين وآخرهما متناسبات لأنّه تعالى قال في أول السورة: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] وفي آخرها: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [ص: 87] وقال في أولِ ق: «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ» ، وقال في آخرها: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] ، فافتتح بما اختتم به. وأيضاً في أول ص صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد لقوله تعالى: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} [ص: 5] وفي هذه السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر فقال تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} ، فلما كان افتتاح سورة «ص» في تقرير المبدأ قال في آخرها: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ}
[ص: 71] . وختمه بحكاية بَدْء آدمَ، لأنَّه دليل الوحدانية، ولما كان افتتاح «ق» لبيان الحشر قال في آخرها: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] .(18/4)
فصل
قال ابن الخطيب: قد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الأسماع، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق، وذكر أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية، ومنها خارجية ظاهرة ووجد في الخارجية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعْقَلْ معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما، ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر، وصفات الله تعالى، وصدق الرسل، ووجد فيها مَا لَمْ يُعْقَلْ ولا يمكن التصديق به لولا السمعُ كالصِّراط الممدود الأَحَدّ حَدًّا من السيف، الأرقّ من الشعر، والميزان الذي توزن به الأعمال، فكذلك ينبغي أن يكون الأذْكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعْقَلُ معناه، كجميع القرآن إلاّ قليلاً منه، وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد والأمر، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا: «رَبَّنا اغفرْ لنا وارحمنا» بل يكون النطق به تعبداً محضاً. ويؤيد هذا وجه آخر، وهو أن هذه الحروف مقسم بها لأن الله تعالى لما أقسم بالتِّين والزَّيْتُون تشريفاً لهما، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى.
وإذا عرف هذا نقول: القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى: {والعصر} [العصر: 1] وقوله: {والنجم} [النجم: 1] وبحرف واحد كما في {ص} [ص: 1] و {ق} [ق: 1] ووقع بأمرين كما في قوله تعالى: {والضحى والليل} [الضحى: 1 و2] وفي قوله: {والسمآء والطارق} [الطارق: 1] وبحرفين كما في قوله: {طه} [طه: 1] و {طس} [النمل: 1] و {حم} [غافر: 1] ، ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى: {والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً} [الصافات: 1 - 3] . وقوله: {والسمآء ذَاتِ البروج واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 1 - 3] وبثلاثة أحرف كما في قوله: {الم} [البقرة: 1] ، و {طسم} [الشعراء والقصص: 1] و {الر} [هود: 11] ووقع بأربعة أمور، كما في قوله تعالى: {والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً فالجاريات يُسْراً فالمقسمات أَمْراً} [الذاريات: 1 - 4] وفي قوله: {والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين} [التين: 1 - 3] ، وبأربعة أحرف كما في قوله: {المص} [الأعراف: 1] و {المر} [الرعد: 1] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى: {والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} [الطور: 1 - 6] وفي قوله: {والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً} [المرسلات: 1 - 5] وفي النَّازِعاتِ وفي(18/5)
الفَجْر، وبخمسة أحرف كما في: {كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1 و2] ، ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي الشَّمس: {والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا}
[الشمس: 1 - 6] . ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال: «والطُّورِ» «والنَّجْمِ» «والشَّمْسِ» وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل: وق وحم؛ لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخلُّ بالنظم.
فصل
أقسم الله بالأشياء المركبة العناصر كالتِّينِ والطُّورِ، ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر المفردة كالماء والتراب، وأقسم بالحروف من غير تركيب، لأن الأشياء عند تركيبها تكون على أحسن حالها، وأما الحروف إن ركبت لمعنى يقع الحَلِفُ بمعناه لا باللفظ، كقولنا والسماء والأرض وإن ركبت لا لمعنى فكأن المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحرف.
فصل
هذه السورة تقرأ في صلاة العيد، لقوله تعالى فيها: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 42] وقوله: {كَذَلِكَ الخروج} [ق: 11] وقوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] ، فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجَه إلى عَرْصَاتِ الحِسَابِ. ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً. والعامة على سكون الفاء من قاف. وقد تقدم. وفتحها عيسى، وكسرها الحسن، وابن أبي إسحاق، وضمها هارون وابن السميقع وقد مضى توجيه ذلك، وهو أن الفتح يحتمل البناء على الفتح للتخفيف، أو يكون منصوباً بفعل مقدر ومنع الصرف أو مجروراً بحرف قسم مقدر وإنَّما مُنعَ الصرف أيضاً. والضم على أنه مبتدأ وخبره منع الصرف أيضاً.
قال ابن الخطيب: فأما القراءة فيها فإن قلنا: هي مبنية على ما بينا فحقّها الوقف؛ إذ لا عامل فيها ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين، ويجوز الفتح اختياراً للأخَفِّ.(18/6)
فإن قيل: كيف جاز اختيار الفتح هَهُنَا ولم يَجُزْ عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة أخرى، كقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} [البينة: 1] {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ} [الأنعام: 52] ؟! .
نقول: لأن هناك إنما وجب التحريك لأن الكسرة في الفعل تشبه حركة الإعراب، لأن الفعل إنما كان محلاً للرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر اختير الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر؛ لأن الفعل لا يجوز فيه الجر، ولو فتح لاشتبه بالنصب، وأما في أواخر الأسماء الاشتباه لازم، لأن الاسم محِلّ يرد عليه الحركات الثلاث فلم يمكن الاحتراز فاختاروا الأخَفَّ.
وإن قلنا: إنها حرف مقسم به فحقها الجر، ويجوز النصب على أنه مفعول به ب «أُقْسِمُ» على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد.
وإن قلنا: هي اسم السورة، فإن قلنا: مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ فتفتح في موضع الجر كما تقول: «وإِبْرَاهِيمَ وأَحْمَدَ» ، إذا أقسمت بهما وإن قلنا: (إنه) ليس مقسماً بها فإن قلنا: هي اسم السورة فحقها الرفع إذا جعلناها خبراً تقديره: «هَذِهِ ق» وإن قلنا: هو من قَفَا يَقْفُو فحقه التنوين كقولنا: هَذَا دَاعٍ ورَاعٍ.
وإن قلنا: اسم جبل فالجر والتنوين وإِن كان قسماً.
قوله: «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ» قسم، وفي جوابه أوجه:
أحدها: أنه قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض} .
الثاني: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 29] .
الثالث: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} [ق: 18] .(18/7)
الرابع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} [ق: 37] .
الخامس: «بَلْ عَجِبُوا» . وهو قول كوفي، قالوا: لأنه بمعنى قَدْ عجبُوا.
السادس: أنه محذوف، فقدّره الزجاج والأخفش والمبرد: لَتُبْعَثُنَّ، وغيرهم: لَقَدْ جِئْتَهُمْ مُنْذِراً.
واعلم أن جوابات القسم سبعة، إنَّ المشددة كقوله: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 و2] ، و «مَا» النافية كقوله: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1 - 3] واللام المفتوحة كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] وإنْ الخفيفة كقوله: {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 97] ولا النافية كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] ، و «قَدْ» كقوله: {والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 1 - 9] ، وبَلْ كقوله: {والقرآن المجيد بَلْ عجبوا} . والمجيدُ: العظيم. وقيل: المجيدُ: الكثير الكرم.
فإن قلنا: المجيد العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحدٌ من الخلق، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] . ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن قلنا: المجيد هو الكثير الكفر فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوداً وَجَدَهُ، ويغني كل من لاَذَ به وإِغناء المحتاج غاية الكرم.
فإن قيل: القرآن مقسم به فما المقسم عليه؟ .
فالجواب: أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مَقَالِيَّة، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة، فلا يتقدم هنا لفظاً إلا «ق» فيكون التقدير: هذَا ق والقرآنِ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآنِ، كقولك: هذَا حَاتِمٌ واللَّهِ؛ أي هو المشهور بالسخاء، وتقول: الهلالُ واللَّهِ أيْ رأيته واللَّهِ. وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران:
أحدهما: أن التقدير: والقرآن المجيد إنك المنذر، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن كلام الأمرين ورد طاهراً، أما الأوّل فقوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم} [يس: 1 - 2] إلى أن قال: {لِتُنذِرَ قَوْماً} [يس: 6] .(18/8)
وأما الثاني: فقوله تعالى: {والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}
[الطور: 1 - 7] .
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال: «ق» اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الحق فإِن الكفار كانوا ينكرون ذلك.
قوله: «بَلْ عَجِبُوا» يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ عنه فما ذلك؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال: ما الأمر كما تقولون. قال ابن الخطيب: والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر، وكأنه قال بعده: إنهم شكوا فيه. ثم أضرب عنه وقال: بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة.
فإن قيل: فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز؟ {.
قال ابن الخطيب: أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ، فإذا قال له غيره: هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله (تعالى) ذكر المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر. وأما حذف المُضْرب عنه، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال: الوَزيرُ يعظم، فلا يماثل الملك بعظمه، ولا يحسن أن يقال: البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً، إذ الإِضراب للتدريج، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران:
أحدهما: الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه.(18/9)
والثاني: عِظَم التفاوت بينهما: وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد.
قوله: «أَنْ جَاءَهُمْ» فيه سؤال، وهو: أنْ مع الفعل بتقدير المصدر ... تقول: «أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام» ، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز (أن تقول) : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء، ولا يجوز أن تقول: أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز أن يقال: عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك: عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه} .
والجواب: أن قوله: أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر، لكنه في الصورة تقدير، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز: عجبوا مَجِيئَهُمْ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ.
قوله: «مِنْهُمْ» أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون: {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24] و {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: 15] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا: هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون: نحن لا نقدر على ذلك، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار، وابن آدم لا يقدر على ذلك.
قوله: {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} قال الزمخشري: هذا تعجّبٌ آخرُ من أمر آخرَ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر، ويدل عليه قوله في أول «ص» : {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص: 4] وقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب: والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر، لأن هناك ذكر: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال: {أَجَعَلَ(18/10)
الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وقال ههنا: إنَّ {هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} ، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر، ثم قالوا: «أَئِذَا متْنَا» ، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب، وهو قولهم: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار.
فإن قيل: التكرار الصريح يلزم من قولك: {هذا شيء عجيب} يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله: {وعجبوا أن جاءهم} فقوله: {هذا شيء عجيب} ليس تكراراً {.
نقول: ذلك ليس بتكرار، بل هو تقرير؛ لأنه لما قال: بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله (تعالى) : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] ويقال في العرف: لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم: لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ، فقالوا: هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه؟} ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا: {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} بحرف الفاء وقال في «ص» : {وقال الكافرون هذا ساحر} بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا: هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} بلفظ الإشارة إلى البعيد.
قوله: «هذا ساحر» إشارة إلى الحاضر القريب فيَنْبَغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهَذَا، وهذا لا يصحُّ إلا على قولنا.
قوله: «أَئِذَا مِتْنَا» قرأ العامَّة بالاستفهام؛ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر والأعْمش والأعْرج بهمزة واحدة فيحتمل الاستفهام كالجمهور. وإنما حذف الأداة للدلالة، ويحتمل الإخبار بذلك، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنُبْعَثُ أو أنَرْجِعُ إِذا مِتْنَا. وجواب «إذا» على قراءة الخبر محذوف أي رَجَعْنَا. وقيل قوله: «ذَلِكَ رَجْعٌ» على حذف الفاء، وهذا رأي بعضهم. والجمهور لا يجوز ذلك إلاَّ في شعر (وقال الزمخشري) : ويجوز أن يكون الرَّجْعُ بمعنى المرجوع وهو الجواب،(18/11)
ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على «ما» على هذا التفسير حَسَنٌ.
فإن قيل: فما ناصب الظرف إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المرجوع؟ .
فالجواب: ما دلّ عليه المُنْذِر من المُنْذَرِ به وهو البَعْثُ.
فصل
قال ابن الخطيب: «ذلك» إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله: هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان نقول: المجيء والجائي كل واحد حاضراً وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن المنذر به كان جازماً على الحاضر، فقالوا فيه ذلك. والرجوع مصدر رَجَعَ إذا كان متعدياً والرجوعُ مصدر إذا كان لازماً وكذلك الرُّجعى مصدر عند لُزُومه. والرجوع أيضاً يصحّ مصدراً للاَّزم فيحتمل أن يكون المراد بقوله: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي رجوعٌ بعيد، ويحتمل أن يكون المراد: الرّجْعَى المتعدِّي، ويدل على الأول قوله تعالى: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} [العلق: 8] وعلى الثاني قوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} [النازعات: 10] أي مرجوعون؛ فإنه من الرجوع المتعدي.
فإن قلنا: هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه.
فصل
قال المفسرون: تقديره: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً نُبْعَثُ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه: «ذَلِكَ رَجْعٌ» أي رد إلى الحياة «بَعِيدٌ» غير كائن أي يَبْعُدُ أنْ نُبْعَثَ بعد الموت.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} أي تأكل من لحومِهِم ودمائِهِم وعِظَامهم، لا يعزب عن علمه شيء. وقال السدي: هو الموت يَقُول: قد علمنا من يموتُ منهم، ومن يبقى.(18/12)
وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجعُ منه ببعيدٍ، وهذا كقوله تعالى:
{وَهُوَ الخلاق العليم} [يس: 81] . حيث جعل العلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب لِمَا كانوا يقولون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.
قوله تعالى: {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي محفوظ من الشياطين ومن أن يَدْرِس أو يتغيَّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل: معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم: قال ابن الخطيب: وهذا هو الأصحّ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود 86] وقال: {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه: العلم عندي كما يكون في الكتاب، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ.
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ} هذا إضراب ثانٍ، قال الزمخشري: إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق. وقال أبو حيان: وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل. قال شهاب الدين: وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل: قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها: ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا. وما قاله الزمخشري أحسَنُ.
فصل
في المضروب عنه وجهان:
أحدهما: أنه الشكّ تقديره: والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.
والثاني: تقديره: لم يكذب المنذر بل كذبوا هم.
وفي المراد بالحق وجوه:
الأول: البرهان القائم على صدق الرسول - (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -) .(18/13)
الثاني: الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول؛ لأنه برهانٌ.
الثالث: السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ.
الرابع: الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.
فإن قيل: ما معنى الباء في قوله تعالى: (بالحَقِّ) ؟ وأيةُ حاجة إليها؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون} [القلم: 5 و6] .
فالجواب: أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية؛ لأن التكذيب (هو النسبة إلى الكذب) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول، تقول: كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول: كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي، ويقال: كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول: قلتُ لفلان: زيدٌ يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو كذب قولي. والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} [الشعراء: 141] وقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} [القمر: 23] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} [الأعراف: 64] وقال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] . وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى: {كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا} [القمر: 42] وقال: {كَذَّبُواْ بالحق} [ق: 5] . وقال: {وَكَذَّبَ بالصدق} [الزمر: 32] .
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً.
ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال: ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه؛ فإذا قلت: مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية، لعدم ظهوره في نفسه؛ لأن قولك: مَرَّ السَّحَاب يفهم منه مُرُور، (و) لا يفهم مَنْ مَرَّ به.
ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول: ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب، أما إذا ضربته بسوطٍ أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز: مَرَرْتُهُ(18/14)
إلا مع الاشتراك وتقول: مَسَحْتُهُ ومسحتُ به، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية، وقوله: «لما جاءهم» هو المكذب تقديره: وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر.
قوله: لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد «لما» ، وهي إما حرف وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين كما تقدم. وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم: كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها.
قوله: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أي مختلط، قال أبو واقد:
4506 - ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ ... مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ
وقال آخر:
4507 - فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا ... فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ
وأصله من الحركة والاضطراب، ومنه: مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ملتبس.(18/15)
فصل
قال قتادة: معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه. وقال الحسن: ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ. وقال الزجاج: معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرة شاعرٌ، ومرة ساحرٌ، ومرة معلّمٌ، ومرة كاهنٌ، ومرة معترّ ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم.(18/16)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
ثم ذكر الدليل الذي يدفع قولهم: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] فقال: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب، وهو نظير قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} [الأحقاف: 33] .
قوله: «أَفَلَمْ» الهمزة للاستفهام. واعْلَم أن همزة الاستفهام تارةً تدخل على الكلام بغير واو وتارة تدخل ومعها واو والفرق بينهما أن قولك: أَزَيدٌ فِي الدّارِ؟ بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ (يذكره للإنكار.
فإن قلت: أَوَ زَيْدٌ في الدار بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمس) يشير بالواو إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين، لأن الواو تُنْبِئُ عن سبق أمر مغايرٍ لما بعدها وإن لم يكن هناك سابقٌ لكن تأتي بالواو زيادة في الإنكار.
فإن قيل: كيف أتى هنا بالفاء فقال: «أَفَلَمْ» وفي موضع آخر بالواو؟ {.
فالجواب: هنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب لمخالفة ما قيلَ.
فإن قيل: ففي «يس» سبق ذلك بقوله: {قَالَ مَن يُحيِي العظام} [يس: 78] ؟ .
فالجواب: بأن هناك الاستدلال بالسموات لم يعقب الإنكار بل استدل بدليلٍ آخرَ وهو قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب إنكارهم، فذكر بالفاء.(18/16)
فإن قيل: كيف قال ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية؟} .
فالجواب: أنهُمْ ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم: {ذلك رجع بعيد} استبعد استبعادهم وقال: أفلم ينظروا؛ لأن النظر دون الرؤية فقال النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع، ولا حاجة إلى الرؤية، ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد وهناك لم يوجد منهم إنكار فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتمُّ من النظر.
قوله: {إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ} فقوله: «فَوْقَهُمْ» حال من السماء وهي مؤكدة وكَيْفَ منصوبة بما بعدها وهي معلِّقةٌ للنظر قبلها.
فإن قيل: كيف قال: إلى السماء ولم يقل: فِي السَّماء؟! .
فالجواب: لأنَّ النظر في الشيء ينبئ عن التأمّل والمبالغة والنظر إلى الشيء لا ينبئ عنه؛ لأن «إِلى» غايةٌ منتهى النظر عنده وفي الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى النظر فيه.
قوله: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي شُقوقٍ وفتوقٍ وصُدُوعٍ، واحدها فَرْج.
«وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا» بسطناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابتَ {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} حَسَنٍ كريمٍ يبهج به أي يستر.
قوله: «تَبْصِرَةً» العامة على نصيبها على المفعول من أجله أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم. وقيل: منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بَصِّرْهُم تبصرةً وذكِّرهم تذكرةً.
وقيل: حالان أي مُبَصَّرين مُذَكَّرِينَ، وقيل: حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ: وذِكْرٌ أي هي: تبصرةٌ وذكرٌ و «لِكُلِّ» إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر. وقال البغوي: تَبَصُّراً وتَذْكِيراً.(18/17)
فصل
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون الأمْران عائدين إلى السماء والأرض أي خَلَقَ السماء تبصرةً وخلق الأرض ذكْرى. ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان. وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتُذَكِّر، فالسماء تبصرة والأرْض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة عند التَّنَاسِي.
قوله: {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي لتُبصِّرَ وتُذَكِّر كل عبد منيب: أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل.
قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} كثير الخير، وفيه حياة كل شيء وهو المطر {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} ، يعني البُرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد، فقوله: «وحَبَّ الحَصِيدِ» يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به، تقديره وحب الزرع الحصيد، نحو: مَسْجَدُ الجَامِعِ وبابه وهذا مذهب البصريين؛ لئلا يلزم إِضافة الشيء إلى نفسه. ويجوز أن يكون من إِضافة الموصوف إلى صفته؛ لأن الأصل والحَبُّ الحصيدُ أي المَحْصُودُ.
فصل
هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إِنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت.
فإن قيل هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فما الفائدة من إعادة قوله: {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} ؟ .
فالجواب: أن قوله: وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلاً للنبات، اللحم والشعر(18/18)
وغيرهما، وقوله: «وَأَنْبَتْنَا» استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسانِ بعد الموت ينمُو ويزيدُ أي يُرجِعُ الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
قوله تعالى: {والنخل بَاسِقَاتٍ} والنخل منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و «باسقات» حال، وهي حال مقدّرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طُوالاً. والبُسُوقُ الطّول يقال: بَسَقَ فُلانٌ على أصحابه أي طال عليهم في الفضل، ومنه قول ابْنِ نَوْفلِ في ابن هُبَيْرَةَ:
4508 - يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ ... بَسَقَتْ (عَلَى) قَيْسٍ فَزَارَهْ
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسُق بُسُوقاً أي طالت، قال الشاعر:
4509 - لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ البَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولاً ... وَفَات ثِمَارُها أَيْدِي الجُنَاةِ
وبَسَقَت الشَاةُ ولدت، وأبْسَقَتِ الناقةُ وَقَعَ في ضَرْعِهَا اللبأ قبل النتاج، ونُوقٌ مَبَاسِقٌ من ذلك.
قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقاتٍ طوالاً. وقال سعيد بن جبير: مستويات والعامة على السين في باسقات، وقرأ قُطْبَةُ بنُ مالك - ويرويها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باصِقَات. وهي لغة لبنِي العنبر يُبْدلونَ السِّين صاداً قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين.(18/19)
قوله: «لَهَا طَلْعٌ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في «بَاسِقَاتٍ» ويجوز أن يكون الحال وحده «لَهَا» وطلع فاعل به. ونَضِيدٌ بمعنى مَنضُود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع، وهو عجيب، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجَوْزِ واللَّوز وغيرهما، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَة الواحدة يكون على أصل واحدٍ.
قوله: «رزْقاً» يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال: أنبتناها إنباتاً للعباد ويجوز أن تكون مفعولاً له للعباد، إمّا صفة، وإما متعلق بالمصدر، وإِما مفعولاً للمصدر، واللام زائدة، أي رِزْقاً العبادَ.
فصل
قال ابن الخطيب: ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض: «تَبْصِرَةً وذِكْرَى» وفي الثمار قال: «رِزْقاً» والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة؟
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أن الاستدلال وقع لوجود أمرين: أحدهما الإعادة، والثاني: البقاء بعد الإعادة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم، والعقاب الدائم، وأنكروا ذلك، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى: {تبصرة وذكرى} حيث ذكر ذلك بعد الآيتين، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات.
ثانيها: منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا: لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع.(18/20)
ثالثها: قوله: رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون.
فصل
قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} فقيّد العبد بكونه منيباً، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام، فلم يخصص بقيدٍ.
قوله: «فَأَحْيَيْنَا بِهِ» أي بالماء و «مَيْتاً» صفة ل «بَلْدَةً» ولم يؤنث حملاً على معنى المكان. والعامة على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] حيث أثبت (الهاء) هناك؟
فالجواب: أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى الفاعلية ظاهر فيثبت فيه الهاء، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء، ويحقق هذا قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ: 15] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر.
قوله: «كَذَلِكَ الْخُرُوجُ» أي من القبور أي كالإحياء الخروج.
فإن قيل: الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج؟
فالجواب: تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات.
قال ابن الخطيب: وهذا يؤكد قولنا: إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله: {ذلك رجع بعيد} ؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول: كذلك الإخراج فلما قال: كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال: كذلك الرجوع والخروج.(18/21)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... } الآية ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم وأنذرهم بإهلاكهم، وفيه تسلية للرسول، وتنبيه بأن حالَهُ كحال من تقدمه من الرسل كُذبوا وصَبَرُوا فأهلك الله مكذّبيهم ونصرهم. والمراد بأصحاب الرَّسِّ قيل: هم قوم شعيب، وقيل: الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم من قوم عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: هم أصحاب الأخْدود والرس إمَّا موضع نسبوا إليه، أو فَعْل وهو حَفْرُ البئر، يقال رسَّ إذا حفر بئراً. وقد تقدم في الفرقان. وقال ههنا: «قوم نوح» ، وقال: «إخوان لوط» ؛ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم هم معارف لوط، ونوح كان مرسلاً إلى خلْق عظيمٍ، وقال: «فرعون» ولم يقل: «قوم فرعون» ، وقال: «قوم تبع» ؛ لأن فرعون كان هو المعتبر، المستبدّ بأمره، وتبَّع كان معتضداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون وخصه بالذكر. وتبع هو تبع الحِمْيرِيّ، واسمه سعد أبو كرب. قال قتادة: ذم الله قوم تبع ولم يذمه وتقدم ذكره في سورة الدخان.
قوله: «الأَيْكَة» تقدم الكلام عليها في الشعراء. وقرأ ههنا لَيْكَةَ - بزنة ليلة - أبو جعفر وشيبةُ، وقال أبو حيان: وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع الأيكة - بلام التعريف - والجمور لَيْكَة. وهذا الذين نقله غفلة منه بل الخلاف المشهور إنما هو في سورة الشعراء و «ص» كما تقدم تحقيقه وأما هنا فالجمهور على لام التَّعرِيْف.
قوله: «كُلٌّ» التنوين عوض عن المضاف إليه. وكان بعض النحاة يُجيزُ (حَذْفَ) تنوينها وبناءَها على الضم كالغاية نحو: قَبْلُ وبَعْدُ. واللام في الرسل قيل(18/22)
لتعريف الجنس وهو أن كل واحد كذب جميع الرسل وذلك على وجهين:
أحدهما: أن المكذب للرسول مكذب لكل الرّسل.
وثانيهما: أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية.
قوله: «فَحَقَّ وَعِيدِ» أي وجب لهم عذابي أي ما أوعد الله تعالى من نُصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.(18/23)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قوله: «أَفَعَيِينَا» العامة على ياء مكسورة بعدها ياء ساكنة. وقرأ ابنُ عَبْلَةَ أفعُيِّنا بتشديد الياء من غير إشباع، وهذه القراءة على إشكالها قرأ بها الوليدُ بن مسلم وأبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ في رواية. وروى ابن خالويه عن ابن عبلة أَفَعُيِّينَا كذلك، لكنه أتى بعد الياء المشددة بأخرى ساكنة وخرجها أبو حيان على لغة من يقول في عَيِيَ عَيَّ وفي حَيِيَ حَيَّ بالإدغام. ثم لما أسند هذا الفعل وهو مدغم اعتبر لغة بكرِ بْنِ وائل وهو أنهم لا يفكون الإدغامَ في مثل هذا إذا أسندوا ذلك الفعل المدغم لتاء المتكلم ولا إحدى أخواتها التي تسكن لها لام الفعل فيقولون في رَدّ ردّت وردّنا، قال: وعلى هذه اللغة تكون التاء مفتوحة. ولم يذكر توجيه القراءة الأخرى. وتوجيهها أنها من عَيَّا يُعَيِّي كَحلَّى يُحَلِّي.
فصل
ومعنى أفعيينا بالخلق الأول أي أَعَجَزْنَا حين خلقناهم أولاً فتعبنا بالإعادة. وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث، ويقال لكل من عجز عن شيء عَيِي بِهِ.
{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أي شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث. والمراد بالخلق الأول قبل(18/23)
خلقهم ابتداء لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] . وقيل: هو خلق السموات لأنه هو الخلق الأول فكأنه تعالى قال: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء} [ق: 6] ثم قال: «أَفَعَيِينَا» بهذا، ويؤيدهُ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] وقال بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} وعطفه بحرف الواو على ما تقدم من الخلق، وهو بناء السموات، ومدّ الأرض، وتنزيل الماء وإنبات الحبِّ.
فصل
عطف دلائل الآفاق بعضها على بعض بحرف الواو فقال: «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» ، ثم في الدليل النفسيّ ذكر حرف الاستفهام، والفاء بعده إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس، وهذا من جنس، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك، ومثل هذا مراعى في سورة «يس» حيث قال: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ} [يس: 77] .
فإن قيل: لِمَ لَمْ يعطف الدليل الآفاقيّ ههنا كما عطفه في سورة يس؟
فالجواب - والله أعلم - أن ههنا وُجِدَ منهم استبعاد بقولهم: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثم نزل كأنه قال: لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز إرْشادِهِمْ لا ليدفع استبعادهم فبدأ بالأَدْنَى وارتقى إلى الأعْلى.
فصل
في تعريف «الخلق الأول» وتنكير «خلق جديد» وجهان:
الأول: أن الأول عرفه كل أحد و «الخلق الجديد» لم يعرفه كل أحد ولم يعلم كيفيته ولأنَّ الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد.
الثاني: أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا: أيكون لنا خلق على وجه إنكار الإله بالكلية.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} .
قوله: «وَنَعْلَمُ» خبر مبتدأ مضمر تقديره: ونَحْنُ نَعْلَمُ، والجملة الاسمية حينئذٍ حالٌ. ولا يجوز أن يكون هو حالاً بنفسه، لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، وكذلك قوله: «ونحن أقرب» .(18/24)
فصل
إذا قلنا: بأن الخلق الأول هو خلق السموات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان، وإذا قلنا: بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة، وقوله {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي يحدث به قلبه، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علمَ الله شيءٌ، وهذا بيان لكمال علمِهِ.
قوله: {مِنْ حَبْلِ الوريد} كقولهم: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أي حبل العِرْقِ الوَرِيدِ. أو لأنَّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو: بعيرُ سَانِيَةٍ أو يراد: حبل العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد. قال البغوي: حبل الوريد عرق العُنُق وهو عرق بين الحُلْقُوم والعِلْبَاوَيْنِ تتفرق في البدن، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الوُرُود. والوريدُ عرق كبير في العنق. فقال: إنهما وَرِيدان. قال الزمخشري: عرقان مُكْتَنِفَان بصفحتي العُنُق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريداً لأنَّ الروح ترد إليه وأنشد:
4510 - كَأَنَّ ورِيدَيْهِ رشَاءَا خُلَّبِ ... وقال أبْرَمُ: هو نهر الجسد وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم.
قوله: «إذْ يَتَلَقَّى» ظرف ل «أَقْرَب» ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ. والمعنى إذ(18/25)
يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه.
قوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} أي أحدهما عن يَمِينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقوله: «قَعِيدٌ» أي قاعد، فيجوز أن يكون مفرداً على بابه، فيكون بمعنى مُقَاعِد كخَلِيطٍ بمعنى مخالط. وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد المخالط لأجزائه الداخل في أعضائه والملك متنحٍ عنه فيكون علمنا به أكمل من علم الكاتب، أو يكون عدل من فاعل إلى فعيل مبالغة كعليم. وجوز الكوفيون أن يكون فعيلٌ واقعاً موقع الاثنين أراد قعوداً كالرسوب يجعل للاثنين والجمع كما قال تعالى في الاثنين: {فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] . وقال المبرد: الأصل: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فأخر عن موضعه، وهذا لا يُنَحِّي من وقوع المفرد موقع المثنى، والأجود أن يدعى حذف إما من الأول أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأول.
ومثله قوله:
4511 - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْل الطَّوِيِّ رَمَانِي
قال المفسرون: أراد بالقعيد اللازم الذي لا يبرح لا القائم الذي هو عند القائم. وقال مجاهد: القَعِيدُ: الرصيد.
قوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} أي ما يتكلم من كلام فيلقيه أي يرميه من فيه {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} حافظ حاضر. وقرأ العامة «يَلْفِظُ» بكسر الفاء. ومحمد بن (أبي) مَعْدَان بفتحها. وَ «رَقِيبٌ عَتِيدٌ» قيل: هو بمعنى رقيبان عتيدان أينما كان. قال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالتين عند غَائِطِهِ، وعند جَمَاعِهِ. وقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه(18/26)
ويُوزَرُ فيه. وقال الضحاك: مَجْلِسُهُمَا تحت الشعر على الحَنَك ومثله عن الحسن يعجبهُ أن ينظف عَنْفَقَتَه. وروى أبو أُمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «كاتب الحسنات على يمين الرَّجل وكاتِبُ السَّيئات على يسار الرَّجُلِ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئاتِ، فَإذَا عَمِلَ حَسَنةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْراً، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ» .(18/27)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتجلب على عقله.
قوله: «بالْحَقِّ» يجوز أن تكون الباء للحال أي مُلْتَبسةً بالحقّ والمعنى بحقيقة الموت، ويجوز أن تكون للتعدية والمراد منه الموت فإنه حق كأن شدة الموت تحضر الموت، يقال: جاء فلان بكذا أي أحضره، وقيل: بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعَيَان. وقيل: بما يَؤُول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة.
وقرأ عبد الله: سَكَرَاتُ.
ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تحيد أي تميل، من حَادَ عن الشيء يَحِيدُ حُيُوداً وحُيُودَةً وحَيْداً. وقال الحسن: تهرب، وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) تكره وأصل الحَيْدِ: الميلُ، يقال: حُدْتُ عن الشيء أَحِيدُ حَيْداً ومَحِيداً إذا مِلْت عنه، و «ذلك» يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت وأن يكون إشارة إلى الحق. والخطاب قيل مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قال ابن الخطيب: وهو مُنْكَر، وقيل: مع الكافر. وهو أقرب. والأقْوى أن يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع.(18/27)
قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} عطف على قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} يعني نفخة البعث {ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد} الذي وعد الكفار أن يعذبهم فيه. قال الزمخشري: «ذلك» إشارة إلى المصدر الذي هو قوله: «وَنُفِخَ» أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن «يوم» لو كان منصوباً لكان ما ذكره ظاهراً، وأما رفع «يوم» فيفيد أن ذلك نفس اليوم، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان.
فالأولى أن يقال: «ذلك» إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله: «ونفخ» لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه قال تعالى: ذلك الزمان يوم الوعيد، والوعيد هو الذي أَوْعَدَ به من الحَشر، والمجازاة.
قوله: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} قيل: السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنْه إلى مقعده، والشهيدُ هو الكاتب. والسائق لازم للبرِّ والفَاجِرِ، أما البَرُّ فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار، قال تعالى: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ ... وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة} [الزمر: 71 - 73] ، والشهيد يشهد عليها بما عملت. قال الضحاك: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وقيل: هما جميعاً من الملائكة.
قوله: «مَعَهَا سَائِقٌ» جملة في موضع جر صفة «لِنَفسٍ» أو في موضع رفع صفة «لكُلّ» أو في موضع نصب حالاً من «كُلّ» . والعامة على عدم الإدغام في «معها» وطلحة على الإدغام «مَحَّا» بحاءٍ مشددة، وذلك أنه أدغم العين في الهاء، ولا يمكن ذلك فقلبت الهاء حاء ثم أدغم فيها العين فقلبها حاءً.
وسمع: ذَهَبَ مَحُّمْ أي معهم. وقال الزمخشري: ومحل «مَعَهَا سَائقٌ» النصب على الحال من «كُلّ» ؛ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة. وأنْحى عليه أبو حيان وقال: لا يقولُ هذا مبتدئٌ في النحو، لأنه لو نعت «كُلُّ نَفْسٍ» مَا نعت إلا بالنكرة. قال شهاب الدين: وهذا منه غير مرض إذ يعلم أنه لم يرد حقيقة ما قاله.(18/28)
قوله: «لَقَدْ كُنْتَ» أي يقال له: لَقَدْ كُنْتَ، والقول إما صفة أو حال. والعامة على فتح التاء في «كُنْتَ» والكاف في «غِطَاءَكَ» و «بَصُرَكَ» حملاً على لفظ «كل» من التذكير. والجَحْدَريّ: كُنْتِ بالكسر مخاطبة للنفس. وهو وطلحة بن مصرف: {عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ} بالكسر مراعاة للنفس أيضاً. ولم ينقل صاحب اللوَّامح الكسر في الكاف عن الجَحْدَري، وعلى كل فيكون قد راعى اللفظ مرةً والمعنى أُخْرَى.
فصل
والمعنى {لقد كنت في غفلة من هذا} اليوم فكشفنا عنك الذي كان في الدنيا وعلى قلبك وسمعك وبصرك {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} نفاذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد: يعني نظرك على لسان ميزانك حيث توزن حسناتكَ وسيِّئَاتُكَ. والمعنى أزلنا غَفْلَتَك عنك فبصرك اليوم حديد وكان من قبل كليلاً.(18/29)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} قيل: المراد بالقرين: الملك الموكل به وهو القعيد والشهيد الذي سبق ذكره {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} يريد كتاب أعماله معدٌّ محضَرٌ. وقيل: المراد بالقرين الشيطان الذي زين له الكفر والعصيان بدليل قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25] وقال: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] وقال تعالى: {فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38] فالإشارة بهذا السَّوْق إلى المرتكب للفجور والفسوق. والقعيد معناه المعتد الناد ومعناه أن الشيطان يقول: هذا العاصي شيء هو عندي معتد لجهنم أعتدته لها بالإغواء والإضلال.
قوله: {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} يجوز أن تكون «ما» نكرة موصوفة و «عتيد» صفتها و «لَدَيَّ» متعلق بعَتِيدٍ أي هذا شيء عتيدٌ لدي أي حاضر عندي ويجوز على هذا أن يكون «لَدَيَّ» وصفاً ل «ما» و «عتيد» صفة ثانية، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو عتيدٌ، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي و «لَدَيّ» صلتها ولَدَيَّ خبر الموصول والموصول وصلته خبر الإشارة ويجوز أن تكون «ما» بدلاً من هذا موصولة كانت أو موصوفة(18/29)
ب «لَدَيَّ» و «عتيد» خبر «هذا» . وجوز الزمخشري في «عتيد» أن يكون بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبَر مبتدأ محذوف. والعامة على رفعه، وعبد الله نصبه حالاً. والأجود حينئذ أن تكون «ما» موصولة؛ لأنها معرفة والمعرفة يكثر مجيء الحال منها. قال أبو البقاء: «ولو جاز ذلك في غير القرآن لجاز نصبُهُ على الحال» كأنَّه لم يطلعْ عليها قراءةً.
قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} اختلفوا هل المأمور واحد أو اثنان؟ فقيل: واحد. وإنما أتى بضمير الاثنين دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل: أَلْقِ أَلْقِ. وقيل: أراد أَلْقَيَنْ بالنون الخفيفة، فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف، ويؤيده قراءة الحسن (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -) أَلْقِيَنْ بالنون. وقيل: العرب تخاطب الواحد مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقوله:
4512 - فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أزْدَجِرْ ... وَإنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وقال آخر:
4513 - فَقُلْتُ لِصَاحِبي: لاَ تَحبسانا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْدَزَّ شِيحَا(18/30)
وتقول العرب: ويحك ارْجِلاَهَا وازْجُرَاهَا وخُذاها للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك أن أدنى أعوانِ الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان فجرى كلام الواحد على صاحبه، ومنه قولهم في الشعر: خليليَّ. وقال الزجاج: هذا أمر السائق والشهيد. وقيل: للمتلقين.
قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} الكفار يحتمل أن يكون من الكُفْر فيكون بمعنى شديد الكفر لأن الشديد في اللفظ بدل على شدة في المعنى، ويحتمل أن يكون الكُفْران فهو المنكر نعم الله مع كثرتها.
و «العنيدُ» فعيل بمعنى فاعل من عَنِدَ عُنُوداً، ومنه العِنَادُ. والمعنى عاصٍ معرض عن الحق. قال عكرمة ومجاهد: مجانبٍ للحق ومعاندٍ لله.
قوله: «مَنَّاع للخير» أي كثير المنع للمال والواجب من الزَّكاة وكُلّ حق واجب في ماله هذا إذا قلنا إن الكفار هو المنكر نعم الله تعالى. وإن قلنا: هو من الكفر فهو الذي أنكر دلائل وحدانية الله تعالى مع قوّتها وظهورها، فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الحق الواضح فهو مناع شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خَيْرٌ محض، كأنه يقول: كفر بالله ولم يقتنع بكفره، حتى مَنَعَ الخير من الغَيْر.
قوله: «مُعتَدٍ» فإن فسرنا المَنَّاع بمنَّاع الزكاة فمعناه لمن يؤدِّ الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالرِّبا كما كان عادة المشركين، وإن كان المنّاع بمعنى منع الإيمان فكأنه يقول: مَنَعَ الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه، وأهان مَنْ آمَن، وآذاهُ، وأعان من كفر فَآوَاهُ. قال المفسرون: هو الظالم الذي لا يُقرُّ بتوحيد الله تعالى.
وقوله: «مُرِيبٍ» أي شاكّ في التوحيد. ومعناه دخل في الرَّيْب، وقيل: موقع للغير في الريب بإلقاء الشُّبَه. وإن قيل: بأن المنَّاع مَنَّاعُ الزكاة فمعناه لا يعطي الزكاة لأنه في رَيْبٍ من الآخرة والثواب. قال ابن الخطيب: وفيه ترتيب آخر وهو أن يُقَالَ: هذا بيان أحوال الكافر بالنسبة إلى الله تعالى وإلى الرَّسُول وإلى اليوم الآخر. فقوله: «كَفَّار عَنيد» إشارة إلى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ يكفر به ويعاند آياته. وقوله: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} ، إشارة إلى حَالِهِ مع الرسول يمنع الناس اتّبَاعَهُ ومن الإنفاق على مَنْ عنده وبتعدَّى بالإيذاء وقوله: «مريب» إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يَرْتَاب فيه ولا يظن أن الساعة قائمةٌ.
فإن قيل: قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} إلى غير ذلك(18/31)
يوجب أن يكون الإلقاءُ خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر وحده كاف في إثبات الإلقاء في جهنم؟
فالجواب: أن قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال: أعطِ العالم الزاهدَ بل المراد الوصف المبين لكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كقولك: هَذَا حَاتِمٌ السخيُّ. فقوله: {كل كفار عنيد} معناه أن الكافر عنيد ومناع للخير؛ لأن آياتِ الوحدانية ظاهرةٌ ونِعَمَ الله على عباده وافرة وهو مع ذلك عنيد ومناع للخير، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يَمْنَعُ، ومُرِيب لأنه يرتاب في الحَشْر، وكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات.
قوله: «الَّذِي جَعَلَ» يجوز أن يكون منصوباً على الذَّمِّ، أو على البدل من «كُلَّ» وأن يكون مجروراً بدلاً من «كَفَّارٍ» ، أو مرفوعاً بالابتداء والخبر «فَأَلْقِيَاهُ» . قيل: ودخلت الفاء لشبهِهِ بالشرط، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو الذي جعل، ويكون «فَأَلْقِيَاهُ» تأكيداً.
وجوز ابن عَطِيَّة أن يكون صفة «لِكَفَّارٍ» ؛ قال: من حيث يختص «كفار» بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه لهذه المعرفة. وهذا مردودٌ. وقرئ بفتح التَّنوين في «مُرِيب» فراراً من تَوَالي أَرْبع متجانساتٍ.(18/32)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قوله: «قَالَ قَرِينُهُ» جاءت هذه بلا واو؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال: ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه: مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال. قال ابن الخطيب: جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، فإن الفاء في قوله: {فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب} [ق: 26] لا يناسب قوله: «قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ» فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو.(18/32)
فصل
هذا جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شَيْطَانِي، فيقول الشيطان: ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة «ص» : {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} [ص: 60] إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64] . قال الزمخشري: وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ، وعلى هذا فيكون قوله: {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} ، مناقضاً لقوله: أعتدته.
قال ابن الخطيب: وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين:
أحدهما: أن يقول (إن قول) الشيطان: أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له.
والثاني: أن تكون الإشارة إلى حالين، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول: رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: المُرادُ بالقرينِ هنا: الملك أي يقول الكافر: ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل {ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق.
فإن قيل: القائل هنا واحد وقال: رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل: ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال: ربّ، كقوله: {رَبِّ أَرِنِي} [البقرة: 260] وقال نوح: {رَّبِّ اغفر لِي} [نوح: 28] {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض} [نوح: 26] {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً} [التحريم: 11] «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي» .
فالجواب: أن في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول: أعطِنا لأن كونه: «رَبًّا» لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ. وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال: ربنا ما أطغيته.
فإن قيل: ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ؟(18/33)
فالجواب: أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً، وإذا عدم الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله: «ضلال بعيد» وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال: كلامٌ صَادقٌ، وعيشةٌ راضيةٌ أي (و) ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق (وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع، فتارةً قال: {في ضلال مبين} ، وأخرى: {في ضلال بعيد} .
فإن قيل: كيف قال: ما أطغيته مع أنه قال: «لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري.
والثالث: أن المراد من قوله: «لأغوينهم» أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص: أنت على الجَادَّة فلا تترُكها، يقال: إنه يضله. كذا ههنا، فقوله: «ما أطغيته» أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي.
قوله: «لاَ تَخْتَصِمُوا» استئناف أيضاً كأن قائلاً قال: فماذا قال الله له؟ فأجيب: يقال لا تختصموا وقوله: «لَدَيَّ» يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ، والوقوفِ بين يَدَيَّ.
قوله: «وَقَدْ قَدَّمْتُ» جملة حالية، ولا بدّ من تأويلها، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ. و «قَدَّمْتُ» يجوز أن يكون «قدمت» على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد، كقوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] على قول من قال بزيادتها هناك. وقيل: الباء هنا للمصاحبة، كقولك: اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال: قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار.(18/34)
قوله: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أي لا تبديل لقولي، وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] . وقيل المعنى ما يبدل القول لديَّ أي ما يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلمُ الغيب. وهذا قول الكلبي، ومقاتل، واختيار الفراء؛ لأنه قال: {ما يبدَّل القول لدي} ولم يقل: «ما يبدل قولي» . وقيل: معناه ما يبدل القول السابقُ أنّ هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد، فذلك القول عندي لا تبديل له بسَعي ساعٍ.
وهذا ردّ على المُرْجِئَةِ حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوَعيد فَهُو تخويفٌ ولا يحقق اللَّهُ منه شيئاً، وقالوا: الكريم إذا وعد بخير وَفَى، وإذا أوعد أخْلَف وَعَفَا. وقيل: المعنى ما يُبَدَّلُ الكفر بالإيمان لَدَيَّ، فإن القيام عند القيام بين يدي الله في القيامة غير مقبول فقوله: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} إشارة إلى نفي الحال، كأنه قال: ما يبدل اليومَ لدي القول؛ لأن «ما» إذا دخلت على الفعل المضارع ينفى بها الحال، تقول: مَاذَا يَفْعَلُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ؟ فيقال: مَا يَفْعَلُ شيئاً أي في الحال فإذا قلت: ماذا يَفْعَلُ غداً؟ قيلَ: لا يفعل شيئاً إذا أريد زيادة بيان النفي.
قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي فأعاقبهم بغير جُرْم. واعلم أن الظلاَّم مبالغةٌ في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل: هو كذاب يلزم أن يكون كثيرَ الكَذِب، فلا يلزم من نفيه نفي أصلِ الكذب لجواز أن يقال: ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله: {مَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ} يفهم منه نَفي أصلِ الظلم وأن الله ليس بظالم. والوجه في ذلك من وجوه:
الأول: أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر، فيكون اللام في قوله: «للعبيد» لتحقيق النِّسبةِ لأن الفَعَّال حينئذ بمعنى ذي ظلم.
الثاني: قال الزمخشري: إن ذَلِكَ أمرٌ تقديريّ كأنه تعالى يقول: لو ظلمتُ عبدي الضعيفَ الذي هو محلّ الرحمة لكان ذلك غايةَ الظلم وما أنا بذلك، فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً، ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع وُسْعِها حتى تَصِيحَ وتقول: لم يبق لي طاقةٌ بهم، ولم يبق فيَّ موضع لهم، «فَهَلْ مِنْ مَزيدٍ» استفهام إنكار.(18/35)
الثاث: أنه لمقابلة الجمع بالجمع، والمعنى أن ذلك اليوم مع أني أُلْقِي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثيرَ الظلم لأنه قال: «وما أنا بظلام للعبيد، يَوْمَ نَقُولُ» ولم يقل: مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ في جميع الأزمان. وخصص بالعبيد حيث قال: {ما أنا بظلام للعبيد} ، ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق، ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت.
وبقية الأوجه مذكورة في آل عِمْرَانَ عند قوله: «بظلام للعبيد» {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11] .
فصل
هذه الآية تدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونهُ ظالماً ولم يلزم منه كونه ظلاَّماً لِغَيْرهم.
فصل
يحتمل أن يكون المراد الكفار كقوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ} [يس: 30] ، المعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم، ويحتمل أن يكون المراد المؤمنين. والمعنى أن الله تعالى يقول: لو بدلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهواب لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأتِ بما أتى به المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد، وهذا معنى قوله تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} [الحشر: 20] وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ويحتمل أن يكون المراد التعميمَ.(18/36)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} يوم منصوب إما «بظَلاَّمٍ» ولا مفهوم لهذا؛ لأنه إذا لم يظلم في هذا اليوم فنفي الظلم عنه في غيره أحرى. أو بقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} [ق: 20] . والإشارة بذلك إلى: يَوْمَ نَقُولُ. قاله الزمَخْشَريّ. واستبعده أبُو حَيَّان؛ لكثرة(18/36)
الفواصل أو باذْكُرْ مقدراً أو بأنْذِرْ. وهو على هذين الأخيرين مفعول به لا ظرف. وقرأ نافعٌ وأبو بكْرٍ: يَقُولُ لِجَهَنَّم بياء الغيبة، والفاعل: الله تعالى، لتقدم ذكره في قوله: {لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ} [ق: 28] والأعمش: يُقالُ مبنياً للمفعول. وقوله: «هَل امْتَلأتِ» وذلك لما سبق من وعده إياها أنه يملأها من الجنَّةِ والنَّاسِ وهذا السؤال من الله - عزّ وجلّ - لتصديق خبره وتحقيق وَعْدِهِ.
قوله: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} سؤال تقرير وتوقيف. وقيل: معناه النفي. وقيل: السؤال لخزنتها والجواب مبهم، فلا بدّ من حذف مضاف أي نقولُ لخزنة جهنم ويقولون ثم حذف. و «المزيد» يجوز أن يكون مصدراً أي مِنْ زيادةٍ وأن يكون اسمَ مفعول أي من شيءٍ تَزيدُونَه أَحْرِقُهُ.
فصل
قال المفسرون: معنى قوله: هل من مزيد أي قد امتلأتُ ولم يبق فِيَّ موضعٌ لم يمتلئ، فهو استفهام إنكار بمعنى الاستزادة، رواه أبو صالح عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله: هل امتَلأتِ قبل دخول جميع أهلها فيها. روي عن ابن عباس: أن الله تعالى سبقت كلمته: لأمْلأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما سبق أعداء الله تعالى إليها لا يلقى فيها فوجٌ إلا ذهب فيها ولا يمَلأُها فتقول: ألستَ قد أقسمتَ لتَمَلأَنِّي فيضع قدمه عليها ثم يقول: هل امْتَلأتِ؟ فتقول: قَطْ قَطْ قد امتلأت وليس فِيَّ مزيد.
قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة} قربت وأدنيت وقوله: «غَيْرَ بَعِيدٍ» يجوز أن يكون حالاً من «الجنة» ولم يؤنث؛ لأنها بمعنى البُسْتَان، أو لأن «فَعِيلاً» لا يؤنث؛ لأنه بزنة(18/37)
المصادر، قاله الزمخشري ومنعه أبو حيان، وقد تقدم في قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني، أي مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد، وهو ظاهر عبارة الزمخشري، فإنه قال: أو شيئاً غير بعيد.
فإن قيل: ما وجه التقريب مع أن الجنة مكانٌ، والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أن الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانْتِقَال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل: فعلى هذا ليس إزْلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزْلاَفِ المؤمنِ من الجنة فما فائدة قوله: «أزلفت الجنة» ؟
فالجواب: أن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه، وأنه مِمَّنْ يمشى إليه.
الثاني: قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني.
الثالث: أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن ويحتمل أنها أُزْلِفَتْ بمعنى جَمَعَت محاسنها، لأنها مخلوقة، وإما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحقّ بها.
قوله: {هذا مَا تُوعَدُونَ} هذه الجملة يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون معترضة بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه، وذلك أن «لِكُلِّ أَوَّاب» بدل من «المتقين» بإعادة العامل.
والثاني: أن تكون منصوبة بقول مُضْمَرٍ، ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقد تقدم في (سُورَة) «ص» أنه قرئ: يُوعَدُونَ بالياء والتاء.(18/38)
ونسب أبو حيان قراءة الياء من تحت هنا لابن كثير، وأبي عمرو، وإنما هي عن ابن كثيرٍ وَحْدَهُ.
فصل
والأواب الرَّجَّاعُ، قيل: هو الذي يَرْجِعُ عن الذنوب إلى الاستغفار والطاعة، قال سعيد بن المُسَيِّب: هو الذي يُذْنبُ ثم يتوب، ثم يُذْنِبُ ثم يتوبُ. وقال الشَّعْبِيُّ ومجاهدٌ: هو الذي يذكر ذنوبهُ في الخَلاَءِ فيستغفر منها. وقال عطاء، وابن عباس: هو المسبِّح من قوله: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] وقال قتادة: هو المصلِّي. والْحَفِيظُ: هو الذي يحفظ تَوبته من النّقص. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هو الذي يحفظ ذُنُوبَهُ حتَّى يرجع عنها ويستغفر منها. وقال ابن عباس أيضاً: الحفيظ لأمر الله، وقال قتادة الحفيظ لما استودعه الله من حقِّه. والأوَّابُ والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثيرَ الأَوْبِ شديدَ الحِفْظِ.
قوله: «مَنْ خَشِيَ» يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً، أو بياناً ل «كُلّ» . وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل. انتهى. يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت «لكلّ» من «لِلْمُتَّقِينَ» . ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس «لِلْمُتَّقِينَ» لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد. ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف «أَوَّابٍ وحَفِيظٍ» قاله الزمخشري. يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ، فيكون «مَنْ خَشِيَ» بدلاً من «شَخْص» المقدر. قال: ولا يجوز أن يكون في حكم «أواب وحفيظ» ؛ لأن «مَنْ» لا يوصف بها، لا يقال: الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ، كما يقال: الرجل الذي جَاءَني جالسٌ. والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده. ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي يعني بقوله: «في حكم أواب» أن يجعل من صفة. وهذا كما قال لا يجوز، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال: بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة، نحو: الضَّارِبُ والمَضْرُوب، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم: «بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ، والْكَرَامَةِ ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ» .(18/39)
وقد جوز ابن عطية في: «مَنْ خَشِيَ» أن يكون نعتاً لما تقدم. وهو مردود بما تقدم. ويجوز أن يرتفع: مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر أو ينصب بفعل مضمر، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله: ادْخُلُوها وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى.
وقيل: مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ. وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم. و «بالْغَيْبِ» حال أي غائباً عنه، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما، وقيل: الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه. ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ.
فصل
قال ابن الخطيب: إذا كان «مَنْ والَّذي» يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟
فنقول: «ما» اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء، والعَرَضَ شيء، والواجب شيء، والممكن شيء، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً من البعد تقول أولاً: إنَّه شيء، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول: إنسان، فإذا بان لك أنه ذكر قلت: إنه رجل، فإذا وجدته ذا قوة تقول: شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف، وهو قبل الأخَص في الفهم، فلا يجوز أن يكون صفة، لأنَّ الصفة بعد الموصوف. هذا من حيث المعقول، وأما من(18/40)
حيث النَّحْو، فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال: جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي، كما يقال: جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها. فقولنا: عالم أي شيء له علم.
فصل
والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فَرْقٌ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ، لأن تركيب حروف «شَ يَ خَ» في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة، يقال: شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي، لأنَّ تركيب «خَ وَف» في تقاليبها يدل على الضعف، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] ، وقال: {هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى:
{أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة. وقال تعالى: {خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] وقال: «إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف (المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية) .
فصل
معنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب، ولم يره. وقال الضّحاك والسّدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب.
{وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} هذه صفة مدح، لأن شأن الخائف أن يَهْرب، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه.
وقوله: «مُنِيبٍ» أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى. والباء في «بِقَلْبٍ» إما للتعدية، وإما للمُصَاحَبة، وإما للسببية.(18/41)
والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] أي سليم من الشرك.
قوله: «ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ» الجار والمجرور حال من فاعل «ادْخُلُوهَا» أي سالمين من الآفات فهي حال مقارنة، أو مسلّماً عليكم فهي حال مقدرة كقوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] . كذا قيل وفيه نظر، إذ لا مانع من مقارنة وتسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فَادْخُلُوهَا خالدينَ فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول، والضمير في «ادْخُلُوهَا» عائد إلى الجنة، أي ادخلوا الجنة بسلامةٍ من العذاب والهموم وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم.
قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} قال أبو البقاء: أي ومن ذلكَ يَوْمُ الخلود كأنّه جعل «ذَلِكَ» إشارة إلى ما تقدم من إنعام الله عليهم بما ذكره، وقيل «ذَلِك» مشارٌ به لما بعده من الزَّمان، كقولك: هَذَا زَيْدٌ. قال الزمخشري: في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} إضمار تقديره: ذَلِكَ يَوْم تَقْرِير الخُلُود. ويحتمل أن يقال: اليوم يُذْكَرُ ويراد به الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً، تقول: يَوْمَ يُولَدُ لِفُلاَن يكون السرورُ العظيمُ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فالمراد به الزّمان فكأنه تعالى قال: ذَلك زَمَانُ الإقامة الدَّائِمَةِ.
فإن قيل: المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما فائدة القول؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} قول قاله الله في الدنيا، إعلاماً وإخباراً، وليس ذلك قولاً يقولُه عند قوله: «ادخلوها» ، فكأنه تعالى أخبر في يومنا أنَّ ذلك اليوم يومُ الخلود.(18/42)
الثاني: أن اطمئنان القلب بالقول أكثر.
قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} يجوز أن يتعلق «فيهَا» ب «يشاؤون» ويجوز أن يكون حالاً من الموصول، أو من عائِدِهِ والأول أولى.
فصل
ما الحكمة في أنه تعالى قال: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ على المخاطبة، ثم قال: «لَهُمْ» ولم يقل: لَكُم؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: «ادْخُلُوهَا» فيه مقدر، أي فيُقَال لَهُمُ ادْخُلُوها.
فلا يكون التفاتاً.
الثاني: أنه التفات، والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول: غير محلّ بهم في غيبتهم وحضورهم.
ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحورُ والقُصُور.
الثالث: أنه يجوز أن يكون قوله تعالى: «لَهُمْ» كلاماً مع الملائكة، يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم، وَاعْلَمُوا أَنّ لهم ما يشاؤون فيها فأَحْضِروا بين أيديهم ما يشاؤون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تَقْدِرُون أنتم عليه.
و «المزيد» يحتمل أن يكون معناه الزيادة، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول، أي عندنا ما نَزيدهُ على ما يَرْجُون ويَأمَلُونَ.
قال أنس وجابر: هو النظر إلى وجه الله الكريم.(18/43)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} نصب بما بعده. وقدم إما لأنه استفهام، وإما(18/43)
لأن «كم» الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير. و «مِنْ قَرْنٍ» تمييز و «هُمْ أَشَدُّ» صفة إما «لكَمْ» وإما لِقَرنْ.
قوله: «فَنَقَّبُوا» الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل: اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا والضمير في (نَقَّبُوا) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ، ويؤيده قراءة ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - وابن يَعْمُرَ، وأَبِي العَالِيَة، ونَصْرِ بن يَسَار، وأبي حيوة، والأصمعي - عن أبي عمرو - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) فَنَقِّبُوا - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك.
والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد، قال الحارُ بنُ حِلِّزَةَ:
4514 - نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو ... تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
وقال امرؤ القيس:
4515 - وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ
وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية: نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة. ومعناها كما تقدم. وقرئ: نَقِبُوا بكسرها خفيفة أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم(18/44)
ودَمِيَتْ فحذف المضاف، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ.
قوله: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} مبتدأ أو خبر مضمر تقديره: هل لمن سلك طريقهم. أو هل لهم من محيص. وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ وأن لا تكون.
فصل
المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق، فلم يجدوا محيصاً من أمر الله. وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً.
وقيل: المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول: كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرٍو فَغَلَبَهُ. والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ.
وقيل: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} مفر من الموت، فلم يجدوا. وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك، والإهلاك المُدْرك. وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم.
فإن قيل: إذا كان (ذلك للجمع) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} [ق: 31] ؟
فالجواب: ليكون ذلك رَدْعاً بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور (المعاند) ، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه؟(18/45)
فالجواب: أن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها.
وقوله: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيصٌ. وقيل: هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْه؟
ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المَحِيص {هَلْ مِن مَّحِيصٍ؟} .
والمَحِيصُ كالمَحِيدِ غير أن المحيص مَعْدَل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم: «وَقَعَوا فِي حَيْصَ بَيْصَ» أي في شدةٍ وضيق، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ وإن كان بالاختيار، فيقال: حَادَ عن الطَّريق بَطراً. ولا يقال: حَاصَ عن الأَمر بَطَراً.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} ذلك إشارة إلى الإهلاك، أو إلى إزلاف الجنة. و «الذّكرى» مصدر أي تَذْكِرةٌ وعظةٌ {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} .
قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: أي عَقْل. قال الفراء: هذا جائز في العربية تقول: مَا لَكَ قَلْبٌ وَلاَ قَلْبُكَ مَعَكَ، أي عَقْلُك مَعَكَ.
وقيل: له قلب حاضر مع الله. وقيل: قلبٌ واع؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنَّه لا قلب له، ومنه قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] أي هم كالجماد، وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] أي لهم صُوَر، وليس لهم قلب، ولا لسانٌ للشُّكْر.(18/46)
قوله: {أَوْ أَلْقَى السمع} العامة على «أَلْقَى» مبنياً للفاعل، وطَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والسُّدِّيُّ وأبو البرهسم: أُلْقِيَ مبنياً للمفعول «السَّمْعُ» رفع به. وذكرت هذه القراءة لِعَاصِمٍ عن السّدّيّ فمقته وقال: أليس يقول: يُلْقُونَ السَّمْعَ وإلقاء السمع كناية عن الاستماع، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه والمعنى اسْتَمَع الْقُرْآنَ واستمع ما يقال له، لا يحدث نفسه بغيره، تقول العرب: أَلْقِ إلَيَّ سَمْعَكَ، أي استمعْ، أو يكون معناه: لمن كان له قلبٌ فقصد الاستماع، أو أَلْقَى السمع بأن أرْسَلَه وإن لم يقصد السماع.
«وَهُو شَهِيدٌ» حاضر الذِّهن.
ويحتمل أن يقال: الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمِن كَان لَهُ قلب، أو لمن استمع ويكون معنى «وهو شهيد» أي المنذر الذي تَعَجَّبْتُم منه وهو شهيد عليكم كقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} [الأحزاب: 45] .(18/47)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أعاد الدليل مرة أخرى وقد مرّ تفسيره في الم السجدة، فقيل: إن هذا ردّ على اليهود في قولهم: إن الله - سبحانه وتعالى - استراح يوم السَّبْتِ. والظاهر أنها ردّ على المشركين، أي لم يَعْيَ عن الخلق الأول فكيف يعجز عن الإعادة؟
قال ابن الخطيب: وأشار بقوله: فِي ستَّة أيام إلى ستة أطْوَارٍ لأَنَّ المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم من وضع اللغة، لأن اليوم في اللغة عبارة عن زمان مُكْثِ الشَّمْس فوق الأرض من الطُّلوع إلى الغُرُوب. وقيل: خلق السموات لم يكن شمسٌ ولا قمرٌ لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت، يقال: يَوْمَ يُولَدُ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يَكُونُ سُرُورٌ عَظيمٌ ويَوْمَ يَمُوت فُلاَنٌ يَكُون حُزْنٌ شَدِيدٌ، وإن اتفقت الوِلادة أو الموت لئلا لا يتعين ذلك. وقد يدخل في مراد القائل، لأنه أراد باليوم مُجَرّد الوقتِ.(18/47)
قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون مستأنفاً. والعامة على ضَمِّ لام اللُّغُوب. وعليٌّ وطلحةُ والسُّلَمِيّ ويَعْقُوبُ بفتحها. وهما مصدران (بمعنًى) . وينبغي أن يضم هذا إلى ما حكاه سِيبويه من المصادر الجائية على هذا الوزن وهي خمسة وإلى ما زاده الكسائي وهو الْوَزُوعُ فتصير سبعةً، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] واللّغوب العناءُ والتّعَبُ.
قوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} من كَذِبِهِمْ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ، أو على قولهم: إن هذا لشيء عَجِيبٌ. وهذا قبل الأمر بقتالهم.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قيل: هذا أَمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالصلاة كقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل} [هود: 114] وقوله {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} إشارة إلى طرفي النهار، وقوله: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى {زُلَفاً مِّنَ الليل} [هود: 114] .
وتقريره أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مشتغلاً بأمرين:
أحدهما: عبادة الله.
والثاني: هداية الخلق، فإذا لم يهتدوا قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.
وقيل: معنى سَبِّحْ بحمد ربك، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ} أوله، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم.
وقيل: المعنى: قُلْ سُبْحَان الله، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم: كَبَّر لمن قال: اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وحمَّد لمن قال: الْحَمْدُ لله.(18/48)
وهلَّك لمن قال: لاَ آله إلاَّ الله، وسبَّح لمن قال: سُبْحَان الله، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام، [فدعت] الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا: هلل بخلاف قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ فِي السُّوقِ، فإنَّ من قال: زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره.
ومناسبة هذا الوجه: هو أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ، فقيل له: اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله، والحمد لله، {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]
فصل
وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا: المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك: الأمر بقراءة الفاتحة، كقولك: صَلَّى فلانٌ بسورة كذا. وهذا بعيدٌ.
وإن قلنا المراد: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا: معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً، للعلم به، أي نزه الله بحمد ربك، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك.
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ، وإما أن يكون معناها خالصاً لله.
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر. ودخلت الفاء؛ لأن المعنى: وأمَّا من الليل فسبحه.
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} [الشرح: 7] و «من» إما لابتداء الغاية، أو مِنْ أوَّل الليل، وإمَّا للتبعيضِ.(18/49)
فصل
قال المفسرون: قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح، وقبل الغروب يعني العصر، وروي عن ابن عباس: قبل الغروب الظهر والعصر {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ} يعني صلاة المغرب، والعِشَاءِ. وقال مجاهد: ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل، أيّ وقت صلى.
قوله: «وأدبار السجود» قرأ نافع وابن كثير، وحمزة: إدبار بكسر الهمزة، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم: آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها. والباقون بالفتح جمع (دُبُر) وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس:
4516 - عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا ... وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ
ولم يختلفوا في: {وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] .
وقوله: «وأدبار» معطوف إمّا على «قَبْلَ الْغُرُوبِ» وإمّا على «وَمِنَ اللَّيْلِ» .
فصل
قال عمرُ بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، والحسنُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ والأوزاعي: أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعاً. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ» فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال: «تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ(18/50)
يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» .
قوله تعالى: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ} هو استماع على بابه. وقيل: بمعنى الانتظار. وهو بعيد. فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي استمع نِدَاءَ المنادي، أو نداء الكافر بالوَيْل والثبور، فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي» ظرفاً ل «اسْتَمِعْ» أي استمع ذلك فِي يَوْم. وقيل: استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي» مفعولاً به أي انتظر ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَوَقَفَ ابن كثير على «يُنَادِي» بالياء. والباقون دون ياء. ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها. ووجه حذفها وقفاً اتباع الرسم وكأن الوقْفَ محلّ تخفيفٍ.
وأما «المنادي» فأثبت ابن كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً. ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً، وباقي السبعة بحذفهما وصلاً ووقفاً. فمن أثبت، فلأنه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم. ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير.
فصل
في «واستمعْ» وجوه:
الأول: أن يكون مفعوله محذوفاً رأساً، والمقصود: كُنْ مستمعاً ولا تكن مثلَ هؤلاء المُعْرِضين الغافلين، يقال: هو رجل سَمِيعٌ مطيعٌ، ولا يراد: مسموع بعينه.
الثاني: استمع ما يوحى إليك.
الثالث: استمع نداء المنادي.
فإن قيل: «استمع» عطف على «فَاصْبِرْ» وَ «سَبِّحْ» وهو في الدنيا، فالاستماع يكون في الدنيا وما يوحى (يكون) «يوم ينادي» لا يسمع في الدنيا.
فالجواب: أنه لا يلزم ذلك، لجواز أن يقال: صَلِّ وادْخُلِ الْجَنَّةَ أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العُقْبَى فكذا ههنا.
ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انْتَظِرْ. ويحتمل أن يكون المراد: تَأَهَّبْ لهذه الصيحة لئلا يَفْجَأكَ فيُزْعجكَ. والمراد بالمنادي: إما الله تعالى بقوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ} [الصافات: 22] وبقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أو بقوله: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي: إسرافيل قال مقاتل: ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها الْعِظَامُ البالية، والأوْصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشُّعور المتفرقة، إن الله يأمركم(18/51)
أن تجْتَمِعُوا لفَصْل القضاء. أو يكون النداء للنفس فقال: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] إذْ ينادي المنادي هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، ويحتمل أن يكون المنادي: هو المكلف لقوله: {وَنَادَوْاْ يامالك} [الزخرف: 77] . والظاهر الأول؛ لأن اللام للعهد والتعريف. والمعهود السابق قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] .
وقوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي لا يخفى على أحد. وقيل: منْ صَخْرَة بَيْتِ المَقْدِس وهي وسط الأرض. قال الكلبي: هي أَقرب الأَرض إلى السماء بثمانيةَ عَشَرَ ميلاً.
قوله: «يَوْمَ يَسْمَعُونَ» بدل من «يَوْمَ يُنَادِي» و «بِالْحَقِّ» حال من «الصَّيْحَة» أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون مُلْتَبِسِينَ بسماع الحق.
قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} يجوز أن يكون التقدير: ذلك الوقت - أي وقت النداء والسماع - يوم الخروج. ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة إلى النداء، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر، أو فقدر مضاف، أي ذَلِكَ النداء والاستماع نداءُ يوم الخروج، واستماعه. واللام في «الصَّيحة» للتعريف، لقوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] . والمراد بالحق: الحشر أو اليقين، يقال: صَاحَ فلانٌ بِيَقِين لا بظنٍّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصَّدى وغيره، أو يكون المراد المقترنة بالحق، يقال: اذْهَبْ بالسَّلاَمة وارْجِع بالسَّعَادَة أي مقروناً ومصحوباً.
وقيل: «بالْحَقِّ» قسم، أي يسمعون الصيحة بالله (وَ) الْحَقِّ. وهو ضعيف وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} أي من القبور.(18/52)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} قد تقدم الكلام على قوله: «إنَّا نَحْنُ» في سورة(18/52)
يس. وأما قوله «نُحْيِِي ونُمِيْتُ» فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً، وقوله: «وَنُمِيتُ» إشارة إلى الموتة الأولى و «إلَيْنَا المَصِيرُ» بيان للحشر. وهذا إشارة إلى قدرته على الحشر.
قوله: «يَوْمَ تَشَقَّق» يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم» قبله. وقال أبو البقاء: إنه بدل من «يَوْم» الأَوَّل. وفيه نظر من حيث تعدد البدل والمبدل منه واحدٌ. وقد تقدم أنَّ الزَّمخشريَّ مَنَعَهُ.
ويجوز أن يكون «الْيَوْمَ» ظرفاً للمَصِيرِ أي يصيرون إلينا يوم تَشَقَّقُ الأَرْض. وقيل ظرف للخروج. وقيل منصوب ب «يَخْرجُونَ» مقدراً.
وتقدم في الخلاف في «تَشَقَّقُ» في الفُرْقَان.
وقرأ زيد بن علي: «تتشقّق» بفك الإدْغَام.
قوله: «سِرَاعاً» حال من الضمير في «عَنْهُمْ» والعامل فيها «تَشَقَّقُ» .
وقيل: عاملها هو العاقل في «يَوْمَ تَشَقَّقُ» المقدّر أي يَخْرُجُون سراعاً يو تشقق؛ لأن قوله تعالى: {عَنْهُمْ} يفيد كونهم مفعولين بالتشقق، فكأن التشقق عُدِّي بحرف الجر، كما يقال: «كَشَفْتُ عَنْهُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ» ، فيصير «سراعاً» هيئة المفعول كأنه قال: مُسْرِعِينَ.
والسراع جمع سريع، كالكِرَام جمع كَرِيم. وقوله: «ذَلِكَ» يحتمل أن يكون إشارة إلى التَّشقُّق عَنْهُمْ وإشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله: «سِرَاعاً» ، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير. والحَشْر الجمع.
قوله: «عَلَيْنَا» متعلق ب «يَسِيرٌ» ففصل بمعمول الصّفة بينها وبين موصوفها. ولا يضرّ ذلك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال منه؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون نعتاً.(18/53)
وقال الزمخشري: التقديم للاختصاص، أي لا يَتيَسَّر ذلك إلا على الله وحده أي هو علينا هيِّن لا على غيرنا وهو إعادة جواب لهم.
قوله تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يعني كفار مكة في تكذيبك، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويحتمل أن يكون تهديداً وتخويفاً لأن قوله: «وَإلَيْنَا الْمَصِيرُ» ظاهر في التهديد، وبالعلم يكمل. ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الزمر: 7] .
ويحتمل أن يكون تقريراً لأمر الحشر بالعلم؛ لأنه لما بين أن الحشر يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته، ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يتبين جزء زيد وجزء بدن عمرو، فقال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} لكمال قدرتنا، ولا يخفى عَليْنا الأجْزاء لكمال علمنا.
وقوله: «أَعْلَمُ» إما ليست للمشاركة في أصل الفعل كقوله:
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أو معناه نَحْن أَعْلَمُ به من كل عالم بما يعلمه.
قوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي بمسلِّط تجبر على الإسلام، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي أنك لست حفيظاً عليهم، ومكلفاً بأن يؤمنوا، إنما أنت منذر، وقد فعلت ما أُمِرْتَ بِهِ.
قال المفسرون: هي منسوخة بآية القتال.
قوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} الخلاف في ياء {وَعِيدِ} [ق: 14] إثباتاً وحذفاً. والمعنى دُم على الإنذار ولا تترك الهداية بالكلية، بل ذكِّر المؤمنين فإن الذكرى تنفَعُ المؤمنين.
وقوله: «بِالْقُرْآنِ» أي اتل عليهم القرآن ليحصل لهم المنفعة بسبب ما فيه أو فَذكِّر بالقُرْآنَ بين به أنك رسول الله لكونه معجزاً، أو يكون المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير. وفي قوله: فذكر إشارة إلى أنه مُرْسَل مأمور بالتذكير(18/54)
بالقرآن المنزل عليه، وقوله «وَعِيدِ» إشارة إلى اليوم الآخر وقوله: (وَعيدِ) إشارة إلى الوحدانية، إذ لو قال: وعيد الله لذهب الوَهْمُ إلى كل صَوْب. وضمير المتكلم أعرفُ المعارف، وأبعد عن الاشتراك. وقد تقدم أن أول السورة وآخرها مشتركان في المعنى حيث قال في الأول: {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] ، وقال في آخرها: «فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ» .
روى أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة ق هَوَّنَ الله عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ» .(18/55)
سورة الذاريات(18/56)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
مكية وهي ستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والذاريات ذَرْواً} أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله، وقال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] وقال: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] تُجْبِرهم على الإيمان، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان، وتلاوة القرآن عليهم، لم يبق إلا اليمين فقال: {والذاريات. . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} وقال في آخرها {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] .
فصل
وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه:
أحدها: أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للجدال، ومعرفة طرقه، وأنه عالم بفساد قولهم، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين، ليقول: والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول، فلا يبقى إلا السكوت، أو التمسك بالأيمان، وترك إقامة البرهان.(18/56)
الثاني: أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تخرب المنازل، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكثر الإقسام، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا أنه لا يحلف بها كاذباً.
الثالث: أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة، كقول القائل للمنعم: وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ. فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر، وإنما أخرجها مُخْرج الإيمان، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف.
فصل
أورد القسم على أمور منها الوحدانية، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] وقولهم: {مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات ومنها الرسالة وهو في سورتين «وَالنَّجْمِ» «وَالضُّحَى» ، وبالحروف في «يس» ومنها الحشر، والجزاء وما يتعلق به، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه.
فصل
أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً، فلم يقل: والصَّالِحِينَ من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل.(18/57)
فصل
روي عن علي - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - في قوله تعالى: {والذاريات} قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ «الحَامِلاَت وقْراً» يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء «فَالجَارِيَاتِ يُسْراً» هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً «فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً» هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، أقسم بهذه الأشياء، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته.
قال ابن الخطيب: والأقرب أن هذه صفات للرياح، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة، وهي أوقارٌ أثقل من جبال. والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار، ويحتمل أن يقال: هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض، وبعضها في قَعْر البِحَار، وبعضها في جَوِّ الهواء، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء، والجاريات هي الجامعة من الماء، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ نفخُ الروح، وهي من أمر الله، فقال: «فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً» يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله.
قوله: «ذَرواً» منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل، والمفعول محذوف اختصاراً إذ لا نظير لما تذروه هنا.
وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء «الذاريات» في ذال «ذَرْواً» وأما «وِقْراً» فهو(18/58)
مفعول به بالحاملات، كما يقال: حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر، كقوله: ضَرَبَهُ سَوْطاً. ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو.
والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ. وقرئ بالفتح، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر. ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد، وإن كان بينهما عموم وخصوص.
قوله: «يُسْراً» يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً وأن يكون حالاً، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً.
قوله: «أَمْراً» يجوز أن يكون مفعولاً به، وهو الظاهر، كقولك: فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ، وأن تكون حالاً أي مأمورة. وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول «المُقَسِّمَات» . وقد يقال: لا حاجة لتقديره كما في الذاريات.
وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به؟
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد الرياح وحدها، لأنها تُنْشِئ السحاب وتُقِلُّه، وتَصْرِفُهُ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً وعلى هذا يكون من عطف الصفات، والمراد واحد، كقوله (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) :
4517 - يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ ... الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ
وقوله:(18/59)
4518 - إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ
فتكون الفاء على هذا الترتيب الأمور في الوجود.
فإن قيل: إن كان «وقراً» مَفْعولاً لَمْ يُجمع وما قيل: أوقاراً؟ .
فالجواب: لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل: إنه مفعول به، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد.
قوله: «إنَّمَا تُوعَدونَ» هذا جواب القسم، و «ما» يجوز أن تكون اسمية، وعائدها محذوف، أي تُوعَدُونَهُ وأن تكون مصدرية فلا عائدَ على المشهور، وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مَبْنِيًّا من الوعْد، وأن يكون مبنياً من الوَعِيد، لأنه يصلح أن يقال: أوْعَدْتُهُ فهو يُوعَدُ، وَوَعَدْتُهُ فهو يُوعَد لا يختلف، فالتقدير: إن وعدكم أو إن وعيدكم. ولا حاجة إلى قول من قال: إنه قوله: «لصادق» وقع فيه اسم الفاعل موقع المصدر أي لصدق لأن لفظ اسم الفاعل أبلغ إذا جعل الوعد أو الوعيد صادقاً مبالغة وإن كان الوصف إنما يقوم بمن يَعِدُ أو يُوعِدُ.
قال ابن الخطيب: وبناؤه من «أوعد» هو الحق؛ لأن اليمين مع المنكر بِوَعِيدٍ لا بوَعْد، و «الصادق» معناه ذو صدق «كعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ» ، ووصف به الفاعل كوصف الفاعل بالمصدر في إفادة المبالغة.
قوله: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} أي الحشر والجزاء كائن.(18/60)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
ثم ابتدأ قسماً آخر وهو قوله: {والسمآء ذَاتِ الحبك} العامة على الحُبُك - بضمتين - قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذاتِ الخلق الحسن المستوي، يقال للنساج إذا نَسَجَ الثَوْبَ فَأَجَاد: ما أحْسَنَ حَبْكهُ. وقال سعيد بن جبير: ذاتِ الزّينة أي المزينة بزينة(18/60)
الكواكب. قال الحسن: حُبِكَتْ بالنُّجوم. وقال مجاهد: هي المتقنة المبنيّات. وقال مقاتل والكلبي والضحاك: ذات الطرائق كحَبْك الماء إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيح، وحَبْكِ الرَّمل والشّعر الجَعْد وهو آثار تَثَنِّيه وَتَكسُّرِهِ، قال زهير:
4519 - مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريحٌ خَريقٌ لضَاحي مَائهِ حُبُك
والحبك جمع يحتمل أن يكون مفرده حَبِيكَة، كطَرِيقةٍ وطُرُق أَو حِباك نحو: حِمَار وحُمُر قال:
4520 - كَأَنَّمَا جَلَّلَها الحُوَّاكُ ... طِنْفسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ
وأصل الحَبْك إحكام الشيء وإتقانه، ومنه يقال للدروع: مَحْبُوكة. وقيل: الحَبْكُ الشدّ والتَّوَثُّق، قال امرؤ القيس:
4521 - قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ ... لاَحِقُ الإطْلَيْنِ مَحبُوكٌ مُمَرّ
وفي هذه اللفظة قراءات كثيرة، فعن الحسن - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - ست قراءات، الحبك - بالضم - كالعُنُق، وبضم الحاء وسكون الباء وتروى عن ابن عباس، وأبي عمرو، وبكسر الحاء والباء، وبكسر الحاء وسكون الباء، وهو تخفيف(18/61)
المكسور، وكسر الحاء وفتح الباء، وكسر الحاء وضم الباء، وهذه أقلها لأن هذه الزنة مهملة في أبنية العرب.
قال ابن عطية وغيره: هو من التداخل، يعني أن فيها لغتين الكسر في الحاء والباء والضم فيهما فأخذ هذا القارئ الكسرَ من لغةٍ، والضمّ من أُخْرَى. واستبعدها الناس؛ لأن التداخل إنما يكون في كلمتين. وخرجها أبو حيان على أن الحاء أتبعت لحركة التاء في ذات، قال: ولم يعتد باللام فاصلةً لأنها ساكنة فهي حاجز بَيِّنٌ حصين.
وقد وافق الحسن على هذه القراءة أبو مالك الغِفَارّي.
وقرأ عكرمة بالضم والفتح جمع حُبْكَة نحو: غُرْفَة وغُرَف، وابن عباس وأبو مالك الحَبَك بفتحتين، جمع حَبْكَة كعَقْبَة وعَقَب.
وقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} جواب القسم.
فصل
المعنى: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تارة تقولون: إنه أمين، وأخرى إنه كاذب، وتارة تنسبونه إلى الجنون، وتارة كاهن، وشاعر، وساحر، وهذا القول ضعيف؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤيد باليمين. وقيل: يقولون: إنه مجنون ثم يقولون: غلبنا بقُوَّةِ جداله. وقيل: لفي قول مختلف في القرآن، يقولون فيه إنه سِحْرٌ وكَهَانَةٌ وأساطير الأولين.
وقيل: قَوْلٌ مختلف أي مصدّق ومكذب. وقيل: غير ثابتين على أمر.
وقيل: متناقض، تارة يقولون: لا حَشْرَ ولا حَيَاةَ بعد الموت، ثم يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ.(18/62)
قوله: «يُؤفك عنه» صفة لقول، والضمير في «عنه» للقرآن، أو الرسول، أو للدين، أو لما توعدون، أي يصرف عنه.
وقيل: عن السبب. والمأفوك عنه محذوف، والضمير في «عنه» على هذا القول مختلف، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول: هو سحرٌ وكَهَانَةٌ.
والعامة على بناء الفعلين للمفعول. وقتادة وابن جبير: يُؤْفَكُ عنه من أَفِكَ، الأول للمفعول، والثاني للفاعل، أي يُصْرَفُ عنه من صَرَفَ الناسَ عَنْهُ. وزيد بن علي: يَأْفِكُ مبنياً للفاعل من أفِكَ مبنياً للمفعول عكس ما قبله، أي يَصْرِف الناسَ عَنْه مَنْ هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ.
وعنه أيضاً: يُؤفّكُ عنه من أفَّكَ بالتشديد، أي من هو أَفَّاك في نفسه.
وقرئ: يُؤْفَن عنه من أُفِن بالنون فيهما أي يُحْرَمُهُ من حُرِمَهُ من أَفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْباً.
فصل
قيل في تفسير قوله: {يؤفك عنه من أفك} وجوه:
أحدها: مدح المؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ويرشد إلى القول المستوي. وقيل: إنه ذم ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن. وقيل «عن» بمعنى «مِنْ أجل» ، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف، أو بسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان، فيقولون: إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، قاله مجاهد.(18/63)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قوله: «قُتِلَ الخَراصونَ» لُعِنَ الكَذَّابُونَ. وقرئ: قَتَلَ مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى: {الخرّاصين} مفعوله، والمعنى لُعِنَ الخراصون وهم الذين لا يجزمون بأمر ولا يثبتون عليه، بل هم شاكون متحيرون. وهذا دعاء عليهم، ثم يصفهم بأنهم في غمرة ساهون، فقوله: «سَاهُونَ» يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ قوله «هم» ، والتقدير: هم كائنون في غَمْرَة ساهون، كقولك: زَيدٌ جَاهلٌ جَائرٌ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر. ويحتمل أن يقال: «ساهون» خبر، و «في غمرة» ظرف له، كقولك: زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ فالخبر هو «قاعد» لا غير، و «في بيته» بيان لطرف القعود، فكذا قوله: «في غمرة» ظرف للسَّهْوَةِ.
واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال: تَخَرَّصَ عليه الباطل. قال المفسرون: هم الذين اقتسموا عِقَاب مكة، فاقتسموا القول في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد: الكهنة الذين هم في غَمْرَة أي غَفْلة وعَمًى وجَهَالَةً «سَاهُونَ» غافلون عن أمر الآخرة. والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذَهَابُ القلب عنه.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} فقوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدين} مبتدأ أو خبر قيل: وهما ظرفان فكيف يقع أحد الظرفين في الآخر؟ .
وأجيب: بأنه على حذف حَدَثٍ أي أَيَّانَ وُقوع يَوْمِ الدِّين «فَأَيَّانَ» ظرف الوقوع، كما تقول: مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وتقدم قراءة إيّانِ - بالكسر - في الأَعراف.
قيل: وأيان من المركبات، ركب من «أيٍّ» التي للاستفهام، و «آن» التي بمعنى متى، أو مِنْ «أَيٍّ» (و) أَوَان؛ فكأنه قال: أَيّ أَوَان، فلما ركبت بُنِيَ. وهذا جواب قوله: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] فكأنه قال: أَيَّانَ يَقَعُ؟ استهزاءً.(18/64)
وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب، وإنما يسألون استهزاءً، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون: يا محمد متى يكون يوم الجزاء؟ يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ هُمْ} أي يكون هذا الجزاء في يومِ هُمْ على النار يُفْتَنُونَ أي يعذبون ويحرقون بها، كما يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يُعْرَضُون عرض المجرِّب للذّهب على النار، لأن كلمة «على» تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل: بالنَّار، أي فِي النار.
قوله: «يَوْمَ هُمْ» يجوز أن يكون منصوباً بمضمر أي الجزاءُ كائنٌ يَوْمَ هُمْ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الدين» ، والفتحة للبناء على رأي من يُجيز بناء الظرف، وإن أُضِيفَ إلى جملة اسمية وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم، قالوه على سَبيل الاستهزاء، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل: يوم نَحْنُ عَلَى النَّار نُفْتَنُ.
و «يوم» منصوب بالدين، وقيل: بمضمر، أي يُجَازَوْنَ.
وقيل: هو مفعول بأعني مقدَّراً وعُدّي يُفْتَنُونَ بعَلَى لأنه بمعنى يُخْتَبَرُون. وقيل: على بمعنى في. وقيل: على بمعنى الباء. وقيل: «يَوْمَ هُمْ» خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ يَوْمَ هُمْ والفتح لما تقدم. ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يَوْمُ هُمْ بالرفع، وكذلك يؤيد القول بالبدل. وتقدم الكلام في مثل هذا في غَافِرٍ.
فصل
قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} قال ابن الخطيب: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون جواباً عن قولهم أيَّانَ يَقَعُ فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعِلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال: يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل: مَتَى يَقْدمُ زَيْدٌ؟ فلو أجيب بقوله: يَوْم يقدم رفِيقُهُ ولا يعلم يوم قُدُوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة ولا يكون جواباً كقول القَائل لمن(18/65)
يعد عِدَاتاً ويخلفها: إلى متى هذا الإخلاف؟ فيغضب ويقول: إلى أَشْأَمِ يَوْمٍ عليك، فالكلامان في صورة سؤال وجواب، ولا يريد بالأول السؤال، ولا الثاني يريد به الجواب، فكذلك ههنا قال: {يوم هم على النار يفتنون} مقابلة لاستهزائهم بالإيعَادِ لا على وجه الإِتيان بالبَيَان.
الثاني: أن يكون «ذلك» ابتداء كلام تمامه (في قوله: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» ) .
فإن قيل: هذا يفضي إلى الإضمار! .
فالجواب: أن الإضمار لا بد منه؛ لأن قوله: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غيرُ متصل بما قبله إلا بإِضمار يقال.
قوله: «ذُوقُوا» يقال لهم ذُوقُوا و {هذا الذي كُنتُمْ} مبتدأ وخبر «هذا» هو الظاهر. وجوَّز الزمخشري أن يكون «هذا» بدلاً من «فِتْنَتَكُمْ» ؛ لأنها بمعنى العذاب، ومعنى فتنتكم عذابكم {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الدنيا تكذيباً به، وهو قولهم: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] وقولهم: {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ} [هود: 32] ونظائره، وقوله: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} فإنه نوع استعجالٍ بالقول. ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد، وإظهار الفساد، فإنه يعجل العقوبة.(18/66)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لما بين حال المجرمين بين بعده حال المتقين، والمتقي له مقامات، أدناها أن يتقي الشرك، وأدناها أن يتقي ما سِوَى الله، وأدنى دَرَجَات المُتقِي الجنة فما من أحد اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.
قوله: «آخِذِينَ» حال من الضمير في قوله: «جَنَّاتٍ» و «مَا آتَاهُمْ» يعني مما في الجنة فيكون حالاً حقيقية، وقيل: مَا آتاهُمُ من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالاً محكيةً، لاختلاف الزمانين.(18/66)
وجعل الجار خبراً، والصفة فضلة، وعكس هذا في قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 74] ، قيل: لأن الخبر مقصور الجملة، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم، لأن المؤمن قد يدخل النار، ولكن لا بد من خروجه، وأما آية المتقين، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً.
فصل
اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة، قال تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] و [محمد: 15] وأخرى جمعها كقوله ههنا: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} وتارة ثَنَّاها، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن.
قال ابن الخطيب: غيرَ أنَّا نقول ههنا: إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة، لأنه دون الموعود، وقوله: «وَعُيُونٍ» يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ؛ فالمعنى في خلال العيون، أي بين الأنهار كقوله: «في جَنَّاتٍ» معناه بين الجنات وفي خلالها؛ لأن الجنة هي الأحجار، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك: فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة.
ومعنى: «آخذين» أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] أي يقبلها، قاله الزمخشري. وقال ابن الخطيب: وفيه وجه ثالث، وهو أن قوله: فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال: آخِذينَ بلادَ كذا، أو قَلْعَة كذا، أي دخلها متملّكاً لها، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى.
وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله.
وقوله: «آتاهُمْ» لبيان (أن) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه «ما» راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون.(18/67)
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة، وإما لإيتاء الله، وإما ليوم الدين، والإحسان هو قول لا إله إلا الله؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى: إنها لا إله إلا الله، وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] وقوله: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ، وفيه أوجه:
أحدها: أن الكلام تَمَّ على «قَلِيلاً» ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] ويبتدئ: {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل. وهذا لا يظهر من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة، أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن «ما» في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ. ولا فائدة فيه، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة.
الثاني: أن تجعل «ما» مصدرية في محلِّ رفع «بِقَلِيلاً» ، والتقدير: كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ.
الثالث: أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً. و «مِنَ اللَّيْلِ» على هذين لا يتعلق ب «يهجعون» لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه: «يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل» .
الرابع: أن «ما» مزيدة و «يَهْجَعُون» خبر كان، والتقدير: كَانُوا يهجعون من الليل(18/68)
هُجُوعاً قَلِيلاً، أو زمناً قليلاً، ف «قَليلاً» ، نعت لمصدر أو ظرف.
الخامس: أنها بمعنى الذي، وعائدها محذوف تقديره: كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه. وهذا فيه تَكَلُّفٌ.
فصل
قال ابن الخطيب: «قليلاً» منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال: قام بَعْضَ الليل، فنصب «بعض» على الظرف، وخبر كان هو قوله: «يَهْجَعُونَ» و «ما» زائدة هذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل.
وأنكر الزمخشري كون «ما» نافية، وقال: لا يجوز أن تكون نافية؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول: زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد «لم» فيما قبلها، تقول: زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت: ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو.
فإذا قلت: مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه، لكن النفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول: زَيْداً ضاربٌ عَمْراً أمس، وتقول: زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة، لكن الفعل لقوته واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ.
إذا عرف هذا فقوله: مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ. وأما: لَمْ أَضْرِبْ فإِن كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل: زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ.(18/69)
قال ابن الخطيب: غير أن القائل بذلك القول يقول: قليلاً ليس منصوباً بقوله: يَهْجَعُونَ، وإِنما ذلك خبر (كانوا؛ أي) كانوا قَلِيلِينَ.
فصل
تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى، فلا يناسبه تقديم (راحتهم) ، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم، فقدم قوله: «قَلِيلاً» ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله: «مِنَ اللَّيْل» إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.
فإن قيل: الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له: هُجُوع! .
فالجواب: أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ، تقول: رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع، فلا تقول: رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً.
وإذا عرف هذا فقوله تعالى: كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده: كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون، أو غير ذلك، فلما قال: يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال.
قوله: «وَبِالأَسْحَارِ» متعلق ب «يَسْتَغْفِرُونَ» ، والباء بمعنى «فِي» . وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
فصل
معنى قوله: {قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك: كانوا يصلون العَتَمَةَ.
وقال مُطرفُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بنِ الشَّخِير: قَلَّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها. وقال مجاهد: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نَشِطُوا فَمَدُّوا إلى السَّحَر، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار. وقال الكلبي(18/70)
ومجاهد ومقاتل: وبالأسحار يصَلّونَ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة.
روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَاعْطِيَهُ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» .
فصل في قوله: {وبالأسحار هُمْ يستغفرون} إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه، فهم يستغفرون من التقصير. وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به.
وفي الآية لطائف:
الأولى: أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال: يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل.
الثانية: أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل: كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، والاستغفار بالأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم.
فصل
الباء في قوله: «بالأسحار» استعملت للظرف هنا، وهي ليست للظرف. قال بعض النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان: خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ، وبالليل، وفي شهر رمضان. فتستعمل اللام والباء، وفي، وكذلك في ظرف المكان تقول: قُمْتُ بِمدينة كذا، وفيها، ورأيته ببَلْدَةِ كذا، وفيها. قال ابن الخطيب: والتحقيقُ فيه أن نقول: الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ (و) تباعد كما في الأسماء والأفعال، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان،(18/71)
وكذلك مَكَثَ، وسَكَنَ (وَأَلَمَّ) ، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان بينهما تقارب وتباعد، لأن الباء للإِلصاق، واللام للاختصاص، و «في» للظرف، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به. إذا عرف هذا فنقول: بين «الباء» و «اللام» و «في» مشاركة، أما الباء فلأنها للإِلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال: سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار.
فقوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي متصلاً بالأسحار، أخبر عن الاقتراب، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله: «فِي اللَّيْلِ» ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل: أقمتُ ببَلْدَة كذا، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد.
وقوله: أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل: أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله: أقمتُ فِيهِ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه.
وإِذا علم هذا فقوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في» ، فلا تقول: خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت: خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن. ولو قلت: خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ (بِيَوْمِ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و «يَوْمُ الجمعة» لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت: خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز. وأما «فِي» فيصح مطلقاً؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول: فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة. وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [يس: 38] .(18/72)
فصل
وفائدة قَوْلِهِ: «هم» ؛ قال الزمخشري: فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك: زَيْدٌ العَالِمُ، لكماله في العلم كأنه تفرد به، وأيضاً: فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً. والاستغفار إما طلب المغفرة، كقولهم: رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة، وإما أن يكون من باب قولهم: اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة.
قوله: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله، وأضاف الأموال إليهم، لأنه مدح لهم، وقال في موضع آخر {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه.
فإن قيل: كون الحق في المال لا يوجب مدحاً؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا: إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء. وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً؟
فالجواب: أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال: في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ.
أو يقالُ: بأن «في» للظرفية، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم.
فإن قيل: لَو قيل: مالهم للسائل كان أبلغ!
فالجواب: لا نسلم، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيراً محتاجاً منهيٌّ عنه، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله: - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَادْخُلُوا فِيهِ بِرفقٍ؛ فَإنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى» .
فصل
في السائل والمحروم وجوه:
أحدها: أن السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات(18/73)
المحترمة، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «فِي كُلّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» وهذا ترتيب حسن؛ لأن الآدمي يُقدَّمُ على البهائم.
الثاني: أن السائل هو الذي يَسْأَل، والمَحْرُوم هو المتعفّف يظن أنه غنيٌّ فيُحْرَمُ. وقدَّمَ السائلَ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله، أو يكون إشارة إلى كثرة العَطَاء فيعطي السؤّال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
الثالث: قدم السائل؛ لتجانس رُؤُوس الآي.
فصل
قال ابنُ عباس وسعيدُ بن المُسيّب: السّائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهمٌ ولا يُجْرَى عليه من الفَيء شَيءٌ. وقال قتادة والزُّهْري: المحروم المتعفّف الذي لا يسأل. وقال زيد بن أسلم: هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشَلُّ ماشيتُه، وهو قول مُحَمّد بن كَعْب القُرَظيِّ. قال: المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 66 - 67] .(18/74)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قوله تعالى: {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والثمار وأنواع النبات تدلهم على أن الحَشْرَ كائن كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} [فصلت: 39] ، ويحتمل أن يكون المعنى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ تَدُلُّ على مُدَبِّرٍ قادرٍ قاهرٍ يجب أن يُعْبَدَ ويُحْذَرَ.
فإن قيل: كيف خصص الآيات بالمُوقنينَ، ولم يُخَصِّصْ في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] ؟
فالجواب: أن القَسَمَ إنما يكون مع المعَانِدِ في البرهان، فهو لا ينتفع بالآيات وإنما ينتفع بها المُوقِنُونَ فلذلك أقسم ههنا فقال: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} وفي سورة يس لم يؤكد ذلك بالقسم الدال على المعاند. أو يقال: أطلقت هناك باعتبار حصولها وخصصت هنا باعتبار المنفعة بها. وجمعت «الآيات» هنا، لأن المُوقن يتنبه لأمور كثيرة، وكذلك قوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات دالة على ذلك إذ كانت نطفةً ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظاماً، إلى أن ينفخ فيها الرُّوح.(18/74)
وقال عطاء عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) : يريد اختلاف الأَلْسنة والصور والألوان والطبائع.
وقال ابن الزُّبَيْر: يريد سبيل البول والغائط يَأكُلُ ويَشْرَبُ من مَدْخَلٍ واحد ويَخْرج من سِبِيلَيْنِ.
وقوله: أفلا تبصرون «قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث؟
قوله:» وفي أنفسكم «نَسَقٌ على (مَا) » في الأرض «فهو خبر عن» آيات «أيضاً، والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات.
وقال أبو البقاء: وَمَنْ رَفَعَ بالظرف جعل ضمير» الآيات «في الظرف. يعني من يرفع الفاعل بالظرف مطلقاً أي وإن لم يعتمد يرفع بهذا الجار فاعلاً هو ضمير» آيات «.
وجوز بعضُهم أن يتعلق ب» يُبْصِرُونَ «. وهو فاسدٌ؛ لأن الاستفهام والفاء يمنعان جَوَازَهُ.
وقرأ قتادة:» آية «بالإفراد، وقوله:» فِي أنْفُسِكُمْ «يُحْتَمَلُ أن يكون المراد فِيكُمْ، يقال: الحجارة في نفسها صُلْبَة، ولا يراد بها النفس التي هي مَنْبعُ الحياة والحِسّ والحَرَكَات. ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله:» أَفَلاَ تُبْصِرُونَ «بالاستفهام إشارة إلى ظهورها.
قوله: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ} أي سبب رزقكم. وقرأ حُمَيْدٌ وابنُ مُحَيْصن: رازِقُكُمْ اسم فاعل، والله تعالى متعالٍ عَنِ الجِهّةِ. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: يعني بالرزق: المطر؛ لأنه سبب الأَرزاق. وقيل: في السماء رزقكم مكتوب، وقيل: تقدير الأرزاق كلها من السماء، ولولاه لما حصل في الأرض حبَّة قُوتٍ.(18/75)
قوله:» وَمَا تُوعَدُونَ «قال عطاء: من الثَّوَاب والعِقَاب، وقال مجاهد: من الخَيْر والشَّرِّ. وقال الضحاك: وما توعدون من الجَنَّة والنار فيكون المعنى على هذا: وما توعدون لحقّ، كقوله:
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات: 5] فإن قلنا: المراد بقوله: «وما توعدون» الجنة فهو من الوعد، وإن قيل: المراد العذاب فيكون الخطاب مع الكفار.
قوله: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} الضمير إما للقرآن، وإما «للدِّين» ، وإما «الْيَوْم» في قوله: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] و «يَوْمَ هُمْ» و «يَوْم الدِّينِ» ، وإما للنبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودخلت الفاء بمعنى إنَّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله: «والذَّاريات» مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفَصْل.
وأقسم أولاً بالمخلوقات وههنا بربها تَرَقِّياً من الأدنى إلى الأعلى.
قوله: «مِثْلَ مَا» قرأ الأخوانِ وأبو بكر مِثْلُ بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر ثانٍ مستقلٌّ كالأَول.
الثاني: أنه مع ما قبله خبرٌ واحد، كقولك: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ نقلهما أبو البقاء.
والثالث: أنه نعت لحَقٍّ و «ما» مزيدة على الأوجه الثلاثة و «أَنَّكُمْ» مضاف إليه، أي لَحَقٌّ مِثْلُ نُطْقِكُم، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة، لأنها لا تتعرف بذلك لإبْهَامِهَا.
والباقون بالنصب، وفيه أوجه:
أشهرها: أنه نعت «لحَقّ» أيضاً كما في القراءة الأولى، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن، كما بناه الآخر في قوله:(18/76)
4522 - فَتَدَاعَى مِنْخَرَاهُ بِدَمٍ ... مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح «مثل» مع أنها نعت لِ «دَمٍ» وكما بنيت «غَيْرُ» في قوله - (رحمةُ الله عليه) -:
4523 - لَمْ يَمْنَع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ
«غير» فاعل يمنع، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أَنْ نَطَقَتْ» وقد تقدم في قراءة: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالفتح ما يُغْنِي عن تقرير مِثْلِ هذا.
الثاني: أن «مِثْلَ» ركّب مع «ما» حتى صارا شيئاً واحداً، قال المازني: ومثله: وَيْحَمَا، وهَيَّمَا وَأيْنَمَا، وأنشد لحُمَيْد بن ثَوْر - (رحمة اللَّهِ عليه رَحْمةً واسعةً -) :
4524 - أَلاَ هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا ... وَوَيْحاً لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا
قال: فلولا البناء لكان منوناً.
وأنشد أيضاً:
4525 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ...(18/77)
فَأَكْرِمْ بِنَا أباً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا
وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين وأنشد:
4526 - أَثَوْرَ مَا أَصِيدُكُمْ أَمْ ثَوْرَيْنْ ... أَمْ هَذِه الْجَمَّاءُ ذَاتُ القَرنَيْنْ
وأما ما أنشده من قوله: «وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا» فليس من هذا الباب، لأن هذا «ابنٌ» زيدت عليه الميم وإذا زدتَ عليه الميم جعلت النون تابعةً للميم في الحركات على الفصيح، فتقول: هذا ابْنُمٌ، ورأيت ابْنَماً ومررت بابْنِمٍ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون.
وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء، وليس هذه «ما» الزائدة، بل الميم وحدها زائدة، والألف بدل من التنوين.
الثالث: أنه منصوب على الظَّرْف، وهو قول الكوفيين.
ويجيزون: زَيْدٌ مِثْلَكَ بالفتح، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مُشْكِلَةٍ فقال: ويقرأ بالفتح، وفيه وجهان:
أحدهما: هو معرب، ثم في نصبه أوجه، ثم قال: أو على أنه مرفوع الموضع،(18/78)
ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قول الأخفش، ثم قال: والوجه الثاني: هو مبنيّ.
وقال أبو عُبَيْد: بعض العرب يجعل «مِثْلَ» نصباً أبداً، فيقولون: هَذَا رَجُلٌ مِثْلَكَ.
الرابع: أنه منصوب على إسقاط الجارِّ وهو كافُ التشبيه.
وقال الفراء: العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون: مِثْلَ مَنْ عَبْد الله؟ وعَبْد الله مثْلَكَ وأنْتَ مِثْلَه لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتُنْصَب إذا ألقيت الكاف.
قال شهاب الدين: وفي هذا نظر، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و «مِثْلُ» تفيد فائدتها؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال ذلك.
الخامس: أنه نعت لمصدر محذوف، أي لحَقّ حَقًّا مِثْلَ نُطْقِكُمْ.
السادس: أنه حال من الضمير في «لَحَقٌّ» ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مَجْرى الأوصاف المشتقة، والعامل فيها «حَقٌّ» .
السابع: أنه حال من نفس «حَقّ» وإن كان نكرة. وقد نصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه، وتابعه أبو عمرو على ذلك.
و «ما» هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم: «هَذَا حَقٌّ» ، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها، فلا يقال: هذا حق كأنك ههنا. نص على ذلك الخليلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(18/79)
فإذا جعلت «مِثْلَ» معربة كانت «ما» مزيدة و «أَنَّكُمْ» في محل خفض بالإضافة كما تقدم. وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في «ما» هذه وجهان: الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة، (كذا) قال أبو البَقَاءِ.
وفيه نظر، لعدم الوصف هنا، فإن قال: هو محذوف فالأصل عَدمهُ، وأيضاً فنصوا على أن هذه الصفة لا تحذف، لإبهام مَوْصُوفِها. وأما «أَنَّكُمْ تَنْطَقُونَ» فيجوز أن يكون مجروراً بالإضافة إن كانت ( «ما» ) مزيدة، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أَعْنِي، أو رفع بإضمار مبتدأ.
فصل
المعنى: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي ما ذكرت من أمر الرزق لَحق كَمِثْلِ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون: لا إله إلاَّ الله.
وقيل: شَبَّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نُطْق الآدمي كقولك: إنَّه لَحَقٌّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء: كما أنَّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نَفْسه الذي قُسِمَ له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره.
وقيل: معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون.(18/80)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} هذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتيسير له بالفرج، وسَمَّاهُمْ ضَيْفاً، لأنه حسبهم كذَلك، ويقع على الواحد والجمع، لأنه مصدر وسمَّاهم مُكْرَمين أي عند الله أو لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أكرمهم بأن عَجَّل قِرَاهُم، وأجلسهم في أكرم المواضع واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مأموراً بأن يتبع ملته، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] . وقيل: سماهم مكرمين لأنهم كانوا ضيف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - (وكان إبراهيم أَكرمَ الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نُجَيْح - عن مجاهد -: لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خدمهم بنفسه) وعن ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مَدْعُوِّينَ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» .
فإن قيل: إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟
فالجواب: ليكون ذلك إشارة إلى أنَّ الفرجَ في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا، كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [الزمر: 25] ، فلم يكن عند إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خبرٌ من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته وقد تقدم عددهم في سورة هود.
قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} العامل في «إذْ» أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه «حديث» أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه.
الثاني: أنه منصوب بما في «ضَيْف» من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد المذكور وغيره، كأنه قيل: الَّذِينَ أَضَافَهُمْ في وقت دخولهم عليه.
الثالث: أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أنَّ إبراهيم أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول: أُكْرِمُوا إذ دَخَلُوا.
الرابع: أنه منصوب بإضمار «اذْكُرْ» ولا يجوز نصبه ب «أَتَاكَ» لاختلاف الزَّمَانَيْنِ.(18/81)
وقرأ العامة المُكْرَمِينَ - بتخفيف الراء - من أَكْرَمَ، وعكرمة: بالتشديد.
فإن قيل: أرسلوا بالعذاب بدليل قولهم: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الذاريات: 32] فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شيخ المرسلين، ولوط من قومه، ومن عادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له: اعبر على فلان الملك، وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
الثاني: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمة عظيمة وكان ذلك مما يُحْزن إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شفقةً منه على العباد فقال (لهم) بَشّروه بغلامٍ يخرج من صلبه أضعاف من يَهْلَكُ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
قوله: {فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} العامة على نصب «سلاماً» الأول، ورفع الثاني. فأما نصب الأول فالمشهور أن السلام التحية أي نُسَلِّم سلاماً. ويحتمل أن «سلاماً» معناه حَسَناً أي قالوا كلاماً حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يَلْغُو أو يأثم فكأنهم قالوا قولاً حسناً سَلِموا به من الإثم فيكون مفعولاً به لأنه في معنى القول، كما قيل في قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] ، أو هو مفعول بفعل محذوف، أي نُبَلِّغُكَ سَلاَماً.
ولم يقولوا من الله شفقة على قلب إبراهيم فأتوا به مجملاً، ثم فسروه بعْدَ ذلك.
وأما رفع الثاني فالمشهور أنه التحية، فهو مبتدأ، وخبره محذوف أي عَلَيْكُمْ، ويحتمل أنه السلامة، أي أَمْرِي سَلاَمٌ لأني لا أعرفكم، أو قولُكُم سَلاَمٌ، أي ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فَما خَطْبُكُمْ؟(18/82)
وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و «عَلَيْكُمْ» لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد (إبراهيم) أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا: الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا: اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا: معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] وقال تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} [الزخرف: 89] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله. وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن. وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه، ولا(18/83)
يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله: «قَوْمٌ مُنْكَرُون» خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم.
وقال المفسرون: قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
فإن قيل: قال في سورة هود: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: 70] فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال: {فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ، ثم قال: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه؟
فالجواب: أن يقال: لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال: «قوم منكرون» ، (أي) عند كل أحد (منا) ، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول.
وحكاية الحال في سورة «هود» أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال: قَوْم لوطٍ.
فصل
ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله: «سلام» ، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله: سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال: سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل(18/84)
الضيافة، فإن الفاء في قوله: «فَرَاغ» يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله: «سَمِينٍ» ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله: «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ» ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله: «أَلاَ تَأْكُلُونَ» ولم يقل: كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} بعدم أكلهم.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول: هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول: بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم: لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا: نُبَشِّركُ.
وتقدم الكلام على فائدة تقديم البشارة.
قوله: «فَرَاغَ» أي عدل ومال «إلى أَهْلِهِ» ، وقوله: «فَجَاءَ» عطف على «فَرَاغَ» وتسببه عنه واضح «بِعِجْلٍ سَمِينٍ» أي مشويّ كقوله في مكان آخر: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . «فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ» ليأكلوا، فلم يأكلوا قَالَ أَلاَ تَأْكُلُون والهمزة في «أَلاَ تَأْكُلُونَ» للإنكار عليهم في عدم أكلهم، أو للعرض، أو للتحضيض.
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} .(18/85)
قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} قيل: لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان، وإنما هو كقول القائل: أقبل يَشْتُمُنِي بمعنى أخذ في شَتْمِي، أي أخذت تُوَلْوِلُ، لقوله: {قَالَتْ ياويلتى} [هود: 72] ، وذلك أنها كانت مع زوجها في خدمتهم، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحت وأعرضت عنهم، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة.
قوله: «فِي صَرَّةٍ» يجوز أن يكون حالاً من الفاعل أي كائنةً في صَرَّة. والصَّرة قيل: الصيحة، قال امرؤ القيس:
4527 - فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
قال الزمخشري: من صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ، أي فصاحت كما جرت عادة النساء إذا سمعن شيئاً من أحوالهن يَصِحْنَ صيحةً معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب.
ويحتمل أن يقال: تلك الصيحة كانت بقولها: يَا وَيْلَتَا، ومحلّها النصب على الحال أي فجاءت صارةً.
ويجوز أن يتعلق ب «أَقْبَلَتْ» أي أقبلت في جماعة نسوةٍ كُنَّ معها، والصَّرة الجماعة من النساء.
قوله: «فَصَكَّتْ وَجْهَهَا» قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: فلطمت وَجْهَهَا. واختلف في صفته فقيل: هو الضرب باليد مبسوطةً. وقيل: بل ضرب الوجه بأطرافِ الأصابع فعل المتعجِّب، وهو عادة النساء إذا أنكرنَ شيئاً. وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العَريض.
قوله: «عَجُوزٌ» خبر مبتدأ مضمر أي أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف ألد؟ وتفسرها الآية الأخرى، فاستبعدت ذلك ظنًّا منها أن ذلك منهم على سبيل الدعاء، فكأنها قالت: يا ليتكم دعوتم دعاء قريباً من الإجابة، فأجابوها بأن ذلك من الله تعالى، وأن هذا ليس(18/86)
بدعاء، وإنما هو قول الله {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} ثم دفعوا استبعادها بقولهم: {إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} .
قوله: «كَذَلِك» منصوب على المصدر ب «قَالَ» الثانية أي مثلُ ذلك القول الذي أخبرناكِ به قال ربُّك، أي إنه من جهة الله فلا تعجبي منه.
قال ابن الخطيب: وقال ههنا: الحكيم العليم وفي سورة (هود) : إنَّهُ حَميدٌ مجيدٌ؛ لأن الحكاية في هود أبسطُ فذكروا ما يدفع استبعادها بقولهم:
{أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] ، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم: «حَمِيدٌ» فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته.
وههنا لما لم يقولوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله أَشَارُوا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم: «حكيم عليم» . فالحميد يتعلق بالفعل، والمجيد يتعلق بالذات، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصداً إليه، فإن من يتقلب في النوم على حية فماتت لا يعد حكيماً، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها، يقال: إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلاً.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} هذا أيضاً من آداب المُضِيف، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له: ما هذه العَجَلَةُ؟ وما شَأنُك؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم ثم إنّهم أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
فإن قيل: فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال: مَا هَذَا الاستعجال؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم؟
فالجواب: أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال: ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم!(18/87)
فصل
والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم، ولذلك قال: فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول: ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم: «إِنَّا أُرْسِلْنَا» أو بقولهم لامرأته: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} لحكايتهم قول الله تعالى.
وقالوا في سورة هود: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] وقالوا هنا: {إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} ، لأن الحكاية عن معنى قولهم.
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة.
والمُجْرم قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : هو المشرك، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قال ابن الخطيب: المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره.
قوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} فيه دليل على رَجْم اللائط. والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم، أنَّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النُّمْرُود بالبَعُوض، وكما أُهْلِكَ بالقُمَّل والجَرَاد بل بالرِّيح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أُمِرَ خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته.
وقوله: «مِنْ طِينٍ» أي ليست من البَرَدِ والفاعلُ لذلك هُو اللَّهُ تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون: إن البَرَد يسمى حجارة فقوله: «مِنْ طِينٍ» يدفع ذلك التَّوَهُّمَ.
قال ابن الخطيب: إن بعض من يَدَّعي العَقل (يقول) : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوَّرات على هيئة البَرد وهيئة البَنَادِق التي يتخذها الرماة، قالوا: وسبب ذلك أن الإعصار يصعد الغُبَار من الفلَوَاتِ العظيمة التي لا عِمَارَةَ فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق (وصول) ذلك إلى هواء نَدِيّ فيصير طيناً رَطْباً، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كراتٍ(18/88)
مُدَوَّرَاتٍ كاللآلئِ الكِبَار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجُرّ المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عِمارة بها، فلا يُرى ولا يُدْرَى به فلهذا قال: «مِنْ طينٍ» لأ (نَّ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر، وهذا تعسُّف، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدِث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل وله أن يَخْلُق الحِجَارة من طين على وجه آخر من غير نارٍ ولا غبارٍ، لكن العَقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نُزُول حجارة من الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.
قوله: «مُسَوَّمَةً» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على النَّعت لِحَجَارةٍ.
الثاني: أنه حال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله.
الثالث: أنه حال من «حجارة» ، وحسَّنَ ذلك كونُ النكرة وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها.
ومعنى مسومة قيل: على كل حجر منها اسم صاحبه. وقيل: خلقت وأعدت لتعذيبهم. وقيل: مُرْسَلَة للمجرمين؛ لأن الإرسال يقال في التسويم، يقال أرسلها لِتَرْعَى، كما قيل في الخيل المُسَوَّمَةِ أي مستغنى عنها.
قوله: «عِنْد رَبِّكَ» ظرف «لمُسومَةٍ» أي معلَّمة عنده «والمُسْرِفُ» المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمُون مُسْرفُونَ.
وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سُومِّتْ للمسرف المُصِرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فلذلك قال: {عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} واللام في «المسرفين» لتعريف العهد، أي لِهؤلاء المسرفين؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوَّمة.
وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يَسْبِقْهم به أحدٌ من العَالَمِين.
قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين} هذه الآية تدل على بيان القدرة(18/89)
والاختيار، لأنه تعالى لما ميز المجرمَ عن المحسن يدل على الاختيار وأيضاً فيها بيان أن بِبَركَة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمنون لم تَهْلَكْ. والضمير في «فِيهَا» عائد على القرية وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة.
والمعنى: فأَخَرجْنا من كان في قُرَى قومِ لوط من المؤمنين، وذلك قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [الحجر: 65] .
وقوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} يعني لوطاً وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم، وفيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب، والفِسْقَ إذا فَشَا لا ينفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شِرْذِمَةٌ يسيرة يسرقون ويزنون، ومثاله أن العالم كالبَدَن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه الضارّ هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وُجِدَا فيه فالحكم للغالب.
وإذا علم أن إطلاق العَامّ على الخَاصِّ لا مانع منه، لأن المسلم أعمّ من المؤمن فإذا سمي المؤمن مسلماً، لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعمَّ منهم إلا بَيْتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً} يجوز أن يعود الضمير على القَرْية، أي تركنا في القرية علامةً أي عِبرة كالحجارة أو الماء المنتن ويجوز أن يعود على الإهلاكة المفهومة من السِّياق.
وقوله: «لِلَّذِينَ يَخَافُونَ» أي ما ينتفع بها إلا الخائف، كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35] ومعنى الآية: أن «الآية» تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم.(18/90)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قوله تعالى: {وَفِي موسى} فِيهِ أوجه:
أظهرها: أنه عطف على قوله: «فِيهَا» بإعادة الجار؛ لأنَّ المعطُوفَ عَلَيْهِ ضميرٌ مجرورٌ فيتعلق ب «تَرَكْنَا» من حيث المعنى ويكون التقدير: وتَرَكْنَا في قصةِ موسى آية. وهذا واضح.
والثاني: أنه معطوف على قوله: {فِي الأرض آيَاتٌ} [الذاريات: 20] أي وفي الأرض وفي موسى آياتٌ للموقنين. قاله الزمخشري وابنُ عطية.
قال أبو حيان: وهذا بعيد جدًّا يُنَزَّه القرآن عن مثله.
قال شهاب الدين: وجه استبعاده له بعد ما بينهما، وقد فعل أهل العلم هذا في أكثر من ذلكَ.
والثالث: أنه متعلق ب «جَعَلْنَا» مقدرة، لدلالة: «وَتَرَكْنَا» عليه.
قال الزمخشري: أو على قوله - يعني أو يعطف على قوله -: {وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً} [الذاريات: 37] على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله:
4528 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... . .
قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار: «وَجَعَلْنَا» لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور «وتركنا» .(18/91)
قال شهاب الدين: والزمخشري إنما أراد الوجه الأول بدليل قوله: «وَفِي مُوسَى» معطوف على «وَفِي الأَرْضِ» ، أو على قوله: «وَتَرَكْنَا فِيهَا» وإنما قال: على جهة تفسير المعنى لا الإعراب. وإنما أظهر الفعل تنبيهاً على مغايرة الفعلين يعني أن هذا الترك غير ذاك الترك، ولذلك أبرزه بمادة الجَعْل دون مادة الترك ليظهر المخالفة.
الرابع: أن يعطف على {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات: 24] تقديره: وفي حديث موسى إذْ أَرْسَلْنَاهُ: وَهُوَ مناسب، لأن الله تعالى جمع كثيراً بين ذكر إبراهيم وموسى - عليهما الصلاة والسلام - (كقوله تعالى) : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 36 - 37] ، وقال: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 19] قاله ابن الخطيب.
فصل
المعنى: لك في إبراهيم تسلية وفي موسى، أو لقومك في لوط وقومه عبرة، وفي موسى وفرعون، أو تَفَكَّرُوا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون. هذا إن عطفناه على (معْلُوم، وإن عطفناه) على مذكور فقد تقدم آنفاً. و «السلطان المبين» الحجة الظاهرة.
قوله: «إذْ أَرْسَلْنَاهُ» يجوز في هذا الظرف ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منصوباً ب «آيَة» على الوجه الأول؛ أي تركنا في قِصة موسى علامةً في وقتِ إرسالنا إيَّاهُ.
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف لأنه نعت لآيةٍ، أي آية كائنة في وقت إرسالنا.
الثالث: أنه منصوب ب «تَرَكْنَا» .
قوله: «بِسُلْطَانٍ» يجوز أن يتعلق بنفس الإرسال، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال إما من موسى وإما من ضميره أي ملتبساً بسُلطان وهو الحُجَّة. و «المبين» الفارق بين سِحْر السَّاحِرِين وأمْر المُرْسَلِينَ.
ويحتمل أن يكون المراد بالمبين أي البراهين القاطعة التي حَاجَّ بِهَا فِرْعَوْنَ.(18/92)
قوله: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» الجار والمجرور حال من فاعل «تَوَلَّى» ومعنى «تَوَلَّى» أَدْبَرَ عن الإيمان. والباء للمصاحبة. والمراد بالركن أي بجمعِهِ وجنوده الذين كان يَتَقَوَّى بهم كالرُّكْن الذي يَتَقَوَّى به البُنْيَان، كقوله تعالى: {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] .
وقيل: الباء للتعدية فتكون بمعنى تقوى بجنده. ويحتمل أن يكون المراد تَوَلَّى أمْر موسى بقُوَّتِهِ، كأنه قال: أقتل موسى لئَلاَّ يُبَدّلَ دينكم، فتولى أمره بنفسه، فيكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية. ويحتمل أن يكون المراد بركنه هامان فإنه كان وزيره.
قوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} «أو» هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشكّ نَزَّل نفسه مع أنه يعرفه بَيِّناً حقاً منزلة الشاكّ في أمره تمويهاً على قومه. وقال أبو عبيدة: «أو» بمعنى الواو، قال: لأنه قد قالهما، قال تعالى: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] ، وقال تعالى في موضع آخر: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ، وتجيء «أو» بمعنى الواو، كقوله:
4529 - أَثَعْلبَةَ الفَوَارِسِ أَوْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
ورد الناس عليه هذا وقالوا: لا ضرورة تدعو إلى ذلك. وأما الآيتان فلا يدلاَّن على أنه قالهما معاً، وإنما يفيد أنه قالهما أعم من أن يكونا معاً أو هذه في وقت وهذه في آخَرَ.
قوله: «وَجَنودَهُ» يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول «أَخَذْنَاهُ» وهو الظاهر، وأن يكون مفعولاً معه. {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} أغرقناهم في البَحْرِ.
قوله: «وَهُو مُلِيمٌ» جملة حالية، فإِن كانت حالاً من مفعول «نَبَذْنَاهُمْ» فالواو لازمةٌ؛(18/93)
إذ ليس فيها ذكر يعود على صاحب الحال، وإن كانت حالاً من مفعول «أَخَذْنَاهُ» فالواو ليست واجبة؛ إِذ في الجملة ذكرٌ يعودُ عليه. وقد يقال: إنَّ الضمير في «نَبَذْنَاهُمْ» يعود على «فِرْعَوْنَ» وعلى «جُنُودِه» فصار في الحال ذكر يعود على بعض ما شَمِلَه الضمير الأول. وفيه نظر، إذ يصير نظير قولك: جَاءَ السُّلْطَانُ وَجُنُودُهُ فأكرمتهم راكباً فَرَسَهُ، فتجعل «راكباً» حَالاً من بعض ما اشتمل عليه ضمير «أكرمتهم» .
فصل
ومعنى «مليم» أي أَتَى بما يُلاَم عليه من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسول.(18/94)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا} الكلام عليه قد تقدم عَلَى نظيره.
واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتذكيره بحال الأنبياء.
فإن قيل: لِمَ لَم يذكر في «عَادٍ» و «ثمُودَ» أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطاً - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسلام -؟ {.
فالجواب: أنه ذكر ست حكايات، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة مَنْ كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى، ففي هذه الحكايات الثلاثة ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوطٍ فلأن الناجين وإن كَانُوا أهْلَ بَيْتٍ واحد لكن المهلكين أيضاً كانوا أهل بُقْعَةٍ واحدة. وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إِلى الناجين أضعافَ المهلكين من قوم لوط عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] إلى أن قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] وقال في سورة هود بعد الحكايات: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100] إلى أن قال: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .(18/94)
قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} وهي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شَجَراً، ولا تَحْمل مطراً لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح؟} .
واعلم أن الفَعِيلَ لا يلحق به تاء التأنيث (إِن كان بمعنى مفعول وكذلك) إِذا كان بمعنى فَاعِل في بعض الصُّور. وقد تقدم ذكر سببه، وهو أن فَعِيلاً لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه (لو تميز) لَتَميَّزَ الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر، لأن الفاعلَ جزءٌ من الكلام محتاجٌ إليه، والمفعول فيه فائدة أكيدةٌ وإن لم يكن جزءاً من الكلام محتاجاً إليه، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل (والمفعول) تقول: فَاعِلٌ وفَاعِلَةٌ، ومَفْعُولٌ ومفَعُولَةٌ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل: فَاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة، وقيل: مفعُول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة، فالمميز فيهما غيَّر نظم الكلمة لشدّة الحاجةِ (وفي التأنيث) لم يؤثر، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كُلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف (واحد عند) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن «فَعِيلٌ» يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك (المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إِلا بحرف غير متصل به.(18/95)
قوله: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ} فيه وجهان) :
أحدهما: أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة «العَقِيم» . قاله الواحدي.
فإن قيل: كيف يكون وصفاً والمعرف لا يوصف بالجُمَلِ؟ و «مَا تَذَرُ» جملة فلا يوصف بها النكرات؟ {.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن يكون بإِعادة الريح تقديراً، كأنه يقول: وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ ريحاً مَا تَذَرُ.
الثاني: أنها لما لم تكن معهودة صارت منكَّرة كأنه يقول: لم تكن من الرياحِ التي تقع ولا وقع مثلُها، فهي لشدتها منكرة، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكَّرة، ووصفت بالجملة كقوله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] ، وقوله: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ} [الحاقة: 6 و7] إلى غير ذلك.
الوجه الثاني: أنه نصب على الحال، تقول: جَاءَنِي ما يَفْهَمُ شَيْئاً فَعَلَّمْتُهُ وفَهَّمْتُهُ أي حاله كذا.
فإن قيل: لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذِي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال: جاءني زيد أمس راكباً غداً، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذرُ شيئاً}
فالجواب: أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوةٍ وصلاحيّةٍ لا تذر، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً: جئْتَني سَائلاً أيْ وقت السؤال بالصلاحية والإِمكان.
هذا إن قيل: بأنه نصب على المشهور.
ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هِيَ مَا تَذَرُ.
فَإن قِيلَ: «ما تذر» لنفي حال المتكلم؛ يقال: مَا خَرَجَ زَيْدٌ إلَى الآن، وَإِذا أَرَدْتَ المستقبل تقول: لا يخرجُ أو لن يَخْرُجَ. وتقول للماضي: مَا خَرَجَ ولم يَخْرُجْ، والريح(18/96)
حالة الكلام مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال: ما تذر؟!
فالجواب: أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع، كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل، وإنما يعمل ما كان منْه بمعنى الحال والاستقبال.
فإن قيل: هل في قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} تخصيص كما في قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] .
فالجواب: أن المراد به المبالغة، لأن قوله: «أَتَتْ عَلَيْهِ» وصف لقوله: «شَيْء» كأنه قال: كُلّ شيءٍ أَتَتْ عَلَيْه، أو كل شيء تأتي عليه، ولا يدخل فيه السموات، لأنها ما أتت عليه، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تَهُبُّ عليها الرِّياحُ.
فإِن قيل: فالجبال والصخور أتت عليه وما جعلته كالرَّميم! .
فالجواب: أن المراد أتت عليه قاصدةً له وهو عادٌ وأبنيتُهم وعروشُهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم، فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.
قوله: {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل «تَذَرُ» كأنه قيل: مَا تَتْركُ مِنْ شيء إلا مجعولاً نحو: مَا تَرَكْتُ زَيْداً إلاَّ عَالِماً. وأعربها أبو حيان: حالاً. وليس بظاهر.
فصل
المعنى «مَا تَذَرُ» ما تترك {مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم {إلاَّ جعلته كالرميم} أي كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يَبِسَ ودِيسَ. قال مجاهد: كالتِّبْن اليابسِ.
وقال أبو العالية: كالتراب المدقُوق. وقيل: أصله من العظم البَالي.(18/97)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ} الكلام فيه كما تقدم في قوله: «وفي موسى» ، وقوله:(18/97)
{إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} . قال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أَمْهَلَهُم الله بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام (كما) في قوله تعالى: {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وكان في تلك الأيام تغيير ألوانهم فتصفرُّ وتحمرُّ وتسودُّ. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} بحرف الفاء دليل على أن العُتُوَّ كان بعد قوله: «تمتعوا» ، فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إِلا وهو مُمْهَلٌ مدَّة الأجل.
قوله: {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} «عَتَا» يتعدى تارة «بعَلَى» ، كقوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] ، وههنا استعمل بعَنْ؛ لأن فيه معنى الاستكبار كقوله: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] وحيث استعمل بعلى، فهو كقولك: فُلاَنٌ يتكبَّر عَلَيْنَا.
قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} وهذه قراءة العامة. وقرأ الكسائي الصّعْقَةُ. والحسن الصَّاقِعَة. وتقدم ذكره في البقرة. وقوله: «وَهُمْ يَنْظُرُونَ» جملة حالية من المفعول. و «يَنْظُرُونَ» قيل: من النَّظَرِ. وقيل: من الانتظار أي ينتظرون ما وُعدوهُ من العذاب.
قوله (تعالى) : {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي فما قاموا بعد نزول العذاب ولا قدروا على دفعه.
قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة.
وقوله: «من قيام» بدل قوله: منْ هَرَب؛ لأن العاجز عن القيام أحرى أن يعجز عن الهَرَب. ويحتمل أن يكون المراد منه من القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيامٍ به. {وما كانوا منتصرين} أي منتقمين منا. قال قتادة: كان عندهم قوة من الله.(18/98)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأ الأخوان وأبو عمرو بجر الميم، والباقون بنصبها. وأبو السَّمَّال وابن مِقْسم وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ: وقَوْمُ نُوحٍ بالرفع.
فأما الخفض ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «وَفِي الأرض» .
(الثاني: أنه معطوف على «وَفِي مُوسَى» .
الثالث: أنه معطوف على: «وَفِي عَادٍ» ) .
الرابع: أنه معطوف على «وَفِي ثَمُودَ» . وهو الظاهر؛ لقُرْبه، وبُعْدِ غيره، ولم يذكر الزمخشري غَيْرَهُ، فإنه قال: قُرئ بالجرِّ على معنى وقوم نوح وتقوِّيه قراءةُ عبد الله: وفِي قَوْمِ نوحٍ؛ أي لكم عبرة. ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غير الوجه الأخير لظهوره.
وأما النصب ففيه ستة أوجُهٍ:
أحدها: أنه منصوب بفعل مضمر أي وأهْلَكْنَا قَوْمَ نوحٍ؛ لأن ما قبله يدل عليه.
الثاني: أنه منصوب ب «اذْكُرْ» مقدراً، ولم يذكر الزمخشَريُّ غيره.
الثالث: أنه منصوب عطفاً على مفعول «فَأَخَذْنَاهُ» .
الرابع: أنه معطوف على مفعول فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليمِّ أي أَغْرَقْنَاهم، وناسب ذلك أن قوم نوح مغرقون من قبل لكن يشكل أنهم لم يغرقوا في اليمِّ. وأصل العطف أن يقتضي التشريك في المتعلقات.
الخامس: أنه معطوف على مفعول «فَأَخَذَتْهُمُُ الصَّاعِقَةُ» . وفيه إشكال لأنه لم تأخذهم الصاعقة وإنما أهلكوا إلا أن يراد بالصَّاعقة الداهية والنازلة العظيمة من أي نوعٍ كانت فيقرب ذلك.
السادس: أنه معطوف على محل: «وفي موسى» . نقله أبو البقاء. وهو ضعيف. وأما الرفع فعلى الابتداء والخبر مقدر أي أهْلَكْنَاهُمْ. وقال أبو البقاء: والخبر ما(18/99)
بعده يعني من قوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} ولا يجوز أن يكون مراده قولَه «مِنْ قَبْلُ» إِذِ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخْبَرُ بِهِ.(18/100)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
قوله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} العامة على النصب على الاشتغال، وكذلك قوله: {والأرض فَرَشْنَاهَا} والتقدير: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا. وقال أبو البقاء: أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر. وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو: زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً.
وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما؛ على الابتداء، والخبر ما بعدهما. والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها.
قوله: «بأَيْدٍ» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل «بَنَيْنَاهَا» أي ملتبسينَ بأيدٍ أي بقوة؛ قال تعالى: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد} [ص: 17] .
الثاني: أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة. ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا. ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها، كقولك: بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ.
قوله: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «بَنَيْنَاهَا» . ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول «موسِعُون» محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا. ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ؛ لأن معناه: لَقَادِرُونَ كقولك: ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي؛ كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً: لموسعون الرزق على خَلْقِنَا.
وقيل: ذُو سَعَةٍ. وقال الضحاك: أغنياء، دليله قوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} [البقرة: 236] .(18/100)
قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. فقوله: «وإنا لموسعون» بيان للإعراب (في الفعل) .
فصل
والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، وقوله: {أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة، لم يسقط منها شيء، ولم يُعْدَم منها جزءٌ. وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله: {سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ: 12] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً، وعادت أرضاً من وقت حدوثها، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 28] .
وقال بعض الحكماء: السماء مسكَن الأَرْوَاحِ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً. والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال: وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز؟! .
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال: والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا.
فإن قيل: إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال: بَنَيْنَاها، ولم يقل: بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب: أن قوله: بنيناها أدل على عدم الشريك، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد، وقوله: «بَنَيْنَاهَا» يدل على العَظَمَة، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله: «بَنَيْنَاهَا» وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى: {بَنَيْنَاهَا} لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها(18/101)
الضمير، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها؛ وإنما يقال: بُنيتْ لها وجعلت أماكنها، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال: بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ. ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم، فأفاد النص عظمة، والعظمة أنفى للشريك، فعلم أن قوله: «بَنَيْنَاهَا» أدلّ على نفي الشَّريك من «بَنَيْتُهَا» و «بِنَاء اللَّهِ» .
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} [يس: 71] .
فالجواب: أن ذلك لفائدة جليلة، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.
فقال هناك: عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة. وكذلك: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وفي السماء قال: بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.
وفيه لطيفة (أخرى) وهي: أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته، وأما السماء: فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة، فقال: بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
قوله: «وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا» أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش.
قوله: «فَنِعْم المَاهِدُونَ» المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله: {نِعْمَ العبد} [ص: 30] ، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي.
قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ} يجوز أن يتعلق «بخَلَقْنَا» أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من: «زَوْجَيْنِ» لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء.
والأول أقوى في المعنى.
فصل
المعنى «خلقنا زوجين» صِنْفَيْن ونوعين مختلفين، كالسَّمَاءِ والأرض، والشَّمس(18/102)
والقمر، والليل والنهار، والبَرّ والبحر، والسَّهْل والجبل، والشتاء والصَّيْف، والجنّ والإنس، والذَّكَر والأنثى، والنور والظُّلْمَة، والإيمان والكفر، والسعادة (والشقاوة) والحق والباطل، والحُلْو والمُرّ «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح.
قوله: {ففروا إِلَى الله} أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله: فروا ممَّا سوى الله إلى الله {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وهذا إشارة إلى الرسالة.
قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ} إتماماً للتوحيد، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك، لأن المُعَطِّل يقول: لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر، والموحِّد يقول: قول الاثنين باطل، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل، فلما قال تعالى: {ففروا إِلَى الله} أثبت وجود الله، فلما قال: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ} نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.
ولهذا قال مرتين: {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي في المقامين والموضِعَيْنِ.
قوله: «كَذَلِكَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك، (قال الزمخشري) : والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً. ثم فسَّر ما أجمل بقوله: «مَا أَتى» .
والثاني: أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف. قاله مكي. ولم يبين تَقْدِيرَهُ. ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية. وأما المعنى فلا يمتنع، ولذلك قال الزمخشري: ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة ب «أَتَى» لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها؛ ولو قيل: لم يأت لكان صحيحاً، يعني لو أتى في موضع «مَا» ب «لم» لجاز أن ينتصب الكاف ب «أَتَى» لأن المعنى يسوغ عليه، والتقدير: كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ. ويدل عليه قوله: {مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} الآية.(18/103)
قوله: {إِلاَّ قَالُواْ} الجملة القولية في محل نصب على الحال من: {الذين مِن قَبْلِهِمْ} و «مِنْ رَسُولٍ» فاعل: «أتى» كأنه قيل: ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم: هُوَ سَاحِرٌ.
فإن قيل: إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ؟! .
فالجواب: أنا لا نسلم أن المقرر رسول، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً.
فإن قيل: قوله: {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا} يدل على أنهم كلّهم قالوا: ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك! .
فالجواب: أن ذلك ليس بعَامٍّ، فإنه لم يقل: إلا قال كلهم وإنما قال: «إلاَّ قَالوا» ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى: إِلاَّ قَالُوا.
فإن قيل: لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين، وقال: إِلاَّ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ؟ .
فالجواب: لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب، فكأنه تعالى قال: لا تأسَ على تكذيب قومِكَ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا.
قوله: «أَتَواصَوا بِه» الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في «بِهِ» يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون؟ . والمعنى: كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه، وقال بعضهم لبعض: لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب. ثم قال: لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك.(18/104)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
قوله «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» فأعرض عنهم، {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} لا لوم عليك، قد أديت الرسالة، وما قصرت فيما أمرت به. وهذه تسليةٌ أُخْرَى.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حَزِنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاشتدّ ذلك على(18/104)
أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يتولَّى عنهم فأنزل الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} فطابت أنفسهم. والمعنى: ليس التولي مطلقاً، بل تَوَلَّ وأَقْبِلْ وأَعرض وادعُ فلا التولي يضرك إذا كان علهيم، ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين.
قال مقاتل: معناه عِظ بالقرآن كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم. وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم.(18/105)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} . هذا الجار متعلق «بخَلَقْتُ» .
واختلف في الجن والإنس، قيل: المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، ويؤيده: {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً} [التوبة: 31] أو يكون المعنى: ليطيعوني وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه. أو يكون المعنى: إلا معدين للعبادة، ثم منهم من يتأتى منه ذلك، ومنهم من لا، كقولك: هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ، ثم قد يكتب به، وقد لا يُكْتَب وقيل: المراد به الخصوص، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قاله زيد بن أسلم. قال: هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] .
وقال مجاهدٌ: معناه إِلاَّ ليعْرفُون. قال البغوي: وهذا أحسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، بدليل قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] ، وقيل: إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] وقيل: المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين. وقيل: الطائعين. قال شهاب الدين: والأول أحسنُ.(18/105)
فصل
في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية، وقيل: إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.
فإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين، قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] .
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ، من ترك ما خُلِقُوا له. وهذا مختص بالجِنِّ والإنس؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة.
الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس، فلما قال: «وَذَكِّرْ» بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.
الثالث: أن عباد الأصنام كانوا يقولون: إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فقال تعالى: {مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع: فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم.
قوله: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} أي يطعموا أحداً من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي» ، أي لم تطعم عبدي.
فصل
استدل المعتزلة بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} على أن(18/106)
أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها: أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ومعناه المقارنة فمعناه: قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها: قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] و [الرعد: 16] .
ومنها: ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93] وأمثاله.
ومنها: قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وقوله: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ} [إبراهيم: 27] و {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .
وقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} معناه: أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ؟ {.
فالجواب: أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال: لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟} .
فالجواب: أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله: «من رزق» وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال: ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة!
فالجواب: أن عموم قوله: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} يتناول ذلك.
قوله: «أَنْ يُطْعِمُونِ» قيل: فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير. وقيل: المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.(18/107)
قوله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} يعني لجميع خلقه، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق، وقوله: «ذو القُوَّةِ» تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول: ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق، ولا العمل فإِني قَوِيّ.
وروي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قرأ: إِنِّي أنا الرزَّاق، وقرأ ابن مُحَيْصِن: الرَّازق، كما تقدم في قراءته: {وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ} .
قوله: «المَتِينُ» العامة على رفعه، وفيه أوجه:
إما النعت للرزَّاق، وإما النعت لِذُو، وإما النعت لاسم «إِنَّ» على الموضع. وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء، وغيرهما. وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ مضمر. وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن «ذو القوة» يفيد فائدتَهُ.
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر - فقيل: صفة «القوة» ، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ. وقيل: لأنها في معنى الأيْدِ.
وقال ابن جنِّي: هو خفض على الجوار كقولهم: «هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» يعني أنه صفة للمرفوع، وإنما جر لما جاور مجروراً. وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة.
فصل
قال تعالى: «ما أريد» ولم يقل: إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه؟ .(18/108)
قال ابن الخطيب: نقول: قد رُوِيَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ: إنِّي أنا الرَّزَّاق. وأما على القراءة المشهورة فالمعنى: قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله: «مَا أُرِيدُ» أي قل يا محمد: ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] ويكون على هذا قوله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} ، ولم يقل: القوي، بل قال: ذُو القوة، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند، ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق، فقال: الرزَّاق، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال: {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} كفاه بيان نفس القوة فقال: «ذُو القوة» ، لأن قولنا: ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين، يقال في الآدمي: ذُو مَال ومتمول، وذو جَمال، وجميل، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما (لا) يلزم لزوماً بيناً.
ولا يقال في الثلاثة: ذات فردية، ولا في الأربعة: ذات زوجية، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم، ويقال في الإنسان: ذو علم، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين.
وفي صفات الفعل يقال: الله تعالى ذُو الفضل كثيراً (وذو الخلق قليلاً) ؛ لأن «ذا كذا» بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين. ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ} [غافر: 22] وقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ القوي} [الشورى: 19] وقال: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر (ما) . ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه.(18/109)
فصل
قوله: «المَتِينُ» ، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله: «قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله: «القَوِيّ العَزِيزُ» .
قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} قد تقدم الكلام على الفاء في وجه التعلق. والمراد بالذين ظلموا: كفار مكة. ومعنى ذنوباً أي نصيباً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعادٍ، وثمود. والذنوب: في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء، وفي الحديث الشريف: «فَأُتي بذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ» فإن لم تكن مَلأَى فهو الدَّلْو، ثم عبر به عن النَّصيب، قال علقمة:
4530 - وَفِي كُلّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتُ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنوبُ
ويجمع في القلة على أَذْنِبَةٍ، وفي الكثرة على ذَنَائِبَ. وقال المَلكُ لما أنشد هذا البيت نَعَمْ وأَذْنِبَة.
وقال الزمخشري: الذَّنُوب الدلو العظيمة، وهذا تمثيل أصله في السّقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الشاعر:
4531 - لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُم ذنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا القَلِيبُ(18/110)
وقال الراغب: الذنوب الدلو الذي له ذنب انتهى. فراعى الاشتقاق. والذنوب أيضاً الفَرَسُ الطّويل الذّنب وهو صفة على فَعُول. والذَّنوب لحم أسفل المَتْن. ويقال: يَوْم ذَنُوب أي طويل الشّر استعارة من ذلك.
قوله: {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي بالعذاب. ووجه مناسبة الذنوب أن العذاب منصبّ عليهم كما يُصَبُّ الذَّنُوبُ، قال تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19] وقال تعالى: {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} [الدخان: 48] والذّنوب كذلك فكأنه قال: نصبّ فوق رؤوسهم ذَنُوباً من العذاب كذنوب صُبّ فوق رؤوس أولئك. ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النَّوْبَة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيْشِهم الطيب، فكأنه تعالى قال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} من الدنيا وطيباتها «ذَنُوباً» إذا ملأوه ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذنوباً وتركوها، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رَغَدُ العيش.
قال ابن الخطيب: وهو أليق بالعربية.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} يعني يوم القيامة. وقيل: يوم بدر، وحذف العائد لاستكمال شُرُوطه، أي يُوعدونه.(18/111)
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» وَالذَّارِيَاتِ «أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلّ رِيحٍ هَبَّتْ وَجَرَتْ فِي الدُّنْيَا» (والله سبحانه وتعالى أعلم وأشفق وأرحم) .(18/112)
سورة الطور(18/113)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
مكية وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتي عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والطور} وما بعده أقسام جوابها {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما تقدم في أول هذا الكتاب عن الخليل.
ونكر الكتابَ تفخيماً وتعظيماً.
فصل
مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، لأن في آخرها قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] وفي أول هذه السورة {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [الطور: 11] وفي آخر تلك السورة قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً} [الذاريات: 59] ؛ وذلك إشارة إلى العذاب، وقال هَهُنَا: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ.
فصل
قيل: المراد بالطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالأرض المقدسة، أقسم الله به. وقيل: هو الجبل الذي قال الله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} [(18/113)
التين: 2] . وقيل: هو اسم جنس، والمراد بالكتاب المسطور كتاب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وهو التوراة. وقيل: الكتاب الذي في السماء، وقيل: صحائف أعمال الخلق، وقال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] . وقيل: الفرقان. والمراد بالمسطور المكتوب.
قوله: فِي رَقِّ يجوز أن يتعلق «بمَسْطُورٍ» ؛ أي مكتوب في رَقٍّ. وجوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً آخر لكتاب وفيه نظر؛ لأنه يشبه تَهْيئَةَ العَامِلِ للعَمَلِ وقطْعِهِ منْهُ.
والرَّقُّ - بالفتح - الجلد الرقيق يكتب فيه. وقال الرَّاغِب: الرق ما يكتبُ فيه شبه كاغد. انتهى فهو أعم من كونه جلداً أو غيرَهُ. ويقال فيه: رِقٌّ بالكسر. فأما مِلْكُ العبيد فلا يقال إلا رِقٌّ بالكسر. وقال الزَّمخشري: والرَّقُّ الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه. انتهى. وقد غلط بعضهم من يقول: كَتَبْتُ في الرِّقّ بالكسر؛ وليس بغلط لثبوته به لُغَةً.
وقد قرأ أبو السَّمَّال: في رِقٍّ، بالكسر.
فإِن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ} وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ورقه؟! .
فالجواب: أن هذا إِشارة إلى الوضع لأن الكتاب المطويَّ لا يعلم ما فيه فقال: في رق منشور أي ليس كالكتب المطويّة أي منشورٌ لكم لا يمنعكم أحدٌ من مُطَالَعتِهِ.
(قوله: «والبيت المعمور» قيل: هو بيت في السماء العليا تحت العرش بِحيَالِ الكَعْبَةِ يقال له: الصّراح حُرْمَتُهُ في السماء كحُرْمَةِ الكعبة في الأرض يدخله كُلَّ يوم سبعونَ ألفاً من الملائكة يطُوفُونَ به ويُصَلُّون فيه، ثم لا يعودون إليه أبداً.
ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة. وقيل: هو بيت الله الحرام وهو معمورٌ بالحُجَّاج الطائفين به.(18/114)
وقيل: اللام في «البيت المعمور» لتعريف جنس كأنه يُقْسِمُ بالبيوتِ المَعْمُورة والعمائر المشهورة) .
قوله: «والسَّقْفِ المَرْفُوعِ» يعني السماء. ونظيرِه: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً}
[الأنبياء: 32] .
قوله: «والبَحْر المَسْجُور» قيل: هو من الأضداد، يقال: بَحْرٌ مَسْجُورٌ أي مملوء، وبَحْرٌ مَسْجُورٌ أي فارغٌ. وروى ذو الرمة الشاعر عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - أنه قال: خرجت أُمةٌ لتَسْتَقي فَقَالَتْ: إِن الحَوْضَ مَسْجُورٌ؛ أي فارغ. ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة.
وقيل: المسجور الممسوك، ومنه ساجُور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظيّ والضَّحَّاكُ: يعني الموقَد المحمّى بمنزلة التَّنُّور المُحَمَّى، وهو قول ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) ؛ لما روى أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] .
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَرَ - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْراً إلاَّ غَازِياً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ حَاجًّا، فَإِنَّ تَحْتَ البَحْرِ نَاراً وتَحْتَ النَّارِ بَحْراً» وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالمالح. وروى الضحاك عن النّزّال بن سَبْرَةَ عن علي أنه قال: البحر المسجور: هو بحر تحت العرش، كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظٌ، يقال له: بحرُ الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم. وهذا قول مقاتل.
فصل
قيل: الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء أن هذه الأماكن الثلاثة وهي: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق(18/115)
وخطابهم مع الله. أما الطور فانتقل إليه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وخاطب الله تعالى هناك وأما البيت المعمور فانتقل إليه محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال لربه: «سَلاَمٌ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحينَ، لاَ أُحصي ثناءَ عليك أنت كما أثنيتَ على نَفسك» . وأما البحر المسجور فانتقل إليه يونسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونادى في الظلمات: {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها.
وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه (الأماكن) مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب (واقترانه بالطور أدل على ذلك؛ لأن موسى - عليه السلام - كان له مكتوبٌ ينزل عليه وهو بالطُّور) .
فصل
أقسم في بعض السور بجموع كقوله: {والذاريات} [الذاريات: 1] {والمرسلات} [المرسلات: 1] {والنازعات} [النازعات: 1] وفي بعضها بأفراد كقوله: «والطُّورِ» ولم يقل: والأَطوار والبِحار.
قال ابن الخطيب: والحكمة فيه: أن في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدِّلة بأفرادها مستمرة بأنواعها، والمقصود مِنْهَا لا يحصل إلا بالبَدَل والتَّغَيُّر، فقال: «والذاريات» إشارة إلى النوع المستمر، لا الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائمٌ زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد، وكذلك في قوله:
{والنجم} [النجم: 1] ، ولو قال: «والريح» لما علم المقسَمُ به، وفي الطور عُلِمَ.
قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} نازل وكائن. وقوله: «مِنْ دَافِعٍ» يجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون صفة لواقع أي واقع غير مدفوع. قال أبو البقاء. و «مِنْ دَافِعٍ» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ و «مِنْ» مزيدة على الوجهين.(18/116)
فصل
قال جُبَيْرُ بْنُ مُطْعمٍ: قدمت المدينة لأكلمَ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أُسَارَى بدر فدفعت إليه وهي يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ «والطور» إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} فكأنما صُدِّع قلبي حين سمعت (هـ) ولم أَكُنْ أُسْلِمُ يومئذ قال: فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقومَ من مكاني حتى يقع بي العذاب.(18/117)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السمآء} يجوز أن يكون العامل فيه: «واقع» أي يقع في ذلك اليوم. وعلى هذا فتكون الجملة المنفية معترضة بين العامل ومعموله. ويجوز أن يكون العامل فيه «دافع» . قاله الحَوْفِيُّ، وأبو البقاء. ومنعه مَكِّيٌّ.
قال أبو حيان: ولم يذكر دليل المنع. قال شهاب الدين: وقد ذكر دليل المنع في الكشف إلا أنه ربما يكون غلطاً عليه فإنه وَهَمٌ، وعبارته قال: العامل فيه واقعٌ أي إن عذاب ربك لَوَاقِعٌ في يوم تَمُورُ السَّماء، ولا يعمل فيه «دافع» ؛ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النّافي، لا يقول: طَعَامَكَ ما زَيْدٌ آكلاً، رفعت آكلاً أو نصبته أو أدخلت عليه الباء. فإن رفعت الطعام بالابتداء وأوقعت «آكلاً» على «هاء» جاز وما بعد الطعام خبراً. انتهى.(18/117)
وهذا كلام صحيح في نفسه، إلا أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأن العامل - وهو دافع - والمعمول - وهو يوم - كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزِهِ. وقوله: وأوْقَعْتَ آكلاً على هاء أي على ضمير يعود على الطعام فتقول: طَعَامَكَ مَا زيْدٌ آكِلُه.
وقد يقال: إن وجه المنع من ذلك خوف الوَهَم أنه يفهم أن أحداً يدفع العذاب في غير ذلك اليوم. والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت وهذا أمرٌ مناسب قد ذكر مثلهُ كثيرٌ، ولذلك منع بعضهم أن ينتصب {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} [آل عمران: 30] بقوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29] لئلا يفهم منه ما لا يليق. وهذا أبعد من هذا في الوَهَم كثير.
وقال أبو البقاء: وقيل: يجوز أن يكون ظرفاً لما دل عليه «فَوَيْلٌ» انتهى.
وقال ابن الخطيب: والذي أظنه أن العامل هو الفعل المدلول عليه بقوله: {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 8] ؛ لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم، لأن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحَشْر ومَوْر السَّماء لأنه في معنى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] .
فصل
والمَوْرُ الاضطراب والحركة. يقال: مَارَ الشيْءُ أي ذهب وجاء. وقال الأخفش وأبو عبيدةَ تَكْفَأُ وأنشد للأعشى:
4532 - كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَوْرُ السَّحَابَةِ لاَ رَيْثٌ وَلاَ عَجَلُ
وقال الزمخشري: وقيل: هو تحرك في تموج. وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة وهي الجلدة التي فوق قُفْل الركبة. وقال الراغب: المَوْر: الجريان(18/118)
السريع ومَار الدَّمُ على وجهه والمُور - أي بالضم - التراب المتردد به الريح.
وأكد بالمصدرية دفعاً للمجاز أي هذان الجرمان العظيمان مع كثافتهما يقع ذلك منهما حقيقة.
وقال ابن الخطيب: فيه فائدة جليلة، وهي أن قوله: «وتَسِيرُ الجِبَالُ» يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء؛ لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر السماء كالسائرة إلى خلاف تلك الجهة، كما يشاهده راكب السفينة، فإنه يرى الجبلَ الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول: السماء تمُور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يَرَى القمرَ سائراً راكبُ السفينة، والسماء إذا كانت كذلك فلا يبقى مَهْرَب ولا مَفْزَع لا في الأرض ولا في السماء.
فصل
لما ذكر أن العذاب واقع بين أنه متى يقع العذاب، فقال: يوم تمور السماء موراً، قال المفسرون: أي تَدُورُ كما يدور الرَّحَا وتَتَكفأ بأهلها تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ.
قال عطاء الخُراسَانيّ: يختلف أجزاؤها بعضها في بعض.
وقيل: تضطرب. {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} فتزول عن أماكنها، وتصير هباءً منثوراً، وهذا إيذان وإعلام بأن لا عود إلى السماء لأن الأرضَ والجبالَ والسماءَ والنجومَ كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم فإذا لم يبقَ فيها نفع فلذلك أعدمها الله تعالى.
قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} يومئذ منصوب «بوَيلٍ» والخبر «للمكذبين» . والفاء في قوله «فَوَيْلٌ» قال مكي: جواب الجملة المتقدمة وحسن ذلك، لأن في الكلام معنى الشرط، لأن المعنى إذا كان ما ذُكِرَ فَويْلٌ.
قال ابن الخطيب: أي إذا علم أن عذاب الله واقع، وأنه ليس له دافع فويل إذَنْ للمكذبين؛ فالفاء لاتصال المعنى، ولمعنى آخر وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان، لأنه لما قال: إن عذاب ربك لواقع وأنه ليس له دافع لم يبين موقعه بِمَنْ، فلما قال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} علم المخصوص (به) وهو المكذب.
فإن قيل: إذا قلت بأن قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بيان لمن يقع به العذاب فمن(18/119)
لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يُكَذِّبون.
فالجواب: أن ذلك العذاب لا يقع إلا على أهل الكبائر، وإنما هذا كقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8 و9] فالمؤمن لا يُلْقَى فيها إلقاء بهوان، وإنما يُدْخَلُ فيها للتطهير إدْخَالاً مع نوع إكرامٍ، والويل إنما هو للمكَذِّبِينَ.
والويل ينبئ عن الشدة، لأن تركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن وُقُوع شدةٍ، ومنه لَوَى إذا دافع ولَوَاه يلويه إِذا فَتَلَهُ فَتْلاً قوياً.
والوَلِيُّ فيه القوة على المُولَى عَلَيْهِ. وقد تقدم وجه جواز التنكير في قوله: «وَيْلٌ» مع كونه مبتدأ؛ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء في تفسير قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ} [الذاريات: 25] .
قوله: {الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} الخَوْضُ: هو الاندفاع في الأباطيل، قال تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وقال تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} [المدثر: 45] .
وتنكير الخوض يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون للتكثير أي في خوضٍ عظيم.
الثاني: أن يكون التنوين عوضاً عن المضاف إليه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] والأصل في خوضهم المعْرُوف منهم. وقوله: يعلبون أي غافلون لاهون.
واعلم أن قوله تعالى: {الذين هُمْ فِي خَوْضٍ} ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم، وإنما هو للذم كقولك: «الشيطانُ الرجيمُ» ولا تُرِيدُ فَصْله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك: أَكْرِمِ الرَّجُلَ العَالِمَ فالوصف بالرجيم للذم له لا للتعريف.
وتقول في المدح: الله الذي خلق، والله العظيم للمدح لا للتمييز، ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم، فإن الله واحد لا غير.
قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} يجوز أن يكون ظرفاً «ليُقَالُ» المقدرة مع قوله: {هذه النار} [الطور: 14] يوم يدعون المكذبين؛ لأن معناه يوم يقع العذابُ ذلك اليوم وهو يوم يُدَعُّون فيه إِلى النار.(18/120)
والعامة على فتح الدال وتشديد العين من دَعَّهُ يَدُعُّهُ أي دفعه في صدره بعُنْفٍ وشِدَّةٍ. قال الراغب: وأصله أن يقال للعاثر: دع كما يقال له لَعاً.
وهذا بعيد من معنى هذه اللفظة.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسّلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة من الدُّعَاءِ أي يُدْعَوْنَ إليها فيقال لهم: هَلُمُّوا فادخلوها.
قوله: دَعًّا مصدر معناه تدفعهم الملائكة دفعاً على وجوههم بعُنْفٍ أي يُدْفَعُونَ إِلى النار، فإِذا دَنَوْا منها قال لهم خزنتها: هَذِهِ النَّار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا.
فإن قيل: قوله تعالى: {يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ} يدل على أن خزنتها يقذفونهم في النار وهم بعيداً عنها وقوله تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] يدلّ على أنهم فيها.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن الملائكة يَسْحَبُونَهُمْ في النار، ثم إذا قربوا من نار مخصوصة وهي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في نار، والدفع في نار أشد وأقوى، بدليل قوله: {يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 71 و72] . أي يسحبون في حَمْوَةِ النار، ثم بعد ذلك يكون لهم إِدخالٌ.
الثاني: يجوز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يَسْحَبُهُم آخر.
الثالث: أن يكون السحبُ بسَلاَسِلَ أي يسحبون في النار، والساحب خارج النار.
الرابع: أن يكون الملائكة يدفعونهم إِلى النار إهانةً لهم، واستخفافاً بهم ويدخلون معهم النار ويسحبونهم.
قوله: «أَفَسِحْرٌ» خبر مقدم و «هذا» مبتدأ مؤخر.(18/121)
ودخلت الفاء قال الزمخشري: بمعنى كنتم تقولون للوحي: هذَا سِحرٌ فسحر هذا يريد هذا المِصْداق أيضاً سحر؛ ودخلت الفاء لهذا المعنى، وهذا تحقيقٌ للأمر؛ لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين: إما لأمر عائدٍ إلى المرئيّ، وإمَّا لأمرٍ عائد إلى الرائي، فقوله: «أَفَسحرٌ هَذَا» أي هل في الموت شكٌّ أمْ هل في بصركم خَلَل؟! فهو استفهام إنكار أي لا أمر مِنْهُمَا ثابتٌ فالذي تَرَوْنَهُ حق وقد كنتم تقولون: إنه ليس بحق، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلى السحر، وأنه يغطي الأبصار بالسِّحر، وانشقاق القمر وأمثاله سحر، فوبخوا به، وقيل لهم: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون.
قوله: اصْلَوْ (هَا) أي إذْ لم يمكنكم إنكارها، وتحقق أنه ليس بسحر ولا خَلَل في أبصاركم فاصْلَوْهَا؛ أي قاسوا شدتها. {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي الصبر وعدمه سواءٌ، وهذا بيان لعدم الخَلاص.
قوله: «سَوَاءٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء. قاله أبو البقاء.
والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي سواء الصبرُ والجزعُ، قاله أبو حيان.
قال شَهابُ الدِّين: والأول أحسن، لأن جعل النكرة خبراً أولى من جعلها مبتدأ وجعلِ المَعْرِفَةِ خبراً.
ونحا الزمخشري مَنْحَى الوجه الثاني فقال: «سواء» خبره محذوف أي سواء عليكم الصَّبْرَانه الصبرُ وَعَدَمُهُ.
قوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيه لطيفة، وهي أن المؤمن بإِيمانه اسْتَفَادَ أن الخير الذي يَنْويهِ يُثَابُ عَلَيْه، والشَّرَّ الذي يقصِدُهُ ولا يقع منه لا يعاقَبُ عليه ولا ظلم، فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل (فيه) باختياره، فإن الله تعالى قال بأن من كفر ومات كافراً عذبته أبداً فاحذَرُوا، ومن آمن أَثَبْتُهُ دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعدما سمع ذلك فإذا عوقب دائماً فهو تحقيق لما أَوْعَدَ به فلا يكون ظلماً.(18/122)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} يجوز أن يكون مستأنفاً، أخبر الله تعالى بذلك بشارة، ويجوز أن يكون من جملة المقول للكفار زيادة في غَمِّهِمْ وتَحَسُّرِهِم. والجنة هي موضع السرور لكن الناطُور قد يكون في البستان الذي هو في غاية الطيبة، فلما قال: «وَنَعِيمٍ» أفاد أنهم فيها متنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطُور والعمال.
وقوله: «فَاكِهِينَ» يريد في ذلك، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول، فلما قال: «فَاكِهينَ» دل على غاية الطيبة.
قوله: «فَاكِهِينَ» هذه قراءة العامة نصب على الحال، والخبر الظرف، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف.
وقرأ خَالِدٌ: «فاكِهُونَ» بالرفع، فيجوز أن يكون الظرف لغواً، متعلقاً بالخبر ويجوز أن يكون خبراً آخر من عند من يجيز تعداد الخبر.
وقرئ فَكِهينَ مقصوراً، وسيأتي أنه قرأ به في المُطَفِّفِينَ في المتواتر حفصٌ عن عَاصِمٍ.(18/123)
قوله: «بِمَا آتَاهُمْ» يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون: «ما» حينئذ واقعةً على «الفواكه» التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهةِ الجنة، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك. ويجوز أن تكون «ما» مصدريةً أيضاً.
قوله: «وَوَقَاهُمْ» يجوز فيه أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على الصلة أي فَكِهينَ بإيتائِهِم رَبَّهُمْ وبِوقايَتِهِ لهم عذابَ الجَحِيم.
والثاني: أن الجملة حال فتكون «قد» مقدرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالاً.
الثالث: أن يكون معطوفاً على: «فِي جَنَّاتٍ» . قاله الزمخشري يعني فيكون مخبراً به عن المتقين أيضاً فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين: أَحدِهِمَا: بما آتاهم، والثاني: بأنه وَقَاهُمْ.
والعامة على تخفيف القاف من الوقاية. وأبو حيوة بتَشْدِيدِهَا.
قوله: «كلوا واشربوا» أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً. وقد تقدم الكلام في: «هَنِيئاً» فِي النِّسَاء.
قال الزمخشري: هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً. وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ.
ويجوز أن يكون مثله في قوله:
4533 - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت» كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا، فكذلك معنى «هنيئاً» هُنَا هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ»(18/124)
والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وهذا من محاسن كلامه.
قال أبو حيان: أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى» على خلافٍ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.
وأما قوله: إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا» فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى. وهذا قريب.
قوله: «مُتَّكِئِينَ» فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من فاعل: «كُلُوا» .
الثاني: أنه حال من فاعل: «أَتَاهُمْ» .
الثالث: أنه حال من فاعل: «وَقَاهُمْ» .
الرابع: أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف.
الخامس: أنه حال من الضمير في: «فَاكِهِينَ» .
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف لكونه عُمْدَةً.
وقوله: «عَلَى سُرُرٍ» متعلق ب «متَّكِئينَ» .
وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحها. وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف.
قوله: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور.
فصل
اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله(18/125)
على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله: «جَنّات» إشارة إلى المسكن وقال: «فاكهين» إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إشارة إلى أنه تعالى يقول: إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ.
فإن قيل: قال في حقّ الكفار: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] وقال في حق المؤمنين: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فما الفرق بينهما؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أن كلمة «إنَّما» للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني: قال هنا: «بِمَا كُنْتُمْ» وقال هناك: {مَا كُنتُمْ} [النمل: 90] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول: هذا عينُ ما عملت. وقوله في حق المؤمن: بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث: أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل: فاللَّه تعالى قال في موضع آخر:
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] في الثواب.
فالجواب: أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل: بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع. وأما في السرر فذكر أموراً:
أحدها: الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه. وجمع السرر لأَمْرَيْنِ:
أظهرهما: أن يكون لكل واحد سُرَرٌ؛ لأنه قوله: «مَصْفُوفة» يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله: «مَصْفُوفَة» أي منتظمة بعضُها إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقول(18/126)
تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم} إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه:
الأول: أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني: قال: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور» ولم يقل: وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث: عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ.
قوله: {والذين آمَنُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء، وعلى الأبناء، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً. وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا. قال شهاب الدين: فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال، وأن قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء.
الثالث: قال ابن الخطيب: إنه معطوف على: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} ثم قال: فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ «الَذين آمنوا» وكان المقصود يحصل بقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} بعد قوله {وَزَوَّجْنَاهُم} كان يصير التقديرُ: وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم؟ نقول: فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال ههنا: الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه، وذلك إشارة إلى الجزاء.(18/127)
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على «حُورٍ عينٍ» قال الزمخشري: «وَالَّذِينَ آمَنُوا» معطوف على «حُورٍ عينٍ» أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله: {إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخْوَان.
ثم قال الزمخشري: ثم قال: «بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ» أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم.
قال أبو حيان: ولا يتخيل أحد أن «وَالَّذِينَ آمَنُوا» معطوف على «بحُورٍ عِينٍ» غير هذا الرجل. وهو تخيُّلٌ أعجميّ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره.
قال شهاب الدين: أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه؟! .
قوله: «وَأَتْبَعْنَاهُمْ» يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، ويكون «والذين آمنوا» مبتدأ ويتعلق «بإيمان» بالاتِّباع، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك. ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر. قال الزمخشري ويجوز أن يتعلق «بإِيمَانٍ» ب «أَلْحَقْنَا» كما تقدم.
فإن قيل: قوله: أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد قوله: «ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ» .
فالجواب: أن قوله: «أَلْحَقْنا بِهِمْ» أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم.
وقرأ أو عمرو: «وأتْبَعْنَاهُمْ» بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه. والباقون واتَّبَعَتْهُمْ(18/128)
بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث. وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ.
فصل
اختلفوا في معنى الآية، فقيل معناها: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين.
وقوله: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم. وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس. وقيل: معناه {والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم} البالغون {بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضَّحَّاك في رواية العوفيّ عن ابن عباس. أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ أنه يَجْمَعُ لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} .
روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:
«سألت خديجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هما في النار، فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا. قالت يا رسول الله: فولدي منك قال: في الجنة. ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ «ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ «.
قوله:» وَمَا أَلَتْنَاهُمْ «قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ اللام. والباقون بفتحها.
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ. وأما الثانية: فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ.
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ، يقال: آلَتَ(18/129)
يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام.
قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال: لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ.
وليس كما زَعَمَ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ.
وقرئ: - ولَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون. قال ابن خَالَوَيْهِ: فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ وأَلاَتَ يُلِيتُ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ.
ويقال: ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى (أمير المؤمنين) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل: لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين، أي لا تُغَلِّظْ عليه.
قال شهابُ الدِّين: ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه.
وفي الضمير في» أَلَتْنَاهُمْ «وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنه عائد على» المؤمنين «.
الثاني: أنه عائد على» أَلَتْنَاهُمْ «. قيل: ويقويه قوله تعالى: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} .
قوله: {مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} من شيء مفعول ثان ل» ألتْنَاهُمْ «و» مِنْ «مزيدة؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ (شَيْءٍ) ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قدمت(18/130)
نصبت حالاً. وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ.
فصل
في قوله:» وَمَا أَلَتْنَاهُمْ «تطييب لقلبهم، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة. وقال: مِنْ عملهم» ولم يقل: من أجرهم لأن قوله: وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه، ولو قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل، ولأنه لو قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال: إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً.
فإِن قيل: ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله: «وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا» ؟ .
فالجواب: (هو) إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ. أو نقول: أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة قيل: بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ. وقيل: بأنه يكون مرتداً؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي. فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ. ذكر هذين الوجهين الزمخشري.
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ} [الإسراء: 88] و [الزخرف: 67] {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10] لأن التقدير: أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء، لكن الإِضافة تُنْبِئُ عن تَقْييد، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق، فإن قول القائل: ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ، وإطلاق اسم «ماء» من غير إضافة لا يصح، فقوله: «بإيمانهم» يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع الإِضافة مع ردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا(18/131)
يوجب الإيمان في الدنيا إلا إيمان الآباء. قال ابن الخطيب: وهَذا وجهٌ حَسَنٌ.
قوله: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} قال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} [المدثر: 38 - 39] . قال الواحدي: هذا يعود إلى ذكر أهل النار. وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً.
وقال الزمخشري: هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق الرهن.
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى: كل امرئ بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً، وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله.
قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} ، زيادة على ما كان لهم {وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} من أنواع اللّحْمَانِ. والمعنى زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهةُ واللحم، والمشروب الكأس. وفي هذا لطيفةٌ وهي أنه لما قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوئ، فقال: ليس عدم النقصان باقتصار على المساوئ؛ بل بالزيادة والإمداد.
قوله: «يَتَنَازَعُونَ» في موضع نصب على الحال من مفعول: «أمْدَدْنَاهُمْ» ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وتقدم الخلاف في قوله: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} في البقرة. والجملة في موضع نصب صفة لكأسٍ. وقوله: فِيهَا أي في شَرَابِهَا. وقيل: في الجَنَّة. ومعنى يتنازعون أي يَتَعَاطَوْن. ويحتمل أن يقال: التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب مُلاَعَبةٍ لا تَجاذُبَ مُنَازَعَة. وفيه نوع لذَّةٍ، قال الشاعر:(18/132)
4534 - نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي
وقوله: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} قال قتادة: اللَّغْو: الباطل. وقال مقاتل بن حيّان: لا فضولَ فيها. وقال سعيد بن المسيب: لاَ رَفَث فيها. وقال ابن زَيْد: لا سبابَ ولا تخاصُمَ فيها.
وقال القُتَيْبِيُّ: لا يذهب عقولهم فيَلْغُوا أو يَرْفُثُوا «وَلاَ تَأْثيمٌ» أي لا يكون منهم ما يُؤْثِمُهُمْ. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السُّكْر. وقال الزجاج: لا يجري منهم ما يُلْغَى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشَرَبَةِ الخَمْر.
وقيل: لا يأثمون في شُرْبِهَا.
قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي يطوف عليهم بالخِدمة غلمانٌ لهم «كَأَنَّهُمْ» في الحسن والبياض والصَّفاء.
قوله: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} صفة ثانية «لِغِلْمَانٍ» . والمعنى يطوف عليهم بالكُؤُوس غلمانٌ لهم. وهم الوِلْدَان المُخَلَّدُون {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي مخزون مَصُونٌ لم تَمَسَّهُ الأَيْدِي.
قال سعيدُ بن جُبَيْر: يعني في الصِّدق، وقال عبد الله بن عمر: ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألفُ غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه. «وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال: قَالُوا يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخْدُوم؟ قال: فَضْلُ المَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ لَيْلَةَ البدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ» .(18/133)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} يسأَلُ بعضُهم بعضاً في الجنة. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: يتذاكرُون ما كانوا فيه من التَّعَب والخوف في الدنيا؛ فقوله: «يَتَسَاءَلُونَ» جملة حالية من «بَعْضُهُمْ» .(18/133)
قوله: {قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي خائفين. والمعنى أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون: خَشْيَة اللَّهِ أي كنا نخاف الله «فَمَنَّ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ» . قال الكلبي: عذاب النار. وقال الحسن: (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -) : السموم اسمٌ من أسماء جهنم. والسَّمُوم في الأصل الرِّيحُ الحَارَّة التي تَتَخَلَّل المَسَامَّ، والجمع سَمَائِمُ. وسُمَّ يَوْمُنَا أي اشتدَ حَرُّهُ. وقال ثعلب: السموم شدة الحر أو شدة البرد في النَّهَار وقال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحَرُور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لَفْحِ البَرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر. وقد تقدم شيء من ذلك في سُورة «فاطر» .
وقرأ العامة: وَوَقَانَا بالتخفيف، وأبو حَيْوَة بالتَّشديد وقد تقدم. قوله: «إنَّا كُنَّا قَبْلُ» أي في الدنيا «نَدْعُوهُ» نُخْلِصُ له العبادة.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ البر} قرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح الهمزة على التعليل أي لأنَّه والباقون بالكسر على الاستئناف الذي فيه معنى العلة فيتحد معنى القراءتين.
وقوله: «هُوَ البَرُّ» . قال ابن عباس: اللطيف. وقال الضحاك: الصادق فيما وعد الرحيم بعباده، (اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا) .(18/134)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} لما بين تعالى أن في الوجود قوماً يخافون الله، ويشفقون في أهلهم والنبي - عبليه الصلاة والسلام - مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] فوجب التذكير فلذلك ذَكَرَهُ بالفاء.
قوله: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مقسم به متوسط بين اسم «ما» وخبرها. ويكون الجواب حينئذ محذوفاً لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير: «وَنِعْمَةَ رَبّكَ مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ» .
الثاني: أن الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها: «بِكَاهِنٍ أوْ مَجْنُون» والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. قاله أبو البقاء. وعلى هذا فهي حالٌ لازمة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يفارق هَذِهِ الحَالَ.
الثالث: أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم «ما» وخبرها والتقدير: ما أنت في حال أذْكَارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون. قاله الحوفيّ. قال شهاب الدين: ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية. وهذا هو مقصود الآية الكريمة. والمعنى انتفى عنك الكَهَانَةُ والجنونُ بسبب نعمةِ الله عليك كما تقول: مَا أَنْتَ بمُعْسرٍ بحمْدِ اللَّهِ وَغِنائِهِ.
فصل
المعنى «فَذَكِّرْ» يا محمد أهل مكة بالْقُرْآنِ {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} أي برحمته وعصمته «بِكَاهِنٍ» مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي «وَلاَ مَجْنُونٍ» نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكَهانةِ والسِّحر والجُنُون والشِّعر.(18/135)
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» قال الثعلبي: قال الخليل: كل ما في سورة الطور من «أم» فاسْتِفْهَامٌ وليس بِعَطْفٍ.
وقال أبو البقاء: «أم» في هذه الآيات منقطعة. وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر بِبَلْ وحدَها أو بِبَلْ والهمزة أو بالهمزة وحدها. والصحيحُ الثاني.
وقال مجاهد في قوله: «إنْ تَأمُرهُمْ» تقديره بَلْ تَأمُرُهُمْ. وقرأ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} يدل: أم هُمْ قَوْمٌ.
قوله: «نَتَرَبَّصُ» في موضع رفع صفة ل «شَاعِرٌ» والعامة على «نَتَرَبَّص» بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين «رَيْبَ» بالنصب.
وزيد بن علي: يُتَرَبَّصُ - بالياء من تحت - على البناء للمفعول «رَيْبُ» بالرفع.
و «رَيْبُ المَنُونِ» : حَوَادِثُ الدَّهْر، وتَقَلُّبَات الزَّمان؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل. قال الشاعر:
4535 - تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ خَلِيلُهَا
وقال أبو ذُؤَيْب:
4536 - أَمِنَ الْمَنُونَ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
والمنون في الأصل الدهر. وقال الراغب: المَنُونُ: المنيّة؛ لأنها تَنْقُصُ العَدَدَ، وتَقْطَعُ الْمَدَدَ. وجَعَلَ من ذلك قوله: {أجر غير ممنون} أي غير منقطع. وقال الزمخشري: وهو في الأصل: فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب. و «رَيْبَ» وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية.
فصل
المعنى: بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخَرَّاصين شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون(18/136)
حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا: لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شِعْره وإنما نصبر وَنَتَربَّصُ موتَهُ ويَهْلِك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سُمِّيَا بذلك لأنَّهما يقطعان الأجل. أو يقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقول: إن الحَقَّ دين الله، وإنَّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر، وكتابي يُمْلَى إلى قيام الساعة فقالوا: ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهَلاَك فنتربص به ذلك. وَرَيْبُ المَنُون: هو اسم للموت فَعُولٌ من المَنِّ، وهو القطع.
ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد انه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذِهْنَهُ وتُورثُ وَهَنَهُ فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره.
قوله: «قُلْ تَرَبَّصُوا» أي انتظروا بي الموت.
فإن قيل: هذا أمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يُبِيحُه ويجوزه وتربصتم كان حراماً.
فالجواب: ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصٌ الهلاك بكم كقول الغَضْبَانِ لعبده: افْعَلْ مَا شِئْتَ فإني لَسْتُ عَنْكَ بغافلٍ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: تَرَبَّصوا أو لا تَتَرَبَّصُوا كما قال: {اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} [الطور: 16] .
فالجواب: ليس كذلك، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر.
قوله: {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} أي أتربصُ هَلاَكَكُمْ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيَّام. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا: (إن) ريب المنون صروفُ الدهر فمعناه إنكار كَوْن صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول: أَنَا مِنَ المتربِّصين حتى أُبْصِرَ ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يُصِيْبُني منه.
قوله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ} عقولهم {بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} والإشارة بقوله: «بِهَذَا» إلى ما ظهر منهم عقلاً ونقلاً. وهو عبادة الأوثان وقولهم الهَذَيَان. وقيل: إشارة إلى قولهم: كَاهنٌ وشاعرٌ ومجنونٌ. وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن(18/137)
تَثْبُتَ بعقلٍ أو نقلٍ فقال: هل ورد أمرٌ سَمْعِيّ أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مُفْتَرُونَ ويَقُولُونَ ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً؟ والطُّغْيَان مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيَانِ وكذلك كل شيء مكروهٌ ظاهرٌ، قال تعالى:
{لَمَّا طَغَا المآء} [الحاقة: 11] .
واعلم أن قوله: «أَمْ تَأمُرُهُمْ» متصل تقديره: أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً.
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} تقديره: كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي القُرْآنِ ونظمه {إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ.
قوله: «فَلْيأتُوا» الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ كلامُهُم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيزٍ قال ابن الخطيب: والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل: إيتوا مطلقاً بل قال: إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.(18/138)
قوله: «بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» العامة على تنوين «حَدِيثٍ» وَوَصْفِهِ ب «مِثْلِهِ» . والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال «بحَدِيثِ مِثْلِهِ» بإضافة حديث إلى «المِثْل» على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ.
فصل
قالت المعتزلة: الحديث محْدَث، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً.
وأجيبوا: بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث والمنقول وهذا يصح أن يقال: هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ.
فإن قيل: الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا: «حَدِيث» وهو مُنَكَّر، و «مِثْلِهِ» مضاف إلى «القرآن» والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا؟
فالجواب: أن «مِثْلاً» و «غَيْراً» لا يتعرَّفان بالإضافة، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ، وذلك أن «غَيْراً ومِثْلاً» وأمثالهما في غاية التنكير؛ لأنك إذا قلت: «مِثْلُ زَيْدٍ» يتناول كل شيء، فإن كل شيء مثل زيد في شيء فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف.
وأما «غَيْرُ» فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف؛ فإنك إذا قلت: غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها، وأما إذا قطعتَ «غير» عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً.
قوله: «أَمْ خُلِقُوا» لا خلاف أن «أم» هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على(18/139)
أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول: «أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء» .
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره: أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون؟
قوله: {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يجوز أن تكون «من» لابْتِدَاء الغاية على معنى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات، وقيل: هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ، ولاَ لِغَايَةِ ثوابٍ ولا عقابٍ.
فصل
وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول: كيف تكذبونَهُ وفي أنفسكم دليل صدقه، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء، في التوحيدِ، والحَشْرِ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ:
فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ؟
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني.
فصل
قال المفسرون: معنى الآية: أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون {أَمْ هُمُ الخالقون} لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به. قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ. وقال الزجاج: معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون وقال ابْنُ كَيْسَانَ: أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنهَوْن كقول القائل(18/140)
فعلت كذا وكذا (وقوله) : {مِنْ غير شيء} لغير شيء {أَمْ هُمُ الخالقون} لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر.
وقيل: معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] ويحتمل أن يقال: الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى: {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 59] و {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 64] و {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 72] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] .
فإن قيل: كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟
نقول: والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء.
أو نقول: المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ؟
قوله: {أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ} قال الزمخشري: «لا يوقنون بأنهم خُلِقُوا» وهو في معنى قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم.
وقيل: بل لا يوقنون بأن الله خالقٌ واحدٌ أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوَحْدَةِ الله. وقيل المعنى لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول كَقْولِكَ: فُلانٌ لَيْسَ بمُؤْمِنٍ وفُلاَنٌ كَافِرٌ لبيان مذهبه وإن لم يَنْوِ مفعولاً. والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} . وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قَبْلُ دَليلُ الأنفس.(18/141)
قوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} قال عكرمة: يعني النبوة، وقال مقاتل: أَبِأَيْديهم مفاتيحُ ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ وقال الكلبي: خَزَائِنُ المَطَر والرِّزق. وقيل: خزائن الرحمة.
قوله: {أَمْ هُمُ المسيطرون} وهذه تَتِمَّةُ الردِّ عليهم؛ لأنه لما (قَا) ل: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد انتفاء كونهم خزنة (لا) ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخَزَنَةِ، فإن العلم بالخَزَائنِ عند الخازن والكاتب بالخِزَانَة فقال: لستم بخَزَنَةٍ ولا بِكَتَبَة الخزانة المسلطين عليها.
قال ابن الخطيب: ولا يبعد تفسير: «المُسَيْطِرِين» بكَتَبَةِ الخزائن؛ لأن التركيب يدل على السَّطْر وهو يستعمل في الكِتَابة.
قال أهل اللغة: المُسَيْطِرُ الغالب القاهر من سَيْطَرَ عليه إذا راقبه وَحَفظَهُ أو قَهَرَهُ.
قال المفسرون: المسيطرون المسلطون الجَبَّارُون. وقال عطاء: أربابٌ قاهرونَ، فلا يكونوا تحت أمرٍ أو نهي يفعلون ما شَاؤُوا. ويجوز بالسين والصاد جميعاً.
وقرأ العامة: المُصَيْطِرُون بصاد خالصة من غير إشْمَامِها زاياً لأجل الطاء كما تقدم في: «صراط» [الفاتحة: 7] .
وقرأ هشامٌ وقُنْبُلٌ من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفصٌ بخلافٍ عنه.
وقرأ خلاَّدٌ بصاد مشمَّةٍ زاياً من غير خلاف عنه. وقرأ خلادٌ بالوجهين أعني كخَلَفٍ والعامَّةِ. وتوجيه هذه القراءات واضحٌ مما تقدم في أول الفاتحة، ولم(18/142)
يأتِ على «مُفَيْعِلٍ» إلا خمسة ألفاظ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعل نحن مُهَيْمِن ومُبَيْقِر، ومُسَيْطرِ ومُبَيْطر وواحد اسم جبل - وقيل: اسم أرضٍ لبني فِزارة - وهو المُجَيْمِر قال امرؤ القيس:
4537 - كَأَنَّ ذُرَى رَأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
قوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} أي مِرْقَاةٌ ومِصْعَد إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» . وهذا أيضاً تتميم الدليل، فإن مَنْ لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال: أنتم لستم بخزنة ولا كَتَبَةٍ ولا اجتمعتم بهم، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم.
قوله: «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» صفة «لسُلَّمٍ» و «فِيهِ» على بابه من الظرفية. وقيل: هي بمعنى «عَلَى» . قاله الواحدي، كقوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] . ولا حاجة إلَيْهِ.
وقدَّره الزمخشري متعلقاً بحال محذوفة تقديرها: صَاعِدِينَ فيه. ومفعول «يَسْتَمِعُونَ» محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من عِلْم الغيب. وقدره غيره يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر، وأنَّ لِلَّهِ شركاءَ.
والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول.
قوله: «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» إن ادَّعَوْا ذلك «بسلطان مبين» أي حجة وبينة.
فإن قيل كيف قال: «فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهُمْ» ولم يقل: فَلْيَأتُوا كما قال تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] ؟(18/143)
فالجواب: أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعُه عليهم أدلَّ على بُطْلان قولهم، وقال هناك: فَلْيَأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارْتِقَاءُ في السلم بالاجتماع فمتعذِّر، لأنه يرتقي واحدٌ بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال: فَلْيَأتِ ذَلك الواحد بما سَمِعَهُ. وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان الواحد أن يفتري ويقول: سَمِعْتُ كذا فقال: لاَ بل الواجب أن يأتي بدليل يَدُلُّ عليه.
قوله: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى: {فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} [الصافات: 149] .
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} أي أثقلهم ذلك المَغْرَم الذي يسألهم، فيمنعهم ذلك عن الإسلام.
فإن قيل: ما الفائدة في سؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث قال: أَمْ تَسْأَلَهُمْ ولم يقل: أَمْ تُسْأَلُونَ أجراً كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ} {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} إلى غير ذلك؟
فالجواب: أنَّ فيه فائدتين:
إحداهما: تسلية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنهم امتنعوا عن الاستماع صَعُبَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال له ربه: أَنْتَ أتيتَ بما عليك فلا يَضيقُ صدرُك حيث لم يُؤْمنوا، فأنت غير مُلْزَم، وإنما كنت تُلاَمُ إن كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأَثْقَلْتَهُمْ فلا حَرَجَ عليك إذَنْ.
الثانية: لو قال: أَمْ تُسْأَلُونَ ففي طلب الأجر مطلقاً وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أنتَ لا تسألهم أجراً فهم لا يَتَّبِعُونَك وغيرهُم يسألهم وهم يسألون ويتَّبِعون السائلين هذا غاية الضَّلاَل.
قوله: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة: هذا جواب لقوله: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} يقول: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لبعد ذكره، أو لأن قوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك.(18/144)
قال القُتَيْبِيّ: أي يحكمون والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للرجلين اللذين تخاصما إليه: أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله.
وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - معناه: أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به.
والألف واللام في {الغيب} لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول: اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً.
قوله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي مكراً بك {فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} أي المَخْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
فصل
وجه التعلق إذا قيل بأن قوله: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} متصل بقوله تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} فالمعنى أنهم لما قالوا: نتربص به ريب المنون قيل لهم: أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم: إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم.
وإن قيل بأن المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} وجهان:
الأول: أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال: أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ.
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} [الشورى: 20] وقوله: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] وقوله: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] .
الثاني: أن المراد أم يريدون كيداً، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى(18/145)
أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراجَ كيدٌ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال: هذا فاسد، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال: أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم شيء من ذلك، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى، كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] {يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 - 16] ؛ لأنا نقول: الكيد (ما) يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به، وإن حسن ممن وجد منه كقول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] من غير مقابلة. ونكر الكيد، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون، فكأنه قال: يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ.
قوله: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا» هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة.
قوله: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} يرزقهم وينصرهم {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قال الخليل: ما في هذه السورة من ذكر «أَمْ» كلمةُ استفهام وليس بعطف.
فصل
قَالَ أَهْلُ اللُّغَة: «سُبْحَانَ اللَّهِ» اسم علم على التسبيح، و «مَا» في قوله «عَمَّا يُشْرِكُونَ» يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم، ويحتمل أن تكون خبريةً أي عن الذين يشركون. وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون: لَهُ البَنَاتُ فقال: «سُبْحَانَ اللَّهِ عن البنات والبنين» . ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مِثْل ما يعبدونه.
قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} «إنْ» هذه شرطية على بابها. وقيل: هي بمعنى «لو» . وليس بِشَيءٍ.(18/146)
وقوله: «سَحَابٌ» خبر مبتدأ مضمر أي هذا سَحَابٌ، والجملة نَصْبٌ بالقول.
فصل
لما بين فَسَاد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عُذْرٌ، فإن الآيات والحُجَج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً} أي قطعةً {مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ} أي ينكرون كونه آية.
ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم يَنْتَهُوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم: هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض.
قوله: «سَاقِطاً» يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً كقولك: رَأَيْتُ زيداً عَالِمَاً، وأن يكون حالاً كقولك: ضربته قائماً.
والثاني أولى؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكونُ بمعنى العلم، تقول: رَأَيْتُ هَذَا المَذْهَبَ صَحِيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى «رأي العين» في الأكثر، تقول: رأيت زيداً؛ قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84] وقال: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} [مريم: 26] .
والمراد من الآية رؤية العين.
فصل
قولهم: «سَحَابٌ مَرْكومٌ» إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يَرْجِعون إلى التأويل والتَّخْييل، وقالوا: سَحَابٌ ولم يقولوا: هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العِنَاد فأتوا بما لا شك فيه. وقالوا: «سحاب مركوم» وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم: قُلْنَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ شبهة أو مثلة. وإن مشى الأمر على عوامِّهم استمروا. وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذَا وَجْهَيْنِ. فإن رأى القبول صرح بمرادهِ، وإن أنكر عليه أحدهما فَسَّره بالآخَر.(18/147)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله: {فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} «يومهم» مفعول به لا ظرف. وقرأ أبو حيوة:(18/147)
يَلْقُوا مضارع لَقِيَ ويُضْعِفُ أن يكون المفعول محذوفاً و «يَوْمَهم» ظرف أي يلاقوا أو يلقوا جزاء أعمالهم في يَوْمِهِمْ.
فصل
قوله: «فذرهم» كقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] ، {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 178] إلى غير ذلك. فقيل: كلها منسوخة بآيات القتال. وهو ضعيف. وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن ينصحه: دَعْهُ فإنه سَيَنَالُ جِنَايَتَهُ.
قوله: {الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} قرأ ابنُ عامر وعاصم بضم ياء يصعقون مبنياً للمجهول. وباقي السبعة بفتحها مبنياً للفاعل. وقرأ أبو عبد الرَّحْمَنِ: بضم الياء وكسر العين.
فأما الأولى: فيحتمل أن تكون من صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعول. وهو ثلاثي حكاه الأخفش، فيكون مثل سُعِدُوا وأن يكون من أَصْعَقَ رُبَاعِيًّا، يقال: أُصْعِقَ فهو مُصْعَقٌ. قاله الفارسي. والمعنى أن غيرَهم أَصْعَقَهُمْ.
وقراءة السلمي تؤذن أن أفْعَلَ بمعنى فَعِلَ. ومعنى يصعقون أي يموتون أي حتى يعاينوا الموت.
وقوله: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ} يوم بدل من «يَوْمَهُمْ» .
وقيل: ظرف «يُلاَقُوا» .
فإن قيل: يلزم منه أن يكون اليومُ في يوم فيكون اليومُ ظرفَ الْيَوْمِ؟
فالجواب: هو على حدّ قولك: يأتي يَوْمُ قتل فلان يَوْمَ تَبين جَرائِمُهُ. قاله ابن الخطيب. وقوله {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانعٌ.
قوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} يجوز أن يكون من إتباع الظاهر موقع المضمر وأن لا يكون كما تقدم. والمعنى وإن للذين ظلموا أي كفروا {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أي عذاباً في(18/148)
الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن عباس - (رَضِيَ الله عنهما) - يعني القتل يوم بدر.
وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سَبْعَ سنين. وقال البراءُ بن عازب: عذاب القبر.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن العذاب نازل بهم.
والمراد بالظلم هنا هو كيدهم نَبِيَّهم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهم أهل مكة. وقيل: ظلموا بعبادة غير الله فيكون عاماً في كل ظالم. والإشارة بقوله: «ذَلِكَ» إلى اليوم الذي فيه يُصْعَقُونَ.
ومقعول «يعلمون» يجوز أن يكون ما تقدم، ويجوز أن يكونَ لا مفعولَ له أي أكثرهم غافِلونَ جَاهِلُون.
قوله تعالى {واصبر لِحُكْمِ} . أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمت عليهم «فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا» قراءة العامة بالفك، وأبو السَّمَّال بإدغام النون فيما بعدها. وناسب جمع الضمير هنا جمع العين ألا تراه أفرد حَيْثُ أفردها في قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] . قاله الزمخشري. والمعنى: فَإنك بِمرأًى مِنَّا.
قال ابن عباس: نَرَى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مَكْرُوهِكَ.
قال ابن الخطيب: اللام في قوله «لِحُكْمِ رَبِّكَ» تحتمل وجوهاً:
أحدها: هي بمعنى «إلى» أي اصبر إلى أن يحكم الله.
الثاني: أن الصبر فيه معنى الثبات أي تَثَبَّت لحكم ربك واحْتَمِلْهُ.
الثالث: هي اللام التي للسبب، يقال: لِم خرجت؟ فتقول: لحكم فلان عليَّ بالخروج، فقال: فَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر، أي فاصبر لهذا الحكم عليك لا لشيءٍ آخر.
قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} تقدم الكلام على نظيره وقوله: «حِينَ تَقُومُ» قال سعيد بن جبير وعطاء: أي قل حين تقوم من مجلسك: سُبْحَانك اللهم وبحمدك، فإن(18/149)
كان المجلس خيراً ازددتَ إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارةً له.
وروى أبو هريرة قال: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً وكَثُر فيه لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم: سُبْحَانَكَ اللَّهُ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا» وقال ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : معناه: صَلِّ لله حين تقوم من مقامك. وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانَك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك. وقال الكلبي: هو ذكر الله باللسان «حِينَ تَقُومُ» من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة، لِمَا رَوَى عاصمُ بنُ حُمَيْدٍ قال: «سألتُ عائشةَ بأيِّ شيءٍ كان يَفْتَتِحُ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيامَ الليل؟ فقالت: كان إذا قَامَ كَبَّر عَشْراً، وحَمِدَ الله عشراً وهَلَّلَ عَشْراً واسْتَغْفَر عَشْراً وقال: اللهم اغْفِرْ لي واهْدِنِي وارْزُقْنِي وعَافِنِي ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» وقيل: حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا كنت تَنْتَصِبُ لمُجَاهَدةِ قومك ومُعَادَاتِهِم والدعاء عليهم «فسبح بحمد ربك» وبدل قيامك بالمناداة، وانتصابك للانتقام بقيامك بذكر الله وتسبيحه.
قوله: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ} أي صَلِّ له، قال مقاتل: حتَّى صلاة المغربِ والعشاءِ «وإدْبَارَ النُّجُومِ» يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تُدْبِرُ النجوم أي تغيب بضوء الصبح.
هذا قول أكثر المفسرين. وقال الضحاك: هي فريضة صلاة الصبح.
قوله: «وإدْبَارَ النّجُومِ» العامة على كسر الهمزة مصدراً، بخلاف التي في آخر «ق» كما تقدم، فإنَّ الفتح هناك لائق لأنه يراد به الجمع لدَبْر السجود أي أعْقَابِهِ.
على أنه قرأ سالم الجَعديُّ ويعقوب، والمِنْهَالُ بن عمرو بفتحها هنا؛ أي أعقاب النجوم وآثارها إذا غَرُبَتْ.
فصل
هذه الآية نظير قوله: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقد تقدم الكلام عليها.
قال ابن الخطيب: قال ههنا: «وإدبار النجوم» وقال في «ق» وأَدْبَار السُّجُّودِ «(18/150)
فيحتمل أن يكون المعنى واحداً، والمراد من السجود جمع ساجد، والنُّجُوم سجود قال تعالى:
{والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] .
وقيل: المراد من النجوم نجوم السماء. وقيل: النجم: ما لا ساق له من النبات قال تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض ... .} [الرعد: 15] . والمراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نَجْمٌ في اللغة إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل: سبحان الله كما تقدم.
روى أبيّ بن كعب - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأَرْضَاهُ) - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» والطُّورِ «كان حَقًّا على اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - أن يُؤمِّنَهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر وَأَنْ يُدْخِلَهُ بِنِعْمَتِهِ فِي جَنَّتِهِ» .
(والله - سبحانه وتعالى -) أعْلَمُ.(18/151)
سورة النَجم(18/152)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} الآية. وهي إحدى وستون آية. وقيل: إن السورة مدنية. والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود: هي أول سورة أعلنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة. وقيل: اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) في رواية الوالبيِّ العَوْفِيِّ يعني الثُّرَيَّا إذَا سقطت وغابت. وهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ. والعرب تسمي «الثُّرَيَّا» نَجْماً قال قائلهم:
4538 - إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَا ... ابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَا
وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً: مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطّ وَفِي الأَرْضِ مِنَ العَاهَةِ شَيْءٌ إِلاَّ رُفِعَ.
وأراد بالنجم الثريا. قال شهاب الدين: وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علماً بالغلبة ومنه قول العرب:(18/152)
4539 - طَلَعَ النَّجْم غُدَيَّهْ ... فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسَيَّهْ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
4540 - أحْسَنُ النَّجْم فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا ... وَالثُّرَيَّا فِي الأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ
يقال: إنها سبعة أنجم ستةٌ منها ظاهرة وواحدٌ خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وروى القاضي عِياضٌ في «الشِّفا» أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يرى الثريا أحد عشر نجماً. وقال مجاهد: هي نجوم السماء كلها حين تغرب. لفظه واحد ومعناه الجمع. سمي الكوكب نجماً لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نَجَم السِّنُّ والقَرْن والنَّبْتُ إذا طَلَعَ. وروى عكرمة عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع. وقال أبو حمزة الثُّماليُّ: هي النجوم إِذا اسْتَتَرَتْ يوم القيامة. وقيل المراد بالنجم هنا الجِنْس.
قال الشاعر - (رحمة الله عليه -) :
4541 - فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... سِرِيع بِأَيْدِي الآكِلينَ جُمُودُهَا
أي تَعُدُّ النجوم. وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم. وقيل: المراد بالنجم الشِّعْرَى؛ لقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49] . وقيل: الزهرة؛ لأنها كانت تُعْبَدُ. وقيل: أراد بالنجم القرآن، لأنه نزل نجوماً متفرقاً في عشرين سنة. وسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً. قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس. والهويُّ النزول من أعلى إلى أسفل. وقال الأخفش: النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله - عَزَّ وجَلَ - {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] . وهُوِيُّهُ سقوطه على الأرض. وقال جعفر الصادق: يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(18/153)
إِذ نزل من السماء ليلة المعراج. والهويُّ النزول، يقال هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا. والكلام في قوله: «والنجم» كالكلام في قوله: «والطُّورِ» حيث لم يقل: وَالنُّجُوم ولا الأَطْوَار وقال: {والذاريات} [الذاريات: 1] {والمرسلات} [المرسلات: 1] كما تقدم.
فصل
السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصَّافَّات» ، و «الذَّارِيَات» و «الطُّور» وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5 و6] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ}
[الطور: 7 و8] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والنبوة.
واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي «وَالصَّافَّاتِ» ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة (وَالضُّحَى) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] {والسمآء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل:
4542 - وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الوَاحِدُ
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلاَّ بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً.
فصل
قال ابن الخطيب: والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيداً عن الأرض لا يهتدي إليه السَّارِي لأنه لا يعلم به المَشْرِق من المَغْرِب ولا الجنوب من الشّمال. فإِذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال. وخص الهويَّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] . وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهُوِيِّه على عدم صلاحيته للإِلهيَّة بأُفُولِهِ.(18/154)
فصل
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى، أما لفظاً فقوله: «وَإِدْبَارَ النُّجُومِ» وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم، وأما معنًى فلأنه تعالى لما قال لنبيه: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] بين له أنه (جزأه في أجزاء مكابدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالنجم) وبعده (عما لا يجوز له) فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} .
قوله: «إذَا هَوَى» في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إِشْكَال.
أحدها: أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره: أُقْسِمُ بالنجم وقْتَ هُويه. قاله أبو البقاء. وهو مشكِل؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و «إذا» لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ {.
الثاني: أن العامل فيه مقدر على أنه حال من (النَّجْمِ) أقْسَمَ به حال كونه مستقراً في زمان هُوِيِّهِ. وهو مشكلٌ من وجهين:
أحدهما: أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالاً كما لا يكون خبراً.
والثاني: أن (إِذَا) للمستقبل فيكف يكون حالاً؟} .
وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنَّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجماً في عشرين سنة. وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره.
وعن الثاني بأنها حال مقدرة.
الثالث: أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن. قاله أبو البقاء.
وفيه نَظَرٌ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص. وقد يقال: إِنَّ النجم بمعنى المنجَّمِ كأنه قيل والقرآن المُنَجَّم في هَذَا الوَقْتِ.
وهذا البحث وارد في مواضع منها: {والشمس وَضُحَاهَا} وما بعده [الشمس: 1 - 5] وقوله: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] {والضحى والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1 و2] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. والهوِيُّ قال الراغب: سقوطٌ(18/155)
من عُلوٍّ ثم قال: «والهَوِيُّ ذهاب في انحدار والهُوِيّ ذهاب في ارْتفاع» ، وأنشد:
4543 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَهْوِي مَخَارِمُهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ
وقيل: هَوَى في اللغة خرق الهواء، ومقصده السّفْل أو مصيره إليه وإن لم يقْصِدْه قال - (رحمةُ اللَّهِ عليه -) :
4544 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ
وقال أهل اللغة: هَوَى يَهْوِي هُويًّا أي سقط من علُوٍّ، وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى أي صَبَا. وقد تقدم الكلام في هذا مُشبعاً.
قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} هذا جواب القسم، والمعنى: ما ضل صاحبكم يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما ضل عن طريق الهدى «وَمَا غَوَى» ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضلال والغي بمعنى واحد. وفرق بعضهم بينهما قال: الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد، قال تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] وقال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] .
قال ابن الخطيب: وتحقيق القول فيه أن الضلال أعمّ استعمالاً في الوضع، تقول: ضَلَّ بَعِيرِي ورَحْلِي ولا تقول غيَّ؛ فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً، والغواية أن لا يكون له طريق إِلَى القصد مسقيم، ومما يدل على هذا قولك للمؤمن الذي ليس على طريق السداد: إنَّه سَفِيهٌ غير رشيدٍ ولا تقول: إنه ضال فالضال كالكافر والغَاوي كالفاسق كأنه تعالى قال: ما ضَلَّ أي ما كفر ولا أقلّ من ذلك فما فسق أو يقال: الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.(18/156)
قال: ويحتمل أن يكون المراد معنى قوله «مَا ضلَّ» أي ما جُنَّ فإنَّ المجنون ضالٌّ وعلى هذا فهو كقوله: {والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 و2] . ومعنى صاحبكم إما سيدكم أو وصاحبكم (مَا غَوَى) أي ما تكلم بالباطل. وقيل: ما خاب والغَيّ الخيبة.
قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي ما يصدر عن الهوى نُطْقُهُ (فعن) على بابها. وقيل: بمعنى الباء، أي ما ينطق بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إنَّ محمداً يقول القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وفي فاعل (يَنْطِقُ) وجهان:
أحدهما: هو ضمير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الظاهر.
والثاني: أنه ضمير القرآن كقوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق}
[الجاثية: 29] .
واعلم أن في قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} بصيغة الماضية وفي قوله: «وَمَا يَنْطِقُ» بصيغة المستقبل ترتيب في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تبعدون في صِغَرِهِ «وَمَا غَوَى» حين اختلى بنفسه ورأى في منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن يحث أُرْسِلَ إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة مرشداً وهادياً.
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} إن هو أي إن الذي ينطق به. وقيل: إن القرآن إلا وحي من الله. وقوله: «يُوحَى» صفة لوحي. وفائدة المجيء بهذا الوصف أنه ينفي المجاز أي هو وحي حقيقة لا بمجرد تسمية كقولك: هَذَا قَوْلٌ يُقَالُ. وقيل: تقديره يُوحَى إليه. ففيه مزيدُ فَائدةٍ.
نقل القُرْطُبِيُّ عن السِّجِسْتَانِيِّ أنه قال: إن شئت أبدلت {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} من {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} . قال ابن الأنباريّ: وهذا غلط، لأن «إنْ» الحقيقية لا تكون مبدلة من «ما» ؛ بدليل أنك لا تقول وَاللَّهِ مَا قُمْتُ إِنْ أنا لَقَاعِدٌ.(18/157)
فصل
والوحي قد يكون اسماً ومعناه الكتاب، وقد يكون مصدراً وله معان منها الإِرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارَة والإفهام، وهذه الآية تدل على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يجتهد، وهو خلافُ الظَّاهر فإِنَّه اجتهد في الحروب وأيضاً حرم في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] وأذن قال تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] . قوله «عَلَّمَهُ» يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفاً أي عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي الموحَى، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفاً أي علمه الرسولَ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإِلهام فهو كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 و194] .
وقوله: «شَدِيدُ القُوَى» قيل: هو جبريل: وهو الظاهر. وقيل: الباري تعالى لقوله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 و2] و «شَدِيدُ القُوَى» من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية. والقُوَى جمع القُوَّة.
قوله: «ذُو مِرَّة» المرة القوة والشدة. ومنه: أَمْرَرْتُ الحَبْلَ أي أحكمت فَتْلَهُ. والمَرِيرُ: الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ كأنه كرّر فَتْلَهُ مرةً بعد أُخْرَى.
وقال قطرب - (رَحِمَهُ اللَّهُ) -: «العرب تقول لكل جزل الرأي حَصِيف العَقْلِ: ذُو مِرَّةٍ» وأنشد - (رَحِمَهُ اللَّهُ) -:
4545 - وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا
وقال:
4546 - قَدْ كُنْتَ قَبْلَ لِقَائِكمْ ذُو مِرَّةٍ ... عندي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزانُهُ(18/158)
وقال الجوهري: والمِّرة أحد الطبائع الأربع. والمرة: القوة وشدة العقل أيضاً. ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال:
4547 - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ
وقال لقيط:
4548 - حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُرَّ العَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرعَا
فصل
ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس: ذو مِرّة أي ذو منظر حسن. وقال مقاتل: وقيل: ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن. وقيل: ذو كمال في العقل والدين جميعاً. وقيل: ذو منظر وهيئة عظيمة. فإن قيل: قد تبين كونه ذا قوة بقوله: «شَدِيدُ القُوَى» فكيف قال بعده: ذو مرة إذا فسرنا المرَّة بالقوة؟! .
قال ابن الخطيب: وقوله هنا: ذُو قُوة بدل من «شَدِيدُ القُوَى» وليس وصفاً له تقديره: ذو قوة عظيمة. ووجه آخر وهو أن إفراد «قُوَى» بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خَصَّه الله بها، يقال فلانٌ كثيرُ المال وله مال لا يعرفه أحدٌ أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن. ثم قال: على أنَّا نَقُول: المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان رُبَّمَا تكون قواه شديدةً وفي جسمه حقارةٌ. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «شديد القوى» قوته في العلم وبقوله: «ذو مرة» أي شدة في جسمه فقدم العِلْميَّة على الجِسْمِيَّة كقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] .
وقوله: «فَاسْتَوَى» يعني جبريل في خلقه. قال مكي: اسْتَوَى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفَرَّاءُ الضمير لاثنين.
قوله: {وَهُوَ بالأفق الأعلى} في الضمير وجهان:(18/159)
أظهرهما: أنه مبتدأ و «بِالأُفُقِ» خبره. والضمير لجبريل أو للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثم في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن هذه الجملة حال من فاعل «استوى» . قاله مكي.
والثاني: أنها مستأنفة. أخبر الله تعالى بذلك.
والثالث: أن «وَهُوَ» معطوف على الضمير المستتر في «اسْتَوَى» وضمير «اسْتَوَى» و «هُوَ» لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قال البغوي في توجيه هذا القول: أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون: اسْتَوَى هُوَ وَفُلانٌ وقَلَّ ما يقولون: اسْتَوَى وفُلاَنٌ. ونظير هذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ} [النمل: 67] عطف «الآباء» على المكنيّ في «كُنَّا» من غير إظهار «نَحْنُ» . ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليلة المعراج «بالأُفُقِ الأَعْلَى» ، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس.
وقيل: ضمير «استوى» لمحمد و «هو» لجبريل. وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد، ولا فاصل.
وهذا الوجه منقول عن الفراء والطبري.
وإذَا قِيلَ: بأن الضميرين أعني «اسْتَوَى» و «هُوَ» لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها {وهو بالأفق الأعلى} ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب، فخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في(18/160)
صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} .
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقيل: معنى: «فَاسْتَوَى» أي استوى القرآن في صدره. وعلى هذا فيه وجهان:
أحدهما: فاستوى أي فاعتدل في قوته.
الثاني: في رسالته. نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي. قال: وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شَدِيد القوى.
وقيل: اسْتَوَى أي ارتفع. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: أنه جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي ارتفع إلى مكانه.
الثاني: أنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي ارتفع بالمعراج.
وقيل: معناه استوى أي الله عَزَّ وَجَلَّ استوى على العرش. قاله الحسن.
قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} التدلي: الامتداد من علو إلى سفل، فيستعمل في القرب من العلو قاله الفراء، وابن الأعرابي.
وقال الهذلي:
4549 - تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زَرْقُ حَمَامَةٍ ... لَه طِحْلِبٌ فِي مُنْتَهَى القَيْظِ هَامِدُ
وقال الشاعر:
4550 - ... ... ... ... ... ... ... ..... تَدَلَّى عَلَيْنَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَبْطَةٍ(18/161)
ويقال: هُوَ كَالقِرِلَّى إنْ رأى خيراً تدلَّى وإن لم يَرَه تَوَلَّى.
فصل
في قوله: «دَنَا فَتَدَلَّى» وجوه:
أشهرها: أن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دنا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي بعد ما مد جَنَاحَهُ «وهو بالأفق» عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقَرُب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعلى هذا ففي «تَدَلَّى» وجوه:
الأول: فيه تقديم وتأخير أي تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
الثاني: أن الدُّنُوَّ والتَّدلِّي بمعنًى واحد فكأنه قال: دَنَا فَقَرُبَ.
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: (فَ) تدلى بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ودنا ولكنه جائزٌ إذا كان معنى الفعلين واحداً قدمتَ أيَّهُمَا شئتَ، فقلت: فَدَنَا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لأن الإساءة والشتم شيءٌ واحد وكذلك قوله:
{اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] أي انشق القمر واقْتَرَبَت الساعة.
الثالث: دنا أي قصد القرب من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وتحول عن المكان الذي كان فيه فتدلّى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
الوجه الثاني: أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دنا من الخلق والأمة وَلان لهم وصار كواحد منهم فتدلى أي تدلى إِليهم بالقول اللّين والدعاء بالرفق فقال: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ} [الكهف: 110] .
الوجه الثالث: دَنَا منه ربه فقرب منه منزلته كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حكاية عن ربه تعالى: «مَنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْراً تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ مَشَى إِلَيَّ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» وهذا إشارة إلى المنع المجازي.
قوله: «فَكان قَابَ» ها هنا مضافان محذوفان يُضْطَرُّ لتقديرهما أي فكان مقدارُ مسافةِ قربه منه مقدارَ مسافةِ قَاب.
وقد فعل أبو علي هذا في قول الشاعر:
4551 - ... ... ... ... ... ... ... .....(18/162)
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ خَزِيمَةَ إصْبَعَا
أي ذا مقدار مسافة إصبع.
والقابُ القَدْرُ؛ يقول: هذا قاب هذا أي قَدْرُهُ. ومثله القِيبُ والقَادُ والقِيدُ والقِيسُ. قال الزمخشري: وقد جاء التقدير بالقوْس والرّمح والسَّوْط والذّراع والباع والخُطْوة، والشّبر، والفَتْر، والإصبع ومنه: «لاَ صَلاةَ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِقْدَارَ رُمْحَيْنِ» وفي الحديث: «مِقْدَارُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَمَوْضِع قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، والقِدُّ السَّوْط. وألف «قاب» عن واو. نص عليه أبو البقاء. وأما قِيبٌ فلا دلالة فيه على كونها ياء لأن الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء كدِيمَةٍ وقِيمَةٍ.
وذكره الراغب أيضاً في مادة «قوب» إلا أنه قال في تفسيره: هو ما بين المِقْبض والسِّيَة من القَوس. فعلى هذا يكون مقدار نصف القوس، لأن المقبض في نصفه والسّية هي العَرضة التي يحط فيها الوَتَر. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى.
ويروى عن مجاهد أنه من الوتر إلى مقبض القوس في وسطه. وقيل: إن القوس ذراعٌ يقاس به. نُقل ذلك عن ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) وأنه لغة للحجازيين (والشَّنُوئيّينَ)(18/163)
والقوس معروفةٌ وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها فقالوا: قُوَيْسٌ من غير تأنيث كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ويجمع على قِسِيٍّ. وهو مقلوب من قُوُوس.
والقَوْسُ برج في السماء، فأما القُوسُ - بالضم - فصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ قال الشاعر:
4552 - لاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا المِسْحَيْنِ فِي القُوسِ ... قوله: «أَوْ أَدْنَى» هي كقوله: «أَوْ يَزِيدُونَ» ؛ لأن المعنى فكان يأخذ هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك.
و «أَدْنَى» أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي أو أَدْنَى مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ.
فصل
روى الشيبانيّ قال: سألت زِرًّا عن قوله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} قال: أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمداً رأى جبريل له ستمائة جَناح. فمعنى الآية: ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان منه قابَ قَوْسَيْن أو أدنى بل أدنى؛ وبهذا قال ابن عباس، والحسنُ، وقتادة. وقال آخرون: دَنَا الربُّ من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى.
قال البغوي: وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس: ودنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسي أن أدنى. وهذه رواية ابن سلمة عن ابن عباس.
وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه. وقال الضحاك: دنا محمد من ربه. فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وتقدم الكلام على القاب. والقوس ما يرمى به في قول مجاهد، وعكرمة، وعطاء عن ابن عباس فأخبر أنه كان بين جبريل وبين(18/164)
محمد - عليهما الصلاة والسلام - مقدارُ قَوْسَيْن. وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب، والأصل فيه أن الخَلِيفَتَيْن من العرب كانا إذا تعاقدا على الصفاء والعهد خرجا بقوسهما فألصقاهُ بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يُحَامِي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قَدْرَ ذراعين. وهو قول سعيدِ بنِ جبير، وشقيقِ بنِ سلمة، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء «أو أدنى» بل أقْرَبُ.
وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.
قوله: «فَاَوْحَى» أي أوحى الله وإن لم يَجْرِ له ذكر لعدم اللبس «إلى عبده» محمد. وقوله «مَا أَوْحَى» أبهمَ تعظيماً له ورفعاً من شأنه. وبهذه الآية استدل ابن مالك على أنه لا يشترط في الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب.
ومثله: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] إلا أن هذا الشرط هو المشهور عند النحويين. والوحي هو إِلقاء الشيء بسرعة ومنه: الوحاء الوحاء.
فصل
في فاعل (أوحى) الأول وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى أوحى. وعلى هذا ففي «عبده» وجهان:
أحدهما: أنه جبريل أي أوحى الله إلى جبريلَ، وعلى هذا (أيضاً) ففي فاعل أوحى «الأخير» وجهان:
أحدهما: أنه الله تعالى أيضاً. والمعنى حينئذ فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه (الله) أبهمه تفخيماً وتعظيماً للموحِي.
ثانيهما: فاعل (أوحى) الثاني جبريل أي أوحى إلى جبريل ما أوحى جبريلُ. وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى جبريل - عليه (الصلاة) والسلام - يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مبنياً وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) .(18/165)
وثانيهما: أن يكون عاماً أي أوحى الله إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول.
الوجه الثاني في (عبده) على قولنا: الموحِي هو الله: أنه محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه (للتفخيم والتعظيم.
الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول: هو أنه جبريل أوحى إلى عبده أي عبد الله يعني محمداً ما أوحى إليه) ربه عَزَّ وَجَلَّ؛ قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي والحسن والربيع وابن زيد. وعلى هذا ففي فاعل «أوحى» الثاني وجهان:
أحدهما: أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم.
وثانيهما: أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إِلى محمد ما أوحى الله إليه.
فصل
وفي الذي أوحى وجوه:
الأول: قال سعيد بن جبير أوحى الله إليه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6] إلى قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .
الثاني: أوحى إليه الصلاة.
الثالث: أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنَّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك.
الرابع: أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة.
الخامس: أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.
قوله: «مَا كَذَبَ» قرأ هشامٌ وأبو جَعْفَر بتشديد الذال والباقون بتخفيفها.
فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد بعينه صدَّقه قلبهُ ولم ينكره أي لم يقل: لم أعرفْكَ و (ما) مفعول به موصولة والعائد محذوف ففاعل (رأى) ضمير يعود على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وأما قراءة التخفيف فقيل كذلك. و «كَذَبَ» يتعدى بنفسه وقيل: هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه قاله مكي وغيره فأسقط حرف الصفة، قال حسان:(18/166)
4553 - لَوْ كُنْتِ صَادِقَة الَّذِي حَدَّثْتِنِي ... لَنَجوْتُ مَنْجَى الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
أي في الذي حدثتني.
وجوز في (ما) وجهين آخرين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الذي.
والثاني: أن تكون مصدرية ويجوز أن يكون فاعل (رأى) ضميراً يعود على الفؤاد أي لم يشك قلبه فيما رآه بعَيْنِهِ.
فصل
قال الزمخشري معناه: أن قلبه لم يكذب وما قال إن من يراه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباٌ فيما قاله فما كذب الفؤاد. هذا على قراءة التخفيف، يقال: كَذَبَهُ إِذَا قال له الكَذِبَ.
وأما قراءة التشديد فمعناه ما قال: إن المرئيَّ خيالٌ لا حقيقةٌ.
وأما الرائي فقيل: هو الفؤاد كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل: إنه هاجس شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح. وقيل: الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر خيال. وقيل: ما كذب الفؤاد وما رأى محمد - عليه الصلاةُ والسلامُ - وعلى هذا فالمراد بالفؤاد الجنس؛ أي القلوب شهدت بصحة ما رآه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وأمَّا المرئي فقيل: هو الرب تعالى. وقيل: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: الآيات العجيبةُ الإلهيَّة. فالقائل بأن المرئي جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - هو ابنُ مسعودٍ وعائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومن قال بأن المرئيَّ هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده. وهو قول ابن عباس، قال: رآه بفؤاده مرتين {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} [النجم: 13] . وقال أنس والحسن وعكرمة: رأى محمدٌ ربَّه بعينيه. وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: «إنَّ اللَّهَ(18/167)
اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . وكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - تقول: لم ير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه. وتحمل الرؤية على رؤية جبريل. وقال مسروق: قلت لعائشة: يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأتْ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. وروى أبو ذر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هل رأيت ربك قط؟ قال: نُورٌ أنَّى أَرَاهُ» .
قوله: «أَفَتُمَارُونه» قرأ الأخوان أَفَتَمْرُونَهُ بفتح التاء وسكون الميم، والباقون تُمَارُونَهُ. وعبد الله الشعبي أَفَتُمْرون بضم التاء وسكون الميم. فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: أنها من مَرَيْتُهُ حَقَّه إذا علمته وجَحَدتَهُ إياه، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة. وأنشد:
4554 - لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أَخاً مَا كَانَ يَمْرِيكَا
لأنه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه.
وقال المبردُ يقال: مَرَاهُ عَنْ حَقِّه وعَلَى حَقِّه إذا مَنَعَهُ منه، قال: ومثلُ «على» بمعنى «عن» قول بني كعب بن ربيعة: «رَضِيَ اللَّه عَليكَ» ؛ أي: عَنْكَ.
والثاني: أنها من مَرَأَهُ على كذا أي غلبه عليه، فهو من المِرَاءِ وهو الجِدَالُ.
وأما الثانية: فهي من مَارَاه يُمَارِيه مراءً أي جَادَلَهُ.
واشتقاقه من مَرْي الناقة لأن كل واحد من المُتَجادِلَيْنِ يَمْرِي ما عند صاحبه. وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك: جَادَلْتهُ فِي كذا. وإنّما ضُمِّن معنى الغلبة. وأما قراءة عبد الله فمن أَمْراهُ رباعيًّا.(18/168)
فصل
المعنى أفتجادلونه أي كيف تجادلونه على ما يرى، وذلك أنهم جادلوه حين أُسْرِيَ به فقالوا: صِفْ لنا بيتَ المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه والمعنى أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وتيقَّنه.
فإن قيل: هلا قيل: أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به كما تقدم وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع؟ فالجواب: أن التقدير أفتُمَارُونَه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه؟ .(18/169)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} في نصب نزلة ثلاثة أوجه:
أحدها أنها منصوبة على الظرف؛ قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً» ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها. قال شهاب الدين: وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء نقله عنه مكي.
الثاني: أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال، قال مكي: أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى. وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ.
الثالث: أنه منصوب على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى.
قال شهاب الدين: وفي تأويل نزلة «برؤية» نظر، و «أخرى» تدل على سبق رؤية(18/169)
قبلها و «عِنْدَ سِدْرَةِ» ظرف ل «رَآهُ» و «عِنْدَهَا جَنَّةُ» جملة ابتدائية في موضع الحال، والأحسن أن يكون الحال الظرف و «جنة المأوى» فاعل به. والعامة على (جَنَّة) اسم مرفوع. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب (جَنَّةُ) فعلاً ماضياً. والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى. وقيل: المعنى ضمَّه المبيت والليل، وقيل: جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه. قال ابن الخطيب: والضمير في قوله (عندها) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى.
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة. وقد ردت عائشة - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها. وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} [الأنعام: 76] .
وقال أبو البقاء: وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ.
فصل
والواو في (وَلَقَدْ) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف(18/170)
تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه؟
واعلم أن قوله: (نَزْلَةً) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ. واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه:
الأول: أن الضمير في (رآه) عائد إلى الله تعالى، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى. وهذا قول من قال في قوله {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11] هو الله تعالى. وقد قيل: بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه بقلبه مرتين. وعلى هذا ففي النزول وجهان:
أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة.
وثانيهما: أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ.
الثاني: أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى الله نزله أخرى، والمراد من النزلة ضدها، وهي العَرْجة كأنه قال: رآه عَرْجَةً أخرى قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ.
القول الثاني: أن الضمير في (رآه) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق (عليها) نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} قال ابن الخطيب: ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما تقدم في العَرْجَانِ.
فصل
وقوله {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة. وقيل: في السماء السادسة، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال: «نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ» .
وقيل: سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة. والسدرة كالركبة من الراكب. يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها، وما حار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى.(18/171)
وهل قوله: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع؟
قال ابن الخطيب: المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى. وقيل: ظرف زمان كما يقال: صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء. فهو عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل: هذا التأويل يبطل بقوله: {يغشى السدرة ما يغشى} فالجواب: أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول
فصل
إذا قِيلَ بأنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى. والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل: رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال (له) أينَ رأيتَهُ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية. وأما قول من قال: بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل. وإن قيل: بأن المرئي جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فظاهرٌ.
فصل
إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً:
أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ قال هلال بْنُ يَسَار: سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله.
وقيل: ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. وقال كعب: ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ. وقال الربيع: ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقال قتادة: ينتهي إليها أرواح المؤمنين.(18/172)
ثانيها: إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك: كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها: إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك: دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} [النجم: 42] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح: يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ.
فصل
وجنة المأوى قيل: هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله: {دَارَ المقامة} [فاطر: 35] . وقيل: هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل: هي جنة الملائكة.
قوله: (إذْ يَغْشَى) منصوب ب (رَآهُ) وقوله: «مَا يَغْشَى» كقوله: {مَآ أوحى} [النجم: 10] . وقال ابن الخطيب العامل في (إذْ) ما قبلها أو ما بعدها؟ فيه وجهان:
فإنْ قلنا: ما قبلها ففيه احتمالان:
أظهرهما: «رآه» أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني: العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا: العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه {مَا زَاغَ البصر} أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا.
فصل
اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل: فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك. قال القرطبي: وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح» ؛ وذلك قوله تعالى: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} . قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل: ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.(18/173)
وقيل: يغشاها أنوار الله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل: أبهمه تعظيماً له. والْغشَيَانُ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي، ويكون بمعنى الإتيان، يقال: فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.
فصل
قال المارودي في معاني القرآن: قيل: لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قال: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره.
وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال: هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار.
قوله: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} اللام في البصر يحتمل وجهين:
أحدهما: المعروف أي ما زاغ بصرُ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعلى هذا فقدم الزيغ لوجوه إن قيل: بأن الغَاشِيَ للسدرة هو الجرادُ والفَرَاشُ فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غَشَيَانُ الجراد والفراش ابتلاءً وامتحاناً لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنْ قِيلَ إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان:
أحدهما: معناه لم يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً بل اشتغل بمطالعتها.
والثاني: ما زاغ البصر بصَعْقَة، بخلاف موسى - «عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأول بيان أدبِ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي الثاني بيان قُوَّتِهِ.
الوجه الثاني: لتعريف الجنس أي ما زاغ بَصَرُهُ أصلاً في ذلك الوضع لِعظمِ هَيْبَتِهِ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصرٌ، فإنه أدل على العموم، لأن النكرة في مَعْرِضِ النفي تَعُمُّ.(18/174)
فالجواب: هو كقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] ولم يقل: ولم يدرك له بَصَر.
قوله: (وَمَا طَغَى) فيه وجهان:
الأول: أنه عطفُ جملةٍ مستقلة على جملةٍ أخرى.
والثاني: أنه عطف جملة مقدرة على جملة. فمثال المستقلة: خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ عَمْرو. ومثال المقدرة خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ. والوجهان جائزانِ هنا.
أما الأول: فكأنه تعالى قال عند ظهور النور: مَا زَاغَ بصرُ محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما طغى مُحَمَّد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً.
وأما الثاني: فظاهر. فإن قيل: بأن الغاشي للسِّدْرة جرادٌ فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى أي لم يلتفت إلى غير الله ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد بل إلى اللَّه تَعَالَى.
وإن قيل: غَشِيَها نُورٌ فقوله: «ما زاغ» أي ما مال عن الأنوار «وما طغى» أي ما طلب شيئاً وراءه. وفيه لطيفة وهي أن تكون ذَانِك بياناً لوصول محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه وذلك أن بصر محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما زاغ أي ما مال عن الطريق فلم يَرَ الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيءٍ أبيضَ فإنه يراه أصفَر أو أخْضَرَ يزيغ بصره عن جَادَّة الإبصار، وقوله: «وَمَا طَغَى» أي ما تخيل المعدوم موجوداً.
وقيل: «وما طغى» أي ما جاوز ما أُمِرَ بِهِ.
قوله: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} في «الكبرى» وجهان:
أظهرهما: أنها مفعول (رأى) و (من آياتِ ربه) حال مقدرة، والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه.
والثاني: أن {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} هو مفعول الرؤية و «الكُبْرَى» صفة «لآيات ربه» . وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة، وحسَّنَهُ هنا كونها فاصلة. وقد تقدم مثله في «طه» عند قوله {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} [طه: 23] .(18/175)
قال ابن الخطيب: في «الكُبْرَى» وجهان:
أحدهما: أنها صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآيَة الكُبْرَى.
ثانيهما: صفة لآيات ربه فيكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من آيات ربّه الكبرى آيةً أو شيئاً.
فصل
قال بعض المفسرين: آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في صورته. قال ابن الخطيب: والظاهر أن هذه الآيات غير تِيكَ، لأن جبريلَ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسلامُ - وإن كان عظيماً، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكةً أعظمَ منه. و «الكُبْرَى» تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال: رأى من آيات ربِّه آياتٍ هي أكبر الآيَاتِ.
فصل
قال المفسرون: رأى رَفْرَفاً أخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السماء. قال البيهقيُّ: الرفرف جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في صورته على رفرف، والرَّفْرَفُ البسَاط. وقيل: ثوبٌ كان يَلْبَسُهُ. وقال القرطبي: وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: {دَنَا فتدلى} [النجم: 8] أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه قال: فَارَقَنِي جبريلُ وانْقَطَعت عَنّي الأَصْوَاتُ وسَمِعْتُ كَلاَمَ رَبِّي. فعلى هذا الرفرف ما يجلس عليه كالبسَاط ونَحْوِهِ.
فصل
قال ابن الخطيب (هذه الآية) تدل على أن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات الله. وفيه خلاف. ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] إلى أن قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظمَ ما يمكن فكان أكبر شيء هو الرؤية، فكان الأمر للرؤية.(18/176)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى} لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك، فقوله: «أَفَرَاَيْتُمْ» إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما إذا ادعى ضعيفٌ الملكَ ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون: انْظُرُوا إلى هذا الذي يدعي المُلْكَ منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره فكذلك قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى} أي كما هما فكيف تشركونهما بالله؟
فصل
والألف واللام في (اللات) زائدة لازمة، فأما قوله:
4555 - ... ... ... ... ... ... ... ..... إلَى لاَتِهَا ... ... ... ... ... ... ...
فحذفت للإضافة.
وقيل: هي والعزى علمان بالوَضْع، أو صفتان غَالِبَتَانِ؟ خلاف. ويترتب على ذلك جواز صدق «أَل» وعدمه.
فإن قلنا: إنهما ليسا وصفين في الأصل فلا تحذف منهما «أل» . وإن قلنا: إنهما صفتان وإنّ «أَلْ» لِلَمْحِ الصفة جاز، وبالتقديرين «فأل» زائدة. وقال أبو البقاء: وقيل: هما صفتان غالبتان مثل الْحَارِث والْعَبَّاس فلا تكون أل زائدة. انتهى.
قال شهاب الدين: وهو غلط، لأن التي للمح الصفة منصوص على زيادتها بمعنى أنها لم تُؤْثِر تَعْريفاً. واختلف في تاء اللات، فقيل: أصل وأصله من لاَتَ يَلِيتُ فألفها عن ياء، فإن مادة «ل ي ت» موجودة. وقيل: زائدة وهي من لَوَى يَلْوِي، لأنهم(18/177)
كانوا يلوون أعْنَاقَهُمْ إليها، أو يلتوون أي يَعْتَكِفُونَ عليها. وأصلها لَوْيَةٌ فحذفت لامها، فألفها على هذا (بدلٌ) من واو.
قال الزمخشري: هي فَعْلَة من لَوَى يَلْوِي، وعلى هذا فأصلها لوية فسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين، بقيت لَوْة فقلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت «لاَت» . واخْتَلَف القُرَّاءُ في الوقف على تائها فوقف الكسائي عليها بالهاء. والباقون بالتاء. وهو مبني على القولين المتقدمين.
فمن اعتقد تاءها أصلية أَقرها في الوقت كتَاء بِنْتٍ، ومن اعتقد زيادتها وقف عليها هاءً.
قال ابن الخطيب: والتاء في اللات تاء تأنيث كما في المَنَاة لكنها تكتب ممطوطةً لئلا يوقف عليها فتصير هاءً فتشبه باسم (الله) فإن الهاء في (الله) أصلية ليست تاءَ تأنيث ووقف عليها فانقلبت هاءً.
واللاَّتُ اسمُ صنم. وقيل: كان لثقيف بالطائف. قاله قتادة. وقيل: بعُكَاظ. وقال زيد: بيت بنخلة. وقيل: صنم. ورجح ابن عطية الأول لقول الشاعر:
4556 - وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إلى لاَتِهَا ... بمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
والعامة على تخفيف تائها.
وقرأ ابن عباس، ومجاهدٌ، ومنصورُ بن المُعْتَمِر، وأبو الجَوْزَاء، وأبو صالح وابنُ كثير - في رواية - بتشديد التاء.
فقيل: هو رجل كان يَلِتُّ السَّوِيقَ، ويُطْعِمهُ الْحَاجَّ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل وكان يجلس عند حجر، فلما(18/178)
مات سمي الحجر باسمه وعُبِدَ من دون الله.
وقال مجاهد: كان في رأس جبل له غنيمة يَسْلأُ منها السَّمْنَ ويأخذ منها الأَقطَ ويجمع رسلها ويتخذ منه حيساً فيطعم الحاج وكان ببطن النخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي: كان رجلاً من ثقيف يقال له: صَرْمَة بن غَنْم وكان يَسْلأُ السَّمن فيضعه على صخْرة، ثم تأتيه العرب فتلتُّ به أَسْوِقَتَهُمْ، فلما مات الرجل حَوَّلَتْهَا ثَقيفٌ إلى منازلها فعبدتها. وقال القرطبي: كانت صخرة مربَّعة وكان سَدَنَتُها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناءً، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها وبها كانت العربُ تسمّي زيدَ اللاتِ وتَيْمَ اللات، وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيفٌ. فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيًّا فَهَدَمَهَا وحَرَقَها بالنار، ثم اتخذ العرب العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالمُ بن سَعِيد.
والعزى: فعلى من العز وهي تأنيث الأعَزّ كالفُضْلَى والأَفْضَل. وهي اسم صنم. وقيل: شجرة كانت تُعبد.
قال مجاهد: هي شجرة كانت بغَطَفَان كانوا يعبدونها، فبعث النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالدَ بن الوليد فقطعها فجعل خالدٌ يضربُها بالفَأس ويقول:
4557 - يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك ... إنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكَ
فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس، ناشرةً شعرها، تضرب رأسَها وتدعو بالوَيْل والثُّبُور فقتلها خالد.
وروي أَنَّ خالداً لما قطع الشجرة رجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: قد قَطَعْتُها، فقال: ما رأيت؟ قال: ما رأيت شيئاً. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما بلغت. فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثَّ أصلها فخرجت منها امرأة عُرْيَانة فقتلَها، ثم رَجَعَ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: تلك العُزَّى، ولن تُعْبَدَ أبداً.
وقال الضحاك: هو صنم لغَطَفَان وضعها لهم سعدُ بن ظالم الغَطَفَانِيّ. وذلك أنه قَدِمَ مكة فرأى الصَّفَا والمَرْوَة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فعاد إلى بطن نخلة وقال(18/179)
لقومه: إن لأهلِ مكة الصَّفَا والمَرْوَةَ وليستَا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم ذلك، فأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصَّفا فقالَ: هذا الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة فقال: هذا المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة وقال: هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحَجَريْن ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى فقَطَعَها. وقال قتادة وابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وقال ابن جبير العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه.
قوله: (وَمَنَاةَ) قرأ ابن كثير: مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف، والباقون بألف وحدها، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله.
فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ «مَفْعَلَة» فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك:
4558 - أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ ... عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ
وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير، وقال: لم أسمع الْهَمْز.
قال شهاب الدين: قد سمعه غيرهُ، والبيت حجَّةٌ عليه. وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها، وأنشدوا لجرير:
4559 - أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ
وقال أبو البقاء: وألفه عن ياء كقولك: مَنَى يَمْنِي إذا قدر، ويجوز أن تكون من الواو، ومنه مَنَوَانِ فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ.(18/180)
فصل
قال قتادة: مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد. وقالت عائشة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ. وقال ابن زيد: بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب. وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة. وقيل: اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
قوله: (الأُخْرَى) صفة لمَنَاةَ. قال أبو البقاء: و «الأُخْرَى» توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى.
وقال الزمخشري: والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار، كقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 38] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى. انتهى.
وفيه نظر، لأن «الأخرى» إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ.
وقيل: الأخرى صفة للعُزَّى؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى. وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ: فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى، ومناة الثالثة. ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن الأصل عَدَمُهُ.
فصل
قال ابن الخطيب: فإنْ قِيلَ: إنما يقال: أَخَّرُوا «أُخْرى» إذا (تقدم) أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً!
فالجواب: قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة. واللات على صورة آدمّي. والعُزَّى شجرة وهي نبات. وقيل: صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما. أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى. أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير. ومعنى الآية هل(18/181)
رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ. والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد.
فصل
«أرأيت» بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه، والثاني: الجملة الاستفهامية من قوله: «ألَكُمُ الذَّكَرُ» .
فإن قيل: لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول.
فالجواب: أن قوله «وَلَهُ الأُنْثَى» في قوة: له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ.
وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً، فإنَّه قال: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ. انتهى.
فعلى هذا يكون قوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب.
وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال: وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة، ولو كانت «أرأيت» التي هي استفتاء لم يتعد. وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها.
فإن قيل: ما فائدة الفاء في قوله: «أَفَرَأَيْتُمْ» وقد وردت في مواضعَ بغير فاء، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الزمر: 38] (و) {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} [فاطر: 40] .
فالجواب: لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال: أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء(18/182)
أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه.
قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} قال الكلبي: كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله.
قال ابن الخطيب: معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة؟
قوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} ، «تلك» إشارة إلى محذوف تقديره تلكَ القِسْمَةُ قسمةٌ غير عادلةٍ. ويحتمل أن يقال: تلك النسبة؛ أي التي نسبوها إلى الله بأَنَّ له البناتِ. وقوله (إذَنْ) جواب نسبتهم البنات إلى الله.
وقوله: «ضيزَى» قرأ ابن كثير ضِئْزَى بهمزة ساكنة والباقون بياء ساكنة. وزيد بن عليّ ضَيْزَى بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فيحتمل أن تكون من ضَازَهُ يَضِيزُهُ إذا ضَامَهُ وجار عليه فمعنى ضِيزَى أي جائرة. وقال مجاهد ومقاتل: قِسْمَةٌ عَوْجَاءُ.
وقال الحسن: غير معتدلة، قال الشاعر:
4560 - ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ ... إذْ يَجْعَلُونَ الرَّأسَ كَالذَّنَبِ
وعلى هذا فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون صفة على «فُعْلَى» - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصحَّ الياء «كَبِيضٍ» .
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضمّ الفاء؟ ولم لا قيل: إنَّها فِعْلَى بالكسر؟ .(18/183)
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعْلَى - بكسر الفاء - إنما ورد بضَمِّها، نحو: حُبْلَى وأُنْثَى ورُبَّى وما أشبهه إلا أنه قد حكى غيره في الصِّفات ذلك؛ حكى ثعلب: مِشْيَةٌ حِيكَى. وَرُجلٌ كِيصَى، وحكى غيره: امرأةٌ عِزْهَى، وامرأة سِعْلَى. وهذا لا ينقض، لأن سيبويه يقول في حِيكَى وكِيصَى كقوله في ضِيزَى: لتصحَّ الياء.
وأما عِزْهَى وسِعْلَى فالمشهور فهيما عِزْهَاةٌ وسِعْلاَةٌ. وقال البغوي: ليس في كلام العرب فِعْلَى بكسر الفاء في النعوت إنما يكون في الإسماء مثل ذِكْرَى، وشِعْرَى.
والوجه الثاني: أن تكون مصدراً كَذِكْرَى.
قال الكسائي: يقال ضَازَ يَضِيزُ كَذكَرَ يَذْكُرُ، ويحتمل أن يكون من ضَأَزَهُ بالهمز - كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدالُ مثل هذه الهمزة ياء لكنها لغة التزمت فقرأوا بها.
ومعنى ضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ نَقَصَهُ ظلماً وجوراً.
وممن جوز أن تكون الياء بدلاً من همزة أبو عُبَيْدٍ وأن يكون أصلها ضُوزَى بالواو، لأنه سمع ضَازَه يَضُوزهُ ضُوزَى وَضَازهُ يَضِيزُهُ ضِيزَى وَضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ ضَأزاً، حكى ذلك كله الكسائي. وحكى أبو عبيد: ضِزْتُهُ وضُزْتُهُ بكسر الفاء وضمها فكسرت(18/184)
الضاد من ضُوزَى، لأن الضمة ثقيلةٌ مع الواو. وفعلوا ذلك ليَتَوصَّلوا به إلى قلبِ الواو ياءً وأنشد الأخضر على لغة الهمزة:
4561 - فَإنْ تَنْأَ عَنْهَا تَنْتَقِصْكَ وإنْ تَغِبْ ... فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وضيزَى في قراءة ابن كثير مصدر وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لما تقدم عن سيبويه. فإن قيلَ: لِمَ لا قيلَ في ضيزى بالكسر والهمز إنّ أصله ضُيْزى بالضم فكسرت الفاء كما قيل فيها مع ألفها؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنةِ.
وسمع منهم: ضُؤْزَى بضمِّ الضاد مع الواو والْهَمْزِ.
وأمَّا قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدراً وُصِفَ بِهِ كَدعوى وأن تكون صفة كسَكْرَى وعَطْشَى وغَضْبَى.
قوله: (إنْ هِيَ) في (هي) وجهان:
أحدهما: أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها، وأشد منافاة لها. وهذا على سبيل المبالغة والتجوز، كما يقال لتحقير إنسان: ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} [يوسف: 40] .
الثاني: أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به.
قال أبو البقاء: «أَسْمَاءٌ» يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، لقوله: «سَمَّيْتُمُوهَا» ؛ لأن الاسم لا يسمى.(18/185)
فإن قيل: كيف قال: سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا؟
فالجواب: أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ.
فإن قيل: الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال: أسماء سميتموها؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال: أسماء وضعتموها، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا.
الثاني: لو قال: أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها؛ لأن قول القائل: سميت به يستدعي دخُولاً آخر، تقول: سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً.
فإن قيل: هذا باطل بقوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] حيث لم يقل: وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام.
فالجواب: بَيْنَهما بونٌ عظيم؛ لأن هناك قال: سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله: سميتها واسمها بقوله: مريم، وأما ههنا فقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ} موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم.
قوله: {مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي حجة بما يقولون: إنها آلهة. واستعملت الباء في قوله (بِهَا) كقولك: ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. كذلك ههنا قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال: إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم: إنها آلهة.
قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه: إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم.
ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وفيه وجهان:
الأول: أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال: سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا: هذه الأسماء لم نضعها نحن، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال: وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ.(18/186)
فإن قيل: كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.
فالجواب: وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان (بعد) زمان الكلام كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] .
الثاني: أن يكون المراد عامة الكفار.
وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب: بالخطاب. وهو حسن موافقٌ.
فإن قيل: كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حكاية عن الله تعالى أنه قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي؟»
فالجواب: أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم. وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا، وكذلك عَلِمت.
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه ماءٌ أم لا؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ. يخفى الأمر فيه فنقول: يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين، وأما الاعتقاد فليس كذلك، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً. والله أعلم.
قوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} نسق على (الظّن) و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي. والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} يجوز أن يكون حالاً من فاعل (يَتَّبِعُونَ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم. ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله: «أمْ للإِنْسَانِ» متصل بقوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} ، وهي أم المنقطعة، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح.
قال الزمخشري: ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان ما تمنى.(18/187)
فصل
المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار.
{أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام. ويحتمل أن يكون معناه: هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ.
قوله {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} أي ليس كما ظن وتمنى بل لله الآخرة والأولى لا يملك فيها أحدٌ شَيْئاً إلاَّ بإذنه.(18/188)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
قوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ} «كم» هنا خبرية تفيد التكثير، ومحلها الرفع على الابتداء. و {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} هو الخبر. والعامة على إفراد الشفاعة. وجُمعَ الضمير اعتباراً بمعنى «ملك» وبمعنى «كم» . وزيد بن عليّ شَفَاعَتُهُ بإفرادها اعتبر لفظ «كم وملك» . وابن مِقْسِم شَفَاعَاتُهُم بجمعِهَا. و «شَيْئاً» مصدر أي شيئاً من الإغْنَاء.
فصل
المعنى وكم من ملك في السموات ممن يعبدهُمْ هؤلاء الكفار ويرجون شفاعَتَهم عند الله لا تغني شفاعَتُهُمْ شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله في الشفاعة {لِمَن يَشَآءُ ويرضى} أي من أهل التوحيد.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وجمع الكناية في قوله: «شفاعتهم» والملك واحد؛ لأن المراد من قوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ} الكثرة، فهو كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] .
قوله تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى} اعلم أن المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالرسل، لأن كل من آمن بالرسل(18/188)
اعترف بالحشر، وذلك أنهم كانوا يقولون: الملائكة وجدوا من الله فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصحَّ عندهم أن يقال: سَجَدَت الملائكة، فقالوا: بنات الله فسمَّوهُمْ تسميةَ الإناث.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤُنَا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر مَنْ يموت، ويعتقدون أنه يحشر عليه؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم ما كانوا يجزمون به، بل كانوا يقولون: إنه لا حشر، فإن كان فلنا شفعاءُ بدليلِ ما حكى الله عنهم {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] .
الثاني: أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي ورد به الرسل.
فصل
وأما مناسبة هذه الآية لما قبلها فهي أنهم لما قيل لهم: إنَّ الصَّنَمَ جمادٌ لا يشفع، وبين لهم أن أعظمَ أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا: نَحْنُ لا نَعْبُدُ الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ونضعها بين أيدينا لنذكر بالشاهد الغائب فنعظم الملك المقرب فرد الله عليهم بهذه الآية أي كيف تعظموهم وأنتم تسموهم تسمية الإناث؟
فإن قيل: كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل: تسمية الإناث؟
فالجواب: أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآية. أو يقال: إنه لو قال الإناث لأوهم أعلام إناث، كعائشةَ وفاطمةَ. والمراد إنما هو البنات. وقد تقدمت شبهتهم.
قوله: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} قال الزمخشري: الضمير في (به) يعود إلى ما كانوا يقولون.
وقيل يعود إلى ما تقدم من عدم قَبُول الشفاعة.
وقيل: يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيُشْرِكُونَ. وقال مكي: الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنًى. وقرأ أبيّ: بِهَا أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة مِنْ علمٍ.(18/189)
وقيل: بالملائكة. وقيل: بالتسمية. وهذا يقوِّي قول مَكِّيٍّ. فإن قلنا: ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا: إنهم وإن كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عَنْ عِلْمٍ.
وإنْ قُلْنا بالتسمية ففيه إشكال، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنَّهم «لَيْسُوا في شكٍّ» .
والجواب: أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالماً بأنه وضع، وقد يكون استعمالاً معنوياً يتطرق إليه الصدق والكذب والعِلْم. فمثال الصدق مَنْ وَضَعَ أولاً اسم السماء لموضوعها وقال: هذا سماءٌ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحَجَر: هذا سماء، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جَاهِل وكذلك قولهم في الملائكة: إنَّهم بنات الله لم تكن تسميةً وضعيةً، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم، وذلك كذب ومعتَقده جاهلٌ، فالمراد التسمية التي هي عن وصفٍ حقيقي لا التسمية الوضْعيَّة؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد. قاله ابن الخطيب.
وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} تقدم الكلام عليه.
وقوله: {إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} قيل: الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مَقَام العلم. وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إنّ ظنهم لا يُنْقِذُهُمْ من الْعَذَابِ.
قال ابن الخطيب: المراد منه أن الظن لا يُغْني في الاعتقادات شيئاً وأما الأفعال العُرْفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين. ويحتمل أن يقال: المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئاً من الله أي أن الأوصافَ الإلهيَّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق} [لقمان: 30] .
فإن قيل: أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً؟
فالجواب: أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يُمَيّز الحقَّ من الباطل؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مُطَابَقَتِهِ، والظَّانّ لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مَواضِعَ.
فصل
اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع:
أحدها: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [النجم: 23] .(18/190)
وثانيها: هذه الآية.
ثالثها: في الحجرات وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون}
[الحجرات: 11] إلى قوله: {اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} [الحجرات: 12] فالأول: كان المنع عقيب التسمية، والثاني: عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل. فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذمومٌ أحدها: مدح ما لا يستحق المدح كاللاَّتِ والعُزَّى من العزة، وثانيها: ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عِبَاد الرَّحْمَن يُسَمُّونَهُمْ تسمية الأنثى، وثالثها: ذمّ من لم يعلم حاله، وأما مدح من يُعْلَمُ حاله فلم يقَلْ فيه: لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب.
قوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} يعني القرآن. وقيل: الإيمان؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلَّغت وأتيت بما عليك.
قال ابن الخطيب: وأكثر المفسرين يقولون: كل ما في القرآن من قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ} منسوخ بآية القتال، وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أُمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم، وقيل له: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثم لَمّا لم ينفع قال له ربه: أعْرِضْ عنْهُمْ ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المُقَاتَلَةِ فكيف يكون منسوخاً بها؟
قوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] وقوله: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا} [التوبة: 38] وذلك أنه إذا تَرَكَ النظر في آلاء الله لا يعرفُهُ فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة.
واعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان كالطبيب للقلوب، فأتى على ترتيب الأَطِبَّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحُهُ بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي، ثم إذا عجز عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحَدِيد والكَيّ كما قيل: «آخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ» ، فالنبي -(18/191)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أولاً أمر القلوب بذكر الله حَسْب، فإن بذكْرِ الله تطمئن القلوب، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أولاً: «قُولُوا لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ» أمر بالذكر، فانتفع مثلُ أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليلَ وقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} [الأعراف: 184] {قُلِ انظروا} [يونس: 101] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ} [الغاشية: 17] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال: أعْرِضْ عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصَّالح.
قوله: «ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ» قال الزمخشري: هو اعتراض (أي فأعرض عنه ولا تُعَامِلْهُ إنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ.
قال أبو حيَّان: كأنه يقول: هو اعتراض) بين «فَأَعْرِضْ» وبين: «إِنَّ رَبَّكَ» ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض.
قال شهاب الدين: كيف يقول: كأنه يقول: هو اعتراض وما معنى الشبيه وهو قد نصَّ عليه وصرح به فقال: أي فأعرض عنه ولا تعامله إنَّ رَبَّكَ. وقوله «وَلاَ يَظْهَرْ» ما أدري عدم الظهر مع ظهور أن هذا علة لذاك أي قوله: «إنَّ رَبَّكَ» علة لقوله «فَأَعْرِضْ» والاعتراض بين العلَّة والمعلول ظاهر وإذا كانوا يقولون: هذا معترض فيما يجيء في أثناء قصَّة فكيف بما بين علة ومعلول؟
فصل
«ذَلِكَ» إشارة إلى نهاية عِلْمهم وقدر عقولهم إن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: إشارة إلى الظن أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكةَ بناتُ الله وأنها تشفع لهم، واعتمدوا على ذلك وأعرضُوا عن القرآن. وقيل: إشارة إلى الإعراض أي فأعرضْ عمَّن تولى؛ وذلك لأن الإعراض غاية ما بلغوه من العلم وعلى هذا يكون المراد من العِلْم المَعْلُوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم المعلوم هو ما في القرآن.
فإن قيل: إنَّ الله تعالى بين أن غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله؟
فالجواب: أنه ذكر قبل ذلك أنهم تَوَلَّوْا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم(18/192)
العلم وإنما قدر الله توليهم ليُضَاف الجَهْلُ إلى ذلك فيتحقق العِقَابُ.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} جوز مَكِّيٌّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحدٍ بهذين الوصفين وبغيرهما، وأن يكون بمعنى عالِمٍ، وتقدم ذلك مراراً.
فصل
المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم. ووجه المناسبة أن الله تعالى لَمَّا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعرض وكان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خَاطِرِه أن في ذكراهم منفعة، وربما يؤمن من الكفار قومٌ آخرون من غير قتال، فقال له: «ربك أعلم بمن ضل عن سبيله» أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وَقْع السيف والقتال فأعرض عن الجدال، وأقبل على القتال. وعلى هذا فقوله: «بِمَنِ اهْتَدَى» أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر، ولا بأسَ في الإعراض.
فإن قيل: قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله.
فالجواب: أنَّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كافٍ في الضَّلال، لأن الضّلال لا يكون إلاَّ في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلالَ، أو لأن من ضلَّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو لم يَسْلُكْهُ وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه.(18/193)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} .
واللام في قوله: «لِيَجْزِي» فيها أوجه:
أحدها: أن يتعلق بقوله: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} [النجم: 26] ذكره مكّي. وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى.(18/193)
الثاني: أن يتعلق بما دل عليه قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات} أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ.
الثالث: أن يتعلق بقوله: «بِمَنْ ضَلَّ، وَبِمَن اهْتَدَى» واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا. قال معناه الزمخشري.
الرابع: أن يتعلق بما دل عليه قوله: {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} [النجم: 30] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ. قاله أبو البقاء.
وقرأ زيد بن علي: لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة. وقوله: «الَّذِينَ أحْسَنُوا» وحَّدُوا ربهم «بالْحُسْنَى» بالْجَنَّة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} .
قوله: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ» يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً «لِلَّذِينَ [ (أحْسَنُوا) .
فإن قيل: إذا كان بدلاً عن» الَّذِينَ] أحْسَنُوا «فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال» الَّذِين أحْسَنُوا «وقال:» الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ «ولم يقل: اجْتَنَبُوا؟
فالجواب: هو كقول القائل: الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة. ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار» أَعْنِي «، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين، وهذا نعت للمحسنين.
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم.
قوله:» إلاَّ اللَّمَمَ «فيه أوجه:(18/194)
أحدها: أنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها. وهذا هو المشهور.
الثاني: أنه صفة، و» إلاَّ «بمنزلة غير كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم.
الثالث: أنه متصل. وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر، قالوا: إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا: معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي. وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللَّمم ما دون الشرك.
قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عزّ وجلّ: إلاَّ اللَّمم فقلت: هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملكٌ كريمٌ.
وروى ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) في قوله: إلاَّ اللمم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
4562 - إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا؟
وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه.
وقال أبو العباس: أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال: أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ(18/195)
والقرب، وقال جرير: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرْضَاهُ) :
4563 - بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ ... عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ
وقال آخر:
4564 - مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وقال آخر:
4565 - لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ..... ... ... ... ... ... ... ...
ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة.
فصل
قال ابن الخطيب: الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة.
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه، فإنك إذا قلبتها وقلت: حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر، وكذلك فَشَحَ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ، يُقَال: فَشَحَت النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم، وقال في الكبائر من الإثم؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله: كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.
واختلفوا في الكبائر والفواحش؟ فقيل: الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً(18/196)
وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا. وقيل: الكبائر: ما يُكَفَّرُ مستحلُّها. وقيل: الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة.
قال ابن الخطيب: كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه. وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية.
فصل
اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم.
وقيل: هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة، والقُبْلَة وما كان دون الزنا. وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ، والشَّعْبي ورواية طاوس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ» وفي رواية: «والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى» .
وقال الكلبي: اللمم على وجهين:
[الأوّل] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ.
والوجه الآخر: هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.
وقال سعيد بن المسيب: هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} ، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - لمن يفعل ذلك وتاب. وههنا تَمَّ الكلام.
قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} في تعلق الآية وجوه:(18/197)
أحدها: هو تصوير لما قال من قبل، فإنه لو قال: هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول: نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال: ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال.
الثاني: أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال، وكتب على البعض أنه مُهْتَد.
الثالث: أنه تأكيد لبيان الجزاء، لأنه لما قال: {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.
فصل
العامل في (قوله) : «إذْ» يحتمل أن يكون «اذْكُرْ» فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول: إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله: {خلقكم من تراب} بأن كل أحد أصله من التراب، فإنَّه يصير غذاء، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة.
فإن قيل: لا بدّ من صرف قوله {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} إلى آدم، لأن قوله: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} عائد إلى غيره، فإنه لم يكنْ جنيناً. وإن قلت بأن قوله تعالى: {إِذْ أَنشَأَكُمْ} عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟
فالجواب: ليس كذلك، لأنا نقول: الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، فقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} خطاب مع من حَضَر (وقت) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.
قوله: «أجنة» جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و «جَنِينٌ، وأَجِنَّة» كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ.(18/198)
فإن قيل: الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً، فما فائدة قوله تعالى: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} ؟
فالجواب: أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ.
قوله: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: لا تمدحوها. وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها. وقال الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون: صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية. ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ.
فصل
يحتمل أن يكون هذا خطاباً مع الكفار، فإنهم قالوا: كيف يعلمنا الله؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قد علم كونك ومن تَبِعَك على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى.
وعلى هذا قول من قال: «فأعرض» منسوخٌ أظهر، وهو كقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] يعني الله أعلم بجملة الأمر.(18/199)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى} لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحداً منهم معيناً بسوء فعله.
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقالوا له: تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إنِّي خَشِيتُ عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذابَ الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى} أي أدبر عن الإيمان «وأعطى» صاحبه «قَلِيلاً وأَكْدَى» بخل بالباقي. وقال السدي: نزلت في العاصِ بن وائل السّهمّي، وذلك أنه ربما وافق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمدٌ إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} أي لم يؤمن به. ومعنى «أَكْدَى» أي قطع.
قوله: «وَأَكْدَى» أصله من أَكْدَى الحَافِر إذا حَفَرَ شيئاً فصادف كُدْيَةً منعته من الحفر، ومثله: أَجْبَلَ أي صادف جَبَلاً مَنَعَهُ من الحَفْرِ، وكَدِيَتْ أَصَابِعُهُ كَلَّتْ من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتمِّمه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخِرَه. قال الحطيئة:
4560 - فَأَعْطَى قَلِيلاً ثُمَّ أَكْدَى عَطَاؤُهُ ... وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ
ويقال: كَدَى النبتُ إِذا قلّ ريعُهُ، وكَدَتِ الأَرْضُ تَكْدُو كُدُّوا فهي كَادِيَةٌ إذا أبطأ نباتها. عن أبِي زَيْدٍ.(18/200)
وأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عن الشيء رَدَدْتُهُ. وأَكْدَى الرَّجُلُ إذَا قَلَّ خَيْرُهُ، فقوله: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} أي قطع القليل.
و «أَرَأَيْتَ» بمعنى أخبرني. وقوله: «الَّذِي» يعود إلى الوليد (بنِ المُغِيرة) قال ابن الخطيب: والظاهر أنه يعود إلى المتولّي في قوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى} [النجم: 29] .
فإن قيل: كان ينبغي أن يقول: الذين تولوا لأن (مَنْ) للعموم؟ .
فالجواب: إن العود إلى اللفظ كقوله تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ} [الأنعام: 160] ولم يقل: فلهم.
قوله: «فَهُوَ يَرَى» هذه الجملة مترتبة على ما قبلها ترتّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء: «فَهُوَ يَرَى» جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل: أعِنْده علمُ الغيب فَيَرَى، ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جواب الاستفهام، انتهى. وهذا لا حاجة إليه مع ظهور الترتيب بالجملة الاسمية. وقد تقدم له نظير هذا الكلام والردّ عليه.
ومعنى الآية أعند هذا المُكْدِي علمُ الغيب - أي علم ما غابَ عنه - من العذاب فهو يرى أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وما يكون من أمره حتى يضمن حَمْلَ العذاب عن غيره وكفى بهذا جهلاً بأنه يرى ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} أي لم يخبر {بِمَا فِي صُحُفِ موسى} يعني أسفار التوراة و «أم» منقطعة أي بل ألم ينبأ و «ما» في قوله «بِمَا» يحتمل أن يكون المراد جنس ما قبلها أي لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغيره. ويحتمل أن يكون عين ما في التوراة لا جنسه. وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب.
قوله: «وَإِبْرَاهِيمَ» عطف على «موسى» ، أي وصحف إبراهيم، لقوله في سورة الأعلى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 19] .
وإنما خص هذين النبيين بالذكر، لأنه كان بين إبراهيم وموسى يؤخذ الرجلُ بجريرة غيره فأول من خالفهم إبراهيم قاله الهذيل بن شُرَحْبِيل. والعامة على وَفَّى بالتشديد. وقرأ أبو أُمامة الباهلي وسعيدُ بن جبير وابن السَّمَيْقَع: وَفَى مخففاً. وقد تقدم أن فيه ثلاثَ لغات. وأطلق التوفية والوفاء ليتناولا كل ما وفى به والمعنى تَمَّ وأكمل ما أُمِرَ به.(18/201)
قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة: عمل ما أمر به، وبلغ رسالةَ ربه إلى خلقه. وقال مجاهد: وفى بما فرض عليه. وقال الربيع: وفى رُؤْياه وقام بذبح ابْنه. وقال عطاء الخراساني: استكمل الطاعة. وقال أبو العالية: هو الإتمام في قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] والتوفية الإتمام. وقال الضحاك: وفَّى المناسك. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إبرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ» .
قوله: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} «أن» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف هو ضمير الشأن و «لاَ تَزِرُ» هو الخبر. وجيء بالنفي لكون الخبر جملة فعلية متصرفة غير مقرونة كما تقدم تحريره في المائدة. و «أن» وما في حيّزها فيها قولان:
أظهرهما: الجر بدلاً من «ما» في قوله {بما في صحف} .
والثاني: الرفع خبراً لمبتدأ مضمر أي ذَلِك أن لا تزرُ أو هو أن لا تزرُ. وهو جواب لسؤال مقدر؛ كأن قائلاً قال: وما في صحفهما؟ فأجيبَ بذلك.
قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون نصباً بإضمار «أعني» جواباً لذلك السائل وكل موضع أضمر فيه هذا المبتدأ لهذا المعنى أضمر فيه هذا الفِعل.
فصل
معنى الآية: أنه لا تحمل نفسٌ حِمْلَ أخرى أي لا تُؤخَذُ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإِثم.
وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: كانوا قبل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يُقْتَلُ بقَتْل أبيه وابنه وأخواته حتى جاءهم إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عَزَّ وَجَلَّ أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى.
فإن قيل: الآية مذكورة لبيان أن وِزْرَ الرجل لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة، لأن الوَازِرَةَ تكون مثقلةً بوِزْرِها وكل أحد يعلم أنها لا تحمل شيئاً فلو قال: لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ.(18/202)
فالجواب: أن المراد من الوَازِرَةِ هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وَزَرت وحَمَلَتْ.
ونقل القرطبي عن أبي مالك الغِفاريّ قال: قوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر أو الرفع، أو النصب لعطفها على (أن) قبلها، وكذلك محل: «وَأَنَّ سَعْيَهُ» . و «يُرَى» مبني للمجهول، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً أي يرى حاضراً. والأول أوضح.
وقال مكي: وأجاز الزجاج: يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن «سعيه» يصير قد عمل فيه أنّ، و «يَرَى» . وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ؛ لأنَّ دخولَ «أنّ» على «سَعْيَهُ» وعملها فيه، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ «يُرَى» ؛ وعلى هذا جوز البصريون: إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء.
قال شهاب الدين: وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد، ومنه باب التنازع في بعض صوره، نحو: قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال. وهذا توهم باطل؛ لأنا نقول: سَعْيَهُ منصوب «بأَنَّ» و «يُرَى» متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به.
وقد حكى أبو البقاء أنه قرىء به شاذًّا، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال:(18/203)
وقرئ بفتح الياء، وهو ضعيف؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك: إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد، فلا خبر «لغُلاَمٍ» .
وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي. وفيه بعد. انتهى.
قال شهاب الدين: وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر؟ {ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ؟} وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ.
قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} أي عَمِل، كقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] . وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وقال عكرمة: كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا «رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله: ألهذا حَجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أجرٌ» .
«وقال رجل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها؟ قال: نعم» .
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
الثالث: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
الرابع: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
الخامس: أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم.(18/204)
السادس: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ.
السابع: قال تعالى في قصة الغلامين اليتمين: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82] . فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما.
الثامن: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع، وهو من عمل غيره.
التاسع: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير.
العاشر: أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
الحادي عشر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «قال لمن صلَّى وحده: ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير» .
الثاني عشر: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر: أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر: أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الرابع عشر: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.
الخامس عشر: أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره.
السادس عشر: الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.
السابع عشر: أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ.
الثامن عشر: أن الله قال لنبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وقال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] وقال {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج: 40] فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير.(18/205)
التاسع عشر: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له.
العشرون: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ {.
والمراد بالإنسان العُمُوم.
وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له. وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ويروى: أن عبد الله بن أبي (ابن سلول) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا.
وقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه؟} .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً.
الثاني: قال ابن الخطيب: وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى. ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك: «سترى إحسانك» أي جزاءه. وفيه نظر؛ لقوله بعد ذلك: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى} .
قوله: «ثُمَّ يُجْزَاهُ» يجوز في الضمير وجهان:
أظهرهما: أن الضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على «سَعْيهُ» والجزاء مصدر مبيِّن للنوع.
والثاني: قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: «الجَزَاءَ» ، أو أبدله منه كقوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] .
قال أبو حيان: وإذا كان تفسيراً للضمير المنصوب في «يُجْزَاهُ» فعلى ماذا(18/206)
يَنْتَصِبُ؟ وأما إذا كان بدلاً فهو من بدل الظاهر من المُضْمَر.
وهو مسألة خلاف. والصحيح المنعُ.
قال شهاب الدين: العجب كيف يقول: فعلى ماذا ينتصب؟ وانتصابه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون عطف بيان وعطف البَيَان يصدق عليه أنه مفسِّر. وهي عبارة شائعة.
الثاني: أن ينتصب بإضمار «أعْني» وهي عبارة شائعة أيضاً يسمون مثل ذلك تفسيراً.
وقد منع أبو البقاء أن ينتصب «الجَزَاءَ الأَوْفَى» على المصدر فقال: «الجَزَاءَ الأَوْفَى» هو مفعول «يُجْزَاهُ» وليس بمصدر؛ لأنه وصفه بالأَوْفَى وذلك من صفة المجزيّ به لا من صفة الفِعْلِ.
قال شهاب الدين: وهذا لا يبعد عن الغَلَط؛ لأنه يلزم أن يتعدى «يُجْزَى» إلى ثلاثة مفاعيل؛ لأن الأول قام مقام الفاعل والثاني «الهاء» التي هي ضمير السعي، والثالث «الجزاء الأوفى» . وأيضاً فكيف ينتظم المعنى؟ وقد يجاب عنه بأنّه أراد أنه بدل من الهاء، كما تقدَّم عن الزمخشَريِّ.
ويصح أن يقال: هو مفعول «يُجْزَاه» فلا يتعدى لثلاثة حينئذ إلا أنه بعيدٌ عن غرضِهِ. ومثل هذا إلْغَازٌ.(18/207)
وأما قوله: «وَالأَوْفَى ليس من صفات الفعل» ممنوعٌ، بل هو من صفاته مجازاً، كما يوصف المجزيّ به مجازاً فإن الحقيقة في كليها منتفيةٌ وإنما المتصف به حقيقة المجازى.
وقال ابن الخطيب: والجزاء يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان: 12] ويقال جزاك الله خيراً، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف الجر، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَلَى عَمَله الجَنَّة، وقد يحذف الجار ويوصل الفعل، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَمَلَه الجَنَّة.
فصل
والمُرَادُ بالجَزَاء الأوفى: الأكمل والأتمَّ أي يُجْزَى الإِنسانُ سَعْيَهُ؛ يقال: جَزَيْتُ فلاناً سَعْيَهُ وبِسَعْيِهِ قال الشاعر:
4567 - إنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ ... لَمْ أَجْزِهِ بِبَلاَءِ يَوْمٍ وَاحِدِ
فجمع بين اللغتين.
قال ابن الخطيب: والجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين؛ لأن جزاء الصالح وافرٌ، قال تعالى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام، فهي في نفسها أوفى. فإن قيل: «ثُمَّ» لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يُجْزَاهُ؟ فإن تكان لتراخي الجزاء فكيف يُؤَخَّر الجزاء عن الصالح وقد قلت: إن الظاهر أن المراد منه الصالحون؟! .
نقول: الوجهان محتملان وجواب السؤال أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت؛ لأن الله تعالى من أوّل زمان يتوبُ الصالح يجزيه خيراً ويؤخِّر له الجزاء الأوفى وهي الجنَّة.
أو نقول: الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] وهي الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وهي الرؤية، فكأنه تعالى قال: وأنَّ سعيه سوف يرى ثم(18/208)
يرزقُ الرؤيةَ. وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ، فإن الأوفى مطلقٌ غير مبيّن، فلم يقل: أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل وافٍ ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.
فصل
قال في حق المسيء: لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ (وِزْرَ أُخْرَى) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوَازرة، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ؛ لجواز أن يسقط عنها، ويمحو الله ذلك الوِزر، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها، ولو قال: لا تَزِرُ (وَازِرَةٌ) إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر. وقال في حق المحسن: {لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} ولم يقل: ليس له ما لم يَسْعَ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ.
قوله [تَعَالَى:] {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} العامة على فتح همزة «أَنَّ» وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء ومعنى الآية: إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال. وروى أو هريرةَ مرفوعاً: تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ.
قال القرطبيُّ: ومن هذا المعنى قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ» ولهذا أحسن من قال (رحمة الله عليه ورضاه) (شعْراً) :
4568 - وَلاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ ... فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها ... وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ(18/209)
وقيل: المراد من هذه الآية التوحيد.
وفي المخاطب وجهان:
أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني: أنه خطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى» للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى» .
فالجواب: منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده.
قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} (أضحك وأبكى) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و «أَضْحَك وَأَبْكَى» (أضحك وأبكى) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع , وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه. و" أَضْحَك وَأَبْكَى " لا مفعول لهما في هذا الموضع؛ لأنها مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل: فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى.
فصل
اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم، فإِنهم يقولون: سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال.
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا: لقوة التعجب وهو باطل، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك. وقيل: لقوة الفرح؛ وليس كذلك؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم (شعراً)
4569 - هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي ... مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي(18/210)
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.
فصل
إِذا قيل: بأن المراد بقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ المنتهى} إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول: بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول: بأنه موجب لا قادر فقال تعالى: هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل: بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة.
فصل
هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء.
فصل
«روى مسلمٌ عن عائشةَ - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) - قالت: والله ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال: إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى» .
وعنها قالت: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال يا محمد: إن الله يقول لك: إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول: هُوَ أضحك وأبكى»
أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء.(18/211)
وقال بَسَّامُ بن عبد الله: أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [رَحِمَهُ اللَّهُ] :
4570 - السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق ... وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا ... وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ
قيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل: إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المَقْدِسيُّ: أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ؟ فقال: ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي أمات في الدُّنْيَا، وأحيا للبعث. وقال القرطبي: قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خَلَقَ الموت والحياة. قاله ابن بحر. وقيل: أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة، وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت؟ .
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: أَحْيَا وَأَمَاتَ.
ثانيها: هو بمعنى المستقبل، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل، يقال: كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة.
ثالثها: أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و «أَحْيَا» أي خلق الحِسَّ والحركة فيها.
قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} أي من كل حيوان. ولم يرد آدمَ وحوّاء؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة. وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل.(18/212)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ} ولم يقل: «وأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ» كما قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} ؟
فالجواب: أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جَاهلٌ كما قال من حَاجَّ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {قَالَ أَنَاْ أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحدٌ أنه بفعل واحدٍ من الناس، فلم يؤكد بالفصل، ألا ترى إلى قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} حيث كان الإغناء عندهم غيرَ مسند إلى الله، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] وكذلك قال: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفةٌ؟ أو اسمان ليسا بصفة؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفةٍ.
قال ابن الخطيب: والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحَسَنِ، والأنثى كالحُبْلَى والكُبْرَى.
قوله: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} أي تُصَبُّ في الرَّحِمِ؛ يُقَالُ: مَنَى الرَّجُلُ وأمْنَى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح.
وقيل: تقدر، يقال: مَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتهُ. وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق اللَّهُ منها أعضاء مختلفةً، وطباعاً متباينةً، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون، ولهذا لم يَقْدِرِ أحد على أن يَدَّعِيَهُ كما لم يَقْدِر على أن يَدَّعِيَ خلق السموات، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] .
قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد من قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 13 و14] أي غير خلق النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً. وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك: {أنشأناه خلقاً آخر}(18/213)
بعد خلق النطفة قال ههنا: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} فجعل خلق الروح نشأةً أخرى كما جَعَلَه هناك إِنشاءً آخَرَ.
فإن قيل: الإعادة لا تجب على الله، فما معنى قوله تعالى: «وأنَّ عَلَيْهِ» ؟
فالجواب على مذهب المعتزلة يجب عليه عقلاً، فإن الجزاء واجب، وذلك لا يتم إلا بالحشر فتجب الإعادة عليه عقلاً، وأما على مذهب أهب السنة ففيه وجهان:
الأول: «عَلَيْهِ» بحكم الوعد، فإنه قال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} [يس: 12] «فَعَلَيْهِ» بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشَّرْع.
الثاني: «عليه» بحكم التعيين، فإن من حَضَرَ بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه، يقال له: وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أنْ تَفْعَلَه أي تَعَيَّنْتَ لَهُ.
فصل
قرىء النَّشْأَةَ على أنه مصدر كالضَّرْبَةِ على وزن فَعْلَةٍ وهي المَرَّة يقال: ضَرْبَةٌ وضَرْبَتَانِ يعني النشأة مرة أخرى عليه. وقرىء النَّشاءة - بالمد - على أنه مصدر على وزن فَعَالَةٍ، كالكَفَالَةِ. وكيفما قُرِىءَ فهي من «نَشَأَ» ، وهو لازمٌ.
قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} قال أبو صالح: «أغنى» الناسَ بالأَمْوَالِ «وأقنى» أعطى القُنيَةَ وأصول الأموال وما يَدَّخِرُونَه بعد الكِفاية.
وقال الضحاك: «أغنى» بالذهب والفضة، وصنوف الأموال، «وأقنى» بالإبل والبَقَر والغنم، وقال الحسن وقتادة: أخْدَمَ. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أغْنَى وأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى. وقال مجاهد ومقاتل: أرضى بما أعطى وقنع. وقال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنيةً من الرِّضا.
وقال سُلَيْمَان التَّيْميّ: أغنى نفسه وأفقر خلقه إِليه. وقال ابن زيد: «أغنى» أكثر «وأقنى» أقلَّ، وقرأ: {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] .
وقال الأخفش: «أقنى» : أفقر. وقال ابن كيسان: أوْلَدَ. قال الزمخشري: «أقنى» أعطى القُنْيَةَ، وهي المال الذي تأثَّلْته وعزمت أن لا يخرج من يدك. وقال(18/214)
الجَوْهَرِيُّ: «قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنًى» مثل «غَنِيَ يَغْنَى غِنًى» ، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال: قَنيتُ مالاً أي كَسَبْتُهُ، وهو نظير: شَتِرَتْ عَيْنُه - بالكسر - وشَتَرَها اللَّهُ - بالفتح - فإذا أدخلت عليه الهمزة أو التضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أَقْنَاهُ اللَّهُ مالاً، وقناه إياه أي أكْسَبَهُ إيَّاه، قال الشاعر:
4571 - كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ ... وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ إِقْلاَلِ
أي تقنى مالاً، فحذف (المفعول الثاني) . وحذف مفعولا «أغنى وأقنى» ؛ لأن المراد نسبةُ هذيْنِ الفعلين إليه وحْدَهُ، وكذلك في باقيها، وألف «أقنى» عن ياءٍ، لأنه من القِنْية؛ قال:
4572 - ألاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْيَةً ... ويقال: قَنِيتُ كَذَا وأَقْنَيْتُهُ، قال:
4573 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قَنِيتُ حَيَائِي عِفَّةً وتَكَرُّمَا
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} والشِّعْرَى في لسان العرب كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة، فإِنَّ خُزَاعَةَ كانت تعبدها، وسن عبادتها أبو كبشة رجلٌ من سادتهم فعبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عَرْضاً والشِّعْرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خُزَاعَةُ وحِميرُ وأبو كبشة أحد أجداد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قِبَل أمهاته، وبذلك كان مشركو قريش يُسمونَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله، وخالف أدْيَانَهُمْ، فكانت قريشٌ تقولُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ابْنَ أبي كبشة تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحْدَثَ ديناً غيرَ دِينهِمْ.
والشِّعرى العبور تطلع بعد الجوْزَاء في شدة الحر ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار، ويسمى الشعرى اليمانية والثاني الشعرى الغُمَيْصَاء، وهي التي في الذّراع(18/215)
والمجرة بينهما وتسمى الشامية، وسبب تسميها بالغميصاء - على ما زعمت العرب في بعض خرافاتها - أنهما كانتا أختين لسُهَيْل فانحدر سُهَيْلٌ إلى اليمن فاتبعته الشّعرى العَبُور فعبرت المجرة فسُمِّيَت العبور، وأقامت الغميصاءُ تبكي لفَقْدِهِ، حتى غمصت عينها، ولذلك كانت أخفى من العبور. وقد كان من لا يعبد الشِّعرى من العرب يعلمها ويعتقد تأثيرها في العالم قال:
4574 - مَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الحَرُورُ ... وَأَخْبَتْ نَارَها الشِّعْرَى العَبُورُ
فصل
وهذا الآية إشارة إلى فساده قولِ قوم آخرين؛ لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنَى، ومن كسل افْتَقَرَ، وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بسبب الطالع وذلك بالنجوم فقال: هو أغنى وأقنى وإن قال قائل: إن الغنى بالنجوم فيقال: هو رَبّ النجوم ومُحَرِّكُها لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} لإنكارهم ذلك أُكِّد بالفصل.
قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً.
قال شهاب الدين (رَحِمَهُ اللَّهُ) : وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول: إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب:
إِحْدَاها: قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون «عَادٍ الأُولَى» بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها. هذا كله في الوصل، فإِذا وقفوا على «عَادٍ» ابتدأوا ب «الأولى» فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة.
الثانية: قرأ قالون: عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو هذا في الوصل، وأما في الابتداء ب «الأولى» فله ثلاثة أوجه:
الأول: الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة.(18/216)
الثاني: لُؤْلَى - بلام مضمومة، ثم بهمزة ساكنة.
الثالث: كابتداء ابن كثير ومن معه.
الثالثة: قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ همزةً. هذا (كله) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل. والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين.
الرابعة: قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ.
فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ؛ فتأمل ذلك، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات.
وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول:
الأول: حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن.
الثاني: حكم حركة النقل.
الثالث: أصل «أولى» ما هو.
أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ} [الإخلاص: 1 - 2] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة: {أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ} وكَقَوْلِهِ:
4574 - وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ ... وهو قليل جداً. وقد مضى تحقيقه.
وأما الثاني: فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة.
وأما الثالث: فأُولَى تأنيث «أَوَّل» . وقد تقدم الخلاف في أصله في: «أَوَّل» فليُلْتَفَتْ إليه.
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول:(18/217)
أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا «عاداً» إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد ودَعْد، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله:
4576 - لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ
فصرفها أولاً ومنعها ثانياً.
ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين. وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها، فقالوا «الاولى» كنظيرها من همزات الوصل، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ.
وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول: لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين، والحمر والعجم بهمزة الوصل؛ لأن اللام في حكم السكون، وهذه هي اللغة المشهورة. ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول: لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - «ولحمر ولعجم» من غير همز، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ.
هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول:
أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه.(18/218)
وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان:
أحدهما: أن يكون «أولى» أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين، ثم أبدل الواو الأولى همزة، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة. فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو: أومِنُ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت. وهذا تكلف لا دليل عليه.
والثاني: أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله:
4577 - أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى ... وكقراءة «يُؤقِنُونَ» وهمزة {السُّؤْقِ} [ص: 33] و {سُؤْقِهِ} [الفتح: 29] كما تقدم تحريره. وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً. وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل «أولى» عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه.
وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل، فإنه الأصل، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء بالنقل فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد.
وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ:
ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه. وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ (الأولى) في هذا الموضع بغير ألف. والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم.
وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد(18/219)
بالحركة في نحو ذلك، ألا ترى أنه يحذف الألف في (سِيرَتِهَا الأولَى) [و] {وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى} [الأعلى: 11] ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا.
وأما ما جاز عنه في بعض الروايات: {قالوا لاَنَ جِئْتَ} [البقرة: 71] ؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل؛ إذ ليس من أصله ذلك، و «الأولى» في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها.
وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ، إلا أنه يخالفه في همز الواو؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها، فليست عنده من «وَأَلَ» بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب، ويجوز أن يكون أصلها عنده من «وَأَلَ» أيضاً، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل.
وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم.
وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - «عَادَ الأُولى» غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم؛ ففيه العلمية والتأنيث، ويدل على التأنيث قوله «الأُولى» فوصفها بوصف المؤنث.
فصل
عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى. قال القرطبي: سماها الأولى، لأنهم كانوا قبل ثمود.
وقيل: إنّ ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة(18/220)
وَالسَّلَام ُ -. وقال ابن إسحاق: هما عَادانِ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة. وقيل: عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى، والمعنى متقارب. وقيل: إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون. وهم قوم هود.
قوله: {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} قد تقدم الخلاف في «ثَمُود» بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة «هود» . وفي انتصابه هنا وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «عَاداً» .
والثاني: أنه منصوب بالفعل المقدر أي «وَأَهْلَكَ» . قاله أبو البقاء، وبه بدأ. ولا يجوز أن ينتصب ب «أَبْقَى» لأن ما بعد «ما» الثانية لا يعمل فيها قَبْلَهَا، والظاهر أنّ متعلق «أبقى» عائد على من تقدم من عادٍ وثمود أي فما أبقى عليهم - أي على عادٍ وثمود - أو يكون التقدير: فما أبقى منهم أحداً، ولا عيناً تَطْرِفُ. ويؤيد هذا قوله: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] .
قوله: «وَقَوْمَ نُوحٍ» كالذي قبله و «مِنْ قَبْلُ» أي من قبل عادٍ وثمودَ.
وقوله: «إنَّهُمْ» يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصةً، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة.
قوله: «كانوا هم» يجوز في «هم» أن يكون تأكيداً، وأن يكون فصلاً. ويضعف أن يكون بدلاً. والمفضل عليه محذوف تقديره: من عادٍ وثمودَ على قولنا: إن الضمير لقوم نوح خاصةً، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير: من غَيْرِهم من مُشْرِكي العَرَب، وإن قلنا: إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطْغَى لطول دعوة نوح إياهم وعُتُوِّهِمْ على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وِزْرها ووزرُ من عمل بها والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بَعْدَ الإصرار العظيم والظالم(18/221)
واضع الشيء في غير موضعه، والطَّاغِي المجاوز للْحَدِّ.
فإن قيل: المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك، فإذا قيل: إنهم كانوا في غايةِ الظلم والطُّغْيَان فأهلكوا (ويقول الظالم: هم كانوا أظلم فأهلكوا) لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا، فلا نهلك، فلو قال: أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله: أظلم؟
فالجواب: أن المقصود بيان (شِدَّتِهِمْ) وقوة أجسامهم، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطُّغْيَان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحدٌ منهم فما حال من هو دونهم في العمر.
رُوِيَ أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه.
قوله: «وَالمُؤْتَفِكَةَ» منصوب ب «أَهْوَى» ؛ وقدم لأجل الفواصل. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط «أَهْوَى» أسقط، أي أهواها جبريلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ما رفعها إلى السماء.
قوله: «فَغَشَّاهَا» أي ألْبَسَهَا الله «ما غشى» يعني الحجارة المصورة المسوَّمة. وقوله «مَا غَشَّى» كقوله «مَا أَوْحَى» في الإبهام وهو المفعول الثاني إن قلنا: إن التضعيف للتعدية، وإن قلنا: إنه للمبالغة والتكثير فتكون «ما» فاعله كقوله: {فَغَشِيَهُم مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] والمؤتفكة المنقلبة. وقرىء: والْمُؤْتَفِكَاتُ.
فإن قيل: إذا كان معنى «المؤتفكة» المنقلبة ومعنى «أهوى» قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل.
فالجواب: أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قَلَبَها فانْقَلَبَتْ.
قوله: «فبأي» متعلق ب «تتمارَى» والباء ظرفية بمعنى «فِي» والآلاء النعم واحدها إلْي وإلى وأَلاً.
والمعنى فبأي نعم ربك تشك، وقرأ ابن مُحَيْصِن ويعقوب: «تَمَارَى» بالحذف كقوله: «تَذَكَّرُونَ» .(18/222)
فصل
قيل: هذا أيضاً مما في الصحف. وقيل: هو ابتداء لكلام، والخطاب عام، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : تكذب. وقيل: هذا خطاب مع الكافر.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: خطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يقال: كيف يجوز أن يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تتمارى؟ لأنا نقول: هو من باب: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضاً لو فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراءُ في نعم الله تعالى. والصحيح العموم كقوله تعالى: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وقوله: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] .(18/223)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
قوله: «هَذَا نَذِيرٌ» إشارة إلى ما تقدم من الآي، وأخبار المهلكين. وقيل: أي القرآن. قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لفظاً ومعنى؛ أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى، لأنه معجزة، وتلك لم تكن معجزة، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون هذا يبقى على حقيقة التبعيض، أي هذا الذي ذكرناه بعض ما جرى أو يكون لابتداء الغاية أي هذا إنذار من المنذرين المتقدمين؛ يقال: هذا الكتاب وهذا الكلام مِنْ فُلاَن.
وقيل: إشارة إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي هذا النذير من جنس النذر الأولى أي رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.
وقوله: «نذير» يجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون اسمَ فاعل وكلاهما لا ينقاس، بل القياس في مصدره إنذار، وفي اسم فاعله مُنْذِر. والنُّذُر يجوز أن يكون جمعاً لنذير بمعنييه المذكورين، و «الأُوْلَى» صفة حملاً على معنى الجماعة كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] .(18/223)
قوله: «أَزفَت الآزِفَةُ» دَنَتِ الْقِيَامَةُ، واقتربت، والتقدير: الساعة الآزفة، كقوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغَلَبَةِ.
قال ابن الخطيب: قوله «أَزِفَتِ الآزِفَةُ» كقوله تعالى: {وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] . ويقال: كانت الكائنةُ. وهَذَا الاستعمال على وجهين:
الأول: إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل، ثم فعله مرةً أخرى، يقال: فعله الفاعل كقوله: حَاكَه الحَائِكُ أي من شغله ذلك من قبل فعله.
الثاني: أن يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل، يقال: إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإذا غصب العين غاصبٌ ضَمِنَهُ، فقوله: أَزِفَت الآزِفَةُ يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قرباً فهي كائنة قريبة وزادت في القرب، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله: «وَقَعَت الْوَاقِعَةُ» أي قرب وقوعها. وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال: أزفت القيامة الآزفة أو السَّاعة الآزفة.
قال أبو زيد: قلت لأعرابيٍّ: مَا الْمُحْبَنْطِىءُ؟ قال: الْمُتَكَأْكىءُ، قلت: ما المتكأكىءُ؟ قال: الْمُتَآزِفُ؟ قلت: ما المتآزف؟ قال: أنْتَ أحْمَقُ وتركَنِي وَمَرَّ.
قوله: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} يجوز أن يكون «كَاشِفَةٌ» وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كانت وصفاً احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل: تقديره: نَفْسٌ كَاشِفَةٌ أو حالٌ كَاشِفَةٌ.
فإن قيل: إذا قدرتها نفسٌ كاشفة، وقوله {مِن دُونِ الله} استثناء على المشهور فيكون الله نفساً كاشفة؟(18/224)
فالجواب من وجوه:
الأول: لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكايةً عن عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}
[المائدة: 116] .
الثاني: ليس صريحاً في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفساً.
الثالث: الاستثناء الكاشف المُبَالِغ ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كَرَاوية، وعَلاَّمَة ونَسَّابَة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.
وإن كانت مصدراً، فهي كالخَائِنَة والعَافِيَة والْعَاقِبَة، والمعنى ليس لها من دون الله كشفٌ أي لا يكشف عنها، ولا يظهرها غيره، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقته، كقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] وإما من كشف الضر أي أزالهُ. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غَشِيَت الخَلْقَ أهْوالُها وشدائدُها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك. وتقدم الكلام على مادة «أَزِفَ» في غافر.
و «مِنْ» زائدة، تقديره ليس لها غيرُ الله كَاشفة، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، ومَا جَاءنِي مِنْ أَحَدٍ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دونَ الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف، ويحتمل أن تكون غير زائدة، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها أي تخبر عنها كما هي من غير الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك: كَشَفْتُ الأَمْرَ مِنْ زَيْدٍ. و «دون» يكون بمعنى غير كقوله تعالى: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] أي غير الله.(18/225)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قوله: {أَفَمِنْ هذا الحديث} متعلق ب «تَعْجَبُونَ» ولا يجيء فيه الإعمال، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل، وهنا هو متقدم، وفيه خلاف بعيد. وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كُلاًّ من قوله: «تَعْجَبُونَ» و «تَضْحَكُونَ» و «لاَ تَبْكُونَ» يطلب هذا الجار من حيث المعنى.(18/225)
والعامة على فتح التاء والجيم من «تَعْجَبُون» و «تَضْحَكُون» . والحسن بضم التاء وكسر الجيم والحاء من غير واو عاطفة بين الفعلين. وهي أبلغ من حيث إنهم إذا أضحكوا غيرهم كان تجرؤهم أكثر.
وقرأ أُبَيٌّ وعبدُ الله كالجماعة، إلا أنهما بلا واوٍ عاطفة كالحَسَن، فيحتمل أن يكون يضحكون حالاً، وأن يكون استثناءً كالتي قبلها.
فصل
قال المفسرون: المراد بالحديث القرآن. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حَشْر الأجساد، والعظام البالية. وقوله: (وَتَضْحَكُونَ) أي استهزاء من هذا الحديث كقوله تعالى في حق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47] .
ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ.
وقوله: «وَلاَ تَبْكُونَ» مما تسمعون من الوعيد، روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما رؤي بعد هذه الآية ضاحكاً إلا تبسماً. وقال أبو هريرة: «لما نزل قوله {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} الآية قال أهل الصفة:» إنا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ «ثم بكَوْا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لاَ يَلِجُ النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصرٌّ علَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بكم، وَأَتى بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فيَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
قوله: «وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ» أي غافلون لاهون. وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفةً، أخبر الله عنهم بذلك، ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين. والسمود، قيل: الإعراض والغفلة عن الشيء، وقيل: اللهو، يقال: دَعْ عَنَّا سُمُودَك أي لهوَك. رواه الوالبيُّ والعَوْفِيُّ عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - وقال الشاعر:(18/226)
4578 - أَلاَ أَيّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ سَامِدٌ ... كَأَنَّكَ لاَ تَفْنَى وَلاَ أَنْتَ هَالِكُ
فهذا بمعنى لاه لاعب. وقيل: الخُمُودُ. وقيل: الاستنكار، قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
4579 - رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَة آلِ سَعْدٍ ... بِمْقدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فهذا بمعنى الخمود والخشوع، وقال عكرمة وأبو هريرة: السمود القيامة بلغة حِمْيَر، يقولون: يا جَارِيَةُ اسمُدِي لنا أي غنِّي، فكانوا إذا سمعوا القرآن تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا. وقال الضحاك: أَشِرُونَ. وقال مجاهد غضاب يَتَبَرْطَعُونَ. وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم: بَعِيرٌ سَامِدٌ في سَيْرِهِ. وقيل: سمد رأسه وسبده أي استأصل شعره.
وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمَان. وقال الحسن سامدون أي واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، لما رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ. حكاه الماوردي. وروى المَهْدَوِيُّ عن علي أنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياماً فقال: مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ. وروي عن علي أن معنى «سامدون» أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سِرْجينٌ وَرَمَادٌ. واسْمَأدَّ الرجال اسْمِئْدَاداً أي وَرِم غضباً.
قوله: {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} هذا الأمر يحتمل أن يكون عاماً، ويحتمل أن يكون التفاتاً أي اشتغلوا بالعبادة، ولم يقل: واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلاَّ لله.
وروى عكرمة عن (ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس. وروي عن عبد الله - (رَضِيَ الله عنه) - قال: أول سورة أنزلت فيها السجدة النَّجم، فسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسجد مَنْ(18/227)
خَلْفَهُ إلا رجلاً رأيته أخذ كَفًّا من تراب، فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أميةُ بْنُ خَلَفٍ.
وروى زيد بن ثابت - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - قال: قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّجْمِ فلم يسجُدْ فيها، وهذا يدل على أن سجود التلاوة غيرُ واجب، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن يشاءَ وهو قولُ الشَّافِعِيِّ وأحْمَد.
وذهب قومٌ إلى أنه واجبٌ على القارىء والمستمع جميعاً. وهو قول سفيانَ الثوريِّ وأصحابِ الرأي.
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَنْ قَرَأَ سورة النجم أُعطي من الأجر (عشر حسنات) بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بمُحَمَّد وكَذَّبَهُ» (انتهى) .(18/228)
سورة القمر(18/229)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات: {أم يقولون نحن جميع منتصر} إلى قوله {والساعة أدهى وأمر} [القمر: 44 - 46] . والصحيح الأول، وهي خمس وخمسون آية، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] ، فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] ، وهو حقٌّ؛ إذ القمر انشق بقوله: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» ماض على حقيقته، وهو قول عامة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله. وقد صح في الأخبار أن القمر انشق على عهده - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مرتين. روى أنس بن مالك - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - أن أهل مكة سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يريهم آيةً، فأراهُمُ القمر شَقَّتَيْنِ حتى رأوا حِرَاءَ بينهما، وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وعن ابن مسعود - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِرْقَتَيْن فرقةً فوق الجبل، وفرقةٌ دونه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «اشْهَدُوا» . وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر، ثم الْتَأَمَ بعد ذلك.
وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فقَدِموا السُّفَّار فسألوهم قالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {اقتربت الساعة وانشق القمر} . وقيل: انشق بمعنى سينشق يوم(18/229)
القيامة، فأوقع الماضي موقع المستقبل لتحققه وهو خلاف الإجماع. وقيل: انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد للنابغة:
4580 - فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دوِيٌّ ... دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِي
وإنما ذكرنا ذلك تنبيهاً على ضعفه.
قوله: {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، أي ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم: مَرَّ الشَّيْءُ واسْتَمَرَّ إذا ذهب مثل قولهم: قَرَّ واسْتَقَرَّ. قال مجاهد وقتادة: مَنّوا أنفسهم بذلك. وقيل: مستمر أي دائم؛ فإن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يأتي كل زمان ومكان بمعجزة فقالوا هذا سحر مستمر دائم، لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سِحْر السَّحَرَة، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين، وثلاثة، ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل. قاله الزمخشري. ومنه قول الشاعر:
4581 - أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وَأَعْصُرٌ ... وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرْ
أي بدائم باقٍ. وقيل: معناه شديد المرارة. قال الزمخشري: أي مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا لا نقدر أن نَسِيغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ. انتهى.
يقال: مَرَّ الشَّيْءُ بنفسه وَمرَّهُ غَيْرُهُ؛ فيكون متعدياً ولازماً، ويقال: أَمَرَّهُ أيضاً.
وقال أبو العالية والضحاك: مستمر أي قويّ شديد، من قولهم: مَرَّ الحَبْل إذا صلب واشتد، وأَمْرَرْتُهُ إذا أحكمت فَتْلَهُ، واسْتَمرَّ إذا قَوِيَ واسْتَحكَمَ، قال لقيط - (رحمةُ اللَّهِ عليه -) :
4582 - حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... صِدْقُ الْعَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرَعا(18/230)
والمراد بقوله: «آيةً» هي اقتراب الساعة، فإن انشقاق القمر من آياته، وقد رأوه وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضون، أو آية النبوة فإنه معجزة. أما كونه معجزةً ففي غاية الظهور، وأما كونه آية فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء، وانفطارها، وكل كوكب، فإذا انشق بعضها كان ذلك مخالفاً لقوله بجواز خراب العالم والمُرَاد بهؤلاء القائلين المعرضين هم الكفار. والتنكير في قوله (آية) للتعظيم أي آية قوية أو عظيمة يُعْرِضُوا.
قال أبو حيان: ومعنى مستمر أي يشبه بعضه بعضاً أي اشتهرت أفعاله على هذا الحال. وهذا راجع إلى الدوام المتقدم. وأتى بهذه الجملة الشرطية تنبيهاً على أن حالهم في المستقبل كحالهم في الماضي.
وقرىء: يُرَوْا مبنيًّا للمفعول من أَرَى.
قوله: {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي كذبوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما عاينوه من قدرة الله عزّ وجلّ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل وكذبوا بالآية وهي انشقاق القمر، «وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ» في أنه سحر القمر، وأنه خسوف في القمر، وظهور شيء في جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر، وأنه سحر أعيننا والقمر لم يصبه شيء، فهذه أهواؤهم.
قوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} العامة على كسر القاف، ورفع الراء اسم فاعل، ورفعه خبراً «لكل» الواقع مبتدأ. وقرأ شيبة بفتح القاف وتروى عن نافع.
قال أبو حاتم: لا وجه لها، وقد وجهها غيره على حذف مضاف أي وكل أمر ذو استقرار، وزمان استقرار، أو مكان استقرار، فجاز أن يكون مصدراً، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً قال معناه الزمخشري. وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجر الراء. وفيها أوجه:(18/231)
أحدها - ولم يذكر الزمخشري غيره -: أن تكون صفة لأَمْر، ويرتفع «كُلّ» حينئذ بالعطف على «الساعة» فيكون فاعلاً أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر.
قال أبو حيان: وهذا بعيد لوجود الفصل بجمل ثلاث، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو: «أَكَلْتُ خُبْزاً، وضَرَبْتُ خَالِداً» وأن يجيء: زيداً أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً فيكون «ولحماً» معطوفاً على «خبزاً» بل لا يوجد مثله في كلام العرب. انتهى.
قال شهاب الدين: وإذا دل دليل على المعنى فلا يبالى بالفواصل، وأين فصاحة القرآن من هذا التركيب الذي ركبه هو حتى يقيسه عليه في المنع؟
الثاني: أن تكون «مستقراً» خبراً «لِكُلّ أَمْر» . وهو مرفوع، إلا أنه خُفِضَ على الجِوَارِ.
قاله أبو الفضل الرازي.
وهذا لا يجوز، لأن الجِوَارَ إنما جاء في النعت أو العطف على خلاف في إتيانه كما تقدم في سورة المائدة فكيف يقال به في خبر المبتدأ؟ هذا ما لا يجوز.
الثالث: أن خبر المبتدأ قوله: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ» أخبر عن {كُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} بأنه حكمة بالغة ويكون قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] جملة اعتراض بين المبتدأ أو خبره.
الرابع: أن الخبر مقدر؛ فقدره أبو البقاء: معمول به أو أتى وقدره غيره: بالغوه؛ لأن قبله {وكذبوا واتبعوا أهواءهم} أي وكل أمر مستقر، أي لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقال قتادة: وكل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير، والشر بأهل الشر. وقيل: كل أمر من خير أو شر مستقر قراره، فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار. وقيل: مستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعْرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقال مقاتل: لكل(18/232)
حديث منتهى. وقيل: ما قدر كائن لا محالة وقيل كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت، والباطل يَزْهَقُ فيكون ذلك تهديداً لهم وتسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو كقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر: 7] .
وقيل: كل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، والأنبياء صدقوا وبلغوا، كقوله تعالى: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] وكقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52 - 53] .
وقيل: هو جواب لقوله: «سِحْرٌ مُسْتَمِرّ» أي بل كل أمره مستقر.(18/233)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء} يعني أهل مكة من أخبار الأمم المكذبة والقرآن {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي مَنَاهِي.
قوله: «مزدجر» يجوز أن يكون فاعلاً ب «فيه» لأن «فيه» وقع صلة وأن يكون مبتدأ، و «فِيهِ» الْخبر. و «الدال» بدل من تاء الافتعال، وأصله مُزْتَجَرٌ، فقُلبت التاء دالاً.
وقد تقدم أن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي، والدال، والذال؛ لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس، فأبدلوها إلى حرف مجهورٍ قريب من التاء، وهو الدال. و «مزدجر» هنا اسم مصدر أي ازدجاراً، أو اسم مكان أي موضع ازدجار. ومعناه فيه نهي وعظة، يقال: زَجَرْتُهُ وازْدَجَرْتُهُ إذا نهيته عن السوء. وقرىء: مُزَّجَر بِقلب تاء الافتعال زاياً ثم أدغم. وزيد بن علي: مُزْجِر اسم فاعل من أَزْجَرَ صار ذا زَجْرٍ، كَأَعْشَبَ أي صار ذا عُشْبٍ.
والأنباء هي الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] ، لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخبر، وقال تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] أي بأمر غريب. وإنما يجب التثبُّت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} [هود: 49] . والمراد بالأنباء هنا أخبار المهلكين المكذّبين.(18/233)
وقيل: المراد القرآن.
قال ابن الخطيب: وفي (ما) وجهان:
الأول: أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مُزْدَجَرٌ.
الثاني: أنها نكرة موصوفة أي جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر.
قوله: «حكمة» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} كأنه قيل: ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء، وحينئذ يكون بدل كل من كل، أو بدل اشتمال.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو حكمة بالغةٌ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل، والإنذار لمن مضى، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة، أو إشارة إلى الساعة المقتربة. وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً ل {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [القمر: 3] . وقرىء «حِكْمَةً» بالنصب حالاً من «ما» .
قال الزمخشري: فإن قلت: إن كانت «ما» موصولة ساغ لك أن تنصب «حكمة» حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر؟
قلت: تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها. انتهى.
وهو سؤال واضح؛ لأنه يصير التقدير: جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً، وتنكير ذِي الحال قبيحٌ.
قوله: {فَمَا تُغْنِي النذر} يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً.
والنذر جمع نَذِير؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم. وكتب «تغن» إتباعاً للفظ الوصل، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين.
قال بعض النحويين: وإنما حذفت الياء من «تغني» حملاً لها على «لَمْ» فجزمت(18/234)
كما تجزم «لَمْ» . قال مكي، وهذا خطأ، لأن «لم» تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً، و «ما» تنفي الحال، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا.
فصل
المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله: {فَمَا تُغْنِي النذر} إن كانت «ما» نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] ويؤيد هذا قوله: «فَتَولَّ عَنْهُمْ» وإن كانت استفهامية فالمعنى: وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم.(18/235)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قوله: «فتول عنهم» أي أعرض عنهم. قال أكثر المفسرين: نسختها آية السيف. قال ابن الخطيب إن قول المفسرين في قوله: «فَتَوَلَّ» منسوخ ليس كذلك، بل المراد منه لا تُنَاظِرْهُمْ بالكلام.
قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الداع} «يوم» منصوب إما ب «اذكر» مضمرةً وهو أقربها. وإليه ذهب الرُّمَّانيُّ، والزمخشري وإما ب «يَخْرُجُونَ» بعده. وإليه ذهب الزمخشري أيضاً، وإما بقوله: «فَمَا تُغْنِ» ويكون قوله: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» اعتراضاً، وإما منصوباً بقوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ» . وفيه بعدٌ لبعده عنه.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] ويبتدأ بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الداع} فيكون منصوباً بقوله: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» . وهو ضعيف جداً؛ لأن المعنى ليس أمره بالتولية عنهم في يوم النفخ في الصور، وإمَّا منصوب بحذف الخافض أي فتول عنهم إلى يوم. قاله الحسين وضعف من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى أما اللفظ، فلأن إسقاط الخافض غير(18/235)
منقاس، وأما المعنى فليس تَوَلِّيهِ عنهم مُغَيًّا بذلك الزمان، وإما بانْتظرْ مضمراً، فهذه سبعة أوجه في ناصب «يوم» . قال القرطبي: أو منصوب ب «خُشَّعاً» أو على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدع الدَّاعِ. وقيل: أي تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة، وأبصرتهم يوم يدع الداع. وقيل: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم فإنهم يدعون إلى شيء نكر وينالهم عذاب شديد كقولك: لا تَسَلْ ما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم.
وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدع الداعي. وحذفت الواو من «يَدْعُ» خَطًّا اتباعاً للفظ كما تقدم في «تغن» و {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] وشبهه. والياء من «الدَّاع» مبالغة في التخفيف إجراء «لأل» مُجْرَى ما عاقبها وهو التنوين، فكما تحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبها.
قوله: «الدَّاعِي» معرف كالمنادي في قوله: {يَوْمَ يُنَادِ المناد} [ق: 41] ؛ لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل: إن منادياً ينادي وداعياً يدعو.
قيل: الداعي: إسرافيل ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس، قاله مقاتل.
وقيل: جبريل.
وقيل: ملك يوكَّل بذلك. والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا: جَاءَ رَجُلٌ فَقَال الرَّجُلُ. قاله ابن الخطيب.
قوله: {إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} العامة على ضم الكاف، وهو صفة على فُعُلٍ، وفُعُلٌ في الصِّفات عزيزٌ منه: أمرٌ نُكُرٌ، ورجل شُلُلٌ وناقة أُجُدٌ، ورَوضةٌ أُنُفٌ ومِشْيَةٌ سُجُحٌ.(18/236)
وقرأ ابن كثير بسكون القاف، فيحتمل أن يكون أصلاً، وأن يكون مخففاً من قراءة الجماعة.
وقد تقدم ذلك محرراً في العُسْر واليُسْر في سورة المائدة.
وسمي الشديد نكراً، لأن النفوس تنكره، قال مالك بن عوف:
4583 - أَقْدِمْ نَجَاحُ إنَّه يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكِرْ
وقرأ زيد بن علي والجحدري وأبو قِلاَبَة: نُكِرَ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، لأن «نكر» يتعدى؛ قال تعالى: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] .
فصل
المعنى إلى شيء منكر فظيع، لم ير مثله فينكرونه استعظاماً، قال ابن الخطيب: وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن المعنى إلى شيء نكر في يومنا هذا، لأنهم أنكروه أي يوم يدع الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يَخْرُجُونَ.
الثاني: أن المعنى منكر أي يقول القائل كان ينبغي أن لا يقع ولا يكون لأن المنكر من شأنه أن لا يوجد يقال: فلان ينهى عن المنكر، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع، لأنه يُرْدِيهم في الهاوية.
فإن قيل: ما ذلك الشيء النكر؟
فأجيب: بأنه الحساب، أو الجمع له، أو النشر للجمع.
فإن قيل: النشر لا يكون منكراً، فإنه إحياء، لأن الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يجري عليه لينكره.
فالجواب: أنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] .
قوله: «خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ» قرأ أبو عمرو والأخوان خاشعاً، وباقي السبعة خُشَّعاً، فالقراءة الأولى جارية على اللغة الفصحى من حيث إنَّ الفعلَ وما جرى مجراه إذا قدم على الفاعل وُحِّدَ تقول: تَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ، ولا تقول: يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ، وأنشد (- رحمةُ الله عليه -) :(18/237)
4585 - وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدْ
وقال آخر:
4585 - تَلْقَى الفِجَاجَ بِهَا الرُّكْبَانُ مُعْتَرِضاً ... أَعْنَاقَ بُزَّلِهَا مُرْخًى لَهَا الْجُدُلُ
وأما الثانية فجاءت على لغة طَيِّىءٍ، يقولون: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وقد تقدم القول على ذلك في المائدة والأنبياء ومثله قوله:
4586 - بِمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحَاحٍ كُعُوبُهُ ... وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ الْقَوَانِسَا
قيل: وجمع التكسير في اللغة في مثل هذا أكثر من الإفراد. وقرأ أبيّ وعبد الله: خَاشِعَةً على تَخْشَعُ هِيَ.
وقال الزمخشري: و «خُشَّعاً» على يَخْشَعْنَ أبْصَارُهُمْ. وهي لغة من يقول: أَكَلُوني البراغيثُ وهي طيىء.
قال أبو حيان: ولا يجري جمع التكسير مَجْرى جمع السلامة فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة. وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب فكيف يكون أكثر ويكون على تلك اللغة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفْراد مذكراً(18/238)
ومؤنثاً وجمع التكسير، قال: لأن الصِّفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها ذلك، والجمع موافق للفظها فكان أشْبَه.
قال أبو حيان: وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمعُ جمعَ سلامة نحو: مَرَرْتُ بقَوْمٍ كريمين آباؤهم والزمخشري قاس جمع التكسير على جمع السلامة وهو قياس فاسد يرده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد كما ذكره سيبويه ودل عليه كلام الفراء.
قال شهاب الدين: وقد خرج الناس قول امرىء القيس:
4587 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ ... يَقُولُون: لاَ تَهْلَكْ أَسًى وَتَجمَّلِ
على أن صحبي فاعل ب «وُقُوفاً» وهو جمع «واقف» في أحد القولين في «وُقُوفاً» .
وفي انتصاب «خاشعاً وخشعاً وخاشعة» أوجهٌ:
أحدها: أنه مفعول به وناصبه (يَدْعُ الدَّاعِ) . وهو في الحقيقة (صفة) لموصوف محذوف تقديره فَرِيقاً خَاشِعاً أو فَوْجاً خَاشِعاً.
والثاني: أنه حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) المتأخر عنه، ولما كان العامل متصرفاً جاز تقدم الحال عليه، وهو رد على الجَرْمي، حيث زعم أنه لا يجوز، ورد عليه أيضاً بقول العرب: (شَتَّى تَؤُوبُ الحَلْبةُ) «فشتى» حال من الحَلْبة، وقال الشاعر:
4588 - سَرِيعاً يَهُونُ الصَّعْبُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى ... إذَا بِرَجَاءٍ صَادِقٍ قَابَلُوا الْبَأسَا(18/239)
الثالث: أنه حال من الضمير في (عَنْهُمْ) . ولم يذكر مَكّيّ غيره.
الرابع: أنه حال من مفعول (يَدْعُو) المحذوف تقديره: يَوْمَ يَدْعُوهُمُ الدَّاعي خُشَّعاً؛ فالعامل فيها (يدعو) . قاله أبو البقاء. وارتفع أبصارهم على وجهين:
أظهرهما: الفاعلية بالصفة قبله.
الثاني: على البدل من الضمير المستتر في (خُشَّعاً) ؛ لأن التقدير خُشَّعاً هُمْ، وهذا إنما يأتي على قراءة خشعاً فقط.
وقرىء خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ على أن «خشعاً» خبر مقدم، و «أبصارهم» مبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال وفيه الخلاف المذكور من قبل كقوله:
4589 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَجَدْتُهُ حَاضِرَاه الجُودُ وَالْكَرَمُ
فصل
قال ابن الخطيب، لما حكى نصب «خاشعاً» ، قال: إنه منصوب على أنه مفعول بقوله: «يَدْعُو» أي يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي خُشَّعاً.
فإن قيل: هذا فاسد من وجوه:
أحدها: أن الشخص لا فائدة فيه؛ لأن الداعي يدعو كل أحدٍ.
ثانيها: قوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وهو باطل.
ثالثهما: قراءة خاشعة تبطل هذا!
نقول: أما الجواب عن الأول فإن قوله: {إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} يدفع ذلك، لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر، وعن الثاني المراد من الشيء النكر الحساب العسير يوم يدع الداعي إلى الحساب العسير خشعاً ولا يكون العامل في (يوم) يدعو «يَخْرُجُونَ» بل «اذكروا» و {فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] كقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدثر: 48](18/240)
ويكون: «يَخْرُجُونَ» ابتداء كلام، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول: يدعو الداعي قوماً خاشعاً أبصارهم.
(والخشوع) السكون كما قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات} [طه: 108] ، وخشوع الأبصار سكونها على حال لا تتلفّت يمنة ولا يسرة كما قال تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] . وقيل: خاشعة أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب.
قوله: (يَخْرُجُونَ) يجوز أن يكون حالاً من الضمير في: (أبصارهم) وأن يكون مستأنفاً. والأجداث القبور وقد تقدم في يس.
وقوله: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «يخرجون» أو مستأنفة. ومثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتَّمَوج. وقيل: معنى منتشر أي منبث حَيَارَى.
ونظيره قوله تعالى: {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] . والمعنى: أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها كالجراد ولا جهة تكون مختلطةً بعضُها في بعض، وذكر المنتشر على لفظ الجراد.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: المنتشر مطاوع نَشَرَهُ إذا أحياه، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] فكأنهم جراد متحرك من الأرض (و) يدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم.
وقال القرطبي: قوله (تعالى) : {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} وقال في موضع آخر: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون (إلى) أين يتجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضهم في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر، لأن الجراد المنتشر لها جهة يقصدها.
قوله: «مُهْطِعِينَ» حال أيضاً من اسم كان، أو من فاعل «يَخْرُجُونَ» عند من يرى تَعَدُّدَ الحال. قال أبو البقاء: و «مهطعين» حال من الضمير في «مُنتَشِرٍ» عند قوم، وهو(18/241)
بعيد؛ لأن الضمير في منتشر للجراد وإنما هو حال من فاعل «يخرجون» أو من الضمير المحذوف. انتهى.
وهو اعتراض حسن على هذا القول.
والإهطاع الإسراع وأنشد:
4590 - بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُم ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلَى السَّمَاعِ
وقيل: الإسراع مع مد العنق. وقيل: النظر. قاله ابن عباس وأنشدوا (- رحمة الله على من قال -) :
4591 - تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى ... وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
وقد تقدم الكلام على هذه المادة في سورة إبراهيم.
قال الضحاك: مضلين. وقال قتادة: عامدين. وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى المصوت.
قوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ» قال أبو البقاء: حال من الضمير في «مُهْطِعِينَ» .
وفيه نظر من حيث خُلُوُّ الجملة من رابط يربطها بذي الحال، وقد يجاب بأن الكافرين هم الضمير في المعنى فيكون من باب الربط بالاسم الظاهر عند من يرى ذلك كأنه قيل: يقولون هذا. وإنما أبرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفة القبيحة.
وقولهم: {هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعبٌ شديد.(18/242)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
قوله: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» مفعوله محذوف أي كذبت الرُّسُلَ؛ لأنهم لما كذبوا نوحاً فقد كذبوا جميع الرسل. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ إذ لو كانت منه لكان التقدير: كذبت قبلهم قومُ نوح عَبْدَنا فكذبوه ولو لفظ بهذا لكان تأكيداً؛ إذ لم يفد غير الأول، وشرط التنازع أن لا يكون الثاني تأكيداً، ولذلك منعوا أن يكون قوله:
4592 - ... ... ... ... ... ... ... ..... أَتَاكِ أَتَاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ
من ذلك.
وفي كلام الزمخشري ما يجوزه، فإنه أخرجه عن التأكيد، فقال: فإن قلت: ما معنى قوله «فَكَذَّبُوا» بعد قوله: «كَذَّبَتْ» ؟
قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا أي كذبوا تكذيباً عقب تكذيب كلما مضى منهم قَرْنٌ مُكَذِّبٌ تبعه قرن مُكَذِّبٌ. هذا معنى حسن يسوغ معه التنازع.
فصل
لما فرغ من حكاية كلام الكافر، ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال: كذبت قبلهم قوم نوح أي قبل أهل مكة. واعلم أن إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائزٌ وحسنٌ بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيحٌ عند أكثرهم، فلا يجوزون: كَذَّبُوا قَوْمُ نوحٍ ويجوزون: كَذَّبَتْ فما الفرق؟(18/243)
قال ابن الخطيب: لأن التأنيث قبل الجمع، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} بعد قوله: «كَذَّبَتْ» ؟
قال ابن الخطيب: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن قوله «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ.
الثاني: كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول، وينكر الرسالة، لأنَّه يقول: لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك.
الثالث: أن قوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} للتصديق والرد عليهم تقديره: كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق.
فإن قيل: لو قال: فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد؟
فالجواب: أن قوله: عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: «رسولنا» ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [الحاقة: 44 - 45] .
قوله: «وَقَالُوا مَجْنُونَ» مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا بتكذيبهم بل قالوا: مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ، فيكون قولهم: مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ.
قوله: «وَازْدُجِرَ» الدال في «ازدجر» بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ.
وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى؟ وَقَالوا «لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ» . قال ابن الخطيب: وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر من تقدمه، وأيضاً ترتب عليه قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ} ، وهذا الترتب في غاية(18/244)
الحسن، لأنهم لَمَّا زَجَرُوهُ وانْزَجَرَ هو عن دعائهم دعا ربه أَنِّي مَغْلُوبٌ.
قوله: «أَنِّي مغلوب» العامة على فتح الهمزة؛ أي دعا بأَنِّي مغلوبٌ، وجاء بهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال: إنِّي مغلوب وهما جائزان.
وعن ابن أبي إسحاق والأعمشِ - ورُوِيَتْ عن عاصمٍ - بالكسر إما على إضمار القول، أي فقال فسّر به الدعاء، وهو مذهب البَصْريّين، وإما إجراء للدعاء مُجْرَى القول. وهو مذهب الكوفيين.
فصل
في معنى مغلوب وجوه:
أحدها: غلبني الكفار فانْتَصْر لي منهم.
ثانيها: غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي على الدعاء عليهم، فانْتَصِرْ لي من نفسي. قاله ابن عطية. وهو ضعيف.
ثالثها: أن يقال: إِنَّ النبي لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احْتِمَالٌ وحِلْمٌ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً، ثم إنَّ يأسه يحصل والاحتمال والحلم يفر الناس مدة بدليل قوله لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الشعراء: 3] {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وقال لنُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] و [المؤمون: 27] فقال نوح: يا إِلهي إن نفسي غلبتني وقد أمَرْتَنِي بالدُّعاء عليهم فأهلكتهم فيكون معناه مغلوب بحكم البشرية أي غُلبت وعِيلَ صَبْرِي فانْتَصِرْ لي منهم لا من نفسي.
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه مُرَكَّبٌ من الوجهين. وهو أحسنهما.
وقوله: «فَانْتَصِرْ» أي فانتصر لِي أو لنفسك، فإِنهم كفروا بك، أو انتصر للحَقِّ.
قوله: (فَفَتَحْنَا) تقدم الخلاف في فتحنا في الأنعام. والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها وأن للسماء أبواب تُفْتَحُ وتُغْلَقُ.(18/245)
قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي المَجَرَّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر. وقيل: هذا على سبيل الاستعارة؛ فإِن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل: «جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاء» .
وفي قوله: «فَفَتَحْنَا» بيان بأن الله انْتَصَرَ منهم، وانتقم بماء لا بجُنْدٍ أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله بمَطْلُوبِهِمْ.
قوله: (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) في الباء وجهان:
أظهرهما: أنها للتعدية ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المُفْتَتَحِ بها، كما تقول فَتَحْتُ بالمَفَاتِيحِ.
والثاني: أنها للحال أي فتحناها ملتبسةً بهذا الماء والمُنْهَمرُ: الغزير النازل بقوة. وأنشد امرؤ القيس:
4593 - رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى ... فِيهِ شُؤْبُوب جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ
واستعير ذلك في قولهم: هَمَرَ الرَّجُلُ في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع، وفلانٌ يُهَامِرُ الشيء أي يحرفه، وهَمَّرَ لَهُ من ماله أعطاه بكَثْرَة.
والمنهمر الكثير قاله السُّدِّيُّ (رحمة الله عليه) قال الشاعر:
4594 - أَعَيْنَيَّ جُودَا بالدُّمُوعِ الهَوَامِرِ ... عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معَدٍّ وَحَاضِرِ
قال المفسرون: معنى منهمر أي منصب انْصباباً شديداً. قال ابن عباس: منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوماً. وقيل: ثمان.
قوله: «وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ» قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً. والباقون مثقلاً.(18/246)
وقوله: «عُيُوناً» فيه أوجه:
أشهرها: أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من الفاعلية. ومنعه بعضهم على ما سيأتي.
وقوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، لما ذكر في نظيره مراراً.
الثاني: أنه منصوب على البدل من الأرض، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله: «الأُخْدُودِ النَّارِ» ، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر.
الثالث: أنه مفعول ثان؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً.
الرابع: أنها حال، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ، وكونها حالاً مقدرةً لا مقارنةً. قال ابن الخطيب: قوله {وفجرنا الأرض عيوناً} فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل: وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً.
وقال: وفجرنا الأرض عيوناً، ولم يقل: فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة، وقال: أبواب السماء ولم يقل: أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري. أما قوله تعالى: {فَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} فلا غنى عنه لأن قول القائل: فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا.
فصل
قال ابن الخطيب: العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر(18/247)
إلى قرينةٍ عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفَوَّارَةِ إلا بقرينة، مثل شَرِبْتُ مِنَ العَيْنِ واغْتَسَلْتُ مِنْهَا ونحوه.
فإِن قيل: من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة؟ .
قلنا: لأن الأفعال أخذت منه، ولم تؤخذ من اليُنْبُوع، فيقال: عَانَهُ يَعِينُهُ إذا أصابه بالعين وعَايَنهُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً.
قال عُبَيْدُ بْنْ عُمَيْرٍ: أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تُخْرِجَ ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مُرًّا إلى يوم القيامة.
قوله: «فَالتَقَى المَاءُ» لما كان المراد بالماء الجنس صَحَّ أن يقال: فَالْتَقَى الماءُ كأنه قال: فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض. وهذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والجَحْدَريُّ ومُحَمَّد بن كَعْب وتروى عن أمير المؤمنين أيضاً: «المَاءَانِ» تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين. وقرأ الحسن أيضاً: «المَاوَانِ» بقلبها واواً، وهي لغةَ طيِّىءٍ. قال الزمخشري كقولهم: عِلْبَاوَانِ، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإِلحاق.
وروي عنه أيضاً المَايَان بقلبها ياء، وهي أشدُّ مما قبلها.
قوله: «قَدْ قُدِرَ» العامة على التخفيف. وقرأ ابن مِقْسِم وأبو حيوة بالتشديد. هما لغتان قرىء بهما في قوله: {قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 3] {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] كما سيأتي.
فصل
قيل: معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أُمّ الكتاب. وقال مقاتل: قدَّر الله أن يكون الماءانِ سواءً، فكانا على ما قَدَّره. وقيل: على مَقَادِير؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر، ومنهم من قال: ماء الأرض. ومنهم من قال: كانا متساوِيَيْن، فقال على مقدار كان وقال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا.(18/248)
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور (مقدر) . وفيه رد على المنجِّمين الذين يقولون: إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قُدِرَ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مُغْرَقُونَ.
قوله: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي سفينة ذاتِ ألواح. قال الزمخشري: وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابَها وتؤدي مُؤَدَّاها بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها ونحوه:
4595 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلَكن قَمِيصي مَسْرُودَة مِنْ حَدِيدِ
أراد ولكن قميصي درع، وكذلك:
4596 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلَوْ فِي عُيُون النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد ولو في عيون الجرار، ألا ترى أنك لو جمعت بين الصفة وبين هذه الصفة، أو بين الجرار والدرع وهاتين الصفتين لم يصح. وهذا من فصيح الكلام وبَدِيعِهِ.
والدُّسُر، قيل: المسامير جمع دِسَارٍ، نحو كُتُب في جمع كِتاب وقال الزمخشري: جمع دِسَارة، وهو المِسْمَارُ فعالة من دسره إذا دفعه، لأنه يدسر به منفذه.
وقال الراغب: الواحد دَسْرٌ فيكون مثل سَقْف وسُقُف وقال البغوي: واحدها دِسَار ودَسِيرٌ.(18/249)
وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر (و) دَسَرَهُ بالرمح. ومُدْسِر مثل مُطْعِن وروي: ليس في العنبر زَكاة إنَّما هُوَ شَيءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ أي دفَعَهُ.
وقيل: إنها الخيوط التي تشد بها السفن. وقيل: هي عراض السفينة وقيل: أضلاعها. وقال الحسن الدسر صدر السفينة، سميت بذلك لأنها تَدْسُرُ الماء بجؤجؤها أي تدفع. وقال الضحاك: الدسر أَلْوَاحُ جَانِبَيْهَا.
قوله: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا» أي بمَرْأى منَّا. وقال مقاتل: بأعيننا أي بحفظنا، لقولك: اجْعَل هذا نصب عينك. وقيل: بالأعين النابعة من الأرض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة. فقوله: بأعيننا أي ملتبسة بحفظنا، وهو في المعنى كقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] .
وقرأ زيد (بن) علي وأبو السَّمَّال بأَعْيُنَّا بالإدغام. وقال سفيان: معناه بأمرنا.
قوله: (جزاء) منصوب على المفعول له، نَاصبُهُ (فَفَتَّحْنَا) وما بعده.
وقيل: منصوب على المصدر إما بفعل مقدر أي جَازَيْنَاهُم جَزَاءً، وإما على التجوز بأن معنى الأفعال المتقدمة جازيناهم بها جزاءً.
قوله: {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} العامة على كُفِرَ مبنيًّا للمفعول، والمراد بمَنْ كُفِرَ: نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو الباري تعالى.
وقرأ مُسَيْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ كُفْرَ بإسكان الفاء، كقوله:
4597 - لَوْ عُصْرَ مِنْهُ المِسْكُ وَالبَانُ انْعَصَرْ ...(18/250)
وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة: كَفَرَ، مبنياً للفاعل.
والمراد ب «مَنْ» حينئذ قَومُ نوح. و «كَفَر» خبر كان. وفيه دليل على وقوع خبر كان ماضياً من غير قد. وبعضُهمْ يقول: لا بد من (قد) ظاهرةً أو مضمرة.
ويجوز أن تكون كان مزيدة، وأما كفرهم ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «كَفَرَ» مثل شَكَرَ تعدى بحرف وبغير حرف، يقال: شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَهُ، قال تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] .
وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} [البقرة: 256] .
الثاني: أن يكون من الكفر لا من الكُفْرَان أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه، أو جزاء لمن كفر به.
فصل
المعنى فعلنا به من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لمن كفر به وجُحِدَ أمره وهو نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: «مَنْ» بمعنى «ما» أي جزاء لما كان كفر من أيادي ونقمة عند الذين غرقهم، وجزاء لما صنع بنوحٍ وأصحابه.
واللام في «لِمَنْ» لام المفعول له. والجزاء هنا بمعنى العقاب أي عقاباً لكفرهم.
قوله: {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} ضمير تركناها إمَّا للقصة أو للفِعْلَة التي فعلناها آية يعتبر بها، أو السفينة. وهو الظاهر. والمعنى تركناها أي أبقاها الله بباقِرْدى من أرض الجزيرة آيةً أي عبرة حتى نظرت إليها أوائلُ هذه الأمة، وكانت على الجُوديِّ. وقيل: بأرض الهِنْدِ، ومعنى تركناها أي جعلناها، لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة.(18/251)
قوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أصله «مُدْتَكر» فأبدلت التاء دالاً مهملة، ثم أبدلت المعجمة مهملة لمقارنتها وقد تقدم هذا في قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] . وقد قرىء «مُدْتَكِرٍ» بهذا الأصل.
وقرأ قتادة فيما نقل عنه أبو الفضل - مُدَكَّرٍ - بفتح الدال مخففة وبتشديد الكاف، من دَكَّر بالتشديد أي دَكَّر نَفْسَه أو غَيرَه بما بمضى من قصَصِ الأولين.
ونقل عنه ابن عطية كالجماعة إلا أنه بالذَّال المعجمة، وهو شاذ لأن الأَوَّلَ يُقْلَبُ للثَّانِي، لا الثاني للأول.
روى زُهَيْرٌ عن أبي إِسْحَاقَ أنه سمعَ رجُلاً يسأل الأسود: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أو مِنْ مذَّكِرٍ، قال: سمعت عبد الله يقرأها: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دالاً.
فصل
وهذه الآية إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تَمَّ، ولم يبق إلا جانب المُرْسَلِ إِليهم بأن يتفكروا ويهتدوا. وهذا الكلام يصلح أن يكون حثاً وأن يكون تخويفاً وزجراً، وقال ابن الخطيب: مُدَّكِرٌ مُفْتَعِلٌ من ذَكَرَ يَذْكُرُ وأصله مُذْتكرٌ. وقرأ بعضهم بهذا الأصل. ومنهم من يقلب التاء دالاً. وفي قوله: مدّكِر إشارة إلى قوله: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] أي هل ممن يتذكر تلك الحالة؟ وإما إلى وضوح الأمر كأنه جعل للكل آيات الله فنَسُوها، فهل من متذكر يتذكر شيئاً منها؟ .
قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} كان الظاهر فيها أنها ناقصة (و) «فَكَيْفَ» خبر مقدم. وقيل: يجوز أن تكون تامة، فتكون «كَيْفَ» في محل نصب إما على الظرف وإِمَّا على الحال كما تقدم تحقيقه في البقرة.(18/252)
فصل
وحذفت ياء الإضافة من «نُذُر» كما حذفت ياء «يَسْر» في قوله تعالى: {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] ؛ وذلك عند الوقف، ومثله كثير، كقوله: {فَإِيَّايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] {وَلاَ يُنقِذُونَ} [يس: 23] {ياعباد فاتقون} [الزمر: 16] {وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقرىء بإثبات الياء في: «عَذَابِي ونُذُرِي» .
قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن} هيأناهُ «لِلذِّكْرِ» من قولهم: «يَسَّرَ فَرَسَهُ» أي هَيَّأَهُ للركوب بإِلجامه، قال:
4598 - فَقُمْتُ إِلَيْهِ باللِّجَامِ مُيَسِّراً ... هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
وقيل: سهلنا القرآن ليتذكر ويعتبر به. وقال سعيد بن جبير: يسرناهُ للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن.
وقوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مُتَّعِظٍ بمواعظه.(18/253)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
ذكر ههنا: {فكيف كان عذابي ونذر} مرتين، فالأول سؤال، كقول المعلم للمتعلم: كَيْفَ المَسْأَلَةُ الفُلاَنِيَّةُ؟ ثم بين فقال: «إِنَّا أَرْسَلْنَا» ، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل.
فإن قيل: قال في قوم نوح: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يقل في عاد: كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإِضافة؛ لأنك إذا قلت: «بَيْتُ اللَّهِ» لا يفيد ما يفيد قولك: الكَعْبَةُ، وكذلك إذا قلت: رَسُولُ اللَّهِ وقلت: محمد «فَعَادٌ» اسم علمٍ للقوم.
ولا يقال: قَوْم هُودٍ أعرف لوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود في قوله: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] ولا يوصف الأظهر بالأخفى، والأخصُّ بالأعمِّ.
ثانيهما: أن قوم هو (واحد وعَادٌ قيل:) إنه لفظٌ يقع على أقوام، ولهذا قال(18/253)
تعالى: {عَاداً الأولى} [النجم: 50] لأنا نقول: أما قوله تعالى: {لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] فليس ذلك صفة، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المُبْدَل (منه) في المعرفة، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة. وأما عاداً الأولى فهو لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول: مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي واللَّهُ الكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الكَعْبَة المُشَرَّفَة، لبيان الشرف، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك: دَخَلتُ الدَّار المَعْمُورَة مِنَ الدَّارَيْنِ، وخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ؛ فتبين المقصود بالوصف.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: فكذبوا هوداً كما قال فكذبوا عَبْدَنَا؟ .
فالجواب: إِما لأن تكذيب قوم نوح أبلغُ لطول مقامه فيهم وكثرة عِنَادِهِمْ، وإما لأن قصة عادٍ ذكرت مُخْتَصَرَةً.
قوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل: الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي: أصله «صَرَّراً» من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين. ومثله: كَبْكَبَ وكَفْكَفَ. وتقدم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها.
وقال ابن الخطيب: الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.
فصل
{يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه. قيل: ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل: إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟! وقد جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.(18/254)
فالجواب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «أتاني جبريل فقال:» إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد «
وقال: يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا: إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِىء سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال: الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف.
ثم زاده بياناً بقوله: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42] فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها.
قوله: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء. وقيده أبو حيان. وقد قرىء قوله: {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16] بسكون الحاء وكسرها، وتنوين «أيام» عند الجميع ما تقدم تقريره، و «مُسْتَمِرٍّ» صفة «ليوم» أو «نحس» . ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة. قال الضحاك: كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال: مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال: {فَذُوقُواْ} [آل عمران: 106] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا.(18/255)
قوله: (تَنْزِعُ النَّاسَ) في موضع نصب إما نعتاً ل «رِيحاً» وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة؛ ويجوز أن تكون مستأنفة. وقال: «الناس» ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ.
فصل
قال تعالى هنا: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} وقال في السجدة: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] وقال في الحاقة: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] . والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله: {يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] . وقوله «مُسْتَمِرّ» يفيد ما يفيده الأيام؛ لأن الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عَنْهُ الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز.
قوله: «كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ» حال من الناس مقدرةً، و «مُنْقَعِرٍ» صفة للنَّخل باعتبار الجنس، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] . وقد مضى تحقيق اللغتين فيه.
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نُهَيْكٍ: «أَعْجُزُ» على وزن أفْعُلٍ نحو: ضَبُع وأَضْبُع.
وقيل: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره: تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ. قاله مَكِّي.
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب.
والأعجاز جمع عَجُز وهو مؤخر الشيء، ومنه العَجْز، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمُنْقَعِرُ: المنقلع من أصله (يقال) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ.(18/256)
وقَعَرْتُ البئْرَ: وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً.
فصل
تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ. وروي: أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أصولها. وقال الضحاك: أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض وقال: أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب: تَنْزِعُهُمْ بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر فينقعروا.
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح.
قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ رجلاً بعد رجلٍ، فقالت امرأة عاد:
4599 - ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ ... نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ ... لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ ... رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.
فصل
(قال) المفسرون: ذكر النخل هنا، وقال: «منقعر» وأنثه في الحاقّة، وقال: أعجاز(18/257)
نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله: مُسْتَمِرّ، ومُنْهَمِر، ومُنْتَشِر.
وقيل: إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد، ومعناه الجمع، فيقال: نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ.
فإِذا قيل: «منقعر أو خاو أو باسق» فبالنظر إلى اللفظ، وإذا قيل: مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى.
قال أبو بكر بن الأنباري: سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال: ما الفرق بين قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] وقال: {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] ، وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} ؟ فقال: كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً.
قال ابن الخطيب: ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة، قال: {والنخل بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال: «نَخْلٍ خَاوِيَةٍ» و «نَخْلٍ مُنْقَعرٍ» فحيث قال: «مُنْقَعِرٍ» كان المختار ذلك، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول؛ لأنه ورد عليه القَعْر، فهو مَقْعُورٌ، و «الخَاوِي والباسق» فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى، تقول: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ.
وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة، لأن البُسُوقَ اسم قام بها، وأما الخاويةُ فهو من باب «حَسَنِ الوَجْهِ» ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال: نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} قال أكثر المفسرين:
إن «النُّذُر» ههنا جمع «نَذِير» الذي هو مصدر بمعنى الإِنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال: فكيف أنواعُ عَذَابِي وَقَالَ: إِنذاري؟! .
قال ابن الخطيب: هذا إشارة إِلى غَلَبَةِ الرحمة، لأن الإِنذار إِشفاقٌ ورحمةٌ فقال:(18/258)
الإنذاراتُ التي هي نِعَمٌ ورحمة تَوَاتَرَتْ، فلما لم ينفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعمُ كثيرةً والنقمةُ واحدةً.(18/259)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله: {كَذَّبَتْ (ثَمُودُ بالنذر} اعلم أَنَّه تعالى لم يقل في قوم نوح: «كَذَّبْت قَوْمُ نُوحِ) بالنذر» وكذلك في قصة عاد. لأن المراد بقوله: {كذبت قبلهم قوم نوح} أن عادتهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً على مذهبهم وعادتهم.
وإنما صرح ههنا، لأن كل قوم يأتون بعد قوم، فالمكذِّب المتأخر يكذب المرسلينَ جميعاً حقيقةً، والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزم منه تكذيب من بعده تبعاً، ولهذا المعنى قال في قوم نوح: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] وقال في عاد: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} [هود: 59] فذكر بلفظ الجمع المُسْتَغْرق ثم إنه تعالى قال عن نوح: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] ولم يقل: كَذَّبُوا رُسُلَكَ إشارةً إلى ما صدر منهم حقيقة لا إلى ما لزم منه، وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} إن قلنا: إن النذر هم الرسل فهو كما تقدم، وإن قلنا: إن النذر هي الإنذارات فنقول: قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم.
وأما ثمود فأُنْذِرُوا وأُخْرِجَ لهم ناقة من صخرةٍ وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإِنذاراتٍ وآياتٍ ظاهرة فصرَّح بها.
قوله: «أبَشَراً» منصوب على الاشتغال وهو الراجح، لتقدم أداة هي بالفعل أولى. و «مِنَّا» نعت له. و «وَاحِداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نعت «لِبَشَراً» إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على(18/259)
الصريحة. ويجاب: بأن «مِنَّا» حينئذ ليس وصفاً بل حال من «وَاحِداً» قُدِّمَ عليه.
والثاني: أنه نصب على الحال من هاء «نَتَّبِعُهُ» . وهو يَخْلُصُ من الإعراب المتقدم، إِلا أنَّ المرجع لكونه صفة قراءتهما مرفوعين: {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} على ما سيأتي، فهذا يرجّح كون «واحداً» نعتاً «لبَشَرٍ» لا حالاً.
وقرأ أبُو السَّمَّال فيما نقل الهُذَلِيُّ والدَّانِيّ برفعهما على الابتداء، و «وَاحِدٌ» صفته و «نَتَّبِعُهُ» خبره.
وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً فيما نقل ابن خالويه، وأبو الفضل وابن عطية: برفع «بشر» ونصب «واحداً» وفيه أوجه:
أحدها: أن يكون «أَبَشَرٌ» مبتدأ وخبره مضمر تقديره: أَبَشَرٌ منا يُبْعَثُ إِلينا أو يُرْسَل. وأما انتصاب «واحداً» ففيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من الضمير المستتر في (مِنَّا) لأنه وقع نعتاً.
الثاني: أنه حال من هاء «نَتَّبِعُهُ» . وهذا كله تخريج أبِي الفضل الرَّازيِّ.
والثاني: أنه مرفوع بالابتداء أيضاً، والخبر «نَتَّبِعُهُ» و «واحداً» حال على الوجهين المذكورين آنفاً.
الثالث: أنه مرفوع بفعل مضمر مبني للمفعول تقديره: أَيُنَبَّأُ بَشرٌ، و (مِنَّا) نعت و (واحداً) حال أيضاً على الوجهين المذكورين آنفاً.
وإليه ذهب ابن عطية.
فصل
قال ابن الخطيب: والحكمة في تأخير الفعل في الظاهر أن البليغ يُقَدِّمُ في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر والقوم كانوا يريدون بيان كونهم محقِّين في ترك الاتّباع، فلو(18/260)
قالوا: أَنَتَّبِعُ بَشَراً أمكن أن يقال: نعم اتَّبِعُوهُ، وماذا يمنعكم من اتباعه؟ فإذا قدمنا حاله وقالوا: هو من نوعنا بشر من صِفَتِنَا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يَعْلَمُ ما لا نَعْلَمُ أو يَقْدِرُ على ما لا نَقْدِرُ وهو واحد وليس له جندٌ ولا حَشَمٌ ولا خَدَمٌ ولا خيلٌ وهو وحيد ونحن جماعة فكيف نتبعه؟! فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع عن اتباعه. وفي الآية إشاراتٌ إلى ذلك، منها تنكيره حيث قالوا: أَبَشَراً، ولم يقولوا: أَرَجُلاً، ومنها: قولهم: مِنَّا وهو يحتمل أمرين:
أحدهما: من صنفنا ليس غريباً.
والثاني: «مِنَّا» أي تَبَعنَا؛ لأن «مِنْ» للتبعيض والبعض يتبع الكل، لا الكل يتبع البعض.
ومنها قولهم: «واحداً» ، وهو يحتمل أمرين أيضاً:
أحدهما: وحيداً إشارةً إلى ضعفه.
وثانيهما: واحداً أي هو من آحاد النَّاس أي هو ممَّنْ ليس بمشهور بحَسَبٍ ولا نَسَبٍ، إذا حَدَّث لا يُعْرَفُ ولا يمكن أن يقال عنه: قَال فلانٌ، بل يقال: قال واحدٌ، وذلك غاية الخُمول، أو لأن الأرذَلَ لا يَنْضَمُّ إليه أحد.
قوله: {إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ} خَطَأٍ، وذهاب عن الصواب «وَسُعُرٍ» (قال ابن عباس: عذاب. وقال الحسن: شدة العذاب. وقال قتادةً: عَنَاء) . «وسُعُر» يجوز أن يكون مفرداً أي جُنُون يقال: نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ أي كالمجنونة في سيرها، قال الشاعر (- رحمةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -) :
4600 - كَأَنَّ بِهَا سُعْراً إذَا السُّعْرُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
وأن يكون جمع «سَعِيرٍ» وهو النار. قاله سفيان بن عُيَيْنة. والاحتمالان منقولان عنه.(18/261)
والمعنى: إِنَّا إذَنْ لَفِي عَنَاءٍ وعذاب مما يلزمنا مِنْ طاعته. وقال وَهْبٌ: معناه: بُعْدٌ عن الحَقِّ.
قوله: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} معناه أأنزل عليه الذكر، وهُو الوحي «مِنْ بَيْنِنَا» حال من هاء «عليه» ، أي ألقي عليه منفرداً من بيننا أي خصص بالرسالة من بين آلِ ثمود وفيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً. وهو استفهام بمعنى الإنكار.
قوله: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} الأشِرُ البَطِرُ، يقال: أَشِرَ يأشَرُ أَشَراً فَهُو أشِرٌ كَفِرحَ، وآشِرٌ كَضَارِبٍ وأَشْرَانُ كَسَكْرَانَ، وأُشَارَى كَأُسَارَى.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ: {بل هو الكَذَّابُ الأَشَرُّ} ، {مَنِ الكَذَّابُ الأَشَرُ} ؟ بفتح الشين وتشديد الراء، جَعَلَهُمَا أفعلَ تَفْضِيلٍ. وهو شاذ، لأنه (لم) يحْذف الهمزة من لفظ الخَيْرِ والشّرّ في «أفعل» التفضيل، تقول: زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرو وشَرٌّ مِن بَكْرٍ، ولا تقول: أخْيَرُ ولا أَشَرّ إلاَّ في نُذُورٍ كهذه القراءة وكقول رؤبة:
4601 - بِلاَلُ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الأَخْيَرِ ... وتثبت فيهما في التعجب نحو: ما أَخْيَرَهُ ومَا أَشَرَّهُ. ولا يحذف إلى في نُدَورٍ عكس أفعل التفضيل، قالوا: مَا خَيْرَ اللَّبَنَ للصّحيح، وَمَا شَرَّهُ لِلْمَبطُونِ. وهذا من محاسن الصِّناعة. وقرأ أبو قَيْس الأَوْدِيُّ ومجاهدٌ الحرف الثاني الأشُرُ بثلاث ضمات، وتخريجها على أن فيه لغةً أُشُر بضم الشين كحُذُر وَحَذُر، ثم ضمت الهمزة إِتباعاً لضمِّ الشين. ونقل الكسائي عن مجاهد ضم الشين وفتح الهمزة على أصل تِيكَ اللغة كَحَذُرٍ.(18/262)
فصل
(الأَشر) التحيّر والنشاط، يقال: فَرَسٌ أَشِرٌ إذا كان مَرِحاً نَشِطاً. قال امرؤ القيس يصف كلباً:
4602 - فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِنٌ ... سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِرْ
أَلَصّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضُّلُوعِ ... تَبُوعٌ أَرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ
(و) قيل: إنه المتعدي إلى منزلةٍ لا يستحقها. وقال ابن زيد وعبد الرحمن بن حماد: الأَشِرُ الذي لا يُبَالِي ما قال.
وفي قراءة أبي قلابة بفتح الشين وتشديد الراء فالمعنى أَشَرُّنَا وأَخْبَثُنَا.
فإن قيل: قولهم: بل هو كذاب يستدعي أمراً مضروباً عنه فما هو؟
فالجواب: قولهم: أألقي للإنكار فكأنهم قالوا: مَا ألقي، ثم إنَّ قولَهم: أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بِنبِيٍّ، وقول القائل: ليس بِنبي لا يلزم منه أنه كاذب فكأنهم قالوا ليس بنبي، ثم قالوا: بل هو ليس بصادقٍ.
قوله: «فَسَيَعْلَمُونَ» قرأ ابنُ عامر وحمزةُ بالخطاب. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حكاية قول صالح لقومه.
والثاني: أنه خطاب الله على جهة الالتفات. والباقون بياء الغيبة جَرْياً على الغيب قبله في قوله: «فَقَالُوا أَبَشراً» ، واختارها مَكِّيٌّ، قال: لأن عليها الأكثر.
و «غَداً» ليس المراد به الذي يلي يومك بل الزمان المستقبل، كقول الطِّرمَّاح (رحمةُ الله عليه ورضاه) :
4603 - أَلاَ عَلِّلاَنِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوَائِحِ ... وَقَبْلَ اضْطِرَابِ النَّفْسِ بَيْنَ الجَوَانِحِ
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ ... إذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ(18/263)
والمعنى «سَيَعْلَمُون غَداً» حين يَنْزِلُ عليهم العذاب. قال الكلبي: يعني يوم القيامة. وذكر الغد للتقرِيبِ على عادة الناس يقولون: إنَّ مَعَ الْيَوْم غَداً.
فصل
الكذَّاب فعال صيغة مبالغة، لأن المنسوب إلى الشيء لا بدَّ له من أن يكثر من مزاولة الشيء، فإنَّ من خاط يوماً لا يقال له: خيَّاط فالمبالغة ههنا إما في الكثرة بأن يكون كثيرَ الكذب، وإمّا في الشدة أي شديد الكذب، يقول ما لا يقبله العقل. ويحتمل أن يكونوا وصفوه بذلك لاعتقادهم الأمرين جميعاً. وقولهم «أشِرٌ» إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة وإنما هو استغنى فبَطَرَ وطلب الرِّئَاسَةَ.
قوله: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} أي مُخْرِجُوهَا من الهَضَبَة التي سألوا.
وأتى باسم الفاعل والإضافة مبالغة في حقيقته كأنه وقع «فِتْنَةً» مفعول به، أو مصدر من معنى الأول أو في موضع الحال.
روي
أنهم
تعنتوا
على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقةً حمراءَ عُشَرَاءَ، فقال الله: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ} محنةً واختباراً؛ فقوله: «فتنة» مفعول له؛ لأن المعجزة فتنة؛ لأن بها يتميز المُثَابُ من المعذب، فالمعجزة تصديق، وحينئذ يفترق المصدِّق من المُكَذِّب.
أو يقال: إخراج الناقة من الصخرة معجزة، ودورانها بينهم، وقسمة الماء كان فتنةً، ولهذا قال: «إنَّا مُرْسِلُواْ» ولم يقل: مُخْرِجُو.
قوله: «فَارْتَقِبْهُمْ» أي انتظر ما يصنعون «وَاصْطَبِرْ» أي اصبر على أَذَاهُمْ وأصل الطاء في «اصْطَبِرْ» «تاء» فتحولت طاءً، لتكون موافقةً للصاد في الإطباق.
قوله: «وَنَبِّئْهُمْ» أي أخبرهم {أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي بين آل ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم، كقوله تعالى: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فالضمير في (بينهم) لقوم صالح والناقة فغلّب العاقل.
وقرأ العامة: قِسْمة بكسر القاف - ورُوِيَ عن أبي عمرو فَتْحُها - وهو قياس(18/264)
المرة. والمعنى: أن الماءَ مقسومٌ بَيْنَهُمْ فوصف بالمصدر مبالغة، كقولك: فُلانٌ عَيْنُ الكرم.
قوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي يحضره من هُو له، فالناقة تحضر الماء يوم وُرُودِهَا وتغيب عنهم يوم وُرُودِهِمْ. قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غَبِّها عنهم فيشربون، ويحضرون اللبن يوم ورودها فيحتلبون. والشِّرْبُ - بالكسر - الحظ من الماء. وفي المثل: آخرها أقلُّها شِرْباً وأصله من سقي الإناء، لأن آخرها يرد وقد نَزفَ الحَوْضُ.
واعلم أن قسمة الماء إما لأن الناقة عظيمةُ الخَلْق ينفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإما لقلة الماء فلا يحملهم، وإما لأن الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق منهم فيوم وُرُودِ الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النُّقْصَان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء.
رُوِيَ أنهم كانوا يكتفون في يوم ورودها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها، وظاهر قوله تعالى: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} يعضد الوجه الثالث، وحَضَر واحْتَضَرَ بمعنًى واحد.
قوله: «فَنَادَوْا صَاحِبَهْم» قبله محذوف أي فتمادوا على ذلك ثم عزموا على عقرها فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر. و «تعاطى» مطاوع عَاطَى كأنهم كانوا يتدافعون ذلك حتى تولاه أشقاها. والمعنى فنادوا صاحبهم نداء المُسْتَغِيث وهو قُدار بنُ سَالف وكان أشجعهم. وقيل: كان رئيسهم. فتعاطى أي آلةَ العقر أو الناقةَ، أو هو عبارة عن الإقدام على الفعل العظيم. وتحقيقه أن الفعلَ العظيمَ يتبرأ منه كُلُّ أحد ويعطيه صاحبَه أو جَعَلُوا لَهُ جُعْلاً فَتعَاطَاهُ.
قال مُحَمَّدُ بن إسْحَاقَ: كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورَغَتْ رغاة واحدة، ثم نَحَرَها.
قال ابن عباس: كان الذي عقرها أحمر أشقر أكشف أقعى يقال له: قُدار بن سالف. والعرب تسمي الجَزَّار قُدَاراً تشبيهاً بقُدار بْنِ سالف مشؤوم آل ثمود، قال مهلهل:
4604 - إنَّا لَنَضْرِبُ بالسُّيُوف رُؤُوسَهُمْ ... ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدَّامِ(18/265)
قوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يريد صيحة جبريل كما تقدم {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} العامة على كسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذه حظيرةً من حَطَب وغيره.
وقرأ أبو السَّمال وأبو حَيْوة وأبو رجاء وعمرُو بن عُبَيْد بفتحها. فقيل: هو مصدر أي كَهَشِيم الاحْتِظَارِ.
وقيل: هو اسم مكان. وقيل: هو اسم مفعول وهو الهَشِيمُ نفسه، ويكون من باب إضافة الموصوف لصفته كمَسْجِدِ الجَامِعِ. والحَظْر المَنْع، وقد تقدم تحريره في «سُبْحَانَ» .
فصل
«كان» في قوله «فكانوا» قيل: بمعنى صاروا كقوله:
4605 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... كَانَت فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت. والهشيم: المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشِمٌ لهشمه الثَّرِيد في الجفان غير أن الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس.
قال المفسرون: كانوا كالخشب المُنْكَسِرِ الذي يخرج من الحظائر بدليل قوله: {هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح} [الكهف: 45] وهو من باب إقامة الصّفة مقَام الموصوف.
وتشبيههم بالهشيم إما لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض، كما ينضم الرفقاء عند الخوف يدخل بعضهم في بعض، فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحَطَبَ يصف شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه.
ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوَقِيد كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وقوله: {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] .(18/266)
فصل
ذكر في الآية مباحث:
منها: قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب، وذكرها هنا قبل بيان العذاب، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فَلِلْبَيَانِ كقول العارف بحكايته لغير العارف: هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ أَمْرُ فُلان؟ وغرضه أن يقول: أخبرني عنه. وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل: ضرب فُلاَنٌ أَيَّ ضَرْب وأيّما ضرب، وتقول: ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أي قويًّا. وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم (هود) فإنه كان مختصاً بهم.
فصل
اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمِّ وجه؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهةً بحال محمد - عليهما الصلاة والسلام - لأنه أتى بأمر عجيب أَرْضِيٍّ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء، لأن عيسى عليه الصلاةُ والسَّلاَمُ، أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلاً لها وموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - انقلبت عصاه ثُعْبَاناً فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو، وصالح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد، وليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو والنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بأعجبَ من الكُلِّ، وهو التصرف في الجرْم السَّماويِّ الذي يقول المشرك: لا وصول لأحد إلى السماء، وأما الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلُّ واحد منها صورة الأخرى، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدَمِيٌّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح - عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - التي هي أتم من معجزة سَائر الأنبِياء غير محمد - عليه الصَّلاة والسلام -.
فصل
من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة. ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح، قال: من كسر جعله الفاعل، ومن فتح(18/267)
جعله المفعول، ويقال للرجل القليل الخير: إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ. قال أبو عبيدة: أراه سمى أمواله حظيرة، لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقال المَهْدَوِيُّ: من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة، قال ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ قال:
4606 - أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ ... تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ
وعنه: الحشيش تأكله الغنم، وعنه أيضاً: كالعظام النَّخِرة المحترقة. وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ. وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً والحَظْر المنع. والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه: احْتَظَرَ على إِبِلِهِ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله، قال الشاعر:
4607 - تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ ... كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ
وعن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أيضاً: أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ -. (والهشيم:) فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن.
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال: «لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبوك، قال: أيها الناس لا تسألوني الآياتِ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً،(18/268)
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها» .(18/269)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطاً. ثم قال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة. وقال النَّضْرُ: الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحِجارة. وفي الصِّحاح: الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ:
4608 - جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ
(يقال) : عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ. وقال الفرزدق:
4609 - مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} فيه وجهان:(18/269)
أحدهما: أنه متصل ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله، فإنه لم يرسلْ عليهم.
والثاني: أنه منقطع. قال شهاب الدين: ولا أدري ما وَجْهُهُ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ.
وقال أبو البقاء: هو استثناء منقطع. وقيل: متصل؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط. انتهى. وهو كلام مُشْكِلٌ.
فصل
قال ابن الخطيب: الحاصب رامي الحَصْبَاء، وهي الحجارة؛ كقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] وقول الملائكة: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى: لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة. ويجوز تذكير الرِّيح؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن (أَرْسَلْنَا) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها، وأفرد للجنس. وقوله: «إنَّا أَرْسَلْنَا» كأنه جواب من قال: كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ؟ والاستثناء في قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} من الضمير في «عَلَيْهِمْ» وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم، كالأطفال والدَّوَابِّ.
والمراد بآل لوط: من تبع على دينه إلا بِنْتَاهُ.
قوله: «نَجَّيْنَاهُمْ» تفسير وجواب لقائل يقول: فَمَا كان من شأن آلِ لوط؟ كقوله تعالى: {أبى} [البقرة: 34] بعد قوله: «إلاَّ إبْلِيسَ» . وقد تقدم في البقرة.
قوله: «بِسَحَرٍ» الباء حالية أو ظرفية، وانصرف «سَحَرٌ» لأنه نكرة، ولو قصد به(18/270)
وقتٌ بعينه لمنع (مِنَ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.
وزعم صَدْرُ الاَفَاضِلِ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر.
و «نِعْمَةً» إما مفعولٌ له، وإما مصدرٌ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى «نَجَّيْنَاهُمْ» ؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر.
و «مِنْ عِنْدِنَا» إما متعلق بنعْمةٍ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها.
والكاف في «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي.
فصل
قال الأخفش: إنّما جُرَّ سَحَر، لأنه نكرة، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه. وكذا قال الزجاج: سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، نقول: سَحرُنَا هذا، وأتيته بسَحَرٍ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل النهار.
{نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ.
{كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} ، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.
قال المفسرون: هو وعد لأمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه يصونهم عن الهلاك العام.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب؛ لقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} هي العذاب الذي أصابهم، أو هي عذاب الآخرة، لقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16] ، وقوله: «فَتَمَارَوا بِالنُّذُرِ»(18/271)
أي فشكُّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تَفَاعَلُوا من المِرْيَة. وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} المراودة من الرَّوْدِ، يقال: رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ. وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ. وفي الحديث: «إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ» أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً. قال ابن الخطيب: ومنه الإرادة وهي المطالبة غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين، يقال: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل، فيقال: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك: أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ، وكذا قوله: «أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ» وقوله: «أَخْبَرَنِي بمجيئه» ؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه، وأخبرني بمجيئه، لا يكون إلا عن نفس المجيء.
والضيف يقع على الواحد والجماعة، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة.
قوله: «فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ» قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً. وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه.
والضمير في: «رَاوَدُوهُ» عائد على قومِ لوط.
وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك، والمراد الذين دخلوا عليه. روي أن جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ضربهم بجناحه فَعَمُوا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليهم من التراب، وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل. وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم. وهذا قول ابن عباس.
فإن قيل: قال ههنا: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ، وقال في يس: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] فما الفرق؟
فالجواب: هذا يؤيد قول ابن عباس: بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك، ولم يجعل على بصرهم شيء. وفي «يس» أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً.(18/272)
وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة.
قوله: {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} الخطاب لهم، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا، وهو خطاب كل مكذب، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا.
قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ.
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله: «عذابي» هو العذاب العاجل، وبقوله: «ونُذُر» هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال: ذوقوا؟
فالجواب: أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} انصرف «بكرةً» ؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف. وهذا كما تقدم في «غَدْوَةٍ» .
ومنعها زيدُ بن عليٍّ الصرف، ذهب بها إلى وقتٍ بعينه.
قال صاحب المختصر: انتصب بُكْرَة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله: {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] . قال الزمخشري: والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ: مِنَ اللِّيْلِ. قال ابن الخطيب: وهو غير ظاهر، والأظهر أن يقال: بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تَعْيِينَ الوقت ليس بمقصود للمتكلم، كقوله: خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ مَعَ أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعضِ الأوقات، وكذلك قوله: «صَبّحَهُمْ بُكْرَةً» أي بكرة من البكر، و {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] أي ليلاً من الليالي.
ومعنى صبحهم قال لهم: عِمُوا صباحاً، كقوله: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . والمراد بقوله: بكرة أول أزمنة الصبح. أو انتصب «بُكْرَةً» على المصدر كقولك: ضَرَبْتُهُ سَوْطاً؛ لأن الضرب يكون بالسَّوْطِ وغيره، وكذلك الصبح يكون بكرةً وبَعْدَها.(18/273)
ومعنى «مستقر» أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم، وهو دائم، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسْفَلَهَا.
وقوله: {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي العذاب الذي نزل بهم من طَمْسِ الأَعْيُن غير العذاب الذي أهلكوا به، فلذلك حسن التكرير.(18/274)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} المراد بآله خواصُّه، والنُّذُر مُوسَى وهَارُونُ. ولقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. وقيل: المراد بآل فرعون القِبط.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «آلَ فِرْعَوْنَ» بدل «قَوْمِ فِرَعوْنَ» ؟
فالجواب: أن القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم، أو يقومون هم بأمره وقوم فرعون: كانوا تحت قهره بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير، فأرسل إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من المقربين مثل قَارُون. مقدم عنده لمالِهِ العَظِيم، وهَامَان لِدَهَائِهِ، فاعتبرهم الله في الإرسال، حيث قال في مواضع: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الزخرف: 46] وقال: {إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر: 24] وقال في العنكبوت: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم موسى} [العنكبوت: 39] لأنهم إن آمنوا آمن الكل، بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم، فقال: {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} وقال: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] .
فإن قيل: كيف قال: «ولقد جاءهم» ولم يقل في غيره: جاء؟
فالجواب: لأن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما جاءهم كان غائباً عن القوم فقدم عليهم، كما قال: {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} [الحجر: 61] ، وقال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حقيقة أيضاً، لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة.
والنذر: الرسل وقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: النذر الإنذاراتُ.(18/274)
قوله: «كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا» فيه وجهان:
أحدهما: أن الكلام تمّ عند قوله: {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} وقوله: «كَذَّبُوا» كلام مستأنف، والضمير عائد إلى كل مَنْ تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون.
والثاني: أن الحكاية مسوقةٌ على سياق ما تقدم فكأنه قيل: فَكَيْفَ كَانَ؟ فقال: كذبوا بآياتنا كلها فَأَخَذْنَاهُمْ.
فعلى الوجه الأولى آياتنا كلها ظاهر، وعلى الثاني المراد بالآيات التي كانت مع موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كالعصا، واليد، والسِّنِينَ، والطمسِ، والجرادِ، والطوفانِ، والجرادِ، والقُمَّلِ، والضفادعِ والدَّمِ.
قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ} هذا مصدر مضاف لِفاعله، والمعنى أخَذْنَاهُمْ بالعذاب أخَذْ عَزِيزٍ غالب في انتقامه (مُقْتَدِرٍ) قادرٍ على إهلاكهم، لا يُعْجِزُه مَا أرَادَ.
ثم خوف أهل مكة فقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} أي أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نِقْمَتي من قوم نوح وعاد وثمود، وقم لوط. وهذا استفهام بمعنى الإنكار، أي ليسوا بأقوى منهم، فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
وقوله: «خَيْرٌ» مع أنه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان:
4610 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
أهو بحسب زعمهم، واعتقادهم، أو المراد بالخير شدة القوة، أو لأن كل مُمْكِن فلا بدّ وأن يكون فيه صفات محمودة، والمراد تلك الصفات.
{أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب.
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» العامة على الغيبة، وأبو حيوة وأبو البَرَهسم وموسى الأسوَاريّ بالخطاب، جرياً على ما تقدم من قوله: «كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ» ... إلى آخره. والمعنى نحن جماعة لا نُطَاقُ لكثرة عددهمْ وقوتهم، ولم يقل: منتصرين اتباعاً لرؤوس الآي.(18/275)
وقال ابن الخطيب: قولهم: «جميعٌ» يحتمل الكثرة، والاتّفاق، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] فيكون التنوين فيه عوضاً من الإضافة. وأفرد منتصر مراعاةً للفظ «جميع» أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك: كُلُّهُمْ عَالِمٌ أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جَمِيعُهُمْ.
قوله: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ» العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و «الجَمْعُ» مرفوعٌ به. وقرىء: سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب، خطاباً للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «الْجَمْعَ» مفعول به. وأبو حيوة في رواية يعقوب: سَنَهْزِمُ بنون العظمة، و «الْجَمْعَ» منصوب أيضاً. وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَيَهْزِمُ بياء الغيبة مبنياً للفاعل (الجَمْعَ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ.
و «يُوَلُّونَ» العامة على الغيبة. وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف: {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12] .
وقال الزمخشري: أي الأدبار، كما قال:
4611 - كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا..... ... ... ... ... ... ... ... ... . .
وقرىء الأدبار.
قال أبو حيان: وليس مثل بعضِ بَطْنِكُمْ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ.(18/276)
قال ابن الخطيب: وأفْردَ «الدُّبُرُ» هنا وجُمع في غيره؛ لأن الجمع هو الأصل، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل: تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد، وأما قوله: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15] فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه، وأما قوله: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} [الأحزاب: 15] أي كل واحد قال: أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي.
فصل
قال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} .
وقال سعيد بن المسيب: «سمعت عمر بن الخطاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) يقول: لما نزل: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يثب في درعه ويقول: {سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر»
، وفي رواية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول:» اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا فَأَخْنِهِمُ العَدَاوَةَ «، ثم قال: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} » وقال عمر - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) -: فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا. وهذا من معجزات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - قالت: لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمكة، وإني لجارية ألعبُ: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ} . «وعن ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر:» أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً «. فأخذ أبو بكر بيده وقال: حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» .(18/277)
{بل الساعة موعدهم} يريد يوم القيامة {والساعة أدهى وأمر} مما لَحِقَهُمْ.
فصل
«أدْهَى» من الداهية وهي الأمر العظيم يقال: أَدْهَاهُ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً. وقال ابن السِّكِّيت: دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ، وهي توكيد لها.(18/278)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
قوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} قيل: في ضلال بعد عن الحق. قال الضحاك: وسعر أي نار تسعّر عليهم. وقيل: ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة. وسُعُر جمع سَعِير: نار مستعرة. وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونارٍ في الآخرة. قال قتادة: في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم فقال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} ويقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} .
فصل
أكثر المفسرين على أن هذه الآية في القَدَرِيَّة. وفي الحديث: أَنَها نزلت في القَدَرِيَّة. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «مَجُوسُ هَذِه الأُمَّةِ القَدَرِيَّةُ فَهُمُ المُجُرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في قوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} » .
واعلم أن الجَبْريَّ من يقول: القدريُّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلِي فهم ينكرون القَدَر. والفريقان متّفقان على أن السُّنِّيَّ القائلَ بأن الأفعال خلق الله وبسببٍ من العبد ليس بقَدَرٍ. قال ابن الخطيب: والحقُّ أن القَدَرِيَّ هو الذي يُنْكِرُ القَدَرَ، ويَنْسِبُ الحوادث لاتصال الكواكب لما رُوِيَ أنَّ قريشاً خَاصَمُوا في القَدَر ومذهبهم أن الله مكَّن العبد مِن الطاعة والمعصية، وهو قادر على خلق ذلك في العبد، وقادر على أن يُطْعِمَ الفَقِيرَ، ولهذا قالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} [يس: 47] منكرين لقدرته تعالى على(18/278)
الإِطعام. وأما قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة» فإِن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقَوْم، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة. وإن كان المراد بالأمة من آمن به - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المَجُوس إلى الأمة المتقدمة، فإن المجوس أضعفُ الكَفَرَة المتقدمين شبهةً وأشدّهم مخالفةً للعقل، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجَزْم بكونهم في النار. فالحق أن القدريَّ هو الذي يُنْكِر قدرةَ الله تَعَالَى.
فصل
روى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة، قال: جاءَ مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا مِنْ قَبْلِ أن يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ قال: وَعَرْشُهُ عَلَى الماء» وعن طاوس اليماني قال: أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولون: كُلّ شيء بقدر الله. وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
«كُلُّ شَيْءٍ بقَدَرٍ حَتَى العَجْزُ والكَيْسُ أو الكَيْسُ والعَجْزُ» .
وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله: لا يؤمن بالله عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه، وأَنِّي رسولُ الله بَعَثَنِي بالحقِّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقَدَر. وزاد عُبَيْدُ الله: خَيْرِهِ وشَرِّهِ» وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية.
قوله: «ذُوقُوا» فيه إضمار القول. وقرأ أبو عمرو - في رواية محبوب عنه - مَسَّقَرَ.
وخطَّأَهُ ابنُ مجاهد، وهو معذُورٌ؛ لأن السِّين الأخيرة من «مَسَّ» مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتَنَافَى الجمعُ بينهما.(18/279)
قال أبو حيان: والظَّنُّ بأبي عمرو أنه لم يُدْغِمْ حتى حذفَ أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم.
قال شهاب الدين: كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إِذا حَذَف وأدغم فلا إِشكال.
و (سَقَرُ) علم لجهنّم أعَاذَنَا الله منها، مشتقة من سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ والنارُ أي لَوَّحَتْهُ. ويقال: صَقَرَ بالصاد، وهي مبدلة من السين لأجلِ القاف. قال ذو الرمة:
4612 - إِذَا ذَابَت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقراتِهَا ... بِأَفْنَانِ مَرْبُوع الصَّرِيمَةِ مُعْبِل
و «سَقَرُ» متحتِّم المنع من الصرف؛ لأن حركة الوسط تنزلت منزلة الحرف الرابع، كعَقْرَبَ وزَيْنَبَ.
قال القرطبي: و «سقر» اسم من أسماء جهنم مؤنث لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك «لظى وجهنم» . وقال عطاء: «سقر» الطابق السادس من النار. وقال قطرب: ويَوْمٌ مُسْمَقِرٌّ ومُصْمَقِرٌّ: شديد الحر.
ومسها ما يوجد من الألم عند الوقوع فيها.
فصل
العامل في (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مفهوم غير مذكور. وهذا العالم يحتمل أن يكون سابقاً وهو قوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ} . والعامل في الحقيقة على هذا الوجه أيضاً مفهوم من (فِي) كأنه فيه بمعنى كائن غير أن ذلك صار نَسْياً مَنْسيًّا. ويحتمل أن يكون متأخراً وهو قوله: «ذُوقُوا» تقديره: «ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ المُجْرمُونَ» . والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم} [القمر: 43] . ويحتمل أن يكون منصوباً بالقول المقدر أي يُقَالُ لهم يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقوا. وهو المشهور.(18/280)
والذوق استعارة للمبالغة لقوة الإدراك في الذَّوْقِ؛ فإن الإنسان يشارك غيره في اللَّمْس، ويُخْتَصُّ بإدراك المطعوم فيحصل الألم العظيم، والمعنى ذوقوا أيها المُكَذِّبُونَ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَّ سَقَر يَوْم يُسحب المجرمون المتقدمون في النار.(18/281)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ} العامة على نصب «كل» على الاشتغال. وأبو السَّمَّالِ بالرفع وقد رجح الناس - بل بعضُهُمْ أَوْجَبَ - النَّصَب، قال: لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة، وذلك أنه إذا رفع: «كل شيء» كان مبتدأ، و «خلقناه» صفة ل «كُلّ» أو «شَيْء» و «بِقَدَرٍ» خبره.
وحيئنذ يكون له مفهومٌ لا يخفى على مُتَأَمِّلِهِ، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بقدر كذا قدره بعضهم. وقال أبو البقاء: وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومية بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر.
وقال مكي بن أبي طالب: كان الاختيار على أصول البصريين رفع «كُلّ» كما أن الاختيار عندهم في قولك: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» الرفع والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف قولنا: زَيْد أَكْرَمْتُهُ، لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل فيما بعده وهو «إنَّ» . والاختيار عندهم النصب فيه. وقد أجمع القراء على النصب في (كُلَّ) على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى بخلاف ما قاله أهلُ الزَّيْغِ من أن ثَمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى. وإنما دل النصب في «كل» على(18/281)
العموم، لأن التقدير: إنّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر «فخلقناه» تأكيد وتفسير «لخَلَقْنَا» المضمر الناصب ل «كُلَّ شَيْءٍ» فهذا لفظ عام يَعُمُّ جميع المخلوقات.
ولا يجوز أن يكون «خَلَقْنَاهُ» صفة ل «شَيْءٍ» ؛ لأن الصفة والصلة لا يعملان قبل فيما قبل الموصوف ولا الموصول، ولا يكونان تفسيراً لما يعمل فيما قبلهُما، فإذا لم يبق «خَلَقْنَاهُ» صفة لم يبق إلا أنَّه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم.
وأيضاً فإن النصب هو الاختيار؛ (لأن «إنَّا» عندهم تطلب الفعل، فهُو أولى به فالنصب عندهم في «كل» هو الاختيار) فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشبه كان النصب أولى من الرفع.
وقال ابن عطيه وقومٌ من أهل السنة: بالرفع. قال أبو الفتح: هو الوجهُ في العربية وقراءتنا بالنصب مع الجماعة.
وقال الزمخشري: كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرىء: كُلُّ شَيْءٍ بالرفع. والقَدَرُ والقَدْرُ: التقديرُ. وقرىء بهما أي خَلَقْنَا كل شيء مقدَّراً محكماً مرتباً على حَسْب ما اقتضته الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه انتهى.
وهو هنا يتعصب للمعتزلة لضعْف وجه الرفع.
وقال قومٌ: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يَصْلُحُ للخبر وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختار النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف. ومنه هذا الموضع، لأن قراءة الرفع تخيل أن النصب وصف وأن الخبر: «بَقَدَرٍ» .(18/282)
وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية، فأهل السنة يقولون: كُلّ شيء مخلوق لله تعالى، ودليلهم قراءة النصب؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رفع الأول على الابتداء.
وقال القَدَريَّة: القراءة برفع «كل» و «خَلَقْنَاهُ» في موضع الصفة ل «كُلّ» أي أمْرُنَا أو شَأْنُنَا كُلُّ شيء خَلَقْنَاه فهو بقدر أو بمقدار. وعلى حد ما في هيئَتِهِ وزمنِهِ (وَغيْرِ ذَلِكَ) .
وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه:
أحدها: أنه المقدار في ذاته وفي صفاته.
الثاني: (أنه) التقدير لقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] وقال الشاعر:
4614 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَقَدْ قَدَرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ
أي ما هو مقدِّر.
الثالث: القدر الذي يقال مع القضاء، كقولك: كَان بِقَضَاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، فقوله: (بقَدَرٍ) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع، لأنه خبرٌ ل «كُلّ» و «كُلّ» وخبرها في محل رفع خبر «لإِنَّ» . وسيأتي قريباً أنه عكس هذه؛ أعني في اختيار الرفع وهي قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} [القمر: 52] ، فإنه يختلف في رفعه، قالوا: لأن نَصْبَه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير: فَعلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الزُّبُرِ. وهو خلافُ الواقع، إذ في الزبر أشياء كثيرة جداً لم يَفْعَلُوها. وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابتٌ في الزُّبُرِ. وهو المقصود فلذلك اتفق على رَفْعِهِ.
وهذان الموضعان من نُكَت المسائل الغَريبة التي اتُّفِقَ مجيئُها في سورة واحدةٍ ومَكَانَيْن مُتَقَارِبَيْن، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامِهِ المعانيَ الغَامِضَة.(18/283)
فصل
قال أهل السنة: إن الله تعالى قدر الأشياء أَيْ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادرٌ عن علمِهِ تعالى وقدرتِهِ وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوعُ اكتساب ومحاولةٍ ونسبةٍ وإضافةٍ، وأن ذلك كله إنما جُعِلَ لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ولا خالقَ غيره كما نص عليه القرآن والسنة. لا كما قال القَدَريَّة وغيرهمُ من أن الأعمال إلينا، والآجال بيد غَيرِنا.
قال أبو ذرٍّ: «قَدِمَ وَفْد نَجْرَانَ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرِنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فقالوا يا محمد: يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: أنتم خصماء الله يَوْمَ القيامة» .
فصل
روى أبو الزُّبَيْر عن جابرِ بنِ عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُكَذِّبُونَ لِقَدَر اللَّهِ، إنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُم وإنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُم وإنْ لَقِيتُمُوهم فَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه في سننه. وخرج أيضاً عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لهم في الإِسْلاَم نَصِيبٌ أَهْلُ الإرْجَاء والقَدَر» .
قوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أي إلا كلمة واحدة وهو قوله «كُنْ» . «كَلَمْحِ بِالبَصَرِ» أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح: النظر بالعَجَلة يقال: لَمَحَ البَرْق ببَصَره؛ وفي الصحاح: لَمَحَهُ وأَلْمَحَهُ إِذا أبصره بنظرٍ خفيف، والاسم اللَّمْحَة، ولَمَحَ البَرْقُ والنَّجْمُ لَمحاً، أي لَمَعَ.
قال البغوي: قوله «وَاحِدَةٌ» يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي وما أمرنا إلا واحدة.
وقيل: معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كما تقدم، وهي رواية عَطَاءٍ عن ابْن عبَّاس، وروى الكلبي عنه: وما أمرنَا بمجيء الساعة في السرعة إلاَّ كَطَرْف البَصَر.
فصل
قال ابن الخطيب: إنَّ الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له: كُنْ فهناك شيئان الإرادة والقَوْل، فالإرادة قَدَر، والقول قضاء، وقوله: «وَاحِدَةٌ» يحتمل أمرين:(18/284)
أحدهما: بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نَفَاذِ القَوْل.
ثانيهما: بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النَّمْلَة الصغيرة فأمره عند الكل واحد. وقوله: «كَلَمْحٍ بالبَصَرِ» تشبيه للكون لا تشبيه الأَمْر، فكأنه قال: أمرنا واحدة، فإذا المأمور كائنٌ كلمح بالبصر، لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به، فإن كلمة «كُنْ» شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر. ومعنى «كَلَمْحٍ بالبصَرِ» أي كنَظَر العَيْن. والباء للاستعانة مثل: كَتَبْتُ بالقَلَم، دخلت على الآلة ومثل بها؛ لأنها أسرع حركة في الإنسان؛ لأن العين وجد فيها قرب المحرَّك منها، ولا يفضل عليه بخلاف العِظام، واستدارة شكلها، فإن دَحْرَجَةَ الكُرَة أسرع من دحرجة المُثَلَّثِ والمربَّعِ، ولأنها في رُطُوبةٍ مخلوقة في العضو الذي هو موضعها، وهو الحكمة في كثرة المرئيَّات بخلاف المأكولات والمسموعات والمفاصل التي تُفْصَل بالأرجل والمذُوقات فلَوْلاَ سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبْصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول بَيَان.
وقيل: معنى: «كلمح بالبصر» البرق يمر به سريعاً، فالباء تكون للإلصاق، نحو: مَرَرْتُ بِهِ، وفي قوله: «كَلَمْحِ بِالبَصَرِ» ولم يقل: كلمح البرق فائدةٌ، وهي أن لَمْحَ البرق له مبدأٌ ونهاية فالذي يمر بالبصر منه يكون أدل من جملته مبالغة في القلة، ونهاية السرعة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة.
وقيل: أتباعكم وأعوانكم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، أي يتذكر ويعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر.
(قوله) {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي جميع مَا فَعَلَتْهُ الأمم قبلهم من خير وشر فإنه مكتوب عليهم أي في كتب الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ.
وقيل: في أم الكتاب. قال القرطبي: وهذا بيان لقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي «في الزُّبُرِ» أي في اللوح المحفوظ.
قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي كل صغير وكبير مكتوب على عامله قبل أن يفعلوه.
وقرأ العامة مُسْتَطَرٌ بتخفيف الراء من السَّطْر وهو الكَتْب أي مُكْتَتَبٌ يقال: سَطَرْتُ واسْتَطَرْتُ وكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ وقرأ الأعمش وعِمْرَانُ بنُ حُدَيْر - وتروى عن عاصمٍ - بتشديدها، وفيه وجهان:(18/285)
أحدهما: أنه مشتق من طَرّ الشاربُ والنباتُ أي ظَهَرَ وثَبَتَ بمعنى أن كل شيء قَلّ أو كَثُر ظاهرٌ في اللّوح غير خفي، فوزنه مُسْتَفْعَلٌ كمُسْتَخْرجٍ.
والثاني: أنه من الاسْتِطَار كقراءة العامة، وإنما شددت الراء من أجل الوقوف كقولهم: هذا جَعْفَرّ ونفعلّ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلٌ كقراءة الجمهور.
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} العامة بالإفراد، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح.
وسكّنها مجاهدٌ والأعرج وأبو السَّمَّال «والفَيَّاض» . وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة.
قال ابن جُرَيْجٍ: معنى (نهر) أنهار الماء والخَمْر والعَسَل. ووُحِّدَ؛ لأنه رأس آية. ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع. وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء، وإنما المراد سَعَةُ الأرزاق؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قَيْس بن الخَطِيمِ:
4615 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونها مَا وَرَاءَهَا
أي وسعته. ومنه: أَنْهَرْتُ الجُرْحَ. ومنه: النَّهَار، لضيائه.
وقرأ أبو نهيك وأبو مجْلَز والأعمش وزهير الفُرْقُبيّ - ونقله القرطبي أيضاً عن طَلْحَة بن مُصَرِّف والأعرج وقتادة -: «ونُهُر» بضم النون والهاء وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو: أُسُد في أَسَدٍ.(18/286)
والثاني: أن يكون جمع الساكن نحو: سُقُف في سَقْفٍ، ورُهُن في رَهْن. والجمع مناسب للجمع قبله في جَنَّات. وقراءة العامة بإفراده أبلغ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة {وَمَلائكته وكتابه} [البقرة: 285] بالإِفراد أنه أكثر من الكُتُب، وتقدم أيضاً تقرير الزمخشري لذلك. قال القرطبي (رحمةُ الله عليه) كأَنه جمع نهار لا ليل لهم كسَحَاب وسُحُب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
4616 - إِنْ تَك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ ... مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ
أي صاحب النهار. وقال آخر:
4617 - لَوْلاَ الثَّرِيدُ إِنْ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
فصل
لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً، فقال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} الجنات: اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر، والمعنى: جنات وعند عيون كقوله:
4618 - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... .
وجمعت الجنات إشارة إلى سَعَتِها وتنوعها، وأفرد النَّهَر؛ لأن المعنى في خلاله، فاستغني عن جمعه، وجمع في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلاّ نهر فيه. والتنكير فيه للتعظيم.(18/287)
قوله: «فِي مَقْعَدِ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الضمير في الجار لوقوعه خبراً، وجوّز أبو البقاء: أن يكون بدلاً من قوله: «فِي جَنَّاتٍ» . وحيئنذ يجوز أن يكون بدلَ بعض، لأن المقعد بعضها، وأن يكون اشتمالاً، لأنها مشتملة، والأول أظهر. والعامة على إفراد مَقْعَدٍ مراداً به الجنس كما تقدم في: «نَهَر» . وقرأ عُثْمَانُ البَتِّيُّ: مَقَاعِدَ. وهو مناسب للجمع قبله.
و «مَقْعَدُ صِدْقٍ» من باب رَجُلُ صِدْقٍ في أنه يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته والصدق يجوز أن يراد به ضد الكذب أي صدقوا في الإخبار عنه. وأن يراد به الجَوْدَة والخَيْرِيَّة. وَمَلِيكٍ مثال مُبالغة، وهو مناسب هنا ولا يتوهم أن أصله «ملك» ؛ لأنه هو الوارد في غير موضع وأن الكسرة أُشْبِعَتْ فتولد منها ياء؛ لأن الإشباع لم يرد إلا ضرورةً أو قليلاً وإن كان قد وقع في قراءة هشام: {أفئدة} [إبراهيم: 43] في آخر إبراهيم. فَلْيُلْتَفَتْ إليه.
فصل
قال: في مقعد صدق ولم يقل: في مجلس صدق؛ لأن القعود جلوس فيه مكثٌ ومنه: «قَوَاعِدَ البَيْتِ» [و] {والقواعد مِنَ النسآء} [النور: 60] ، ولا يقال جوالس فأشار إلى دَوَامِه وثَبَاتِهِ، ولأن حروف «ق ع د» كيف دارتْ تدل على ذلك والاستعمال في القعود يدل على ذلك ومنه: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} [النساء: 95] ، وقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إشارة إلى الثبات وكذا قوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] ، فذكر المقعد لدوامه أو لطوله وقال في المجلس: {تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} [المجادلة: 11] إشارة إلى الحركة، وقال {انشزوا} [المجادلة: 11] إشارة إلى ترك الجلوس أي هو مجلس فلا يجب ملازمته بخلاف المقعد.
فصل
قال المفسِّرون: في مقعد صدق أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أي مالك قادر لا يعجزه شيء و «عِندَ» ههنا عندية القُرْبَة والزُّلْفَةِ والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال (جَعفرُ) الصادق: مَدَحَ الله المكانَ بالصِّدق فلا يقع فيه إلا أهل الصدق.(18/288)
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ اقْتَرَبَت السَّاعَةُ فِي كُلّ غِبٍّ بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ. وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ أَفْضَلَ وَجَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مُسفرٌ عَلَى وُجُوهِ الخَلاَئِقِ» .
(اللَّهُمّ ارحمْنا، وارزقْنَا واسْتُرْنَا) . (واللَّهُ أَعْلَمُ) .(18/289)
سورة الرحمن
مكية كلها في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، وجابر.
وقال ابن عباس: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {يسئله من في السماوات والأرض} [الرحمن: 29] الآية.
وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها.
والأول أصح، لما روى عروة بن الزبير، قال: أول من جهر بالقرآن ب " مكة " بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالت: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعموه، فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. " الرحمن، علم القرآن " ثم تمادى بها رافعا صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا، وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول: الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.
وصح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلي الصبح ب " نخلة "، فقرأ سورة " الرحمن "، ومن النفير من الجن فآمنوا به.(18/290)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قال قال تعالى: «الرَّحْمن» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: «الله الرحمن» .
الثاني: أنه مبتدأ وخبره مضمر، أي: «الرحمن ربنا» وهذان الوجهان عند من يرى أن «الرحمن» آية مع هذا المضمر معه، فإنهم عدُّوا الرحمن «آية» .
ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة، وسيأتي ذلك في قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الآية: 64] .
الثالث: أنه ليس بآية، وأنه مع ما بعده كلام واحد، وهو مبتدأ، خبره «عَلَّم القُرْآنَ» .
فصل في بيان مناسبة السورة
افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [والغلبة] والجبروت، وهو انشقاق القمر، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة، وهي القرآن، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها؛ لأن آخر تلك أنه {مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55] وأول هذه أنه رحمن.
قال بعضهم: إن «الرحمن» اسم علم، واحتج بقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] .
وأجاز أن يقال: «يالرحمن» باللام، كما يقال: «يا الله» وهذا ضعيف، وهو مختص بالله تعالى، فلا يقال لغيره.(18/291)
قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي: «الرحمن» فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى: «الر» و «حم» و «نون» ، فيكون مجموع هذه «الرحمن» .
ولله - تعالى - رحمتان:
رحمة سابقة بها خلق الخلق، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السَّابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره: رحمن، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية، فأطعم ونفع، جاز أن يقال له: رحيم.
قوله: «عَلَّم القُرآن» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه «علم» المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم، فعلى هذا المفعول الأول محذوف.
قيل: تقديره: علم جبريل القرآن.
وقيل: علم محمداً.
وقيل: علم الانسان، وهذا أولى لعمومه، ولأن قوله: «خَلَقَ الإنْسان» دال عليه.
والثاني: أنها من العلامة، والمعنى: جعله علامة، وآية يعتبر بها، أي: هو(18/292)
علامة النبوة ومعجزة، وهذا مناسب لقوله تعالى: {وانشق القمر} [القمر: 1] . على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره، وهو ما في القرآن، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه: علمته.
فإن قيل: لم ترك المفعول الثاني؟ .
فالجواب: أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص؛ فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية، وبين قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] ؟ فالجواب: إن قلنا بعطف الرَّاسخين على «الله» فظاهر.
وإن قلنا بالوقف على الجلالة، ويبتدأ بقوله: «والرَّاسِخُون» فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة، وتأملها بقدر الإمكان، فإنه يقال: فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال: المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء.
فصل في نزول هذه الآية
قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: وما الرحمن؟ .
وقيل: نزلت جواباً لأهل «مكة» حين قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ، وهو رحمن «اليمامة» ، يعنون: مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - {الرحمن، علَّم القُرآن} أي: سهله لأن يذكر ويُقرأ.
كما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 22] .
قوله تعالى: «خلق الإنسان» .
قال ابن عباس وقتادة، والحسن: يعني آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
قوله: «علَّمهُ البَيانَ» علمه أسماء كل شيء.
وقيل: علمه اللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية. وعن ابن عباس أيضاً، وابن كيسان: المراد بالإنسان هنا محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلالة.(18/293)
وقيل: ما كان وما يكون؛ لأنه ينبىء عن الأولين، والآخرين، ويوم الدين.
وقال الضحاك: «البيان» : الخير والشر وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه مما يضره.
وقيل: المراد ب «الإنسان» جميع الناس، فهو اسم للجنس، والبيان على هذا الكلام: الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان.
قال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به.
وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم نظيره {عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] .
فصل في كيفية النظم
إنه علم الملائكة أولاً، ثم خلق الإنسان، وعلمه البيان، فيكون ابتدأ بالعلوي، وقابله بالسفلي، وقدم العلويات على السفليات، فقال: «علم القرآن» إشارة إلى تعليم العلويين.
ثم قال: {خَلَقَ الإنسانَ، علَّمهُ البيانَ} إشارة إلى تعليم السفليين، وقال: {الشمس والقمر بحسبان} [في العلويات] {والنجم والشجر يسجدان} [في السفليات] .
ثم قال: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] ، وفي مقابلتها {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] .
فصل في وصل هذه الجمل
هذه الجمل من قوله: {عَلَّمَ القُرآنَ، خلق الإنسَانَ، علَّمه البيان} جيء بها من غير عاطف؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه، كقولك: «فلان أحسن إلى فلان، أشاد بذكره، رفع من قدره» فلشدة الوصل ترك العاطف، والظاهر أنها أخبار.
وقال أبو البقاء: و «خَلَقَ الإنسَانَ» مستأنف، وكذلك «علَّمَهُ» ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة، وقدَّر معها مرادة انتهى.
وهذا ليس بظاهر، بل الظاهر ما تقدم، ولم يذكر الزمخشري غيره.
فإن قيل: لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود؟ .(18/294)
فالجواب: لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل: كيف صرح بذكر المفعولين في «علَّمهُ البَيانَ» ، ولم يصرح بهما في «علَّم القُرآن» ؟ .
فالجواب: أن المراد من قوله «علَّمه البَيَانَ» تعديد النِّعم على الإنسان، واستدعاء للشكر منه، ولم يذكر الملائكة؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان.
فإن قيل: بأنه علم الإنسان القرآن.
فيقال: بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال، ثم بين كيفية تعليمه القرآن، فقال: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} .
واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية.
قوله: {والشمس والقمر بحسبان} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الشمس مبتدأ، و «بِحُسْبَان» خبره على حذف مضاف، تقديره: جري الشمس والقمر بحسبان، أي كائن، أو مستقر، أو استقر بحُسْبَان.
الثاني: أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار، تقديره: يجريان بحُسْبَان.
وعلى هذين القولين، فيجوز في الحسبان وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مفرد بمعنى «الحُسْبان» ، فيكون ك «الشُّكْران» و «الكُفْران» .
والثاني: أنه جمع حساب، ك «شهاب» و «شُهْبَان» .
والثالث: أن «بحسبان» خبره، و «الباء» ظرفية بمعنى «في» أي: كائنان في حسبان.
وحسبان على هذا اسم مفرد، اسم للفلك المستدير، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى.(18/295)
فصل
لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان، ذكر نعمتين عظيمتين، وهما: الشمس والقمر، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ لا يتغيران، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها، ولولا الشمس لما زالت الظلمة، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة، بخلاف غيرهما من الكواكب، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها، ومعرفة فصول السَّنة.
ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض، وهما: النبات الذي لا ساق له، وما له ساق؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار، والحشيش للحيوان.
وقيل: إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة، فيكتفي بأدلة القرآن، فذكر له آيات الآفاق، وخص الشمس والقمر؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار.
ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا، وقالوا: إن الله حركهما بالإرادة كما أراد.
وقيل: لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة.
وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختيارياً، فقال تعالى: من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة، والثقيل على مذهبكم لا يصعد، وصعود النَّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة.
فصل في جريان الشمس والقمر
قال المفسرون: [المعنى] يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر.
قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان عنها.(18/296)
وقال ابن زيد وابن كيسان: بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئاً إذا كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً.
وقال السدي: «بحسبان» تقدير آجالهما، أي: يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] .
وقال الضحاك: بقدر.
وقال مجاهد: «بحسبان» كحُسْبَان الرَّحى يعني: قطعها، يدوران في مثل القُطْب.
والحُسْبَان: قد يكون مصدر «حسبته أحسبُه بالضم حَسْباً وحِسَاباً وحُسْبَاناً» مثل الغُفْرَان والكُفْران والرُّجحان.
وحسبته أيضاً: أي عددته.
وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب، مثل «شِهَاب، وشُهْبَان» .
والحُسْبَان - بالضم - أيضاً: العذاب والسِّهام القصار، الواحدة: حُسْبَانة.
والحُسْبانة أيضاً: الوِسادَة الصغيرة تقول منه: «حَسَّبْتُهُ» إذا وسدته. قال: [مجزوء الكامل]
4619 - ... ... ... ... ... ... ..... لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ
أي غير مُوسَّد، يعني: غير مكرم ولا مكفن.
قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] .
قال ابن عباس وغيره: النَّجْم: ما لا ساق له، والشَّجر: ما له ساق.(18/297)
وأنشد ابن عباس قول صفوان التيمي: [الطويل]
4620 - لَقَدْ أنجمَ القَاعُ الكَبيرُ عِضَاههُ ... وتَمَّ بِهِ حيَّا تَميمٍ ووَائِلِ
وقال زهير بن أبي سُلْمَى: [البسيط]
4621 - مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحُ الجَنُوبِ لِضاحِي مَائِهِ حُبُكُ
واشتقاق النجم من «نَجَمَ الشيء يَنْجُمُ» - بالضم - نُجُوماً: ظهر وطلع.
ومنه: نَجَمَ نابُ البعير، أي: طلع. وسجودهما: سجود ظلالهما؛ قاله الضحاك. وقال الفرّاء: سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت، ثم يميلان معهما حتى ينكسر الفيء.
وقال الزجاج: سجودهما: دوران الظِّل معهما، كما قال: {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} [النحل: 48] .
وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد: «دوران ظله» وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي.
وقيل: سجود النجم: أفوله، وسجود الشجر: إمكان الاجتناء لثمارها، حكاه الماوردي.
والأول أظهر.
وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله تعالى، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصَّابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر.(18/298)
والسجود: الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري.
وقال النحاس: أصل السجود في اللغة: الاستسلام والانقياد لله - عَزَّ وَجَلَّ - فهو من السموات كلها استسلامها لأمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - وانقيادها له.
ومن الحيوان كذا، ويكون من سجود الصلاة.
وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم؛ قال: [الطويل]
4622 - فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتجيرِهِ ... سَرِيعٍ بأيْدِي الآكلينَ جُمُودهَا
قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا} .
العامة: على النصب على الاشتغال مراعاة لعجز الجملة التي يسميها النحاة ذات وجهين، وفيها دليل لسيبويه الذي يجوز النصب، وإن لم يكن في جملة الاشتغال ضمير عائد على المبتدأ الذي تضمنته الجملة ذات الوجهين.
والأخفش يقول: لا بد من ضمير، مثاله: «هند قامت وعمراً أكرمته لأجلها» .
قال: «لأنك راعيْتَ الخبر وعطفت عليه، والمعطوف على الخبر خبر، فيشترط فيه ما يشترط فيه» .
ولم يشترط الجمهور ذلك، وهذا دليلهم.
فإن القراء كلهم نصبوا مع عدم الرابط إلا من شذ منهم وقد تقدم تحرير هذا في سورة «يس» عند قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] .
وقرأ أبو السمال: برفع السماء على الابتداء، والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله «والشمس والقمر» .
قال القرطبي: «فجعل المعطوف مركباً من ابتداء وخبر كالمعطوف عليه» .
قوله: «ووَضَع المِيزانَ» .
العامة على «وَضَع» فعلاً ماضياً، و «الميزان» نصب على المفعول به.
وقرأ إبراهيم: «ووضْع الميزانِ» - بسكون الضاد - وخفص «الميزان» وتخريجها:(18/299)
على أنه معطوف على مفعول «رفعها» أي: «ورفع ووضْع الميزان» أي جعل له مكانة ورفعة لأخذ الحُقُوق به، وهو من بديع اللفظ حيث يصير التقدير: «ورفع ووضع الميزان» .
قال الزمخشري: «فإن قيل: كيف أخلّ بالعاطف في الجمل الأول وجيء به بعده؟ .
قلت: بَكَّتَ بالجمل: الأول، وأورده على سننِ التعديد للذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما تبكت منكر أيادي المنعم من الناس بتعدّدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التَّبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف.
فإن قلت: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ .
قلت: إن الشمس والقمر سماويَّان، والنجم والشجر أرضيَّان فبينهما تناسب من حيث التقابل، وإن السماء والأرض لا يزالان يذكران قرينتين، وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر» .
فصل في المراد بوضع الميزان
قال مجاهد وقتادة: وضع الميزان عبارة عن العدل.
قال السدي: «ووضع الميزان» وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال: وضع الله الشريعة، ووضع فلان كذا أي ألقاه.
وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه.
وهو من قول الحسين بن الفضل.
وقال الحسن وقتادة - أيضاً - والضحاك: هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} [الرحمن: 9] .
والقسْط هو العَدْل، وقيل: هو الحكم.(18/300)
وقيل: المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل «ميزان» «يوزان» . وقد مضى القول فيه في «الأعراف» .
قال ابن الخطيب: قوله: «ووَضَعَ المِيزانَ» إشارة إلى العدل، كقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي: ليعلموا بالكتاب، ويعملوا بالميزان، فكذا هنا «عَلَّمَ القُرآن» ووضع الميزانَ، فالمراد ب «الميزان» : العدل بوضعه شرعة، كأنه قيل: شرع العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العَدْل، هذا هو المنقول، قال: والأولى العكس كالأول وهو الآلة، والثاني: بمعنى الوزن، أو بمعنى العدل.
قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ} ، في «أنْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها الناصبة، و «لا» بعدها نافية، و «تطغوا» منصوب ب «أن» ، و «أن» قبلها لام العلة مقدّرة تتعلق بقوله: «ووضَعَ المِيزانَ» ، التقدير: «لئلاَّ تَطغَوا» ، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] .
وأجاز الزمخشري وابن عطية: أن تكون المفسرة، وعلى هذا تكون «لا» ناهية، والفعل مجزوم بها.
قال القرطبي: فلا يكون ل «أنْ» موضع من الإعراب، فتكون بمعنى «أي» ، و «تطغوا» مجزوم بها كقوله: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6] ، أي: «امْشُوا» .
إلا أن أبا حيان رد هذا القول بأن شرط التفسيرية تقدم جملة متضمنة لمعنى القول، وليست موجودة.
قال شهاب الدين: «وإلى كونها مفسرة ذهب مكي، وأبو البقاء، إلا أن أبا البقاء كأنه تنبه للاعتراض، فقال:» وأن - بمعنى أي - والقول مقدر «.
فجعل الشيء المفسر ب» أن «مقدراً لا ملفوظاً به، إلا أنه قد يقال إن قوله» والقول مقدر «ليس بجيّد؛ لأنها لا تفسر القول الصريح، فكيف يقدر ما لا يصحّ تفسيره، فإصلاحه أن يقول: وما هو بمعنى القول مقدر» .
فصل في الطغيان في الميزان
والطغيان مجاوزة الحد، فمن قال: الميزان العدل، قال: الطغيان الجور ومن قال:(18/301)
إنه الميزان الذي يوزن به، قال: طغيانه النّجس.
قال ابن عباس: لا تخونوا من وزنتم له.
وعنه أيضاً أنه قال: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان.
ومن قال: إنه طغيان الحكم، قال: طغيانه التحريف.
وقيل: فيه إضمار، أي: وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه.
فإن قيل: العلم لا شك في كونه نعمة، وأما الميزان فأي نعمة عظيمة فيه حتى يعد بسببها في الآلاء؟ .
فالجواب: أن النفوس تأبى الغَبْنَ، ولا يرضى أحد بأن يغلبه غيره، ولو في الشيء اليسير، ويرى أن ذلك استهانة به، فلا يترك خَصْمه يغلبه، ثم إن عند عدم المعيار الذي به تُؤخذ الحقوق، كل أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه، فوضع الله - تعالى - معياراً بين به التَّساوي، ولا يقع به البغضاء بين الناس، وهو الميزان، فهو نعمة كاملة، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته، وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء الذي لا يبين فضلهما إلاَّ عند فقدهما.
قوله: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} .
أي: افعلوه مستقيماً بالعدل.
وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل.
وقال ابن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب.
وقال مجاهد: القسط: العدل بالرومية.
وقيل: هو كقولك: أقام الصلاة، أي: أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم، أي: أتوا بها لوقتها، أي: لا تدعوا التعامل بالوزن والعدل.
قوله: «ولا تُخْسِرُوا» .
العامة على ضم التاء وكسر السين، من «أخْسَرَ» أي: نقص، كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] .
وقرأ زيد بن علي، وبلال بن أبي بردة: بفتح التاء وكسر السين، فيكون «فَعِل،(18/302)
وأفْعَل» بمعنى، يقال: خَسِر الميزان، وأخْسَره «بمعنى واحد، نحو: جَبِر وأجْبر» .
ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال: فتح التاء والسين، ونقلها أيضاً القرطبي عن أبان بن عثمان، قال: وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان، وخسرته، ك «أجبرته» و «جبرته» .
قال شهاب الدين: وفيها وجهان:
أحدهما: أنه على حذف حرف الجر، تقديره: «ولا تخسروا في الميزان» ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء، إلا أن أبا حيان قال: لا حاجة إلى ذلك؛ لأن «خَسِر» جاء متعدياً، قال تعالى: {خسروا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] و {خَسِرَ الدنيا والآخرة} [الحج: 11] .
قال شهاب الدين: «وهذا أليق من ذاك، ألا ترى أن» خسروا أنفسهم «و» خسر الدنيا والآخرة «معناه: أن الخسران واقع بهما، وأنهما معدومان، وهذا المعنى ليس مراداً في الآية قطعاً، وإنما المراد: لا تخسروا الموزُون في الميزان» .
وقرىء: «تَخْسُروا» بفتح التاء وضم السين.
قال الزمخشري: «وقرىء:» ولا تَخْسروا «بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها، يقال: خَسِر الميزان يَخْسُره ويَخْسِره، وأما الفتح فعلى أن الأصل:» في الميزان «فحذف الجار، وأوصل الفعل إليه» .
وكرر لفظ «الميزان» ولم يضمره في الجملتين بعده تقوية لشأنه.
وهذا كقول الآخر: [الخفيف]
4623 - لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
فصل في معنى الآية
المعنى: ولا تنقصوا ولا تبخسوا الوزن والكيل، كقوله: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} [هود: 84] .(18/303)
وقيل: لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة، فيكون ذلك حسرة عليكم، وكرَّر الميزان لحال رُءُوس الآي.
وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن، ورعاية العدل فيه.
وقال ابن الخطيب: {ولا تخسروا الميزان} أي: لا تنقصوا الموزون.
وذكر «الميزان» ثلاث مرات، فالأول: بمعنى الآلة، وهو قوله «وَضَعَ المِيزانَ» .
والثاني: بمعنى المصدر أي: لا تطغوا في الوزن.
والثالث: للمفعول، أي: لا تخسروا الموزون.
وبين القرآن و «الميزان» مناسبة، فإن القرآن فيه العلم الذي لا يوجدُ في غيره من الكتب، والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات.
قوله: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} ، كقوله: {والسمآء رَفَعَهَا} .
قرأ أبو السمال: بالرفع مبتدأ، و «الأنام» علّة للوضع.
«الأنام» . قيل: كل الحيوان.
وقيل: بنو آدم خاصة، وهو مروي عن ابن عبَّاس نقل النووي في «التهذيب» عن الزبيدي: «الأنام» : الخَلْق، قال: ويجوز الأنيم.
وقال الواحدي: قال الليث: «الأنامُ» ما على ظهر الأرض من جميع الخلق.
وقيل: هم الإنس والجن. قاله الحسن، والأول قاله الضَّحاك.
ووزنه: «فَعَال» ك «قَذَال» فيجمع في القلة على «أنِمّة» بزنة: «امرأة أنمّة» ، وفي الكثرة على «أنْم» ك «قَذَال وأقذلة وقُذْل» .
قوله: «فيها فاكهة» يجوز أن تكون هذه الجملة حالاً من «الأرض» إلا أنها حال مقدرة، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال.
و «فاكهةٌ» رفع بالفاعلية، ونكرت لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها، وهو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى.
قال ابن الخطيب: الأرض موضوعة لكل ما عليها، وإنما خصّ الإنسان بالذِّكْر؛(18/304)
لأن الانتفاع بها أكثر، فإنه ينتفع بها، وبما فيها، وبما عليها، فقال: «للأنام» لكثرة انتفاع الأنام بها.
وقوله: «فِيهَا فَاكِهَةٌ» .
أي: ما يتفكّه به الإنسان من ألوان الثمار.
قوله: {والنخل ذَاتُ الأكمام} إشارة إلى الأشجار.
و «الأكمام» جمع «كِمّ» - بالكسر - وهو وعاء الثمر.
قال الجوهري: و «الكِمُّ» - بالكسر - و «الكِمَامة» : وعاء الطلع، وغطاء النَّوْر، والجمع: «كِمَام» و «أكِمَّة» ، و «الأكاميم» أيضاً، و «كم» الغسيل إذا أشفق عليه، فسُتر حتى يقوى، قال العجاج: [الرجز]
4624 - بَلْ لَوْ شَهِدتَ النَّاسَ إذْ تُكُمُّوا ... غُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا
و «تكمّوا» : أي أعمى عليهم وغطّوا.
وأكممتُ وكَمَمْت أي: أخرجت كمامها، والكِمَامُ - بالكسر - والكمامة أيضاً: ما يكمّ به فَمُ البعير لئلا يعضّ، تقول منه بعير مكموم أي محجوم، وكممت الشيء: غطّيته، ومنه كُمُّ القميص - بالضم - والجمع: «أكْمَام وكِمَمَة» مثل: جُبّ وجببة.
و «الكُمَّةُ» : القَلَنْسُوَة [المدورة] ؛ لأنها تغطي الرأس.
قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل]
4625 - فَقُلْتُ لَهُمْ: كِيلُوا بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ ... دَرَاهِمَكُمْ، إنِّي كذلِك أكْيَل
قال الحسن: «ذات الأكمام» أي: ذات اللّيف، فإن النخلة قد تكمم بالليف وأكمامها: ليفها الذي في أعناقها.
وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتّق.
وقال عكرمة: ذات الأحْمَال.
وقال الضَّحاك: «ذات الأكمام» : ذات الغلف.(18/305)
والأكمام: الأوعية التي يكون فيها الثمر؛ لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم يتشقق، والمراد بالفاكهة: الفواكهة.
قال ابن كيسان: ما يتفكّهون به من النعم التي لا تُحْصَى، ونكّر الفاكهة للتكثير والتعظيم.
قوله: {والحب ذُو العصف والريحان} .
قرأ ابن عامر: بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثة أوجه:
النصب على الاختصاص، أي «وأخص الحبَّ» قاله الزمخشري.
وفيه نظر، لأنه لم يدخل في مسمى الفاكهة والنخل حتى يخصّه من بينها، وإنما أراد إضمار فعل، وهو «أخص» فليس هو الاختصاص الصّناعي.
الثاني: أنه معطوف على «الأرض» .
قال مكي: «لأن قوله» والأرض وضعها «أي: خلقها، فعطف» الحب «على ذلك» .
الثالث: أنه منصوب ب «خلق» مضمراً، أي «وخلق الحب» .
وقال مكي: «أو وخلق الحب» ، وقراءته موافقة لرسم مصاحف بلدهِ، فإن مصاحف «الشام» «ذا» بالألف.
وجوزوا في «الرَّيْحَان» أن يكون على حذف مضاف، أي «وذا الريحان» فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ك {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .
وقرأ الأخوان برفع الأولين وجرّ «الرَّيْحَان» عطفاً على «العَصْف» وهي تؤيد قول من حذف المضاف في قراءة ابن عامر.
والباقون: برفع الثلاثة عطفاً على «فاكهة» أي: وفيها أيضاً هذه الأشياء.
ذكر أولاً ما يتلذّذون به من الفواكهة.
وثانياً: الشيء الجامع بين التلذّذ والتغذِّي، وهو ثمر النخل.
وثالثاً: ما يتغذى به فقط، وهو أعظمها؛ لأنه قوت غالب الناس.(18/306)
ويجوز في «الرَّيْحَان» على هذه القراءة أن يكون معطوفاً على ما قبله، أي: «وفيها الريحان» أيضاً، وأن يكون مجروراً بالإضافة في الأصل، أي: «وذو الريحان» ففعل به ما تقدم.
و «العَصْفُ» قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ورق الشَّجر والزرع.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: تِبْن الزرع وورقه الذي تَعْصِفُه الرياح.
قال الراغب: «أصله: من» العَصْفِ والعَصِيفَة «، وهو ما يُعصف، أي: يقطع من الزرع» .
وقال سعيد بن جبير: بقل الزرع أي ما ينبت منه، وهو قول الفراء.
والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك، وكذا في «الصِّحاح» وكذا نقله القرطبي.
وعصفت الزرع، أي: جَزَرته قبل أن يدرك.
وعن ابن عباس أيضاً: العصف: ورق الزرع الأخضر إذا وقع رءوسه ويبس نظيره: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 8] .
قال الجوهري: «وقَدْ أعْصَفَ الزَّرْعُ، ومكانٌ مُعْصفٌ، أي: كثير الزرع» .
قال أبو قيس بنُ الأسلت الأنصاريُّ: [السريع]
4626 - إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا ... زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ
وقيل: «العَصْفُ» : حُطام النبات، والعَصْفُ أيضاً: الكسب.
قال الراجز: [الرجز]
4627 - بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ ولا اكْتسَابِ ...(18/307)
وكذلك «الاعتصاف والعصيفة» : الورق المجتمع الذي يكون فيه السّنبل.
وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت: «تقول العرب لورق الزرع: العَصْف والعَصِيفة، والجِلُّ بكسر الجيم» .
قال علقمة بن عبدة: [البسيط]
4628 - تَسْقِي مَذانِبَ قَدْ مَالتْ عَصيفتُهَا ... حُدُورُهَا مِنْ أتِيِّ المَاءِ مَطْمُوم
في «الصحاح» : «والجِلّ - بالكسر - قصب الزرع إذا حصد» .
والرَّيحان في الأصل مصدر، ثم أطلق على الرزق.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هو الرزق بلغة «حِمْير» ، كقولهم: «سبحان الله وريحانه» أي: استرزاقه.
وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشمّ وهو قول ابن زيد أيضاً.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه خُضْرة الزرع.
وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق.
وقال الفراء: «العصفُ» المأكول من الزرع.
و «الريحان» ما لا يؤكل.
وقال الكلبي العَصْف: الورق الذي لا يؤكل.
و «الريحان» : هو الحب المأكول.(18/308)
وقيل: كل فلّة طيبة الريح سميت ريحاناً؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي: يشم. وفي «الريحان» قولان:
أحدهما: أنه على «فَعْلان» وهو من ذوات «الواو» ، والأصل «رَوْحَان» من الرائحة.
قال أبو علي: فأبدلت «الواو» ياء كما أبدلت الياء واواً في «أشاوى» وإنما قلبت الواو ياء للفرق بينه وبين «الرَّوْحَان» وهو كل شيء له روح.
قال القرطبي: والثاني: أن يكون أصله «رَيْوَحَان» على وزن «فَيْعَلان» فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، ثم خفف بحذف عين الكلمة، كما قالوا: كَيْنُونة وبَيْنُونَة والأصل تشديد الياء، فخفف كما خفف «هَيْن ولَيْن» .
قال مكي: ولزم تخفيفه لطوله بلُحُوق الزيادتين، وهما الألف والنون.
ثم ردّ قول الفارسي بأنه: لا موجب لقلبها ياء.
ثم قال: «وقال بعض الناس» وذكر ما تقدم عن أبي علي.
قال القرطبي: «والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء: الاهتزاز والحركة» .
وفي الصحاح: «والريحان نبات معروف، والرَّيْحَان: الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله» .
وفي الحديث: «الولدُ مِنْ رَيْحانِ اللَّهِ» .
وقولهم: سُبْحَانَ اللَّهِ ورَيْحَانه «نصبوهما على المصدر، يريدون: تنزيهاً له واسترزاقاً.
قوله: {والحب ذُو العصف والريحان} فالعَصْفُ: ساق الزرع، والرَّيْحَان: ورقه قاله الفراء.
قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ،» فبأي «متعلق ب» تكذبان «.
والعامة على إضافة» أي «إلى» الآلاء «.
وقرىء في جميع السورة بتنوين» أيّ «.
وتخريجها: على أنه قطع» أيًّا «عن الإضافة إلى شيء مقدر، ثم أبدل منه» آلاء ربكما «بدل معرفة من نكرة، وتقدم الكلام في» الآلاء «ومفردها في الأعراف» .(18/309)
والخطاب في «ربكما» قيل: للثقلين من الإنس والجن؛ لأن الأنام تضمنهما، وهو قول الجمهور، ويدل عليه حديث جابر.
وفيه: «للْجِنُّ أحْسَنُ مِنْكُم رَدًّا» .
وقيل: لما قال: {خَلَقَ الإنسان، وَخَلَقَ الجآن} [الرحمن: 14، 15] . دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما.
وكذا قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] خطاب للإنس والجن.
وقال أيضاً: {يامعشر الجن والإنس} [الرحمن: 33] .
وقال الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يتقدم للجن ذكر. كقوله تعالى: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] .
فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلَّفُون كالإنس، خوطب الجنسان بهذه الآيات.
وقيل: الخطاب للذكر والأنثى.
وقيل: هو مثنّى مراد به الواحد، كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] .
وكقول الحجاج بن يوسف: «يا حرسي اضربا عنقه» ، وكقول امرىء القيس: [الطويل]
4629 - قِفَا نَبكِ ... . ..... ... ... ... ... ... ...
و [الطويل](18/310)
4630 - خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي ... . ..... ... ... ... ... ... . .
وقيل: التثنية للتأكيد.
وقيل: التكذيب يكون بالقلب، أو باللسان، أو بهما، فالمراد هما.
فصل في آلاء الله تعالى
قال ابن زيد: المراد بالآلاء: القدرة، والمعنى: فبأي قدرة ربكما تكذبان، وهو قول الكلبي.
واختار محمد بن علي الترمذي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم: إمام الجند، والجند تتبعه، وإنما صارت علماً؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة، فقال: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} .
ثم ذكر الإنسان فقال: «خَلَقَ الإنسان» ثم ذكر ما صنع به، وما من عليه به، ثم ذكر حُسْبَان الشمس والقمر، وسجود الأشياء من نجم وشجر، وذكر رفع السماء، ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذين الثقلين: الإنس والجن، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة، ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان، وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم.
فقال سائلاً لهم: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي: بأي قدرة ربكما تكذبان، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه، ويقدر معه، فذلك تكذيبهم، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ، ثم سألهم فقال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد، والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق.(18/311)
وقال القتبي: إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم، ويقررهم بها، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك، أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا.
قال الشاعر: [مشطور الرجز]
4631 - كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ ... وقال الشاعر رَحِمَهُ اللَّهُ: [البسيط]
4632 - لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً ... إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ
وقال آخر: [المنسرح]
4633 - لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ ... عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ
ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ ... زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجَّة.
قال شهاب الدين: والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، وكقوله فيما سيأتي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 45] .
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة: إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة.
قال ابن الخطيب: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقريع والزَّجْر، وذكر لفظ الرب؛ لأنه يشعر بالرحمة.
قال: «وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد، ولا يعقل بخصوص العدد معنى.(18/312)
وقيل: الخطاب مع الإنس والجن، والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات عذاب جهنم، و {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] ، وأعظم المقاصد: نعيم الجنة، ولها ثمانية أبواب، فالمجموع خمسة عشر، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون، والزائد لبيان التأكيد» .
روى جابر بن عبد الله، قال: «قرأ علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سورة» الرحمن «حتى ختمها، ثم قال:» مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ، فلكَ الحمد «.(18/313)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
قوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} . لما ذكر الله - تعالى - خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيها من الدلالات على وحدانيته وقدرته، ذكر خلق العالم الصَّغير، فقال: {خَلَقَ الإنسان} .
قال المفسرون: يعني: آدم من صلصال وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، وشبهه بالفخَّار الذي طبخ.
وقيل: هو طين خلط برملٍ.
وقيل: هو الطين المُنتنُ، من صلَّ اللحم وأصلَّ: إذا أنْتَنَ.
وقال هنا: {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} .
وقال في «الحجر» : {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] .
وقال: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] .
وكله متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض، فعجنه فصار طيناً، ثم انتقل فصار كالحَمَأ المسنون، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار.(18/313)
فقوله: «كالفخَّار» نعت ل «صَلْصَالٍ» . وتقدم تفسيره.
قوله: {وَخَلَقَ الجآن} .
قيل هو اسم جنس كالإنسان.
وقيل: هو أبو الجن «إبليس» .
وقيل: هو أبوهم، وليس ب «إبليس» .
قوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} «من» الأولى لابتداء الغاية.
وفي الثانية وجهان:
أحدهما: أنها للبيان.
والثاني: أنها للتبعيض.
و «المَارِجُ» : قيل: ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلطاً بعضها ببعض.
وقيل: الخالص.
وقيل: الأحمر وقيل: الحمرة في طرف النَّار.
وقيل المختلط بسواد.
وقيل: اللهب المضطرب.
وقال الليث: «المارج» : الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد، وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أنه اللهب الذي يعلو النَّار، فيختلط بعضه ببعض أحمر وأخضر وأصفر، ونحوه عن مجاهد.
وقيل: «المَارِجُ» المرسل غير ممنوع.
قال المبرد: «المارج» : النار المرسلة التي لا تمنع.
وقال أبو عبيدة والحسن: «المارج» : المختلط النار، وأصله من مرج إذا اضطرب، واختلط.
قال القرطبي: يروى أن الله - تعالى - خلق نارين، فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى، وهي نار السَّمُوم، فخلق منها «إبليس» .(18/314)
قال القشيري: «والمارج» في اللغة: المرسل أو المختلط، وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] و {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، والمعنى: «ذو مرج» .
{مِّن نَّارٍ} نعت ل {مَّارِجٍ} .
وتقدم الكلام على قوله: «فبأي آلاء» إلى آخرها.
قوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} .
العامة على رفعه.
وفيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مبتدأ، خبره {مَرَجَ البحرين} ، وما بينهما اعتراض.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: «هُو ربُّ» أي: ذلك الذي فعل هذه الأشياء.
الثالث: أنه بدل من الضمير في «خلق» .
وابن أبي عبلة: «ربّ» بالجر، بدلاً أو بياناً ل «ربّكما» .
قال مكي: ويجوز في الكلام الخفض على البدل من «ربكما» ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.
و «المشرقان» : قيل: مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما.
وقيل: مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما، وذكر غاية ارتفاعهما، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناول ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم: (له المشرق والمغرب) فيفهم منه أن له ما بينهما.
ويؤيده قوله تعالى: {بِرَبِّ المشارق والمغارب} [المعارج: 40] .
قوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} أي: خلَّى وأرسل وأهمل، يقال: مرج الناس السلطان، أي: أهملهم، وأصل المَرْج الإهمال كما تمرج الدَّابة في المَرْعى ويقال: مرج خلط.
وقال الأخفش: ويقول قوم: أمرج البحرين مثل «مرج» فيكون «فَعَلَ وأفْعَلَ» بمعنى.
و «البَحْرين» : قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بحر السماء، وبحر الأرض.(18/315)
قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام.
وقيل: يلتقي طرفاهما.
وقال الحسن وقتادة: بحر «فارس» و «الروم» .
وقال ابن جريج: البحر المالح، والأنهار العذبة.
وقيل: بحر المشرق، وبحر المغرب يلتقي طرفاهما.
وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان.
«بينهما برزخ» حاجز.
قوله: «يلتقيان» حال من «البَحريْنِ» وهي قريبة من الحال المقدرة، ويجوز بتجوّز أن تكون مقارنة.
و «بَينهُمَا بَرزخٌ» يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون حالاً، وأن يكون الظَّرف وحده هو الحال، و «البَرْزَخُ» فاعل به، وهو أحسن لقربه من المفرد.
وفي صاحب الحال وجهان:
أحدهما: هو البحرين.
والثاني: هو فاعل «يَلْتقيان» .
و «لا يَبْغِيَان» حال أخرى كالتي قبلها، أي: مرجهُمَا غير باغيين أو يلتقيان غير باغِيين، أو بينهما برزخٌ في حال عدم بغيهما، وهذه الحال في قوة التعليل، إذ المعنى: «لئلاَّ يَبْغِيانِ» .
وقد تمحّل بعضهم، وقال: أصل ذلك لئلا يبغيا ثم حذف حرف العلة، وهو مطّرد مع «أن» و «إن» ، ثم حذفت «أن» أيضاً، وهو حذف مطرد، كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] ، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل، وهذا غير ممنوع، إلا أنه تكرر فيه الحذف.
وله أن يقول: قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا، كما سيأتي في قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82] .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
لما ذكر الشمس والقمر، وهما يجريان في الفلك كما يجري الفلك في البحر،(18/316)
كقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين، أو لأن المشرقين والمغربين يكونان في البر والبحر، فذكر البحر بعد ذكر البر؛ لانحصار البر والبحر بين المشرق والغرب.
قوله: «بينهما بَرْزَخ» أي: حاجز، «لا يبْغِيَان» ، فعلى القول الأول بأنهما بحر السماء، وبحر الأرض، فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض. قاله الضحاك.
وعلى الأقوال الباقية: الحاجز: هو الأرض التي بينهما. قاله الحسن وقتادة.
وقال بعضهم: الحاجز: هو القدرة الإلهية.
وقوله: «لا يَبْغِيَان» . قال قتادة: لا يبغيان على النَّاس فيغرقانهم، جعل بينهم وبين الناس اليبس.
وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه.
وقال ابن زيد: «لا يبغيان» أي يلتقيان، تقديره: مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا.
وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي: بينهما مدة قدرها الله تعالى، وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذنَ الله بانقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً، وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] .
وقال سهل بن عبد الله: البحران: طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
فصل في إحاطة البحار بالأرض
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض، وخلق بحراً محيطاً بالأرض أحاط به الهواء، كما قال به أهل الهيئةِ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض، ولا يغطيانها بفضل الله لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام، فإن عندهم أن طبع الأرض يكون في المركز مغموراً بالماء، ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه، فإذا سئلوا عن ظهور الأرض من الماء قالوا: جذب في الأرض.
فإذا قيل لهم: لماذا تجذب؟ وما سبب الجذب؟ .(18/317)
فالذي عنده قليل من الحق أسند ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته، والآخر يقول: ذلك بحسب اتصالات الكواكب وأوضاعها.
فإن قيل له: لماذا اختلفت أوضاع الكواكب على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض؟ بهت كما بهت الذي كفر، ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى.
وقال ابن الخطيب: ومعنى الآية أن الله - تعالى - أرسل بعض البحرين إلى بعض، ومن شأنهما الاختلاط فحجزهما ببرزخ من قدرته، فهما لا يبغيان، أي: لا يجاوز كل واحدٍ منهما ما حد له.
و «البَغْي» : مجاوزة الحد، أو من الابتغاء وهو الطَّلب، أي: لا يطلبان غير ما قدر لهما.
قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} قرأ نافع، وأبو عمرو: «يُخْرَجُ» مبنيًّا للمفعول، والباقون: مبنيًّا للفاعل على المجاز.
قالوا: ثم مضاف محذوف، أي «من أحدهما» ؛ لأن ذلك لم يؤخذ من البحر العذب حتى عابُوا قول الشاعر: [الطويل]
4634 - فَجَاءَ بِهَا ما شِئْتَ مِنْ لطَمِيَّةٍ ... على وجْهِهَا مَاءُ الفُراتِ يَمُوجُ
قال مكي: «كما قال: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين} [الزخرف: 31] ، أي: من إحدى القريتين، فحذف المضاف كثير شائع» .
وقيل: هو كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما الناسي فتاه، ويعزى هذا لأبي عبيدة.
قال البغوي: وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين، ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] ، ثم كانت الرسل من الإنس.
وقيل: يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان.
وقيل: بل يخرجان منهما جميعاً.
ثم ذكروا أقاويل.(18/318)
منها: أنهما يخرجان من المِلْح في المواضع الذي يقع فيه العذب، وهذا مشاهد عند الغواصين، وهو قول الجمهور، فناسب ذلك إسناده إليهما.
ومنها: قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر، والصدف تفتح أفواهها للمطر، وقد شاهده الناس، فيكون تولده من بحر السماء، وبحر الأرض. وهذا قول الطبري.
ومنها: أن العذب في الملح كاللقاح، كما يقال: الولد يخرج من الذَّكر والأنثى.
ومنها: أنه قيل: منهما من حيثُ هما نوع واحد، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في واحدةٍ منهن.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم قال:» منهما «، وإنما يخرجان من الملح؟
قلت: لما التقيا، وصارا كالشيء الواحد، جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان من بعضه، وتقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلَّةٍ واحدة من محاله، بل من دارٍ واحدة من دُورهِ، وقيل: لا يخرجان إلاَّ من ملتقى الملح والعذب» . انتهى.
وقال بعضهم: كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض النَّاسِ، فمن الجائز أن يسوقها من البحر العذب إلى الملح، واتفقُوا أنهم لم يخرجوها إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التُّجَّار المترددين القاطعين المفاوز، فكيف بما هو في قَعْرِ البحر؟ .
فالجواب عن هذا: أن الله لا يخاطب الناس، ولا يمنن عليهم إلا بما يألفون، ويشاهدون.
و «اللؤلؤ» : قيل: كِبارُ الجوهر، والمرجان: صغاره. قاله علي، وابن عباس، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقيل بالعكس، وأنشدوا قول الأعشى رَحِمَهُ اللَّهُ: [البسيط](18/319)
4635 - مِنْ كُلِّ مَرْجَانةٍ فِي البَحْرِ أحْرَزَهَا ... تيَّارُهَا ووقَاهَا طينهَا الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤة الكبيرة. قاله علي، وابن عباس أيضاً.
وقيل: «المرجان» : حجر أحمر.
وقيل: حجر شديد البياض، والمرجان أعجمي.
قال ابن دريد: لم أسمع فيه كلاماً منصرفاً.
و «اللؤلؤ» ، بناء غريب لم يرد على هذه الصيغة إلا خمسة ألفاظ: اللؤلؤ، و «الجُؤجؤ» وهو الصَّدر، و «الدُّردؤ» ، و «اليُؤيُؤ» - لطائر - و «البُؤبؤ» - بالموحدتين - وهو الأصل، و «اللُّؤلُؤ» - بضمتين - والهمز هو المشهور.
وإبدال الهمزة واواً شائع فصيح وقد تقدم ذلك.
وقرأ طلحة: «اللُّؤلِىء» - بكسر اللام الثالثة - وهي لغة محفوظة، ونقل عنه أبو الفضل: «اللُّولِي» بقلب الهمزة الأخيرة ياء ساكنة، كأنه لما كسر ما قبل الهمزة قلبها ياء استثقالاً.
وقرأ أبو عمرو في رواية: «يُخْرِجُ» أي: الله تعالى، وروي عنه، وعن ابن مقسم: «نُخْرِج» بنون العظمةِ.
و «اللؤلؤ والمرجان» على هاتين القراءتين منصوبان.
فصل في مناسبة نعمة اللؤلؤ والمرجان للنعم السابقة
قال ابن الخطيب: فإن قيل: أي نعمة عظيمة في «اللُّولؤ والمرجان» حتى ذكرهما مع نعمة تعليم القرآن وخلق الإنسان؟ .
وأجاب بأن النعم منها خلق الضَّروريات كالأرض التي له مكاناً، وكذا الرزق الذي به بقاؤه.
ومنها ما يحتاج إليه، وإن لم يكن ضروريًّا كالحيوان، وإجراء الشمس والقمر.
ومنها المنافع وإن لم يكن محتاجاً إليها كالفاكهة، وخلق البحار، كقوله تعالى: {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164] .(18/320)
ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان، كقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] ، فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة، وصدرها بالنعمة العظيمة التي هي الروح وهو العلم بقوله: {عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 2] ، أو يقال: بأن المقصود منه عجائب الله لا بيان النعم؛ لأن النعم سبق ذكرها فذكر خلق الإنسان من صلصال، وخلق الجان من مارج من نارٍ، وهذان من العجائب الدَّالة على القدرة، لا من النعم.
واعلم أن الأركان أربعة: التراب والماء والهواء والنار، فالله تعالى بيّن بقوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ} ، أن التراب أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله: {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب، بقي الهواء لكنه غير محسوس، فلم يذكر أنه أصل مخلوق، لكن بين كونه منشئاً للجواري التي في البحر كالأعلام.
فقال: «ولهُ الجوارِ» .
العامة على كسر «الراء» ؛ لأنه منقوص على «مفاعِل» والياء محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله والحسن، ويروى عن أبي عمرو، «برفع الراء تناسياً للمحذوف» . ومنه: [الرجز]
4636 - لَهَا بَنَاتٌ أرْبَعٌ حِسَانُ ... وأرْبَعٌ فثَغْرُهَا ثَمَانُ
وهذا كما قالوا: هذا شاكٍ وقد تقدم تقرير هذا في الأعراف عند قوله: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] .
قوله: «المُنشآتُ» .
قرأ حمزة، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشِّين، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها، أو تنشىء السير إقْبَالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها، والشِّراع: القلاع.
وعن مجاهد: كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت، وإلا فليست منها ونسبة الرَّفع(18/321)
إليها مجاز، كما يقال: أنشأت السَّحابة المطر.
والباقون: بالفتح، وهو اسم مفعول، أي أنشأها الله، أو الناس، أو رفعوا شراعها.
وقرأ ابن أبي عبلة: «المُنَشَّآت» بتشديد الشين مبالغة.
والحسن: «المُنشَّأة» بالإفراد وإبدال الهمزة ألفاً وتاء محذوفة خطاً، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية، كقوله: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [آل عمران: 15] .
وأما إبداله الهمزة ألفاً وإن كان قياسها بين بين، فمبالغة في التخفيف.
كقوله: [البسيط]
4637 - إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... .
أي: «لتهدأ» وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة، فاتباعاً للفظها في الوصل.
و «في البَحْر» متعلق ب «المنشآت» أو «المنشأة» ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف «العراق» يقوي قرءاة الكسر، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم.
و «كالأعلام» حال، إما من الضمير المستكنّ في «المنشآت» ، وإما من «الجواري» وكلاهما بمعنى واحد.
فصل في المراد بالجواري
«الجَوَارِي» جمع جارية. وهي اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك، فيقولون: «لك الفُلْك، ولك المُلْك» .
وإذا خافوا الغرقَ دعوا الله خاصة، وسميت السفينة جارية؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفةً في السَّاحل كما سماها في موضع آخر ب «الجارية» ، فقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] .(18/322)
وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك، فقال لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] ثم بعد ما عملها سمَّاها سفينة، فقال: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} [العنكبوت: 15] .
واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها، بخلاف الزَّوجة، فهو من الصفات الغالبة.
و «السفينة» : «فعيلة» بمعنى «فاعلة» عند ابن دريد، أي: تسفن الماء و «فَعِيلَة» بمعنى «مفعولة» عند غيره بمعنى منحوتة، قال ابن الخطيب: فالفُلك أولاً، ثم السفينة، ثم الجارية.
والأعلام: الجبال، والعلم: الطويل، قال: [الرجز]
4638 - إذَا قطعْنَ علماً بَدَا عَلَمْ ... وقالت الخنساء في صخر: [البسيط]
4639 - وإنَّ صَخْراً لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ ... كَأنَّهُ علمٌ فِي رَأسِهِ نَارُ
أي «جبل» ، فالسفن في البحر كالجبال في البر.
وجمع «الجواري» ووحد «البحر» ، وجمع «الأعلام» إشارة إلى عظمةِ البحر.(18/323)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} غلب من يعقل على غيره، وجميعهم مراد.
والضمير في «عليها» للأرض.
قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر، كقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] .
ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] .
وقيل: الضمير عائد إلى الجارية.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض. فنزلت {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك. وقاله مقاتل.
ووجه النعمة في فناء الخلق: التسوية بينهم في الموت.
وقيل: وجه النِّعمة أن الموت سبب النَّقل إلى دار الجزاء والثواب.
قوله: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الوجه عبارة عنه، كما قال {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} .
ويقال: هذا وجه الأمر، ووجه الصواب، وعين الصواب، ومعنى {ذو الجلال والإكرام} أي: هو أهل لأن يكرم، وهذا خطاب مع كل سامع.
وقيل: خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: كيف خاطب الاثنين بقوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا} .
وخاطب هاهنا الواحد فقال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} ، ولم يقل: «وجْه ربِّكُمَا» ؟ .
فالجواب: أن الإشارة هاهنا وقعت إلى فناء كل أحد، فقال: {ويبقى وجه ربك} أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فانٍ، فلو قال: ويبقى وجه ربكما، لكان كل أحد يخرج نفسه، ورفيقه المخاطب عن الفناء.
فإن قيل: فلو قال: «ويبقى وجه الرّب» من غير خطاب، كان أدَلَّ على فناء الكل؟ .
فالجواب: إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضع موضع بيان اللطف، وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب.(18/324)
قوله تعالى: {ذُو الجلال والإكرام} .
العامة على «ذو» بالواو صفة للوجه، وأبي، وعبد الله: «ذي» بالياء صفة ل «ربّك» . وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
و «الجلال» : العظمة والكبرياء.
و «الإكرام» : يكرم أنبياء وأولياءه بلُطفه مع جلاله وعظمته.
قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف.
والثاني: أنه حال من «وجه» ، والعامل فيه «يبقى» أي يبقى مسئولاً من أهل السموات والأرض.
وفيه إشكال؛ لأنه لما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه.
الأول: أنهم يفنون بالنظر إليه، لكنهم يبقون بإبقاءِ الله، فيصح أن يكون الله مسئولاً.
الثاني: أن يكون مسئولاً معنًى لا حقيقة؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحالِ.
الثالث: أن قوله: «ويبقى» للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض، ويكون مسئولاً.
الرابع: أنَّ السَّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فأنهم فيها، وليسوا عليها، ولا يضرّهم زلزلتها، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة، فيسألونه ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يريد.
فصل في تحرير السؤال المقصود
وهذا السُّؤال إما استعطاف، وإما استعطاء، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه.
قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً.(18/325)
قال ابن جريج: تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء، وأهل الأرض لأهل الأرض.
قال القرطبي: وفي الحديث: «إنَّ مِنَ الملائكةِ ملكاً لهُ أربعةُ أوجهٍ، وجهٌ كوجْهِ الإنسانِ وهو يَسْألُ اللَّه الرِّزْقَ لِبَنِي آدَمَ، ووجهُ كوجْهِ الأسَدِ وهو يسألُ الله الرِّزْقَ للسِّباع، ووجْه كوجه الثَّوْر وهو يسألُ الله الرِّزْق للبهَائِمِ، ووجْه كوجْهِ النَّسْر وهو يَسْأَلُ الله الرِّزْق للطَّيْرِ»
وقال ابن عطاء: إنهم يسألونه القوة على العباد.
قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ} منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، وهو قوله: «فِي شأن» .
والشأن: الأمر.
فصل في تفسير هذه الآية
روى أبو الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» كُلَّ يوم هُوَ في شأنٍ «قال:» مِنْ شَأنِه أن يَغْفِرَ ذَنْباً، ويُفَرِّجَ كُرْبَةً، ويرفعَ أقواماً، ويضع آخرين «» .
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: يَغْفِرُ ذَنْباً، ويكْشِفُ كَرْباً ويُجِيْبُ داعياً.
وقيل: من شأنه أنه يُحْيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويرزق ويمنع.
وقال ابن بحر: الدّهر كله يومان:
أحدهما: مدة أيام الدنيا.
والآخر: يوم القيامة، فشأنه - سبحانه وتعالى - في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة: الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
والظَّاهر أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.(18/326)
وقال عمرو بن ميمون: في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حيًّا، ويحيي ميّتًا ويقرّ في الأرحام، ويعز ذليلاً، ويذلّ عزيزاً.
وقيل: من شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النَّهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مُبْتلى، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويفقر غنيًّا، ويغني فقيراً.
وقال الكلبي: هو سوق المقادير المواقيت.
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي قوله تعالى:
{فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة.
وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فما بال الإضعاف؟ .
فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله خصّ هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم.
وقيل: إن ندم «قابيل» لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله.
وأما قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] ، فمعناه: ليس له إلاَّ ما سعى عدلاً، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً.
وأما قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شُئُون يبديها ولا يبتديها، فقام عبد الله بن طاهر وقَبَّلَ رأسه، وسوغ خراجه.
قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ} .
قرأ: «سيفرغ» - بالياء - الأخوان، أي سيفرغ الله تعالى. والباقون من السبعة: بنون العظمة، والرَّاء مضمومة في القراءتين، وهي اللغة الفصحى لغة «الحجاز» .
وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من «فَرَغَ» بفتح الراء في الماضي، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحَلْق.(18/327)
والثاني: أنه سمع فيه «فَرِغَ» - بكسر العين - فيكون هذا مضارعه، وهذه لغة «تميم» وقرأ عيسى بن عمر وأبو السمال: «سَنِفْرَغُ» - بكسر حرف المضارعة وفتح الراء. وتوجيهها واضح مما تقدم في «الفاتحة» .
قال أبو حاتم: هذه لغة سفلى «مضر» .
والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم: «سَيُفْرَغُ» - بضم الياء - من تحت مبنيًّا للمفعول.
وعيسى - أيضاً - بفتح نون العظمة، وكسر الراء.
والأعرج - أيضاً - بفتح الياء، ويروى عن أبي عمرو.
فصل في الكلام على فرغ
قال القرطبي: «يقال: فرغتُ من الشغل أفرغُ فُرُوغاً وفَرَاغاً، وتفرَّغْتُ لكذا، واستفرغتُ مجهودي في كذا، أي: بذلته، وليس لله - تعالى - شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذن أتفرغ لك، أي: أقصد قصدك» .
وأنشد ابن الأنباري لجرير: [الوافر]
4640 - ألانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا
وأنشد الزجاج والنحاس: [الطويل]
4641 - فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ ... ويدل عليه قراءة أبيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «سَنفْرُغُ إليْكُمْ» أي سنقصد إليكم.(18/328)
وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه لما بايع الأنصار ليلة» العقبةِ «، صاح الشيطان: يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني» قيلة «على حربكم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أزَبّ العقبة، أما والله لأتفرَّغن لك «
أي: أقصد إلى إبطال أمرك.
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.
قال ابن الأثير: الأزَبُّ في اللغة: الكثير الشعر، وهو هاهنا شيطان اسمه «أزب العقبة» وهو الحيّة.
وقيل: إن الله - تعالى - وعد على التقوى، وأوعد على الفُجُور، ثم قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي: مما وعدناكم، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه، أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن، ومقاتل، وابن زيد.
قوله تعالى: {أَيُّهَ الثقلان} . تقدم الكلام في قراءة «أيُّهَا» في «النور» [النور: 31] وهو منادى، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع، ثم يخصص المقصود بعد ذلك، فيكون فيه اهتمام بالمنادى.
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة؛ لأن المبهم يضاف.
و «الثَّقلان» الجنّ والإنس، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.
وقيل: سمّوا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً.
قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] .
ومنه قولهم: أعطهِ ثقله أي وزنه.
وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.
وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين؛ لأنهم مثقلان بالذنوب.
وقيل: الثَّقَل الإنس لشرفهم، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل: العظيم الشريف.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ: كتاب اللَّهِ وعترتِي» .(18/329)
فصل في سبب التثنية بعد الجمع
جمع في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} ثم قال: {أَيُّهَ الثقلان} ؛ لأنهما فريقان، وكل فريق جمع، وهذا كقوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم} ، ولم يقل «إن استطعتما» ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] .
وقوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، ولو قال: سنفرغ لكما، أو قال: استطعتما، لجاز.
وقرأ أهل «الشَّام» : «أيُّهُ الثَّقلانِ» بضم الهاء، والباقون: بفتحها.
فصل في أن الجن مكلفون
هذه الآيات التي في «الأحقاف» ، و {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم.
قوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] الآية. لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، كأن قائلاً قال: فلم أخر عذابهم؟ .
فأجيب: بأن الجميع في قبضته، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه.
و «المعشر» : الجماعة العظيمة؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلاَّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد، تقول: أحد عشر، واثنا عشر وعشرون، وثلاثون، أي ثلاث عشرات، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] ؟ .
فالجواب: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان(18/330)
بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان، فقدم في كل موضع ما يليق به.
فصل في المراد بالآية
معنى الآية: إن استطعتم أن تنفذوا: تجوزوا وتخرجوا بسرعة.
والنفوذ: الخروج وقد تقدم في أول «البقرة» أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر، قال تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} فاهربوا واخرجوا منها، وهذا أمر تعجيز، والمعنى: حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} [النساء: 78] وهو قول الضحاك.
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال: يقال لهم هذا يوم القيامة، يعني: إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله.
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عَزَّ وَجَلَّ وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم وقال قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل: الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ.
وقيل معناه: لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه: لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم.
قوله تعالى: {إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} . حال أو متعلق بالفعل قبله.
والسلطان: القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يريد: حيث ما توجهتم كنتم في ملكي.
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} .
قرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل: «صِوَار» من البقر، و «صُوَار» وهو القطيع من البقر.(18/331)
و «الشُّواظ» : قيل: اللَّهب معه دخان.
وقال ابن عباس وغيره: هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له.
وقيل: اللَّهب الأحمر.
وقيل: هو الدخان الخارج من اللهب.
وقال رؤبة رَحِمَهُ اللَّهُ: [الرجز]
4642 - ... ... ... ... ... ... ... ... ونَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظَا
وقال حسَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الوافر]
4643 - هَجَوْتُكَ فاختضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ ... بِقَافِيةٍ تأجَّجُ كالشُّوَاظِ
وقال مجاهد: «الشُّواظ» : اللَّهب الأخضر المنقطع من النَّار.
وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب.
وقاله سعيد بن جبير.
وقيل: «الشُّواظ» : النَّار والدخان جميعاً. قاله ابن عمر، وحكاه الأخفش عن بعض العرب.
و «يُرْسَل» مبني للمفعول وهي قراءة العامة، وزيد بن علي «نرسل» بالنون شُواظاً ونحاساً بالنصب، و «من نار» صفة ل «شواظ» أو متعلق ب «يرسل» .
قوله: «ونُحَاس» .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بجره عطفاً على «نار» .
والباقون: برفعه عطفاً على «شُواظ» .
و «النُّحَاس» : قيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله - تعالى - ويعذبهم به.(18/332)
وقيل: الدخان الذي لا لهب معه.
قال الخليل: وهو معروف في كلام العرب.
وأنشد للأعشى: [المتقارب]
4644 - يُضِيءُ كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِي ... طِ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ فيهِ نُحَاسَا
قال المهدوي: من قال: إن الشواظ النار والدخان جميعاً، فالجر في «نُحَاس» على هذا بين.
فأما الجر على قول من قال: إن الشواظ اللَّهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: «يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس» ف «شيء» معطوف على شواظ، و «من نحاس» جملة هي صفة لشيء، وحذف «شيء» وحذفت «من» لتقدم ذكرها في «من نار» كما حذفت «على» من قولهم: على من تنزل أنزل أي: وعليه، فيكون «نُحَاس» على هذا مجروراً ب «من» المحذوفة، وتضم نونه وتكسر، وبالكسر قرأ مجاهد، وطلحة والكلبي، ونقله القرطبي عن حميد أيضاً، وعكرمة، وأبي العالية.
وقرأ ابن جندب: «ونَحْسٌ» ، كقوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} [القمر: 19] وابن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق: «ونَحُسُّ» بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُم} [آل عمران: 152] أي: ونقتل بالعذاب، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً: «ونَحس» بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين، والحسن والقاضي: «ونُحُسٍ» بضمتين وجر السين.
وتقدمت قرأة زيد: «ونُحَاساً» بالنَّصْب لعطفه على «شُواظاً» في قراءته.
و «النِّحاس» أيضاً بالكسر: الطبيعة والأصل.
يقال: فلان كريم النحاس و «النُّحاس» أيضاً بالضم، أي: كريم النِّجار.(18/333)
قال ابن مسعود: النحاس: المهل وقال الضحاك: هو دُرْديّ الزَّيت المغلي.
وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة.
قوله تعالى: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً، يعني الجن والإنس.
وثنّى الضمير في «عَلَيْكُمَا» ؛ لأن المراد النوعان، وجمع في قوله: «إن اسْتَطعْتُمْ» ؛ لأنه خطاب للمعشر، وكذا قوله تعالى: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} خطاب للحاضرين، وهم نوعان.
قوله تعالى: {فَإِذَا انشقت السمآء} جوابه مقدر، أي: رأيت هولاً عظيماً، أو كان ما كان.
وقوله: «فَكَانَت ورْدَةً» أي: مثل وردة.
فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تشمّ شبهها بها في الحمرة.
وأنشد قول الشاعر: [الطويل]
4645 - فَلَوْ كُنْتُ وَرْداً لونُهُ لَعشِقْتَنِي ... ولكِنَّ ربِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا
وقيل: هي من لون الفَرَس الورد يكون في الربيع إلى الصُّفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي شدة البرد إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلون الوردة من الخَيل.
وقرأ عمرو بن عبيد: «وَرْدَةٌ» بالرفع.
قال الزمخشري: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التَّجريد؛ كقوله: [الكامل]
4646 - فَلَئِنْ بَقِيتُ لأرحلنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الغَنائمَ أو يَمُوتَ كَرِيمُ
قوله: «كالدِّهان» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون نعتاً ل «وَرْدَة» ، وأن يكون حالاً من اسم «كانت» .
وفي «الدِّهَان» قولان:(18/334)
أنه جمع «دُهْن» نحو: قُرْط وقِرَاط، ورُمْح ورِمَاح، وهو في معنى قوله تعالى: {تَكُونُ السمآء كالمهل} [المعارج: 8] وهو: دردي الزيت.
والثاني: أنه اسم مفرد.
فقال الزمخشري: «اسم ما يدهن به كالحزام والإدام» ؛ وأنشد: [الطويل]
4647 - كأنَّهُمَا مَزادَتَا مُتَعَجِّلٍ ... فريَّان لمَّا تُدهَنَا بدِهَانِ
وقال غيره: هو الأديم الأحمر؛ وأنشد للأعشى: [الوافر]
4648 - وأجْرَدَ مِنْ كِرامِ النَّخْلِ طَرْفٍ ... كأنَّ على شَواكِلِه دِهَانَا
أي: أديماً أحمر، وهذا يحتمل أن يكون جمعاً، ويؤيده ما أنشده منذر بن سعيد: [الطويل]
4649 - تَبِعْنَ الدِّهَانَ الحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... بمَوْسمِ بَدْرٍ أو بِسُوقِ عُكَاظِ
فقوله: «الحمر» يحتمل أن يكون جمعاً، وقد يقال: هو كقولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض، إلاَّ أنه خلاف الأصل.
وقيل: شبهت بالدهان وهو الزيت لذوبها ودورانها.
وقيل: لبريقها.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: قوله تعالى: {فَإِذَا انشقت السمآء} انصدعت يوم القيامة، {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} .
قال مجاهد والضحاك، وغيرهما: «الدهان» : الدهن، والمعنى: صارت في صفاء الدّهن، والدهان على هذا جمع دهن.(18/335)
وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حُمْرة الورد، وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقّتها وذوبانها.
وقيل: الدهان: الجلد الأحمر الصرف. ذكره أبو عبيدة والفراء. أي: تصير السماء كالأديم لشدّة حر نار جهنم.
وعن ابن عباس: المعنى: فكانت كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر، وفي الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتاً أغْبر.
وقال الفراء: أراد الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إلى الصُّفرة، فإذا اشتد البرد كانت وردة؛ فإذا كان بعد ذلك كانت وردةً إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل.
وقال الحسن: «كالدِّهان» أي: كصبّ الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً.
وقال زيد بن أسلم: المعنى: أنها تصير كعكر الزيت.
وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء.
قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان.
وهذا قريب مما تقدم من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها، والورد أيضاً: يطلق على الأسد.
وقال قتادة: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها لون أحمر. حكاه الثعلبي.
قال المارودي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السَّماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة يرى لونها أزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء حمرة الدم، وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحاً، فإنَّ السماء لقربها من النَّواظر يوم القيامة، وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنها أصل لونها. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ} التنوين عوض من الجملة، أي: فيومئذ انشقَّت السَّماء، والفاء في «فيومئذٍ» جواب الشرط.
وقيل: هو محذوف، أي: فإذا انشقت السَّماء رأيت أمراً مهولاً ونحو ذلك.
والهاء في «ذنبه» تعود على أحد المذكورين، وضمير الآخر مقدر، أي: ولا يسأل عن ذنبه جانّ أيضاً؛ وناصب الظرف «لا يسأل» و «لا» غير مانعة.(18/336)
وقد تقدم الخلاف فيها في الفاتحة وتقدمت قراءة «جأنٌّ» بالهمزة فيها أيضاً.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال المفسرون: هذه الآية مثل قوله تعالى: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] .
وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض، ولا يسأل في بعض. وهذا قول عكرمة.
وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقرُّوا في النَّار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله - تعالى - حفظها عليهم، وكتبتها الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس.
وعن الحسن ومجاهد أيضاً: لا تسأل الملائكة عنهم؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
دليله قوله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} ، رواه مجاهد عنه أيضاً في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ، وهو قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} .
قال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، ولكنهم يسألهم لم عملتموها؟ سؤال توبيخ.
وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.
وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم، ثم يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
قوله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} .
قرأ حماد بن أبي سليمان: «بِسِيمائِهِمْ» بالمد.
قوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي} الآية.
«يُؤخذ» متعدّ، ومع ذلك تعدى بالباء؛ لأنه ضمن معنى «يسحب» . قاله أبو حيان.
و «يسحب» إنما يتعدى ب «على» ، قال تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] فكان ينبغي أن يقول: ضمن معنى يتعدى «يدعون أو يدفعون» .
وقال مكّي: «إنما يقال: أخذت الناصية، وأخذت بالناصية، ولو قلت: أخذت الدَّابة بالناصية، لم يجز.(18/337)
وحكي عن العرب: أخذت الخِطَام، وأخذت بالخِطَام.
بمعنى.
وقد قيل: إن تقديره: فيؤخذ كل واحد بالنَّواصي، وليس بصواب؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما: بالباء، لما ذكرنا، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بحرف جر غير الباء، نحو: أخذت ثوباً من زيد، فهذا المعنى غير الأول، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلاَّ أن تجعلها بمعنى «من أجل» ، فيجوز أن تقول: «أخذت زيداً ثوباً بعمرو» أي: من أجله وبذنبه «. انتهى.
وفيما قاله نظر، لأنك تقول:» أخذت الثوب بدرهم «فقد تعدّى بغير» من «أيضاً بغير المعنى الذي ذكره.
وقال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى: {لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21] ؟ .
فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم، وبالباء كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن، فقال تعالى: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21] ، وقال تعالى {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ.
و» أل «في» النَّواصي والأقْدَام «ليست عوضاً من ضمير عند البصريين، فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عوض.
والنَّاصية: مقدم الرأس، وقد تقدم هذا مستوفى في» هود «وفي حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:» مَا لَكُم لا تَنُصُّونَ مَيَّتَكُمْ «أي: لا تمدُّون ناصيته.
و» النَّصيّ «: مرعى طيب، فقولهم: فلان ناصية القوم، يحتمل أن يكون من هذا، يعنون أنه طيب منتفع، أو مثل قولهم: هو رأسُ القَوْمِ انتهى.
فصل في سيما المجرمين
قال الحسن: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي بسواد الأوجه، وزرقة الأعين قال تعالى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] .
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] .(18/338)
فقوله: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي: يأخذ الملائكة بنواصيهم، أي: بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار.
و» النَّواصي «: جمع ناصية.
وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقَّ ظهره، ثم يلقى في النّار.
وقيل: يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه، وأكثر لتشويهه.
وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النَّار، تارةً تأخذ بناصيته، وتجرّه على وجهه، وتارةً تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
فإن قيل: ما وجه إفراد» يُؤخَذ «مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون؟ .
فالجواب من وجهين: الأول: أن قوله:» يُؤخَذُ «متعلق» بالنواصي «، كقولك: ذهب يزيد.
والثاني: أن يتعلق بما يدلّ عليه» يؤخذ «، فكأنه قال: يؤخذ المأخوذون بالنواصي.
قوله
تعالى
: {هذه
جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي يقال لهم: هذه جهنّم.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: معناه هذه صفة جهنم، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف، وقد يكون المشار إليه هو ما تقدم.
قال: والأقوى أن يقال: الكلام تم عند قوله تعالى: {بالنواصي والأقدام} ، وقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ} لقربها، كما يقال: هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال: جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويؤيده قوله: «يُكَذِّبُ» ؛ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم: (هذه جهنم التي كذب بها المجرمون) ؛ لأن في ذلك اليوم لا يبقى تكذيب.
قوله تعالى: «يَطُوفُونَ» .
قراءة العامة: «يَطُوفون» من «طاف» ، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبو عبد الرحمن: «يُطَافُونَ» مبنيًّا للمفعول، من أطافهم غيرهم.
والأعمش وطلحة وابن مقسم: «يُطَوِّفُون» بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، أي يطوفون أنفسهم.
وقرأت فرقة: «يَطَّوَّفُونَ» بتشديد الطَّاء والواو، والأصل: «يتطوّفون» .(18/339)
قوله تعالى: {حَمِيمٍ آنٍ} أي: حَارّ متناهٍ في الحرارة، وهو منقوص ك «قاض» يقال: «أتَى يَأتِي فهو آتٍ» ك «قَضَى يَقْضِي فهو قَاضٍ» . وقد تقدم في «الأحزاب» .
قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الحميم والجحيم.
و «الحميم» : الشّراب. وفي قوله تعالى: «آنٍ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الذي انتهى حرّه وحميمه. قاله ابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني: [الوافر]
4650 - وتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ ... بأحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ
وقال قتادة: «آن» طبخ منذ خلق الله السموات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك.
وعن كعب: أنه الحاضر، وعنه أيضاً: «آن» اسم واد من أودية جهنّم.
وقال مجاهد: إنه الذي قد آنَ شربه، وبلغ غايته.
ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة، فكيف قال: بأي آلاء؟ .
فالجواب من وجهين.
أحدهما: أن ما وصف من هَوْلِ القيامة، وعقاب المجرمين فيه زَجْر عن المعاصي، وترغيب في الطَّاعات وهذا من أعظم النعم.
«روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتى على شاب في الليل يقرأ: {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} فوقف الشَّاب، وخنقته العبرة، وجعل يقول: ويحي من يوم تنشقُّ فيه السماء وَيْحِي، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ويحك يا فتى، يأتيني مثلها، فوالذي نَفْسِي بيدهِ لقَدْ بَكَتْ ملائكةُ السَّماءِ منْ بُكائِكَ «» .
الثاني: أن المعنى كذبتم بالنعم المتقدمة ما استحقيتم هذه العقوبات، وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.(18/340)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} .
يجوز أن يكون «مَقَام» مصدراً، وأن يكون مكاناً.
فإن كان مصدراً، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي: قيام ربه عليه، وحفظه لأعماله من قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] . ويروى عن مجاهد، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي: هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
وأن يكون مضافاً لمفعوله، والمعنى: القيام بحقوق الله فلا يضيعها.
وإن كان مكاناً، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة.
قيل: فيه مقام الله، والمعنى: خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فنزلت المعصية، ف «مقام» : مصدر بمعنى القيام.
فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة
قال القرطبي: هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته: إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه. وقاله سفيان الثوري وأفتى به.
فصل في المراد بالجنتين
الظاهر أن الجنتين لخائف واحد.
قال محمد بن علي الترمذي: جنّة لخوفه من ربه، وجنّة لتركه شهوته.(18/341)
قال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض.
قال القرطبي: ويجوز أن يكون المقام للعبد، ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34] وقوله في موضع آخر: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] .
وقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ} أي: كل خائف له جنتان على حدة.
وقيل: جنتان لجميع الخائفين. والأول أظهر.
وقيل: جنة لخائف الإنس، وأخرى لخائف الجن، فيكون من باب التوزيع. وقيل: «مقام» هنا مُقحم، والتقدير: «ولمن خاف ربه» ؛ وأنشد: [الوافر]
4651 - ... ... ... ... ... ونَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي: نفيت الذئب وليس بجيد، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة.
وقيل: المراد ب «الجنتين» : جنّة للجزاء، وأخرى زيادة على الجزاء.
وقيل: إن الجنتين: جنته التي خلقت له، وجنة ورثها.
وقيل: إحدى الجنتين منزله، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا.
وقيل: إحدى الجنتين مسكنه، والأخرى بستانه.
وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور، والأخرى أعاليها.
وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم.
وقال الفرَّاء: إنها جنة واحدة، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي.
وقيل: جنة واحدة، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] .
وأنكر القتبي هذا، وقال: لا يجوز أن يقال: خزنة النار عشرون، وإنما {تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] مراعاة لرءوس الآي.
وأيضاً قال: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} .
وقال عطاء وابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت، والنَّار حين برزت.
وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ، فأعجبه فسأل عنه، فأخبر أنه من غير حلٍّ فاستقاءه ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينظر إليه، فقال: «رحمكَ اللَّهُ لقَدْ أنْزِلَتْ فِيْكَ آيَةٌ» ، وتلا عليه هذه الآية.(18/342)
قوله تعالى: «ذَوَاتَا» . صفة ل «جَنَّتان» ، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: «هما ذواتا» .
وفي تثنية «ذات» لغتان:
الرد إلى الأصل، فإن أصلها «ذوية» ، فالعين واو، واللام ياء؛ لأنها مؤنثة «ذو» .
الثانية: التثنية على اللفظ. فيقال: «ذواتا» .
و «الأفنان» : فيه وجهان.
أحدهما: أنه جمع «فَنَن» ك «طلل» ، وهو الغصن.
قال النابغة الذبياني: [الوافر]
4652 - بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلاً ... مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغَني
وقال آخر: [الرمل]
4653 - رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بالضُّحَى ... ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر: [الطويل]
4654 - ... ... ... ... ... ... ... عَلَى كُلِّ أفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
و «الفَنَن» : جمعه أفنان ثم الأفانين.
قال الشاعر يصف رحى: [الرجز]
4655 - لَهَا زِمَامٌ مِنْ أفَانِينِ الشَّجَرْ ... وشجرة فناء: أي ذات أفنان، وفنواء أيضاً على غير قياس.
وفي الحديث: «أنَّ أهْلَ الجنَّةِ مُردٌ مُكَحَّلُون أولُو أفَانِيْن» .
وهو جمع أفنان، وأفنان: جمع «فَنَن» من الشعر، شبه بالغصن. ذكره الهروي.
وقيل: «ذواتا أفنان» أي: ذواتا سعة وفضل على ما سواهما. قاله قتادة.(18/343)
وعن مجاهد أيضاً وعكرمة: أن الأفنان ظل الأغصان على الحِيْطان.
وقال مجاهد: الفنن: هو الغصن المستقيم طولاً.
الوجه الثاني: أنه جمع «فنّ» ك «دنّ» ، وإليه أشار ابن عبَّاس.
والمعنى: ذواتا أنواع وأشكال؛ وأنشدوا: [الطويل]
4656 - ومِنْ كُلِّ أفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا ... لَهَوْتُ بِهِ والعَيْشُ أخضرُ نَاضِرُ
قال سعيد بن جبير والضحاك: ألوان من الفاكهة، واحدها: «فنّ» ، من قولهم: «افتنّ فلان في حديثه» إذا أخذ في فنون منه وضروب، إلا أن الكثير في «فنّ» أن يجمع على «فنون» ، وجمع عطاء بين القولين فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة.
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي: في كل واحدة منهما عينٌ جارية، كما قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] تجريان ماء بالزيادة، والكرامة من الله - تعالى - على أهل الجنَّة.
وعن ابن عباس أيضاً والحسن: تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين: التسنيم؛ والأخرى السلسبيل.
وقال ابن عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذّة للشَّاربين.
وقيل: تجريان من جبل من مسك.
وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينانِ تجريانِ، لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عَزَّ وَجَلَّ.
قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} ، أي: صنفان ونوعان.
قيل: معناه: أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً.
وقال ابن عبَّاس: ما في الدنيا ثمرة حُلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحَنْظل إلاّ أنه حلو.(18/344)
فإن قيل: قوله تعالى: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} ، و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} ، و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} . أوصاف للجنتين المذكورتين، فهو كالكلام الواحد، تقديره: «جنتان ذواتا أفنان، وفيهما عَيْنَان تجريان، وفيهما من كل فاكهة زوجان» فما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ مع أنه لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات، بل قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] مع أن إرسال النُّحاس غير إرسال الشُّواظ. وقوله: «يَطُوفُون» كلام آخر؟ .
فالجواب: أنه جمع العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب، وتهييجاً للسَّامع؛ فإن إعادة ذكر المحبوب محبوب، وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل: ما وجه توسيط آية العينين بين ذكر الأفنان، وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان، فالمناسبة ألاّ يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ .
فالجواب: أنه على عادة المتنعمين إذا خرجوا يتفرجون في البستان، فأول قصدهم الفرجة بالخضرة والماء، ثم يكون الأكل تبعاً.
قوله: «متّكِئين» يجوز أن يكون حالاً من «منْ» في قوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وإنما جمع حملاً على معنى «مَنْ» بعد الإفراد حملاً على لفظها.
وقيل: حال عاملها محذوف، أي: يتنعمون متكئين.
وقيل: منصوب على الاختصاص.
والعامة على: «فُرُش» بضمتين، وأبو حيوة: بضمة وسكون، وهي تخفيف منها.
قوله تعالى: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة ل «فُرش» . وتقدم الكلام في «الاستبرق» في سورة الكهف.
وقال أبو البقاء: أصل الكلمة فعل على «اسْتَفْعَلَ» ، فلما سمي به قطعت همزته.
وقيل: هو أعجمي، وقرىء بحذف الهمزة، وكسر النون، وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء، بل في المصادر والأفعال. انتهى. أما قوله: وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء ... الخ.(18/345)
يعني أن حذف الهمزة في الدَّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر.
وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها؛ لأنها همزات قطع.
قال شهاب الدين: «وهذا الكلام أحق بأن يكون سهواً؛ لأنا أولاً لا نسلم أن هذه القراءة من حذف همزة القطع إجراءً لها مجرى همزة الوصل، وإنما ذلك من باب نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحركة الهمزة كانت كسرة، فحركة النون حركة نقل لا حركة التقاء الساكنين» .
ثم قوله: «إلا في الأفعال والمصادر» ليس هذا الحَصْر بصحيح اتفاقاً لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب.
قال ابن الخطيب: قوله: «عَلى فُرُشٍ» متعلق بما في «مُتَّكئينَ» ، كأنه يقول: يتَّكئون على فرش، كما يقال: فلان اتكَّأ على عصاه، أو على فخذيه، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه، وإن كان متعلقاً بغيره فما هو؟ .
فنقول: تقديره: يتفكّه الكائنون على فرش متكئين، من غير بيان ما يتكئون عليه.
فصل في تحرير معنى الاستبرق
«الإسْتَبْرَقُ» : ما غلظ من الدِّيباج.
قال ابن مسعود، وأبو هريرة: إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة؟ .
وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ .
قال: هذا مما قال الله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.
قال القرطبي: وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ظَواهِرُهَا نُورٌ يتلألأُ» وعن الحسن: البطائن هي الظَّواهر، وهو قول الفراء.(18/346)
روي عن قتادة: والعرب تقول للبطن: ظهراً، فيقولون: هذا بطن السماء، وظهر الأرض.
وقال الفرَّاء: قد تكون البطانة: الظهارة، والظهارة: البطانة؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه.
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلاَّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء.
وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر.
فصل في أن الإستبرق معرب
قال ابن الخطيب: الإستبرق معرب، وهو الدِّيْبَاج الثخين، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه، وهو أن أصله بالفارسية «ستبرك» بمعنى: ثخين، فزادوا في أوله همزة، وبدلوا الكاف قافاً، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع، فصارت كالسكون، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل، وقالوا: «مِن اسْتَبْرَقٍ» . والأكثرون جعلوها همزة قطع؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك، لكن بحركة فاسدة، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة، وتمكنهم من تسكين الأول؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن، ولا تبدل حركة بحركة.
وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه «ستبرك» ب «مسجدك» ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما، فلو تركت الكاف قافاً أولاً، ثم ألحقت الهمزة بأولها، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهلٌ عليهم، وبه يحصل الإعجاز، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم، بخلاف المريض والمهموم.
قوله تعالى: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} مبتدأ وخبر، وأصله: «دان» مثل «غاز» فأعل كإعلاله.(18/347)
وقرأ عيسى بن عمر: «وجَنِي» بكسر النون.
وتوجيهها: أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف لالتقاء الساكنين، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرىء: «وجِنَى» بكسر الجيم، وهي لغة.
والجنى: ما يقطف من الثِّمار، وهو «فَعْلٌ» بمعنى «مفعول» كالقَبْضِ والقنص.
فصل في المراد بالجنى
قال القرطبي: «الجنى» : ما يُجْتنى من الشجر، تقول: أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى، وثمرة جنيٌّ على «فَعِيل» حين جُني.
قوله: «دانٍ» أي: قريب.
قال ابن عبَّاس: تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
وقال قتادة: لا يرد يده بعد، ولا شوك.
قال ابن الخطيب: جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء، وفي الجنة هو متكىء، والثمرة تتدلى إليه.
ثانيها: أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة، ويتحرك إليها، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم، وتدور عليهم.
وثالثها: أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد، ومكان واحد.
قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} .
اختلف في هذا الضمير.
فقيل: يعود على الجنات.(18/348)
فإن قيل: كيف تقدّم تثنيته في قوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ} ، و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} ثم أتى بضمير جمع؟ .
فالجواب: أن أقلّ الجمع اثنان على قول، وله شواهد تقدم أكثرها، أو يقال: عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين.
أو يقول: كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل، فأطلق على كل واحد منها جنة.
وقيل: يعود على الفرش.
قال الزمخشري: «فِيهِنَّ» أي: في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين، والفاكهة والفرش والجنى.
قال أبو حيان: «وفيه بُعْد» وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر؛ لأن الاستعمال أن يقال: على الفراش كذا، ولا يقال: في الفراش كذا إلا بتكلّف.
فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول: «فيهن» بحرف الظرفية؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها.
وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً.
وقال الفراء: كل موضع في الجنة، فلذلك صح أن يقال: «فيهن» .
والقاصرات: الحابسات الطَّرف: أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن.
ومعناه: قصرن ألحاظهن على أزواجهن.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
4657 - مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ ... مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا
و «قاصرات الطّرف» من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً، إذ يقال: قصر طرفه على كذا، وحذف متعلق القصر للعلم به، أي: على أزواجهن.
وقيل: معناه: قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن.
ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع؛ لأنه في معنى المصدر، من طرفت عيناه(18/349)
تطرف طرفاً، يقال: ما فيها عين تطرف، ثم سميت العين بذلك، فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: «قَومٌ عَدْل، وصَوْم» . قاله القرطبي.
واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأنه بيَّن أولاً المَسْكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان، والأعين الجارية، ثم ذكر المأكول، فقال: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} ، ثم ذكر موضع الرَّاحة بعد الأكل وهو الفرش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
قال ابن الخطيب: وقوله: {قَاصِرَاتُ الطرف} .
أي: نساء أو أزواج، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه - تعالى - لم يذكرهُنّ باسم الجنس، وهو النساء بل بالصفات، فقال: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] ، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ: 33] {قَاصِرَاتُ الطرف} ، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} [الرحمن: 72] ولم يقل: نساء عُرباً، ولا نساء قاصرات، لوجهين:
إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن.
وقوله تعالى: {قَاصِرَاتُ الطرف} يدل على عفّتهن، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن، فيحببن أزواجهن حبًّا يشغلهنَّ عن النَّظر إلى غيرهم، ويدل أيضاً على الحياء؛ لأن الطرف حركة الجفن، والحييَّةُ لا تحرك جفنها، ولا ترفع رأسها.
قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل «قاصرات» ، لأن إضافتها لفظية، كقوله تعالى: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] .
وقوله: [البسيط]
4658 - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ..... ... ... ... ... ... . .
وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالإضافة.
واختلف في هذ الحرف والذي بعده عن الكسائي، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء.
ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط.
ونقل عنه أبو الحارث: ضم الثاني فقط، وهما لغتان.
يقال: طَمَثَها يَطْمِثها ويَطْمُثها إذا جامعها، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال:(18/350)
كنت أصلي خلف أصحاب عليٍّ فأسمعهم يقولون: «لم أطْمِثْهُنّ» بالرفع، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون: بكسر الميم، وكان الكسائي يضم إحداهما، ويكسر الأخرى لئلاّ يخرج عن هذين الأثرين.
وأصل «الطَّمْث» : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه دم.
وقيل: «الطّمث» : دم الحيض ودم الجماع، فيكون أصله من الدم.
ومنه قيل للحائض: طامث، كأنه قيل: لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ.
وقيل الطمث: المسّ الخالص.
وقال الجحدري، وطلحة بن مصرف: «يطمثهن» بفتح الميم في الحرفين، وهو شاذ، إذ ليس عينه ولا لامه حرف حلق.
والضمير في «قبلهم» عائد على الأزواج الدال عليهم قوله: {قَاصِرَاتُ الطرف} ، أو الدَّال عليه «متكئين» .
فصل في تحرير معنى الطمث
قال القرطبي: «لم يطمثهن» أي: لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد.
قال الفراء: والطَّمْث: الافتضاض والنكاح بالتدمية، طَمَثَها يَطْمِثُها طَمْثاً إذا افتضها.
ومنه قيل: امرأة طامث أي: حائض.
وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان، إلا أن الفراء أعرف وأشهر.
قال الفرزدق: [الوافر]
4659 - وقَعْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وهُنَّ أصحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ
وقال أبو عمرو: الطَّمث والمس، وذلك في كل شيء يمسّ، ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبله أحد، وما طمث هذه النَّاقة حبل أي ما مسها عقال وقال المبرد: لم يذللهن إنس ولا جان، والطمث: التذليل.(18/351)
وقرأ الحسن: «جأن» بالهمزة.
فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس
دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة، ويكون لهم فيها جنيّات.
قال ضَمْرَة: للمؤمنين منهم أزواج من الحُور، فالإنسيَّات للإنس، والجنّيات للجن.
وقيل: معناه: لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنَّة من الحور العين من الإنسيّات إنس، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.
قال القرطبي: قد مضى القول في سورة «النمل» وفي «سبحان» وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم.
وقد قال مجاهد: إنه إذا جامع الرجل، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان. والحور العين قد برئن من ذلك العيب.
قال مقاتل قوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} ؛ لأنهن خلقن في الجنة، فعلى قوله يكونون من حور الجنة.
وقال الشعبي: من نساء الدنيا لم يَمْسَسْهن منذ أنشئن خلقٌ، وهو قول الكلبي، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان.
قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل «قَاصِرَات» ، وأن تكون حالاً منها. ولم يذكر مكي غيره.
و «الياقُوت» : جوهر نفيس، يقال: إن النار لم تؤثر فيه.
ولذلك قال الحريري: [البسيط]
4660 - وطَالَمَا أصلي اليَاقوتُ جَمْر غَضَى ... ثُمَّ انْطفَى الجَمْرُ والياقوتُ يَاقوتُ(18/352)
أي حاله لم يؤثر بها، وجه التشبيه كما قال الحسن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان، وهذا على القول بأنه أبيض.
وقيل: الوجه في الصفة بهما لنفاستهما لا للونهما، ولذلك سموا بمرجانة ودُرَّة وشبه ذلك.
قوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} .
قرأ ابن أبي إسحاق: «إلا الحسان» أي: الحور الحسان.
قال القرطبي: هَلْ في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى «قد» ، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] ، {وَهَلْ أَتَاكَ} [طه: 9] ، وبمعنى الاستفهام كقوله: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] .
وبمعنى الأمر كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] .
وبمعنى «ما» في الجَحْد كقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} [النحل: 35] ، و {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} .
قال ابن الخطيب: في هذه الآية وجوهٌ كثيرة حتى قيل: إنَّ في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول:
أحدها: قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] .
ثانيها: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] .
ثالثها: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} والمشهور منها أقوال:
أحدها: قال عكرمة: أي: هل جزاء من قال: لا إله إلاَّ الله، وعمل بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا الجنة.
وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. قاله ابن زيد.
«وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} ثم قال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» .
«وروى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية، فقال:» يقول الله تعالى: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أنْ أُسكنه جنَّتي وحظيرة قدسي برحمتي «» .(18/353)
وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان إليه في الأبد.
قال ابن الخطيب: والأقرب أنه عام، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو أيضاً.(18/354)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
قوله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} .
أي: من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين، وقيل: بالعكس، ورجحه الزمخشري.
وقال: قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} مع قوله في الأوليين: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] يدل على أن مرتبة هاتين دونهما، وكذلك قوله في الأوليين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] مع قوله في هاتين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} ؛ لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأوليين: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} [الرحمن: 52] مع قوله في هاتين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} ، وقوله في الأوليين: {فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها، وعدم إدراك العقول إياها، مع قوله في هاتين: «رفرفٍ خُضرٍ» دليل عليه.
وقال القرطبي: لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} [الرحمن: 52] وفي الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ولم يقل: من كل فاكهة.
وقال في الأوليين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وهو الدِّيباج.
وفي الأخريين: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] و «العَبْقَرِي» : الوشْي، والديباج أعلى من الوشي.
والرفرف: كسرُ الخباء، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء.(18/354)
وقال في الأوليين في صفة الحور: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] .
وفي الأخريين: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] .
وفي الأخريين: {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم، أي: هاتان الأخريان لكم، أسكنوا فيهما من تريدون.
وقيل: إن المراد بقوله: {وَمِن دُونِهِمَا} أي: دونهما في المكان، كأنهم في جنتين، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين، بدليل قوله تعال: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر: 20] .
وقال ابن عباس: ومن دونهما في الدّرج.
وقال ابن زيد: ومن دونهما في الفضل.
وقال ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين: النخل والشجر وفي الأخريين: الزرع والنبات.
وقيل: المراد من قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث.
وقال ابن جريج: هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان، وعينان تجريان، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان.
وقال أبو موسى الأشعري: جنتان منها للسَّابقين، وجنتان من فضَّة للتابعين.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَنَّتانِ من فضَّةٍ، آنيتُهمَا وما فيهمَا، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ» .
وقال الكسائي: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي: أمامهما وقبلهما.(18/355)
قال البغوي: «يدلّ عليه قول الضحاك: الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة، والأخريان من ياقُوت وزمرّد، وهما أفضل من الأوليين» .
وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» ، وقال: «ومعنى {ومن دونهما جنتان} أي: دون هذا إلى العرش، أي: أقرب وأدنى إلى العرش» .
وقال مقاتل: الجنَّتان الأوليان: جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان: جنة الفردوس، وجنة المأوى.
قوله تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان. قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقال مجاهد: مسودتان.
والإدْهَام في اللغة: السواد وشدة الخضرة، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما، وهذا مشاهد بالنظر، ولذلك قالوا: سواد «العراق» لكثرة شجره وزرعه.
ويقال: فرس أدهم وبعير أدهم، وناقة دهماء، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم.
وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً: أي: اسوداداً، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد، ويقال للأرض المعمورة: سواد يقال: سواد البلد.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ» .
قال ابن الخطيب: والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} .
قال ابن عباس: فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة: الرَّشُّ والرشحُ، وبالمعجمة: فورانُ الماء.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: المعنى نضَّاختان بالخير والبركة.
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر.(18/356)
وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء.
قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} .
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وهذا ظاهر الكلام، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما.
وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] .
وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] .
قال شهاب الدين: وهذا يجوز؛ لأن «فاكهة» عامًّا؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وإنما هو مطلق، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك.
وقال القرطبي: إنما كررهما؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا؛ لأن النخل عامةُ قوتهم، والرُّمان كالتمرات، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما، وكثرتهما عندهم في «المدينة» إلى «مكّة» إلى ما والاها من أرض «اليمن» ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه، وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل: أفردا بالذكر؛ لأن النخل ثمرة: فاكهة وطعام.
والرُّمان: فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكّه.
ومنه قال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً، أو رطباً لم يحنث.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال ابن الخطيب: قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات، فقال: {مُدْهَآمَّتَانِ} بأنواع(18/357)
الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب؛ لأنهما متقابلان.
أحدهما: حلو، والآخر: حامض.
وأحدهما: حار، والآخر: بارد.
وأحدهما: فاكهة وغذاء، والآخر: فاكهة ودواء.
وأحدهما: من فواكه البلاد الباردة، والآخر: من فواكه البلاد الحارة.
وأحدهما: أشجار في غاية الطول والكبر، والآخر: أشجاره بالضّد.
وأحدهما: ما يؤكل منه بارز، وما لا يؤكل كامن، فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] .
فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة
قال ابن عباس: الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجَنة: جذوعها زمرد أخضر، وكرمُها ذهب أحمر، وسعفُها كسوة لأهل الجنة، فيها (مقطعاتهم) وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزُّبد، ليس له عجم.
وفي رواية: كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود: اثنا عشر ذراعاً.
قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} .
في «خيرات» وجهان:
أحدهما: أنه جمع «خَيْرة» من الخير، بزنة «فعْلة» - بسكون العين - يقال: «امرأة خَيْرة وأخرى شَرّة» .(18/358)
والثاني: أنه جمع «خيرة» المخفف من «خَيِّرة» ، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي، وبكر بن حبيب: «خيّرات» بتشديد الياء.
قال القرطبي: «وهي قراءة قتادة، وابن السميفع، وأبي رجاء العطاردي» .
وقرأ أبو عمرو: «خَيَرَات» بفتح الياء، جمع «خَيَرة» ، وهي شاذة؛ لأن العين معلة، إلا أن بني «هُذَيل» تعامله معاملة الصحيح، فيقولون: «حورات وبيضات» .
وأنشد: [الطويل]
4661 - أخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: «الخيرات الحسان» يعني النِّساء، الواحدة «خيرة» على معنى «ذوات خير» .
وقيل: «خيرات» بمعنى «خيِّرات» ، فخفف ك «هَيِّن وليِّن» .
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «قلت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أخبرني عن قوله:» خَيْراتٌ حِسَان «قال:» خَيراتُ الأخلاقِ حسانُ الوُجوهِ «» .
وقال أبو صالح: لأنَّهُنَّ عَذَارى أبْكَارٌ.
وقال الحكيم الترمذي: ف «الخيرات» ، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين، ثم قال: «حِسَانٌ» فوصفهن بالحسن؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شباباً بالحسن، فانظر ما هناك.
وقال ابن الخطيب: «في باطنهن الخير، وفي ظاهرهنّ الحسن» .
قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} .
معنى «مقصورات» : أي: محبوسات ومنه القصر؛ لأنه يحبس من فيه.(18/359)
ومنه قول النحاة: «المقصور» ، لأنه حبس عن المد، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت كما قال قيس بن الأسلت: [الطويل]
4662 - وتَكْسَلُ عَنْ جِيرَانِهَا فَيَزُرنهَا ... وتغْفُلُ عَنْ أبْيَاتِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال: امرأة مقصورة وقصيرة، وقصورة بمعنى واحد.
قال كثير عزة فيه: [الطويل]
4663 - وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كُلَّ قصيرةٍ ... إليَّ، ولَمْ تَعْلَمْ بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قِصاراتِ الحِجَالِ ولمْ أردْ ... قِصَارَ الخُطَا، شرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
و «الخيام» : جمع «خَيْمة» ، وهي تكون من ثُمام وسائر الحشيش، فإن كانت من شعر، فلا يقال لها: خيمة، بل بيت.
قال جرير: [الوافر]
4664 - مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ ... سُقيتِ الغَيْثَ أيَّتُهَا الخِيَامُ
فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات
اختلفوا أيهما أكثر حسناً وأتم جمالاً الحور أو الآدميات.
فقيل: الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسُّنة، «ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دعائه في صلاة الجنائز:» وأبْدِلْ لَهُ دَاراً خَيْراً مِنْ داره، وأبْدِلْ لَهُ زَوْجاً خَيْراً من زَوْجِه «» .
وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، روي ذلك مرفوعاً.(18/360)
وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النَّبيِّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة. قاله الحسن البصري.
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هن مخلوقات في الجنة؛ لأن الله تعالى قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
فصل في جمال الحور العين
«الحور» : جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها.
و «المقصورات» : المحبوسات المستورات في الخيام، وهي الحجال، لسن بالطَّوافات في الطرق، قاله ابن عباس.
وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الخيمة» : درّة مجوفة. وقاله ابن عباس.
وقال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش، فخلقن من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصُورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين.
وقال مجاهد: قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلاً.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لوْ أنَّ امْرأةً مِنْ نساءِ أهْلِ الجنَّة اطَّلعَتْ على أهْلِ الأرْضِ لأضاءَتْ ما بينَهُما، ولمَلأتْ ما بَيْنهُمَا ريحاً» .
وتقدَّم الكلام على قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} .
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} .
«الرفرف» : جمع رفرفة فهو اسم جنس.
وقيل: بل هو اسم جمع. نقله مكي، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري: «والرفرف» : ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة: رَفرفة.(18/361)
واشتقاقه: من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران، ورفرف السحاب هبوبه.
ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع.
وقال الراغب: رفيف الشجر: انتشار أغصانه، ورفيف الطائر نشر جناحيه، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده، ثم استعير للفقدِ، ومنه: «ما له حاف ولا رافّ» ، أي: من يحفه ويتفقده، والرفرف: المنتشر من الأوراق.
وقوله: {على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ضرب من الثياب مشبه بالرياض.
وقيل: الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد.
وذكر الحسن: أنه البُسُط.
وقال ابن جبير، وابن عباس أيضاً: رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن.
وقال ابن عيينة: هي الزَّرابي.
وقال ابن كيسان: هي المرافق.
وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب.
وقيل: الفرش المرتفعة.
وقيل: كل ثوب عريض عند العرب، فهو رفرف.
قال القرطبي: «وفي الخبر في وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ» .
أي: رفع طرف الفسطاط.
وقيل: أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً.
قال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز: رفّ يرفّ رفيفاً. حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه، قاله الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» .
قال: فالرفرف أعظم خطراً من الفرش، فذكر في الأوليين
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] .
وقال هنا: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} .
فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح.(18/362)
ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بلغ سدرة المنتهى، جاء الرفرف فتناوله من جبريل، وطار به إلى سند العرش، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي، ثم لما كان الانصراف تناوله، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل - عليه السلام -.
ف «الرفرف» : خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه.
فصل في الكلام على قوله: خضر
قوله تعالى: «خُضْرٍ» . نعت هنا ب «خضر» ؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] وحسن جمعه هنا جمع «حِسَان» .
وقرأ العامة: «رفرف» وقرأ عثمان بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم: «رفَارِفَ خُضْرٍ» بالجمع وسكون الضاد.
وعنهم أيضاً «خُضُر» بضم الضاد، وهي إتباع للخاء.
وقيل: هي لغة في جمع «أفْعَل» الصفة.
قال القرطبي: وروى أبو بكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ: {متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان} . ذكره الثعلبي، وضم الضاد من «خُضُر» قليل.
وأنشد ل «طرفة» : [الرمل]
4665 - أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا ... جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ
وقال آخر: [البسيط]
4666 - ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ ... ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ(18/363)
وقرءوا: «وعَباقِريَّ» - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف، وهي مشكلة.
إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب، وكأن هذا القارىء توهم كونها في «مفاعل» تمنع من الصرف.
وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «عباقريّ» منوناً ابن خالويه.
وروي عن عاصم: «رَفَارِف» بالصَّرف.
وقد يقال في من منع «عَبَاقِري» : إنه لما جاور «رَفارِف» الممتنع امتنع مشاكلة.
وفي من صرف «رَفارف» : إنه لما جاور «عباقِريًّا» المنصرف صرفه للتناسب، كقوله: {سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً} [الإنسان: 4] . كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويًّا: «خُضَّار» ك «ضُرَّاب» بالتشديد، و «أفْعَل، وفُعَّال» لا يعرب.
قوله: «وعَبْقريّ حِسَان» .
الجمهور على أن «عبقري» منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنها بلد الجن.
قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن «عَبْقَرَ» قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.
وقال الخليل: كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.
ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه» .
وقال أبو عمرو بن العلاء، وقد سئل عن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه» ؛ فقال: رئيس قوم وجليلهم.(18/364)
وقال زهير: [الطويل]
4667 - بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ ... جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا
وقال الجوهري: «العَبْقَري» موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن؛ قال لبيد: [الطويل]
4668 - ... ... ... ... ... ... ... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ
ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، فقالوا: «عبقري» وهو واحد وجمع.
وفي الحديث: «أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ» وهو البُسُط التي فيها الأصباغ، والنقوش، والمراد به في الآية: قيل: البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل: الزَّرابي.
وقيل: الطَّنافس.
وقيل: الدِّيباج الثَّخين.
«عَبْقَرِي» جمع عبقرية، فيكون اسم جنس كما تقدم في «رفرف» .
وقيل: هو واحد دالّ على الجمع، ولذلك وصف ب «حِسَان» .
قال القرطبي: وقرأ بعضهم: «عَباقِريٌّ حِسَان» وهو خطأ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته.
وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل: «كُرسيِّ وكَراسِيّ، وبُختيِّ وبخاتِي» .
قوله: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} .
قرأ ابن عامر: «ذُو الجلالِ» بالواو، جعله تابعاً للاسم، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشَّاميين.
قال القرطبي: «وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى» .(18/365)
والباقون: بالياء، صفة للربّ، فإنه هو الموصوف بذلك، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم.
فصل في تحرير معنى تبارك
«تبارك» تفاعل من «البركة» .
قال ابن الخطيب: وأصل التَّبارك من التَّبرك، وهو الدوام والثبات، ومنه برك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون فيها دائماً.
والمعنى: دام اسمه وثبت، أو دام الخير عنده؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات، لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه: علا وارتفع شأنه.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السُّورة، فقال: «الرحمن» فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} أي: هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض، والخليقة، والخلق، والجنة والنَّار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه فقال: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} ، ثم قال: {ذِي الجلال والإكرام} أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله.
روى الثعلبي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لِكُلِّ شَيءٍ عروسٌ، وعرُوسُ القرآنِ سُورةُ الرَّحمنِ، جل ذكرهُ» .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الرَّحْمَنِ رحِمَ الله ضعفهُ، وأدَّى شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عليه» .
والله - سبحانه وتعالى - الموفق الهادي إلى الخيرات، اللهم ارحمنا برحمتك.(18/366)
سورة الواقعة
مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. قال ابن عباس وقتادة: إلى آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] .
وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 81، 82] نزلتا في سفر، وقوله تعالى: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} [الواقعة: 39، 40] نزلتا في سفره إلى " المدينة ".(18/367)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
وهي سبع وتسعون آية، وثلاث مائة وثمان وسبعون كلمة، وألف [وتسعمائة] وثلاثة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} .
في «إذا» أوجه:
أحدها: أنها ظرف محض ليس فيها معنى الشَّرط، والعامل فيها «ليس» .
الثاني: أن العامل فيها «اذْكر» مقدراً.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب «إذا» ؟ .
قلت: ب «ليس» ، كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل.
ثم قال: أو بإضمار «اذكر» .
قال أبو حيان: «ولا يقول هذا نحوي» .(18/367)
قال: لأن «ليس» مثل «ما» النافية فلا حدث فيها، فكيف تعمل في الظرف من غير حدث، وتسميتها فعلاً مجازاً، فإن حدَّ الفعل غير منطبق عليها.
ثم قال: وأمَّا المثال الذي نظر به، فالظرف ليس معمولاً ل «ليس» بل للخبر، وتقدم معمول خبرها عليها، وهي مسألة خلاف. انتهى.
قال شهاب الدين: الظروف تعمل فيها روائح الأفعال، ومعنى كلام الزمخشري أن النفي المفهوم من «ليس» هو العامل في «إذا» كأنه قيل: ينتفي كذب وقوعها إذا وقعت، ويدل على هذا قول أبي البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ.
والثاني: ظرف لما دل عليه {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، أي: إذا وقعت لم تكذب، فإن قيل: فليجر ذلك في «ما» النافية؟ .
فالجواب: أن الفعل أقرب إلى الدلالة على الحدث من الحرف.
الثالث: أنها شرطية، وجوابها مقدر، أي: «إذا وقعت كان كيت وكيت» ، وهو العامل فيها.
الرابع: أنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها، وهو اختيار أبي حيان، وتبع في ذلك مكيًّا.
قال مكي: «والعامل فيه» وقعت «؛ لأنها قد يجازى بها، فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في» مَا «، و» مَنْ «اللتين للشرط في قولك: ما تَفْعَلْ أفْعَلْ، ومن تُكْرِمْ أكْرِمْ» ، ثم ذكر كلاماً كثيراً.
الخامس: أنها مبتدأ، و «إذَا رُجَّتْ» خبرها، وهذا على قولنا: «إنها تتصرف» وقد مضى تحريره إلا أن هذا الوجه إنما جوزه ابن مالك، وابن جني، وأبو الفضل الرازي على قراءة من نصب «خافِضَةً رافِعَةً» على الحال، وحكاه بعضهم عن الأخفش.
قال شهاب الدين: «ولا أدري اختصاص ذلك بوجه النَّصب» .
السادس: أنه ظرف ل «خافضة» ، أو «رافعة» . قاله أبو البقاء. أي إذا وقعت خفضت ورفعت.
السابع: أن تكون ظرفاً ل «رُجَّتْ» ، و «إذَا» الثانية على هذا إما بدل من الأولى، أو تكرير لها.
الثامن: أن العامل فيه ما دلّ عليه قوله:
{فَأَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8] أي: إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.(18/368)
التاسع: أن جواب الشرط، قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8] إلى آخره، و «لِوقعَتِهَا» خبر مقدم، و «كاذبة» اسم مؤخر.
و «كاذبة» يجوز أن تكون اسم فاعل، وهو الظَّاهر، وهو صفة لمحذوف، فقدر الزمخشري: «نفس كاذبة» .
أي: أن ذلك اليوم لا يكذب على الله أحد، ولا يكذِّب بيوم القيامة أحد.
ثم قال: «و» اللام «مثلها في قوله: {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] ، أو ليس نفس تكذبها، وتقول لها: لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها اليوم، يقلن لها: لن تكوني، أو هي من قولهم: كَذَبَتْ فُلاناً نفسُه في الخَطْبِ العظيم إذا شجعته على مباشرته، وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه، فتعرض له ولا تبال به، على معنى أنها وقعة لا تُطاق شدة وفظاعة، وأن لا نفس حينئذ تحت صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذلّ، ألا ترى إلى قوله {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] ، والفراش مثل في الضعف» .
وقدره ابن عطية: «حال كاذبة» .
قال: ويحتمل الكلام على هذا معنيين:
أحدهما: كاذبة أي: مكذوبة فيما أخبر به عنها، فسماها كاذبة لهذا، كما تقول: هذه قصّة كاذبة، أي: مكذوب فيها.
والثاني: حال كاذبة أي: لا يمضي وقوعها، كقولك: فلان إذا حمل لم يكذب.
والثالث: «كاذبة» مصدر بمعنى التَّكذيب. نحو {خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19] .
قال الزمخشري: وقيل: «كاذبة» مصدر ك «العاقبة» بمعنى التكذيب من قولك: حمل فلان على قرنه فما كذب، أي فما جبن ولا تثبَّط، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه وأنشد ل «زهير» : [البسيط]
4669 - ... ... ... ... ... ... . إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرانِهِ صَدَقَا
أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد انتهى.(18/369)
وهو كلام حسن جدًّا.
ثم لك في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها لا محلّ لها من الإعراب، إما لأنها ابتدائية، ولا سيما على رأي الزمخشري، حيث جعل الظرف متعلقاً بها.
وإما لأنها اعتراضية بين الشرط وجوابه المحذوف.
الثاني: أن محلّها النصب على الحال. قاله ابن عطية.
ولم يبين صاحب الحال، ماذا؟ .
وهو واضح إذ لم يكن هنا إلاَّ الواقعة، وقد صرَّح أبو الفضل بذلك.
وقرأ العامة: برفع «خَافِضَةٌ ورافِعَةٌ» على أنها خبر ابتداء مضمر، أي: هي خافضة قوماً إلى النَّار، ورافعة آخرين إلى الجنة، فالمفعول محذوف لفهم المعنى.
أو يكون المعنى أنها ذات خفض ورفع، كقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] ، {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] .
وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن، وأبو حيوة، وابن مقسم واليزيدي: بنصبهما على الحال.
ويروى عن الكسائي أنه قال: «لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به» انتهى.
قال شهاب الدين: «ولا أظن مثل هذا يصح عن مثل هذا» .
واختلف في ذي الحال:
فقال أبو البقاء: من الضمير في «كاذبة» ، أو في «وقعت» .
وإصلاحه أن نقول: أو فاعل «وقعت» ؛ إذ لا ضمير في «وقعتْ» .
وقال ابن عطية وأبو الفضل: من «الواقعة» .
ثم قرّرا مجيء الحال متعددة من ذي حال واحدة، كما تجيء الأخبار متعددة. وقد تقدم بيانه.
وقال أبو الفضل: «وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً، كان العامل في» إذا وقعت «محذوفاً يدل عليه الفحوى، أي: إذا وقعت يحاسبون» .(18/370)
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: {إذا وقعت الواقعة} أي: إذا قامت القيامة، والمراد: النَّفخة الأخيرة، وسميت الواقعة لأنها تقعُ عن قرب.
وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشَّدائد.
قال الجرجاني: «إذا» صلة، أي: وقعت الواقعة، كقوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وهو كما يقال: جاء الصوم، أي: دنا واقترب.
وقال القرطبي: فيه إضمار، أي: اذكر إذا وقعت، وعلى هذا «إذا» للتَّوقيت، والجواب قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8] .
وقال ابن الخطيب: أو يكون التقدير: إذا وقعت الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد، ولا يتمكّن أحد من إنكارها.
و {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} .
«الكاذبة» : مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] أي: لغو، والمعنى: ليس لها كذب.
قاله الكسائي.
ومنه قول العامة: عائذاً بالله، أي: معاذ الله، وقُمْ قائماً، أي: قم قياماً.
وقيل: الكاذبة: صفة، والموصوف محذوف، أي: ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق.
وقال الزجاج: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة.
وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها.
وقيل: إن قيامها جدّ لا هزل فيه.
وقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} .
قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت من نأى، يعنى أسمعت القريب والبعيد.
وعن السّدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.(18/371)
وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله.
وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
وقال ابن عطاء: خفضت أقواماً بالعدل، ورفعت أقواماً بالفضل.
والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعزّ والمهانة، ونسب سبحانه وتعالى الرفع والخفض إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل، يقولون: ليلٌ قائم، ونهار صائم.
وفي التنزيل: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] .
والرافع والخافض في الحقيقة هو الله تعالى.
و «اللام» في قوله «لوقعتها» إما للتعليل، أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها.
وإما للتعدية، كقولك: «ليْسَ لزيد ضارب» فيكون التقدير: إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب يكذب إذا أخبر عنه.
قال ابن الخطيب: وعلى هذا لا يكون «ليس» عاملاً في «إذا» وهو بمعنى «ليس» لها كاذب.(18/372)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
قوله: {إِذَا رُجَّتِ الأرض} .(18/372)
يجوز أن يكون بدلاً من «إذا» الأولى، أو تأكيداً لها، أو خبراً لها على أنها مبتدأ. كما تقدم تحريره.
وأن يكون شرطاً، والعامل فيه إما مقدر، وإما فعلها الذي يليها، كما تقدّم في نظيرتها.
وقال الزمخشري: «ويجوز أن ينتصب ب» خافضة رافعة «أي تخفض وترفع وقت رجِّ الأرض وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يخفض ما هو مرتفع، ويرفع ما هو منخفض» .
قال أبو حيَّان: «ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً، بل بأحدهما، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد» .
قال شهاب الدِّين: معنى كلامه أن كلاًّ منهما متسلّط عليه من جهة المعنى، وتكون المسألة من باب التنازع، وحينئذ تكون العبارةُ صحيحة، إذ يصدق أن كلاًّ منهما عامل فيه، وإن كان على التَّعاقُب.
والرَّج: التحريك الشديد بمعنى زلزلت.
قال مجاهد وغيره: يقال: رجَّه يرُجُّه رجًّا، أي: حرّكه وزلزله.
وناقة رجاء: أي عظيمة السّنام.
والرَّجْرجَة: الاضطراب.
وارتجّ البحر وغيره: اضطرب.
وفي الحديث: «مَنْ ركِبَ البَحْرَ حينَ يَرتجُّ فلا ذمَّة لهُ» .
يعني: إذا اضطربت أمواجه.
قال الكلبي: وذلك أن الله - تعالى - إذا أوحى إليها اضطربت فرقاً من الله تعالى.
قال المفسرون: ترتج كما يرتجّ الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الرَّجَّة: الحركة الشديدة يسمع لها صوت.(18/373)
قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} .
أي: سيرت، من قولهم: بسَّ الغنم، أي: ساقها.
وأبْسَسْتُ الإبل أبُسُّهَا بَسَّاً، وأبْسَسْتُ وبَسِسْتُ لغتان إذا زجرتها وقلت: بَسْ بَسْ. قاله أبو زيد.
أو بمعنى «فُتّت» ، كقوله: {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] ، ويدل عليه: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} .
قال ابن عباس ومجاهد: كما يبسّ الدقيق، أي: يُلتّ.
والبَسِيْسَةُ: السَّويقُ أو الدقيق يُلَتُّ بالسَّمن أو الزيت، ثم يؤكل ولا يطبخ، وقد يتخذ زاداً.
قال الراجز: [الرجز]
4670 - لا تَخْبِزَا خُبْزاً وبُسَّا بَسَّا ... ولا تُطِيْلا بِمُنَاخٍ حَبْسَا
وقال الحسن: «وبسّت» قلعتْ من أصلها فذهبت، ونظيرها: يَنْسِفُهَا ربِّي نسفاً وقال عطية: بُسِطَتْ كالرَّمل والتراب.
وقال مجاهد: سالت سيلاً.
وقال عكرمة: هدّت.
وقرأ زيد بن علي: «رجَّت» ، و «بَسَّت» مبنيين للفاعل.
على أن «رَجَّ» و «بَسَّ» يكونان لازمين ومتعديين، أي: ارتجت وذهبت.
قوله: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} .
قرأ النَّخعي ومسروق وأبو حيوة: «منبتًّا» بنقطتين من فوق، أي: منقطعاً من البَتِّ.(18/374)
ومعنى الآية لا ينبو عنه.
قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الهباء المُنْبَثّ: الرَّهجُ الذي يسطع من حوافر الخيل ثم يذهب، فجعل الله تعالى أعمالهم كذلك.
وقال مجاهد: «الهَبَاء» : الشعاع الذي يكون في الكُوة كهيئة الغُبَار، وروي نحوه عن ابن عباس.
وعنه أيضاً: أنه ما تطاير من النَّار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئاً.
وقال عطية: «المنبث» : المتفرق، قال تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} [البقرة: 164] أي: فرق ونشر.
قوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} .
أي: أصنافاً ثلاثة، كل صنف يشاكل كل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم، فقال: {فَأَصْحَابُ الميمنة} ، {وَأَصْحَابُ المشأمة} ، {والسابقون} .
قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} .
«أصحاب» الأول مبتدأ، و «ما» استفهامية - فيه تعظيم - مبتدأ ثاني، و «أصحاب» الثاني خبره، والجملة خبر الأول، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغنٍ عن الضمير، ومثله: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] ، {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1، 2] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التَّعظيم.
فإن قيل: إن «ما» نكرة وما بعدها معرفة، فكان ينبغي أن يقال: «ما» خبر مقدم، و «أصحاب» الثاني وشبهه مبتدأ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة؟ وهذا السؤال واردٌ على سيبويه في مثل هذا.
وفي قولك: «كَمْ مالك، ومرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٍ منهُ أبُوه» فإنه يعرب «ما» الاستفهامية، و «كم» و «أفعل» مبتدأ وما بعدها خبرها.(18/375)
والجواب: أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة، فاطَّرد الباب، ليجري على سنن واحدة، هكذا أجابوا.
وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون «ما» و «كَمْ» و «أفْعَل» خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ، بل أقرب إلى الصَّواب.
و «الميمنة» «مَفْعَلَة» من لفظ اليمين، وكذلك «المشأمة» من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها، أو من الشُّؤم.
فصل في تحرير معنى الآية
قال السدي: «أصحاب الميمنةِ» هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، و «أصحاب المَشْأمة» هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار.
و «المَشْأمة» : الميسرة، وكذلك الشَّأمة، يقال: قعد فلان شأمة.
ويقال: شائم بأصحابك أي: خذ بهم شأمة أي: ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال: الشؤمى، وللجانب الشمال: الأشأم.
وكذلك يقال لما جاء عن اليمين: اليمن، ولما جاء عن الشمال: الشُّؤم.
قال البغوي: «ومنه سمي» الشَّام واليمن «؛ لأن» اليمن «عن يمين الكعبة، و» الشام «عن شمالها» .
قال ابن عباس والسدي: «أصْحَابُ المَيْمَنَةِ» هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه، فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وقال زيد بن أسلم: هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر.
وقال عطاء ومحمد بن كعب: «أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله» .
وقال ابن جريج: «أصحاب الميمنة» هم أصحاب الحسنات، وأصحاب المشأمة؛ هم أهل السيئات.(18/376)
وقال الحسن والربيع: «أصحاب الميمنة» الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة: المشائيم على أنفهسم بالأعمال السيئة.
وفي صحيح مسلم من حديث «الإسراء» عن أبي ذرٍّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى، قال: فقال: مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح، قال: فقُلْتُ: يا جِبْريلُ منْ هذَا؟ .
قال: هذا آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ» وذكر الحديث.
وقال المبردُ: «أصحاب الميمنة» أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي: اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين.
ثم عجب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} وهذا كما يقال: «زَيْدٌ مَا زَيْدٌ» ، يريد «زيد شديد» فالتكرير في {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} ، و {مَآ أَصْحَابُ المشأمة} للتَّفخيم والتعجُّب، كقوله: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] ، و {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1، 2] كما يقال: «زَيْدٌ ما زيدٌ» .
وفي حديث أم زرع رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «مالك، وما مالك؟» .
والمقصود: تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب، وأصحاب المشأمة من العقاب.
والفاء في قوله: «فأصْحَاب» تدل على التقسيم، وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال: أزواجاً ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، وبين حال كل قسم فقال: {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} وترك التقسيم أولاً، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها.
فإن قيل: ما الحكمة في اختيار لفظ «المشأمة» في مقابلة «الميمنة» مع أنه قال في بيان أحوالهم {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} ؟ [الواقعة: 41] .
فالجواب: أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا: «هذا ميمون» تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، ولفظ الشمال في مقابلته، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به، فذكر «المشأمة» [(18/377)
في] مقابلة [ «الميمنة» ] [وذكر الشمال في مقابلة اليمين] فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله.
قوله: {والسابقون السابقون} . فيه أوجه:
أحدها: أنها مبتدأ وخبر، وفي ذلك تأويلان:
أحدهما: أنه بمعنى: السابقون هم الذين اشتهرت حالتهم بذلك.
كقولهم: «أنت أنت، والناس الناس» .
وقوله: [الرجز]
4671 - أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ... وهذا يقال في تعظيم الأمر وتفخيمه، وهو مذهب سيبويه.
التأويل الثاني: أن متعلق السابقين مختلف؛ إذ التقدير: والسَّابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة، أو السابقون إلى طاعة الله السَّابقون إلى رحمته، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنَّة.
الوجه الثاني: أن يكون السَّابقون الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيًّا، و «أولئك المُقرَّبُون» جملة ابتدائية في موضع خبر الأول، والرابط: اسم الإشارة، كقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] ، في قراءة برفع «لِبَاس» في أحد الأوجه.
الثالث: أن يكون «السابقون» الثاني نعتاً للأول، والخبر الجملة المذكورة.
وهذا ينبغي ألا يعرج عليه، كيف يوصف الشيء بلفظه، وأي فائدة في ذلك؟ .
قال شهاب الدين: والأقرب عندي إن وردت هذه العبارة ممن يعتبر أن يكون سمى التَّأكيد صفة، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا.
الرابع: أن يكون الوقف [على قوله] «والسَّابقون» ، ويكون قوله {السَّابقون، أولئك المقربون} ابتداء وخبراً.
وهذا يقتضي أن يعطف «والسَّابقون» على ما قبله، لكن لا يليق عطفه على ما قبله،(18/378)
وإنما يليق عطفه على أصحاب الميمنة، كأنه قيل: وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والسابقون، أي: وما السابقون؟ تعظيماً لهم، فيكونون شركاء أصحاب الميمنة في التعظيم، ويكون قوله على هذا: {وأصحاب المَشْأمة ما أصحاب المشأمة} اعتراضاً بين المتعاطفين، وفي هذا الوجه تكلف كثير جداً.
فصل في المراد بالسابقين
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «السَّابقُون الَّذينَ إذَا أعْطُوا الحقَّ قبلوهُ، وإذا سُئِلُوه بذلُوهُ، وحَكمُوا للنَّاسِ كحُكْمِهِمْ لأنفُسِهِمْ» .
ذكره المهدوي.
وقال محمد بن كعب القرظي: هم الأنبياء.
وقال الحسن وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة.
وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلّوا إلى القبلتين، قال تعالى: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] .
وقال مجاهد والضحاك: هم السَّابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحاً إلى صلاة الفرائض في الجماعة وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هم السابقون إلى الصَّلوات الخمس.
وقال سعيد بن جبير: إلى التوبة، وأعمال البر، قال تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} [آل عمران: 133] ثم أثنى عليهم فقال: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] .
وقيل: إنهم أربعة: منهم سابق أمة موسى، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى، وهو حبيب النَّجَّار صاحب «أنْطَاكية» ، وسابقان في أمّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهما أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قاله ابن عباس.
حكاه
الماوردي.
وقال شميط بن العجلان: النَّاس ثلاثة: فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا هو السَّابق المقرب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى(18/379)
ختم له بها، فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب، ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها، فهذا من أصحاب الشمال.
وروي عن كعب قال: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.
وقيل: هم أول الناس رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل الله {أولئك المقربون في جنات النعيم} .
قوله: {فِي جَنَّاتِ النعيم} .
يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً من الضمير في «المُقَرَّبُون» ، وأن يكون متعلقاً به، أي: قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم.
ويبعد أن تكون «في» بمعنى «إلى» .
وقرأ طلحة: «في جنَّةٍ» بالإفراد.
وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه، كما يقال: «دار الضِّيافة، ودار الدَّعوة، ودار العدل» .
وذكر النعيم هنا معرفاً، وفي آخر السورة منكراً؛ لأن السَّابقين معلومون، فعرفهم باللام المستغرقة لجنسهم، وأما هنا فإنهم غير معروفين لقوله: {إِن كَانَ مِنَ المقربين} [الواقعة: 88] فجعل موضعه غير معروف، أو يقال: إن المذكور هنا جميع السَّابقين، ومنزلتهم أعلى المنازل، فهي معروفة، لأنها لا حدّ فوقها.
وأما باقي المقربين فلكل واحد مرتبة ودرجة، فمنازلهم متفاوتة، فهم في جنات متباينة في المنزلة، لا يجمعها صفة، فلم يعرفها.
قوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} .
«ثلّة» خبر مبتدأ مضمر، أي «هم» .
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر، أي منهم ثلّة.
أي: من السابقين، يعني أن التقسيم وقع [بينهم] .
وأن يكون مبتدأ خبره {فِي جَنَّاتِ النعيم} .
أو قوله: {على سُرُرٍ} .
فهذه أربعة أوجه.
و «الثُلّة» : الجماعة من الناس، وقيدها الزمخشري بالكثيرة.(18/380)
وأنشد: [الطويل]
4672 - وجَاءَتْ إليْهِمْ ثُلَّةٌ خِندفيَّةٌ ... بِجَيْشٍ كتيَّارٍ من البَحْرِ مُزْبدِ
ولم يقيدها غيره، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت.
وقال الرَّاغب: الثلّة: قطعة مجتمعة من الصُّوف؛ ولذلك قيل للمقيم: «ثَلَّة» يعني بفتح الثَّاء.
ومنه قوله: [الرجز]
4673 - أمْرَعَتِ الأرْضُ لَوْ انّ مالا ... لوْ أنَّ نُوقاً لَكَ أو جِمَالا
أوْ ثلَّةً مِنْ غَنَمٍ إمَّا لا ... انتهى.
ثم قال: «ولاعتبار الاجتماع، قيل: {ثلّة من الأولين، وثلّة من الآخرين} أي جماعة، وثللت كذا: تناولت ثلّة منه، وثلَّ عرشُه: أسقط ثلّة منه والثّلل: قصر الأسنان لسقوط ثلَّة منها، وأثل فمُه: سقطت، وتَثَلَّلَتِ الرُّكبَة: تَهَدَّمت» انتهى.
فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة. والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق.
وقال الزجاج: الثلّة: الفرقة.
و «مِنَ الأوَّلِينَ» صفة ل «ثُلَّة» ، وكذلك «من الآخرين» صفة ل «قَلِيل» .
فصل في المراد بقوله: ثلّة من الأوّلين
قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} . أي جماعة من الأمم الماضية.
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} أي: ممن آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الحسن: «ثُلَّةٌ» ممن قد مضى قبل هذه الأمة، «وقليلٌ» من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اللهم اجعلنا منهم بكرمك.
وسموا قليلاً بالإضافة إلى من كان قبلهم؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.(18/381)
(قيل: لما نزلت هذه الآية شقَّ على أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) فنزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لأرجُو أن تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجنَّةِ، بَلْ نِصْف أهلِ الجنَّة، وتُقاسِمُونهُم في النِّصْفِ الثانِي» رواه أبو هريرة ذكره الماوردي وغيره، ومعناه ثابت في «صحيح مسلم» ، من حديث عبد الله بن مسعود، وكأنه أراد أنها منسوخة.
قال ابن الخطيب: وهذا في غاية الضعف من وجوه:
أحدها: أن عدد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في ذلك الزمان، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة، فالمراد بالأولين: الأنبياء وكبار أصحابهم، وهم إذا جمعوا أكثر من السَّابقين من هذه الأمة.
الثاني: أن هذا خبر، والخبر لا ينسخ.
الثالث: أن هذه الآية في السَّابقين، والتي بعدها في أصحاب اليمين.
الرابع: أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة، وذلك يوجب الفرح؛ لأنه إنعام عظيم، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ» .
قال القرطبي: «والأشبه أنها محكمة؛ لأنها خبر، والخبر لا ينسخ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين» .
قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قال: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} ، وقال في أصحاب اليمين، وهم سوى السابقين: {ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين} .
ولذلك [قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنِّي لأرجُو أن تكُونَ أمَّتِي شطْرَ أهْلِ الجنَّةِ» ، ثم تلا: {ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين} ] .(18/382)
وقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كلا الثُّلتين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها.
وهو مثل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} [فاطر: 32] .
وقيل: المراد {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فإن أكثرهم لهم الدَّرجة العليا، كما قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ} [الحديد: 10] .
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} لحقوهم، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُكُمْ قرني ثم الذينَ يَلُونَهُم»
ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين.
قال ابن الخطيب: وعلى هذا فقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذا ظاهر؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلاَّ بالموجودين من حيث اللفظ، ويدخل فيه غيره بالدليل.
ووجه آخر: أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبالآخرين، أي: ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى: {واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] .
وقال الزَّجَّاج: الذين عاينوا جميع النبيين من لدُن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} .
أي: السَّابقون في الجنة على سرر، أي: مجالسهم على سُرر، جمع سرير.
وقرأ زيد بن علي، وأبو السمال: «سُرَر» بفتح الراء الأولى وقد تقدم أنها لغة لبعض بني «كلب» و «تميم» .
و «المَوضُونَة» : قال ابن عباس: منسوجة بالذهب.(18/383)
وقال عكرمة: مشبكة بالدُّر والياقوت.
وعن ابن عباس أيضاً: «مَوضُونةٌ» أي: مصفوفة، لقوله تعالى في موضع: {على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] .
وعنه، وعن مجاهد أيضاً: مرمُولة بالذهب.
وقيل: «مَوضُونة» : منسوجة بقضبان الذهب مُشَبَّكةٌ بالدّر والياقوت.
و «الموضونة» : المنسوجة، وأصله من وضَنْتُ الشَّيء، أي ركبته بعضه على بعض.
ومنه قيل للدِّرع: «موضونة» ؛ لتراكب حلقها.
قال الأعشى: المتقارب]
4674 - ومِنْ نَسْجِ دَاوُدَ موضُونَةً ... تَسِيرُ مَعَ الحَيِّ عِيراً فَعِيرَا
وعنه أيضاً: وضِينُ الناقة، وهو حِزامُهَا لتراكُب طاقاته؛ قال: [الرجز]
4675 - إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقاً وضينُهَا ... مُعْتَرِضاً فِي بَطْنِهَا جَنينُهَا
مُخَالِفاً دينَ النَّصارَى دِينُهَا ... وقال الرَّاغب: «الوَضْن: نسْج الدِّرع، ويستعار لكلّ نسج محكم» .
فجعله أصلاً في نسيج الدروع.
وقال الآخر: [الوافر]
4676 - أقُولُ وقَدْ دَرَأتُ لَهَا وَضِيني ... أهَذَا دِينُهُ أبداً وَدِينِي؟
أي حزامي.
و «الوضينُ» : هو الحَبْل العريض الذي يكون منه الحَزْم لقوّة سداه ولُحْمته، والسرير الموضون الذي سطحه بمنزلة المنسوج.
قال القرطبي «ومنه الوضين بطانٌ من سُيُور ينسج، فيدخل بعضه في بعض» .(18/384)
قوله: {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} .
حالان من الضمير في «عَلى سُرُرٍ» .
ويجوز أن تكون حالاً متداخلة، فيكون «متقابلين» حالاً من ضمير «مُتَّكئِينَ» .
فصل في معنى الآية
«مُتَّكِئينَ» على السّرر، «مُتَقَابلينَ» لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرَّة.
والمعنى: أنهم كائنون على سُرر متكئين على غيرها كحال من يكون على كرسي، فيوضع تحته شيء آخر للاتِّكاء عليه.
قال مجاهد وغيره: هذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي: يتكئون متقابلين.
قال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت، فإذا جلس عليها ارتفعت.
قوله: {يَطُوفُ} .
يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون استئنافاً.
{وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي: غلمان لا يموتون. قاله مجاهد.
والمعنى: لا موت لهم ولا فناء، أو بمعنى لا يتغير حالهم، ويبقون صغاراً دائماً.
وقال الحسن والكلبي: لا يهرمُون ولا يتغيرون.
ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
4677 - وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأوْجَالِ
وقال سعيد بن جبير: «مخلّدون» مُقَرَّطُون.
يقال للقُرْط: الخَلَدة، ولجماعة الحُلِيّ: الخِلدة.
وقيل: مسوَّرون، ونحوه عن الفراء.
قال الشاعر: [الكامل]
4678 - ومُخَلَّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنَّمَا ... أعْجَازُهُنَّ أقَاوِزُ الكُثْبَانِ(18/385)
وقيل: مقرطون، يعني: مُمَنْطَقُون من المناطق.
وقال عكرمة: «مخلّدون» منعمون.
وقيل: على سنٍّ واحدة، أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم، كما شاء من غير ولادة؛ لأن الجنة لا ولادة فيها.
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والحسن البصري: «الوِلْدَان» هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً، ولا حسنة لهم ولا سيّئة.
وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة.
قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجازون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا هذا الموضع، والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة.
قوله: «بِأكْوَابٍ» متعلق ب «يَطُوفُ» .
و «الأكواب» : جمع كوب، وهي الآنيةُ التي لا عُرَى لها ولا خراطيم، وقد مضت في «الزخرف» و «الأباريق» : جمع إبريق، وهي التي لها عُرَى وخراطيم، واحدها: إبريق، وهو من آنِيَة الخَمْر، سُمِّيَ بذلك لبريق لونه من صفائه.
قال الشاعر: [البسيط]
4679 - أفْنَى تِلادِي ومَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القَوارِيرِ أفْواهُ الأبَارِيقِ
وقال عديُّ بن زيد: [الخفيف]
4680 - وتَدَاعَوْا إلى الصَّبُوح فَقَامَتْ ... قَيْنَةٌ فِي يَمينهَا إبْرِيقُ
وقال آخر: [البسيط]
4681 - كَأنَّ إبْرِيقَهُمْ ظَبْيٌ على شَرَفٍ ... مُقَدَّمٌ بِسَبَا الكتَّانِ مَلْثُومُ
ووزنه «إفْعِيل» لاشتقاقه من البريق.
قوله: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} تقدم في «الصافات» .
و «المعين» : الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد هنا الخمر الجارية من العيون.(18/386)
وقيل: الظاهرة، فيكون «مَعِين» مفعول من المعاينة.
وقيل: هو «فَعِيل» من المَعْنِ، وهو الكثرة.
قال ابن الخطيب: هو مأخوذ من مَعن الماء إذا جرى.
وقيل: بمعنى «مَفْعُول» ، فيكون من «عانه» إذا شخصه بعينه وميزه.
قال: والأول أظهر؛ لأن المعيون يوهم بأنه معيوب.
يقال: ضربني بعينه أي: أصابني بعينه؛ ولأن الوصف [بالمفعول] لا فائدة فيه.
وأما الجريان في المشروب فإن كان في الماء فهو صفة مدح، وإن كان في غيره، فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا، فيكون كقوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}
[محمد: 15] وبين أنها ليست كخمر الدُّنيا يستخرج بتكلف ومعالجة.
فإن قيل: كيف جمع الأكواب والأباريق، وأفرد الكأس؟ .
فالجواب: أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كبيرة، ويشربون بكأس واحدةٍ، وفيها مباهاتهم لأهل الدنيا من حيث إنهم يطوفون بالأكواب والأباريق، ولا ينتقل عليهم، بخلاف الدنيا، أو يقال: إنما أفردت الكأس لأنها إنما تُسَمَّى كأساً إذا كانت مملوءة، فالمراد اتخاذ المشروب الذي فيها، وأخر الكأس مناسبة لاتصاله بالشُّرب.
قوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} .
يجوز أن تكون مستأنفة، أخبر عنهم بذلك.
وأن تكون حالاً من الضمير في «عليهم» .
ومعنى {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: بسببها.
قال الزمخشري: وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها.
والصُّدَاع؛ هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه.
قال علقمةُ بن عبدة في وصف الخمر: [البسيط]
4682 - تَشْفِي الصُّدَاعَ ولا يُؤذيكَ حَالبُهَا ... ولا يُخالِطُهَا في الرَّأسِ تدويمُ
قال أبو حيان: هذه صفة خمر أهل الجنة، كذا قال الشيخ أبو جعفر بن الزبير لما قرأت هذا الدِّيوان عليه.(18/387)
والمعنى لا يتصدع رءوسهم من شربها، أي: أنها لذة بلا أذى، بخلاف شراب الدنيا.
وقيل: «لا يُصدَّعون» لا يتفرَّقُون كما يتفرق الشرب من الشراب للعوارض الدنيوية، ومن مجيء «تصدع» بمعنى: تفرق، قوله: فتصدع السحاب عن المدينة، أي: تفرق.
ويرجحه قراءة مجاهد: «لا يَصَّدعون» بفتح الياء وتشديد الصاد.
والأصل: «لا يتصدعون» أي: لا يتفرقون، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] .
وحكى الزمخشري قراءة، وهي: «لا يُصدِّعُون» بضم الياء، وتخفيف الصَّاد، وكسر الدَّال مشددة.
قال: «أي لا يصدع بعضهم بعضاً، لا يفرقونهم» .
قوله: {وَلاَ يُنزِفُونَ} .
تقدم الخلاف بين السبعة في «يُنْزِفُون» ، وتفسيره في «والصّافات» .
وقرأ ابن إسحاق: بفتح الياء وكسر الزاي من نزف البئر، إذا استقى ما فيها.
والمعنى لا ينفدُ خمرهم.
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
4683 - لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُم آل أبْجَرَا
وقال أبو حيان: «وابن أبي إسحاق وعبد الله والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى: بضم الياء وكسر الزاي، أي: لا يقيء شرابهم» .
قال شهاب الدين: وهذا عجيب منه فإنه قد تقدم في «الصَّافات» أنَّ الكوفيين يقرءون في «الواقعة» بكسر الزاي، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السُّكر، والصُّداع، والقَيء، والبَوْل، وقد نزّه الله - تعالى - خمر الجنة عن هذه الخصال.
قوله: {وَفَاكِهَةٍ} .(18/388)
العامة على جر «فَاكِهَةٍ ولحْمٍ» عطفاً على «أكْوابٍ» .
أي: يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به، وهذا كقوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}
[الحاقة: 21] .
فإن قيل: الفاكهة لا يطوف بها الولدان، والعطف يقتضي ذلك؟ .
فالجواب: أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان [هنا] فيناولونهم الفواكه الغريبة، واللحوم العجيبة لا للأكل، بل للإكرام، كما يصنع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله: {جَنَّاتِ النعيم} أي: مقربون في جنَّات، وفاكهة، ولحم، وحور، أي: في هذه النِّعم يتقلَّبون [عليهم بهذه الأشياء: المأكول، والمشروب، والمتفكه] .
وقرأ زيد بن علي، وأبو عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، برفعهما على الابتداء، والخبر مقدر، أي: ولهم كذا.
والمعنى يتخيّرون ما شاءوا من الفواكه لكثرتها.
وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير: الاختيار.
وقوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} .
قال ابن عبَّاس: يخطر على قلبه لحم الطَّير، فيصير ممتثلاً بين يديه على ما اشتهى، ثم يطير فيذهب.
قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} .
قرأ الأخوان: بجرّ «حُورٍ عينٍ» .
والباقون: برفعهما.
والنخعي: «وحيرٍ عينٍ» بقلب الواو ياء وجرهما.
وأبيّ وعبد الله قال القرطبي والأشهب العقيلي وعيسى بن عمر الثقفي، وهو كذلك في مصحف أبيّ: «وحُوراً عيناً» بنصبهما.(18/389)
فأما الجر فمن أوجه:
أحدها: أنه عطف على «جنَّات النَّعيم» كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور؛ قاله الزمخشري.
قال أبو حيان: «وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي» .
قال شهاب الدين: «والذي ذهب إليه الزمخشري معنى حسن جدًّا، وهو على حذف مضاف أي: وفي مقارنة حور، وهو الذي عناه الزمخشري، وقد صرح غيره بتقدير هذا المضاف» .
وقال الفرَّاء: الجر على الإتباع في اللفظ، وإن اختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يُطاف بهنّ.
قال الشاعر: [الوافر]
4684 - إذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا
والعين لا تُزَجَّجُ، وإنَّما تُكَحَّل.
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
4685 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثاني: أنه معطوف على «بِأكْوَابٍ» ، وذلك بتجوّز في قوله: «يَطُوفُ» ؛ إذ معناه ينعمون فيها بأكواب، وبكذا، وبحور. قاله الزمخشري.
الثالث: أنه معطوف عليه حقيقة، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضاً فإن فيه لذة لهم إذا طافوا عليهم بالمأكول؛ والمشروب، والمتفكه به، والمنكوح، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب.
ولا التفات إلى قول أبي البقاء: عطفاً على «أكْوَاب» في اللَّفظ دون المعنى؛ لأن الحور لا يُطافُ بها.
وأما الرَّفْع فمن أوجه:
أحدها: عطفاً على «ولْدَان» .(18/390)
أي: أن الحور يطفن عليهم بذلك كالولائد في الدُّنيا.
وقال أبو البقاء: «أي يَطُفْن عليهم للتَّنعيم لا للخِدْمَة» .
قال شهاب الدين: «وهو للخدمة أبلغ؛ لأنهم إذا خدمهم مثل أولئك، فما الظَّن بالمَوطُوءَات» .
الثاني: أن يعطف على الضمير المستكنّ في «متكئين» ، وسوغ ذلك الفصل بما بينهما.
الثالث: أن يعطف على مبتدأ وخبر حذفا معاً، تقديره: «لهم هذا كله وحور عين» قاله أبو حيَّان.
وفيه نظر؛ لأنه إنما يعطف على المبتدأ وحده، وذلك الخبر له، ولما عطف هو عليه.
الرابع: أن يكون مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم، أو فيها، أو ثمَّ حور.
وقال الزمخشري: «عطف على وفيها حور عين، كبيت الكتاب» .
يريد: كتاب سيبويه، والمرادُ بالبيت قولهُ: [الكامل]
4686 - بَادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلَى ... إلاَّ رَواكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاء
ومُشَجَّجٌ أمَّا سواءُ قَذالِهِ ... فَبَدا وغيَّر سارهُ المَعْزاءُ
عطف «مشجج» وهو مرفوع على «رواكد» ، وهو منصوب.
الخامس: أن يكون خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حور. قاله أبو البقاء.
قال الكسائي: ومن قال: «وحُورٌ عينٌ» بالرَّفع، وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في «فَاكِهَةٍ ولحْمٍ» ؛ لأن ذلك لا يطاف به، وليس يطاف إلاَّ بالخمر وحدها.
وأما النصب ففيه وجهان:(18/391)
أحدهما: أنه منصوب بإضمار فعل، أي: يعطون، أو يؤتون حوراً.
والثاني: أن يكون محمولاً على معنى «يطُوفُ عَليْهِمْ» ؛ لأن معناه: يعطون كذا وكذا، فعطف هذا عليه.
وقال مكي: «ويجوز النَّصب على أن يحمل أيضاً على المعنى؛ لأن معنى» يطوف عليهم ولدان «بكذا وكذا، أي: يعطون كذا وكذا، ثم عطف» حوراً «على معناه» ، فكأنه لم يطلع [على أنها] قراءة.
وأمَّا قراءة: «وحِيرٍ» فلمُجاورتها «عِين» ، ولأن الياء أخف من الواو، ونظيره في التَّعبير للمجاورة قولهم: «أخذه ما قدُم وما حدُث» - بضم دال - «حدُث» لأجل «قَدُم» ، وإذا أفرد منه فتحت داله فقط.
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ورَبَّ السَّمواتِ وما أظْلَلْنَ، وربَّ الشَّياطين ومنْ أضْلَلْن» .
[وقوله: «أيَّتُكُنَّ صاحبةُ الجملِ الأدْبَبِ، يَنْبَحُها كلاب الحوْأب» ، فكَّ الأدبب لأجل الحَوأبِ] .
وقرأ قتادة: «وحورُ عِينٍ» بالرفع والإضافة ل «عين» .
وابن مقسم: بالنَّصب والإضافة.
وقد تقدم توجيه الرفع والنَّصْب.
وأما بالإضافة: فمن إضافة الموصوف لصفته مؤولاً.
وقرأ عكرمة: [ «وحَوْرَاء عَيْنَاء» بإفرادهما على إرادة الجنس] .(18/392)
وهذه القراءة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نصباً كقراءة عبد الله وأبيٍّ.
وأن يكون جرًّا كقراءة الأخوين؛ لأن هذين الاسمين لا يتصرَّفان، فهما محتملان للوجهين.
وتقدم الكلام في اشتقاق العين.
«كأمْثَال» : صفة، أو حال.
و «جزاءً» : مفعول من أجله، أو مصدر، أي: يحزون جزاء.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: «حورٌ» بيض، «عينٌ» ضخام الأعين، {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} أي المخزون في الصدف لم تمسّه الأيدي، ولم يقع عليه الغبار، فهو أشدّ ما يكون صفاء.
وقوله: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
قالت المعتزلة: هذا يدلُّ على أن يقال: الثواب واجب على الله - تعالى - لأن الجزاء لا يجوز الإخلال به.
وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروا لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة؛ لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أن القبيح من الله تعالى لا يوجد، علم أن الله تعالى يعطي هذه الأشياء، لأنها أجزية، وإيصال الثَّواب واجب، وأيضاً فكان لا يصح التمدّح به.
قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} .
قال ابن عبَّاس: باطلاً وكذباً.
و «اللَّغْو» : ما يلغى من الكلام.
و «التأثيم» : مصدر أثمته، أي: قلت له: أثمت.
قال محمد بن كعب: «ولا تأثيماً» ، أي: لا يؤثم بعضهم بعضاً.
وقال مجاهد: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً} : شتماً ولا مأثماً.
قوله: «إلاَّ قيلاً» ، فيه قولان:(18/393)
أحدهما: أنه استثناء منقطع، وهذا واضح؛ لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم.
والثاني: أنه متصل.
وفيه بعد، وكأن هذا رأى أن الأصل: لا يسمعون فيها كلاماً، فاندرج عنده فيه.
وقال مكّي: وقيل: منصوب ب «يَسْمَعُون» . وكأنه أراد هذا القول.
قوله: {سَلاَماً سَلاَماً} . فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من «قيلاً» أي: لا يسمعون فيها إلا سلاماً سلاماً.
الثاني: أنه نعت ل «قيلاً» .
الثالث: أنه منصوب بنفس «قيلاً» ، أي: إلاَّ أن يقولوا: سلاماً سلاماً، وهو قول الزَّجَّاج.
الرابع: أن يكون منصوباً بفعل مقدّر، ذلك الفعل محكيّ ب «قيلاً» تقديره: إلا قيلاً سلموا سلاماً.
وقرىء: «سلامٌ» بالرفع.
قال الزمخشري: «على الحِكايَةِ» .
قال مكي: «ويجوز أن يكون في الكلام الرفع على معنى» سلام عليكم «ابتداء وخبر» وكأنه لم يعرفها قراءة.
فصل في معنى الآية
معنى «قيلاً سلاماً» أي: قولاً سلاماً.
وقال عطاء: يُحَيِّي بعضهم بعضاً بالسَّلام.
قال القرطبي: «والسَّلام الثاني بدل من الأول، والمعنى: إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو، وقيل: تحييهم الملائكة، أو يحييهم ربهم عزَّ وجلَّ» .
وكرَّر السَّلام إشارة إلى كثرة السلام عليهم، ولهذا لم يكرر قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] .
و «القيل» مصدر كالقول.(18/394)
قال ابن الخطيب: فيكون «قيلاً» مصدراً، لكن لا نظير له في «باب» فعل يفعل من الأجوف.
وقيل: إنه اسم، والقول مصدر.(18/395)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} .
رجع إلى ذكر أصحاب الميمنة، والتكرير لتعظيم شأن النَّعيم.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكرهم بلفظ «أصحاب الميمنة» عند تقسيم الأزواج الثلاثة؟ فلفظ «أصحاب الميمنة» «مَفْعَلَة» إمَّا بمعنى موضع اليمين [كالحكمة موضع الحكم، أي: الأرض التي فيها «اليمن» ، وإمَّا بمعنى موضع اليمين] كالمنارة موضع النار، والمِجْمَرة موضع الجمرة، وكيفما كان، فالميمنة فيها دلالة على الموضع، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميزون بعضهم عن بعض ويتفرَّقون، لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] ، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] فيتفرقون بالمكان، فأشار إليهم في الأول بلفظ يدلّ على المكان، ثم عند الثواب وقع تفريقهم بأمر منهم لا بأمر هم فيه وهو المكان، فقال: «وأصْحَابُ اليَمِينِ» أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم.
وقيل: أصحاب القوة.
وقيل: أصحاب النور.
قوله: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} .
قال ابن عبَّاس وغيره: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أي: في نَبْق قد خُضِدَ شَوْكُه.
وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة، قال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: «أقبل أعرابي يوماً، فقال: يا رسول الله: لقد ذكر الله شجرة في القرآن مُؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ .(18/395)
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ومَا هِيَ؟ .
قال: السِّدْر، فإن له شوكاً مؤذياً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أو لَيْسَ يقولُ: «سِدْرٌ مخْضُودٌ» خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً، يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام، ما فيه لون يشبه الآخر «» .
وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى «وجٍّ» - وهو واد ب «الطائف» مخصب - فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذه، فنزلت.
قال أمية بن أبي الصَّلت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يصف الجنَّة: [الكامل]
4687 - إنَّ الحَدَائِقَ في الجِنَانِ ظَليلَةٌ ... فِيهَا الكَواعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: «في سدر مخضود» هو الموقر حملاً.
وقال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال.
قوله: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} .
و «الطَّلْحُ» : جمع الطَّلحة. قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين: الطَّلْح: شجر الموز، واحده طلحة.
وقال الحسن: ليس موزاً، ولكنه شجر له ظل بارد رطب.
وقال الفرَّاء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك.
قال الجعديُّ: [الرجز]
4688 - بَشَّرها دليلُها وقَالاَ ... غَداً تَريْنَ الطَّلْحَ والحِبَالا
ف «الطَّلْح» : كل شجر عظيم كثير الشوك.(18/396)
وقال الزجاج: هو شجر أم غيلان.
وقال مجاهد: ولكن ثمرها أحلى من العسل.
وقال الزجاج: لها نور طيب جدًّا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلاَّ أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
وقال السُّدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا، لكن له ثمر أحلى من العسل.
وقوله: «مَنْضُودٍ» . أي متراكب.
قال المفسرون: موقور من الحمل حتى لا يبين ساقه من كثرة ثمره، وتثني أغصانه.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله، وجعفر بن محمد: «وطَلْعٍ» بالعين، لقوله تعالى: {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] .
ولما قرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «وما شأن الطَّلْح» واستدل بقوله {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] ، فقيل: أنحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يُهَاج القرآن اليوم ولا يحوَّل.
فقد اختار هذه القراءة، ويروى عن ابن عباس مثله.
قال القرطبي: «فلم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه، قاله القشيري وأسنده أبو بكر بن الأنباري بسنده إلى عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
فصل في المراد بالآية
قال ابن الخطيب: المخضود: المأخوذ الشوك.
وقيل: المتعطف إلى أسفل، فإن رءوس أغصان السِّدر في الدنيا تميل إلى فوق لعدم ما يثقله بخلاف أشجار الجنة فإن رءوسها تتدلَّى.
والظاهر: أن الطَّلح شجر الموز، وذكر طرفين ليندرج ما بينهما، فإن ورق السِّدْر صغير، وورق الطلح وهو الموز كبير، وبينهما أنواع من الأوراق متوسطة كما ذكر في النخل والرمان، كقولهم: فلان يرضي الصغير والكبير، فيدخل ما بينهما.
و «المَنْضُود» : المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوقٌ بارزة، بل هو مرصوص.(18/397)
و «النّضد» : هو الرَّص، و «المنضود» : المرصوص.
قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة، ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
قوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} .
أي: دائم باقٍ لا يزول، ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] .
وذلك بالغداةِ، وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس، والجنة كلها ظل لا شمس معه.
قال ابن الخطيب: إنَّ الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو، فيتراكم الظل فيسودّ وجه الأرض، وإذا كانت الشمس في أحد جانبي الأرض من الأفق، فينبسط الظل على وجه الأرض، فيضيء الجو ولا يسود وجه الأرض، فيكون في غاية الطيبة، فقوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي: كالظل بالليل، وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى.
وقال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش.
وقال عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة.
وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل [والعمر الطويل] والشيء الذي لا ينقطع: ممدود.
قال الشاعر: [الكامل]
4689 - غَلَبَ العَزَاءُ وكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طويلٌ دائمٌ مَمْدُودُ
وفي «صحيح الترمذي» وغيره عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «في الجَنَّة شَجَرةٌ يسيرُ الرَّاكِبُ في ظلِّها مائة عامٍ، لا يَقْطَعُهَا، اقرءوا إن شِئْتُم: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} » .(18/398)
وهذا الحديث يرد قول ابن الخطيب من أنه ليس ظل الأشجار.
قوله: {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} .
أي: مصبوب بكثرة.
وقيل: جارٍ لا ينقطع.
وأصل السَّكْب: الصَّب، يقال: سَكَبَهُ سَكْباً، والسكوب: انصبابه، يقال: سَكَبَ سُكُوباً.
وانصب انسكب انسكاباً.
ومعنى الآية: وماء مصبوب يجري في غير أخدود لا ينقطع عنهم.
قال ابن الخطيب: معناه: مسكوب من فوق؛ لأن أكثر ماء العرب من الآبار والبرك فلا ينسكب.
وقيل: جارٍ في غير أخدود [بأبحر] الهواء.
وكانت العرب أصحاب بادية، [وبلادها] حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدَّلو والرِّشاء، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك.
قوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} .
قرىء: برفع «فاكِهَةٌ» .
أي: وهناك، أو ولهم، أو فيها، أو وثمَّ فاكهة.
قال ابن الخطيب: لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها، وذكر بعدها الأشجار التي يقصد بها ثمرها، ذكر الفاكهة بعد ذكر الأشجار انتقالاً من نعمة إلى نعمة، ووصفت بالكثرة دون الطيب واللذة؛ لأن الفاكهة تدل عليها.
قوله: «لا مقطوعةٍ» . فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نعت ل «فاكهة» ، و «لا» للنَّفي، كقولك: «مررت برجل لا طويل ولا قصير» ولذلك لزم تكرارها.(18/399)
والثاني: هو معطوف على «فاكهة» ، و «لا» عاطفة. قاله أبو البقاء.
وحينئذ لا بد من حذف موصوف، أي: لا فاكهة مقطوعة، لئلاَّ تعطف الصفة على موصوفها.
والمعنى: ليست كفواكه الدُّنيا تنقطع في أوقات كثيرة، وفي كثير من المواضع، «ولا ممنوعة» أي: لا تمنع من الناس لغلوّ أثمانها.
وقيل: لا يحظر عليها كثمار الدنيا.
وقيل: لا تمنع من أرادها بشوك، ولا بُعد ولا حائط، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: 14] .
قوله: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} .
العامة: على ضم الراء، جمع: «فِرَاش» .
وأبو حيوة: بسكونها، وهي مخففة من المشهورة.
و «الفُرُش» : قيل: هي الفراش المعهُودة، مرفوعة على الأسرة.
وقيل: هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللِّباس، أي: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمي المرأة فراشاً ولباساً وإزاراً، قاله أبو عبيدة وغيره.
قالوا: ولذلك أعاد الضمير عليهن [في قوله] : «إنَّا أنْشَأناهُنّ» .
وأجاب غيرهم بأنه عائد على النساء الدَّال عليهن الفراش.
وقيل: يعود على الحور المتقدمة.
وعن الأخفش: «هُنّ» ضمير لمن لم يجر له ذكر، بل يدل عليه السياق.
وقيل: مرفوعة القدر، يقال: ثوب رفيع أي: [عزيز] مرتفع القدر والثمن، بدليل قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] فكيف ظهائرها؟ وقيل: مرفوعة بعضها فوق بعض.
«وروى التِّرمذي عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قال:» ارْتفَاعُهَا كما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسِيرةَ خَمْسمائة عامٍ «قال: حديث غريب» .(18/400)
قوله: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ} .
قيل: الضَّمير يعود (على) الحُور العين، أي: خلقناهن من غير ولادة.
وقيل: المراد نساء بني آدم خلقناهنَّ خلقاً جديداً، وهو الإعادة، أي أعدناهنّ إلى حال الشَّباب، وكمال الجمال، ويرجحه قوله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكر.
والمعنى أنشأنا العجوز والصَّبية إنشاء، وأخرن، ولم يتقدم ذكرهنّ؛ لأنَّهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفُرش كناية عن النساء كما تقدم.
«وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} قال:» مِنهُنَّ البِكرُ والثَّيِّبُ «» .
«وروى النحاس بإسناده عن أم سلمة سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} ، فقال:» يا أمَّ سلمة، هُنَّ اللَّواتِي قُبِضْنَ في الدُّنيا عَجَائِزَ، شُمْطاً، عُمْشاً، رُمْصاً، جعلهُنَّ اللَّهُ بعد الكبر أتْرَاباً على ميلادٍ واحدٍ في الاستواءِ «» .
وروى أنس بن مالك، يرفعه في قوله: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} قال: «هُنَّ العجائزُ العُمْشُ، الرُّمص، كُنَّ في الدُّنيا عُمْشاً رُمْصاً» .
وعن المسيب بن شريك: «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} ، قال:» هُنَّ عجائزُ الدُّنيا، أنشَأهُنَّ الله تعالى خلقاً جديداً، كُلَّما أتَاهُنَّ أزواجهُنَّ وجدُوهُنَّ أبْكاراً «فلما سمعت عائشة بذلك قالت: واوجعاه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَيْسَ هُناكَ وجعٌ «» .(18/401)
وعن الحسن قال: «أتت عجوز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يا رسول الله ادعُ الله أن يدخلني الجنة، فقال:» يَا أم فُلانٍ، الجنَّةُ لا يدخُلهَا عَجُوزٌ «، قال: فولَّت تبكي، فقال: أخْبرُوهَا أنَّهَا لا تدخُلهَا وهيَ عجُوزٌ، إنَّ الله تعالى يقُولُ: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} » .
قوله: «عُرُباً» .
جمع «عَرُوب» ك «صَبُور، وصُبُر» ، والعَرُوب: المحببة إلى بعلها، واشتقاقه من «أعرب» إذا بين.
فالعروب: تبين محبتها لزوجها بشكل وغُنْج وحسن كلام. قاله عكرمة وقتادة.
وقيل: الحسناء.
وقيل: المحسِّنة لكلامها.
وقرأ حمزة، وأبو بكر: بسكون الراء. وهذا ك «رُسُل ورُسْل، وفُرُش وفُرْش» . وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هنّ العواشق.
وأنشد للبيد: [البسيط]
4690 - وفِي الخُدُورِ عرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوادفِ يَغْشَى دُونهَا البَصَرُ
ويروى: [البسيط](18/402)
4691 - وفِي الجِنَانِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... ريَّا الرَّوادفِ يَغْشَى ضَوؤهَا البَصَرَا
وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العُرُب، العواشق لأزواجهن.
وعن عكرمة: العَرُوبة: الغَنِجَة.
قال ابن زيدٍ: بلغة أهل «المدينة» ، وأنشد بيت لبيد، وهي الشَّكِلة بلغة أهل «مكّة» .
«وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى:» عُرُباً «قال:» كلامُهنَّ عَربيٌّ «» .
وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «العَرُوب» الملقة.
قوله: «أتْرَاباً» جمع «تِرْب» ، وهو المساوي لك في سنّك لأنه يمسّ جلدها التراب في وقتٍ واحد، وهو آكد في الائتلاف، وهو من الأسماء التي لا تتعرف بالإضافة؛ لأنه في معنى الصفة؛ إذ معناه «مساويك» ، ومثله: «خِدنُك» لأنه في معنى صاحبك.
قال القرطبي: «سنّ واحد، وهو ثلاث وثلاثون سنة، يقال في النساء: أتْرَاب، وفي الرجال: أقْرَان، وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الصِّبا من النساء، وانحطَّت عن الكبر» .
وقال مجاهد: الأتْراب: الأمثال والأشكال.
وقال السُّدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسُد.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَدْخلُ أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة جُرْداً مُرْداً، جعَاداً، مكحَّلينَ، أبْناءَ ثلاثِينَ على خَلْقِ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً في سبعةِ أذْرُعٍ» .(18/403)
وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «مَنْ مَاتَ مِنْ أهْلِ الجنَّةِ من صغيرٍ وكبيرٍ دُون بَنِي ثلاثِيْن سنةً في الجنَّةِ، لا يزيدُون عليْهَا أبداً، وكذلكَ أهْلُ النَّارِ» .
قوله: {لأَصْحَابِ اليمين} .
في هذه «اللام» وجهان:
أحدهما: أنها متعلقة ب «أنْشَأْنَاهُنَّ» أي لأجل أصحاب اليمين.
والثاني: أنها متعلقة ب «أتْرَاباً» كقولك: هذا تربٌ لهذا، أي: مُسَاو له.
وقيل: الحور العين: للسَّابقين، والأتْرَاب العُرُب: لأصحاب اليمين.
قوله: {ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين} .
رجع الكلام إلى قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] أي هم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين، وقد مضى الكلام في معناه.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح والضحاك: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} يعني: من سابقي هذه الأمة، {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} من هذه الأمة من آخرها.
بدليل ما «روي عن ابن عباس في هذه الآية: {ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين} ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» جَمِيعاً مِنْ أمَّتِي «» .
وقال الواحدي: «أصحاب الجنة نصفان: نصف من الأمم الماضية، ونصف من هذه الأمة» . ويرد هذا ما روى ابن ماجه في «سننه» والترمذي في «جامعه» عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أهْلُ الجنَّةِ عِشْرُونَ ومائة صنف، ثمانُون منْهَا من هذهِ الأمَّةِ، وأربعُونَ من سَائِرِ الأمَمِ» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
و «ثُلَّةٌ» رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلَّتان: ثلّة من هؤلاء، وثلّة من هؤلاء.(18/404)
فالأوَّلُون: الأمم الماضية، والآخرون: هذه الأمة على قول الواحدي.(18/405)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قوله: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} .
لما ذكر منازل أهل الجنة وسمَّاهم أصحاب اليمين، ذكر منازل أهل النَّار، وسمَّاهم أصحاب الشمال؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب، فقال: {مَآ أَصْحَابُ الشمال فِي سَمُومٍ} وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، والمراد بها حر النار ولهيبها.
وقيل: ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما.
قال ابن الخطيب: «ويحتمل أن يكون هو السّم، والسّم يقال في خرم الإبرة، قال تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] ؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن» .
وقيل: السموم يختص بما يهبّ ليلاً، وعلى هذا فقوله: «سَمُومٍ» إشارة إلى ظلمة ما هم فيه.
و «الحَمِيم» : هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره، فهو «فَعِيل» بمعنى «فاعل» من حَمِمَ الماء، أو بمعنى «مفعول» من حم الماء إذا سخنه.
وقوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} .
«اليَحْمُوم» وزنه «يَفْعُول» .
قال أبو البقاء: «من الحمم، أو الحميم» .
قال القرطبي: «هو» يَفْعُول، من الحم، وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل: مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم.(18/405)
و «اليَحْمُوم» : قيل: هو الدُّخان الأسود البهيم.
وقيل: هو وادٍ في جهنم.
وقيل: اسم من أسمائها. والأول أظهر.
وقيل: إنه الظُّلمة، وأصله من الحمم، وهو الفَحْم، فكأنه لسواده فحم، فسمي باسم مشتق منه، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده، والزيادة في حرارته.
قال ابن الخطيب: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً؛ لأنهم إن تعرَّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السَّمُوم، وإن استكنُّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكِنِّ يكون في ظل من يحموم، وإن أراد التبرُّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم، فلا انفكاك له من العذاب، أو يقال: إنَّ السموم يعذبه فيعطش، وتلتهب نار السَّموم في أحشائه، فيشرب الماء، فيقطع أمعاءهُ، فيريد الاستظلال بظلّ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليَحْمُوم.
وذكر السموم دون الحميم دون النَّار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، كأنه قيل: أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها.
قال الضَّحاك: النار سوداء، وأهلها سُود، وكل ما فيها أسود.
قوله: {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} صفتان للظلّ، كقوله: «مِنْ يَحْمُومٍ» .
وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة، فالأولى أن تجعل صفة ل «يحموم» ، وإن كان السياق يرشد إلى الأول.
وقرأ ابن أبي عبلة: {لا بَارِدٌ ولا كريمٌ} برفعهما: أي: «هُوَ لا بَارِدٌ» .
كقوله: [الكامل]
4692 - ... ... ... ... ... ... ... ..... فَأبِيتُ لا حَرجٌ ولا مَحْرُومُ
قال الضَّحاك: «لا بَارِدٍ» بل حار؛ لأنه من دخان سعير جهنم، «ولا كَرِيم» عذب.
وقال سعيد بن المسيّب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه، فليس بكريم.
وقيل: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي: من النَّار يعذبون بها كقوله تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] .(18/406)
قال الزمخشري: «كرم الظل نفع الملهوف، ودفع أذى الحرّ عنه» .
قال ابن الخطيب: ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد، والأقوى أن يقال: فائدة الظل أمران:
أحدهما: دفع الحر.
والآخر: كون الإنسان فيه مكرماً؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثِّياب، وفي الحرّ يطلب الظِّل لبرده، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه، فيحتمل أن يكون المراد هذا.
ويحتمل أن يقال: الظل يطلب لأمر حسّي، وهو يرده، ولأمر عقلي وهو التّكرمة، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرَّاء بنفي كل شيء مستحسن، فيقولون: «الدار لا واسعة ولا كريمة» .
قوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} .
أي: إنما استحسنوا هذه العقوبة؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام.
و «المُتْرَف» : المنعم.
قاله ابن عباس وغيره.
وقال السُّدي: «مُتْرَفينَ» أي: مشركين.
قوله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} .
الحِنْثُ في أصل كلامهم: العدل الثقيل، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما، قاله الخطابي.
وفلان حَنِثَ في يمينه، أي لم يَفِ به؛ لأنه يأثم غالباً، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ، ومنه قوله: «لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ» .
وإنما قيل ذلك؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث، أي: بالذنب، وتَحَنَّثَ فلان، أي جانب الحِنْث.
وفي الحديث: «كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ» ، أي: يتعبّد لمُجانبته الإثم، نحو: «تَحَرَّجَ» فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب.(18/407)
فصل في تفسير الآية
قال الحسن، والضحاك، وابن زيد: {يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي: يقيمون على الشرك.
وقال قتادة ومجاهد: الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه.
وقال الشَّعبي: هو اليمين الغَمُوس، وهي من الكبائر، يقال: حنث في يمينه، أي: لم يبرّها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم.
فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة
قال ابن الخطيب: والحكمة في ذكره سبب عذابهم، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل، والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم.
وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلماً، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] كما قاله في السَّابقين؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
واعلم أن المترف هو المنعم، وذلك لا يوجب ذمًّا، وإنما حصل لهم الذم بقوله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} ، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [من] أقبح القبائح، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} ، ولم يشكروا نعم الله، بل أصروا على الذنب العظيم.
وفي الآية مبالغة؛ لأن قوله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} يقتضي أن ذلك عادتهم، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة، ويدل على ذلك قولهم: «بَلَغَ الحِنْثَ» أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة.
وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب، وترك الصلاة، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة. قاله ابن الخطيب.
قوله تعالى: {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا} الآية.(18/408)
هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له، وقد تقدّم الكلام على ذلك في «والصَّافات» ، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة «الرَّعْد» .
فإن قيل: كيف أتى ب «اللام» المؤكدة في قوله تعالى: {لَمَبْعُوثُونَ} ، مع أن المراد هو النفي، وفي النفي لا تدخل «اللام» في خبر «إنَّ» ، تقول: «إنَّ زيداً ليجيء، وإنَّ زيداً لا يجيء» فلا تذكر «اللام» ، ومرادهم بالاستفهام: الإنكار، بمعنى إنا لا نبعث؟ .
فالجواب من وجهين:
أحدهما: عند التصريح بالنفي وصيغته، يجب التصريح بالنفي وصيغته.
والثاني: أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده، فحكوا كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم، فقالوا: «أئِذَا مِتْنَا» ثم لم يقتصروا عليه، بل قالوا بعده: {وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً} أي: وطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً، والعظامُ رفاتاً ثم زادوا وقالوا: مع هذا يقال لنا: إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه:
أحدها: استعمال «إنَّ» .
ثانيها: إثبات «اللام» في خبرها.
ثالثها: ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، ثم زادوا وقالوا: {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} فقال الله تعالى لهم: «قُلْ» يا محمد {إِنَّ الأولين} من آبائكم، و {والآخرين} منكم {لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يعني: يوم القيامة.
ومعنى الكلام: القسم ودخول «اللام» في قوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى، أي: إنكم لمجمُوعون قسماً حقًّا، بخلاف قسمكم الباطل.
قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} ، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم، وهو المذكور في سورة «والصَّافَّات» .
وهذا الخطاب عامّ، وقيل: لأهل «مكة» ، وهو من تمام كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة، قال: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين} [الواقعة: 92] ، فقدم المكذبين على الضَّالين؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل، ثم كذبوا الرسول، وقالوا: «أئذا مِتْنَا» .
وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص، أو(18/409)
يقال: إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً، وكذبوا ثانياً، وفي آخر السورة الكلام مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} . فيه أوجه:
أحدها: أن تكون «من» الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان، أي: مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم.
الثاني: أن تكون «من» الثَّانية صفة ل «شجر» فيتعلق بمحذوف أي: مستقر.
الثالث: أن تكون الأولى مزيدة، أي: لآكلون شجراً، و «من» الثانية على ما تقدم من الوجهين.
الرابع: عكس هذا، وهو أن تكون الثانية مزيدة، أي: لآكلون زقُّوماً، و «من» الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من «زقّوم» أي: كائناً من شجر، ولو تأخَّر لكان صفة.
الخامس: أن «من شجر» صفة لمفعول محذوف، أي: لآكلون شيئاً من شجر و «مِنْ زقُّومٍ» على هذا نعت ل «شجر» أو لشيءٍ محذوف.
السادس: أن الأولى للتبعيض، والثانية بدل منها.
قوله: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} .
الضمير في «منها» عائد على الشجر، وفي «عليه» للشجر أيضاً.
وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه، وأنهما لغتان.
وقيل: الضمير في «عليه» عائد على «الزَّقُّوم» .
وقال أبو البقاء: للمأكول.
وقال ابن عطية: «للمأكول أو الأكل» انتهى.
وفي قوله: «الأكْل» بُعْد.
وقال الزمخشري: «وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في» منها «و» عليه «، ومن قرأ: {مِن شَجَرَةٍ مِّن زَقُّومٍ} فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم؛ لأنه تفسيرها» .
فصل في تحرير معنى الزقوم
قال ابن الخطيب: «اختلفت أقوال الناس في» الزقوم «، وحاصل الأقوال يرجع(18/410)
إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا، وفي اللمس حارًّا، وفي الرائحة منتناً، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ.
والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية، ودلنا تركيبه على قبحه؛ لأن» ز ق م «لم يجتمع إلا في مهمل، أو في مكروه.
يقال منه: مَزَقَ يَمْزقُ، ومنه: زَمَقَ شعره إذا نتفه، ومنه «القَزْمُ» للدَّناءة واللؤم.
وأقوى من هذا أن «القاف» مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه، فالقاف مع «الميم» ك «القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة» ، وبالعكس «المقامق» لتغليظ الصوت، و «المَقْمَقَة» هو الشق.
وأما القاف مع الزاي ف «الزق» رمي الطائر بذرقه، والزَّقْزقة: للخفة، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح، ثم قرن بالأكل، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة.
وأما ما يقال: بأن العرب تقول: «زَقَمْتَنِي» بمعنى: أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن، فذلك للمجانة، كما يقال: ارشقني بثوب حسن، وارجمني بكيس من ذهب «.
وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في» والصَّافات «.
وقوله: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} .
بيان لزيادة العذاب، أي: لا يكتفى منكم بنفس الأكل، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون.
وقوله:» البُطُون «إما مقابلة الجمع بالجمع، أي: يملأ كل واحد منكم بطنه.
وإما أن يكون لكل واحد بطون، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب.
قوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} أي: على الأكل، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار.
قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} .
وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب، أي: لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً، فيمسك عنه، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم، وهو الجمل العطشان، فيشرب ولا يروى.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة: بضم الشين من» شُرْب «.(18/411)
وباقي السبعة بفتحها.
ومجاهد وأبو عثمان النهدي: بكسرها.
فقيل: الثلاث لغات في مصدر» شرِبَ «، والمقيس منها إنما هو المفتوح، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب ك» الرَّعْي «و» الطَّحْن «.
قال القرطبي:» تقول العرب: «شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً» بضمتين «.
قال أبو زيد: سمعت العرب تقول: بضم الشِّين وفتحها وكسرها.
والفتح هو المصدر الصحيح؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله» فَعْل «؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة، فتقول:» فَعْلَة «نحو» شَرْبة «.
وقال الكسائي يقال:» شربت شُرْباً وشَرْباً «.
ويروى قول جعفر:» أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب «.
ويقال: بفتح الشين، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين.
قال: [البسيط]
4693 - كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ
و «الهِيْم» فيه أوجه:
أحدها: أنه جمع «أهْيَم أوْ هَيْمَاء» ، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت، أو تسقم سقماً شديداً. والأصل: «هُيْم» - بضم «الهاء» - ك «أحْمر وحُمْر، وحَمرَاء وحُمْر» فقلبت الضمة كسرة لتصح «الياء» ، وذلك نحو «بِيض» في «أبْيَض» .
وأنشد لذي الرّمة: [الطويل]
4694 - فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ ... صَداهَا، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا(18/412)
الثاني: أنَّه جمع «هَائِم وهَائمة» من «الهيام» أيضاً، إلا أن جمع «فَاعِل وفاعِلَة» على «فُعل» قليل، نحو: «نَازِل ونُزُل، وعائذ وعُوذ» .
ومنه: [الطويل]
4695 - ... ... ... ... ... ... ... ..... عُوذٍ مَطَافِلِ
وقوله: «العوذ المطافيل» .
وقيل: هو من «الهيَام» وهو الذهاب؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه.
الثالث: أنه جمع «هَيَام» بفتح الهاء، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً، فيكون مثل «سَحَاب وسُحُب» - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصحّ «الياء» كما فُعِلَ بالذي قبله.
[الرابع: أنه جمع «هُيَام» - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك، مبالغة في «الهيام» بالفتح. حكاها ثعلب.
إلا أن المشهور الفتح، ثم جمع على «فُعُل» نحو: «قَرَاد وقُرُد» ، ثم خفف وكسرت فاؤه] [لتصح «الياء» ] .
وفي «الصحاح» : «والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش، و» الهيام «كالجنون من العشق، و» الهَيْمَاء «أيضاً: المفازة لا ماء بها، و» الهِيَام «- بالكسر - العطاش» .
والمعنى: أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات واحدة، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ .
قلت: ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً، فكانتا صفتين مختلفتين» . انتهى.(18/413)
يعني قوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ} .
وهو سؤال حسن، وجوابه مثله.
وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر، وهو أن قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} تفسير للشرب قبله.
ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [مثل] شرب الهيم، ومثل شرب غيرها، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال، وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: التنبيه على كثرة شربهم منه.
والثانية: عدم جَدْوى الشرب، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين.
وقال أبو حيَّان: «» والفاء «تقتضي التعقيب في الشربين، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود: الصفة، والمشروب منه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} محذوف لفهم المعنى، تقديره: فشاربون منه» انتهى.
قال شهاب الدين: «والظَّاهر أنه شرب واحد، بل الذي يعتقد هذا فقط، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً» .
قوله: {اذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} .
قرأ العامة: «نُزُلُهُمْ» بضمتين.
وروي عن أبي عمرو من طرق.
وعن نافع وابن محيصن: بضمة وسكون، وهو تخفيف.
و «النُّزُل» : ما يعدّ للضيف.
وقيل: هو أول ما يأكله، فسمي به هذا تهكّماً بمن أعد له.
وهو في المعنى كقول أبي الشعر الضَّبي: [الطويل]
4696 - وكُنَّا إذا الجَبَّارُ أنْزَلَ جَيْشَهُ ... جعلنَا القَنَا والمُرهفاتِ لَهُ نُزْلا(18/414)
ومعنى الآية: هذا أول ما يلقونه من العذاب يوم القيامة كالنُّزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، [وفيه] تهكم، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .(18/415)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} .
تحضيض، أي: فهلا تصدقون بالبعث؛ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم، فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا، أو متعلق التصديق محذوف، تقديره: فلولا تصدقون بخلقنا.
قوله: «أفرأيتُم» .
[هي] بمعنى: «أخبروني» ومفعولها الأول «ما تمنون» .
والثاني الجملة الاستفهامية. وقد تقدم تقريره.
والمعنى: ما تصبُّونه من المنِيّ في أرْحَام النِّساء.
وقرأ العامَّة: «تُمْنُونَ» بضم التَّاء، من «أمْنى يمني» .
وابن عبَّاس وأبو السِّمال: بفتحها من «مَنَى يَمْنِي» .
قال الزمخشري: يقال: أمْنى النُّطفة ومناها، قال الله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 46] .
فظاهر هذا أنه استشهاد للثلاثي، وليس فيه دليل له، إذ يقال من الرباعي أيضاً: تمني، كقولك: «أنت تكرم» وهو من «أكرم» .
وقال القرطبي: ويحتمل أن يختلف معناهما عندي، فيكون «أمْنَى» إذا أنزل عند جماع، و «مَنَى» إذا أنزل عند احتلام، وفي تسمية المنيِّ منيًّا وجهان:
أحدهما: لإمنائه، وهو إراقته.(18/415)
الثاني: لتقديره، وهو المَنّ الذي يوزن به؛ لأنه مقدار لذلك، فكذلك المَنِيّ مقدار صحيح لتصوير الخِلْقَة.
قوله: {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} . يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه فاعل فعل مقدر، أي: «أتَخْلُقُونهُ» فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضَّمير، وهذا من باب الاشتغال.
والثاني: أن «أنْتُم» مبتدأ، والجملة بعده خبر.
والأول أرجح لأجل أداةِ الاستفهام.
وقوله: «أمْ» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أنها منقطعة؛ لأنَّ ما بعدها جملة، وهي إنما تعطف المفردات.
والثاني: أنها متَّصلة.
وأجابوا عن وُقوع الجملة بعدها بأن مجيء الخبر بعد «نحن» أتي به على سبيل التَّوكيد؛ إذ لو قال: «أمْ نَحْنُ» لاكتفي به دون الخبر، ونظير ذلك جواب من قال: «مَنْ في الدَّار» ؟ زيد في الدار، «أو زيد فيها» ، ولو اقتصر على «زيد» لكان كافياً.
ويؤيد كونها متصلة أن الكلام يقتضي تأويله، أي: الأمرين واقع، وإذا صلح كانت متصلة، إذ الجملة بتأويل المفرد.
ومفعول «الخَالِقُون» محذوف لفهم المعنى أي: «الخالقوه» .
فصل في تحرير معنى الآية
والمعنى: أنتم تصورون منه الإنسان {أم نحن الخالقون} المقدّرون المصورون، وهذا احتجاج عليهم، وبيان للآية الأولى، أي: إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غير، فاعترفوا بالبعث.
قال مقاتل: نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئاً، وأنتم تعلمون ذلك، فهلاَّ تصدقون بالبعث.
قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا} .
قرأ ابن كثير: «قَدَرْنَا» بتخفيف الدال.(18/416)
والباقون: بتشديدها.
وهما لغتان بمعنى واحد في التقدير الذي هو القضاء، وهذا أيضاً احتجاج، أي: الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخَلْق وإذا قدر على الخَلْق قدر على البعث.
قال الضحاك: معناه أي: سوَّينا بين أهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: قضينا.
وقيل: كتبنا.
قال مقاتل: فمنكم من يبلغ الهَرَم، ومنكم من يموت صبيًّا وشابًّا.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: مغلوبين عاجزين.
قوله: {على أَن نُّبَدِّلَ} .
يجوز أن يتعلق {بِمَسْبُوقِينَ} ، وهو الظَّاهر، أي: لم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم، أي: يعجزنا، يقال: سبقه إلى كذا، أي: أعجزه عنه، وغلبه عليه.
الثاني: أنه متعلق بقوله: «قَدَّرْنا» أي: قدرنا بينكم الموت، {على أن نُبدِّل} أي: تموت طائفة، وتخلفها طائفة أخرى. قال معناه الطبري.
وعلى هذا يكون قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معترضاً، وهو اعتراض حسن.
ويجوز في «أمْثَالكُمْ» وجهان:
أحدهما: أنه جمع «مِثْل» - بكسر الميم وسكون الثاء - أي: نحن قادرون على أن نعدمكم، ونخلق قوماً آخرين أمثالكم، ويؤيده: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133] .
والثاني: أنه جمع «مَثَل» - بفتحتين - وهو الصفة، أي: نغير صفاتكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً، و «ننشئكم» في صفات غيرها.
وتقدم قراءتا النَّشأة في «العنكبوت» .
فصل في تفسير معنى الآية
قال الطبري: معنى الآية: نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، {وما نحن بمسبوقين} في آجالكم، أي: لا يتقدم متأخر، ولا يتأخّر متقدم، {وننشئكم فيما لا تعلمون} من الصُّور والهيئاتِ.(18/417)
قال الحسن: أي: نجعلكم قِردةً وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم.
وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمّل المؤمن ببياض وجهه، ويقبح الكافر بسواد وجهه.
وقال سعيد بن المسيب: قوله: {فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني في حواصل طير سُودٍ تكون ببرهوت كأنها الخَطَاطِيْف، و «برهوت» : وادٍ في «اليمن» .
وقال مجاهد: {فيما لا تعلمون} أي: في أي خلق شئنا.
وقيل: ننشئكم في عالم فيما لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون.
قال ها هنا: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} .
وقال في سورة «الملك» : {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] بلفظ الخلق؛ لأن المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين، وهاهنا ذكر حياتهم ومماتهم.
قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} .
أي: إذ خلقتم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ولم تكونوا شيئاً. قاله مجاهد وغيره.
وهذا تقرير للنشأة الثَّانية.
وقال قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
{فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} . أي: فهلا تذكرون.
قرأ طلحة: «تَذْكُرون» بسكون «الذال» ، وضم «الكاف» .
وفي الخبر: «عَجَباً كُل العَجبِ للمُكذِّبِ بالنَّشأة الآخرةِ، وهُو يَرَى النَّشْأة الأولى، وعَجَباً للمُصدِّقِ بالنَّشأةِ الآخرةِ، وهُوَ يَسْعَى لدارِ الغرُورِ» .(18/418)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قوله: {أَفَرَأَيْتُم} وما بعده تقدم نظيره، وهذه حجة أخرى، أي: أخبروني عما(18/418)
تحرثون من أرضكم، فتطرحون فيها البَذْر، أأنتُم تُنشئُونه، وتجعلونه زرعاً، فيكون فيه السُّنبل والحب، أم نحن نفعل ذلك وإنما منكم البِذْر وشقُّ الأرض؟ فإذا أقررتم بأن إخراج السُّنبلة من الحبَّة ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ .
وأضاف الحَرْث إليهم، والزَّرع إليه تعالى؛ لأنَّ الحرث فعلهم، ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله - تعالى - وينبت على اختياره لا على اختيارهم.
وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا يَقُولنَّ أحدُكمْ: زَرعتُ، وليقُلْ حرثتُ، فإنَّ الزَّارعَ هُوَ اللَّهُ» .
قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} .
قال القرطبي: «والمستحبّ لكل من زرع أن يقرأ بعد الاستعاذة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} الآية، ثم تقول: بل الله هو الزارع، والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجَنِّبْنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشَّاكرين، ويقال: إنَّ هذا القول أمان لذلك الزَّرع من جميع الآفات: الدُّود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرَّبناه فوجدناه كذلك» .
فإن قيل: إذا كان الزَّارع هو الله، فكيف قال تعالى: {يُعْجِبُ الزراع} [الفتح: 29] .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الزَّرْعُ للزُّراع»
فالجواب: أن الحرث أوائل الزَّرع، والزرع أواخر الحرث، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لاتِّصاله به.
ومعنى: «أأنْتُمْ تزرَعُونَهُ» ، تجعلونه، وقد يقال: فلان زَرَّاع كما يقال: حرَّاث أي: يفعل ما يؤول إلى أن يصير زَرْعاً، وقد يطلق لفظ الزَّرْع على بَذْر الأرض وتكريبها تجوزاً.
قال القرطبي: «وهذا نهي إرشاد وأدب، لا حظر وإيجاب» .(18/419)
ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَقُولنَّ أحدُكم: عَبْدِي وأمَتِي، وليقُلْ: غُلامِي وجَاريَتِي وفَتَايَ وفَتَاتِي» .
قوله: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} .
أتى هنا بجواب «لو» مقروناً ب «اللام» ، وهو الأكثر؛ لأنه مثبت، وحذف في قوله: {جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] ؛ لأن المنّة بالمأكول أعظم منها بالمشروب. قاله الزمخشري.
وهذا منقوض بقوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا} [يس: 66] و {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} [يس: 67] ، وذلك أن أمر الطَّمس أهون من أمر المسخ، وأدخل فيهما «اللام» .
وأجاب الزمخشري بجواب آخر فقال: {ولو نشاء لجعلناه حطاماً} كان أقرب الذكر، فاستغنى باللام فيه عن ذكرها ثانياً.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] مع قوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} [يس: 67] أقرب من قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} ، و {جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] اللَّهُم إلاَّ أن تقول هناك: أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى؛ لأن الطَّمْس لا يلزمه المَسْخ ولا بالعكس، وأما المأكول يكون معه المشرُوب في الدهر فالأمران متقاربان لفظاً ومعنى.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال الماوردي: هذه الآية تتضمن أمرين:
أحدهما: الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم.
الثاني: البرهان الموجب للاعتبار؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقاله إلى استواء حاله من العفنِ والتَّتريب حتى صار زرعاً أخضر، ثم قوي مشتدًّا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أحق عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السَّليمة، ثم قال: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي: متكسِّراً، يعني: الزَّرع والحُطَام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبَّه بذلك على أمرين:(18/420)
أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه.
الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم كما أنه يجعل الزَّرع حُطاماً إذا شاء، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتَّعظوا فينزجروا.
قوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} .
قرأ العامة: بفتح الظَّاء، بلام واحدة وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في «طه» .
وأبو حيوة وأبو بكر في رواية: بكسر الظاء.
وعبد الله الجحدري: «فظَلِلتُمْ» على الأصل بلامين، أولاهما مكسورة.
وروي عن الجحدري: فتحها، وهي لغة أيضاً.
والعامة: «تَفَكَّهُونَ» بالهاء.
ومعناه: تَنْدَمُون، وحقيقته: تلقون الفكاهة من أنفسكم، (ولا تلقى) الفكاهة إلاَّ من الحزن، فهو من باب «تحَرَّج وتأثّم وتحوب» .
وقيل: «تفكّهون» . تتعجبون بذهابها ما نزل بكم في زرعكم. قاله عطاء والكلبي ومقاتل.
وقيل: تتندمون مما حلّ بكم. قاله الحسن وقتادة وغيرهما.
وقيل: تلاومُون.
وقيل: تتفجَّعون، وهذا تفسير باللازم.
وقرأ أبو حزام العكلي: «تَفَكَّنُونَ» بالنون، أي: تندَّمون.
قال ابن خالويه: «تَفَكَّه» تعجَّب، و «تَفَكَّن» تندَّم.
وفي الحديث: «مثلُ العالم كمثل الحمَّة، يأتيها البُعدَاءُ ويترُكُهَا القُربَاءُ، فَبَيْنَا هُم إذ غَارَ ماؤهَا فانتفع به قومٌ، وبَقِي قومٌ يتفكَّنُون» ، أي: يتندَّمُون.
قال الفرَّاء: والنون، لغة عكل.
وفي الصحاح: «التَّفَكُّن» التندُّم على ما فات.
وقيل: التفكُّه: التكلُّم فيما لا يعنيك.(18/421)
ومنه قيل للمزاح: فُكاهة بالضَّم.
فأما الفَكَاهة - بالفتح - فمصدر «فَكِهَ الرَّجل» بالكسر، فهو فَكِهٌ إذا كان طيّب النفس مزَّاحاً.
قوله: «إنا لمغرمون» .
قرأ أبو بكر: «أئِنَّا» بالاستفهام، وهو على أصله في تحقيق الهمزتين، وعدم إدخال ألف بينهما.
والباقون: بهمزة واحدة على الخبر.
وقيل: هذه الجملة قول مقدر على كلتا القراءتين، وذلك في محل نصب على الحال، تقديره: فظلتم تفكهون قائلين، أو تقولون: إنا لمغرمون؛ أي: لمُلزمُون غرامة ما أنفقنا، أو مُهلكُونَ لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك. قاله الزمخشري.
ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قوله: [الخفيف]
4697 - إنْ يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يُبَالِي
قال ابن عبَّاس وقتادة: الغرام: العذاب.
ومنه قول ابن المُحلَّم: [الطويل]
4698 - وثِقْتُ بأنَّ الحِلْمَ منِّي سَجيَّةٌ ... وأنَّ فُؤادِي مُبْتَلٌ بك مُغْرمُ
وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا.
يقال: أغرم فلان بفلانة أي أولع بها، ومنه الغرام، وهو الشر اللازم.
وقال مجاهد أيضاً: لملقون شرًّا.
وقال النحاس: «لمُغْرمُون» مأخوذون من الغرام، وهو الهلاك.(18/422)
وقال الضحاك وابن كيسان: هو من الغرم.
و «المُغْرَم» : الذي ذهب ماله بغير عوضٍ، أي: غرمنا الحبَّ الذي بذرناه.
وقال مرة الهمداني: مُحَاسَبُون.
قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} .
أي: حرمنا ما طلبنا من الريع، والمحروم المحدود الممنوع من الرِّزق، والمحروم ضد المرزوق. قاله قتادة.
وعن أنس «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بأرض الأنصار، فقال:» ما يمنَعُكمُ الحَرْث «؟ قالوا: الجُدوبة، فقال:» لا تَفْعَلُوا، فإنَّ الله - تعالى - يقولُ: أنَا الزَّارعُ، إن شِئْتُ زرعْتُ بالماءِ، وإن شِئْتُ زرعْتُ بالرِّيحِ، وإن شِئْتُ زرعتْ بالبَذْرِ «، ثم تلا: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} » .
قال القرطبي: «وفي هذا الحديث والذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزَّارع في أسماء الله - تعالى -» وأباه جمهور العلماء.(18/423)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} .
لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم.
{أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} .
أي: السحاب، وهو اسم جنس، واحدهُ: مزنة.
قال: [المتقارب]
4699 - فَلاَ مُزْنَةٌ ودَقَتْ ودقَهَا ... ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا
وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أيضاً والثوري: المُزْن: السَّماء والسَّحاب.
وقال أبو زيد: المُزنة: السحابة البيضاء، والجمع مزن.
والمُزْنة: المطرة.(18/423)
قال: [الطويل]
4700 - ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مُزْنَةً ... وعُفْرُ الظِّباءِ في الكناسِ تَقَمَّعُ
وقوله: {أَمْ نَحْنُ المنزلون} .
أي: إذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي، ولم تنكروا قُدرتي على الإعادة؟ .
وقوله: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} .
وقد تقدم عدم دخول «اللام» في جواب «لو» هذه.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم دخلت» اللام «في جواب» لو «في قوله:» لجعلناه حطاماً «، ونزعت منه هاهنا؟ .
قلت: إن» لو «لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشَّرط، ولم تكن مخلصة للشرط ك» إن «و» لا «عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضمون جملتين أن الثَّاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق فزيدت هذه» اللام «لتكون علماً على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علماً مشهوراً مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه، وصار مألوفاً ومأنوساً به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السَّامع.
ألا ترى ما يحكى عن رؤبة، أنَّه كان يقول: خيرٍ، لمن قال له: كيف أصبحت؟
فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه، وتساوي حال إثباته وحذفه لشهرة أمره، وناهيك بقول أوس: [السريع]
4701 - حَتَّى إذا الكَلاَّبُ قال لَهَا ... كاليَوْمِ مَطْلُوباً ولا طَلَبَا
وحذفه:» لَمْ أرَ «فإذاً حذفها اختصار لفظي، وهي ثابتة في المعنى، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة، مُغْنٍ عن ذكرها ثانياً، ويجوز أن يقال: إن هذه» اللام «مفيدة معنى التَّوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أنّ أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأنَّ الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمَطْعُوم.(18/424)